تفسير سورة آل عمران

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

دعوهم فصلوا الى المشرق- فكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله ﷺ أسلما فقالا قد اسلمنا قبلك قال كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاءكما لله ولدا وعبادتكم الصليب وأكلكما الخنزير قالا ان لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه وخاصموه جميعا فى عيسى عليه السلام فقال لهما النبي ﷺ الستم تعلمون ان ربنا حى لا يموت وان عيسى يأتى عليه الفناء قالوا بلى قال ألستم تعلمون ان ربنا قيم على كل شىء يحفظه ويرزقه قالوا بلى قال فهل يملك عيسى من ذلك شيئا قالوا لا قال ألستم تعلمون ان الله تعالى لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ قالوا بلى قال فهل يعلم عيسى عليه السلام من ذلك الا ما علم قالوا لا قال فان ربنا صور عيسى عليه السلام فى الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب قالوا بلى قال ألستم تعلمون ان عيسى حملته امه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذى كما يغذى الصبى ثم كان يطعم ويشرب ويحدث قالوا بلى قال فكيف يكون هذا كما زعمتم فسكتوا فانزل الله صدر سورة ال عمران الى بضع وثمانين اية منها فقال عز من قائل
الم (١) اللَّهُ قرا ابو يوسف يعقوب بن خليفة الأعشى عن ابى بكر الم مقطوعا بسكون الميم على الوقف كما هو فى سائر المقطعات ثم قطع الهمزة للابتداء وقرا الجمهور بالوصل «١» مفتوح الميم فعند سيبويه فتح الميم لالتقاء الساكنين الميم ولام الله لا يقال ان التقاء الساكنين غير محذور فى باب الوقف لانا نقول ان الوقف ليس مرويا عند الجمهور وانما هو على قراءة ابى يوسف يعقوب كما ذكر وفى صورة الوقف كما قرا يعقوب يتحمل التقاء الياء والميم الساكنين فى كلمه ميم دون التقاء ثلاث ساكنات وحركت الميم بالفتح لكونها أخف الحركات ولم تكسر لاجل الياء وكسر الميم قبلها تحاميا عن توالى الكسرات وقال الزمخشري انما هى فتحة همزة الوصل من الله نقلت الى الميم وانما جاز ذلك مع ان الأصل فى همزة الوصل إسقاطها مع حركتها لان الميم كان حقها الوقف ومقتضى الوقف ابقاء همزة الوصل كما قراء به يعقوب لكنها أسقطت للتخفيف فابقيت حركتها لتدل على انها فى حكم الثابت ونظرا على ان الميم فى حكم الموقوف وليس بموقوف اجمع القراء على جواز المد الطويل فى مد الميم بقدرست حركات والمد القصير بقدر حركتين والله اعلم- والله مبتدا وخبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر لا محذوف تقديره لا اله فى الوجود الا هو والمستثنى فى موضع الرفع بدل
(١) والحق ان الوقف بمد الطويل والوصل بالقصر والمد جائز ان للكل
3
من موضع لا واسمه الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) بدل من هو او خبر مبتدا محذوف اى هو الحي القيوم وقد ذكرنا شرح الاسمين فى اية الكرسي- اخرج ابن ابى شيبة والطبراني وابن مردوية من حديث ابى امامة مرفوعا اسم الله تعالى الأعظم فى ثلاث سور البقرة وال عمران وطه قال القاسم صاحب ابى امامة فالتمستها فوجدت انه الحي القيوم لاجل اية الكرسي فى البقرة وهذه الاية فى ال عمران وو عنت الوجوه للحىّ القيّوم فى طه وقال الجزري صاحب الحصين وعندى انه لا اله الّا هو الحىّ القيّوم قلت عندى هو لا اله الا هو جمعا بين حديث ابى امامة هذا وحديث اسماء بنت يزيد قالت «١» سمعت النبي ﷺ يقول فى هاتين الآيتين اسم الله الأعظم وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ واللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ رواه الترمذي وابو داود وابن ماجة والدارمي وحديث سعد بن ابى وقاص قال قال رسول الله ﷺ دعوة ذى النون إذا دعا ربه وهو فى بطن الحوت لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لم يدع بها رجل مسلم فى شىء الا استجاب له رواه احمد والترمذي- وفى المستدرك للحاكم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به اعطى لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وحديث يزيد ان رسول الله ﷺ سمع رجلا يقول اللهم انى أسئلك بانى اشهد ان لا اله الّا أنت الأحد الصّمد الّذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد- فقال دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به اعطى وإذا دعى به أجاب رواه احمد واصحاب السنن الاربعة وابن حبان والحاكم وقال الترمذي حسن غريب وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين- وروى هؤلاء الجماعة كلهم عن انس قال كنت جالسا فى المسجد ورجل يصلى فقال اللهم انى أسئلك بان لك الحمد لا اله الا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حى يا قيوم فقال النبي ﷺ دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به اعطى ولم يذكر ابن ابى شيبة يا حى يا قيوم قلت فهذه الأحاديث كلها يقتضى ان الاسم الأعظم انما هو القدر المشترك بينها وذلك هو التهليل النفي والإثبات- ولا اله الا هو موجود فى السور الثلاث البقرة وال عمران وكذا فى طه الله لا اله الّا هو له الأسماء الحسنى وقال رسول الله ﷺ لا اله الا الله هو أفضل الذكر رواه الترمذي وغيره من حديث جابر مرفوعا وهو مفتاح الجنة رواه احمد عن معاذ مرفوعا وقد تواتر معناه-
(١) فى الأصل قال- ابو محمد عفا الله عنه
4
((فائدة)) وردت صيغة التهليل فى أحاديث اسم الله الأعظم بلفظ لا اله الّا هو او لا اله الّا أنت وهذا اللفظ ارفع درجة من لفظ لا اله الا الله لان الضمائر وضعت للذات البحت ففى كلمة لا اله الا هو ينتقل الذهن اولا الى الذات بلا ملاحظة اسم من الأسماء وصفة من الصفات وشأن من الشئونات وكلمة الله وان كان اسما للذات لكن الذهن هناك ينتقل اولا الى الاسم وثانيا الى المسمى وقد ينتقل الذهن من حيث الاشتقاق الى معنى الالوهية فيكون من اسماء الصفات غير ان صفة الالوهية يستدعى الاتصاف بجميع صفات الكمال والتنزه عن جميع شوائب النقص والزوال فيكون أتم وأشمل من سائر اسماء الصفات- والصوفية العلية انما اختاروا كلمة لا اله الا الله لاجل المبتدى فان المبتدى لا سبيل له الى الذات البحت الا بتوسط اسم من الأسماء او صفة من الصفات- قلت ولعل وجه كون النفي والإثبات أعظم الأسماء ان اثبات الالوهية له تعالى يقتضى اثبات جميع صفات الكمال له تعالى باقتضاء ذاته وسلب جميع النقائص عنه كذلك فانه من ليس كذلك لا يستحق العبادة- ونفى الالوهية عما عداه يقتضى حصر تلك الصفات الايجابية والسلبية فيه تعالى فهو أعظم الأسماء وأشملها والله اعلم.
نَزَّلَ اى هو نزل عَلَيْكَ الْكِتابَ اى القران نجوما فان التفعيل للتكثير بِالْحَقِّ حال من الكتاب اى متلبسا بالصدق فى اخباره او بالدين الذي هو الحق عند الله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ اى لما قبله من الكتب فكان من حقه ان يؤمن به كل من أمن بما قبله فهو حجة على النصارى واليهود حين كفروا به وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) جملة ومن ثم عدل هاهنا من التنزيل الى الانزال فان الانزال أعم منه- قرا ابو عمرو وابن ذكوان والكسائي التّورية بالامالة فى جميع القران ونافع وحمزة بين بين والباقون بالفتح- والتورية اسم عبرانى للكتاب الذي انزل على موسى عليه السلام والإنجيل اسم سريانى للكتاب الذي انزل على عيسى عليه السلام وليست الكلمتان عربيتان فمن قال انه فوعلة او تفعلة من ورى الزند وافعيل من النجل فقد تكلف.
مِنْ قَبْلُ اى قبل تنزيل القران حتى يستعد الناس للايمان به هُدىً لِلنَّاسِ اى لجميع الناس ولا وجه لتخصيص الناس بقوم موسى وعيسى عليهما السلام فان الكتب السماوية كلها تدعوا جميع الناس الى التوحيد والايمان بجميع......
الأنبياء وتوجب العلم بالمبدأ والمعاد وتهدى الى سبيل الرشاد من امتثال أوامر الله تعالى والانتهاء عن المناهي- وتخبر التورية والإنجيل والزبور عن بعثة محمد ﷺ وكون بعض الآيات منها منسوخة فى فروع الأعمال فى بعض الأحيان لا ينافى كونها هدى كما ان بعض آيات القران نسخت بالبعض فان النسخ لبيان مدة الحكم فالاية حجة لنا على ان شرائع من قبلنا يلزمنا على انه شريعة لنبينا ﷺ وقال الشافعي لا يلزمنا- وقوله هدى حال من التورية والإنجيل حمل عليهما للمبالغة او بتأويل اسم الفاعل ولم يثن لانه مصدر وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ ٥ اى جنس الكتب الالهية واللام للاستغراق- ذكر ذلك بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها كانّه قال وانزل سائر الكتب الفارقة بين الحق والباطل- او المراد به القران وكرر ذكره مدحا وتعظيما واظهار الفضلة فانه يشارك والجميع فى كونه منزلا من الله تعالى يتميز عما عداها باعجاز اللفظ الموجب للفرق بين المحق والمبطل- وانما أعاد انزل لبعد المعطوف عليه ولئلا يلتبس بالعطف على هدى مفعولا له او اشارة الى ان للقران انزالا يعنى الى السماء الدنيا ليلة القدر وتنزيلا نجما نجما على حسب الحوادث وقال السدى فى الاية تقديم وتأخير تقديرها وانزل التورية والإنجيل من قبل والفرقان هدى للناس إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ المنزلة فى شىء من الكتب لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بسبب كفرهم كما يعترف به اهل الكتاب وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب لا يمنعه من التعذيب أحد ذُو انْتِقامٍ (٤) لا يقدر على مثله منتقم والنقمة عقوبة المجرم والفعل منه نقم بفتح العين والكسر- وعيد بعد تقرير التوحيد والاشارة الى صدق الرسول بمطابقة ما جاء به الكتب السماوية وكونه معجزا-.
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ كائن فِي الْأَرْضِ وَلا شىء كائن فِي السَّماءِ (٥) والمراد به شىء كائن فى العالم كليّا كان او جزئيا- وانما عبر عن العالم بهما لان الحس لا يتجاوزهما- وانما قدم الأرض على السماء لان المقصود بالذكر انه تعالى يعلم اعمال العباد فيجازيهم عليه- وهذه الجملة كالدليل على كونه حيا وما بعده كالدليل على كونه قيوما اى.
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ على صور......
وألوان وإشكال مختلفة ذكرا او أنثى على ما أراد لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا يعلم ولا يقدر أحد سواه الا بتعليم وأقداره على كسبه على حسب إرادته الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) بدل من المستثنى او خبر لمبتدا محذوف اى هو العزيز الحكيم اشارة الى كمال قدرته وتناهى حكمته عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم تكون علقة مثل ذلك ثم تكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله الملك اليه بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله واجله وشقى او سعيد قال وان أحدكم ليعمل بعمل اهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل النار فيدخلها- وان أحدكم ليعمل بعمل اهل النار حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل اهل الجنة فيدخلها- متفق عليه- وعن حذيفة بن أسيد يبلّغ به النبي ﷺ قال يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم بأربعين او بخمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقى او سعيد فيكتبان فيقول اى رب اذكر او أنثى فيكتبان ويكتب عمله واثره واجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص رواه البغوي.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ اى القران مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ التي أحكمت وأتقنت عباراتها بحيث لا يشتبه على سامع عالم باللغة منطوقه ولا مفهومه ولا مقتضاه اما بلا تأمل كقوله تعالى قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وقوله تعالى وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ واما بعد طلب وتأمل من غير حاجة الى بيان من الشارع كقوله تعالى السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ يظهر شموله للطرّار بأدنى تأمل لوجود معنى السرقة فيه مع زيادة وعدم شموله للنباش لنقصان معنى السرقة فيه فان السرقة أخذ مال مملوك لغيره على سبيل الخفية وكفن الميت غير مملوك لاحد فان الميت باعتبار احكام الدنيا ملحق بالجماد لا يصلح للمالكية وحق الورثة لا يتعلق الا بعد التكفين وكقوله تعالى وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فانه بعد التأمل يظهر انه معطوف على المغسولات لضرب الغاية فيه وقوله تعالى ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فانه بعد التأمل يظهر ان المراد به الحيضات دون الاطهار لان الطلاق مشروع فى الطهر فلا يتصور عدد الثلاثة بلا نقصان او زيادة الا فى الحيضات وقوله تعالى قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ يظهر......
7
بالتأمل ان المراد كون صفائها كصفاء القوارير كائنا من جنس الفضة فعلى هذا دخل فى المحكم الظاهر والنص والمفسر والمحكم والخفي والمشكل على اصطلاح الأصوليين وما ذكرنا من تفسير المحكم هو للمستفاد من قول ابن عباس وهو المعنى من قول محمد بن جعفر بن الزبير ان المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد وما قيل المحكم ما يعرف معناه ويكون حجة واضحة ودلائله لائحة هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ قال فى القاموس الام الوالدة وأم كل شىء أصله وعماده وللقوم رئيسهم وكل شىء انضمت اليه أشياء قلت الكتاب هاهنا اما بمعنى المكتوب اى المفروض كما فى قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ فالاضافة بمعنى اللام والام بمعنى الوالدة او الأصل يعنى المحكمات هن والدات واصول لما كتب علينا إتيانه او الكف عنه من الفرائض والمحرمات- واما بمعنى القران فالاضافة حينئذ اما بمعنى من يعنى انها أم للاحكام من الكتاب يؤخذ منها الاحكام بلا حاجة بيان من الشارع واما بمعنى اللام والمعنى انها عماد للقران وبمنزلة رئيس القوم لسائر الآيات يحتاج إليها غيرها ويضم إليها حتى يستفاد من غيرها المراد منها يردها الى المحكمات وكان القياس ان يقال أمهات الكتاب لكن أورد لفظ المفرد ليدل على ان المحكمات كلها بمنزلة أم واحدة لان الاحكام المفروضة تؤخذ من جميعها لا من كل واحدة منها وكذا مرجع المتشابهات الى مجموعها باعتبار بعضها لا الى كل واحدة منها وَآيات أُخَرُ جمع اخرى معدول من الاخر او اخر من ولذا منع من الصرف للعدل والوصف مُتَشابِهاتٌ التي يشتبه على السامع العارف باللغة المراد منه بحيث لا يدرك بالطلب ولا بالتأمل الا بعد بيان من الشارع بعبارة محكمة فان وجد البيان والتعليم من جهة الشارع وظهر المراد منها سميت مجملا على اصطلاح الأصوليين كالصلوة والزكوة والحج والعمرة واية الربوا ونحو ذلك وان لم يوجد البيان والتعليم سميت حينئذ متشابها على اصطلاحهم ولا يجوز هذا القسم الا فيما لا يتعلق به العمل كيلا يلزم التكليف بما لا يطاق وذلك كالمقطعات القرآنية وقوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ والرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وقد يظهر مراد تلك القسم من الآيات على بعض العرفاء بتعليم من الله تعالى بالإلهام كما عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها واقتباس أنوار النبوة بعد شرح الصدر وان كان ذلك المراد أحيانا بحيث لا يمكن تعليمه وتعلمه باللسان لعدم شمول خزينة العلم من العوام على مراده ولا على العلم بوضع لفظ بإزائه- واما ما يتعلق به التكليف فلا يجوز......
8
تأخير بيانه عن وقت الحاجة كيلا يلزم التكليف بما لا يطاق- فان قيل قال الله تعالى الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ وقال فى موضع اخر كتبا متشابها فكيف فرق هاهنا فقال مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ... - وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ قلنا حيث جعل القران كله محكما فمعناه انه متقن محفوظ عن فساد المعنى ودكاكة اللفظ لا يستطيع أحد معارضته والطعن فيه- وحيث جعل كله متشابها أراد ان بعضه يشبه بعضا فى الحسن والكمال- وفرق هاهنا من حيث وضوح المعنى وخفائه- فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ اى ميل عن الحق قال الربيع هم
وفد نجران خاصموا النبي ﷺ فى عيسى عليه السلام وقالوا له الست تزعم انه كلمة الله وروح منه قال بلى قالوا «١» حسبنا فانزل الله تعالى هذه الاية وقال الكلبي هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الامة واستخراجه بحساب الجمل قال ابن عباس انّ رهطا من اليهود منهم حيى بن اخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما أتوا النبي ﷺ فقال حيى بلغنا انه انزل عليك الم فننشدك الله انزل عليك قال نعم قال فان كان ذلك حقا فانى اعلم مدة تلك أمتك هى احدى وسبعون سنة فهل انزل غيرها قال نعم المص قال فهذه اكثر هى احدى وستون ومائة سنة فهل غيرها قال نعم الر قال هذه اكثر هى مائتين واحدى وثلاثون سنة فهل غيرها قال نعم المر قال هذه اكثر وهى مائتان واحدي وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندرى ابكثيره نأخذ أم بقليلة ونحن مما لا نؤمن بهذا فانزل الله تعالى هذه الاية وقال ابن جريح هم المنافقون وقال الحسن هم الخوارج كذا اخرج احمد وغيره عن ابى امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم- وكان قتادة إذا قرا هذه الاية فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ قال ان لم يكونوا الحرورية والسابية فلا أدرى من هم وقيل هم جميع المبتدعة والصحيح ان اللفظ عام لجميع من ذكر وجميع اصناف المبتدعة عن عائشة قالت تلا رسول الله ﷺ هذه الاية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ الى قوله أُولُوا الْأَلْبابِ قالت قال رسول الله ﷺ فاذا رايت الذين يتبعون ما تشابه منه فاولئك الذين سمى الله فاحذروهم رواه البخاري- وعن ابى مالك الأشعري انه سمع النبي ﷺ يقول ما أخاف على أمتي الا ثلاث خلال وذكر منها ان يفتح لهم الكتاب فيأخذه يبتغى تأويله وليس «٢» يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
(١) فى الأصل قال
(٢) وفى القران وَما يَعْلَمُ
9
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ اى يتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب اليه المبتدع تبعا لهواه من غير رجوع الى المحكمات من الآيات والأحاديث وبلا حملها على ما يطابقها من المحكمات او السكوت مع الايمان والتسليم بمرادها- فالواجب رد المتشابهات الى المحكمات مهما أمكن حتى يتبين مراد المجمل فيعمل به كما فى الصلاة والزكوة والربوا او السكوت عن تأويله مع الايمان بها والتسليم بمرادها- فلما ثبت بإجماع الامة ومحكم نصوص الأحاديث المتواترة ان المؤمنين يرون الله سبحانه فى الاخرة كما يرون القمر ليلة البدر فلا بد ان يؤمن به ويقول المراد بالروية والنظر فى قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ هى النظر بالبصر وما لم يثبت كذلك كما فى قوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ والرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى يسكت فيه مؤمنا به ولا يحمل على ظاهره ويتبع المحكم من قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فيقول بكونه تعالى منزها عن صفات الممكنات ولا يتعب نفسه فى تأويل المقطعات فانه غير ماذون فيه ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ منصوب على العلية من قوله فيتّبعون «١» اى يفعلون ذلك لطلب ان يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك «٢» والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه وهذا وظيفة المنافقين كما حكى ان بعض اليهود لما راوا «٣» دولة الإسلام واستعلاءه حسدوا على ذلك وتيقنوا ان ذلك التأييد من الله تعالى للمسلمين لاجل دينهم فنافقوا ودخلوا فى الإسلام ظاهرا واتبعوا المتشابهات بتأويلات زائغة وأظهروا المذاهب الباطلة فصاروا حرورية ومعتزلة وروافض ونحو ذلك ابتغاء الفتنة وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ عطف على ابتغاء الفتنة اى طلبوا ان
(١) فى الأصل يبتعون. [.....]
(٢) اخرج الدارمي عن عمر بن الخطاب قال انه سيأتيكم ناس يجادلونكم بشبهات القران فخذوهم بالسنن فان اصحاب السنن اعلم بكتاب الله وعن ابى هريرة قال كنا عند عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل يسئل عن القران امخلوق هو او غير مخلوق فقام عمر فاخذ بمجامع ثوبه حتى قاده الى على بن ابى طالب فقال يا أبا الحسن اما تسمع ما يقول هذا قال وما يقول قال جاءنى يسئل عن القران امخلوق هو او غير مخلوق فقال على هذه كلمة سيكون لها ثمرة ولو وليت من الأمر ما وليت ضربت عنقه واخرج الدارمي عن سليمان بن يسار ان رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسئل من متشابه القران فارسل اليه عمر وقدا عدله عراجين النخل قال له ومن أنت قال انا عبد الله صبيغ فقال انا عبد الله عمر فاخذ عرجونا من تلك العراجين فضرب به حتى دمئ رأسه فقال يا امير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجدني رأسى وعن ابى عثمان النهدي ان عمر كتب الى بصرة ان لا تجالسوا صبيغا- قال فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا وعن محمد بن سيرين قال كتب عمر بن الخطاب الى ابى موسى الأشعري بان لا تجالس صبيغا وان تحرم عطاءه ورزقه قال الشافعي حكمى فى اهل الكلام حكم عمر فى صبيغ ان يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم فى العشائر والقبائل وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة واقبل على علم الكلام- منه رحمه الله.
(٣) فى الأصل راى- ابو محمد عفا الله عنه.
10
يأولوه على ما يشتهونه وقد يكون ابتغاء التأويل بناء على الجهل فقط وذلك من بعض المتأخرين من المبتدعة واما من الأوائل المنافقين منهم فكان الداعي على اتباع المتشابهات غالبا مجموع الطلبين وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ اى بيان المتشابه من الآيات على ما هو المراد منه عند الله تعالى إِلَّا اللَّهُ اى لا يجوز ان يعلمه غيره تعالى الا بتوقيف منه ولا يكفى لمعرفته العلم بلغة العرب- فالحصر إضافي نظيره قوله تعالى لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ- يعنى لا يعلم الغيب غيره تعالى الا بتوقيف منه- فهذه الاية لا تدل على ان النبي ﷺ وبعض الكمل من اتباعه لم يكونوا عالمين بمعاني المتشابهات- كيف وقد قال الله تعالى ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ فانه يقتضى ان بيان القران محكمه ومتشابهه من الله تعالى للنبى ﷺ واجب ضرورى لا يجوز ان يكون شىء منها غير مبين له عليه السلام والا يخلوا الخطاب عن الفائدة ويلزم الخلف فى الوعد- والحق ما حققناه فى أوائل سورة البقرة ان المتشابهات هى اسرار بين الله تعالى وبين رسوله ﷺ لم يقصد بها إفهام العامة بل إفهام الرسول ومن شاء افهامه من كمل اتباعه بل هى مما لا يمكن بيانها للعامة وانما يدركها أخص الخواص بعلم لدنى مستفاد بنوع من المعية الذاتية او الصفاتية الغير المتكيفة- وَالرَّاسِخُونَ اى الذين رسخوا اى ثبتوا وتمكنوا فِي الْعِلْمِ بحيث لا تعترضه شبهة وهم اهل السنة والجماعة الذين عضوا بالنواجذ على محكمات الكتاب والسنة واقتفوا فى تفسير القران اجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين هم خيار الامة ورد والمتشابهات الى المحكمات وتركوا الأهواء والتلبيسات- وقيل الراسخون فى العلم مؤمنوا اهل الكتاب- قلت لا وجه لتخصيصهم- وقالت الصوفية العلية الراسخون فى العلم هم المنسلخون عن الهواء بالكلية بفناء القلب والنفس والعناصر المتفوضون فى التجليات الذاتية حيث لا يعتريهم شبهة المترنمون بما قالوا لو كشفت الغطاء ما ازددت يقينا اخرج الطبراني وغيره عن ابى الدرداء ان رسول الله ﷺ سئل عن الراسخين فى العلم قال من برّت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه وعفف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين فى العلم قلت هذا شأن الصوفية ثم اختلف العلماء فى نظم هذه الاية فقال قوم الواو للعطف والمعنى ان تأويل المتشابه يعلمه الله......
11
من اليهود لَوْ يُضِلُّونَكُمْ عن دينكم ويردونكم الى الكفر- لو مصدرية بمعنى ان عاملة فى المعنى دون اللفظ فى محل النصب لودّت- او هى للتمنى بيان للوداد وَما يُضِلُّونَ أحدا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يعنى انما يعود وبال الإضلال الى أنفسهم فيضاعف لهم العذاب والمسلمون محفوظون من شرهم بحفظ الله تعالى فلا يلزم إضلال الضال وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) ان اضرارهم يعود إليهم.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الناطقة بنبوة محمد ﷺ ونعته فى التورية والإنجيل او بالقران وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) اى تعترفون فيما بينكم على سبيل الكتمان انه نبى حق مذكور نعته فى التورية والإنجيل او أنتم تعلمون بالمعجزات انه نبى حق.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ اى تخلطون الحق الذي انزل على موسى من آيات التورية بالباطل الذي كتبته ايديكم بالتحريف وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ النازل فى التورية من نعت محمد ﷺ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) ذلك وتفعلون ما تفعلون عمدا وروى ابن إسحاق عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال عبد الله بن الضيف وعدى بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض نؤمن بما انزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية حتى يلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم فانزل الله تعالى فيهم يا أهل الكتب لم تلبسون الحقّ بالباطل وتكتمون الحقّ وأنتم تعلمون.
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الى قوله واسع عليم آمِنُوا يعنى أظهروا الايمان باللسان بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا يعنى بالقران وَجْهَ النَّهارِ يعنى اوله فانه أول ما يواجه وَاكْفُرُوا به آخِرَهُ يعنى اخر النهار وقولوا انا نظرنا فى كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا «١» ليس بذاك وظهر لنا كذبه لَعَلَّهُمْ اى المسلمون يشكّون فى دينهم ويَرْجِعُونَ (٧٢) عن دينهم ظنّا منهم بانكم رجعتم لخلل ظهر لكم- قال البغوي قال الحسن تواطأ على ذلك اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عرينة- وكذا اخرج ابن جرير عن السدى- وقال مجاهد ومقاتل والكلبي هذا فى شأن القبلة لما صرفت الى الكعبة شق ذلك على اليهود وقال كعب بن الأشرف وأصحابه أمنوا بامر الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا وارجعوا الى قبلتكم اخر النهار
(١) فى الأصل محمد-
.......
71
ويعلمه الراسخون فى العلم فعلى هذا قوله تعالى يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حال منهم يعنى قائلين امنّا نظيره قوله تعالى لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ الى ان قال وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ ثم قال وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وهذا قول مجاهد والربيع- وروى عن ابن عباس انه كان يقول فى هذه الاية انا من الراسخين فى العلم وعن مجاهد انا ممن يعلم تأويله- وذهب الأكثرون الى ان الواو للاستيناف وتم الكلام عند قوله وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فعلى هذا الراسخون فى العلم مبتدا وما بعده خبره وهو قول أبيّ بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير ورواية طاءوس عن ابن عباس وبه قال الحسن واكثر التابعين واختاره الكسائي والفراء والأخفش ومما يؤيد هذا القول قراءة عبد الله بن مسعود ان تأويله الّا عند الله والرّاسخون فى العلم يقولون امنّا به وقراءة أبيّ بن كعب ويقول الرّاسخون فى العلم امنّا به ومن هاهنا قال عمر بن عبد العزيز انتهى علم الراسخين فى العلم بتأويل القران الى ان قالوا أمنا به كُلٌّ من المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا المراد منه وما لم نعلم مِنْ عِنْدِ رَبِّنا قلت فحال الراسخين فى العلم يبائن حال الزائغين قلوبهم من الأهواء المتبعين الآراء كلّما أضاء لهم ووافق النصوص آراءهم مشوا فيه وأمنوا به وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ تأويلات النصوص ولم يوافق آراءهم قاموا ولم يؤمنوا به قال البغوي هذا القول أقيس فى العربية وأشبه بظاهر الاية يعنى القول باستيناف الكلام وعدم العطف قلت وجه كون هذا القول أقيس وأشبه ان الاستثناء من النفي اثبات بإجماع اهل العربية واللام فى الراسخون للاستغراق فلو كان قوله الراسخون فى العلم معطوفا على الله لزم ان يعلم تأويل المتشابهات
كل راسخ فى العلم وليس كذلك على ما يشهده البداهة والرواية وَما يَذَّكَّرُ أصله يتذكر اى ما يتعظ بما فى القران إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) ذووا العقول السليمة فان سلامة العقل يقتضى ان يفوضوا ما لا علم لهم به الى المتكلم العليم الحكيم ولا يقعوا فى الجهل المركب وهم فى كل واد يهيمون- قالت الأكابر لا أدرى نصف العلم-.
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا ولا تملها عن الحق كما ازغت قلوب الذين فى قلوبهم......
زيغ- جاز ان يكون هذا من مقال الراسخين تقديره يقولون امنّا به ويقولون ربّنا إلخ وجاز ان يكون تعليم مسئلة من الله تعالى عند البلوغ الى المتشابه بتقدير قولوا رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا بانزال كتابك ووفقتنا بالايمان بالمحكم والمتشابه وبعد منصوب على الظرفية وإذ فى موضع الجر بإضافته اليه وقيل إذ هاهنا بمعنى ان المصدرية وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً توفيقا وتثبيتا إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) لكل مسئول فيه دليل على ان الهدى والضلالة من الله تعالى بتوفيقه او خذلانه وانه المتفضل على عباده لا يجب عليه شىء عن النواس بن سمعان قال قال رسول الله ﷺ ما من قلب الا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء ان يقيمه اقامه وان شاء ازاغه وكان رسول الله ﷺ يقول يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك والميزان بيد الرحمن جل جلاله يرفع قوما ويضع آخرين الى يوم القيامة رواه البغوي وروى نحوه احمد والترمذي من حديث أم سلمة ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو والترمذي وابن ماجة من حديث انس- وفى الصحيحين من حديث عائشة وعن ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله ﷺ مثل القلب كريشة بأرض فلاة يقلبها الرياح ظهرا ببطن رواه احمد.
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ اى لقضاء يوم وقيل اللام بمعنى فى اى فى يوم لا رَيْبَ فِيهِ اى لا شك فى وقوعه ووقوع ما فيه من الجزاء إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) مفعال من الوعد فالخلف فى الوعد محال لكونه رذيلة ينافى الالوهية واما فى الوعيد فيجوز عندنا المغفرة وان لم يتب- وقالت الوعيدية من المعتزلة لا يجوز الخلف فى الوعيد ايضا الا بعد التوبة محتجا بهذه الاية قلنا وعيد الفساق كما هو مشروطة بعدم التوبة باتفاق بيننا وبينكم كذلك مشروطة بعدم العفو لاطلاق قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وقوله تعالى فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وقوله تعالى وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ وقوله تعالى لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ونحو ذلك وفى الباب أحاديث لا يحصى-.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعم المشركين واهل الكتاب لَنْ تُغْنِيَ اى لا تجزى عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ اى بدلا من رحمته او طاعته......
شَيْئاً من الإغناء فهو منصوب على المصدرية دون المفعولية لان الإغناء غير متعد الا ان يقال معناه على التضمين لا تدفع عنهم من الله اى من عذابه شيئا فعلى هذا منصوب على المفعولية والجار والمجرور ظرف مستقر حال منه وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) اى حطبها عطف على لن تغنى.
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ دأب مصدر من داب فى العمل إذا كدح فيه والجار والمجرور فى محل الرفع خبر مبتدا محذوف تقديره دأبهم كدأب ال فرعون ومعناه فعلهم وصنيعهم فى الكفر وتكذيب الرسل كفعل ال فرعون كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد- وقيل هو منقول من معنى الفعل الى معنى الشأن- وقال ابو عبيدة معناه كسنة ال فرعون وقال الأخفش كامر ال فرعون وشأنهم وقال النصر بن شميل كعادة ال فرعون يعنى عادة هؤلاء الكفار وطريقتهم وشأنهم فى تكذيب الرسل ونزول العذاب كشأن ال فرعون وطريقتهم وسنتهم وجاز ان يكون الجار والمجرور متصلا بما قبله يعنى توقد بهم النار كما توقد بال فرعون فوقود النار بهم بضم الواو شأنهم كما هو شان ال فرعون ولن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم كما لم يغن بال فرعون فيكون شأنهم كشأنهم عند حلول العذاب وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مثل عاد وثمود وقوم لوط معطوف على ال فرعون وحينئذ قوله تعالى كَذَّبُوا اما حال بتقدير قد او استيناف لبيان حالهم كانّه فى جواب ما شأنهم وجاز ان يكون الموصول مبتدا وما بعده خبره بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ وعاقبهم بِذُنُوبِهِمْ اى بسبب ذنوبهم وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) شديد عقابه- روى ابو داود فى سننه وابن جرير والبيهقي فى الدلائل من طريق ابن إسحاق عن محمد بن ابى محمد عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال لما أصاب رسول الله ﷺ من اهل بدر ما أصاب ورجع الى المدينة جمع اليهود فى سوق بنى قينقاع وقال يا معشر يهود اسلموا قبل ان يصيبكم مثل ما أصاب قريشا فقالوا يا محمد لا يغرنك من نفسك ان قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا «١» لا يعرفون القتال انك لو قاتلتنا لعرفت انا نحن الناس وانك لم تلق مثلنا فانزل الله.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعنى اليهود سَتُغْلَبُونَ الى قوله لاولى الابصار فقد صدق الله تعالى وعيده بقتل بنى قريظة واجلاء بنى النضير وفتح خيبر وضرب الجزية عليهم
(١) الأغمار جمع غمر بالضم وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور- نهايه منه رح
وقال مقاتل نزول هذه الاية قبل وقعة بدر والمراد بهم مشركوا مكة يعنى قل لكفار مكة ستغلبون يوم بدر فلما نزلت هذه الاية قال لهم النبي ﷺ يوم بدر ان الله تعالى غالبكم وحاشركم الى جهنم وقال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس ان يهود المدينة قالوا لمّا هزم الله تعالى المشركين يوم بدر هذا والله النبي الذي بشرنا به موسى لا ترد له رأية وأرادوا اتباعه ثم قال بعضهم لبعض لا تعجلوا حتى تنظروا الى وقعة اخرى فلما كان يوم أحد ونكب اصحاب رسول الله ﷺ شكّوا فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا وقد كان بينهم وبين اصحاب رسول الله ﷺ عهد الى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الأشرف فى ستين راكبا الى مكة يستنفرهم فاجمعوا أمرهم على قتال رسول الله ﷺ فانزل الله تعالى فيهم هذه الاية قرأ حمزة وخلف- ابو محمد والكسائي سيغلبون بالياء على ان الله تعالى امر رسوله ﷺ ان يحكى لهم ما أخبره به من وعيدهم وكذا قوله وَتُحْشَرُونَ فى الاخرة إِلى جَهَنَّمَ وقرا الباقون بالتاء فيهما على الخطاب على انه مقولة قل وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) اى الفراش اى جهنم هذا من تمام ما يقال لهم او استيناف اى بئس ما مهّدوه لانفسهم او بئس ما مهّد لهم-.
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ الخطاب لليهود على تقدير كون الاية السابقة فيهم يعنى قد كانت لكم يا معشر اليهود اية اى دليل «١» واضح على صدق ما أقول لكم انكم ستغلبون او خطاب للمشركين على تقدير كون الاية فيهم يعنى قد كانت لكم يا معشر الكفار اية معجزة ودليل «٢» على النبوة فِي فِئَتَيْنِ اى فرقتين انما يقال الفرقة فئة لان فى الحرب يفىء بعضهم الى بعض الْتَقَتا يوم بدر للقتال فِئَةٌ مؤمنة يعنى رسول الله وأصحابه تُقاتِلُ العدو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فى طاعة الله كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا سبع وسبعون رجلا من المهاجرين وصاحب رأيتهم على بن ابى طالب وهو الصحيح وقيل مصعب بن عمير ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وصاحب رأيتهم سعد بن عبادة وكان فيهم سبعون بعيرا وفرسان فرس لمقداد «٣» بن عمرو فرس لمرثد بن ابى مرثد وأكثرهم رجالة وكان معهم من السلاح ست اذرع وثمانية سيوف وفئة أُخْرى كافِرَةٌ وهم مشركوا مكة
(١) فى الأصل دليلا واضحا
(٢) فى الأصل دليلا
(٣) فى الأصل للمقداد
15
كانوا تسعمائة وخمسين رجلا من المقاتلة رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد الشمس وفيهم مائة فرس وكانت حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله ﷺ بعد الهجرة بثمانية عشر شهرا فى رمضان سنه يَرَوْنَهُمْ قرا نافع وابو جعفر- ابو محمد ويعقوب بالتاء على الخطاب فان كان الخطاب لليهود فالمعنى يا معشر اليهود ترونهم يعنى كفار مكة مِثْلَيْهِمْ اى مثلى المسلمين وذلك ان جماعة من اليهود حضروا قتال بدر لينظروا على من يكون الدبرة فراوا المشركين مثلى عدد المسلمين وراوا النصرة مع ذلك للمسلمين فان قيل كيف قال مثليهم وهم كانوا ثلاثة أمثالهم قلنا لعل المراد كثرتهم وتكرار أمثالهم دون التثنية كما فى قوله تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يعنى كرة بعد اخرى- وان كان الخطاب للمشركين فالمعنى ترونهم يا معشر الكفار اى المسلمين مثليهم وذلك حين القتال ولا تناقض بين هذا وبين قوله تعالى فى سورة الأنفال وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لانهم قلّلوا فى أعينهم قبل القتال حتى اجترءوا عليهم فلما تلاقوا وشرعوا فى الحرب كثر المسلمون فى أعينهم حتى جبنوا وغلبوا وقرا الجمهور بالياء على الغيبة وعلى هذا فالضمير المرفوع جاز ان يكون راجعا الى المشركين والمعنى يرى المشركون المسلمين مثلى المشركين او مثلى المسلمين وجاز ان يكون راجعا الى المسلمين يعنى يرى المسلمون المشركين مثلى المسلمين حيث قللهم الله تعالى فى أعينهم حتى راوهم مثلى أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم وتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله تعالى فى قوله فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ثم قللهم الله تعالى حتى راوهم مثل عدد أنفسهم قال ابن مسعود نظرنا الى المشركين فرايناهم يضعّفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رايناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللهم الله تعالى ايضا فى أعيننا حتى رايناهم عددا يسيرا اقل من أنفسنا حتى قلت لرجل الى جنبى نراهم سبعين قال أراهم مائة والروية هاهنا بمعنى العلم حتى يكون مثليهم مفعولا ثانيا له إذا المعنى لا يساعد كونه حالا فعلى هذا قوله تعالى رَأْيَ الْعَيْنِ مبنى على المبالغة فى علمهم بكونهم مثليهم وتشبيه لهذا العلم بالعلم الحاصل بروية العين فاطلق رأى العين وأريد به العلم الحاصل به مجازا تسمية المسبب باسم السبب فهو منصوب على المصدرية وجاز ان يكون منصوبا بنزع الخافض اى كرأى العين وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من التقليل والتكثير......
16
وغلبة القليل عديم القدرة على الكثير شاكى السلاح لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣) اى لذوى العقول- وقيل لمن راى الجمعين-.
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ الزين ضد الشين وهو كون الشيء ذا حسن وجمال مستحقا للمدح محبوبا وذا قد يكون بصفات نفسانية كالعلم والعقل ونحو ذلك او بدنية كالقوة والقامة وحسن المنظر او خارجية كاللباس والمركب والمال والجاه- والتزيين جعل الشيء كذلك اما فى الحقيقة كما فى قوله تعالى زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ او فى اعتقاد من زين له سواء كان الاعتقاد مطابقا للواقع كما فى قوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ او غير مطابق له كما فى قوله تعالى زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ والشهوة هى توقان النفس وكمال رغبتها الى الشيء والمراد بالشهوات هاهنا المشتهيات فانها هى المزينات المحبوبات حقيقة لكن سميت بالشهوات وجعل موردا لتزيين حب الشهوات دون أنفسها مبالغة فى التوبيخ وايماء على انهم انهمكوا فى محبتها حتى أحبوا شهواتها بل حب شهواتها كانّ تقدير الكلام حبب الى الناس حب محبة النساء ونحوها نظيره أحببت حبّ الخير وقال صاحب الكشاف سميت شهوات مبالغة فى التنفير عنها لان الشهوات علم فى الخسة شاهد على البهيمية إذ المقام مقام التنفير عنها والترغيب فيما عند الله وقال بعض الأفاضل بل مبالغة فى التحذير عن مخالطتها وكمال التوجه إليها فانها لكمالها فى كونها مشتهيات تشغل اللاهي بكليته الى أنفسها وتقطعه عما عند الله والمزين هو الله تعالى لانه الخالق للجواهر والاعراض والافعال الاختيارية للعباد والدواعي كلها- ولعله زينه ابتلاء «١» قال الله تعالى إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ولكونه سببا لمجاهدة المؤمنين وباعثا لشكر النعمة ووسيلة الى السعادة الاخروية وموجبا لفضل البشر على الملائكة- وسببا لخذلان الكافرين وموجبا لاضلالهم يضلّ من يشاء ويهدى من يشاء وايضا فى التزيين حكمة التعيش وبقاء النوع قال الله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وقيل المزين هو الشيطان فان الاية فى معرض الذم وقد نسب الله تعالى تزيين الأشياء تارة الى نفسه باعتبار الخلق حيث قال كذلك زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ وزَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وتارة
(١)
همه انداز من بتوانيست كه تو طفلى وجامه رنگين است
: منه رح
الى الشيطان باعتبار كسبه إلقاء الوسوسة فى القلوب والإلهاء حيث قال إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وقوله لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ وزيّن لهم الشّيطن أعمالهم فصدّهم عن السّبيل مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ جمع قنطار وهو المال الكثير بعضه على بعض سمى قنطارا من الاحكام يقال قنطرت الشيء إذا أحكمته ومنه سميت القنطرة- وقال معاذ بن جبل الف ومائتا اوقية وقال ابن عباس الف ومائتا مثقال او اثنا عشر الف درهم او الف دينار وقال سعيد بن جبير وعكرمة هو مائة الف ومائة منّ ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم وعن السدى اربعة آلاف مثقال وقال الحكم القنطار ما بين السماء والأرض وقيل ملا مسك ثور «١» واختلف فى انه فعلال او فنعال الْمُقَنْطَرَةِ مأخوذة من القنطار للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة يعنى الكثيرة المنضمة بعضها الى بعض وقال الضحاك المحصنة المحكمة وقال يمان المدفونة وقال السدىّ المضروبة وقال الفراء المضعفة فالقناطير أريد به جمع القنطار وبالمقنطرة جمع الجموع مِنَ الذَّهَبِ قيل سمى به لانه يذهب وَالْفِضَّةِ قيل سمى بها لانها تنفض اى تتفرق وَالْخَيْلِ جمع فرس لا واحد له من لفظه الْمُسَوَّمَةِ قال مجاهد يعنى المطهمة الحسان اى محكم الخلق حسن الجمال وتسويمها حسنها وقال سعيد بن جبير هى الراعية اى السائمة وقال الحسن وابو عبيدة هى المعلمة من السيماء اى العلامة ثم منهم من قال سيماها الشية واللون وهو قول قتادة وقيل الكي وَالْأَنْعامِ جمع نعم والنعم جمع لا واحد له من لفظه ويطلق على الإبل والبقر والغنم وقال ابو حنيفة رحمه الله يطلق على الدواب الوحشي ايضا ولذا فسر قوله فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ اى مثل ما قتل من النعم الوحش وَالْحَرْثِ اى الزرع ذلِكَ المذكورات مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا اى يتمتع بها فى الدنيا ثم يفنى وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) اى المرجع الحسن الذي كانه عين الحسن ففيه كمال التحريض على استبدال ما فى الدنيا من الشهوات الفانية بما عند الله من المستلذات القوية «٢» الباقية-.
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ المذكورات فيه توبيخ للكفار واشارة الى
(١) اخرج الحاكم وصححه عن انس عنه ﷺ قال القنطار الف اوقية.. واخرج احمد وابن ماجة عن ابى هريرة عنه ﷺ قال اثنا عشر الف اوقية- منه رح
(٢) عن قتادة فى هذه الاية ذكر لنا ان عمر بن الخطاب كان يقول اللهم زينت لنا الدنيا وانبأتنا ان ما بعدها خير منها فاجعل حظنا فى الذي هو خير وأبقى- منه رح
18
ان النبي ﷺ كانه متردد فى ان ينبئهم شفقة عليهم وامتثالا لامر الله تعالى او لا ينبئهم لملاحظة بعدهم عن قبول الحق وتقرير لما سبق اليه الاشارة من ان ثواب الله خير من مستلذات الدنيا لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ مبتدا والظرف خبر مقدم عليه والجملة استيناف لبيان ما هو خير ويجوز ان يكون الظرف متعلقا بخير او يكون ظرفا مستقرا صفة لخير واختصاص المتقين لانهم هم المنتفعون به وجنات خبر مبتدا محذوف اى هو جنات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة لجنات خالِدِينَ فِيها اى مقدرين الخلود فيها إذا دخلوها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ مما يستقذر من النساء كالحيض والنفاس والبول والغائط وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ قرا ابو بكر عن عاصم بضم الراء فى جميع القران غير الحرف الثاني فى المائدة ورضوانه سبل السّلم والباقون بالكسر وهما لغتان كالعدوان والعدوان- قيل ذكر الله سبحانه من جنس ما يشتهونه الجنات التي هى من جنس الحرث والأزواج المطهرة التي هى من جنس النساء ولم يذكر البنين لان المقصود منهم فى الدار الفانية الاعانة وبقاء النوع- ولا الخيل ولا الانعام ولا الذهب والفضة لانهم مستغنون عن مشاق ركوب الخيل والانعام لنيل المقاصد وعن البيع والشراء المحوج الى الأثمان وزاد لهم ما لا زيادة عليه وهو رضوان الله ونكر الرضوان اشارة الى انه امر لا يحيط العلم بإدراكه عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ ان الله تبارك وتعالى يقول لاهل الجنة يا اهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير فى يديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول الا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون يا رب واىّ شىء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده ابدا متفق عليه وعندى ان ذكر الجنان واقع فى مقابلة جميع ما يشتهونه لقوله تعالى وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ فان الأبناء والأقارب كلهم تجتمعون فى الجنة ويدوم لقاؤهم ابدا قال الله تعالى أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وسئل رسول الله ﷺ ان الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لاهل الجنة فقال المؤمن إذا اشتهى الولد فى الجنة كان حمله وضعه وسنه فى ساعة كما يشتهى رواه الترمذي وحسنه والبيهقي وهناد فى الزهد عن ابى سعيد والحاكم فى التاريخ والاصبهانى فى الترغيب- واما قناطير......
19
الذهب والفضة فان الله تعالى خلق الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك- رواه البزار والطبراني والبيهقي عن ابى سعيد عن النبي ﷺ وفى الحديث المرفوع جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما متفق عليه من حديث ابى موسى- واما الخيل والانعام فقد قال أعرابي يا رسول الله انى أحب الخيل أفي الجنة خيل قال ان دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوت له جناحان فحملت عليه ثم طار بك حيث شئت رواه الترمذي عن ابى أيوب وروى الترمذي والبيهقي نحوه عن بردة مرفوعا والطبراني والبيهقي بسند جيد عن عبد الرحمن بن ساعدة مرفوعا- واخرج ابن المبارك عن شفى بن مانع ان النبي ﷺ قال من نعيم الجنة انهم يتزاورون على المطايا والبخت وانهم يؤتون فى يوم الجمعة بخيل مسرجة ملجمة لا تروث ولا تبول فيركبونها حتى ينتهوا حيث شاء الله- واخرج ابن ابى الدنيا وابو الشيخ والاصفهانى عن على مرفوعا قال ان فى الجنة شجرة تخرج من أعلاها حلل ومن أسفلها خيل بلق من ذهب سرجها وزمامها الدر والياقوت وهن ذوات الاجنحة خطوّها مد البصر لا تروث ولا تبول فيركبها اولياء الله فيطير بهم حيث شاءوا فيقول «١» الذي أسفل منهم قد اطفؤوا نورنا من هؤلاء فقال انهم كانوا ينفقون وكنتم تبخلون وكانوا يقاتلون وكنتم تجلسون واخرج ابن المبارك عن ابن عمران فى الجنة عتاق الخيل وكرام النجائب يركبها أهلها واخرج ابن وهب عن الحسن البصري ان رسول الله ﷺ قال ان ادنى اهل الجنة منزلة الذي يركب
فى الف الف من خدم من الولدان المخلدين على خيل من ياقوت احمر لها اجنحة من ذهب واما الحرث فقد روى البخاري عن ابى هريرة ان رسول الله ﷺ قال ان رجلا من اهل الجنة استأذن ربه فى الزرع فقال له الست فيما شئت قال بلى ولكنى أحب ان ازرع قال فيزرع فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال فيقول الله تعالى دونك يا ابن آدم فانه لا يشبعك شىء واخرج الطبراني وابو الشيخ نحوه وفيه حتى تكون سنيلة اثنا عشر ذراعا ثم لا يبرح مكانه حتى يكون منه ركام أمثال الجبال- ولعل وجه تخصيص الأزواج من بين نعيم الجنة بالذكر اما شدة ما كان بالعرب من شهوة النساء واما ان الأزواج تكون لكل من يدخل الجنة أجمعين واما البنون ونحو ذلك فلمن كان له بنون فى الدنيا او لمن يشتهيهم فيها وهم لا يشتهون ذلك غالبا لما روى عن
(١) فى الأصل شاء
20
ابى سعيد انه إذا اشتهى المؤمن فى الجنة الولد كان فى ساعة ولكن لا يشتهى رواه الترمذي والدارمي يعنى لا يشتهى غالبا جمعا بين الروايات- وذكر الله سبحانه ما زاد على نعماء الدنيا ولا مزيد عليه وهو رضوان الله فانه هو الفارق البائن بين نعماء الدنيا ونعماء الجنة فان الدنيا ملعونة وملعون ما فيها الا ما ابتغى به وجه الله عز وجل وفى رواية الا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما رواه الطبراني فى الأوسط عن ابن مسعود وفى الصغير عن ابى الدرداء وابن ماجة عن ابى هريرة واما نعماء الجنة فهى مرضيات لله تعالى عن ربيعة الحرسي قال قال رسول الله ﷺ قيل لى فى المنام سيد بنى دارا وصنع مادبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضى عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة وسخط عليه السيد قال والله سيد ومحمد الداعي والدار الإسلام والمأدبة الجنة رواه الدارمي- قلت والسر فى ان نعيم الدنيا غير مرضية لله تعالى لا ينبغى ان يلتفت إليها قال الله تعالى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ونعيم الجنة مرضية لله تعالى ممدوح من يطمع فيها قال الله تعالى وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ان مبادى تعينات النشئة الدنيوية غالبا هى الاعدام التي تقررت فى مرتبة العلم واستضاءت بالتقابل بعكوس نقائضها التي هى صفات الكمال لله تعالى كالجهل فى مقابلة العلم والعجز فى مقابلة القدرة ونحو ذلك وسميت ظلالا ولاجل ذلك يسرع الفناء الى هذه النشئة والعدم فى نفسه شر محض لا نصيب له من الحسن والجمال والخير والكمال الا بالتموية بخلاف النشئة الاخروية فان مبادى تعيناتها انما هى صفات الله تعالى الحسناء فحبها حب الله تعالى والانشغاف بها الانشغاف به تعالى كذا ذكر المجدد رضى الله عنه فى سر محبة يعقوب عليه السلام بيوسف عليه السلام مع ان الأنبياء بل الأولياء لا يلتفتون الى غير الله سبحانه قال رسول الله ﷺ لو كنت متخذا خليلا لا تخذن أبا بكر خليلا وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا رواه مسلم قال المجدد رضى الله عنه وذلك ان حسن يوسف عليه السلام كان من جنس حسن اهل الجنة فكان حبة والعشق به حب الله تعالى وعشقه وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) هذا الكلام فى مقام التعليل لما سبق واللامم اما للاستغراق اى بصير بجميع العباد محسنهم ومسيئهم فيجازيهم على حسب ما عملوا-......
21
واما للعهد يعنى بصير بالذين اتقوا ولذا أعد لهم الجنات-.
الَّذِينَ يَقُولُونَ مجرور على انه صفة للمتقين او للعباد وجاز ان يكون منصوبا على المدح او مرفوعا رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الفاء للسببية وفيه دليل على ان مجرد الايمان سبب لاستحقاق المغفرة عن معاذ قال قال رسول الله ﷺ حق الله على العباد ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا قال معاذ افلا ابشر به الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا متفق عليه.
الصَّابِرِينَ على خلاف النفس مانعيها عن الجزع فى المصائب وعن اتباع الشهوات والرذائل حابسيها على الطاعات والفضائل وَالصَّادِقِينَ فى المقال وادعاء الأحوال وجميع الدعاوى والروايات والشهادات- واصدق الصدق شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله وَالْقانِتِينَ الدائمين على الطاعات المشتغلين بالله تعالى وَالْمُنْفِقِينَ أموالهم فى مرضات الله- فاستوعب الكلام انواع الطاعات من الأخلاق والأقوال والأعمال البدنية والمالية وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) يعنى انهم مع ما هم فيه من الطاعات الظاهرة والباطنة خائفون من الله يعترفون على أنفسهم بالتقصير فيستغفرون منه كيف لا وان العباد لا يمكن ان يعبدوا كما ينبغى لكبريائه وعظمته- بل العبد إذا لاحظ الى انّ أفعاله مخلوقة لله تعالى وانه تعالى منّ عليه بتوفيقه لعبادته وارتضاه لنفسه حيث لم يتركه الى غيره علم ان كل ما صدر منه ان كان قابلا للقبول فهو مستوجب للشكر والامتنان ولا يتصور أداء شكر نعمائه الا ان يتغمده الله بمغفرته ورضوانه يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا- «١» بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وخص الاسحار بالاستغفار لكونها اقرب للاجابة عن ابى هريرة ان رسول الله ﷺ قال ينزل الله تعالى الى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول انا الملك من ذا الذي يدعونى فاستجيب له من ذا الذي يسئلنى فاعطيه من ذا الذي يستغفرنى فاغفر له متفق عليه وفى رواية لمسلم ثم يبسط يديه ويقول من يقرض غير عدوم ولا ظلوم حتى ينفجر الفجر قال البغوي حكى عن الحسن ان لقمان قال لابنه يا بنى لا تكونن أعجز من هذا الديك يصوت
(١) وفى القران بعد أَنْ أَسْلَمُوا- قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ إلخ-
بالأسحار وأنت نائم على فراشك وعن زيد بن اسلم انه قال هم الذين يصلون الصبح فى الجماعة وقيد بالسحر لقربه من الصبح وقال الحسن مدوا الصلاة الى السحر ثم استغفروا قال نافع كان ابن عمر يحيى الليل ثم يقول يا نافع اسحرنا فاقول لا فيعاود الصلاة فاذا قلت نعم قعد يستغفر الله ويدعو حتى يصبح وتوسيط واو العطف دليل على استقلال كل واحدة منها فى الكمال وكمالهم فيها او لتغائر الموصوفين بها فالصابرون الصوفية اصحاب القلوب والنفوس الزاكية والغزاة والشهداء والصادقون العلماء الناطقون بالروايات الصادقة والقانتون الزهاد المصلون بطول القنوت الداعون الله خوفا وطمعا والمنفقون الأغنياء الصالحون من المؤمنين يكتسبون الأموال من الوجوه المباحة وينفقونها فى سبيل الله والمستغفرون بالأسحار الذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ والذي نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم رواه مسلم- وروى احمد وابو يعلى من حديث ابى سعيد نحوه- قدم الله سبحانه فى الذكر الا فضل فالافضل-.
شَهِدَ اللَّهُ اى بيّن بنصب الدلائل العقلية وإنزال الآيات السمعية أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ حكى البغوي عن الكلبي قال قدم حبران من أحبار الشام على النبي ﷺ فلما ابصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج فى اخر الزمان فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة فقالا له أنت محمد قال نعم قالا وأنت احمد قال انا محمد واحمد قالا فانا نسئلك عن شىء فان اخبرتنا أمنا بك وصدقناك فقال سلا فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة فى كتاب الله عز وجل فانزل الله تعالى هذه الاية فاسلم الرجلان قال ابن عباس خلق الله الأرواح قبل الأجساد باربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح باربعة آلاف سنة فشهد بنفسه لنفسه قبل ان خلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا ارض ولا بحر ولا بر فقال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وشهدت الْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ يعنى مؤمنى الانس والجن كلهم أمنوا بالجنان وشهدوا بتوحيد الله تعالى باللسان قائِماً بتدبير مصنوعاته منصوب على الحال من الله فاعل شهد وجاز لعدم اللبس يعنى شهد الله......
فى حال قيامه بتدبير مصنوعاته فان قيامه عليه كذلك دليل واضح على توحيده- او على الحال من هو والعامل فيها معنى الجملة اى تفرد قائما- او احقه لانه حال مؤكدة- او على المدح وعلى هذا يكون مندرجا فى المشهود به- وجاز ان يكون مفعولا للعلم اى أولوا المعرفة قائما بِالْقِسْطِ اى متلبسا بالعدل فى قسمه وحكمه لا يتصور منه الظلم لانه مالك الملك يتصرف فى ملكه كيف يشاء فلا يجب عليه ثواب المطيع بل ذلك بفضل منه ولا عذاب العاصي فانه يغفر لمن يشاء فلا دليل فيه للمعتزلة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرره للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة ادلة التوحيد والحكم به بعد اقامة الحجة الْعَزِيزُ فى ملكه الْحَكِيمُ (١٨) فى صنعه صفتان لله فاعل شهد او بدلان من هو قدم العزيز لتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته-.
إِنَّ الدِّينَ المرضى عِنْدَ اللَّهِ هو الْإِسْلامُ قرا الكسائي بفتح انّ على انه بدل الكل ان فسر الإسلام بالايمان قال قتادة شهادة ان لا اله الا الله والإقرار بما جاء به الرسل من عند الله وهو دين الله الذي شرعه لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه ولا يقبل غيره ولا يجزى الا به- او فسر بما يتضمنه قال رسول الله ﷺ الإسلام ان تشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت ان استطعت اليه سبيلا متفق عليه من حديث عمر فى حديث طويل قصة سوال جبرئيل- وبدل اشتمال ان فسر الإسلام بالشريعة المحمدية فانه الدين المرضى عند الله فى هذا الزمان بعد نسخ الأديان المنزلة من الله تعالى سابقا قال رسول الله ﷺ لو كان موسى حياما وسعه الا اتباع رواه احمد والبيهقي من حديث جابر- وقرا الجمهور بكسر انّ على انه كلام مبتدا عن الأعمش انه قام من الليل يتهجد فمر بهذه الاية شَهِدَ اللَّهُ الاية ثم قال وانا اشهد بما شهد الله به واستودع الله هذه الشهادة وهى لى عند الله وديعة إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فلما فرغ من صلاته سئل عنه فقال حدثنى ابو وائل عن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله ان لعبدى هذا عندى عهدا وأنا أحق من وفى العهد ادخلوا عبدى الجنة رواه البغوي بسنده وأخرجه الطبراني والبيهقي فى الشعب بسند ضعيف وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى اليهود والنصارى فى نبوة محمد ﷺ وحقية الإسلام حتى......
نفاه بعضهم وقال بعضهم انه مخصوص بالعرب إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بانّ الدّين عند الله الإسلام حيث بين الله ذلك فى التورية والإنجيل بَغْياً منصوب على العلية بَيْنَهُمْ ظرف مستقر صفة لبغيا يعنى ما تركوا الحق واختلفوا بشبهة وخفاء فى الأمر بل بعد العلم بكونه حقا لاجل بغى وحسد مستقر بينهم ولاجل طلب الملك والرياسة- واخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر انها نزلت فى نصارى نجران ومعناها وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى الإنجيل فى امر عيسى عليه السلام حتى قال بعضهم انه ابن الله إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بان الله واحد لم يلد وان عيسى عبده ورسوله بَغْياً بَيْنَهُمْ اى معاداة لليهود ومخالفة لهم حيث أنكروا نبوته وبهتوا امه بعد ما جاءهم العلم فى التورية انه عبده ورسوله واخرج ابن ابى حاتم عن الربيع ان موسى عليه السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلا من أحبار بنى إسرائيل فاستودعهم التورية واستخلف يوشع بن نون فلما مضى القرن الاول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم المراد بقوله تعالى وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من أبناء أولئك السبعين حتى اهرقوا بينهم الدماء ووقع الشر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعنى بيان ما فى التورية بَغْياً بَيْنَهُمْ فسلط الله عليهم الجبابرة وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فيجازيه على كفره وعيد لمن كفر منهم.
فَإِنْ حَاجُّوكَ يا محمد وقالت اليهود والنصارى ان ديننا هو الإسلام وانّما اليهودية والنصرانية نسب فَقُلْ لانزاع فى اللفظ بل أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ فتح الياء نافع وابو جعفر- ابو محمد عفا عنه وابن عامر وحفص واسكن الباقون لِلَّهِ اى انقدت لله تعالى وحده لا أشرك به غيره ولا اتبع هو اى فيما امر به بقلبي ولسانى وجميع جوارحى- وانما خص الوجه لانه أكرم جوارح الإنسان او المعنى أخلصت توجهى ظاهرا بالجوارح واللسان وباطنا بالنفس والقلب لله تعالى لا التفت الى غيره- او المعنى فوضت وجهى يعنى ذاتى لله تعالى ومقتضى هذا الإسلام والتفويض ان لا يشرك به غيره وان يسارع فى امتثال أوامره وانتهاء نواهيه وان يتبع كل شريعة جاءت من عنده ما لم ينسخ وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف على الضمير المرفوع فى أسلمت وحسن للفصل اى واسلم من اتبعنى- وجاز ان يكون مفعولا معه- اثبت الياء نافع وكذا ابو جعفر وصلا ويعقوب فى الحالين- وابو عمرو فى الوصل على الأصل وحذفها الباقون فى الحالين تبعا للخط وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عطف على قل أسلمت يعنى قل......
لنفسك أسلمت واحضر الإسلام فى قلبك واجعله مطمئنا به وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم كمشركى العرب أَأَسْلَمْتُمْ كما أسلمت بعد ما وضح بالدلائل العقلية وآيات التورية والإنجيل إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ أم أنتم بعد على كفركم- فهذا استفهام صيغة وامر معنى كما فى قوله تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ يعنى انتهوا وفيه تعبير لهم بالبلادة او المعاندة فَإِنْ أَسْلَمُوا كما أسلمت فَقَدِ اهْتَدَوْا فقرا رسول الله ﷺ هذه الاية فقال اهل الكتاب اسلمنا فقال لليهود ان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته فقالوا «١» معاذ الله وقال للنصارى أتشهدون ان عيسى عبد الله ورسوله فقالوا معاذ الله ان يكون عيسى عبدا- فقال الله تعالى وَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام كما أسلمت فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ اى فلا يضرونك انما عليك تبليغ الرسالة دون الهداية وقد بلغت وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠) مؤمنهم وكافرهم يجزئ كل واحد بما عمل-.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعنى اليهود يكفرون بالقران والإنجيل وآيات التورية التي فيها نعت النبي ﷺ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ اى قتل اوائلهم الأنبياء وهم يرضون بفعلهم يريدون ان يفعلوا بالنبي ﷺ ما فعل اوائلهم فقاتلوه وسحروه وجعلوا السم فى طعامه حتى مات به شهيدا حين مات وقد ذكر قصة السحر وللسم فى سورة البقرة بِغَيْرِ حَقٍّ يعنى فى اعتقادهم والا فقتل النبي لا يكون الا بغير حق وانما حملهم على القتل حب الرياسة ولم يروا منهم ما يجوز به القتل وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ اى بالعدل مِنَ النَّاسِ وهم اتباع الأنبياء- قرا حمزة يقاتلون من المفاعلة قال ابن جريج كان الوحى يأتى الى أنبياء بنى إسرائيل ولم يكن يأتيهم كتاب فيذكّرون قومهم فيقتلون فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم فيذكّرون قومهم فيقتلون ايضا فهم الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ روى البغوي عن ابى عبيدة بن الجراح رضى الله عنه قال قلت لرسول الله ﷺ اىّ الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا او رجل امر بالمنكر ونهى عن المعروف ثم قرا رسول الله ﷺ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ الى قوله وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثم قال رسول الله ﷺ يا أبا عبيدة قتلت بنوا إسرائيل ثلاثة
(١) فى الأصل فقال- ابو محمد عفا الله عنه
وأربعين نبيا من أول النهار فى ساعة فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بنى إسرائيل فامروا من قتلوهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من اخر النهار فى ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله فى كتابه وانزل الاية فيهم فَبَشِّرْهُمْ اى أخبرهم يا محمد ذكر لفظ البشارة تهكما بهم بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) وجيع قال سيبويه جملة فبشرهم لا يصلح ان يكون خبرا لانّ ولا يجوز عنده دخول الفاء على خبران قياسا على خبر ليت ولعل فعلى هذا خبران اما قوله تعالى.
أُولئِكَ الَّذِينَ الى آخره- وجملة فبشّرهم معترضة نظيره زيد فافهم رجل صالح واما محذوف وأقيم المسبب مقامه والتقدير لهم عذاب اليم فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ- وقال الجمهور جملة فبشّرهم خبر لانّ فقال البغوي انما ادخل الفاء على خبران على الغاء ان وتقديره الذين يكفرون ويقتلون فبشرهم وقال اكثر النحويين يجوز دخول الفاء على خبران لشبه اسمها الموصول بالشرط كالمبتدا الموصول بخلاف اسم ليت ولعل فانهما ينقلان الجملة الخبرية الى الإنشاء فينفيان المشابهة بالشرط فعلى هذا الجملة التالية خبر بعد خبر أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ اى ضاعت أَعْمالُهُمْ فلهم اللعنة والخزي فِي الدُّنْيا وَالعذاب فى الْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) يحفظ أعمالهم من الحبط ويدفع عنهم العذاب- اخرج ابن المنذر وابن إسحاق وابن جرير وابن ابى حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال دخل رسول الله ﷺ بيت المدارس على جماعة من اليهود فدعاهم الى الله تعالى فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على اى دين أنت يا محمد قال على ملة ابراهيم ودينه قالا فان ابراهيم كان يهوديا فقال رسول الله ﷺ فهلما الى التورية فهى بيننا وبينكم فابيا عليه فانزل الله تعالى.
أَلَمْ تَرَ استفهام للتقرير والتعجيب إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً يعنى نصيبا حقيرا حيث لا نصيب لهم من بطون الكتاب ولا من الايمان بجميع ما فيه مِنَ الْكِتابِ ومن للتبعيض وجاز ان يكون للبيان والمراد بالكتاب التورية او جنس الكتب السماوية يُدْعَوْنَ حال من الموصول مفعول أَلَمْ تَرَ يعنى يدعوهم محمد ﷺ إِلى كِتابِ اللَّهِ يعنى التورية على ما ذكرنا من الرواية- وكذا على ما قال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس ان رجلا وامراة من اهل خيبر زنيا وكان فى كتابهما الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما الى رسول الله ﷺ......
ورجوا ان يكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم فقال له النعمان بن او فى وبحرى بن عمر وجرت عليهما يا محمد ليس عليهما الرجم فقال رسول الله ﷺ بينى وبينكما التورية قالوا قد أنصفتنا قال فمن أعلمكم بالتورية قالوا رجل اعور ليسكن فدك يقال له ابن صوريا فارسلوا اليه فقدم المدينة- وكان جبرئيل قد وصفه لرسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ أنت ابن صوريا قال نعم قال أنت اعلم اليهود قال كذلك يزعمون قال فدعا رسول الله ﷺ بشىء من التورية فيه الرجم مكتوب فقال له اقرأ فلما اتى اية الرجم وضع كفه عليها وقرا ما بعدها فقال ابن سلام يا رسول الله قد جاوزها وقام فرفع كفه عنها ثم قرا على رسول الله ﷺ وعلى اليهود بان المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما وان كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما فى بطنها فامر رسول الله ﷺ باليهوديين فرجما فغضب اليهود لذلك وانصرفوا فانزل الله تعالى هذه الاية لِيَحْكُمَ الكتاب أسند الحكم الى الكتاب لكونه سببا للحكم او ليحكم النبي ﷺ بَيْنَهُمْ على وفق الكتاب ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ عطف على يدعون وفيه استبعاد لتوليتهم مع علمهم بانه الحق من ربهم وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) اى هم قوم عادتهم الاعراض عن الحق والجملة حال من فريق وهى نكرة مخصصة بالصفة وقال قتادة معناه ان اليهود دعوا الى حكم كتاب الله يعنى القران فاعرضوا عنه وروى الضحاك عن ابن عباس فى هذه الاية ان الله تعالى جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله ﷺ فحكم القران على اليهود والنصارى انهم على غير الهدى فاعرضوا عنه.
ذلِكَ التولي عن كتاب الله بعد العلم به والاعراض عن الحق بِأَنَّهُمْ اى بسبب تسهيل امر العقاب على أنفسهم باعتقاد فاسد وهو انهم قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أربعين يوما عدد ايام عبادة ابائهم العجل كما مر فى سورة البقرة وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) اى هذا القول او ان آباءهم الأنبياء يشفعون لهم او ان يعقوب وعده الله تعالى ان لا يعذب أولاده.
فَكَيْفَ خبر لمبتدا محذوف يعنى فكيف حالهم إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ اى جزاء ما عملت من خير او شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)......
الضمير لكل نظرا الى المعنى فان معناه كل انسان لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم- اخرج ابن ابى حاتم عن قتادة قال ذكر لنا ان رسول الله ﷺ سال ربه ان يجعل ملك فارس والروم فى أمته وقال البغوي قال ابن عباس وانس بن مالك رضى الله عنهم انه لما فتح رسول الله ﷺ مكة وعدامته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود هيهات هيهات من اين لمحمد ملك فارس والروم هم اعزوا منع من ذلك الم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع فى ملك فارس والروم فانزل الله تعالى على اختلاف الروايتين.
قُلِ اللَّهُمَّ الى آخره ويمكن الجمع بينهما- وذكر البيضاوي انه روى انه ﷺ لما خط الخندق وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون فظهر فيه صخرة عظيمة لم يعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان الى رسول الله ﷺ يخبره فجاء واحذ المعول منه فضربها ضربة صدعتها وبرق برقا أضاء ما بين لابتيها لكانّ مصباحا فى جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون فقال أضاءت لى منها قصور حيرة كانّها أنياب الكلاب- ثم ضرب الثانية فقال أضاءت لى منها القصور الحمر من ارض الروم- ثم ضرب الثالثة فقال أضاءت لى قصور صنعاء وأخبرني جبرئيل ان أمتي ظاهرة على كلها فابشروا- فقال المنافقون الا تعجبون يمنّيكم ويعدكم الباطل ويخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة من ارض فارس وانها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفرق فنزلت هذه الاية- وقد ذكر البيهقي وابو نعيم فى الدلائل هذه القصة من غير ذكر نزول الاية- بالتحريك الخوف- نهايه منه رح وذكر ابن خزيمة عن قتادة مختصرا وفيه ذكر نزول الاية قوله تعالى قُلِ يا محمد والمقولة بعد ذلك اللَّهُمَّ أصله يا الله حذف حرف النداء وزيدت الميم عوضا عنه ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص هذا الاسم الرفيع كدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه- وقيل أصله يا الله امّنا بخير اى اقصدنا فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته فبقى اللهم وربما خففوا فقالوا لا هم وكل ذلك لكثرة الاستعمال نظيره هلم إلينا كان أصله هل امّ إلينا اى هل قصد إلينا- وإذا قيل اللهم اغفر لى فقوله اغفر لى بيان لامّنا بخير وكذا فى قوله اللهم العن رعلا وذكوان فان لعن الأعداء يصلح بيانا لامّنا بخير مالِكَ الْمُلْكِ صفة للمنادى وقيل نداء بعد نداء حذف منه ايضا......
حرف النداء تقديره يا مالك الملك ولا يجوز جعله صفة للمنادى لان المنادى الاول مكفوف كصوت بلحوق كلمة هو ومثله لا يوصف كذا قال سيبويه ونقض بسيبويه النحوي ودفع بان الصوت هنا لم يبق على معناه بجعله جزءا للكلمة بخلاف ما نحن فيه- والملك مصدر يشتق منه الملك والمراد به المفعول أريد به عالم الإمكان واللام للاستغراق فان الله تعالى خالقه ومالكه يتصرف فيه كيف يشاء ويهب منه ما يشاء لمن يشاء لا يجوز لاحد ان يتصرف فى شىء من الأشياء الا باذنه وتمليكه تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ واللام فى اللفظين للعهد الذهني والمعنى تعطى من الملك ما تشاء من تشاء وتسترد كذلك- عدل من الضمير الى الظاهر وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ فى الدنيا او فى الاخرة او فيهما بالنصر والأدبار والتوفيق والخذلان فى الدنيا والثواب والعذاب فى الاخرة بِيَدِكَ الْخَيْرُ قيل تقديره بيدك الخير والشر فاكتفى بذكر أحدهما كما فى قوله تعالى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ اى الحر والبرد وقيل خص ذكر الخير لسياق الكلام فيه حيث وعد النبي ﷺ أمته ملك فارس والروم وقيل ذكر الخير وحده لانه المقضى بالذات والشر مقضى بالعرض إذ لا يوجد شر جزئى ما لم يتضمن خيرا كليا او لمراعات الأدب فى الخطاب- قلت لعل المراد بالخير الوجود فالوجود الحقيقي الذي لاحظّ له من العدم مختص بالواجب لذاته خير محض ليس فيه شائبة من الشر- والوجود الظلي الذي به تحقق الممكن فى الخارج الظلي مستفاد من الواجب- والعدم الذي هو حصة من الشر فى الممكن ذاتى له غير مستفاد من العلة- ومعنى اسناد الشر الى الله تعالى ان الممكن الذي الشر داخل فى مفهومه وبعض افراده اكثر شرا من البعض وحصة الوجود منه مستند الى الوجود الحق واما حصة الشر منه فذاتى له فما اصدق قوله تعالى بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) ولا يقدر أحد غيرك على شىء أصلا وقدرة العباد انما هى قدرة متوهمة بها يسمى العبد كاسبا والله خلقهم وما يعملون- قال البيضاوي نبه بهذه الجملة على ان الشر ايضا بيده- قلنا نعم لكن معنى كونه تعالى قادرا على الشر وكون الشر بيده انه تعالى قادر على عدم افاضة الخير فان القدرة معناه ان شاء فعل وان شاء لم يفعل وإذا
لم يفعل الخير بقي الممكن على الشر الأصلي-.
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يعنى تدخل أحدهما فى الاخر......
30
بالتعقيب او الزيادة فى أحدهما بالنقصان فى الاخر وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قرا نافع وابو جعفر ويعقوب وخلف- ابو محمد عفا عنه وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم الميّت بتشديد الياء هاهنا وفى الانعام ويونس والروم وفى الأعراف لبلد ميّت وفى الفاطر الى بلد ميت- وزاد نافع او من كان ميّتا فاحييناه- ولحم أخيه ميّتا- والأرض الميّتة أحييناها- والباقون يخففون الجميع ويعقوب الحىّ من الميت ولحم أخيه ميتا- قيل معناه يخرج الحيوان من النطفة والبيضة ويخرج النطفة والبيضة من الحيوان والنبات الطري من الحب اليابس والحب اليابس من النبات كذا قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وعكرمة والكلبي والزجاج وقال الحسن وعطاء يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر قال الله تعالى أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ الاية كذا أخرجه ابن ابى حاتم عن عمر بن الخطاب وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) اى من غير تضييق وتقتير بحيث لا يعرف الخلق عدده ومقداره وان كان معلوما عند الله عقب الله سبحانه هذه الجمل الخمس ليستدل بها على قدرة الله على إيتاء الملك من يشاء ونزعه ممن يشاء روى البغوي بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن على عليهم السلام قال قال رسول الله ﷺ ان فاتحة الكتاب واية الكرسي وايتين من ال عمران شهد الله الى قوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وقُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ الى قوله بِغَيْرِ حِسابٍ مشفعات ما بينهن وبين الله عز وجل حجاب قلن يا رب تهبطنا الى أرضك والى من يعصيك قال الله عز وجل بي حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادى دبر كل صلوة الا جعلت الجنة مأواه على ما كان فيه والا أسكنته فى حظيرة القدس والا نظرت اليه يعنى كل يوم سبعين مرة وأقضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة والا أعذته من كل عدو وحاسد ونصرته عليه واخرج الطبراني عن معاذ ان النبي ﷺ قال له الا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك الدين مثل ثبير اداه الله عنك قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ الى قوله بِغَيْرِ حِسابٍ رحمن الدنيا والاخرة ورحيمهما نعطى من تشاء منهما وتمنع من تشاء ارحمني رحمة تغننى بها عن رحمة من سواك- والله اعلم- اخرج ابن جرير من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال كان الحجاج بن عمرو حليفا لعمرو بن الأشرف وابن ابى الحقيق وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم......
31
فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لاولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنونكم عن دينكم فابى أولئك النفر الا مباطنهم فانزل الله تعالى.
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ نهوا عن موالاتهم بقرابة او صداقة ونحو ذلك او عن الاستعانة بهم فى الغزو وسائر الأمور الدينية مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فيه اشارة الى ان ولايتهم لا يجتمع ولاية المؤمنين لاجل منافاة بين ولاية المتعادين ففى ولاية الكفار قبح بالذات وقبح بالعرض بالحرمان عن ولاية المؤمنين- وذكر البغوي قول مقاتل انها نزلت فى حاطب بن ابى بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة وذكر قول الكلبي عن ابى صالح انها نزلت فى المنافقين عبد الله بن ابى وأصحابه كانوا يتولون المشركين واليهود ويأتونهم بالأخبار يرجون ان يكون لهم الظفر على رسول الله ﷺ فانزل الله تعالى هذه الاية ونهى المؤمنين عن فعل مثل فعلهم- (فصل) الحب فى الله والبغض فى الله باب عظيم من أبواب الايمان عن ابن مسعود قال قال رسول الله ﷺ المرء مع من أحب متفق عليه وعن انس مرفوعا نحوه بلفظ أنت مع من أحببت متفق عليه وعن ابى موسى قال قال رسول الله ﷺ مثل الجليس الصالح والسوء «١» كحامل المسك ونافح الكير»
فحامل المسك اما ان يحذيك اى يعطيك- نهايه منه واما ان تبتاع منه واما ان تجد منه ريحا طيبة ونافح الكير اما ان يحرق ثيابك واما ان تجد منه ريحا خبيثة متفق عليه وعن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ لابى ذر يا أبا ذر اىّ عرى الايمان أوثق قال الله ورسوله اعلم قال الموالاة فى الله والحب فى الله والبغض فى الله رواه البيهقي فى الشعب وعن ابى ذر قال قال النبي ﷺ ان أحب الأعمال الى الله تعالى الحب فى الله والبغض فى الله رواه احمد وابو داود وفى الباب أحاديث كثيرة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اى اتخاذهم اولياء فَلَيْسَ الضمير المرفوع عائد الى من يفعل مِنَ اللَّهِ حال من شىء قدم عليه لتنكيره فِي شَيْءٍ خبر ليس والتنكير للتحقير يعنى ليس هو كائنا فى شىء حقير من ولاية الله او من دين الله يعنى كما ان ولاية الكفار لا يجتمع ولاية المؤمنين كذلك لا يجتمع ولاية الله ايضا- ولو قال
(١)
مثنوى- دور شو از اختلاط يار بد يار بد بدتر بود از مار بد
مار بد تنها همين بر جان زند يار بد بر جان وبر ايمان زند
- منه رح
(٢) ضارب كير الحداد الذي يجعل من الطين- منه رح [.....]
من دون الله والمؤمنين لافاد ذلك الفائدة مع الاختصار لكن المقصود كمال المبالغة فى البعد عن ولاية الله إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا استثناء مفرغ منصوب على الظرفية وهو من حيث المعنى متعلق بكلا الجملتين السابقتين ومن حيث اللفظ بإحداهما مقدرا للاخرى كما هو داب التنازع يعنى لا يجوز موالاة الكفار فى شىء من الأوقات الا وقت ان تتقوا منهم ومن يفعل ذلك ليس هو من اولياء الله فى شىء من الأوقات الا وقت الاتقاء- والاتقاء افتعال من الوقاية يعنى وقاية نفسه من شرهم ويلزمه الخوف ولاجل ذلك قيل معناه الا ان تخافوا مِنْهُمْ تُقاةً كذا قرا الجمهور وقرا مجاهد ويعقوب تقيّة على وزن فعيلة وعلى التقديرين مصدر من غير باب الفعل يقال توقيته تقاة وتقى وتقية وتقوى وإذا قلت اتقيت كان مصدره اتقاء ثم المصدر جاز ان يكون بمعناه ويكون منصوبا على المصدرية والمعنى لا يجوز موالاة الكفار فى شىء من الأوقات الا وقت ان تتقوا أنفسكم منهم اى من شرهم تقاة وجاز ان يكون بمعنى المفعول فالمعنى الا وقت ان تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه ومقتضى الاستثناء اباحة موالاتهم وقت الخوف من شرهم- ولا شك ان الضروري يتقدر بقدر الضرورة فلا يجوز حينئذ الا اظهار الموالاة دون ابطانها ولا يجوز حينئذ ان يستحل دما حراما او مالا حراما او ارتكاب معصية او يظهر الكفار على عورات المسلمين او يطلعهم على اسرار المؤمنين- وأنكر قوم التقية بعد ظهور الإسلام قال معاذ بن جبل كانت التقية فى جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة الإسلام فاما اليوم فليس ينبغى لاهل الإسلام ان يتقوا من عدوهم- ثم بالغ سبحانه فى المنع عن ولاية الكفار وزاد على نفى ولاية المؤمنين ونفى ولاية الله عمن تولى بالكفار بالوعيد فقال وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ اى يخوفكم سخطه وعقابه فى موالاة الكفار وذكر النفس ليعلم ان المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى فلا يبالى بما يخاف أحدكم من الكفار فهذا وعيد شديد مشعر بتناهي المنهي فى القبح وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) اى مصيركم اليه تعالى لا تقوتونه وهذا وعيد اخر.
قُلْ يا محمد إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ اى قلوبكم من مودة الكفار وغيرها أَوْ تُبْدُوهُ قولا او فعلا يَعْلَمْهُ اللَّهُ لا يخفى عليه شىء والغرض من الكلام تسوية المبدى والمخفي بالنسبة الى علم الله تعالى والا فالعلم بالمخفي يقتصى العلم بالمبدى بالطريق الاولى فلا حاجة الى ذكره او تبدوه وَيَعْلَمُ ما فِي......
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(٣٩) جملة يعلم استيناف غير معطوف على جزاء الشرط وهو فى مقام التعليل لما سبق يعنى إذا لم يخف عليه شىء فكيف تخفى عليه ضمائركم واقتصر فى الذكر على علم ما فى السموات وما فى الأرض لانحصار نظر العوام عليهما والمقصود احاطة علمه تعالى بكل موجود فان وجود كل شىء مستفاد منه فكيف يخفى عليه شىء وفى ذكر احاطة علمه تعالى بكل شىء وقدرته على كل شىء بيان لقوله تعالى ويحذركم الله نفسه لانه متصف بالعلم الشامل والقدرة الكاملة فلا يجوز التجاسر على عصيانه عند العقل- وجاز ان يكون المراد انه تعالى لا يخفى عليه شىء يمكن به تعذيبكم فى الدنيا والاخرة وهو على كل شىء قدير فيعذبكم باىّ شىء يريد فى الدنيا او فى الاخرة او فيهما ولا شك ان موالاة الكفار والمداهنة فى الدين يستلزم التعذيب فى الدنيا ايضا بضرب المذلة وسلب السلطنة والله اعلم-.
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً الظرف اعنى يوم متعلق بتود وما موصولة ليست بشرطية لاجماع القراء على رفع تود ولو كانت شرطية لذهب بعضهم الى جزمه بناء على جواز الرفع والجزم إذا كان الشرط ماضيا مع ان المروي عن المبرّد ان الرفع شاذ يعنى إذا كان الشرط ماضيا والجزاء مضارعا والموصول مع صلته مفعول لتجدو هى بمعنى تصيب فلا يقتضى الا مفعولا واحدا ومحضرا حال منه وما عملت من سوء معطوف على ما عملت من خير- ولعل المراد حينئذ بكل نفس هاهنا نفس مؤمنة خلطت عملا صالحا واخر سيّئا- واما من ليس له الا عمل صالح او الا عمل سىء فيظهر حاله بالمقايسة والمفهوم- فالله سبحانه برأفته بحضر للمؤمن عمله الصالح على رءوس الخلائق دون عمله السوء بل تجده فى نفسه وتود ان لا يظهره الله او يظهره الله على الإخفاء والتستر كما فى الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ ان الله يدنى المؤمن فيضع عليه كتفه ويستر فيقول أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا فيقول نعم اى رب حتى قدره بذنوبه وراى فى نفسه انه قد أهلك قال سترتها عليك فى الدنيا وانا اغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته واما الكافر والمنافق فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ- وان كان تجد بمعنى تعلم فحينئذ محضرا يكون مفعولا ثانيا له محمولا على ما عملت من خير......
34
وفيما عطف عليه يقدر مثله كما فى قوله علمت زيدا فاضلا وعمروا يعنى تجد الخير والشر محضرين وكلمة لو مقحمة وان مع اسمها وخبرها مفعول لتودا وهى بمعنى ليت حكاية لودادهم وان مع اسمها وخبرها بمنزلة الاسم مع الخبر لليت وحذف مفعول تود لما يدل عليه ما بعده- وجاز ان يكون لو مصدرية وبعدها فعل مقدر فاعلها ان مع اسمها وخبرها وذلك الفعل بتأويل المصدر مفعول لتود وضمير بينه راجع الى اليوم او الى ما عملت من سوء تقدير الكلام حين تصيب كل نفس عملها الخير اى صحيفة عملها او جزاءه حال كونه محضرا وتصيب عملها الشر او تعلم جزاء خيرها وشرها محضرين عندها تود اى تتمنى مسافة بعيدة بينها وبين ذلك اليوم وهو له لما يرى من عملها السوء وان كان ذلك مع ما يرى من صالح عمله فان طمع النفع لا يصير مطمح نظره عند خوف الضرر او بينها وبين عملها السوء او يتمنى ثبوت مسافة بينها وبينه- والأمد الاجل والغاية التي ينتهى إليها- قال الحسن يسر أحدهم ان لا يلقى عمله السوء ابدا وقيل يود انه لم يعمله وجاز ان يكون يوم متعلقا بقدير ووجه تخصيص القدرة باليوم مع شموله لجميع الازمنة وقوع الثواب او العذاب فى ذلك اليوم والمعنى والله بكل شىء من ثوابكم وعذابكم قدير يوم تجد- وجاز ان يكون يوم منصوبا بمضمر فيقدر اذكر- والاولى ان يقدر يحذركم الله يوم تجد فلا يكون فى عطف ويحذركم خفاء وعلى هذه الوجوه تود حال مقدرة من الضمير فى عملت من سوء يعنى تجد ما عملت من سوء مقدرا حين ما عملت ذلك الوداد يوم القيامة- وجاز ان يكون تود خبرا لما عملت من سوء ويكون الواو فى وما عملت من سوء للاستيناف وتمت الجملة الاولى على ما عملت من خير وجاز ان يكون الواو للعطف وتود بمنزلة المفعول الثاني لتجد محمولا على ما عملت من سوء اى تجد ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء هائلا بحيث تودّ انّ بينها وبينه أمدا بعيدا- عن عدى بن حاتم قال قال رسول الله ﷺ ما منكم من أحد الا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه فينظر ايمن منه فلا يرى الا ما قدم من عمله وينظر أشأم منه فلا يرى الا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى الا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ جملة مستانفة للتحذير عن ترك الواجبات وإتيان السيئات كما ان ما سبق كان للتحذير عن موالاة الكفار فلا تكرار-
وجاز ان يكون معطوفة على تود اى يهاب من هذه اليوم او من عمله السوء......
35
وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ بإظهار قهاريته يوم تجد- ولو كان الظرف متعلقا با ذكر جاز ان يكون هذه الجملة معطوفة على تجد اى اذكر يَوْمَ تَجِدُ ويوم يحذّركم الله بإظهار قهاريته وهذه الجملة لبيان المعاملة مع الكفار وقوله تعالى وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠) اى بعباده المؤمنين لبيان المعاملة مع المسلمين وجاز على التأويل الاول ان يكون هذه الجملة فى مقام التعليل للجملة الاولى يعنى انما يحذّركم الله نفسه لانه رؤف بالعباد يريد إصلاحهم- اخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن مرسلا قال قال أقوام على عهد نبيّنا ﷺ والله يا محمد انا لنحب ربنا فانزل الله تعالى.
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الاية- وروى ابن إسحاق وابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير انها نزلت فى وفد نجران لمّا قالوا انما نعبد المسيح حبّا لله وقال البغوي نزلت فى اليهود والنصارى حيث قالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وقال الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما وقف النبي ﷺ على قريش وهم فى المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا فى آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال والله يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم ابراهيم وإسماعيل فقال قريش انما نعبدها حبّا لله لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى فقال الله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الحب بضم الحاء وكسره وكذا الحباب بهما والمحبة مصادر من أحبه يحبه فهو محبوب على غير قياس ومحبّ قليل وحببته أحبه حبا من ضرب يضرب شاذ- وهو عبارة عن اشتغال قلب المحب بالمحبوب وأنسه به بحيث يمنعه عن الالتفات الى غيره ولا يكون له بد من دوام التوجه اليه والاشتغال به وهذا هو المعنى من قولهم العشق نار فى القلوب تحرق ما سوى المحبوب- يعنى يقطع عن قلبه التوجه الى غير المحبوب فيجعله نسيا منسيا كان لم يكن فى الوجود غير محبوبه حتى يسقط عن نظر بصيرته نفسه فلا يرى نفسه كما لا يرى غيره ومقتضى تلك الصفة ابتغاء مرضات المحبوب وكراهة ما يكرهه طبعا وبالذات بلا ملاحظة طمع فى ثوابه او خوف من عقابه وان اجتمع مع ذلك طمع وخوف ايضا- هذا تعريف المحبة من العبد واما محبة الله تعالى لعبده فالله سبحانه منزه عن القلب واشتغاله ولا يمنعه شأن عن شأن فهى فى حقه تعالى عبارة عن الانس الساذج المقتضى لجذب العبد الى جنابه وعدم إهماله وتركه الى غيره-......
وجذب الله العبد الى جنابه سبب للمحبة من العبد لله تعالى فمحبة العبد لله تعالى فرع لمحبة الله تعالى إياه وظل لها قال الله تعالى وألقيت عليك محبّة منّى وقال يحبّهم ويحبّونه قدم يحبهم على يحبونه هذا ما ذكرت هو المحبة الذاتية وما ذكر البيضاوي ان المحبة ميل النفس الى الشيء لكمال أدرك فيه بحيث يحمله على ما يقربه اليه فهو بيان للمحبة الصفاتية وهى بمراحل عن المحبة الذاتية الا ترى ان الام يحب ولدها بلا ملاحظة كمال فيه فذلك قريب من المحبة الذاتية وليست منها لان محبة الام تتفرع على علم انتساب الولد إليها واما محبة الله تعالى فهى اعزوا على من ذلك فقد ورد فى الصحيحين وغيرهما عن ابى هريرة وابن عباس وغيرهما مرفوعا بألفاظ مختلفة ان لله تبارك وتعالى مائة رحمة منها رحمة واحدة قسّمها بين الخلائق يتراحمون بها وادخر لاوليائه تسعة وتسعين- واما ما ذكر البغوي ان حب المؤمنين لله تعالى اتباعهم امره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته وحب الله المؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فليس هذا تعريفا للمحبة بل بيان لمقتضاه وما يدل عليه فَاتَّبِعُونِي الفاء للسببية وذلك لان المحبة سبب لابتغاء مرضات الله تعالى- والمرضى من غير المرضى لا يدرك بالرأى بل بتعليم الله تعالى بتوسط الرسل فثبت ان المحبة سبب لاتباع الرسل والاتباع دليل على وجودها وعدمه دليل على عدمها فمن ادعى المحبة مع مخالفة سنة الرسول ﷺ فهو كذاب يكذبه كتاب الله تعالى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ جواب للامر تقديره ان تتبعونى يحببكم الله- فان قيل مقتضى هذه الاية ان محبة الله تعالى العبد يتفرع على اتباع الرسول المتفرع على محبة من العبد لله تعالى المسبوق بمحبة من الله للعبد فيلزم الدور- قلنا هذه محبة اخرى من الله تعالى سوى المحبة السابقة فمحبة العبد لله تعالى محفوف بمحبتين من الله سبحانه سابق ولاحق فالمحبة السابقة ما ذكرناه سابقا والمحبة اللاحقة هى التي تقتضى الرحمة والتفضل الكامل الذي ورد فى الحديث ان جزءا واحدا منها اى من الرحمة قسمها الله بين الخلائق وادخر لاوليائه تسعة وتسعين- ولاقتضاء تلك المحبة اللاحقة من الله تعالى المغفرة والرحمة عطف عليه قوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قال البغوي لما نزلت هذه الاية قال عبد الله بن ابى لاصحابه ان محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا ان نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم فنزل.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ......
وَالرَّسُولَ
يعنى ان إطاعة الله والرسول واحد فان إطاعة الرسول من حيث هو رسول الله انما هى إطاعة الله تعالى لا غير ومن ثم قال رسول الله ﷺ كل أمتي يدخلون الجنة الا من ابى قالوا ومن يأبى يا رسول الله قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصانى فقد ابى متفق عليه من حديث ابى هريرة حيث جعل دخول الجنة فرع اطاعته- وقال عليه السلام من أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ومحمد فرق بين الناس رواه البخاري فى حديث طويل عن جابر فَإِنْ تَوَلَّوْا يحتمل ان يكون ماضيا وان يكون مضارعا بحذف أحد التاءين أصله فان تتولوا اى تعرضوا عن إطاعة الله والرسول ﷺ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢) وضع المظهر موضع الضمير ولم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على ان التولي كفر والكفر ينفى المحبة وان المحبة مخصوصة بالمؤمنين وجاز ان يكون جزاء الشرط محذوفا وقوله تعالى فانّ الله لا يحبّ الكفرين مسبب له دليل عليه أقيم مقامه تقديره فان تولّوا فانّ الله لا يحبهم لانه لا يحبّ الكفرين والجملة الشرطية تدل على ان التولي عن الاطاعة دليل على عدم محبة الله تعالى إياه- ومحبة العبد محفوف بالمحبتين من الله سابق ولا حق والله اعلم.
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى افتعال من الصفوة وهى الخالص من كل شىء يعنى اختار لنفسه ولمحبته ورسالته آدَمَ أبا البشر عليه السلام حتى اسجد له ملائكته واسكنه فى جنته واخرج من ذريته الأنبياء كلهم وهو أول النبيين المصطفين وَنُوحاً حين اختلف الناس وصاروا كفارا بعد ما كانوا على شريعة الحق ودين آدم عليه السلام فاختاره الله تعالى على من سواه وأهلك الكفار كلهم بدعائه وجعل ذريته هم الباقين وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ قيل أراد بال ابراهيم وال عمران أنفسهما كما فى قوله تعالى وبقيّة ممّا ترك ال موسى وال هرون يعنى موسى وهارون- وقال آخرون أراد بال ابراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وسائر أنبياء بنى إسرائيل ومحمدا صلى الله عليه وسلم- واما عمران فقال مقاتل هو عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوى بن يعقوب والد موسى وهارون وقيل عمران بن ماثان من أولاد سليمان بن داود عليهما السلام والد مريم أم عيسى وقال الحسن ووهب كذلك لكنهما قالا ابو مريم عمران بن أشهم بن امون من أولاد سليمان بن داود وبين عمرانين الف وثمانون سنة وقيل الف وثمان مائة......
سنة والظاهر ان المراد بال عمران هاهنا عمران ابو مريم لدلالة سياق الكلام عليه فان قوله تعالى إذ قالت امراة عمرن واقع فى مقام البيان لما سبق من الاصطفاء- وانما خص هؤلاء بالذكر لان الأنبياء والرسل كانوا كلهم او أكثرهم من نسلهم عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ان كان ما ذكر شاملا لنبينا ﷺ وابراهيم عليه السلام كما هو شامل لموسى وعيسى فاصطفاؤهم على العالمين أجمعين ظاهر وبه يستدل على افضلية خواص البشر على خواص الملائكة والا فالمراد بالعالمين عالمى زمانهم- قال البغوي قال ابن عباس رضى الله عنهما قالت اليهود نحن أبناء ابراهيم وإسحاق ويعقوب ونحن على دينهم فانزل الله تعالى هذه الاية يعنى ان الله اصطفى هؤلاء بالإسلام وأنتم على غير دين الإسلام وقال البيضاوي لما أوجب طاعة الرسل وبين انها الجالبة لمحبة الله عقب ذلك بيان مناقبهم تحريضا عليها وقال بعض الأفاضل لما أمرهم بمتابعة النبي ﷺ وجعل متابعته سببا لمحبة الله وعدم اطاعته سببا لسخطه وسلب محبته أكد ذلك بتعقيبه بما هو عادة الله تعالى من اصطفاء أنبيائه على مخالفيهم ورفعهم وتذليل أعدائهم واعدامهم تخويفا للمتمردين عن متابعته- فذكر اصطفاء آدم على من عداه حتى جعله مسجودا للملائكة ولعن عدوه إبليس واصطفاء نوح على أعدائه كفار اهل الأرض أجمعين حتى اهلكهم بالطوفان وجعل ذرّيّته هم الباقين واصطفاء ال ابراهيم على العالمين مع ان العالم كانوا كلهم كافرين فى زمن ابراهيم حتى جعل دينهم شائعا وذلل مخالفيهم واصطفاء موسى وهارون حتى القى السحرة ساجدين وأغرق فرعون وجنوده فلم يبق منهم أحد مع كثرتهم قلت وجعل متابعى عيسى عليه السلام بعد رفعه الى السماء مع كونهم مغلوبين بالكلية غالبين الى يوم القيامة حيث قال وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ولذا خص آدم ونوحا والآلين ولم يذكر ابراهيم ونبينا سيد المرسلين إذ ابراهيم لم يغلب على العالم بالكلية وهذا الكلام لبيان ان نبينا ﷺ سيغلب والله اعلم.
ذُرِّيَّةً فعّيلة من الذر وهى صغار النمل والياء للنسبة ووجه ذلك انهم استخرجوا من صلب آدم كالذر او فعولة من الذرء بمعنى الخلق أبدلت همزتها ياء ثم قلبت الواو ياء وكسرت ما قبلها وأدغمت فى الياء......
ويسمى الأولاد والآباء ذرية فالاولاد ذرية لانه ذراهم والآباء ذرية لانه ذرا الأبناء منهم قال الله تعالى واية لهم انّا حملنا «١» ذرّيّتهم فى الفلك المشحون اى آباءهم- ويقع على الواحد والجمع منصوب على الحالية او البدلية من الآلين او منهما ومن نوح بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ مبتدا وخبر فى موضع النصب صفة لذرية يعنى اصطفى نوحا والآلين حال كونهما خلقة مستخرجة كالذر بعضها كائنة من نسل بعض او بعضها من شيعة بعض فى التناصر واتحاد الدين كما فى قوله وانّ من شيعته لابرهيم ولو اعتبر فى الذرية معنى الاشتقاق وقد اعتمد على ذى الحال فلا يبعد ان يقال ان بعضها فاعل له ومن بعض متعلق به يعنى خلقة مخلوقة او مستخرجة بعضها من بعض- وجاز ان يكون معنى بعضها من بعض ان عادة الله تعالى اصطفاء واحد «٢» من قوم فلا ينبغى ان يستبعد قريش اصطفاء النبي ﷺ حال كونه واحدا منهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع اقوال الناس باستبعاد اصطفاء بعضهم من بعض عَلِيمٌ (٣٤) يعلم من يصلح للاصطفاء- او سميع بقول امراة عمران عليم بنيتها-.
إِذْ قالَتِ إذ متعلق بعليم او منصوب بإضمار اذكر امْرَأَتُ عِمْرانَ ابن ماثان او ابن أشهم وكان بنو ماثان رءوس بنى إسرائيل وأحبارهم وملوكهم واسم امرأة عمران حنّة بنت قاقودا وهى كانت عقيمة وقد أسنت فبينا هى فى ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا فتحركت لذلك نفسها للولد وكانت من اهل بيت كانوا من الله بمكان فدعت الله ان يهب لها ولدا فحملت بمريم كذا اخرج ابن جرير عن ابن إسحاق وعن عكرمة نحوه رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً منصوب على الحالية اى معتقا لخدمة بيت المقدس لا اشغله بشىء من الدنيا خالصا مفرغا لعبادة الله تعالى- وكان هذا النذر مشروعا فى دينهم فى الغلمان أخرجه ابن جرير عن قتادة والربيع كان إذا حرّر غلام جعل فى الكنيسة يكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم ثم يخير ان أحب اقام فيه وان أحب ذهب حيث شاء- ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء الا ومن نسله محرّر لبيت المقدس ولم يكن يحرر الا الغلمان فلعل حنة بنت الأمر على التقدير او طلبت ذكرا فَتَقَبَّلْ مِنِّي فتح الياء نافع وابو جعفر- ابو محمد وابو عمرو وأسكنها الباقون يعنى تقبل منى ما نذرته إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لقولى الْعَلِيمُ (٣٥) بنيتي فقال لها زوجها ويحك ما صنعت ارايت
(١) فى الأصل جعلنا لعله من سباق قلم او من الناسخ
(٢) فى الأصل واحدا- ابو محمد عفا الله عنه
ان كان ما فى بطنك أنثى لا يصلح لذلك فوقعا من ذلك فى هم فهلك عمران وحنة حامل بمريم.
فَلَمَّا وَضَعَتْها الضمير لما فى بطنها وتأنيثه لانه كان فى الواقع أنثى او على تأويل النفس او الحبلة قالَتْ تحسرا وقد كانت ترجوا غلاما رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى او قالت اعتذارا الى الله فى جعلها محررة لخدمة البيت وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قرا ابن عامر وابو بكر ويعقوب بإسكان العين وضم التاء على التكلم على انه من كلام امراة عمران تسلية منها لنفسها اى لعل لله تعالى فيه سرا والأنثى كان خيرا والباقون بفتح العين واسكان التاء على الغيبة فهو استيناف من الله تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بشأنها وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى جاز ان يكون هذه الجملة من قولها اعتذارا الى الله فى جعلها محررة لخدمة البيت يعنى ليس الذكر فى خدمة الكنيسة لقوته وصلاحيته كالانثى لعورتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس فاللام فى الكلمتين للجنس- وجاز ان يكون من كلام الله تعالى اى ليس الذكر الذي طلبت كالانثى التي وهبت بل هى أفضل من الذكر واللام فيهما للعهد وهذا التأويل اولى من الاولى إذ لو كان على وجه الاعتذار لقالت وليست الأنثى كالذكر وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ عطف على ما قبلها من مقالتها وما بينهما اعتراض- ومعناه العابدة فى لغتهم قالت ذلك لان يجعلها الله تعالى كاسمها عابدة وفى تقديم المسند اليه اشارة الى تخصيصها بالتسمية يعنى ليس لها اب فهى يتيمة وفيه استعطاف وَإِنِّي فتح الياء نافع وأسكنها الباقون أُعِيذُها أجيرها بِكَ وَذُرِّيَّتَها أولادها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٧) المطرود اصل الرجم الرمي بالحجارة عن ابى هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ما من مولود يولد الا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسه الا مريم وابنها متفق عليه يعنى ببركة هذه الاستعاذة- وعنه قال قال النبي ﷺ كل بنى آدم يطعن الشيطان فى جنبيه بإصبعيه غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فظعن فى الحجاب- قلت وقد صح ان رسول الله ﷺ قال لفاطمة حين زوجها عليا اللهم انّى أعيذها بك وذرّيّتها من الشّيطين الرجيم وكذا قال لعلى حينئذه رواه ابن حبان من حديث انس ودعاء النبي ﷺ اولى بالقبول من دعاء......
امراة عمران فارجو عصمتها وأولادها من الشيطان وعدم مسه إياهم- وحصر عدم المس فى مريم وابنها الثابت بالحديث على هذا يكون حصرا إضافيا بالنسبة الى الأعم الأغلب-.
فَتَقَبَّلَها بمعنى قبلها يعنى مريم من حنة مكان الذكر او المعنى استقبلها اى أخذها فى أول أمرها حين ولدت كتعجل بمعنى استعجل رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ القبول هاهنا ليس بالمعنى المصدري والا يقال قبولا حسنا بل هو اسم لما يقبل به الشيء كالسعوة واللدود اى بوجه حسن يقبل به النذائر والقبول الحسن هو قبول المرادين اهل الاجتباء دون قبول المريدين اهل الهداية فان الله تعالى اصطفاها لنفسه وفضلها على نساء العالمين وطهرها من الذنوب ومن الحيض من غير سابقة عمل منها واجتهادها- وان كان القبول بالمعنى المصدري فتقديره بامر ذى قبول حسن وذلك الأمر هو الاختصاص وكون مبدا تعينها من مبادى نعينات اهل الاصطفاء وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً مصدر من غير باب الفعل والمعنى أنبتها فنبتت نباتا حسنا فكانت تنبت فى اليوم كما ينبت المولود فى العام- اخرج ابن جرير عن عكرمة وقتادة والسدى ان حنة لما ولدت مريم لفتها فى خرقة وحملتها الى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم يومئذ يلون بيت المقدس ما تلى الحجبة من الكعبة فقالت دونكم هى النذيرة فتنافس فيها الأحبار لما كانت بنت امامهم وصاحب قربانهم فقال لهم زكريا انا أحقكم بها عندى خالتها وهى أشياع بنت قاقودا أم يحيى عليه السلام فابوا الا القرعة فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين رجلا الى نهر جار قال السدى هو نهر الأردن فالقوا أقلامهم فى الماء على ان من ثبت قلمه فى الماء وصعد فهو اولى بها قيل كانوا يكتبون التورية فالقوا أقلامهم التي كانت بايديهم فارتز قلم زكريا فارتفع فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت فى النهر قاله محمد بن إسحاق وقال السدى وجماعة بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كانه فى طين وجرت أقلامهم- وقيل جرى قلم زكريا مصعدا الى أعلى الماء وجرى أقلامهم مع جرى الماء فذهب بها الماء- فسهمهم وقرعهم زكريا وكان رأس الأحبار ونبيهم وَكَفَّلَها قرا حمزة وخلف- ابو محمد والكسائي وعاصم بتشديد الفاء من باب التفعيل والفاعل هو الله تعالى لتقرره فى الأذهان او الضمير المرفوع......
42
مستتر فيها راجع الى ربها والباقون بالتخفيف والفاعل زكريّاء بالمد عند الجمهور مرفوع لفظا وقرا حمزة وخلف- ابو محمد والكسائي وحفص عن عاصم بالقصر منصوب المحل بالمفعولية وابو بكر عن عاصم بالمد منصوبا لفظا والمعنى على قراة الجمهور قام بامرها زكريا وعلى قراءة الكوفيين ضمها الله بالقرعة زكريا بن اذن بن مسلم بن صدون من أولاد سليمان بن داود عليهم السلام فبنى زكريا لها بيتا واسترضع لها- وقال محمد بن إسحاق ضمها الى خالتها أم يحيى حتى إذا شبّت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا فى المسجد وجعل بابه فى وسطها لا يرقى إليها الا بالسلّم مثل باب الكعبة ولا يصعد إليها غيره وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا بالمد والقصر كما مر فى سائر القران لم يعطف هذه الجملة لكونها مقررة لما قبلها اعنى تقبلها بقبول حسن او لعدم الجامع باعتبار المسند او المسند اليه- وكلما ظرف زمان فيه معنى الشرط منصوب بما وقع جوابه اعنى وجد الْمِحْرابَ اى الغرفة التي بنى لها والمحراب اشرف المجالس ومقدمها- ويقال ايضا للمسجد المحراب لانه محل محاربة مع الشيطان- قال المبرد لا يكون المحراب الا ان يرتقى اليه بدرج اخرج ابن جرير عن الربيع بن انس قال كان إذ اخرج اغلق عليها سبعة أبواب فاذا دخل عليها غرفتها وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً اى فاكهة فى غير حينها فاكهة الصيف فى الشتاء وفاكهة الشتاء فى الصيف قالَ زكريا استبعادا يا مَرْيَمُ أَنَّى اى من اين وقيل من اىّ جهة لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اخرج ابن جرير عن ابن عباس ان رزقها كان ينزل من الجنة- وقال الحسن حين ولدت مريم لم تلقم ثديا قط وكان يأتيها رزقها من الجنة وقد تكلمت وهى صغيرة كعيسى إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) بغير تقدير لكثرته او بغير استحقاق تفضلا منه يحتمل ان يكون من كلامها او من كلام الله تعالى- وهذه القصة دليل على كرامة الأولياء- وجعل ذلك معجزة لزكريا يدفعه اشتباه الأمر عليه حيث قال انى لك هذا اخرج ابو يعلى فى مسنده من حديث جابر ان فاطمة رضى الله عنها أهدت لرسول الله صلى الله
عليه وسلم رغيفين وبضعة لحم فرجع بهما إليها وقال هلمى يا بنية فكشفت عن الطبق فاذا هو مملو بالخبز واللحم فقال أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فقال الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بنى إسرائيل ثم جمع عليا......
43
والحسن والحسين وجميع اهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فاوسعت على جيرانها-.
هُنالِكَ اى فى ذلك المكان او ذلك الوقت حين راى زكريا كرامة مريم وسعة رحمة الله وراى ان اهل بيته قد انقرضوا وليس له ولد يرثه العلم والنبوة وخاف مواليه اى بنى أعمامه ان يضيعوا الدين بعده دخل المحراب وغلق الأبواب ودَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ يا رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ اى من عندك وعلى خرق عادة جرت منك (حيث كانت امرأته عاقرا وهو كان شيخا كبيرا) كما تهب الرزق لمريم على خرق العادة ذُرِّيَّةً اى ولدا يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى طَيِّبَةً انّثها نظرا الى لفظ الذرية يعنى صالحا معصوما طاهرا من الذنوب إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) اى مجيبه.
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قرا حمزة وخلف- والكسائي فناديه بالألف والامالة على التذكير لان الفاعل اسم ظاهر مؤنث غير حقيقى والباقون بالتاء لتانيث لفظ الملائكة وكونها جمعا مكسرا- عن ابراهيم قال كان عبد الله يذكّر الملائكة فى القران- قال ابو عبيد اختار ذلك خلافا للمشركين فى قولهم الملائكة بنات الله وكان المنادى جبرئيل وحده أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود فوجه إيراد صيغة الجمع اى الملائكة قال المفضل بن سلمة إذا كان القائل رئيسا يجوز الاخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه وكان جبرئيل رئيس الملائكة وقلما يبعث الا ومعه جمع فجرى على ذلك وقيل معنى نادته الملائكة اى من جنسهم كقولك زيد يركب الخيل وَهُوَ اى زكريا قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ اى فى المسجد وذلك ان زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان ويفتح باب المذبح فلا يدخل أحد حتى يأذن لهم فى الدخول- فبينا هو قائم يصلى فى المسجد عند المذبح والناس ينتظرون ان يأذن لهم فى الدخول إذا هو برجل شابّ عليه ثياب بيض ففزع منه وهو جبرئيل فناداه يا زكريا أَنَّ اللَّهَ قرا حمزة وابن عامر انّ بكسر الهمزة على إضمار القول تقديره فنادته الملئكة فقالت انّ الله والباقون بالفتح اى نادته بان الله يُبَشِّرُكَ قرا حمزة يبشرك بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين وكذا بابه بالتخفيف حيث وقع فى كل القران من بشر يبشر وهى لغة تهامة الا قوله فبم تبشّرون فانهم اتفقوا على تشديدها ووافقه الكسائي هاهنا فى موضعين وفى سبحان والكهف وعسق ووافقهما ابن كثير وابو عمرو فى عسق والباقون بضم الياء وفتح الباء وتشديد الشين من التفعيل......
44
بِيَحْيى سمى به لان الله تعالى أحيا به عقرامه كذا قال ابن عباس وقال قتادة لان الله تعالى أحيا قلبه بالايمان والطاعة حتى لم يعص ولم بهم بمعصية مُصَدِّقاً حال مقدرة بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ يعنى بعيسى عليه السلام سمى به لان الله تعالى قال له كن من غيراب فكان فوقع عليه اسم الكلمة لانه بها كان- وقيل سمى عيسى كلمة لانه يهتدى به كما يهتدى بكلام الله- قالت الصوفية كان مبدا تعينه صفة الكلام وكان يحيى أول من أمن بعيسى وصدّقه وكان يحيى اكبر من عيسى بستة أشهر- وفى الصحيحين فى حديث المعراج انهما كانا ابني خالة وقد ذكر فيما سبق ان يحيى كان ابن خالة لمريم- وعلى تقدير صحة تلك الرواية فالقول بانهما كانا ابني خالة مبنى على التجوز كما قال عليه الصلاة لفاطمة اين ابن عمك يعنى عليا وهو ابن عم لابيها- وقد قتل يحيى قبل رفع عيسى الى السماء- وقال ابو عبيدة أراد بكلمة من الله كتاب الله وآياته وَسَيِّداً يسود «١» قومه ويفوقهم فى العلم والعبادة والورع وجميع خصال الخير قال مجاهد الكريم على الله وقيل الحليم الذي لا يغضبه شىء وقال سفيان الذي لا يحسد وقيل هو القانع وقيل هو السخي وقال جنيد هو الذي جار بالكونين عوضا عن المكون وَحَصُوراً أصله من الحصر وهو الحبس والمنع فقيل كان لا يأتى النساء فقيل كان عنينا كما جاء فى الحديث قلت وان كان عنينا فليس المراد هاهنا كونه عنينا لانه ليس بمدح والمقام مقام المدح فالاولى ان يقال انه كان منوعا حابسا نفسه عن اتباع الشهوات والملاهي- اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن عساكر عن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ ما من عبد لله يلقى الله الا أذنب الا يحيى بن زكريا فان الله يقول وسيّدا وحصورا قال وانما كان ذكره مثل هدبة الثوب وأشار بانمله- وقوله ﷺ انما كان ذكره مثل هدبة الثوب ليس بيانا لكونه حصورا بل بيانه ما سبق اعنى كونه معصوما وهذا بيان للواقع وأخرجه ابن ابى شيبة واحمد فى الزهد وابن ابى حاتم من وجه اخر عن ابن عمر موقوفا وهو أقوى اسنادا من المرفوع- واخرج ابن ابى حاتم وابن عساكر عن ابى هريرة ان نبى الله ﷺ قال كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه ان شاء يعذبه وان شاء يرحمه الا يحيى بن زكريا فانه كان سيّدا وحصورا
(١) قال فى النهاية للجزرى السيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومتحمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدم- وأصله من ساد يسود فهو سيؤد فقلبت الواو ياء لاجل الباء الساكنة قبلها فادغمت- منه رح
45
ونبيّا من الصّلحين ثم أهوى النبي ﷺ الى قذاة من الأرض فاخذها وقال كان ذكره مثل هذه القذاة- اخرج عبد الرزاق فى تفسيره عن قتادة موقوفا وابن عساكر فى تاريخه عن معاذ بن جبل مرفوعا ان يحيى عليه السلام مر فى صباه بصبيان فدعوه الى اللعب فقال ما للعب خلقنا وَنَبِيًّا ناشيا مِنَ أصلاب الصَّالِحِينَ (٣٩) يعنى النبيّين المعصومين او كائنا من عداد من لم يأت صغيرة ولا كبيرة-.
قالَ زكريا مناجيا الى الله سبحانه من غير التفات الى جبرئيل رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ صدر هذا القول منه بمقتضى الطبع استبعادا عن مقتضى العادة او استعظاما وتعجبا كل ذلك بمقتضى الطبع فان مقتضى الطبع قد يغلب على مقتضى العقل والا فالعقل والعلم يحكمان بانه لا استبعاد فى قدرة الله تعالى ولا تعجب كما ان موسى عليه السلام اعترض على خضر بعد ما عهد منه وقال ستجدنى ان شاء الله صابرا ولا اعصى لك امرا- وقال عكرمة والسدى انه لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال يا زكريا هذا الصوت ليس من الله انما هو من الشيطان ولو كان من الله لاوحاه إليك فقال ذلك دفعا للوسوسة وقال الحسن انه قال ذلك استفهاما عن كيفية حدوثه يعنى باىّ وجه يكون لى غلام بان تجعلنى وامراتى شابين وتزيل عقمها او تهب لى الولد من امراة اخرى او تهبه إيانا مع كوننا على حالتنا الاولى وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ هذا مقلوب اى قد بلغت الكبر وشخت او المعنى أدركني كبر السن وضعفنى وكان يومئذ ابن سنتين وتسعين سنة كذا قال الكلبي وقال الضحاك كان ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة وَامْرَأَتِي عاقِرٌ لا تلد يستوى فيه المذكر والمؤنث قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٣٠) خبر مبتدا محذوف اى الأمر كذلك اى يولد لك مع كونك شيخا وامرأتك عاقرا او خبر والمبتدا الله يعنى كذلك الله وبيانه يفعل ما يشاء من العجائب او الله مبتدا والجملة بعده خبره وكذلك فى محل النصب على المصدرية يعنى الله يفعل ما يشاء فعلا كذلك الفعل اى مثل ما وعدناك وان كان على خلاف العادة او على الحالية من ما يشاء.
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي فتح الياء نافع وابو عمر وابو جعفر- ابو محمد أسكنها الباقون آيَةً اى علامة اعلم بها وقت حمل امراتى فازيد فى العبادة شكرا لك قالَ آيَتُكَ......
أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ
يعنى لا تقدر على التكلم مع الناس مع قدرتك على الذكر ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً اى الا اشارة بنحو يد او رأس وأصله التحريك والاستثناء منقطع وقيل متصل والمراد بالكلام ما دل على ما فى الضمير وقال عطاء أراد به صوم ثلاثة ايام لانهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا الا رمزا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً يعنى حين يظهر لك الاية شكرا وَسَبِّحْ اى صل بِالْعَشِيِّ اى من الزوال الى ذهاب بعض الليل يعنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وَالْإِبْكارِ (٤١) من صلوة الفجر الى الضحى.
وَإِذْ قالَتِ عطف على إذ قالت امراة عمرن الْمَلائِكَةُ يعنى جبرئيل عليه السلام شفاها يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ اى اختارك لنفسه بالتجليات الذاتية الدائمية التي عبرها الصوفية بكمالات النبوة وهى بالاصالة للانبياء عليهم السلام وبالتبعية والوراثة للصديقين وكانت هى صديقة قال الله تعالى وامّه صدّيقة وَطَهَّرَكِ عن الذنوب بالحفظ والمغفرة وعدم تطرق الشيطان إليها كما مر من حديث ابى هريرة برواية الشيخين وقيل طهرها من مسيس الرجال وقيل من الحيض وَاصْطَفاكِ اى فضلك عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) اى عالمى زمانهم عن على قال سمعت رسول الله ﷺ يقول خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة متفق عليه وفى رواية قال ابو كريب وأشار وكيع الى السماء والأرض وعن انس ان النبي ﷺ قال حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امراة فرعون رواه الترمذي وعن ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله ﷺ كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء الا مريم بنت عمران وآسية امراة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام متفق عليه- قلت لعل معنى قوله ﷺ لم يكمل من النساء من الأمم السابقة الا مريم وآسية يدل عليه قوله عليه السلام وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام فان هذه الجملة تدل على فضل عائشة على مريم وآسية- وفى الصحيحين من حديث عائشة ان رسول الله ﷺ قال يا فاطمة الا ترضين ان تكونى سيدة......
نساء اهل الجنة او نساء المؤمنين وروى ابو داود والنسائي والحاكم عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ أفضل نساء اهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد واخرج احمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن حذيفة ان النبي ﷺ قال نزل ملك من السماء فاستأذن الله ان يسلم علىّ فبشرنى ان فاطمة سيدة نساء اهل الجنة فهذه الأحاديث تدل على ان فاطمة أفضل من مريم لان نساء اهل الجنة عام لا يحتمل التخصيص بزمان دون زمان بخلاف قوله تعالى اصطفيك على نساء العلمين فانه يحتمل ان يكون المراد منه عالمى زمانها كما قلنا لكن ورد فيما روى ابو يعلى وابن حبان والحاكم والطبراني عن ابى سعيد الخدري ان النبي ﷺ قال فاطمة سيدة نساء اهل الجنة الا ما كان من مريم وروى الترمذي عن أم سلمة عن فاطمة قالت أخبرني رسول الله ﷺ انى سيدة نساء اهل الجنة الا مريم بنت عمران فهذين الحديثين يدلان على استثناء مريم من المفضولية ولا يدلان على كونها أفضل من فاطمة عليها السلام وما فى الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة قوله ﷺ فاطمة بضعة منى وعند احمد والترمذي والحاكم عن ابن الزبير نحوه يقتضى فضل فاطمة على جميع الرجال والنساء كما قال مالك لا نعدل ببضعة رسول الله ﷺ أحدا لكن عند جمهور اهل السنة خص منه من علم فضلهم قطعا من الأنبياء وبعض الصديقين وبقي من سواهم فى العموم والله اعلم.
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي اى أطيلي القيام فى الصلاة شكرا لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) اى مع المصلين بالجماعة ولم يقل مع الراكعات لان النساء تتبع الرجال دون العكس فيكون أشمل-.
ذلِكَ مبتدا اى ما ذكر من القصص مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ اى اخباره خبره نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبر بعد خبر وجاز ان يكون أحدهما خبرا والاخر حالا وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ للاقتراع تقرير لما سبق من كونه وحيا على سبيل التهكم لمنكريه لان اسباب العلم منحصرة فى الثلاثة العقل او سماع الخبر او الحس وكون القصص غير مدرك بالعقل بديهي وعدم السماع معلوم لا شبهة فيه عندهم لكونه ﷺ اميّا وكون الاخبار منقطعة فبقى ان يكون باحتمال العيان ولا يظن به عاقل فبيان القصص منه صلى الله......
عليه وسلم على ما هو الواقع المعلوم عدل اهل العلم بالأخبار معجزة له ﷺ ودليل قطعى على كونه نبيا وكون ما يتلو عليهم وحيا من الله تعالى والله اعلم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ جملة استفهامية متعلقة بمحذوف دل عليه ما قبله اى يلقون أقلامهم يقولون ايّهم يكفل مريم او ليعلموا ايّهم يكفل مريم وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٣) فى كفالتها-.
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ بدل من إذ قالت الاولى وما بينهما معترضات ذكرت منة على النبي ﷺ بالايحاء اليه وتنبيها للكفار على جهلهم وعنادهم يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ مبتدا والضمير فيه الى الكلمة نظرا الى المعنى فان معناه مذكر يعنى عيسى عليه السلام الْمَسِيحُ خبر لاسمه والجملة فى موضع صفة لكلمة قال فى القاموس المسيح ان يخلق الله الشيء مباركا او ملعونا من الاضداد والمسيح عيسى ﷺ سمى لبركته والدجال لشومه وملعونيته انتهى- وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك وقيل سمى عيسى مسيحا لانه مسح منه الاقذار وطهر من الذنوب وقال ابن عباس سمى عيسى مسيحا لانه ما مسح ذا عاهة الا برئ وقيل سمى بذلك لانه كان يسيح فى الأرض ولا يقيم فى المكان- فى القاموس المسيح الكثير السياحة وقال ابراهيم النخعي المسيح الصديق وهو عيسى والمسيح الكذاب وهو الدجال فهو من الاضداد كذا فى القاموس وفى الصحاح قال بعضهم المسيح هو الذي مسح احدى عينيه وقد روى ان الدجال لعنه الله ممسوح اليمنى وقيل فى عيسى ممسوح اليسرى ومعنى القولين ان الدجال قد مسحت وأزيلت عنه الخصال المحمودة من الايمان والعلم والعقل والحلم وسائر الأخلاق الحميدة وان عيسى قد مسحت وأزيلت عنه الخصال الذميمة بالكلية من الجهل والشرة والحرص والبخل وغير ذلك قال صاحب القاموس ذكرت ولاشتقاق لفظ المسيح خمسين قولا فى شرحى لمشارق الأنوار وغيره عِيسَى لفظ عبرانى قيل هو معرّب اليشوع بمعنى السيد خبر بعد خبر وجاز ان يكون خبر مبتدا محذوف اى هو عيسى وهذا علمه والمسيح لقبه والاسم أعم منهما ومن الكنية فانه عبارة عن كل ما يميز الشيء عما عداه ابْنُ مَرْيَمَ لما كانت صفة تميز له تميز الأسماء نظمت فى سلكها- ولم يقل......
أسماؤه المسيح عيسى ابن مريم لان الاسم اسم جنس مضاف للاستغراق والاستغراق وان كان بمعنى كل فرد لكن يجوز حمل للمتعدد على مجموع يتضمنه الاستغراق بمعنى كل واحد نحو ما «١» من دابّة الّا امم أمثالكم وجاز ان يكون ابن مريم خبر مبتدا محذوف اى هو- ولا يجوز ان يكون ابن مريم صفة لعيسى فى التركيب لان اسمه عيسى فحسب وليس اسمه عيسى بن مريم وانما قال ابن مريم والخطاب لها تنبيها على انه يولد من غير اب إذ الأولاد ينسب الى الآباء ولا ينسب الى الام الا إذا فقد الأب والله اعلم وَجِيهاً حال مقدرة لكلمة وهى وان كانت نكرة لكنها موصوفة وتذكيره لتذكير المعنى اى شريفا رفيقا ذا جاه وقدر فِي الدُّنْيا بالنبوة وكونه مطاعا للخلائق وَالْآخِرَةِ بالشفاعة للامم وعلو درجته فى غرف الجنة وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) لله تعالى بالقرب الذاتي والتجليات الذاتية الدائمية عطف على وجيها.
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ يعنى رضيعا حال من الضمير المرفوع ليكلم وَكَهْلًا معطوف عليه يعنى يكلم الناس رضيعا وكهلا على نسق كلام الأنبياء بلا تفاوت من أول عمره الى آخره- وفيه اشارة الى انه يعمر ولا يموت حتى يكهل والى ان سنه لا يتجاوز الكهولة قال الحسن بن الفضل وكهلا يعنى بعد نزوله من السماء فانه رفع الى السماء قبل سن الكهولة وقال مجاهد معناه حليما والعرب يمدح الكهولة لانه الحالة الوسطى فى استحكام العقل وجودة الرأى والتجربة فان قبل ذلك يقل التجربة اولا يبلغ العقل الى كماله وبعد ذلك يضعف العقل- وقوله ويكلّم النّاس عطف على ومن المقرّبين- وفى ذكر يكلّم النّاس فى المهد تسلية لمريم من خوف لوم الناس إياها على إتيانها بولد من غير زوج وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٧) جاز ان يكون معطوفا على كهلا- وان يكون معطوفا على يكلم الناس اى كائنا من الصالحين لا يتطرق اليه نوع من النقص والفساد فى الدين وذلك شأن الأنبياء فكانّ معناه ومن النبيين.
قالَتْ مريم رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ تعجب او استبعاد عادى او استفهام من ان يكون بتزوج او غيره قالَ الله على لسان جبرئيل كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً اى قدّر ان يكون شىء فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) يعنى كما انه تعالى قادر على ان يخلق الأشياء بالتدريج
(١) وفى القران وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ
بأسباب عادى ومواد قادر ان يخلقها دفعة بلا اسباب.
وَيُعَلِّمُهُ قرا نافع وابو جعفر- ابو محمد وعاصم ويعقوب بالياء على الغيبة عطفا على يخلق او على يبشرك والباقون بالنون على التكلم عطفا على ما ذكر على طريقة الالتفات- او ابتدا تطييبا لقلبها وازاحة لهمها من خوف اللوم لما علمت انها تلد من غير زوج الْكِتابَ اى الكتابة والخط فكان احسن الناس خطا فى زمانه وقيل المراد به جنس الكتب المنزلة يعنى يعلمه علوم الكتب السماوية المنزلة وخص الكتابان لمزيد الاهتمام حيث كان الواجب عليه الاقتداء بهما فى فروع الأعمال واما فى اصول الدين فمقتضى الكتب كلها واحد وَالْحِكْمَةَ الفقه وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولًا منصوب بمضمر معطوف على يعلمه والتنوين للتعظيم تقديره ونجعله رسولا عظيما إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ٥ قيل كان رسولا فى حالة الصبا وقيل انما أرسل بعد البلوغ- وكان أول أنبياء بنى إسرائيل يوسف عليه السلام وآخرهم عيسى عليه السلام أَنِّي منصوب بنزع الخافض متعلق برسولا اى رسولا بانى او بالعطف على الأحوال المتقدمة متضمنا معنى النطق يعنى ناطقا بانى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ اى معجزة دالة على رسالتى وانما قال باية وقد جاء بايات لان الكل فى الدلالة على صدقة كايه واحدة مِنْ رَبِّكُمْ جاز ان يكون ظرفا مستقرا صفة لاية وان يكون ظرفا لغوا متعلقا بجئتكم أَنِّي فتح الياء نافع وابو جعفر- ابو محمد وابن كثير وابو عمرو وأسكنها الباقون وقرا نافع وابو جعفر- ابو محمد بكسر الهمزة على الاستيناف والباقون بالفتح فيجوز نصبه على انه بدل من انّى قد جئتكم ويجوز جره على انه بدل من اية ويجوز رفعه على تقدير المبتدا اى هى انّى أَخْلُقُ اصور واقدر لَكُمْ مِنَ الطِّينِ صورة كَهَيْئَةِ الهيئة الصورة المهياة الطَّيْرِ قرا ابو جعفر الطّائر هاهنا وفى المائدة فَأَنْفُخُ فِيهِ اى فى الطين او الضمير راجع الى الكاف فى كهيئة اى فى ذلك المماثل فَيَكُونُ طَيْراً قرا الأكثرون بالجمع لانه خلق طيرا كثيرا وقرا نافع ويعقوب وابو جعفر طائرا على الافراد لان كل واحد منها كان طائرا- قال البغوي لم يخلق غير الخفاش وانما خص الخفاش لانها أكمل الطير خلقا لان لها ثديا وأسنانا وهى تحيض قال وهب كان يطير ما دام الناس ينظرون اليه فاذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز ما لصنع العبد فيه مدخل مما لا مدخل فيه بِإِذْنِ اللَّهِ اى بامره وقوله كن نبه به على ان إحياءه من الله تعالى لا منه وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ الذي ولد......
51
أعمى او الممسوح العين كذا قال ابن عباس وقال الحسن والسدى هو الأعمى وقال عكرمة هو الأعمش يعنى ضعيف البصر مع سيلان الدمع كثيرا وقال مجاهد هو الذي يبصر بالنهار دون الليل وَالْأَبْرَصَ الذي به وضح وهذان الداءان يعجز عنهما الأطباء وكان فى زمن عيسى الطب غالبا فاراهم المعجزة من جنس ذلك كما كان فى زمن موسى السحر غالبا فارى عجز كل سحار عليم وفى زمن نبينا ﷺ كان البلاغة فى الكلام فاعجزهم القران وقال فأتوا بسورة من مثله قال وهب بن منبه ربما اجتمع على عيسى من المرضى فى اليوم الواحد خمسون الفا من أطاق ان يبلغه بلغه ومن لم يطق مشى اليه عيسى وكان يدعو للمرضى والزمنى والعميان وغيرهم بهذا الدعاء اللهم أنت اله من فى السماء واله من فى الأرض لا اله فيهما غيرك وأنت جبّار من فى السموات وجبّار من فى الأرض لا جبّار فيهما غيرك وأنت ملك من فى السماء وملك من فى الأرض لا ملك فيهما غيرك وقدرتك فى الأرض كقدرتك فى السماء سلطانك فى الأرض كسلطانك فى السماء أسئلك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم انك على كل شىء قدير قال وهب هذا الفزع والجنون يقرا عليه ويكتب ويسقى ماؤه ان شاء الله تعالى يبرا وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ كرر قوله بإذن الله دفعا لتوهم الالوهية فان الاحياء ليس من جنس الافعال البشرية قال البغوي قال ابن عباس قد أحيا اربعة انفس عازر وابن العجوز- وابنه العاشر- وسام بن نوح عليه السلام اما عازم فكان صديقا له فارسلت أخته الى عيسى عليه السلام ان أخاك عازر يموت وكان بينه وبين عيسى مسيرة ثلاثة ايام فاتاه هو وأصحابه فوجده قد مات منذ ثلاثة ايام فقال لاخته انطلقي بنا
الى قبره فانطلقت معهم الى قبره فدعا الله فقام عازم وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي وولد له واما ابن العجوز مرّ به ميتا على عيسى على سرير يحمل فدعا عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع الى اهله فبقى وولد له- واما ابنة العاشر فكان والدها يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا الله عز وجل فاحياها وبقيت وولدت- واما سام بن نوح فان عيسى جاء الى قبره فدعاه باسم الله الأعظم......
52
فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون فى ذلك الزمان فقال قد قامت القيامة قال لا ولكن دعوتك باسم الله الأعظم ثم قال له مت قال بشرط ان يعيذنى الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ مما لم اعائنه فكان يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما يأكل اليوم وبما ادخره للعشاء قال السدى كان عيسى فى الكتاب يحدث الغلمان بما صنع اباؤهم ويقول للغلام انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ورفعوا لك كذا وكذا فينطلق الصبى الى اهله ويبكى عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون من أخبرك بهذا فيقول عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقال لا تلقوا مع هذا الساحر فجمعوهم فى بيت فجاء عيسى يطلبهم فقالوا ليسوا هاهنا فقال فما فى هذا البيت قالوا خنازير قال عيسى كذلك يكونون ففتحوا عنهم فاذاهم خنازير ففشا ذلك فى بنى إسرائيل فهمت به بنوا إسرائيل فلما خافت عليه امه حملته على حمير لها وخرجت هاربة الى ارض مصر- وقال قتادة انما هذا فى المائدة وكانت خوانا ينزل عليهم أينما كانوا كالمن والسلوى فامروا ان لا يخونوا ولا يخبؤا فخانوا وخبؤا فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وما ادخروا منها فمسخهم الله خنازير إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الأمور الخارقة للعادة لَآيَةً على صدق عيسى فى دعوى النبوة لَكُمْ لتهتدوا بها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) اى موفقين للايمان فامنوا-.
وَمُصَدِّقاً عطف على رسولا او منصوب بفعل مقدر دل عليه قد جئتكم اى وجئتكم مصدقا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وهكذا شأن الأنبياء يصدقون الكتب السماوية كلها ويصدق بعضهم بعضا وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ اى انسخ حرمة بعض ما فى التورية من اللحوم والشحوم المحرمة فيها والنسخ لا ينافى التصديق كما ان القران ينسخ بعضه بعضا مقدر بإضمار جئتكم او مردود على قوله بانّى قد جئتكم باية او معطوف على معنى مصدقا اى لا صدق ولا حل وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ جاز ان يكون المراد بالآية هاهنا آيات الإنجيل وجاز ان يقال انه تكريرا للتأكيد- ولتقريبها الى الحكم ولذلك رتب عليه قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ اتقوا عذاب الله......
فى مخالفتى وتكذيبى وَأَطِيعُونِ (٥٠) فيما أمركم به من توحيد الله وطاعته.
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ تفصيل لما أجمل من قوله فاتّقوا الله وأطيعون فان فى قوله انّ الله ربّى وربّكم اشارة الى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد أقرّ اولا فى هذه الجملة بالعبودية على نفسه سدّا لباب الفتنة التي يأتى من قومه من قولهم ابن الله وثالث ثلاثة وفى قوله فاعبدوه اشارة الى استكمال القوة العملية بإتيان المأمورات والانتهاء عن المناهي ثم أكد الجملتين بقوله هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) يعنى الجمع بين الامرين هو الطريق المشهود له بالخير وهو المعنى من قوله ﷺ قل امنت بالله ثم استقم فى جواب من قال مر لى فى الإسلام لا اسئل منه بعدك رواه اصحاب السنن واحمد والبخاري فى التاريخ-.
فَلَمَّا ظرف زمان فيه معنى الشرط جوابه قال من انصارى أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ اى من بنى إسرائيل الْكُفْرَ يعنى سمع منهم تكذيبه والقول بمثل عزير ابن الله وابصر منهم ما يدل على الكفر وفى الكلام حذف اختصار يدل على المحذوف ما مر من البشارة تقديره فولدت مريم عيسى وكلم عيسى قومه فى المهد وبلغ الكمال حتى صار نبيا عالما بالتورية والإنجيل ودعا الناس الى الهدى والتي بالمعجزات المذكوران وأنكره بنو إسرائيل وكذبوه وأتوا بما يدل على الكفر فلما أحس عيسى منهم ذلك قالَ مَنْ أَنْصارِي فتح الياء نافع وابو جعفر- ابو محمد وأسكنها الباقون إِلَى اللَّهِ الى هاهنا بمعنى مع كما فى قوله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ او بمعنى فى او بمعنى اللام يعنى من انصارى مع الله او فى الله يعنى فى سبيل الله او لله- او هو بمعناه ويعتبر فى النصرة معنى الاضافة يعنى من الذين يضيفون أنفسهم الى الله فى نصرى فعلى هذه الوجوه الجار والمجرور ظرف لغو- وجاز ان يكون ظرفا مستقرا على انه حال من الياء اى من انصارى ملتجيا الى الله او ذاهبا الى ما امر به اوضا ما اليه قالَ الْحَوارِيُّونَ حوارى الرجل خالصته من الحور بمعنى البياض الخالص قال رسول الله ﷺ حين ندب الناس يوم الخندق ثلاثا فانتدب كل مرة زبير بن العوام فقال رسول الله ﷺ ان لكل نبى حواريّا وحوار بي الزبير متفق عليه......
وفى القاموس الحوارى الناصر او ناصر الأنبياء والقصار والحميم سمى اصحاب عيسى به لخلوص نيتهم فى الدين ولكونهم ناصرا له كذا قال الحسن وسفيان وقيل كانوا ملوكا استنصر بهم عيسى من اليهود سموا بها لما كانوا يلبسون الثياب البيض واخرج ابن جرير عن ابى ارطاة كانوا قصارين يحورون الثياب اى يبيضونها وقال الضحاك سموا بها لصفاء قلوبهم يعنى لتطهرهم من الذنوب وقال ابن المبارك سموا به لما عليهم اثر العبادة ونورها- واصل الحور عند العرب شدة البياض وقال الكلبي وعكرمة الحواريون الأصفياء وكانوا اثنى عشر رجلا قال روح بن القاسم سالت قتادة عن الحواريين قال هم الذين يصلح لهم الخلافة وعنه قال الحواريون الوزراء وقال مجاهد والسدى كانوا صيادين السمك وقيل كانوا ملاحين نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ اى أنصار دينه آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ يا عيسى يوم تشهد الرسل لقومهم وعليهم بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
(٥٢) فيه دليل على ان الايمان والإسلام واحد.
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ من الكتب الإنجيل وغيره.
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ عيسى عليه السلام فى كل ما أمرنا به فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) بوحدانيتك ولانبيائك بالصدق وقال عطاء مع النبيين لان كل نبى شاهد لامته وقال ابن عباس مع محمد ﷺ وأمته لانهم يشهدون للرسل على البلاغ.
وَمَكَرُوا اى الذين أحس عيسى منهم الكفر حيث أراد واقتله- قال الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس استقبل عيسى رهطا من اليهود فلما راوه قالوا قد جاء الساحرين الساحرة فقذفوه وامه فلعنهم عيسى ودعا عليهم فمسخهم الله خنازير فلما راى ذلك يهودا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى وبادروا اليه ليقتلوه فبعث الله جبرئيل فادخله خوخة فى سقفها روزنة فرفعه الله الى السماء من تلك الروزنة فامر يهودا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له طيطيانوس ان يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل القى عليه شبه عيسى فلما خرج ظنوا انه عيسى فقتلوه وذلك قوله تعالى وَمَكَرَ اللَّهُ والمكر فى الأصل حيلة يجلب بها غيره الى مضرة فلا يسند الى الله تعالى......
الا على سبيل المقابلة والازدواج قال الزجاج مكر الله عز وجل مجازاتهم على مكرهم فسمى الجزاء باسم الابتداء لانه فى مقابلته وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) اى أقواهم وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب..
إِذْ قالَ اللَّهُ ظرف لمكر الله او لمضمر مثل وقع ذلك يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ اى الى محل كرامتى ومقر ملائكتى قال الحسن والكلبي وابن جريج معناه انى قابضك ورافعك الى من الدنيا من غير موت قال البغوي لهذا المعنى تأويلان أحدهما انى رافعك الى وافيا لم ينالوا منك شيئا من قولهم توفيت كذا اى استوفيته إذا أخذته تاما- والاخر انى متسلمك من قولهم توفيت منه كذا اى تسلمته- واخرج ابن جرير عن الربيع بن انس المراد بالتوفى النوم وكان عيسى قد نام فرفعه الله نائما الى السماء فيحنئذ معناه انى منيمك ورافعك الى كما قال هو الّذى يتوفّيكم باللّيل- وقال بعضهم المراد بالتوفى الموت روى على بن ابى طلحة عن ابن عباس معناه انى مميتك قال البغوي فعلى هذا ايضا له تأويلان أحدهما ما قاله وهب توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم رفعه اليه وقال محمد بن إسحاق النصارى يزعمون الله توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه كذا اخرج ابن جرير عنه- ثانيهما ما قاله الضحاك معناه انى متوفيك بعد انزالك من السماء ومؤخرك الى أجلك المسمى عاصما إياك من قتل اليهود ورافعك الى قبل ذلك والواو للجمع المطلق لا للترتيب وهذا التأويل يأباه قوله تعالى فى المائدة فلمّا توفّيتنى كنت أنت الرّقيب عليهم فانه يدل على انه قومه انما تنصروا بعد توفيه ولا شك انهم تنصروا بعد رفعه الى السماء فظهر ان المراد بالتوفى اما الرفع الى السماء واما التوفى قبل الرفع والظاهر عندى ان المراد بالتوفى هو الرفع الى السماء بلا موت يشهد به الوجدان بعد ملاحظة قوله تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولولا نفى الموت عنه لما كان من نفى القتل فائدة إذ الغرض من القتل الموت والله اعلم- عن ابى هريرة عن النبي ﷺ قال والذي نفسى بيده ليوشكن ان ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد......
56
حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها ثم قال ابو هريرة فاقرءوا ان شئتم وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الاية متفق عليه وفى رواية لهما كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم وفى رواية لمسلم وليتركن القلاص فلا يسعى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون الى المال فلا يقبله أحد- وعنه عن النبي ﷺ فى نزول عيسى قال ويهلك فى زمانه الملل كلها الا الإسلام ويهلك الدجال فيمكث فى الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلى عليه المسلمون- كذا قال البغوي وروى ابن الجوزي فى كتاب الوفاء عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله ﷺ ينزل عيسى بن مريم الى الأرض فيتزوج ويولد له ويمكث خمسا وأربعين سنة ثم يموت فيدفن معى فى قبرى قاقوم انا وعيسى بن مريم فى قبر واحد بين ابى بكر وعمر- وعن جابر قال قال رسول الله ﷺ لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين الى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم تعالى صل لنا فقال لا ان بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الامة رواه مسلم وفى حديث المعراج ان النبي ﷺ راى عيسى بن مريم فى السماء الثانية متفق عليه وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا من سوء جوارهم وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعنى يعلونهم بالحجة والسيف فى غالب الأحوال- ومتبعوه الحواريون ومن كان من بنى إسرائيل على دينه الحق قبل مبعث النبي ﷺ والمسلمون من امة محمد ﷺ الذين صدقوه واتبعوا دينه فى التوحيد ووصيته باتباع النبي ﷺ حيث قال ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد- وقيل أراد بهم النصارى فهم فوق اليهود الى يوم القيامة الى الان لم يسمع غلبة اليهود عليهم وذهب ملك اليهود فلم يبق لهم ملك ودولة والملك والدولة من بنى إسرائيل فى النصارى فعلى هذا يكون الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ضمير المخاطب لعيسى ومن تبعه ومن
كفر به وغلّب المخاطبين على الغائبين......
57
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) من امر الدين ثم فصّل ذلك الحكم فقال.
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل والاسر وضرب الجزية والذل وَالْآخِرَةِ بالنار وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٢) يمنعهم من عذابنا.
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ قرا حفص بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) اى لا يرحم الكافرين وإذا لم يرحمهم عذبهم على ما اقتضاه كفرهم- قال اهل التاريخ حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة وولدت عيسى بمضىء خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على ارض بابل واوحى الله الى عيسى وهو ابن ثلاثين سنة ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وكانت نبوته ثلاث سنين وعاشت مريم بعد رفعه ست سنوات «١» وفى رواية انه لمّا قتل وصلب من شبه بعيسى جاءت مريم وامراة اخرى كان عيسى دعالها فابّراها الله من الجلون تبكيان عند المصلوب فجاءهما عيسى فقال لهما علام تبكيان ان الله رفعنى ولم يصبنى الأخير وان هذا شىء شبّه لهم فلما كان بعد سبعة ايام قال الله عز وجل لعيسى اهبط على مريم المحد لابنها فى جبلها فانه لم يبك أحد بكاءها ولم يحزن أحد حزنها- ثم لتجمع لك الحواريون فتثبهم فى الأرض دعاة الى الله عز وجل فاهبطه الله تعالى عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورا فجمعت له الحواريون فبثهم فى الأرض دعاة ثم رفعه الله اليه وتلك الليلة هى التي تدّخر فيها النصارى فلما أصبح الحواريون حدّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم.
ذلِكَ مبتدا خبره نَتْلُوهُ يعنى الذي ذكر من امر عيسى ومريم والحواريين نتلوه عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ حال من الضمير المنصوب فى نتلوه- وجاز ان يكون نتلوه حالا من المشار اليه والعامل فيه معنى الاشارة والخبر من الآيات- وان يكونا خبرين وان ينتصب ذلك بمضمر يفسره نتلوه- والمراد بالآيات اما آيات القران او المعجزات الدالة
(١) فى بالأصل سنة
على صدق النبي ﷺ فى دعوى نبوته فانه لم يكن عالما بتلك القصص واخبر على ما كان عند اهل العلم منهم وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) اى القران ذى الحكمة وقال مقاتل الحكيم المحكم الممنوع من الباطل وقيل الذكر الحكيم هو اللوح المحفوظ وهو معلق بالعرش من درة بيضاء طوله ما بين السماء الأرض.
إِنَّ مَثَلَ عِيسى يعنى شأنه الغريب عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ كشأنه ثم فسره وبين وجه التشبيه فقال خَلَقَهُ اى صور قالبه يعنى آدم مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ اى لذلك القالب كُنْ بشرا حيّا فَيَكُونُ (٥٩) حكاية عن الحال الماضية او المعنى قدر خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون وجاز ان يكون ثم لتراخى الخبر عن الخبر دون المخبر يعنى اخبر اولا انه خلق آدم من تراب ثم اخبر بانه انما خلقه بان قال له كن فكان يعنى لم يكن هناك اب ولا أم ولا حمل ولارضاع ولا فطام- فشأن عيسى فى الغرابة شابه شأن آدم من حيث كونه بلا اب فقط وشأن آدم اغرب منه بوجوه فشبه الغريب بالاغرب وما هو خارق للعادة بالاخرق ليكون اقطع لنزاع الخصم واحسم لمادة الشبهة- نزلت الاية فى وفد نجران لما قالوا لرسول الله ﷺ مالك تشتم صاحبنا قال ما أقول قالوا تقول انه عبد قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته القاها الى العذراء البتول فغضبوا وقالوا وهل رايت إنسانا قط من غير اب فانزل الله تعالى لالزامهم واقحامهم هذه الاية- واخرج ابن ابى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس نحوه واخرج عن الحسن قال اتى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم راهبا نجران فقال أحدهما من ابو عيسى وكان رسول الله ﷺ لا يتعجل حتى يأمره ربه فنزل عليه ذلك نتلوه عليك الى قوله من الممترين فانهم كانوا يعترفون بخلق آدم بغير اب وأم من تراب- وما أجهل النصارى لعنهم الله قالوا هل رايت إنسانا قط من غير اب وما تفكّروا فى أنفسهم انهم هل راوا إنسانا تلد شاة او شاة تلد إنسانا مع اتحاد الجنس فى الحيوانية واختلافهما فى النوع فكيف حكموا بان الله الأحد الصمد القديم لذاته الذي ليس كمثله شىء ولد عيسى جسما مخلوقا حادثا يأكل الطعام وينام ويموت بل هو الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (فائدة) فى هذه الاية دلالة على......
حجية القياس لان الله سبحانه نبه على الحكم بجواز خلق عيسى من غير اب قياسا على خلق آدم-.
الْحَقُّ خبر مبتدا محذوف او فاعل لفعل محذوف يعنى هو الحق او جاء الحق وجاز ان يكون مبتدا خبره مِنْ رَبِّكَ اى الحق المذكور من الله وعلى التقديرين الأولين من ربّك متعلق بجاء المحذوف او حال من الضمير فى الحق فَلا تَكُنْ ايها المخاطب المنكر مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٧٠) الشاكّين فى امر عيسى عليه السلام كما افترت اليهود حتى بهتوا امه وافترت النصارى حتى قالوا انه ابن الله.
فَمَنْ شرطية وجاز ان يكون استفهامية لانكار وجود من يحاجه من بعد ان النصارى عجزوا من المخاصمة حَاجَّكَ اى جادلك من النصارى فِيهِ اى فى عيسى او فى الحق مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بان عيسى عبد الله ورسوله- وفى ذكر هذا القيد للمباهلة تنبيه على ان المسلم لا ينبغى ان يباهل الا بعد كمال اليقين فَقُلْ يا محمد تَعالَوْا امر من التفاعل من العلو قال الفراء معناه كانه قال ارتفعوا قلت كانه يطلب منه ان يظهر على مكان عال ليبصر ما خفى عن بصره ثم استعير وغلب استعماله فى طلب التأمل والتوجه من المخاطب بالرأى فيما خفى عنه- فحاصل المعنى هلموا بالرأى والعزم- وقد يستعمل للدعاء الى مكان قريب من الداعي نَدْعُ مجزوم فى جواب الأمر أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ يعنى ندع كل منا ومنكم نفسه واعزة اهله من الأبناء والنساء فنضمهم الى أنفسنا حتى يعم ما نزل بالكاذب من العذاب اجمعهم وقدمهم على النفس لان الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم ولان الأصل فى الدعاء المغائرة بين الداعي والمدعو والمغائرة بين الرجل وبين ابنائه ونسائه حقيقى وبينه وبين نفسه اعتباري فقدم الحقيقي على الاعتباري- روى مسلم والترمذي عن سعد بن ابى وقاص قال لما نزلت هذه الاية دعا رسول الله عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء اهل بيتي ثُمَّ نَبْتَهِلْ افتعال ومعناه التفاعل واختير الافتعال هاهنا على التفاعل لان المقصود منه جلب اللعنة الى نفسه ان كان كاذبا ودفعها الى خصمه ان كان صادقا وجلب الشر الى نفسه اسرع وقوعا من دفعه الى غيره فكان الغرض منه......
60
اكتساب اللعنة- والبهلة بالضمة والفتحة وأصله الترك يقال بهلت الناقة إذا تركتها بلا اصرار وفى اللعينة الترك من الرحمة والبعد من رحمة الله تعالى فى الدنيا والاخرة وذلك يقتضى وقوع العذاب لان العصمة من العذاب لا يتصور الا برحمته- وفى كلمة ثم اشارة الى ان اللائق من العاقل التأخير والتراخي فى المباهلة فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) عطف تفسيرى على نبتهل وبالفاء اشارة الى ان وقوع العنة لا يتراخى عن الابتهال بل يعقبه بلا مهلة قال البغوي فلما قرا رسول الله ﷺ هذه الاية على وفد نجران دعاهم الى المباهلة قالوا حتى نرجع وننظر فى أمرنا نأتيك غدا فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى قال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى ان محمدا نبى مرسل وو الله مالا عن قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ونبت صغيرهم ولئن فعلتم ذلك لتهلكن فان أبيتم الا الاقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم فوادعوا لرجل وانصرفوا الى بلادكم- فاتوا رسول الله ﷺ وقد غذا رسول الله ﷺ محتضنا الحسين أخذا بيد الحسن وفاطمة يمشى خلفه وعلىّ خلفها وهو يقول إذا دعوت فامّنوا- فقال اسقف نجران يا معشر النصارى انى لارى وجوها لو سالوا الله ان يزيل جبلا عن مكانه لازاله فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانى الى يوم القيامة فقالوا يا أبا القاسم قد راينا ان لا نلاعنك وان نتركك على دينك ونثبت على ديننا- فقال رسول الله ﷺ فان أبيتم المباهلة فاسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فابوا قال فانى أنابذكم فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنا نصالحك على ان لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على ان نؤدى إليك كل عام الفى حلة الفا فى صفر والفا فى رجب فصالحهم رسول الله ﷺ على ذلك وقال والذي نفسى بيده ان العذاب قد تدلى على اهل نجران ولو تلاعنوا لمسخو قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولا ستأصل الله نجران واهله حتى الطير على الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا وكذا اخرج ابو نعيم فى الدلائل من طرق عن ابن عباس-......
61
واستدل الروافض قبحهم الله بهذه الاية على نفى خلافة الخلفاء الثلاثة رضى الله عنهم وكون علىّ عليه السلام هو الخليفة بعد رسول الله ﷺ قالوا المراد بالأبناء فى هذه الاية الحسن
والحسين وبالنساء فاطمة وبانفسنا علىّ «١» فجعل الله سبحانه عليّا نفس محمد صلى الله عليه واله وسلم وأراد الله تعالى به كون على رضى الله عنه مساويا له ﷺ فى الفضائل وكان رسول الله ﷺ اولى بالتصرف فى الناس من أنفسهم قال الله تعالى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فكان علىّ كذلك فهو الامام- والجواب عنه بوجوه أحدها ان الأنفس بصيغة الجمع يدل على نفس النبي ونفس من تبعه ولا يدل ذلك على كون نفسهما واحدا مع كونه ظاهر البطلان- ثانيها انه جاز ان يكون علىّ، ايضا مرادا بالأبناء كالحسن والحسين بعموم المجاز فان الختن يطلق عليه الابن عرفا- وثالثها انه جاز ان يكون المراد بانفسنا من يتصل به نسبا ودينا كما فى قوله تعالى ولا تخرجون «٢» أنفسكم من دياركم وقوله تعالى تقتلون أنفسكم وقوله تعالى ظنّ المؤمنون والمؤمنات بانفسهم خيرا وقوله تعالى ولا تلمزوا أنفسكم فحينئذ لا يلزم المساوات بينهما أصلا- ورابعها ان مساوات علىّ النبي ﷺ فى جميع الصفات باطل باتفاق الفريقين والمساوات فى بعضها لا يفيد المساوات فيما نحن فيه- خامسها انه لو كانت الاية دالة على كون على اولى بالتصرف لزم كونه كذلك فى حياته ﷺ وأنتم لا تقولون به لكن هذه القصة تدل على كون هؤلاء الكرام أحب الناس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إِنَّ هذا يعنى ما ذكر من قصص عيسى ومريم لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ هو فصل بين اسم ان وخبرها او مبتدا والقصص خبره والجملة خبر ان وجاز دخول اللام على الفصل لان أصلها ان تدخل على المبتدا ولذا سميت لام الابتداء وجاز دخولها على الخبر إذا لم يكن بينهما ضمير فصل وان كان هناك ضمير فصل دخلت عليه لكونه اقرب الى المبتدا من الخبر وَما مِنْ إِلهٍ من مزيدة لتأكيد استغراق النفي ردا على النصارى فى قولهم بالتثليث إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) هذا فى التركيب نظير قوله تعالى إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ يعنى انه تعالى لا يساويه أحد
(١) فى الأصل لا تخرجوا-
(٢) فى الأصل عليا
فى العزة والقدرة التامة والحكمة البالغة فكيف يشاركه فى الالوهية.
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحجج واعرضوا عن التوحيد فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) وعيد لهم تقديره فان تولّوا فانّ الله يعذبهم فحذف يعذبهم وأقيم عليم بالمفسدين مقامه اقامة العلة مقام المعلول فان علمه تعالى بافسادهم فى الآفاق باشاعة الكفر والمعاصي وصد الناس عن الايمان وفى أنفسهم بكفر ان المنعم وعصيانه وترك شكره ومخالفة رسوله سبب لتعذيبهم والله اعلم وفيه اشارة الى ان التولي عن الحق إفساد والله اعلم- قال المفسرون قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا فى ابراهيم عليه السلام فزعمت النصارى انه كان نصرانيا وهم على دينه واولى الناس به وقالت اليهود بل كان يهوديا وهم على دينه واولى الناس به فقال رسول الله ﷺ كلا الفريقين برىء من ابراهيم ودينه بل كان حنيفا مسلما وانا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام فقالت اليهود ما تريد الا ان نتخذك ربّا كما اتخذت النصارى عيسى ربا وقالت النصارى يا محمد ما تريد الا ان نقول فيك ما قالت اليهود فى عزيز فانزل الله تعالى.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ الخطاب يعم اهل الكتابين تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ قال البغوي العرب تسمى كل قصة لها شرح كلمة ومنه سميت القصيدة كلمة سَواءٍ مصدر بمعنى مستوية ولم يؤنث لان المصدر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ظرف متعلق بسواء يعنى لا يختلف فيه القران والتورية والإنجيل أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ يعنى لا نشرك به أحدا غيره فى العبادة لا إنسانا ولا صنما ولا ملكا ولا شيطانا محل ان رفع على إضمار هو او جريد لا من الكلمة وقيل نصب بنزع الخافض اى بان لا نعبد وَلا نُشْرِكَ بِهِ فى وجوب الوجود شَيْئاً كما فعلت اليهود والنصارى حيث قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله فعبدوهما وقالت النصارى ثالث ثلاثة وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا اى بعض الناس بَعْضاً اى بعضهم أَرْباباً يعنى لا يطيع بعض الناس بعضا مِنْ دُونِ اللَّهِ اى بغير اذن من الله تعالى- عن عدى بن حاتم انه لما نزلت اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال عدى بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال اليس كانوا......
63
يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال هو ذاك رواه الترمذي وحسنه فما كان من إطاعة الرسول فهو إطاعة الله لا غير قال الله تعالى ومن يطع الرّسول فقد أطاع الله وكذا ما كان من إطاعة العلماء والأولياء والسلاطين والحكام على مقتضى الشرع قال الله تعالى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وما كان منها على خلاف مقتضى الشرع فهو الاتخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله عن على رضى الله عنه لا طاعة لاحد فى معصية الله انما الطاعة فى المعروف رواه الشيخان فى الصحيحين وابو داود والنسائي وعن عمران بن حصين والحكيم بن عمرو الغفاري لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق- ومن هاهنا يظهر انه إذا صح عند أحد حديث مرفوع من النبي ﷺ سالما عن المعارضة ولم يظهر له ناسخ وكان فتوى ابى حنيفة رحمة الله مثلا خلافه وقد ذهب على وفق الحديث أحد من الائمة الاربعة يحب عليه اتباع الحديث الثابت ولا يمنعه الجمود على مذهبه من ذلك كيلا يلزم اتخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله روى البيهقي فى المدخل بإسناد صحيح الى عبد الله بن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول إذا جاء عن النبي ﷺ فعلى الرأس والعين وإذا جاء عن اصحاب النبي ﷺ نختار من قولهم وإذا جاء من التابعين زاحمناهم- وذكر عن روضة العلماء قال اتركوا قولى بخبر رسول الله ﷺ وقول الصحابة- ونقل انه قال إذا صح الحديث فهو مذهبى- وانما قلت فى العمل بالحديث ان يكون ذلك الحديث قد ذهب اليه أحد من الائمة الاربعة كيلا يلزم العمل على خلاف الإجماع فان اهل السنة قد افترق بعد القرون الثلاثة او الاربعة على اربعة مذاهب ولم يبق مذهب فى فروع المسائل سوى هذه الاربعة فقد انعقد الإجماع المركب على بطلان قول يخالف كلهم وقد قال رسول الله ﷺ لا يجتمع أمتي على الضلالة وقال الله تعالى وَ (مَنْ)... يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً وايضا لا يحتمل كون الحديث مختفيا عن للائمة الاربعة وعن أكابر العلماء من تلامذتهم فتركهم قاطبة العمل بحديث دليل على كونه منسوخا او مأوّلا- (فائدة) لا يجوز لاحد ان يقول فى امر افتى علماء الشرع على حرمته او كراهته ان مشائخ......
64
الصوفية سنوا كذلك ونحن نتبع سنتهم والصحيح ان الصوفية الكرام ما فعلوا قط على خلاف مقتضى الشرع وانما الفساد من جهال اتباعهم (فائدة) لا يجوز ما يفعله الجهال بقبور الأولياء والشهداء من السجود والطواف حولها واتخاذ السرج والمساجد عليها ومن الاجتماع بعد الحول كالاعياد ويسمونه عرسا عن عائشة وابن عباس قالا لما نزل برسول الله ﷺ مرض طفق يطرح خميصة له على وجهه فاذا اغتم كشفها عن وجهه ويقول وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد- قالت فحذّر عن مثل ما صنعوا متفق عليه وكذا روى احمد والطيالسي عن اسامة بن زيد- وروى الحاكم وصححه عن ابن
عباس لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج- وروى مسلم من حديث جندب بن عبد الملك قال سمعت النبي ﷺ قبل ان يموت بخمس وهو يقول الا لا تتخذوا القبور مساجد انى أنهاكم عن ذلك فَإِنْ تَوَلَّوْا يعنى اهل الكتاب عن تلك الكلمة العادلة المستقيمة المستوية المتفق عليها الكتب والرسل فَقُولُوا ايها النبي والمؤمنون اشْهَدُوا يا اهل الكتاب بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) بالكتب السماوية كلها دونكم عن ابن عباس ان أبا سفيان بن حرب أخبره ان هرقل أرسل اليه فى ركب من قريش وكانوا اتجارا بالشام فى المدة التي كان رسول الله ﷺ مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش فاتوه وهم بايليا فدعاهم فى مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعا بكتاب رسول الله ﷺ الذي بعث به دحية الى عظيم بصرى فدفعه الى هرقل فاذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله الى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى اما بعد فانى أدعوك بدعاية الإسلام اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فان توليت فان عليك اثم الأريسيين ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ متفق عليه (فائدة) قراءة النبي ﷺ هذه الاية على وفد نجران وكتابته الى هرقل وتسليمهم وعدم ردهم إياها بالإنكار وبالقول بان هذه الكلمة ليست فى كتبنا......
65
حجة قاطعة على نبوته ﷺ وكون تلك الكلمة مجمعا عليها الكتب والرسل فظهر ان قولهم بان عزيرا ابن الله وعيسى ابن الله انما كان بناء على آرائهم الفاسدة والتقليد دون الاستناد الى الكتب ومن ثم احتجوا على النبي ﷺ بقولهم هل رايت إنسانا من غيراب- قال البيضاوي انظر الى ما روعى فى هذه القصة من المبالغة فى الإرشاد وحسن التدرّج فى الحجاج بيّن اولا احوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للالوهية ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم بقوله مثل عيسى عند الله كمثل آدم فلما راى عنادهم ولجاجهم دعاهم الى المباهلة بنوع من الاعجاز ثم لما راى انهم اعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإرشاد وسلك طريقا أسهل والزم بان دعاهم الى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ثم لما لم يجد ذلك ايضا عليهم وعلم ان الآيات والنذر لا يغنى عنهم اعرض عن ذلك وقال اشهدوا بانّا مسلمون والله اعلم- روى ابن إسحاق بسنده المتكرر عن ابن عباس رضى الله عنهما قال أجمعت نصارى نجران وأحبار اليهود عند رسول الله ﷺ فقالت الأحبار ما كان ابراهيم الا يهوديا وقالت النصارى ما كان الا نصرانيا فانزل الله تعالى.
يا أَهْلَ الْكِتابِ الخطاب يعم الفريقين لِمَ تُحَاجُّونَ تختصمون فِي دين إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ فحدث دين اليهود وَما أنزلت الْإِنْجِيلُ فحدث دين النصارى إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ اى بعد ابراهيم بزمان طويل كان بين ابراهيم وموسى الف سنة وبين موسى وعيسى وهو اخر أنبياء بنى إسرائيل الفا سنة أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) بطلان قولكم لعلهم كانوا يدعون ان ابراهيم فى فروع الأعمال كان عاملا باحكام التورية او الإنجيل بل ما اخترعه الفريقان بعد موت موسى ورفع عيسى وتحريفهم الكتابين وهذا هو محل النزاع بين الفريقين وظاهر البطلان فان فروع الأعمال ينسخ فى الشرائع بعد مضى الدهور على ما هو عادة الله تعالى نظرا الى مصالح كل عصر فكيف يكون دين ابراهيم اليهودية او النصرانية- واما فى اصول الدين وما لا يحتمل النسخ من الفروع كحرمة العبادة لغير الله تعالى والكذب والظلم فالشرائع والملل الحقة كلها متفقة عليها لا يحتمل فيها الاختلاف والله اعلم.
ها أَنْتُمْ قرا نافع وابو جعفر- ابو محمد وابو عمرو حيث وقع بالمد من غير همز «١» - وورش اقل مد او قنبل بالهمز من غير الف بعد الهاء والباقون بالمد والهمز- فالبزى يقصر على أصله فى المنفصل والباقون على أصولهم فى المد- فها للتنبيه على قراءة الكوفيين ومن معهم- ابو محمد والبزي وابن ذكوان وعلى قراءة قنبل أصله ءانتم أبدلت همزة الاستفهام هاء كقولهم هرقت فى ارقت فصار هانتم وكذا على قراءة ورش غير انه يبدل الهمزة الثانية الفا كما هو مذهبه عند اجتماع الهمزتين إذا كانتا مفتوحتين وعلى قراءة ابى عمرو وقالون وهشام جاز الأمر ان فان كان أصله ءانتم على الاستفهام أبدلت الهمزة الاولى هاء كما قيل على قراءة قنبل وورش وزيدت الف فاصلا بين الهمزتين على أصلهم ثم حذفت الهمزة الثانية تخفيفا على قراءة ابى عمرو وقالون وبقيت على قراءة هشام- وان كان أصله ها أنتم على الخبر فلا تغير فى قراءة هشام وعند ابى عمرو وقالون حذفت الهمزة تخفيفا فالكلام اما استفهام إنكاري- او تنبيه عن حالهم الذي غفلوا عنه- وأنتم مبتدا وهؤُلاءِ خبره وما بعده جملة اخرى مبيّنة للاولى وجاز ان يكون هؤلاء منادى بحذف حرف النداء والجملة التالية خبر لانتم تقديره يا هؤلاء أنتم أو ها أنتم حاجَجْتُمْ اى خاصمتم وقيل هؤلاء بمعنى الذي وما بعده صلته والموصول مع الصلة خبر لانتم- قال نحاة الكوفة جاز وضع اسم الاشارة موضع الموصول يعنى ءانتم او ها أنتم الذي جادلتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ من امر موسى وعيسى وادعيتم انكم على دينهم وقد علمتم ما كان دينهم من التورية والإنجيل وان كنتم لبستم بعض ما هو فى التورية والإنجيل من نعت محمد ﷺ وان دين موسى وعيسى سينسخ بدين محمد النبي الأمي المبعوث فى اخر الزمان فافتضحتم فيه بإظهاره تعالى ما لبستموه مع علمكم بما فى التورية والإنجيل فَلِمَ تُحَاجُّونَ ايها الحمقاء الغافلون عن ظهور بطلان قولكم فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ من دين ابراهيم وشريعته حيث لم يذكر فى التورية والإنجيل دينه وملته وكان قبلكم بالوف سنين وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما انزل على كل نبى من الاحكام وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) الا ما علمكم الله فى كتابكم بل أنتم لا تعلمون أصلا حيث تركتم ما انزل الله عليكم ونبذتم كتاب الله وراء ظهوركم حتى لم تؤمنوا بمحمد وقد أخذ الله ميثاقكم فتفتضحون فى تلك
(١) هكذا فى التيسير للداني ومعناه انه قرا قالون وابو عمرو وابو جعفر بألف بعد الهاء وهمزة مسهلة وهم فى المد على أصولهم وورش لطريق الا رزق بهمزة مسهلة من غير الف ومد وبابدال الهمزة انا مع مد اللازم- ابو عبد عفا الله عنه
المحاجة بالطريق الاولى إذ لا يصلح محاجة الجاهل العالم- وفيه تنبيه على ان محاجة رسول الله ﷺ صحيحة لكونه عالما بتعليم الله تعالى ثم بين الله تعالى دين ابراهيم فقال.
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا يعنى ما كان دين ابراهيم موافقا لدين موسى وعيسى فى كثير من الفروع وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مائلا عن العقائد الزائغة وقيل الحنيف الذي يوحد ويضحى ويختن ويستقبل الكعبة ولم يكن ذلك فى اليهود والنصارى مُسْلِماً منقاد الله تعالى فيما امر به غير متبع لهواه وأنتم لا تنقادون ما أمركم الله به حيث لا تؤمنون بالنبي الأمي الذي تجدونه مكتوبا عندكم فى التورية والإنجيل وتشركون بالله فتقولون ثالث ثلاثة وتقولون عزير ابن الله والمسيح ابن الله فكيف تدعون انكم على دين ابراهيم وملته وَما كانَ ابراهيم مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) بل كان من الموحدين.
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ اولى مشتق من الولي بمعنى القريب يعنى أخصهم وأقربهم دينا بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ من أمته حيث كانوا على دينه بلا شبهة وَهذَا النَّبِيُّ محمد ﷺ وَالَّذِينَ آمَنُوا بمحمد ﷺ لموافقتهم لابراهيم فى اكثر الشرائع فانهم يوحدون ويضحون ويختتنون ويصلون الى الكعبة ويحجون ويعتمرون ويتمون بكلمات ابتلى بها ابراهيم ربّه فاتمّهنّ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) بمحمد ﷺ فانهم يومنون بجميع الأنبياء من أولهم الى آخرهم بخلاف اليهود والنصارى- قال البغوي روى الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس ورواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناده انه لما هاجر جعفر بن ابى طالب وأناس من اصحاب النبي ﷺ الى الحبشة وهاجر النبي ﷺ الى المدينة وكان وقعة بدر اجتمعت قريش فى دار الندوة وقالوا ان لنا فى الذين هم عند النجاشي من اصحاب محمد ﷺ ثار ممن قتل منكم ببدر فاجمعوا مالا واهدوه الى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ولينتدب لذلك رجلان من ذوى رأيكم فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن ابى معيط مع الهدايا الادم وغيره فركبا البحر وأتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجد اله......
68
وسلما عليه وقالا له ان قومنا لك ناصحون شاكرون ولصلاحك محبون وانهم بعثوا إليك لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك لانهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم انه رسول الله ولم يتابعه منا أحد الا السفهاء وانا كنا قد ضيّقنا عليهم والجأناهم الى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد ولا يخرج منهم أحد قد قتلهم الجوع والعطش فلما اشتد عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم قالوا واية ذلك انهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك الناس رغبة عن دينك وسنتك- قال فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله فقال النجاشي مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر فقال النجاشي نعم فليدخلوا بإذن الله وذمته- فنظر عمرو بن العاص الى صاحبه فقال الا تسمع كيف يرطنون اى يكلمون- منه رح بحزب الله وما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك- ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له- فقال عمرو بن العاص الا ترى انهم يستكبرون ان يسجدوا لك فقال لهم النجاشي ما منعكم ان تسجدوا لى وتحيونى بالتحية التي يحيينى بها من أتاني من الآفاق- قالوا نسجد لله الذي خلقك وملّكك وانما كانت تلك التحية ونحن نعبد الأصنام فبعث الله فينا نبيا صادقا وأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهى السلام تحية اهل الجنة فعرف النجاشي ان ذلك حق وانه فى التورية والإنجيل قال أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله قال جعفر انا قال فتكلم قال انك ملك من ملوك اهل الأرض ومن اهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وانا أحب ان أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الاخر فتسمع محاورتنا- فقال عمرو لجعفر تكلم فقال جعفر للنجاشى سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار قال بل أحرار كرام قال النجاشي نجوا من العبودية- ثم قال جعفر سل هما هل اهرقنا دما بغير حق فيقتص مئا قال عمرو لا ولا قطرة قال جعفر سل هل أخذنا اموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها قال النجاشي ان كان قنطارا فعلىّ قضاؤه قال عمرو لا ولا قيراطا- قال النجاشي فما تطلبون منهم قال عمرو كنا وهم على دين واحد وامر واحد على دين ابائنا فتركوا ذلك واتبعوا غيره فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا فقال النجاشي......
69
ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعتموه اصدقنى- قال جعفر اما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة واما الذي تحولنا اليه فدين الله الإسلام جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له- فقال له النجاشي تكلمت بامر عظيم فعلى رسلك ثم امر النجاشي فضرب بالناقوس فاجتمع اليه كل قسّيس وراهب فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي أنشدكم الله الذي انزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا- قالوا اللهم نعم قد بشرنا به عيسى
وقال من أمن به فقد أمن بي ومن كفر به فقد كفر بي- فقال النجاشي لجعفر ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه قال يقرا علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ويأمر بان نعبد الله وحده لا شريك له قال اقرأ علىّ مما يقرا عليكم- فقرا عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت عين النجاشي وأصحابه من الدمع فقالوا زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرا عليهم سورة الكهف- فاراد عمرو ان يغضب النجاشي فقال انهم يشتمون عيسى وامه- فقال ما تقولون فى عيسى وامه فقرا عليهم سورة مريم فلما اتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثه من سواكه قدر ما يقذى العين قال والله ما زاد المسيح على ما يقولون هذا- ثم اقبل على جعفر وأصحابه فقال اذهبوا فانتم سيوم كلمة حبشية بمعنى امنون- منه رح بأرضى يقول امنون من سبكم او اذاكم غرّم ثم قال ابشروا ولا تخافوا فلاد هورة «١» اليوم على حزب ابراهيم- قال عمرو يا نجاشى ومن حزب ابراهيم- قال هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فانكر ذلك المشركون وادعوا فى دين ابراهيم- ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال انما هديتكم الىّ رشوة فاقبضوها فان الله ملّكنى ولم يأخذ منى رشوة قال جعفر فانصرفنا فكنا فى خير دار وأكرم جوار وانزل الله تعالى ذلك اليوم على رسوله ﷺ فى خصومتهم فى ابراهيم وهو بالمدينة قوله عز وجل انّ اولى النّاس الاية-.
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ نزلت فى معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر رضى الله عنهم حين دعاهم اليهود الى دينهم- يعنى تمنت جماعة
(١) الدهورة جمعك الشيء وقد فك فى مهواة كانه أراد لا ضيعة عليهم ولا يترك حفظهم وتعهدهم والواو زائدة- نهاية جزرى منه رحمه الله
وَلا تُؤْمِنُوا عطف على أمنوا بالّذى انزل يعنى لا تؤمنوا حقيقة الايمان بمواطاة القلب ولا تصدقوا لاحد إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ اى لاهل دينكم- او المعنى لا تظهروا ايمانكم وجه النهار الا لمن كان على دينكم قبل ذلك فان رجوعهم أرجى وأهم- وجاز ان يكون لا تؤمنوا بيانا لا كفروا والمعنى واكفروا اخر النهار ولا تؤمنوا اخر النهار الا لاهل دينكم قُلْ يا محمد للكفار إِنَّ الْهُدى الذي اعطى المسلمين هُدَى اللَّهِ لا تستطيعون ان تطفؤا نور الله بأفواهكم والله متم نوره فلا يضر المؤمنين مكركم- او المعنى قل يا محمد لنفسك وللمؤمنين انّ الهدى هدى الله لا يضركم كيد كائد أَنْ يُؤْتى قرا ابن كثير بالمد «١» على الاستفهام والباقون بلا مد على الخبر- متعلق بمحذوف يعنى مكرتم ذلك المكر حسدا او امكرتم لان يؤتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الكتاب والحكمة أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على يؤتى منصوب بان والضمير المرفوع عائد الى أحد وهو وان كان مفردا لفظا لكنه جمع معنى بمعونة المقام لانه فى حيز النفي او الاستفهام يعنى او مكرتم لان يغلبكم أحد عِنْدَ رَبِّكُمْ يوم القيامة لكونهم على الهدى دونكم يعنى ان الحسد حملكم على ذلك المكر ولا ينبغى ذلك المكر والحسد وجاز ان يكون ان يؤتى متعلقا بلا تؤمنوا وعلى هذا ثلاث تأويلات أحدها ان يكون اللام فى لمن تبع دينكم زائدة كما فى قوله تعالى ردف لكم اى ردفكم والمستثنى منه أحد فاعل يؤتى والمستثنى مقدم عليه واو فى او يحاجّوكم بمعنى الواو لكونه فى حيز النفي نحو لا تطع منهم اثما او كفورا والمعنى لا تصدقوا ولا تقرّوا بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم الا من تبع دينكم ولا تصدقوا بان يغلبكم أحد عند ريكم- ثانيها ان يكون اللام للانتفاع او زائدة والاستثناء مفرغ واحد فى قوله تعالى ان يؤتى أحد مظهر موضع المضمر ابرز لحذف المرجع من الصدر والمعنى لا تصدقوا أحدا او لا تقروا لاحد اى فى حق أحد الا لمن تبع دينكم يعنى الا من تبع دينكم او الا فى حق من تبع دينكم بان يؤتى ذلك الأحد مثل ما أوتيتم او بان يغلبكم أحد عند ربكم لانكم أصح دينا هذا على قراءة الجمهور واما على قراءة ابن كثير فمعناه أتصدقون وتقرون بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم او يحاجوكم عند ربكم لا ينبغى ذلك الإقرار والتصديق منكم وهذا معنى قول مجاهد وثالثها ان تكون لا تؤمنوا بمعنى لا تظهروا
(١) اى بالهمزتين محققة ومسهلة والباقون بهمزة واحدة محققة- ابو محمد عفا الله عنه
واللام صلة والمعنى لا تظهروا ايمانكم بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم او يحاجوكم عند ربكم الا لمن تبع دينكم يعنى إلا خفية لاشياعكم ولا تفشوه الى المسلمين كيلا يزيد ثباتهم ولا الى المشركين كيلا يدعوهم الى الإسلام- ومعناه على قراءة ابن كثير اتظهرون عند غيركم ان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم او يحاجوكم عند ربكم لا ينبغى ذلك الإظهار- وعلى هذه التأويلات جملة قل انّ الهدى هدى الله معترضة لبيان ان كيدهم لا يفيدهم ولا يضر بالمسلمين وعلى قراءة الجمهور جاز ان يكون ان يؤتى خبر انّ على ان هدى الله بدل عن الهدى واو فى او يحاجّوكم بمعنى حتى والمعنى ان هدى الله الإيتاء لمن شاء من أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب حتى يغلبوكم يوم القيامة عند ربكم- وقيل معناه قالت اليهود لسفلتهم لا تؤمنوا الا لمن تبع دينكم ان يؤتى اى لئلا يؤتى كما فى قوله تعالى يبيّن الله لكم ان تضلّوا اى لئلا تضلوا يعنى لا تصدقوهم لئلا يعلموا مثل ما علمتم فيكون لكم الفضل عليهم بالعلم ولئلا يحاجوكم عند ربكم فيقولوا عرفتم ان ديننا حق ولم تؤمنوا وهذا معنى قول ابن جريح وهو ابعد التأويلات قُلْ يا محمد لليهود إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ لا بايديكم يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وقد اتى محمدا ﷺ وأصحابه وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل عَلِيمٌ (٧٣) بمن هو اهل له.
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ ونبوته مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤).
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعنى عبد الله بن سلام وأشباهه مؤمنى اهل الكتاب مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ اى مال كثير يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ لاجل ديانتهم وايمانهم قال البغوي قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما ان رجلا أودع عبد الله بن سلام الفا ومائتى اوقية من ذهب فاداه وَمِنْهُمْ يعنى كعب بن الأشرف وأشباهه من كفار اليهود كذا قال مقاتل مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ قال البغوي استودع رجل من قريش فخاص بن عازورا من اليهود دينارا فخانه قرا ابو عمرو وابو جعفر بخلاف عنه- او محمد وابو بكر وحمزة يؤدّه ولا يؤدّه إليك ونؤته منها فى الموضعين وفى النساء نولّه ونصله وفى الشورى نؤته منها بإسكان الهاء فى السبعة لان الهاء وضعت موضع الجزم وهو الياء الذاهب وقرا قالون وابو جعفر ويعقوب باختلاس كسرة الهاء اعتبروا الياء الساكنة المحذوفة موجودة والهاء بعد الحرف الساكن......
يختلس حركته وكذا عن هشام بخلاف عنه- ابو محمد فى الباب كله وقرا الباقون بإشباع الكسرة لان الأصل فى الهاء بعد المتحرك الإشباع والوقف للجميع بالإسكان إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قال ابن عباس قائما اى ملحا يقال يقوم عليه يعنى يطالبه بالالحاح والتقاضي والترافع الى الحكام ذلِكَ اى عدم الأداء والاستحلال بِأَنَّهُمْ اى بسبب ان اليهود الكفار قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ اى فى شأن من ليس باهل الكتاب سَبِيلٌ اى سبيل مؤاخذة عند الله قالوا اموال العرب حلال لنا لانهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم فى كتابنا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم فى الدين وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ان الله أحل لهم ذلك وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) انهم يكذبون.
بَلى يعنى ليس كما قالوا بل عليهم سبيل فى المؤمنين او عصمة المال بالايمان او عقد الذمة- قال رسول الله ﷺ أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة فاذا فعلوا ذلك عصموا منى دماؤهم وأموالهم الا بحق الإسلام وحسابهم على الله متفق عليه من حديث ابى موسى وقال رسول الله ﷺ فان هم أبوا يعنى ان كان الكفار أبوا عن الإسلام فسل هم الجزية فان هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم متفق عليه فى حديث طويل من حديث سليمان بن بريد عن أبيه مَنْ شرطية او موصولة أَوْفى بِعَهْدِهِ الضمير المجرور راجع الى من يعنى بعهده الذي عاهد رب المال بأداء الامانة- او راجع الى الله تعالى اى عهد الله عهد اليه فى التورية من الايمان بجميع الأنبياء وبمحمد ﷺ والقران وأداء الامانة وَاتَّقى الكفر والخيانة فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٢) وضع المظهر موضع الضمير اشعارا بان التقوى ملاك الأمر كله وهو يعم الوفاء بالعهد وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي ولذلك العموم ناب مناب الراجع الى من اوفى- والجملة مستأنفة مقررة لجملة سدت بلى مسدها عن عبد الله بن عمرو ان النبي ﷺ قال اربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منها كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر- متفق عليه وفى الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ اية المنافق ثلاث زاد مسلم وان صام وصلى وزعم انه مسلم ثم اتفقا إذا حدث......
كذب وإذا وعدا خلف وإذ اؤتمن خان- والله اعلم- روى الشيخان فى الصحيحين عن ابى وائل عن عبد الله قال قال رسول الله ﷺ من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان فانزل الله تعالى تصديق ذلك.
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الاية- فدخل الأشعث بن قيس فقال ما حدثكم ابو عبد الرحمن فقالوا كذا وكذا فقال فىّ نزلت كانت لى بير فى ارض ابن عم لى فاتيت رسول الله ﷺ فقال بينتك او يمينه قلت إذا يحلف عليها يا رسول الله قال رسول الله ﷺ من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله يوم القيامة وهو عليه غضبان كذا روى البغوي بسنده من طريق البخاري وفى رواية ابى داود وابن ماجة وغيرهما عن الأشعث بن قيس قال كان بينى وبين رجل من اليهود ارض فجحدنى فقدّمته الى النبي ﷺ فقال ألك بينة قلت لا قال لليهودى احلف قلت يا رسول الله إذا يحلف ويذهب بما لى فانزل الله تعالى هذه الاية وروى البخاري عن عبد الله بن ابى اوفى ان رجلا اقام سلعة وهو فى السوق فحلف بالله لقد اعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الاية قال الحافظ ابن حجر فى شرح البخاري لا منافاة بين الحديثين بل يحمل ان النزول كان بالسببين جميعا والمعنى ان الذين يشترون بعهد الله فى أداء الامانة وايمانهم الكاذبة ثمنا قليلا يعنى شيئا من متاع الدنيا قليلا كان او كثيرا فانها بالنسبة الى نعماء الجنة قليل جدا- واخرج ابن جرير عن عكرمة ان الاية نزلت فى حيى بن اخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود الذين يكتمون ما انزل الله فى التورية فى شأن محمد ﷺ وبدلوه وكتبوه بايديهم غيره وحلفوا انه من عند الله لئلا يفوتهم المأكل والرشى التي كانت لهم من اتباعهم- قال ابن حجر والاية محتملة لكن العمدة فى ذلك ما ثبت فى الصحيح- قلت سياق الكلام يقتضى صحة ما روى ابن جرير عن عكرمة والحديثين المذكورين فى الصحيحين لا ينافيان رواية ابن جرير كما لا يتنافيان لجواز كون اسباب النزول كلها جميعا والله اعلم وعن علقمة بن وائل عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة......
75
الى النبي ﷺ فقال الحضرمي يا رسول الله ان هذا غلبنى على ارض لى فقال الكندي هى ارضى وفى يدى ليس له فيها حق فقال النبي ﷺ للحضرمى ألك بينة قال لا قال فلك يمينه قال يا رسول الله ان الرجل فاجر لا يبالى على ما حلف عليه فليس يتورع من شىء قال ليس لك منه الا ذلك فانطلق ليحلف فقال رسول الله ﷺ لما أدبر لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض- رواه مسلم وفى رواية هو امرؤ القيس بن عابس الكندي وخصمه ربيعة بن عبدان- وفى رواية لابى داود انه ﷺ قال لا يقطع أحد مالا بيمين الا لقى الله وهو اجزم فقال الكندي هى ارضه وقال البغوي روى انه لما هم الكندي ان يحلف نزلت هذه الاية فامتنع امرا القيس ان يحلف وأقر لخصمه ودفعها اليه أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ اى لا نصيب لهم فِي نعيم الْآخِرَةِ عن ابى امامة قال قال رسول الله ﷺ من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل وان كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال وان كان قضيبا من أراك رواه مسلم- وفى رواية قالها ثلاثا وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ قيل معناه لا يكلمهم الله كلاما يسرهم ولا ينظر إليهم نظر رحمة والصحيح ان هذا كناية عن الغضب والاعراض فكانّ قوله ﷺ فى حديث عبد الله والأشعث لقى الله وهو عليه غضبان وفى حديث وائل ليلقين الله وهو عنه معرض تفسير لهذين الجملتين وَلا يُزَكِّيهِمْ اى لا يثنى عليهم والظاهر ان معناه لا يغفر الله ذنبه لانه من حقوق العباد وفيه القصاص لا محالة- عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ الدواوين ثلاثة فديوان لا يعبا الله به شيئا وديوان لا يترك الله منه شيئا وديوان لا يغفر الله اما الديوان الذي لا يغفر الله فهو الشرك
واما الديوان الذي لا يعبا الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم تركه او صلوة تركها واما الديوان الذي لا يترك منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة رواه الحاكم واحمد وروى الطبراني مثله من حديث سلمان وابى هريرة والبزار مثله من حديث انس- وان كان الاية فى اليهود فى كتمان نعت النبي ﷺ فعدم المغفرة لاجل كفرهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) على ما فعلوه عن ابى ذر......
76
عن النبي ﷺ قال ثلاثة لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيمة ولا يزكّيهم ولهم عذاب اليم قال فقراها رسول الله ﷺ ثلاثا فقال أبو ذر خابوا وخسروا منهم يا رسول الله قال المسبل إزاره والمنان الذي لا يعطى شيئا الا منة والمنفق سلعته بالحلف الكاذب رواه مسلم واحمد وابو داود والترمذي والنسائي- وعن ابى هريرة عنه ﷺ قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لاخذه بكذا وكذا فصدّقه وهو على غير ذلك ورجل بايع اماما لا يبايعه الا للدنيا فان أعطاه منها وفى وان لم يعط منها لم يف- متفق عليه ورواه احمد والاربعة وفى رواية متفق عليها عنه مرفوعا ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم رجل حلف على سلعة لقد اعطى بها اكثر مما اعطى وهو كاذب ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم ورجل منع فضل مائة فيقول الله اليوم أمنعك فضلى كما منعت فضل ما لم يعمل يداك وعن سلمان نحوه بلفظ شيخ زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشترى الا بيمينه ولا يبيع الا بيمينه رواه الطبراني والبيهقي وروى الطبراني عن عصمة بن مالك عن رسول الله ﷺ نحوه.
وَإِنَّ مِنْهُمْ اى من اهل الكتاب لَفَرِيقاً طائفة وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وحيى بن اخطب وابو ياسر وسفنة بن عمرو الشاعر يَلْوُونَ اى يصرفون أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ اى متلبسا بقراءة الكتاب عن المنزل الى ما حرفوه لِتَحْسَبُوهُ اى لتظنوا ايها المؤمنون ذلك المحرف المفهوم من قوله تعالى يلون كائنا مِنَ الْكِتابِ المنزل وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ المنزل وَيَقُولُونَ اى اليهود تصريحا هُوَ اى ذلك المحرف كائن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فيه تشنيع عليهم وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تأكيد لما سبق يعنى ما هو من الكتاب وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) انه كذب تأكيد بعد تأكيد وتسجيل عليهم بتعمد الكذب على الله قال الضحاك عن ابن عباس ان الاية نزلت فى اليهود والنصارى جميعا وذلك انهم حرفوا التورية والإنجيل والحقوا بكتاب الله ما ليس منه- اخرج إسحاق وابن جرير......
وابن المنذر وابن ابى حاتم والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس قال قال ابو رافع القرظي (حين اجتمعت أحبار اليهود والنصارى من اهل نجران عند رسول الله ﷺ ودعاهم الى الإسلام) أتريد يا محمد ان نعبدك كما تعبد النصارى عيسى قال معاذ الله ان امر بعبادة غير الله ما لذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني فانزل الله تعالى ما كان لبشر الى قوله مسلمون- واخرج عبد فى تفسيره عن الحسن قال بلغني ان رجلا قال يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض افلا نسجد لك قال لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لاهله فانه لا ينبغى ان يسجد لاحد من دون الله فانزل الله تعالى هذه الاية- وقال مقاتل والضحاك كان نصارى نجران يقولون ان عيسى أمرهم ان يتخذوه ربا فانزل الله تعالى.
ما كانَ جائز لِبَشَرٍ يعنى لمحمد ولا لعيسى صلى الله عليهما- والبشر اسم جنس كالانسان ذكرا كان او أنثى واحدا كان او جمعا وقد يثنى كما فى قوله تعالى أنؤمن لبشرين مثلنا ويجمع ابشارا كذا فى القاموس وقال البغوي البشر جميع ابن آدم جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والجيش ويوضع موضع الواحد أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ يعنى الحكمة والسنة او إمضاء الحكم وَالنُّبُوَّةَ «١» ثُمَّ يَقُولَ عطف على يؤتى منصوب بان لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ اى من دون توحيد الله- وفيه اشارة الى ان عبادة غير الله تنافى عبادة الله وعبادته منحصر فى توحيده- وان فى محل الرفع على انه اسم كان يعنى ما كان إيتاء الكتاب والنبوة وبعد ذلك القول بعبادة غير الله جائزا لبشر لمنافاة بين النبوة التي هى دعاء الناس الى الايمان بالله وحده وهذا القول الذي هو دعاء الى الشرك وَلكِنْ عطف على يقول بتقدير القول يعنى ولكن يقول كُونُوا رَبَّانِيِّينَ وجاز ان يكون ولكن كونوا معطوفا على مفهوم ما سبق فانه يفهم منه لا تكونوا قائلين للناس كونوا عبادا لى ولكن كونوا ربانيين مبلغين ما أتاكم ربكم- قال على وابن عباس فى تفسير قوله تعالى كونوا ربانيين كونوا فقهاء علماء وقال قتادة حكماء علماء وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس فقهاء معلمين وقال عطاء علماء حلماء نصحا لله فى خلقه وعن سعيد بن جبير الذي يعمل بعلمه وقال ابو عبيد سمعت رجلا عالما يقول الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهى العارف بانباء الامة ما كان وما يكون وقيل الربانيون فوق الأحبار والأحبار العلماء والربانيون الذين
(١) ترك فى الأصل والنبوة لعله من الناسخ- ابو محمد عفا الله عنه
جمعوا بين العلم والبصارة بين الناس وحاصل الأقوال الرباني الكامل المكمل فى العلم والعمل والإخلاص ومراتب القرب سمى بذلك لانهم يربون العلم ويقومون به ويربون المتعلمين لصغار العلوم قبل كبارها وكل من قام بإصلاح شىء وإتمامه فقد ربه يربه وعن على انه يرب علمه بعمله واحده ربان كما يقال ريان وعطشان ثم ضمت اليه ياء النسبة- وقيل هو منسوب الى الرب بزيادة الالف والنون للمبالغة كاللحيانى لعظيم اللحية والرقبانى لعظيم الرقبة وطويلهما إذ لو أريد النسبة الى اللحية والرقبة بدون المبالغة لقيل لحيى ورقبى- قال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس مات ربانى هذه الامة بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ قرا الكوفيون وابن عامر بالتشديد من التعليم اى يعلمون الناس والباقون بالتخفيف من علم وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) اى تديمون على قراءة الكتاب ويحفظونه وجاز ان يكون معناه تدرسونه على الناس فيكون بمعنى تعلّمون من التعليم- قال فى الصحاح درس الدار معناه بقي اثرها ودرس الكتب والعلم اى تناول اثره بالحفظ- ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن ادامة القراءة بالدرس قال الله تعالى ودرسوا ما فيه وبما كنتم تدرسون يعنى تديمون القراءة وتحفظون وقوله بما كنتم متعلق بقوله كونوا وما مصدرية والمعنى كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين الكتاب ومعلميه الناس دائمين على قراءته وحفظه فان فائدة العلم العمل به وإصلاح نفسه وفائدة التعليم إصلاح غيره وذلك فرع إصلاح نفسه لئلا يخاطب بقوله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون وقوله تعالى أتأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم.
وَلا يَأْمُرَكُمْ قرا نافع وابو جعفر- ابو محمد وابن كثير وابو عمرو والكسائي بالرفع على الاستيناف يعنى ولا يأمركم الله وجاز ان يكون حالا من فاعل يقول يعنى يأمركم بعبادة نفسه والحال انه لا يأمركم بل ينهى من أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً وقرا ابن عامر ويعقوب وخلف- ابو محمد وعاصم وحمزة لا يأمركم بالنصب عطفا على قوله ثم يقول ويكون لا مزيدة لتأكيد معنى النفي فى قوله ما كان لبشر ان يؤتيه الله الكتب والحكم والنّبوّة ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر ان يتخذ الملائكة والنبيين أربابا كما فعل قريش والصابئون حيث قالوا الملائكة بنات الله واليهود والنصارى حيث قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله وجاز ان يكون لا غير......
زائدة والمعنى ليس له ان يأمر بعبادته ولا يأمر بل ينهى باتخاذ اكفائه من الأنبياء والملائكة أربابا أَيَأْمُرُكُمْ استفهام على التعجب والإنكار بِالْكُفْرِ يعنى بعبادة غير الله تعالى بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) بالله تعالى- ان كان الخطاب مع المسلمين المستأذنين السجود للنبى ﷺ كما رواه الحسن فلا غبار عليه وكذا ان كان رد القول النصارى ان عيسى أمرهم ان يتخذوه ربا لانهم كانوا مسلمين فى زمن عيسى عليه السلام واما على تقدير كونه خطابا لليهود والنصارى القائلين أتريد يا محمد ان نعبدك فتأويله ان هذا الخطاب على سبيل الفرض والتقدير يعنى على تقدير ان تسلموا وتنقاد والأمر محمد ﷺ أيأمركم حينئذ بالكفر بعد الإسلام-.
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ أراد ان الله أخذ الميثاق من كل نبى ان يؤمن بمن بعده ويأمر أمته ان يتبعوه وهذا معنى قول ابن عباس وقال على بن ابى طالب لم يبعث الله نبيّا آدم ومن بعده الا أخذ عليه العهد فى امر محمد ﷺ وأخذ العهد على قومه لتؤمنن به ولئن بعث وهم احياء لينصرنه- وقيل معناه أخذ الله ميثاق اهل الكتاب ففى الكلام اما حذف مضاف تقديره أخذ الله ميثاق أولاد النبيّين وهم بنو إسرائيل اهل الكتاب واما سماهم نبيين تهكما لانهم كانوا يقولون نحن اولى بالنبوة من محمد لانا اهل الكتاب والنبيون كانوا منا- واما اضافة الميثاق الى النبيين اضافة الى الفاعل والمعنى إذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم ويؤيده قراءة ابن مسعود وابى بن كعب وإذ أخذ الله ميثاق الّذين أوتوا الكتب والصحيح هو المعنى الاول المنطوق من القراءة المتواترة فاخذ الله الميثاق من موسى ان يؤمن بعيسى ويأمر قومه ان يؤمنوا به ومن عيسى ان يؤمن بمحمد ﷺ ويأمر قومه ان يؤمنوا به ومن ثم قال عيسى يبنى اسراءيل انّى رسول الله إليكم مصدّقا لمّا بين يدىّ من التّورية ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد والقراءة المتواترة لا ينافى قراءة ابن مسعود لان العهد من المتبوع عهد من التابع لَما آتَيْتُكُمْ قرا حمزة بكسر اللام على انها جارة وما مصدرية اى لاجل ايتائى إياكم بعض الكتاب ثم مجيىء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق......
80
لتؤمنن به ولتنصرنه- او موصولة يعنى اخذه للذى اتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له والباقون بفتح اللام توطية للقسم لان أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما حينئذ يحتمل ان يكون شرطية ولتؤمنن به ساد مساد جواب القسم وجزاء الشرط جميعا والمعنى أخذ الله ميثاق النبيين واستحلفهم لئن اتيتكم من كتاب ثم جاءكم رسول مصدق له لتومنن به- ويحتمل ان يكون موصولة مبتدا بمعنى الذي وخبره لتؤمنن به يعنى للذى اتيتكم من كتاب ثم جاءكم رسول مصدق له لتؤمنن به قرا نافع وابو جعفر- ابو محمد آتيناكم على التعظيم كما فى قوله تعالى واتينا داود زبورا والآخرون بالإفراد مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ اى سنة او فقه فى الدين ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما للكتاب الذي جاء مَعَكُمْ جملة ثم جاء عطف على الصلة والعائد فيه الى الموصول مظهر وضع موضع المضمر وهو لما معكم تقديره مصدقا له- قيل المراد بالرسول محمد ﷺ خاصة لكونه مبعوثا الى كافة الأنام وهو المستفاد من قول ابن عمرو ما ذكر من قول على- والصحيح عندى ان اللفظ عام ولا دليل على التخصيص ولا شك ان الايمان بجميع الأنبياء والقول بلا نفرّق بين أحد من رسله واجب على جميع الأمم السابقة واللاحقه وقد قال الله تعالى شرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحا والّذى أوحينا إليك وما وصّينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه وقول على وابن عباس رضى الله عنهما بتخصيص ذكر النبي ﷺ لالزام اهل الكتاب المعاندين فان الكلام معهم انما كان فى امر محمد ﷺ لا غير وليس المقصود من قولهما نفى الحكم عما عداه وجاز ان يكون تخصيص العهد لمحمد ﷺ لاظهار فضله وفى قوله تعالى مصدّقا لما معكم اشارة الى ان تكذيبه يستلزم تكذيب ما معكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ اى بالرسول وَلَتَنْصُرُنَّهُ بانفسكم ان أدركتموه او بامركم بالنصر لمن أدركه من اتباعكم ان لم تدركوه- قال البغوي حين استخرج الله الذرية من صلب آدم والأنبياء فيهم كالمصابيح والسرج أخذ عليهم الميثاق فى امر محمد ﷺ قالَ استيناف بيان لاخذ الميثاق كانه قيل كيف أخذ الله الميثاق- او ناصب لاذ اى قال إذ أخذ الله الميثاق وعلى الاول ناصبه إذ كرع أَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي اى عهدى استفهام تقرير قالُوا اى الأنبياء أو هم والأمم جميعا يوم الميثاق......
81
أَقْرَرْنا قالَ الله للرسل فَاشْهَدُوا على أنفسكم وعلى اتباعكم بالإقرار يوم القيامة وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) عليكم وعليهم وقال سعيد بن المسيب قال الله تعالى لملائكته فاشهدوا عليهم كناية عن غير مذكور
. فَمَنْ تَوَلَّى من اتباع الرسل بَعْدَ ذلِكَ الإقرار وهم اليهود والنصارى فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٤) الخارجون من الايمان الى الكفر هذا صريح فى ان الميثاق كان على النبيين والأمم أجمعين واكتفى بذكر المتبوعين عن الاتباع-.
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ معطوف على فاولئك هم الفاسقون والهمزة توسطت للانكار او على محذوف تقديره أيفسقون فغير دين الله يبغون- او تقديره أيتولون فغير دين الله يبغون وتقديم المفعول للتخصيص والإنكار للمخصص تقديره أتخصصون غير دين الله بالطلب وفيه اشارة الى ان طلب دين الله لا يجامع طلب غير دينه- قرا ابو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم يبغون بالياء على الغيبة نظرا الى قوله فاولئك هم الفاسقون والجمهور بالتاء على الخطاب نظرا الى قوله اتيتكم وقيل تقديره قل لهم أفغير دين الله تبغون قال البغوي ادعى كل من اليهود والنصارى انه على دين ابراهيم واختصموا الى رسول الله ﷺ فقال عليه السلام كلا الفريقين برىء من دين ابراهيم فغضبوا وقالوا لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فانزل الله تعالى أفغير دين الله يبغون وَلَهُ اى لله أَسْلَمَ اى خضع «١» وانقاد- والجملة حال من الله الواقع فى حيز المفعول مَنْ فِي السَّماواتِ اى الملائكة وَالْأَرْضِ اى الجن والانس طَوْعاً اى طائعين باختيارهم وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين انقادوا باختيارهم فيما أمروا به من الأوامر التكليفية والافعال الاختيارية ورضوا بقضاء الله سبحانه وأحبوا ما اجرى عليهم محبوبهم من الأوامر التكوينية وَكَرْهاً اى كارهين «٢» بالسيف او معاينة
(١) اخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس عن النبي ﷺ فى قوله تعالى له اسلم من فى السّموت والأرض طوعا قال اما من فى السموات فالملائكة واما من فى الأرض فمن ولد على الإسلام واما كرها فمن اتى به من سبايا الأمم فى السلاسل والاغلال يقادون الى الجنة وهم كارهون- منه رحمه الله
(٢) قيل هذا يوم الميثاق حين قال الست بربّكم قالوا بلى فقاله بعضهم طوعا وبعضهم كرها وقال قتادة المؤمن اسلم طوعا فنفعه والكافر اسلم كرها فى وقت اليأس فلم ينفعه- وقال الشعبي هو استعاذتهم بالله عن اضطرارهم قال الله تعالى فاذا ركبوا فى الفلك دعوا الله مخلصين له الدين- منه رح [.....]
ما يلجئ الى الإسلام كنتق الجبل وادراك الغرق والاشراف على الموت فى الأوامر التكليفية او مسخرين بلا اختيارهم فى الأوامر التكوينية وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قرا حفص ويعقوب بالياء للغيبة على ان الضمير راجع الى من والجمهور بالتاء للخطاب على نسق تبغون وكذا قرا ابو عمرو مع انه قرا يبغون بالغيبة على طريقة الالتفات او لان الباغين هم المتولون والراجعون جميع «١» الناس-.
قُلْ يا محمد آمَنَّا امر رسوله ان يتكلم عن نفسه على طريقة الملوك إجلالا له- أو أمره ان يخبر عن نفسه وعن متابعيه بالايمان وجاز ان يكون الخطاب لكل مخاطب منهم امر كل واحد ان يخبر عن نفسه وإخوانه المؤمنين بالله وحده وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعنى القران فان كان الكلام اخبارا عن جميع المؤمنين فنزوله عليهم بتوسط تبليغه النبي ﷺ إياهم او يقال المنسوب الى واحد من الجمع قد ينسب إليهم والنزول قد يعدى بالى كما فى سورة البقرة لانه ينتهى الى الرسل وقد يعدى بعلى لانه من فوق وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ يعنى الأنبياء من أولاد يعقوب من الكتب والصحف وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى خصهما بالذكر بعد دخولهما فى الأسباط اما لمزيد فضلهما واما لان المنازعة كانت غالبا مع اليهود والنصارى فلدقع توهم مخالفة موسى وعيسى خصهما بالذكر او المراد بما اوتى الوحى الخفي وبما انزل الوحى الجلى- او المراد بما اوتى من المعجزات والفضائل وَالنَّبِيُّونَ كرر فى البقرة ما اوتى ولم يكرر هاهنا لتقدم ذكر الإيتاء حيث قال لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ عند رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالتصديق والتكذيب وَنَحْنُ لَهُ اى لله مُسْلِمُونَ (٨٤) منقادون-.
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ غير التوحيد والانقياد لحكم الله او المراد غير دين محمد ﷺ الناسخ لجميع الأديان دِيناً تميز وجاز ان يكون مفعولا ليبتغ وغير الإسلام حالا منه مقدما عليه لتنكيره فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لانه غيرما امر الله به وارتضاه وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥) لانه معرض عن الإسلام وطالب لغيره فهو فاقد للنفع واقع فى الخسران بابطال الفطرة السليمة قال
(١) اخرج البيهقي فى الدعوات عن ابن عباس إذا استصعب دابة أحدكم او كان سموسا فليقرأ هذه الاية فى أذنيها أفغير دين الله يبغون الاية- منه رحمه الله
البغوي نزلت هذه الاية وما بعدها فى اثنى عشر رجلا ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا منهم الحارث بن سويد الأنصاري.
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ الى الجنة والثواب استفهام للانكار يعنى لا يهدى الله واستبعاد لهم عن الهداية قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ كما فعل هؤلاء الرجال اثنى عشر وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ عطف على ما فى ايمانهم من معنى الفعل يعنى بعد ان أمنوا وشهدوا- ولك ان تجعل الفعل بمعنى المصدر كما فى قوله تسمع بالمعيدي خير من ان تراه يعنى بعد ايمانهم وشهادتهم وان تقدر زمانا مضافا الى الفعل يعنى بعد ايمانهم وزمان شهدوا- وجاز ان يكون معطوفا على كفروا لان العطف بالواو لا يقتضى الترتيب- وجاز ان يكون الجملة حالا بإضمار قد- وفيه دليل على ان الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الايمان وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ اى الدلائل الواضحة كالقران وسائر المعجزات وَاللَّهُ لا يَهْدِي
طريق الجنة الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) اى الكافرين.
أُولئِكَ مبتدا جَزاؤُهُمْ بدل اشتمال من المبتدا او مبتدا ثان وما بعده خبره والمجموع خبر المبتدا أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ اى غضبه المستلزم لبعده من رحمته وَالْمَلائِكَةِ اى الدعاء منهم بالبعد من الرحمة وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) المراد به المؤمنون منهم او المراد مؤمنهم وكافرهم أجمعين فان الكفار ايضا يلعنون منكرى الحق وان كانوا لا يعرفون الحق بعينه او هم يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة قال الله تعالى يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا.
خالِدِينَ فِيها اى فى اللعنة او فى النار وان لم يجر ذكرها لدلالة الكلام عليها حال من الضمير فى عليهم لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) اى يمهلون.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الارتداد وَأَصْلَحُوا عطف تفسيرى على تابوا اى صاروا صالحين اى مسلمين او أصلحوا ايمانهم وأنفسهم إذ أصلحوا ما أفسدوا فى الأرض فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يقبل توبتهم ويغفر ما فرطوا فى حقوق الله تعالى رَحِيمٌ (٨٩) بهم يدخلهم الجنة- روى النسائي وابن حيان والحاكم عن ابن عباس قال كان رجل من الأنصار اسلم ثم ارتد ثم ندم فارسل الى قومه ان أرسلوا الى رسول الله ﷺ هل لى توبة......
فنزلت قوله تعالى كيف يهدى الى قوله فانّ الله غفور رحيم فارسل اليه قومه فاسلم- واخرج ابن المنذر فى مسنده وعبد الرزاق عن مجاهد قال جاء الحارث بن سويد فاسلم مع النبي ﷺ ثم كفر فرجع الى قومه فانزل الله فيه القران كيف يهدى الله قوما كفروا الى قوله رحيم فحملها اليه رجل من قومه فقراها عليه فقال الحارث انك والله ما علمت لصدوق وان رسول الله ﷺ لا صدق منك وان الله لا صدق الثلاثة فرجع فاسلم فحسن إسلامه-.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال قتادة والحسن نزلت فى اليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد ايمانهم بموسى والتورية ثمّ ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد ﷺ والقران- وقال ابو العالية نزلت فى اليهود والنصارى كفروا بمحمد ﷺ لما رواه بعد ايمانهم بنعته وصفته فى كتبهم ثمّ ازدادوا كفرا اى ذنوبا فى حال كفرهم- وقال مجاهد نزلت فى الكفار أجمعين أشركوا بعد إقرارهم بان الله تعالى خالقهم ثمّ ازدادوا كفرا اى أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه وقال الحسن كلما نزلت اية كفروا به فازدادوا كفرا- وقال الكلبي نزلت فى اصحاب الحارث بن سويد لما رجع الحارث الى الإسلام اقام بقيتهم على الكفر بمكة- وقال بعض الأفاضل المراد بالّذين كفروا ثمّ ازدادوا كفرا المنافقون فان كفرهم زائد على كفر المجاهدين بالكفر لانهم احتملوا مشقة إخفاء الكفر ومشقة الصلاة والصوم مع كمال كراهتهم وهذا نهاية محبة الكفر لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ان كان المراد بالّذين كفروا ما قالوا صاحب الأقوال المتقدمة فمعناه لن تقبل توبتهم من الذنوب ما داموا على الكفر لكن توبتهم من الكفر مقبولة ما لم يغر غرفانه لما افتتح رسول الله ﷺ مكة فمن دخل من اصحاب الحارث بن سويد فى الإسلام قبلت توبته وان كان المراد به المنافقون على ما قال بعض الأفاضل فمعناه لن تقبل توبتهم باللسان مع إصرارهم على الكفر بالجنان وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) عن سبيل الحق.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلم يتوبوا من الكفر حتى ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ يوم القيامة- ادخل الفاء فى خبر ان شبه الذين بالشرط وإيذانا بكون الموت على الكفر سببا لعدم القبول مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ اى قدر......
ما يملؤها ذَهَباً منصوب على التميز يعنى لن يقبل منه ملء الأرض ذهبا فرضنا انه تصدق به فى الدنيا وعدم قبول ما دونها يعلم منه بالطريق الاولى فان الايمان شرط لقبول الصدقات والعبادات بل العبادة لا يكون عبادة الا بالنية المترتبة على الايمان والإخلاص وَلَوِ افْتَدى بِهِ اى يملا الأرض ذهبا فى الاخرة فرضا لا يقبل منه ايضا وجاز ان يكون معناه لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا يفتدى به من عذاب يوم القيامة ولو افتدى بمثله معه كقوله تعالى ولو انّ للّذين ظلموا ما فى الأرض جميعا ومثله معه- والمثل يحذف ويراد كثير الان المثلين فى حكم شىء واحد- وقيل الواو فى ولو افتدى به زائدة مقحمة والمعنى لا يقبل منه ملء الأرض ذهبا لو افتدى به وكون لو هاهنا للوصل لا يستقيم لانه يقتضى كون نقيض الشرط اولى بالجزاء فيكون تقديره لن يقبل من أحدهم ملء الأرض لو لم يفتد به ولو افتدى به كما فى قوله تعالى يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار يعنى يضىء لو مسه النار ولو لم تمسسه وقد يوجه بان المراد من قوله لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لا يقبل منه فدية أصلا لان غاية ان يفتدى ملء الأرض ذهبا وذلك لا يقبل منه فكيف ما هو اقل منه فالمعنى لا يقبل منه فدية أصلا لو لم يفتد بملا الأرض بل باقل منه ولو افتدى به أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مبالغة فى التحذير واقناط لان من لا يقبل منه الفداء قلّما يعفى تكرما وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١) فى دفع العذاب ومن مزيدة للاستغراق عن انس بن مالك عن النبي ﷺ قال يقول الله تعالى لاهون اهل النار عذابا يوم القيامة لو ان لك ما فى الأرض من شىء أكنت تفتدى به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت فى صلب آدم ان لا تشرك بي شيئا فابيت الا ان تشرك بي- متفق عليه.
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ فى القاموس البر الصلة والجنة والخير والاتساع فى الإحسان والصدق والطاعة- قلت البر المضاف الى العبد الطاعة والصدق والاتساع فى الإحسان وضده الفجور والعقوق والبر المضاف الى الله الرضاء والرحمة والجنة وضده الغضب......
86
والعذاب فقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد المراد هاهنا الجنة وقال مقاتل بن حبان التقوى وقيل الطاعة وقيل الخير وقال الحسن لن تكونوا أبرارا يعنى كثير الخير والمتسع فى الإحسان والطاعة- قال البيضاوي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير او لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضاء والجنة- فاللام على الاول للجنس وعلى الثاني للعهد- عن ابن مسعود قال قال رسول الله ﷺ عليكم بالصدق فان الصدق يهدى الى البر والبر يهدى الى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فان الكذب يهدى الى الفجور والفجور يهدى الى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا رواه مسلم واحمد والترمذي- وعن ابى بكر الصديق مرفوعا عليكم بالصدق فانه مع البر وهما فى الجنة وإياكم والكذب فانه مع الفجور وهما فى النار الحديث رواه احمد وابن ماجة والبخاري فى الأدب حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ٥ كلمة من للتبعيض والمراد بما تحبون اصناف المال كلها فان الناس يحبونها ويؤثرونها ويميل اليه القلوب فمن لم ينفق شيئا من الأموال حتى الزكوة المفروضة ما نال البر بل كان فاجرا- فبهذه الاية ثبت فرضية انفاق البعض من كل صنف من المال وثبت انه من كان عنده مال طيب ومال خبيث لا يجوز له الانفاق من الخبيث بدلا من الطيب نظيره قوله تعالى يايّها الّذين أمنوا أنفقوا من طيّبت ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه الّا ان تغمضوا فيه والقدر القليل جدا لا يجزى عن الواجب اجماعا ولان عنوان الاحبية لا يقتضى ذلك- فالاية مجملة فى مقدار الواجب من كل مال والتحق الأحاديث الواردة فى مقادير الزكوة بيانا لها بقي الكلام فى ان الاية تدل على وجوب الزكوة فى كل مال ناميا كان او لا بالغا قدر النصاب او لا فاضلا عن الحاجة الاصلية او لا حال عليه الحول او لا لكن ثبت بالآيات والأحاديث (مثل قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ- وقوله عليه الصلاة والسلام ليس فى العوامل ولا الحوامل ولا العلوفة صدقة- وقوله عليه الصلاة والسلام فى جواب من قال هل علىّ غيرها قال «١» لا الا ان تطوع وقوله عليه الصلاة
(١) فى الأصل لا بغير قال-
87
والسلام لا صدقة الا عن ظهر غنى وغير ذلك-) انه لا زكوة الّا فى السوائم او النقدين او عروض التجارة إذا بلغت نصابا وحال عليه الحول والا فى الزرع والثمار وانعقد عليه الإجماع- فقلنا ان هذه الاية مخصوصة بالبعض- فالمراد بالآية الزكوة كذا روى الضحاك عن ابن عباس وقال مجاهد والكلبي هذه الاية نسختها اية الزكوة وليس هذا القول بشىء لجواز حملها على الزكوة كما سمعت فكيف يجوز القول بالنسخ- ولو كان المراد هاهنا وجوب الانفاق من أحب الأموال كما قيل فذلك لا يقتضى عدم الوجوب فى غير ذلك الأموال ولا على وجوب مقدار سوى مقدار الزكوة فكيف يتصور النسخ على ان هذه الاية مدنية وآيات الزكوة مكيات والله اعلم وفى تعبير الأموال بما تحبون اشارة الى ان كلما كان من الأموال أحب كان إنفاقه فى سبيل أفضل وبدلالة النص يثبت ان الواجب وان كان انفاق البعض لكن من أنفق كل ما هو أحب اليه من الأموال كان ابر الناس وأطوع والله اعلم- وقال الحسن كل انفاق يبتغى به المسلم وجه الله تعالى حتى التمرة ينال به هذا البر ومقتضى قول الحسن ان الانفاق هاهنا يشتمل الانفاق الواجب والمستحب غير ان نفى البر واطلاق الفجور لا يجوز الا عند فقد الانفاق مطلقا حتى الزكوة المفروضة- وقال عطاء لن تنالوا البر يعنى شرف الدين والتقوى حتى تنتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء عن انس بن مالك قال كان ابو طلحة اكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله اليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله ﷺ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال انس فلما نزلت لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون قام ابو طلحة الى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله ان الله تعالى يقول فى كتابه لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون وان أحب أموالي الىّ بيرحاء وانها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت فقال رسول الله ﷺ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت فيها انى ارى ان تجعلها فى الأقربين فقال ابو طلحة افعل يا رسول الله فقسمها ابو طلحة فى أقاربه وبنى عمه- متفق عليه وجاء زيد بن الحارثة بفرس كان يحبه فقال هذا فى سبيل الله فحمل عليه رسول الله ﷺ اسامة بن زيد فقال زيد انما أردت ان أتصدق به فقال......
88
صلى الله عليه وسلم ان الله قد قبله منك أخرجه ابن المنذر عن محمد بن المنكدر مرسلا وفيه ان الفرس يقال له سبيل- ورواه ابن جرير عن عمر بن دينار مرسلا وعن ابى أيوب السجستاني معضلا قال البغوي روى عن مجاهد قال كتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه الى ابى موسى الأشعري ان يبتاع له جارية من سبى جلولا يوم فتحت فدعا بها فاعجبته فقال ان الله عز وجل يقول لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فاعتقها عمر- وعن حمزة بن عبد الله بن عمر قال خطرت على قلب عبد الله بن عمر هذه الاية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال ابن عمر فذكرت ما أعطاني الله عز وجل فما كان اعجب حينئذ شىء الىّ من فلانة هى حرة لوجه الله تعالى وقال لولا انى أعود فى شىء جعلته لله لنكحتها هذه الأحاديث والآثار تدل على ان الانفاق كما يطلق على التصدق يطلق على الاعادة والاقراض والاعتاق ونحو ذلك مما يبتغى به وجه الله ايضا وعلى ان الأفضل الانفاق على اقرب الأقارب وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ محبوب او غيره ومن لبيان ما فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) يعنى ان الله يجازيه على حسب العمل والنية ذكر السبب اعنى العلم موضع المسبب اعنى الجزاء او الثواب للدلالة على ان علم الكريم بإحسان عبده موجب للجزاء والثواب لا محالة وفيه غاية المبالغة فى علمه تعالى حيث لم يقل وما أنفقتم بصيغة الماضي وذكر صيغة المستقبل للدلالة على انه تعالى عالم به قبل إنفاقه صغيرا كان الانفاق او كبيرا- وفيه اشارة الى انه تعالى غنى عن إبداء الانفاق وتحريض على الإخفاء- قال البغوي قالت اليهود لرسول الله ﷺ انك تزعم انك على ملة ابراهيم وكان
ابراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها فلست أنت على ملته فقال النبي ﷺ كان ذلك حلالا لابراهيم فقالوا كلّ ما نحرّمه اليوم كان ذلك حراما على نوح وابراهيم حتى انتهى إلينا وكانوا ينكرون نسخ الاحكام فانزل الله تعالى.
لتكذيبهم كُلُّ الطَّعامِ مصدر بمعنى المفعول معناه تناول الغذاء والمراد هاهنا الغذاء واللام للعهد يعنى كل مطعوم من الطيبات التي حرم فى التورية بظلم من الذين هادوا فلا يشتمل ذلك الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك من الخبائث كالسباع ونحوها كانَ حِلًّا مصدر يقال حل الشيء حلّا نعت به فيستوى فيه المذكر والمؤنث والجمع والواحد......
89
قال الله تعالى لاهنّ حلّ لهم يعنى كان ذلك المطعومات حلالا لِبَنِي إِسْرائِيلَ اى لاولاد يعقوب كما كان حلالا على يعقوب وأبويه ابراهيم وإسحاق إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ يعنى يعقوب عَلى نَفْسِهِ وهى لحوم الإبل وألبانها وذلك لانه كان به عرق النساء فنذر ان شفى الله له لم يأكل أحب الطعام اليه وكان ذلك أحبه اليه أخرجه احمد والحاكم وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا بسند صحيح- وكذا ذكر البغوي عن ابى العالية وعطاء ومقاتل والكلبي وذكر البغوي رواية جويبر عن ابن عباس انه لما أصاب يعقوب عرق النساء وصف له الأطباء ان يجتنب لحمان الإبل فحرمها يعقوب على نفسه وقال البغوي قال الحسن حرم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبد الله عز وجل فسال ربه ان يجيز ذلك له فحرمه الله على ولده وقال عطية انما كان ذلك محرما عليهم بتحريم إسرائيل فانه كان قد قال ان عافانى الله لم يأكله ولد لى ولم يكن محرما عليهم من الله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ الظرف لا يجوز ان يتعلق بحرم إسرائيل كما هو الظاهر إذ لا فائدة حينئذ فى التقييد فان تحريم إسرائيل لا يتصور بعد نزول التورية ولو جعل متعلقا بكان حلا لزم قصر الصفة قبل تمامها فهو متعلق بمحذوف دل عليه ما سبق وهو كانه فى جواب متى كان حلّا وتقديره كان حلّا من قبل ان تنزّل التّورية فلما نزّل التورية حرم عليهم الطيبات بظلمهم قال الله تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وقال وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وقال الكلبي كانت بنوا إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله عليهم طعاما طيبا اوصب عليهم رجزا وهو الموت- وقال الضحاك لم يكن شىء من ذلك حراما عليهم ولا حرمه الله فى التورية وانما حرموه على أنفسهم اتباعا لابيهم ثم أضافوا تحريمه الى الله عز وجل فكذبهم الله- وهذا ليس بشىء حيث قال الله تعالى حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وقال حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما لما فى الصحيحين انه قال رسول الله ﷺ لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها......
90
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(٩٣) امر الله سبحانه رسوله بمحاجتهم بكتابه وتبكيتهم بما فيه من انه قد حرم عليهم بظلمهم ما لم يكن محرما قبل ذلك فبهتوا ولم يأتوا بالتورية- وفيه دليل على نبوته ﷺ وكونه على ملة ابراهيم عليه السلام ورد على اليهود فى منع النسخ.
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
وقال ان الله حرم ذلك على نوح وابراهيم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
اى من بعد لزوم الحجة عليهم بالتورية فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
الذين يكابرون الحق بعد الوضوح-.
قُلْ يا محمد صَدَقَ اللَّهُ فى قوله انّ اولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النّبىّ والّذين أمنوا وكذب اليهود والنصارى فى ادعائهم انهم على دين ابراهيم وانه كان هودا او نصارى فَاتَّبِعُوا يا هؤلاء الذين يبتغون دين ابراهيم مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعنى الإسلام دين محمد وأمته فانه هو ملة ابراهيم اما بناء لكمال مشابهته به او لانه هو ملته فى زمنه- ولم يقل فاتّبعوا ابراهيم لان الواجب اتباع هذا الدين من حيث انه يتبع محمدا ﷺ لا من حيث انه يتبع ابراهيم إذ لم يكن محمد ﷺ مثل أنبياء بنى إسرائيل الذين بعثوا لتبليغ شريعة موسى عليه السلام- والملة كالدين اسم لما شرع الله لعباده على لسان الأنبياء ليتوصلوا بها الى مدارج القرب وصلاح الدارين والفرق بينه وبين الدين ان الملة لا يضاف الا الى النبي الذي يسند اليه ولا يضاف الى الله ولا الى احاد الامة ولا يستعمل الا فى جملة الشرائع دون احاده فلا يقال ملة الله ولا ملتى ولا ملة زيد ولا يقال للصلوة ملة الله كما يقال دين الله- واصل الملة من أمللت الكتاب كذا فى الصحاح حَنِيفاً حال من ابراهيم اى مائلا من الأديان الباطلة الى الدين الحق- والاولى ان يقال مائلا من الافراط والتفريط الى الاعتدال فانه كان فى دين اليهود الافراط والشدة وفى دين النصارى التفريط وَما كانَ ابراهيم مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) تعريض على اليهود والنصارى فانهم كانوا يشركون ومع ذلك كانوا يدعون انهم على دين ابراهيم قال البغوي قالت اليهود للمسلمين بيت المقدس قبلتنا أفضل من الكعبة واقدم وهو مهاجر الأنبياء وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فانزل الله تعالى.
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ......
91
وُضِعَ لِلنَّاسِ اى وضعه الله تعالى لهم قبلة- وقيل وضع للناس يحج اليه- وقال الحسن والكلبي معناه ان أول مسجد ومعبد «١» وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ يعنى المساجد لَلَّذِي اى للبيت الذي بِبَكَّةَ قيل هى مكة نفسها والعرب يعاقب بين الباء والميم يقال نميط ونبيط ولازم ولازب وراتب وراتم وقيل بكة بالباء موضع البيت او هو مع المطاف ومكة بالميم اسم البلد سميت بكة لان الناس يتباكون فيها اى يزدحمون- وقال عبد الله بن زبير لانها تبك أعناق الجبابرة اى يدقها فلم يقصده جبار بسوء الا قصمه الله كاصحاب الفيل واما مكة سميت بها لقلة الماء واختلف العلماء فى معنى أوليته فقال ابن عمرو مجاهد وقتادة والسدى هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض خلقه الله قبل الأرض بألفي عام وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته- وقيل هو أول بيت بنى فى الأرض روى عن على بن الحسين عليه وعلى ابائه السلام ان الله وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور فامر الملائكة ان يطوفوا به ثم امر الملائكة الذين هم سكان الأرض ان يبنوا فى الأرض بيتا على مثاله وقدره فبنوه وسموه الصراح وامر من فى الأرض ان يطوفوا به كما يطوف اهل السماء بالبيت المعمور وروى ان الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام فكانوا يحجونه فلما حجه آدم قالت الملائكة برّ حجك حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام- ويروى عن ابن عباس قال أراد به انه أول بيت بناه آدم فى الأرض أخرجه الارزقى فى تاريخ مكة وفى الصحيحين عن ابى ذر قلت يا رسول الله اىّ مسجد وضع فى الأرض اولا قال المسجد الحرام قلت ثم اىّ قال المسجد الأقصى قلت كم كان بينهما قال أربعون سنة- ثم أينما أدركتك الصلاة فصلها فان الفضل فيه وقيل هو أول بيت بناه آدم فرفع زمن الطوفان- وقيل انطمس فى الطوفان ثم بناه ابراهيم قيل ثم هدم فبناه قوم من جرهم ثم العمالقة ثم قريش اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم والبيهقي انه لما بنى ابراهيم البيت بعد ما رفع زمن الطوفان بوّاه الله مكان البيت فبعث ريحا يقال لها ريح الخجوج لها جناحان ورأس فى صورة حية فكنست لها ما حول الكعبة عن أساس البيت الاول فبناه على الأساس القديم- وقيل المراد انه أول بالشرف دون الزمان
(١) فى الأصل متعبد-
92
يروى ذلك عن على عليه السلام- قال الضحاك أول بيت وضعت فيه البركة حيث قال الله تعالى مُبارَكاً منصوب على الحال اى ذا بركة وكثرة فى الاجر والثواب فان بعض العبادات يختص به كالحج والهدايا والعمرة وما عداها من الصلاة والصوم والاعتكاف يكثر أجرها فيه من سائر الامكنة- ومن ثم قال ابو يوسف رحمه الله من نذر ان يصلى فى المسجد الحرام ركعتين لا يجزئ عنه ان يصلى فى غيره لحديث انس بن مالك قال قال رسول الله ﷺ صلوة الرجل فى بيته بصلوة وصلاته فى مسجد «١» القبائل بخمس وعشرين صلوة وصلاته فى المسجد الذي يجمع فيه بخمس مائة صلوة وصلاته فى المسجد الأقصى بألف صلوة وصلاته فى مسجدى بخمسين الف صلوة وصلاته فى المسجد الحرام بمائة الف صلوة- رواه ابن ماجة- وروى الطحاوي عن عطاء بن الزبير قال صلوة فى مسجدى هذا أفضل من الف صلوة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام وصلوة فى المسجد الحرام أفضل من مائة صلوة فى هذا- وروى عن عبد الله بن الزبير عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه مثله ولم يرفعه- وروى نحوه عن جابر بن عبد الله مرفوعا- وروى ابن الجوزي عن جابر مرفوعا بلفظ وصلوة فى المسجد الحرام أفضل من مائة الف صلوة لكن ابو حنيفة ومحمد رحمهما الله يقولان هذا لفضل محمول على الصلوات المكتوبات خاصة دون النوافل لحديث زيد بن ثابت قال قال رسول الله ﷺ أفضل الصلاة صلوة المرء فى بيته الا المكتوبة متفق عليه- قلت والاعتكاف فى حكم الصلوات المكتوبات لانه تربص فى المسجد لانتظار الصلوات المكتوبات فكانه فيها- وروى ابن الجوزي فى فضائل مكة عن عبد الله بن عدى بن الحمراء انه سمع رسول الله ﷺ يقول وهو واقف بالحرورة فى سوق مكة والله انك لخير ارض الله وأحب ارض الله الى الله عز وجل ولولا انى أخرجت منك ما خرجت وكذا روى ابن الجوزي من حديث ابى هريرة مرفوعا وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٢) لانه قبلتهم وفيه آيات عجيبة تهدى الى الايمان بالله ورسوله عطف على مبركا-.
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ منها ان الطير تطير فلا تعلوا فوقه- ومنها ان الجارحة تقصد صيدا خارج الحرم فاذا دخلت الصيد فى الحرم كفت عنه ومنها مَقامُ إِبْراهِيمَ
(١) فى الأصل فى المسجد القبائل
93
مبتدا محذوف خبره او بدل من آيات بدل البعض من الكل وهو الحجر الذي قام عليه ابراهيم لبناء البيت حين ارتفع البناء وكان فيه اثر قدميه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي فاثر الصخرة الصماء وغوصهما فيها الى الكعبين- وتخصيصها بهذه الاية «١» من بين الصخار وبقاؤه دون اثار سائر الأنبياء وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة كل ذلك اية- ومن ثم قيل ان مقام ابراهيم عطف بيان للايات وقيل أراد بمقام ابراهيم جميع الحرم وَمَنْ دَخَلَهُ اى الحرم كانَ آمِناً من القتل والنهب جملة ابتدائية او شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام ابراهيم يعنى آيات بينات منها مقام ابراهيم ومنها الامن لمن دخل الحرم فان العرب فى الجاهلية كانت تقتل بعضهم بعضا وتغير بعضهم على بعض ومن دخل الحرم لا يتعرضونه كذا قال الحسن وقتادة واكثر المفسرين نظيره قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ- وقال ابو حنيفة رحمه الله معناه من دخله كان أمنا لا يجوز قتله- فمن وجب عليه القتل «٢» قصاصا او حدا خارج الحرم فالتجا الى الحرم لا يستوفى منه لكنه لا يطعم ولا يبائع ولا يشارى حتى يخرج فيقتل كذا قال ابن عباس وقال الشافعي وغيره يستوفى منه القصاص وان دخل فيه واما إذا ارتكب الجريمة فى الحرم يستوفى منه عقوبته اتفاقا ومر فى تفسير قوله تعالى وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ انه لا يجوز فى الحرم البداية فى القتال مع الكفار ايضا فلو غلب الكافرون ودخلوا الحرم والعياذ بالله أخرجهم بالأيدي او ضربهم بالسياط ونحوها او حاصرهم وحبس عنهم الطعام والشراب حتى يخرجوا عن الحرم فيقاتلهم او يبتدءون بالقتال فيقاتلهم ثمه- فهذه الاية خبر بمعنى الأمر يعنى من دخله فامّنوه كقوله تعالى فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ يعنى لا ترفثوا ولا تفسقوا- وقيل معناه من دخله معظما له متقربا الى الله عز وجل كان أمنا يوم القيامة من العذاب- اخرج ابو داود الطيالسي فى مسنده والبيهقي فى شعب الايمان من حديث انس والطبراني فى الكبير والبيهقي فى الشعب من حديث سلمان والطبراني فى الأوسط من حديث جابر والدارقطني فى سننه من حديث حاطب انه قال رسول الله ﷺ من مات فى أحد الحرمين
(١) فى الأصل الا لاية
(٢) فى الأصل قتل-
94
بعث يوم القيامة أمنا من النار- واخرج الحارث بن ابى اسامة فى مسنده عن سالم بن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله ﷺ ابعث يوم القيامة بين ابى بكر وعمر ثم اذهب الى اهل بقيع الغرقد فيبعثون معى ثم انظر الى اهل مكة حتى يأتونى فابعث بين اهل الحرمين- واخرج ابو نعيم فى دلائل النبوة عن سالم عن أبيه موصولا واخرج الخطيب عن ملك عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ احشر يوم القيامة بين ابى بكر وعمر حتى اقف بين الحرمين فيأتى اهل المدينة واهل مكة وَلِلَّهِ اى استقر له وافترض عَلَى النَّاسِ المراد بالناس الأحرار العقلاء البالغون فلا يجب الحج على المجانين والصبيان لعدم اهليتهم للخطاب ولا على العبيد بالإجماع فلو حج الكافر او الصبى العاقل او العبد ثم اسلم الكافر وبلغ الصبى وأعتق العبد يجب عليه حجة الإسلام ثانيا بالإجماع وسند الإجماع حديث ابن عباس ايّما صبى حج ثم بلغ الحنث فعليه ان يحج حجة اخرى وأيما أعرابيّ حج ثم هاجر فعليه ان يحج حجة اخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة اخرى رواه الحاكم والمراد بالأعرابي الذي لم يهاجر من لم يسلم فان مشركى العرب كانوا يحجون قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ورواه ابن ابى شيبة فذكر نحوه وروى ابو داود مرسلا عن محمد بن كعب القرظي وفى الباب عن جابر وسنده ضعيف وهذه الأحاديث تلقته الامة بالقبول وانعقد على مقتضاه الإجماع فجاز به تخصيص الكتاب حِجُّ الْبَيْتِ قرا ابو جعفر وحمزة وخلف- ابو محمد والكسائي وحفص بكسر حاء حجّ البيت فى هذا الحرف خاصة والباقون بالفتح والكسر لغة نجد والفتح لغة اهل الحجاز وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد وفى المدارك ان بالكسر اسم وبالفتح مصدر- والحج فى اللغة القصد والمراد هاهنا عبادة مخصوصة فيها إجمال التحق بيانه بفعل رسول الله ﷺ وبالآيات مثل قوله تعالى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وقوله تعالى وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ونحو ذلك (مسئلة) اجمع الامة على ان الحج أحد اركان الإسلام فرض على الأعيان عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ بنى الإسلام على خمس شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكوة والحج وصوم رمضان متفق عليه وفى الباب أحاديث كثيرة «١» مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ اى الى البيت سَبِيلًا الموصول بدل من الناس
(١) عن عمرانه قال لو ترك الناس الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة- الزكوة- منه رحمه الله
95
بدل البعض خصص له فلا يجب الحج على غير المستطيع والسبيل الطريق منصوب على المفعولية واليه حال منه مقدم عليه والمراد به الذهاب على طريقة جرى النهر يعنى من استطاع ذهابا الى البيت ولاجل قصر الحكم على المستطيع اجمع العلماء على انه يشترط لوجوب الحج ان يكون الطريق أمنا والمنازل الماهولة معمورة يوجد فيه الزاد والماء وعند فوات الا من لا يجب الحج وكون البحر «١» بينه وبين مكة إذا كانت السلامة غالبة لا يمنع وجوب الحج عندهم خلافا لاحد قول الشافعي وكذلك يشترط عند ابى حنيفة ومالك الصحة فلا يجب عندهما على الضعيف والزمن وان كان له مال يمكن ان يستنيب من يحج عنه لانه غير مستطيع بنفسه والحج عبادة بدنية والمقصود من العبادات البدنية اتعاب النفس فلا يحصل مقصوده بالاستنابة وقال الشافعي واحمد هو مستطيع بماله قال البغوي يقال فى العرف فلان مستطيع لبناء داروان كان لا يفعله بنفسه وانما يفعله بماله وباعوانه- قلنا هو غير مستطيع على الحج الذي هو عبارة عن اركان مخصوصة وانما هو مستطيع على الانفاق والمقصود فى البناء ليس إتيانه بنفسه بخلاف العبادات البدنية فلا يجرى فيه ذلك العرف واحتج الشافعي واحمد بحديث ابن عباس رضى الله عنهما قال كان الفضل ردف النبي ﷺ فجاءت امراة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر اليه وجعل النبي ﷺ يصرف وجه الفضل الى الشق الاخر فقالت يا رسول الله ان فريضة الله على عباده فى الحج أدركت ابى شيخا كبيرا لا يستطيع ان يمسك على الرحل أفأحج عنه قال نعم وفى رواية لا يستطيع ان يستوى على الراحلة فهل تقضى عنه ان أحج عنه قال نعم وذلك فى حجة الوداع- متفق عليه والجواب انه حديث احاد لا يجوز به نسخ الكتاب المقتضى لاشتراط الاستطاعة وقد قيل فى الجواب ان معناه فريضة الله على عباده فى الحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف ابى بصفة عدم الاستطاعة افاحج عنه اى هل يجوز لى ذلك او هل فيه اجر ومنفعة له فقال نعم وتعقب بان فى بعض ألفاظه والحج مكتوب عليه ونحوه وأجيب بانه لو صح تلك الألفاظ فهو ظن من امراة ظنت ظنا وتعقب بان النبي ﷺ أجابها عن سوالها ولو كان ظنها
(١) وفى فتاوى قاضيخان مذهب ابى حنيفة انه لو كان بينه وبين مكة بحر فهو مخوف الطريق يعنى لا يفترض عليه الحج وجيحون وسيحون والدجلة والفرات انهار وليست ببحار- منه رحمه الله
96
غلطا لبينه لها وأجيب بانه انما أجابها عن سوالها افاحج عنه فقال حجى عنه لما راى من حرصها على إيصال الخير والثواب لابيها ويؤيده ما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس فزاد فى الحديث حجى عن أبيك فان لم تزده خيرا لم تزده شرا- لكن جزم الحفاظ بانها رواية شاذة والاولى ان يحمل الحديث على من استقر فى ذمته صحيحا ثم طرا عليه ضعف وزمانة فانه لا يسقط عنه الحج بل يجب عليه ان يحج عنه غيره من ماله ما دام حيّا او يوصى به عند موته وإذا مات ولم يحج يحج عنه وارثه او يحج عنه أجنبيا من ماله ان شاء فالحج عن الغير قضاء بمثل غير معقول ثبت بهذا الحديث كما ثبت الفدية عن الصوم فى حق الشيخ الفاني بنص الكتاب- وافتراض الحج كان عام الحديبة سنه بقوله تعالى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وهذه قصة حجة الوداع فلعل أباه ضعف فى تلك السنين بعد الوجوب والله اعلم وكذا يشترط البصارة عند ابى حنيفة فلا يجب الحج على الأعمى وان وجد قائدا لأنه غير مستطيع بنفسه والاستطاعة بالغير غير معتبر عنده وقال ابو يوسف ومحمد والجمهور الأعمى إذا وجد قائدا يجب عليه الحج وكذا الخلاف فى وجوب الجمعة على الأعمى ولاجل اشتراط الاستطاعة يشترط عند ابى حنيفة فى حق المرأة ان يكون معها زوجها او ذو محرم منها إذا كان بينها وبين مكة ثلاثة مراحل وقال احمد يشترط ذلك مطلقا طال المسافة او قصرت فان لم يكن لها رجل كذلك او كان ولا يخرج معها او كان لا يخرج معها الا بأجرة وهى لا تقدر على الاجرة لا يجب عليها الحج وذلك لانها ممنوعة عن السفر الا ومعها زوجها او ذو محرم منها والمهجور شرعا كالمهجور عادة فصارت غير مستطيعة- وجه قول ابى حنيفة فى اشتراط مسافة ثلاثة ايام حديث ابن عمر عن النبي ﷺ قال لا تسافر المرأة ثلاثا الا معها ذو محرم- متفق عليه وفى رواية لمسلم لا يحل لامراة تؤمن بالله واليوم الاخر تسافر مسيرة ثلاث «١» ليال الا ومعها ذو محرم- وفى رواية فوق ثلاث وفى الباب مقيدا بثلاثة ايام حديث ابى هريرة رواه مسلم والطحاوي- وفى رواية للطحاوى فوق ثلاث ليال- وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ ثلاثة ايام رواه الطحاوي- وحديث ابى سعيد الخدري رواه مسلم والطحاوي بلفظ ثلاثة ايام فصاعدا- وفى رواية لمسلم بلفظ فوق ثلاث وبلفظ اكثر من ثلاث- وقال احمد التقييد بالثلاث او اكثر من
(١) فى الأصل ثلاثة
97
الثلاث اتفاقي مع ان المفهوم غير معتبر عند ابى حنيفة فكيف يستدل به على اباحة السفر فيما دون ذلك ولو كان احترازيا لتعارض رواية ثلاث برواية فوق ثلاث ووجه قول احمد فى المنع فى ما دون الثلاث انه وقع فى الصحيحين حديث ابى هريرة بلفظ مسيرة يوم وليلة وفى رواية لمسلم مسيرة يوم وفى لفظ له مسيرة ليلة وفى حديث ابى سعيد الخدري عند مسلم وغيره مسيرة يومين وعند الطحاوي مسيرة ليلتين وفى حديث ابى هريرة عند ابى داود والطحاوي لا تسافر المرأة بريدا الا مع زوج او ذى رحم محرم ورواه ابن حبان فى صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم- وللطبرانى فى معجمه ثلاثة أميال فظهران التقييد بيوم او يومين او ثلاثة ايام ليس الا تمثيلا لاقل الاعداد واليوم الواحد أول العدد واقله والبريد مرحلة واحدة غالبا والاثنان أول الكثير واقله والثلاث أول الجمع واقله وقد ورد من الأحاديث بلا تقييد منها حديث ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ لا تسافر المرأة الا مع ذى محرم ولا يدخل عليها رجل الا ومعها محرم فقال رجل يا رسول الله انى أريد ان اخرج فى جيش كذا وكذا وامراتى تريد الحج قال اخرج معها- متفق عليه- وفى الباب حديث ابى سعيد الخدري وابى هريرة- وقال الشافعي جاز للمرءة ان تخرج للحج مع نساء ثقات وفى رواية مع امراة واحدة ثقة وإذا خرجت مع نساء ثقات يشترط ان يكون مع إحداهن ذو محرمها- وفى المنهاج انه لا يشترط ذلك وفى رواية عن الشافعي جاز لها الخروج من غير نساء وقال مالك لتخرج للحج جماعة من النساء ان كان الطريق أمنا والحجة عليهما ما روينا- والمراد بالاستطاعة الاستطاعة على سفر معتاد بحيث لا يلحقه حرج ومن ثم يشترط عند الجمهور ان يكون له زاد وراحلة فاضلا عما لا بد منه وعن الديون وعن نفقة عياله الى حين عوده فان المشغول بالحاجة الاصلية كالمعدوم ولذا لا يجب فيه الزكوة ومن لا زاد له اولا راحلة له لا يستطيع السفر غالبا والحرج مدفوع فى الشرع «١» وقال داود لا يشترط لوجوب الحج زاد ولا راحلة- وقال مالك ان كان هو ممن له عادة بالسؤال
(١) وان كان الا فاقى فقيرا وتبرع ولده بالزاد والراحلة لا يثبت بها الاستطاعة خلافا للشافعى وان كان المتبرع أجنبيا له فيه قولان وقيل فى الأجنبي لا يثبت الاستطاعة قولا واحدا وله فى الولد قولان- فتاوى قاضيخان- منه رحمه الله
98
او كان يمكنه ان يكتسب فى الطريق لا يشترط له الزاد وان كان قادرا على المشي لا يشترط له الراحلة وقد قال الله تعالى وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ قلنا الواقع فى جواب الأمر يكون اخبارا عن الواقع ولا يكون دليلا على وجوب الحج بلا راحلة والقدرة على المشي امر خفى وقد يزول القدرة فى أثناء الطريق فلا بد من اشتراط زاد وراحلة من ابتداء السفر كيلا يفضى الى الهلاك- واحكام الشرع عامة الا ترى انه يجوز للسلطان قصر الصلاة وإفطار الصوم فى مسافة السفر مع عدم المشقة ولا يجوز لمن يشق عليه الصوم فى ادنى من مسافة السفر- والحجة للجمهور حديث انس عن النبي ﷺ فى قوله تعالى مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قيل يا رسول الله ما السبيل قال الزاد والراحلة «١» - رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين- ورواه الحاكم من طريق حماد بن سلمة وقال صحيح على شرط مسلم ورواه سعيد بن منصور فى سننه من طرق اخر صحيحة عن الحسن مرسلا- ورواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر قام رجل الى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله ما يوجب الحج قال الزاد والراحلة قال الترمذي حسن لكن فيه ابراهيم بن يزيد الجوزي المكي قال احمد والنسائي متروك الحديث ورواه ابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عباس ان رسول الله ﷺ قال الزاد والراحلة- يعنى فى تفسير هذه الاية وسنده ضعيف ورواه الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله ومن حديث على بن ابى طالب وابن مسعود وعائشة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وطرقها كلها ضعيفة- ومن الحجة على وجوب التزود فى الحج قوله تعالى وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى - روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال كان اهل اليمن يحجون فلا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فاذا قدموا مكة سألوا الناس فانزل الله تعالى
(١) قال بعض العلماء ان كان الرجل تاجرا يعيش بالتجارة فملك مقدار ما لو رقع منه الزاد والراحلة لذهابه وإيابه ونفقة أولاده وعياله من وقت خروجه الى وقت رجوعه ويبقى له بعد رجوعه رأس مال التجارة التي كان يتجربها كان عليه الحج والا فلا- وان كان صاحب ضيعة ان كان له من الضياع ما لو باع مقدار ما يكفى الزاد والراحلة ذاهبا وجائيا ونفقة عياله وأولاده ويبقى له من الضيعة قدر ما يعيش بغلة الباقي يفترض عليه الحج والا فلا- وان كان حرّاثا أكارا فملك مالا يكفى الزاد والراحلة ذاهبا وجائيا ونفقة أولاده وعياله من خروجه الى رجوعه ويبقى له آلات الحراثين من البقر ونحو ذلك كان عليه الحج والا فلا- فتاوى قاضيخان منه رحمه الله-
99
وَتَزَوَّدُوا الاية- وَمَنْ كَفَرَ يعنى أنكر وجوب الحج كذا قال ابن عباس والحسن وعطاء- اخرج عبد بن حميد فى تفسيره عن نقيع قال قرا رسول الله ﷺ هذه الاية فقام رجل من هذيل فقال يا رسول الله فمن تركه فقد كفر قال من تركه لا يخاف عقوبته ولا يرجو ثوابه- نقيع تابعي فالحديث مرسل- وقال سعيد بن المسيب نزلت فى اليهود حيث قالوا الحج الى مكة غير واجب واخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن الضحاك مرسلا انه لما نزل صدر الاية جمع رسول الله ﷺ ارباب الملل فخطبهم وقال ان الله كتب عليكم الحج فحجوا فامنت به ملة واحدة يعنى المسلمين وكفرت به خمس ملل يعنى المشركين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس فنزل وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ- واخرج سعيد بن منصور عن عكرمة قال لما نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً الاية قالت اليهود فنحن مسلمون فقال لهم النبي ﷺ ان الله فرض على المسلمين حج البيت فقالوا لم يكتب علينا وأبوا ان يحجوا فانزل الله وَمَنْ كَفَرَ الاية- والظاهر انه وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتغليظا على تاركه ومعنى كفر انه لم يشكر المنعم على صحة جسمه وسعة رزقه وهذان التأويلان جاريان فى حديث ابى امامة ان النبي ﷺ قال من لم تحبسه حاجة ظاهرة او مرض حابس او سلطان جائر ولم يحج فليمت ان شاء يهوديا وان شاء نصرانيا رواه البغوي والدارمي فى مسنده وأورده ابن الجوزي فى الموضوعات وتعقبه الحفاظ وحديث على عليه السلام من ملك زادا وراحلة يبلغه الى بيت الله ولم يحج فلا عليه ان يموت يهوديا او نصرانيا رواه الترمذي وضعفه فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) أكد الله سبحانه امر الحج فى هذه الاية بوجوه ١ بالدلالة على وجوبه بصيغة الخبر- ٢ وابرازه فى صورة الاسمية- و ٣ إيراده على وجه يفيد انه حق واجب لله فى رقاب الناس- ٤ وتعميم الحكم اولا وتخصيصه ثانيا فانه كايضاح بعد إبهام وتكرير للمراد- ٥ وتسمية ترك الحج كفرا من حيث انه فعل الكفرة- ٦ وذكر الاستغناء فانه فى هذا الموضع يدل على المقت والخذلان- ٧ ووضع المظهر بلفظ عام شامل لمرجع الضمير موضعه لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان والاشعار بعظم السخط......
100
والله اعلم- واضافة الحج الى البيت يقتضى ان سبب وجوب الحج هو البيت ولذا لا يتكرر الحج فى العمر لعدم تكرر البيت- قال رسول الله ﷺ الحج مرة فمن زاد فتطوع- رواه احمد والنسائي- والبيت عبارة عن لطيفة ربانية فى بعد موهوم مهبط لتجليات ذاتية مختصة به وليس اسما لسقف او جدارا وحجر او تراب الا ترى انه لو نقل الحجارة والتراب الى موضع اخر وترك ذلك المكان خاليا او بنى بناء اخر لا يجوز السجود الى موضع اخر بل الى تلك العرضة الشرقاء فصورة الكعبة مع كونها من عالم الخلق امر مبطن لا يدركه حس ولا خيال بل هو مع كونه من المحسوسات ليس بمحسوس وكونه فى جهة ليس له جهة متمثل ولا مثل له هذا شأن صورت الكعبة فما ادراك ما حقيقتها سبحان من جعل الممكن مراءة للوجوب- وجعل العدم مظهرا للوجوب والوجود- وفوق حقيقة الكعبة حقيقة القران وفوق ذلك حقيقة الصلاة وهناك ينتهى سير السالك بتوسط النبي ﷺ وتحصل فى تلك المقامات الفناء والبقاء وفوق ذلك مقام المعبودية الصرفة لا مجال للسير هناك الا بالنظر قف يا محمد فان الله يصلى كناية عن ذلك المقام والله هو العلام.
قُلْ يا محمد يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ السمعية والعقلية الدالة على صدق محمد ﷺ فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره وتخصيصهم بالخطاب لان كفرهم مع علمهم بالكتاب أقبح وَاللَّهُ شَهِيدٌ والحال انه مطلع عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٠) من الكفر والتحريف فيجازيكم عليها ولا ينفعكم استسرار الحق.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ تمنعون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعنى عن الإسلام الذي هو الموصل اليه تعالى شأنه مَنْ آمَنَ يعنى أراد الايمان منصوب على المفعولية من تصدون يعنى تصدون عن الايمان من أراد ان يؤمن كرر الخطاب والاستفهام مبالغة فى التقريع ونفى العذر واشعارا بان كل واحد من الامرين مستقبح فى نفسه مستقل باستجلاب العذاب تَبْغُونَها اى السبل عِوَجاً اى معوجة مصدر بمعنى المفعول او المعنى تبغون لها عوجا اى اعوجاجا- وجملة تبغون حال من فاعل تصدون- وكانت اليهود يلبسون على الناس الحق بتحريف صفة النبي ﷺ والقول بان دين موسى مؤبد-......
وبما يحرشون بين المؤمنين ليختلف كلمتهم ويأتون الأوس والخزرج ويذكّرونهم ما كان بينهم فى الجاهلية من العداوة وَأَنْتُمْ شُهَداءُ على ما تعملون او على ما فى التورية مكتوبا عندكم من نعت محمد ﷺ وان دين الله هو الإسلام وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) وتختانون فى صد المؤمنين عن الايمان اخرج ابن إسحاق وابو الشيخ وابن جرير عن زيد مرسلا وذكره البغوي انه مرّ شمّاس بن قيس اليهودي وكان شيخا عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين على نفر من الأوس والخزرج فى مجلس جمعهم يتحدثون فغاظه ما راى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم فى الإسلام بعد ان كان بينهم فى الجاهلية من العداوة وقال ما اجتمع ملا بنى قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذ اجتمعوا بها من قرار فامر شابّا من اليهود كان معه فقال اعمد إليهم واجلس معهم ثم ذكّرهم يوم بعاث وما كان قبله وانشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الاشعار وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج وكان الظفر فيه للاوس على الخزرج فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قبطى أحد بنى حارثة من الأوس وجبار بن صخر أحد بنى سلمة من الخزرج فتقاولا ثم قال أحدهم لصاحبه ان شئتم والله رددتها الان جذعة وغضب الفريقان جميعا وقالا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة وهى حرة فخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضها الى بعض على دعواهم التي كانوا عليها فى الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين فقال يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وانا بين أظهركم بعد إذ كرّمكم الله فى الإسلام وقطع به عنكم امر الجاهلية والف بينكم ترجعون الى ما كنتم عليه كفارا الله الله فعرف القوم انها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فالقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانقوا بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله ﷺ سامعين مطيعين فانزل الله تعالى فى أوس وجبار ومن كان معهما.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعنى الأنصار إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى شماسا وأصحابه يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ بالله ونبيه والقران كافِرِينَ (١٠٠) يعنى على اعمال......
الكفر قال زيد فقال جابر فما رايت قط يوما أقبح اولا واحسن آخرا من ذلك اليوم- ونزل فى شماس بن قيس يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ الاية خاطب الله المؤمنين بنفسه وامر رسوله بخطاب اهل الكتاب إجلالا للمؤمنين واشعارا بانهم أحقاء بان يكلمهم الله واخرج الفرياني وابن ابى حاتم عن ابن عباس قال كانت الأوس والخزرج فى الجاهلية بينهم شر فبينما هم جلوس ذكروا ما بينهم حتى غضبوا وقام بعضهم الى بعض بالسلاح فنزلت.
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ عطف على يردّوكم والاستفهام للتعجب والإنكار وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ على لسان الرسول غضة طرية يعنى القران وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ينهاكم ويعظكم ويزيح شبهكم يعنى والحال ان الأسباب الداعية الى الايمان المانعة من الكفر مجتمعة لكم قال قتادة فى هذه الاية علمان بينان كتاب الله ونبى الله اما نبى الله فقد قضى واما كتاب الله فابقاه الله رحمة منه ونعمة قلت ولكن نبى الله ﷺ أرشدنا الى من ينوبه يعده من خلفائه الى يوم القيامة عن زيد بن أرقم قال قام فينا رسول الله ﷺ ذات يوم خطيبا فحمد الله واثنى عليه ثم قال اما بعد ايها الناس انما انا بشر يوشك ان يأتيني رسول ربى فاجيبه وانى تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال واهل بيتي أذكركم الله فى اهل بيتي أذكركم الله فى اهل بيتي- وفى رواية كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة رواه مسلم- ورواه الترمذي بلفظ انى تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الاخر كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض وعترتى اهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفونى فيهما- وروى الترمذي عن جابر قال رايت رسول الله ﷺ فى حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فيقول يا ايها الناس انى تركت فيكم ما ان أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتى اهل بيتي- قلت أشار النبي ﷺ الى اهل البيت لانهم اقطاب الإرشاد فى الولايات أولهم على عليه السلام ثم ابناؤه الى الحسن العسكري وآخرهم غوث الثقلين محى الدين عبد القادر الجيلي رضى الله عنهم أجمعين لا يصل أحد من الأولين والآخرين الى درجة الولاية الا بتوسطهم كذا قال المجدد رضى الله عنه......
ثم اولياء امة النبي ﷺ وعلماؤها كلهم اتباع لاهل البيت داخلون فيهم بحكم الوراثة قال رسول الله ﷺ العلماء ورثة الأنبياء وَمَنْ يَعْتَصِمْ اصل العصمة المنع فكل مانع شيئا فهو عاصم والاعتصام ان يتمسك بشىء حتى يمتنع عن الهلاك بِاللَّهِ اى بدينه وبدوام التوجه اليه فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) طريق واضح لا يضل سالكه ابدا- قال البغوي قال مقاتل بن حبان كانت بين الأوس والخزرج عداوة فى الجاهلية وقتال حتى هاجر النبي ﷺ الى المدينة فاصلح بينهم فافتخر بعده منهم رجلان ثعلبة بن غنم من الأوس واسعد بن زرارة من الخزرج فقال الأوس منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ومنا حنظلة غسيل الملائكة وعاصم بن ثابت بن أفلح حمى الدبر ومنا سعد بن معاذ اهتز عرش الرحمن له ورضى الله بحكمه فى بنى قريظة- وقال الخزرجي منا اربعة احكموا القران أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وابو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم وجرى الحديث بينهما فغضبا وانشدا الاشعار وتفاخرا «١» فجاء الأوس والخزرج ومعهم السلاح فاتاهم النبي ﷺ وانزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ اصل تقاة وقية قلبت واوها المضمومة تاء كما فى تودة وتخمة والياء الفا لانفتاحها بعد حرف صحيح ساكن وموافقة الفعل- اخرج عبد الرزاق والفرياني وابن جرير وابن ابى حاتم وابن مردوية فى تفاسيرهم والطبراني فى المعجم والحاكم فى المستدرك وصححه وابو نعيم فى الحلية عن ابن مسعود موقوفا وقال ابو نعيم روى عنه مرفوعا ايضا هو ان يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى- وقال البغوي قال ابن مسعود وابن عباس هو ان يطاع فلا يعصى وهذا إجمال ما ذكر- قلت اما قوله يذكر فلا ينسى فمناطه فناء القلب واما قوله يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر فمناطه فناء النفس واطمينانه والايمان الحقيقي- فمقتضى هذه الاية وجوب اكتساب كما لات الولاية وكذا يقتضيه سبب نزوله فان تفاخر الأوس والخزرج انما كان من بقايا رذائل النفس فامروا بتهذيبها وتطهيرها عن الرذائل وتحلية القلب والنفس بمكارم الأخلاق وخشية الله ودوام الذكر-
(١). في الأصل وتفاخروا.
104
وقال مجاهدان تجاهدوا فى سبيل الله حق جهاده ولا يأخذكم فى الله لومة لائم وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وابائكم وأبنائكم- وعن انس قال لا يتقى الله عبد حق تقاته حتى يحزن لسانه- قلت وقول مجاهد وانس بيان للطريق الموصل الى كمالات الولاية فان الرياضات والمجاهدات بقلة الطعام والمنام مع الذكر على الدوام وحفظ اللسان عن فضول الكلام المستلزم للعزلة وقلة المخالطة مع العوام وترك مبالاة الناس فى رعاية حقوق الملك العلام هى الطريقة الموصلة الى تلك الكمالات- قال البغوي قال اهل التفسير فلما نزلت هذه الاية شق ذلك عليهم فقالوا يا رسول الله ومن يقوى على هذا فانزل الله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فنسخت هذه الاية- قال مقاتل ليس فى ال عمران من المنسوخ الا هذه الاية- قلت ليس المراد منه ان ان حق التقوى صار منسوخا وجوبه كيف ورذائل النفس من الكبر والغضب فى غير محله والحسد والحقد والنفاق وسوء الأخلاق وجب الدنيا وقلة الالتفات الى الله واشتغال القلب بغيره ما زال حراما ولا يتصور نسخ حرمتها حتى تصير مباحة- بل المراد منه ان ازالة رذائل النفس دفعة ليست فى مقدور البشر بل يتوقف ذلك جريا على عادة الله تعالى على مصاحبة ارباب القلوب والنفوس الزاكية والمجاهدات المذكورة فالله سبحانه رخص لعباده فى ذلك وأوجب عليهم بذل الجهد فى تزكية النفس وتصفية القلب ما استطاع فمن اعرض عن ذلك بالكلية والتفت الى الشهوات فعليه اثم الرذائل كلها إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ومن اشتغل فى طلب الطريقة وبذل جهده فى دفع الرذائل ومات قبل تحصيل الكمالات فقد اتى بما وجب عليه وأرجو ان يغفر له ما ليس فى وسعه والله اعلم وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) بالإسلام الحقيقي المنقادون لله تعالى فى أوامره ونواهيه مخلصون له مفوضون أموركم اليه راضون بقضائه يعنى لا تكونن على حال سوا حال الإسلام حتى يدرككم الموت فالنهى عن الفعل المقيد بحال او وصف او غيرهما قد يتوجه بالذات الى الفعل نحو لا تزن فى ارض الله وقد يتوجه الى القيد كما فى هذه الاية وقد يتوجه الى المجموع دون كل واحد منهما نحو لا تأكل السمك وتشرب اللبن وقد يتوجه الى كل واحد منهما نحو لا تزن حليلة جارك- عن ابن عباس رضى الله......
105
عنهما قال قال رسول الله ﷺ يا ايّها النّاس اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ الاية فلو ان قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لامرّت على اهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامه وليس له طعام غيره رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح-.
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ يعنى بدين الإسلام قال الله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها او بكتابه لقوله ﷺ كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض وقد مرّ استعار له الحبل من حيث ان التمسك به سبب للنجاة عن التردي فى النار كما ان التمسك بالحبل سبب للنجاة عن التردي من فوق وللوثوق به والاعتماد عليه بالاعتصام ترشيحا للمجاز جَمِيعاً حال من فاعل اعتصموا او من مفعوله اعنى بحبل الله او منهما جميعا فعلى تقدير كونه حالا من الفاعل معناه حال كونكم مجتمعين فى الاعتصام يعنى خذوا فى تفسير كتاب الله وتأويله ما اجتمع عليه الامة ولا تذهبوا الى خبط آرائكم على خلاف الإجماع عن ابى هريرة ان رسول الله ﷺ قال ان الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم ان تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وان تعتصموا بحبل الله جميعا وان تناصحوا من ولى الله أمركم- ويسخط لكم قيلا «١» وقالا واضاعة المال وكثرة السؤال- رواه مسلم واحمد- وعن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ ان الله لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ فى النار رواه الترمذي- وعنه قال قال رسول الله ﷺ اتبعوا السواد الأعظم فانه من شذ شذ فى النار رواه ابن ماجة وعن معاذ بن جبل قال قال رسول الله ﷺ ان الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاذة والقاصية والناحية وإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة رواه احمد- وعن ابى ذر قال قال رسول الله ﷺ من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه رواه احمد وابو داود وعلى تقدير ان يكون حالا من المفعول فالمعنى اعتصموا بجميع كتاب الله ولا تقولوا نومن ببعض الكتاب ونكفر ببعض فان بعض طاقات الحبل لا يقوى على الحفظ وَلا تَفَرَّقُوا عطف على ما سبق وهذه الجملة تأكيد على أحد التأويلين وتأسيس على الاخر «٢» يعنى لا تفرقوا عن الحق باختلاف كاهل الكتاب- عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله
(١) فى الأصل قيل وقال.
(٢) فى الأصل الاخرى. [.....]
106
عليه وسلم ليأتين على أمتي كما اتى على بنى إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى ان كان منهم من اتى امه علانية لكان فى أمتي من يصنع ذلك وان بنى إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم فى النار الا ملة واحدة قالوا من هى يا رسول الله قال ما انا عليه وأصحابي- رواه الترمذي وفى رواية احمد وابى داود عن معاوية ثنتان وسبعون فى النار وواحدة فى الجنة وهى الجماعة وانه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى «١» بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله- قلت فلم يتفرق الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فى زمن النبي ﷺ ولا فى خلافة ابى بكر وعمرو عثمان وأول بغى كان على الامام الحق خروج اهل المصر على عثمان رضى الله عنه- وأول اختلاف وقع فى امر الخلافة كان من معاوية غفره الله تعالى وقال كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى - وأول اختلاف وقع فى الدين اختلاف الحرورية الذين خرجوا على على عليه السلام- ثم أوقع الخلاف ورفض الحق عبد الله بن سبا منشأ الروافض- ثم ظهر مذهب الاعتزال فى زمن التابعين فتشبثوا بأذيال الفلاسفة واشتغلوا بقيل وقال وأحبوا كثرة الجدال وتركوا ظواهر كتاب الله المتعال وسنة نبيه ومذهب السلف اهل الكمال بتقليد آرائهم الكاسدة المنشئات الضلال- وَاذْكُرُوا يا معشر الأنصار نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ التي من جملتها الهداية للاسلام المودي الى التالف إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً قبل الإسلام فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بالإسلام فَأَصْبَحْتُمْ اى صرتم بِنِعْمَتِهِ برحمته وهدايته إِخْواناً فى الدين والولاية والمحبة- قال محمد بن إسحاق وغيره من اهل الاخبار كانت الأوس والخزرج أخوين لاب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب قتيل فتطاولت العداوة والحرب بينهم مائة وعشرين سنة الى ان أطفاه الله بالإسلام والف بينهم برسول الله ﷺ وكان بدو إسلامهم وألفتهم ان سويد بن الصامت أخا بنى عمرو بن عوف يسميه قومه الكامل القوة والصبر- نهايه منه رح لجلده ونسبه قدم مكة حاجّا او معتمرا وكان رسول الله ﷺ قد بعث وامر بالدعوة فتضدى له حين سمع به ودعاه الى ربه عز وجل والى الإسلام فقال له سويد فلعل الذي معك
(١) اى يتواقعون فى الأهواء الفاسدة ويتداعون فيها تشبيها بجرى الفرس- والكلب بالتحريك داء معروف يعرض للكلب فمن عرضه قتله- نهايه- منه رحمه الله
107
مثل الذي معى فقال له رسول الله ﷺ وما الذي معك قال مجلة لقمان يعنى حكمته فقال له رسول الله ﷺ اعرضها علىّ فعرضها فقال ان هذا حسن ومعى أفضل من هذا قران انزل الله عز وجل نورا وهدى فتلا عليه القران ودعاه الى الإسلام فلم يبعد منه وقال ان هذا القول حسن ثم انصرف الى المدينة فلم يلبث ان قتله الخزرج قبل يوم بعاث وان قومه ليقولون قد قتل وهو مسلم ثم قدم ابو الحيسر انس بن رافع ومعه فئة من بنى الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج فلما سمع بهم رسول الله ﷺ أتاهم فجلس إليهم فقال هل لكم الى خير مما جئتم له قالوا وما ذاك قال انا رسول الله بعثني الى العباد ادعوهم ان لا تشركوا بالله شيئا وانزل علىّ الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القران- فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا اى قوم هذا والله خير مما جئتم له فاخذ ابو الحيسر حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال دعنا منك فلعمرى لقد جئنا لغير هذا فصمت إياس وقام رسول الله ﷺ وانصرفوا الى المدينة وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ثم لم يلبث إياس بن معاذ ان هلك- فلما أراد الله عز وجل اظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله ﷺ فى الموسم الذي لقى فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم فلقى عند العقبة رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا وهم ستة نفرا سعد بن زرارة- وعوف بن الحارث وهو ابن عفراء- ونافع بن مالك العجلاني- وعطية بن عامر- وعقبة بن عامر- وجابر بن عبد الله فقال رسول الله ﷺ من أنتم قالوا نفر من الخزرج قال أمن موالى يهود قالوا نعم قال أفلا تجلسون حتى أكلمكم قالوا بلى فجلسوا معه فدعاهم الى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القران- قال وكان مما صنع الله لهم فى الإسلام وان اليهود «١» كانوا معهم ببلادهم وكانوا اهل كتاب وعلم وهم كانوا اهل أوثان وشرك وكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا ان نبيا الان مبعوث قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد ارم فلما كلم رسول الله ﷺ أولئك النفر ودعاهم الى الله عز وجل قال بعضهم لبعض يا قوم تعلمون والله انه النبي الذي توعدكم به اليهود فلا تسبقنكم اليه
(١) فى الأصل ان يهود كان
108
فاجابوه وصدقوه واسلموا وقالوا انا قد تركنا قوما ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم وعسى الله ان يجمعهم بك وسنقدم عليهم فندعوهم الى أمرك فان يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا عن رسول الله ﷺ راجعين الى بلادهم قد أمنوا فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله ﷺ ودعوهم الى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار الا وفيها ذكر من رسول الله ﷺ حتى إذا كان العام المقبل اتى الموسم من الأنصار اثنا «١» عشر رجلا اسعد بن زرارة- وعوف ومعاذ ابنا عفراء- ورافع بن مالك العجلاني- وذكوان بن عبد القيس- وعبادة بن الصامت- وزيد بن ثعلبة- وعباس بن عبادة- وعقبة بن عامر- وعطية بن عامر فهولاء خزرجيون- وابو الهيثم بن التيهان وعويمر بن الساعدة من الأوس فلقوه بالعقبة وهى العقبة الاولى فبايعوا رسول الله ﷺ على بيعة النساء على ان لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا الى آخره فان وفيتم فلكم الجنة وان غشيتم بشىء من ذلك فاخذتم بحده فى الدنيا فهو كفارة له وان ستر عليكم فامركم الى الله ان شاء عذبكم وان شاء غفر لكم قال وذلك قبل ان يعرض عليهم الحرب فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله ﷺ مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وامره ان يقرائهم القران ويعلمهم الإسلام ويفقههم وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ وكان منزله على اسعد بن زرارة- ثم ان اسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطا من حوائط بنى ظفر فجلسا فى الحائط واجتمع إليهما رجال ممن اسلم فقال سعد بن معاذ لا سيد بن حضير انطلق الى هذين الرجلين الذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما فان اسعد ابن خالى ولولا ذلك لكفيتك وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدى قومهما من بنى عبد الأشهل وهما مشركان فاخذ أسيد بن حضير حربته ثم اقبل الى مصعب واسعد وهما جالسان فى الحائط فلما راه اسعد بن زرارة قال لمصعب هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله تعالى فيه قال مصعب ان يجلس أكلمه قال فوقف عليهما متشتما فقال ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلا ان كان لكما فى أنفسكما حاجة فقال له مصعب او تجلس فتسمع فان رضيت امرا قبلته وان كرهته كف عنك ما تكره
(١) فى الأصل اثنى عشر
109
قال أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرا عليه القران فقال والله لعرفنا فى وجهه الإسلام قبل ان يتكلم فى اشراقه وتسهله ثم قال ما احسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم ان تدخلوا فى هذا الدين قالا له تغتسل وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين ثم قال ان ورائي رجلا ان اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسارسله اليكما الان وهو سعد بن معاذ ثم أخذ حربته فلما وقف على النادي قال له سعد ما خلفت قال كلمت الرجلين فو الله ما رايت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت- وقد حدثت ان بنى حارثة خرجوا الى اسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك انهم عرفوا انه ابن خالك ليخفروك»
فقام سعد مغضبا مبادرا للذى ذكره من بنى حارثة فاخذ الحربة وقال والله ما أراك أغنيت شيئا فلما راهما مطمئنين عرف ان أسيدا انما أراد ان يسمع منهما فوقف عليهما متشتما ثم قال لا سعد بن زرارة لولا ما بينى وبينك من القرابة ما رمت اى ما قصدت- منه رح هذا منى تغشانا فى دارنا بما نكره وقد قال اسعد لمصعب جاءك والله سيد قومه ان يتبعك لم يخالفك منهم أحد- فقال له مصعب او تقعد فتسمع فان رضيت امرا ورغبت فيه قبلته وان كرهته عزلناك ما تكره قال سعد أنصفت ثم ركز الحربة فجلس فعرض عليه الإسلام وقرا عليه القران فقالا فعرفنا والله فى وجهه الإسلام قبل ان يتكلم فى اشراقه وتسهله ثم قال كيف تصنعون إذ أنتم أسلمتم ودخلتم فى هذا الدين قال تغتسل وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين- ثم أخذ حربته فاقبل عامدا الى نادى قومه ومعه أسيد بن حضير فلما راه قومه مقبلا قالوا نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم- قال يا بنى عبد الأشهل كيف تعلمون امرى فيكم قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة «٢» - قال فان كلام رجالكم ونسائكم علىّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال فما امسى فى دار بنى عبد الأشهل رجل ولا امراة الا مسلم او مسلمة
(١) حفرت الرجل اى أجرته وحفظته وخفّرته إذ أكدت خفيرا وحاميا وتخفرت به إذا استجرت به والخفارة الزمام وأخفرت الرجل إذ انقضت عهده وذمامه والهمزة فيه للازالة اى زالت خفارته- نهايه منه رحمه الله
(٢) النقيبة منحج الفعال مظفر المقال والنقيبة النفس وقيل الطبيعة والخليقة- نهايه- منه رحمه الله-
110
ورجع اسعد بن زرارة ومصعب الى منزل اسعد بن زرارة فاقام عنده يدعوا الناس الى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار الا وفيها رجال ونساء مسلمون الا ما كان من دار بنى امية بن زيد وحطمة ووائل وواقف وذلك انه كان منهم ابو قيس ابن الاسلت الشاعر وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله ﷺ الى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق- قالوا ثم ان مصعب بن عمير رجع الى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من اهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله ﷺ العقبة من اوسط ايام التشريق وهى بيعة العقبة الثانية قال كعب بن مالك وكان قد شهد ذلك فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله ﷺ ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام ابو جابر أخبرناه وكنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه وقلنا له يا أبا جابر انك سيد من ساداتنا وشريف من اشرافنا وانا نرغب بك عما أنت فيه ان تكون حطبا للنار غدا ودعوناه للاسلام فاسلم وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه فشهد معنا العقبة وكان نقيبا فبتنا تلك الليلة مع قومنا فى رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله ﷺ نتسلك مستخفين تسلك القطا حتى اجتمعنا فى الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة احدى نساء بنى النجار واسماء بنت عمرو بن عدى أم منيع احدى نساء بنى سلمة فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله ﷺ حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب فقال يا معشر الخزرج (انما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها واوسها) ان محمدا ﷺ منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن على مثل رأينا وهو فى عز فى قومه ومنعة فى بلده وانه قد ابى الا الانقطاع إليكم واللحوق بكم فان كنتم ترون انكم وافون له بما دعوتموه اليه ومانعوه ممن خالفه فانتم وما تحملتم من ذلك وان كنتم ترون انكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الان فدعوه فانه فى عز ومنعة قال فقلنا قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما شئت قال فتكلم......
111
رسول الله ﷺ فتلا القران ودعا الى الله تعالى ورغّب فى الإسلام ثم قال ابايعكم على ان تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وابناءكم فاخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع أزرنا «١» فبايعنا يا رسول الله فنحن اهل الحرب واهل الحلفة ورثناها كابرا عن كابر قال فاعترض القول (والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم) ابو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله ان بيننا وبين الناس حبالا يعنى العهود وانا قاطعوها فهل عسيت ان فعلنا ذلك ثم أظهرك الله ان ترجع الى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال لا الدم الدم والهدم الهدم أنتم منى وانا منكم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم وقال رسول الله ﷺ اخرجوا الى منكم اثنى عشر نقيبا «٢» كفلاء على قومهم ككفالة حواريين لعيسى بن مريم فاخرجوا اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس قال عاصم بن عمرو بن قتادة ان القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله ﷺ قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل انكم تبايعون على حرب الأحمر والأسود فان كنتم ترون انكم إذا نهكت اى اتلفت- منه رح أموالكم مصيبة واشرافكم قتلى اسلمتموه فمن الان فهو والله ان فعلتم خزى فى الدنيا والاخرة وان كنتم ترون انكم وافون له بما دعوتموه اليه على نهكة الأموال وقتل الاشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والاخرة قالوا فانا ناخذه على مصيبة الأموال وقتل الاشراف فما لنا بذلك يا رسول الله ان نحن وافينا قال الجنة قالوا ابسط يدك فبسطيده فبايعوه وأول من
ضرب على يده البراء بن معرور ثم تتابع القوم فلما بايعنا رسول الله ﷺ صرخ الشيطان من رأس العقبة بانفذ صوت سمعته قط يا اهل الحباحب هل لكم فى مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم فقال رسول الله ﷺ هذا عدو الله هذا اسم شيطان- وهو الحية- منه ر ح ازبّ العقبة اسمع اى عدو الله انا والله لا فرغن لك ثم قال رسول الله ﷺ ارفضوا الى رحالكم فقال العباس بن عبادة بن نضلة والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدا على اهل منى «٣»
(١) نمنع أزرنا اى نساءنا وأهلنا كنى عنهن بالأزر وقيل أراد أنفسنا وقد يكنى عن النفس بالإزار- نهايه منه رح
(٢) النقيب كالعريف على القوم المقدم عليهم الذي يتعرف اخبارهم وينقب عن أحوالهم اى يفتش وقد جعل النبي ﷺ كل واحد منهم نقيبا على قومه وجماعته ليأخذوا عليهم الإسلام ويعرفوهم شرائطه- نهايه منه رحمه الله
(٣) فى الأصل على اهل منا-
112
بأسيافنا فقال رسول الله ﷺ لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا الى رحالكم قال فرجعنا الى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة من قريش حتى جاءونا فى منزلنا فقالوا يا معشر الخزرج بلغنا انكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وانه والله ما حى من العرب ابغض إلينا ان تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم قال فانبعث من هناك من مشركى قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شىء وما علمناه وصدقوا لم يعلموا وبعضنا ينظر الى بعض وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدان فقلت له كلمة كانّى أريد ان أشرك القوم بها فيما قالوا يا جابرا ما تستطيع ان تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلى هذا الفتى من قريش- قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما الىّ قال والله لتنتعلنهما- قال يقول ابو جابر مه والله احفظت الفتى فاردد اليه نعليه- قال لا أردهما فال صالح والله ان صدق الفال لا سلبنه- قال ثم انصرف الأنصار الى المدينة وقد شدّد العقد فلما قدموا المدينة اظهر الإسلام بها وبلغ ذلك قريشا فاذوا اصحاب رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ لاصحابه ان الله تعالى قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها وأمرهم بالهجرة الى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار فاول من هاجر الى المدينة أخو سلمة بن عبد الله المخزومي ثم عامر بن ربيعة ثم عبد الله بن جحش ثم تتابع اصحاب رسول الله ﷺ إرسالا الى المدينة فجمع الله اهل المدينة اوسها وخزرجها بالإسلام وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد ﷺ وَكُنْتُمْ عَلى شَفا طرف حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ اى متقاربين الوقوع فيها لم يكن بينكم وبين الوقوع فيها الا ان تموتوا على كفركم فَأَنْقَذَكُمْ اى اخلصكم الله بالإسلام مِنْها الضمير للحفرة او للنار او للشفا وتأنيثه لتأنيث المضاف اليه ولانه بمعنى الشفة فان شفا البير وشفتها طرفها كالجانب والجانبة وأصله شفو فقلبت الواو الفا فى المذكر وحذفت فى المؤنث كَذلِكَ التبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ دلائله لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) لتثبتوا على الهدى وتزدادوا فيه-.
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ من للتبعيض لان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفاية ولانه لا يصلح له كل أحد حيث يشترط له شروط من العلم والتمكن على الاحتساب وطلب من الجميع......
خاطب الجميع وطلب فعل البعض ليدل على انه واجب على الكل حتى لو ترك الكل أثموا جميعا ولكن يسقط بفعل بعضهم وهذا شأن فروض الكفاية- وجاز ان يكون من للتبيين ويكون النهى عن المنكر واجبا على كل أحد واقله ان ينكر بقلبه يعنى كونوا أُمَّةٌ يَدْعُونَ الناس إِلَى الْخَيْرِ يعنى خير العقائد والأخلاق والأعمال التي فيها صلاح الدين والدنيا اخرج ابن مردوية عن ابى جعفر محمد الباقر قال قال رسول الله ﷺ الخير اتباع القران وسنتى- قال السيوطي معضل عن عثمان انه قرا وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ويستغيثون على ما أصابهم وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- قلت يعنى يدعون لدفع البلاء عن الناس وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ اى ما عرف من الشرع حسنه واجبا كان او مندوبا وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعنى ما أنكره الشرع من المحرمات والمكروهات عطف الخاص على العام إيذانا بفضله وَأُولئِكَ يعنى الداعون الى الخير والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) خاب وخسر من لم يفعل ذلك عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ من راى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان- رواه مسلم وعن النعمان بن بشير قال قال رسول الله ﷺ مثل المدهن فى حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم فى أسفلها وصار بعضهم فى أعلاها فكان الذي فى أسفلها يمر بالماء على الذين فى أعلاها فتاذوا به فاخذ فاسا فجعل ينقر أسفل السفينة فاتوه فقالوا مالك قال تاذيتم بي ولا بد لى من الماء فان أخذوا على يديه انجوه ونجّوا أنفسهم وان تركوه اهلكوه واهلكوا أنفسهم- رواه البخاري- وعن حذيفة ان النبي ﷺ قال والذي نفسى بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر او ليوشكن الله تعالى ان يبعث عليكم عذابا من عنده ثم ليدعوا به فلا يستجاب لكم رواه الترمذي- وعن ابى بكر الصديق قال يا ايها الناس انكم تقرءون هذه الاية.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فانى سمعت رسول الله ﷺ يقول ان الناس إذا راو منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم الله بعذابه- رواه ابن ماجة والترمذي وصححه وروى ابو داود نحوه وعن جرير بن عبد الله نحوه رواه ابو داود وابن ماجة- وعن عدى بن عدى الكندي قال حدثنا......
114
مولى لنا انه سمع جدى يقول سمعت رسول الله ﷺ يقول ان الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على ان ينكروه فلا ينكرون فاذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة رواه البغوي فى شرح السنة وعن ابن مسعود قال قال رسول الله ﷺ لمّا وقعت بنو إسرائيل فى للعاصى نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم فى مجالسهم وأاكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض فلعنهم عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ
- قال فجلس رسول الله ﷺ وكان متكيا قال لا والذي نفسى بيده حتى تاطروهم اى تعطفوا عليهم- نهايه- منه رح اطرا العطف- منه رح رواه الترمذي وابو داود- فان قيل هل يجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بهذه الاية على من لا يأتى بالمعروف ويرتكب المنكر قلنا نعم يجب عليه الأمر بالمعروف عبارة وإتيانه اقتضاء والنهى عن المنكر عبارة والانتهاء عنه اقتضاء كيلا يلزمه قوله تعالى أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وقوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ- عن اسامة بن زيد قال قال رسول الله ﷺ يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار فتندلق اى تخرج من مكانه الأمعاء- منه اقتابه فى النار فيطحن فيها كطحن الحمار برحاء فيجتمع اهل النار عليه ويقولون اى فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال كنت أمركم بالمعروف ولم آته وأنهاكم عن المنكر واتيه- متفق عليه وعن انس عن النبي ﷺ قال رايت ليلة اسرى بي رجالا يقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبرئيل قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون بالبر وينسون أنفسهم- رواه البغوي فى شرح السنة والبيهقي فى شعب الايمان نحوه- وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا يعنى اليهود تفرقوا على ثنتين وسبعين فرقة وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الدلائل الواضحة القاطعة من الآيات المحكمة والاخبار المتواترة المحكمة من الأنبياء ونحو ذلك كاجماع هذه الامة سواء كان ذلك الاختلاف فى اصول الدين كاختلاف اهل الأهواء مع اهل السنة او فى الفروع المجمع عليها كمسئلة غسل الرجلين ومسح الخفين فى الوضوء وخلافة الخلفاء الاربعة واحترز بهذا القيد عن اختلاف بالاجتهاد فى ما ثبت بالادلة الظنية فان الاختلاف فيها ضرورى......
115
ضرورة حطاء بعض المجتهدين فى الاجتهاد- فذلك الاختلاف بعد بذل الجهد بلا مكابرة وتعصب معفوّ بل هو رحمة وسعة للناس روى عبد بن حميد فى مسنده والدارمي وابن ماجة والعبد رى فى الجمع بين الصحيحين وابن عساكر والحاكم عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله ﷺ سالت ربى عن اختلاف أصحابي من بعدي فاوحى الله يا محمد ان أصحابك عندى كالنجوم بعضها أقوى من بعض- وفى رواية بعضها أضوء من بعض ولكل نور فمن أخذ بشىء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندى على هدى- ورواه الدارقطني فى فضائل الصحابة وابن عبد البر عن جابر والبيهقي فى المدخل عن ابن عباس- وروى البيهقي ايضا فى المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به ولا عذر لاحد فى تركه فان لم يكن فى كتاب الله فسنة نبى ماضية فان لم يكن سنة نبى فما قال أصحابي ان أصحابي بمنزلة النجوم فى السماء فايها أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة واخرج البيهقي فى المدخل وابن سعد فى الطبقات عن القاسم بن محمد قال اختلاف اصحاب محمد رحمة لعباد الله والبيهقي عن عمر بن عبد العزيز نحوه وَأُولئِكَ الذين تفرقوا بعد القواطع لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ التنوين عوض عن المضاف اليه يعنى تبيض وجوه المؤمنين وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ اى
وجوه الكافرين او التنوين للتكثير اى وجوه كثيرة ويوم منصوب على الظرفية من الظرف المستقر اى لهم او بعظيم او باذكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس انه قرا هذه الاية قال تبيض وجوه اهل السنة وتسود وجوه اهل البدعة- اخرج الديلمي فى مسند الفردوس بسند ضعيف عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال تبيض وجوه اهل السنة وتسود وجوه اهل البدع فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ يقال لهم أَكَفَرْتُمْ بالقطعيات وتفرقتم فى الدين واتبعتم تأويل المتشابهات بَعْدَ إِيمانِكُمْ بالنبي والكتاب والاستفهام للتوبيخ والتعجيب عن حالهم فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) والاية فى اهل الأهواء من هذه الامة ومن الأمم السابقة كذا قال ابو امامة وقتادة روى احمد وغيره عن ابى امامة عن النبي ﷺ قال هم الخوارج- وايضا فى اهل الأهواء حديث اسماء بنت ابى بكر قالت قال......
116
رسول الله ﷺ انى على الحوض حتى انظر من يرد علىّ منكم وسيؤخذ ناس دونى فاقول يا رب منى ومن أمتي فيقال هل شعرت ما عملوا بعدك والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم- رواه البخاري وعن ابى هريرة ان رسول الله ﷺ قال بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل رواه مسلم واحمد والترمذي- وقيل هذه الاية فى المرتدين- وقيل فى اهل كتاب كفروا برسول الله ﷺ بعد ايمانهم بموسى والتورية او بعد ايمانهم بمحمد ﷺ قبل مبعثه وقيل فى جميع الكفار كفروا بعد ما اشهدهم الله على أنفسهم او بعد ما تمكنوا من الايمان بالنظر الى الدلائل.
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ يعنى اهل السنة فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ يعنى الجنة والثواب المخلد عبر عن الجنة بالرحمة تنبيها على ان المؤمن وان استغرق عمره فى طاعة الله لا يدخل الجنة الا برحمته وفضله- عن عائشة عن النبي ﷺ قال سددوا وقاربوا وابشروا فانه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا انا الا ان يتغمدنى الله بمغفرة ورحمة- رواه الشيخان فى الصحيحين واحمد- وروى الشيخان عن ابى هريرة نحوه ولمسلم من حديث جابر لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا انا الا رحمة من الله وقد ورد هذا ايضا من حديث ابى سعيد رواه احمد ومن حديث ابى موسى وشريك بن طارق رواهما البزار- ومن حديث شريك بن طريق واسامة بن شريك واسد بن كرز رواها الطبراني واستشكل هذا مع قوله تعالى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وأجيب بان للجنة منازل ودرجات ينال بالأعمال وذلك محمل الاية واما اصل دخولها والخلود فيها بفضل ورحمته وذلك معنى الأحاديث ويدل عليه قول ابن مسعود تجوزون الصراط بعفو الله وتدخلون الجنة برحمة الله وتقسمون المنازل بأعمالكم رواه هناد فى الزهد وابو نعيم عن عون بن عبد الله مثله هُمْ فِيها اى فى الرحمة او الجنة خالِدُونَ (١٠٧) أخرجه مخرج الاستيناف للتأكيد كانّه فى جواب كيف يكونون فيها وللتنبيه على ان الرحمة نعمة والخلود نعمة مستقلة.
تِلْكَ الآيات آياتُ اللَّهِ الواردة فى وعده ووعيده نَتْلُوها عَلَيْكَ خبر بعد خبر......
متلبسة بِالْحَقِّ بحيث لا شبهة فيها وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) إذ لا يتصور منه الظلم لانه لا يجب عليه فعل شىء ولا تركه فيظلم بترك ما وجب عليه لانه المالك على الإطلاق يتصرف فى ملكه كيف يشاء- قلت والظاهر ان المراد بالظلم هاهنا ما هو ظلم من العباد فيما بينهم والمعنى ان الله لا يريد ان ينقص ثواب من عمل خيرا بفضله ولا ان يزيد فى عذاب العاصي على قدر جريمته والكفر بالله تعالى أعظم الخطايا لا ذنب فوقه فيعذب بالنار المخلدة عذابا لا يكون عذاب فوقه جزاء وفاقا.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا فهو تعليل لعدم ارادة الظلم على التأويل الاول وبيان لقدرته على اجراء وعده ووعيده على التأويل الثاني وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) فيجازى كلا على حسب وعده ووعيده- قال البغوي قال عكرمة ان مالك بن الضيف ووهب بن يهودا من اليهوديين قالا لابن مسعود ومعاذ بن جبل وسالم مولى ابى حذيفة نحن أفضل منكم وديننا خير مما تدعونا اليه فانزل الله تعالى.
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ اضافة صفة الى موصوفه مثل اخلاق ثياب والمفضل منه محذوف يعنى كنتم امة خير الأمم كلها وكان تدل على ثبوت خبرها لاسمها فى الماضي ولا يدل على عدم سابق ولا انقطاع لاحق الا بقرينة خارجية قال الله تعالى وكان الله غفورا رحيما فهذه الجملة دلت على خيريتهم فيما مضى ويدل على خيريتهم فى الحال والاستقبال قوله تعالى تأمرون إلخ ويحتمل ان يكون كنتم فى علم الله او فى الذكر فى الأمم السابقة خير امة أُخْرِجَتْ يعنى أظهرت وأوجدت والخطاب اما للصحابة خاصة كذا قال جويبر عن الضحاك وروى عن عمر بن الخطاب قال كنتم خير امة يكون لا ولنا ولا يكون لاخرنا- وعن ابن عباس انهم هم الذين هاجروا مع النبي ﷺ الى المدينة- وعن عمر انه قال لو شاء الله لقال أنتم ولكن قال كنتم فى خاصة اصحاب محمد ﷺ ومن صنع مثل صنيعهم «١» كانوا خير امّة أخرجت للنّاس- واما لامة محمد ﷺ عامة وكلا المعنيين ثابت بالنصوص وعلى كل منهما انعقد الإجماع فان امة محمد ﷺ أفضل من الأمم كلها والأفضل منهم قرن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين قال الله تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنا
(١) وعن قتادة عن عمر فى قوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ انه تلا هذه الاية ثم قال يا ايها الناس من سرّه ان يكون فى الامة التي أخرجت للناس فليؤد شرط الله فيها- منه رحمه الله فى الأصل ملتبسة-
118
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ وقال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الاية وقال رسول الله ﷺ الجنة حرمت على الأنبياء حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى يدخلها أمتي رواه الطبراني فى الأوسط بسند حسن عن عمر بن الخطاب وروى ايضا عن ابن عباس مرفوعا الجنة محرمة على جميع الأمم حتى أدخلها انا وأمتي الاول فالاول وقال رسول الله ﷺ انى لارجو ان يكون من تبعني ربع اهل الجنة ثم قال أرجو ان يكون ثلث اهل الجنة ثم قال أرجو ان يكون الشطر رواه احمد والبزار والطبراني بسند صحيح عن جابر وقال ﷺ اهل الجنة عشرون ومائة صفا ثمانون منها من هذه الامة والباقون من سائر الأمم رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وروى الطبراني مثله من حديث ابى موسى وابن عباس ومعاوية بن جندة وابن مسعود- وقال رسول الله ﷺ انكم تتمون سبعين امة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل رواه الترمذي وحسنه وابن ماجة والدارمي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والبغوي عن ابى سعيد الخدري نحوه وقال رسول الله ﷺ مثل أمتي مثل المطر لا يدرى اوله خير أم آخره رواه الترمذي عن انس ورزين عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده نحوه وقال عليه السلام ان الله تجاوز عن أمتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه رواه ابن ماجة والبيهقي وفى الفصل الثاني قوله ﷺ خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجىء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته رواه الشيخان فى الصحيحين والترمذي واحمد من حديث ابن مسعود والطبراني نحوه ومسلم عن عائشة نحوه والترمذي والحاكم عن عمران بن حصين نحوه وقوله ﷺ لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه متفق عليه من حديث ابى سعيد الخدري وقوله عليه الصلاة والسلام ما من أحد من أصحابي يموت بأرض الا بعث قائدا ونور الهم يوم القيامة رواه الترمذي عن بريدة لِلنَّاسِ قيل هذا متعلق بخير امة قال ابو هريرة معناه خير الناس للناس يجيئون بهم فى السلاسل فتدخلونهم فى الإسلام أخرجه ابو عمرو- قلت رجال هذه الامة اكثر إرشادا وأقوى تأثيرا فى الناس بالجذب الى الله تعالى من رجال الأمم......
119
السابقة وكان قطب ارشاد كمالات الولاية على عليه السلام ما بلغ أحد من الأمم السابقة درجة الأولياء الا بتوسط روحه رضى الله عنه ثم كان بتلك المنصب الائمة الكرام ابناؤه الى الحسن العسكري وعبد القادر الجيلي ومن ثم قال ووقتى قبل قلبى قد صفالى وهو على ذلك المنصب الى يوم القيامة ومن ثم قال شعرا:
فلت شموس الأولين وشمسناه ابدا على أفق العلى لا تغرب
وقيل للناس متعلق باخرجت يعنى أخرجت للناس تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ استيناف لبيان خيريتهم او خبرثان لكنتم او صفة ثانية لامة والمراد تفضيلهم على امم موصوفين بهذه الصفات يعنى كنتم امة كذلك خيرا من كل امة كذلك وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قيل المراد بالايمان بالله الايمان بكل ما يجب ان يؤمن به لانه المعتد به يدل عليه قوله تعالى ولو أمن اهل الكتب مع كونهم مؤمنين بالله وقوله عليه الصلاة والسلام فى حديث طلحة بن عبيد الله أتدرون ما الايمان بالله وحده قالوا الله ورسوله اعلم قال شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكوة وصيام رمضان وان تعطوا من المغنم الخمس متفق عليه وانما اخر ذكر الايمان وكان حق الايمان بالله ان يقدم لقصد الاشعار على انهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ايمانا بالله وتصديقا لا رياء فصار كانه قيد للامر بالمعروف او لقصد ارتباط قوله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ كلهم كما تؤمنون لَكانَ خَيْراً لَهُمْ فانهم يدخلون حينئذ فى خير الأمم قلت وجاز ان يكون المراد بالايمان بالله الايمان الحقيقي يعنى تخلية القلب عما سواه وتزكية النفس عن الرذائل وتمرينه بالمحبة الصرفة التي لا تشوب فيها اقتضاء نفسه من الأغراض الدنيوية او الاخروية مِنْهُمُ اى من اهل الكتاب الْمُؤْمِنُونَ ايمانا يعتد به كعبد الله بن سلام وأصحابه وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠) الخارجون عن الايمان الى الكفر هذه الجملة مبيّنة لما سبق فان المطلوب ايمان الجميع والموجود ايمان بعضهم دون أكثرهم وفيه دفع لسوء الظن بالمؤمنين منهم الذي نشاء من قوله تعالى ولو أمن إلخ.
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً اى ضرارا يسيرا باللسان ونحوه قال مقاتل لمّا أراد رءوس اليهود السوء بمن أمن منهم عبد الله بن سلام وأصحابه انزل الله تعالى هذه......
الاية لتسليتهم وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ اليهود ايها المؤمنون يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ منهزمين ولا يضروكم بقتل او نهب او اسر ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) بل يكون النصر لكم عليهم هذه الاية بيان لقوله لن يضرّوكم وهو اخبار بالغيب وقد وقع كذلك على قريظة والنضير وبنى قينقاع وخيبر وفدك.
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اى اليهود الذِّلَّةُ اى الهوان وذلك بسلب العصمة عن دمائهم وأموالهم وأهليهم أَيْنَ ما ثُقِفُوا وجدوا إِلَّا متلبسين بِحَبْلٍ كائن مِنَ اللَّهِ يعنى القران او دين الإسلام الحاكم بعدم تعرض الكفار المستأمنين واهل الذمة قال الله تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ وقال حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ عهد من المؤمنين بالأمان بعد الاستيمان او عقد الذمة بعد قبول الجزية فالمراد بحبل الله وحبل الناس واحد ولو كان كل واحد منهما على حدة لكان الأنسب او مقام الواو- والمستثنى منصوب على الحالية يعنى ضربت عليهم الذلة فى جميع الأحوال الا فى حال الاستيمان او عقد الذمة وَباؤُ اى رجعوا الى ما كانوا عليه من الموت او الحيوة بعد الموت قال الله تعالى كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ مستوجبين له وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ فهى محيطة بهم «١» احاطة البيت المضروب على اهله يعنى ضربت عليهم البخل والحرص فان البخيل لا ينفق ماله ويكون دائما على هيئة المساكين والحريص يكون دائما فى تعب وجدّ لطلب المال قال البيضاوي اليهود غالبا فقراء مساكين ذلِكَ اى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ اى بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ يعنى انهم يعرفون كونهم ظالمين غير محقين ذلِكَ الكفر والقتل بِما عَصَوْا ربهم تعنتا وعنادا عمدا لا خطأ وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) حدود الله وقيل معناه ان ضرب الذلة فى الدنيا واستيجاب الغضب فى الاخرة كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو مسبب على عصيانهم واعتدائهم من حيث انهم مخاطبون بالفروع ايضا قلت وعلى هذا التأويل كان المناسب إيراد العاطف بين الاشارتين-
(١) فى الأصل به-
اخرج ابن ابى حاتم والطبراني وابن مندة فى الصحابة عن ابن عباس قال لمّا اسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسيد بن تبيعة واسد بن عبيد ومن اسلم من يهود معهم فامنوا وصدقوا ورغبوا فى الإسلام قالت أحبار يهود واهل الكفر منهم ما أمن بمحمد وتبعه الّا شرارنا ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين ابائهم وذهبوا الى غيره فانزل الله فى ذلك.
لَيْسُوا سَواءً الى قوله مِنَ الصَّالِحِينَ واخرج احمد والنسائي وابن حبان عن ابن مسعود قال اخر رسول الله ﷺ صلوة العشاء ثم خرج الى المسجد فاذا الناس ينتظرون الصلاة فقال اما انه ليس من اهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم وأنزلت هذه الاية لَيْسُوا سَواءً يعنى ليست اليهود متساويين فيما ذكر من المساوى بل منهم على ضد ما ذكر بيانه قوله تعالى مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ فى الصلاة كما يدل عليه ما بعده- وقال ابن عباس اى مهتدية قائمة على امر الله لم يضيعوه- وقال مجاهد عادلة من أقمت العود فقام- وقال السدى مطيعة قائمة على كتاب الله وحدوده والمراد بهذه الامة عبد الله بن سلام وأمثاله من اليهود يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ اى القران حال من فاعل قائمة او صفة بعد صفة لامة آناءَ اللَّيْلِ اى ساعاته واحده انى ظرف للقيام والتلاوة وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) عطف على قائمة وجاز ان يكون حالا من فاعل قائمة ومعناه وهم يصلون قال ابن مسعود المراد به صلوة العشاء لان اهل الكتاب لا يصلونها- وعن عبد الله بن عمر قال مكثنا ذات ليلة ننتظر الصلاة العشاء الاخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل فلا ندرى الشيء شغله او غير ذلك فقال حين خرج انكم تنتظرون صلوة ما ينتظرها اهل دين غيركم ولولا ان يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة ثم امر المؤذن فاقام الصلاة وصلى رواه مسلم قلت والظاهر ان المراد به قيام الليل دون صلوة العشاء لان سياق الاية يقتضى كون دوام حالهم ذلك رقصة تأخير صلوة العشاء واقعة حال ونزول الاية فى تلك القصة لم يذكر فى الصحيح- وايضا صيغة يتلون للجمع والتالي فى صلوة العشاء انما هو الامام دون القوم الا مجازا- وقال عطاء المراد بامة قائمة أربعون «١» رجلا من اهل نجران من العرب واثنان «٢»
(١) فى الأصل أربعين
(٢) فى الأصل اثنين-
وثلاثون «١» من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام وصدقوا محمّدا ﷺ وكان من الأنصار فيهم عدة قبل قدوم النبي ﷺ منهم اسعد بن زرارة والبراء ابن معرور ومحمد بن مسلمة ومحمود بن مسلمة وابو قيس صرمة بن انس كانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقومون لما عرفوا من شرائع الحنيفة حتى جاءهم الله بالنبي ﷺ فصدقوه ونصروه.
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ لكمال خشيتهم وقصر أملهم قال رسول الله ﷺ بادروا بالأعمال هرما ناغضا وموتا خالسا ومرضا حابسا وتسويفا مويسا- رواه البيهقي عن ابى امامة وقوله يؤمنون وما عطف عليه صفات اخر لامة وصفهم بخصائص متضادة لخصائص اليهود فانهم كانوا منحرفين عن الحق نائمين غافلين بالليل والنهار مشركين بالله ملحدين فى صفاته واصفين اليوم الاخر بخلاف ما هو عليه آمرون بالمنكر ناهون عن المعروف يسارعون فى الشرور وَأُولئِكَ الموصوفون «٢» بتلك الصفات على وجه الكمال مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) ممن صلحت أجسادهم بصلاح قلوبهم وزكاء نفوسهم.
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ يعنى لن نضيعه ولن ننقص ثوابه سمى ذلك كفرانا كما سمى توفية الثواب شكرا وعدى الى المفعولين لتضمنه معنى الحرمان قرا حمزة والكسائي وحفص بالياء على الغيبة اخبارا عن الامة القائمة على نسق ما سبق والباقون بالتاء على نسق كنتم خير امّة وابو عمرو يرى القرائتين جميعا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) تبشير وتعليل لقوله تعالى فلن يكفروه فان علم الكريم بحسنات عبده علة للاثابة وفيه اشعار بان الصالح والمتقى اسماء للموصوفين بالصفات المتقدمة.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً مر تفسيره فى أوائل السورة وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦).
َلُ ما يُنْفِقُونَ
ما مصدرية اى مثل انفاق الكفار عداوة للنبى ﷺ او مفاخرة وبطرا كانفاق كفار قريش فى الحروب او تقربا كانفاق اليهود على علمائهم وكفار قريش للاصنام او رياء كانفاق المنافقين ي
(١) فى الأصل وثلثين-
(٢) فى الأصل الموصوفين-[.....]
ِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
اى برد شديد كذا فى القاموس وحكى عن ابن عباس انها السموم الحارة التي تقتل صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بالكفر والمعاصي أَهْلَكَتْهُ
يعنى كما ان الريح المذكور تهلك الحرث كذلك انفاق الكفار أموالهم تهلكهم باستجلاب الانفاق عذاب الله إليهم او باستيصال أموالهم بلا منفعة فى الدنيا ولا فى الاخرة- وجاز ان يكون ما فى ما ينفقون موصولة والتشبيه مركبا أريد تشبيه القصة بالقصة ولذلك لم يبال بإدخال كلمة التشبيه على الريح دون الحرث ويجوز ان يراد تشبيه المال الذي أنفقوه وضيعوه بالحرث المذكور ويقدر كمثل مهلك ريح وهو الحرث ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بذلك لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(١١٧) بارتكاب انفاق أموالهم لا على وجه يفيدهم عند الله تعالى او بارتكاب ما استحق به اهل الحرث العقوبة- اخرج ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس قال كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف فى الجاهلية فانزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً البطانة السريرة ويقال الصاحب الذي يعرّفه الرجل أسراره ثقة به مِنْ دُونِكُمْ اى من دون المسلمين اى من هو ادنى منكم رتبة وأسفل فيه نعت للمسلمين بانهم هم الأعلون فى الدنيا والاخرة وارشاد على طلب الأعالي للمصاحبة دون الأداني فان العزلة خير من الجليس السوء والجليس الصالح خير من العزلة- وصيغة من دونكم يشتمل اهل الأهواء ايضا من الروافض والخوارج وغيرهم فلا يجوز مباطنتهم كما لا يجوز مباطنة الكفار وقوله من دونكم متعلق بقوله لا تتخذوا او ظرف مستقر صفة لبطانة اى لا تتخذوا من دون المسلمين بطانة او بطانة كائنة من دونهم لا يَأْلُونَكُمْ اى لا يقصرون اى من هو على غير دينكم لكم خَبالًا شرا وفسادا بل يبذلون جهدهم فيما يورثكم شرا وفسادا منصوب على انه مفعول ثان للايألونكم على تضمين معنى المنع او النقص او منصوب بنزع الخافض اى لا يألونكم فى الخبال وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ما مصدرية اى تمنوا شدة الضر والمشقة بكم قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ حيث لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم فيقولون فيكم ما يسوءكم بلا اختيار وقصد وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من البغضاء أَكْبَرُ مما يبدون لانهم......
يظهرون مودتكم مكرا وخديعة قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على عداوتهم او على وجوب الإخلاص لله وموالات المؤمنين ومعادات الكفار والجمل الاربعة «١» مستانفات على التعليل ويجوز ان يكون الثلاث الاول صفات لبطانة- وعلى كلا التقديرين التعليل بهذه الجمل او التقييد بها يفيد ان الكافر إذا لم يكن له عداوة مع مؤمن لاجل إيمانه ولا يقصد خبالا وكان بينه وبين مؤمن مودة لقرابة او غير ذلك لا بأس به كما كان بين النبي ﷺ وبين ابى طالب وعباس قبل إسلامه عن عباس رضى الله عنه انه قال يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشىء فانه كان يحومك او يغضب لك قال نعم هو فى الضحضاح فى الأصل ما اجتمع من الماء على وجه: الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعير للنار- نهايه منه رح ضحضاح من نار ولولا انا لكان فى الدرك الأسفل من النار- رواه مسلم واخرج البزار مثله عن جابر ومسلم عن حذيفة وابى سعيد الخدري إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) شرط استغنى عن الجزاء بما سبق يعنى فانتهوا عن موالاتهم وعادوهم او أخلصوا لله ووالوا المسلمين.
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ لقرابتهم منكم او لصداقتهم وَلا يُحِبُّونَكُمْ لمخالفة فى الدين- ها للتنبيه عن غفلتهم فى خطائهم وأنتم مبتدا وأولاء خبره يعنى أنتم أولاء الخاطؤن فى محبة الكفار وما بعده جملة مبينة لخطائهم قال الرضى الجملة الواقعة بعد اسم الاشارة لبيان المستغرب ولا محل لها من الاعراب وهى مستانفة- وقال البيضاوي هو خبر ثان لانتم او خبر لاولاء والجملة خبر أنتم وجاز ان يكون أولاء بمعنى الذي وما بعده صلته والموصول مع الصلة خبر أنتم وجاز ان يكون جملة تحبونهم حالا والعامل فيه معنى الاشارة وجاز ان يكون أولاء منادى بحذف حرف النداء وما بعده خبر أنتم يعنى أنتم يا أولاء الخاطئون بموالات الكفار تحبونهم- وجاز ان يكون أولاء منصوبا بفعل يفسره ما بعده والجملة خبر أنتم والمشار اليه باولاء الكفار والواو فى ولا يحبّونكم للحال والمعنى ها أنتم ايها المؤمنون تحبون أولاء الكفار والحال انهم لا يحبونكم وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ واللام للجنس اى تؤمنون بجنس الكتب كله- او للعهد اى تؤمنون بالتورية كلها- والجملة حال من مفعول لا يحبونكم بتقدير المبتدا حتى يصح الواو للحال تقديره وأنتم تؤمنون وتقديم المسند اليه على الخبر الفعلى للحصر يعنى الكفار لا يؤمنون والمعنى لا يحبونكم والحال أنتم تؤمنون بكتابهم
(١) فى الأصل الأربع-
كله فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشىء من كتابكم بل لا يؤمنون بكل التورية ايضا حيث ينكرون نعت النبي ﷺ وفيه توبيخ بانهم فى باطلهم أصلب منكم فى حقكم وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا نفاقا آمَنَّا كما أمنتم بمحمد ﷺ وبالقران وَإِذا خَلَوْا الى أنفسهم عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ أجل الْغَيْظِ فى الصحاح الغيظ أشد غضب وهو الحرارة التي يجدها الإنسان فى ثور ان دم قلبه يعنى يعضون انا ملهم تأسفا وتحسرا حين يرون دولتكم ولا يجدون سبيلا الى اضراركم من أجل غيظهم عليكم او لكراهتهم قولهم أمنا واضطرارهم اليه- وجاز ان يكون هذا مجازا عن شدة الغيظ وان لم يكن ثمه عض قُلْ يا محمد او خطاب لكل مؤمن وتحريض لهم بعداوتهم وحث لهم بخطابهم خطاب الأعداء فانه اقطع للمحبة من جراحة السنان مُوتُوا ايها الكفار والمنافقون بِغَيْظِكُمْ قيل هذا دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وفيه ان المدعو عليه لا يخاطب بل الله سبحانه يخاطب فى الدعاء والظاهر انه اخبار بانكم لن تروا ما يسركم واعلام بانا مطلعون على عداوتكم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) اى بامور ذات الصدور يعنى ما فى صدورهم من الغيظ وهو يحتمل ان يكون داخلا فى المقول اى قل لهم ان الله يعلم ما فى قلوبكم فيفضحكم فى الدنيا ويعذبكم فى الاخرة ولا يفيدكم اخفاؤكم- وجاز ان يكون خارجا عنه متصلا بما قبله كالجمل اللاحقة يعنى وان لم تعلموا انهم لا يحبونكم ويعضون عليكم الأنامل فالله يعلم ذلك فعليكم اتباع ما أمركم الله به من البغض فى الله دون المحبة لاجل وصلات بينكم-.
إِنْ تَمْسَسْكُمْ ايها المؤمنون حَسَنَةٌ نعمة من ظهور الإسلام وغلبتكم على عدوكم ونيل الغنيمة وخصب فى المعاش تَسُؤْهُمْ تحزنهم ذلك حسدا وفى لفظا المس اشعار الى انهم يحزنون على ادنى حسنة أصابتكم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ اى ما يسوءكم من إصابة عدو منكم او حدب او نكبة يَفْرَحُوا بِها شماتة بما أصابكم الجملة الشرطية بيان لتناهى عداوتهم متصلة بالشرطية السابقة وبينهما اعتراض وَإِنْ تَصْبِرُوا على إذا هم او على المصائب كلها او......
على مشاق التكليف وَتَتَّقُوا موالاتهم وغيرها مما حرم الله عليكم لا يَضُرُّكُمْ قرا اهل الكوفة والشام بضم الضاد والراء من الضرر مجزوم فى جواب الشرط وضمة الراء للاتباع كضمة مد واهل الحرمين والبصرة بكسر الضاد وسكون الراء للجزم من ضار يضير الأجوف كَيْدُهُمْ يعنى قصد الكفار اضراركم على سبيل الإخفاء شَيْئاً من الضر يعنى لا يضركم كيدهم بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولان المجد فى الأمر المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال جريّا على الخصم ولان المؤمن يرجو فى المصيبة ثوابها الموعود فيفرح بها أشد مما يفرح فى النعمة والعاشق بعلمه ان ما أصابه انما هو من محبوبه يلتذّ بالمصيبة اكثر مما يلتذّ بالنعمة لان مراد المحبوب ألذّ عنده من مراد نفسه عن ابن عباس قال كنت خلف رسول الله ﷺ يوما فقال يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سالت فاسئل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم ان الامة لو اجتمعت على ان ينفعوك بشىء لم ينفعوك الا بشىء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا ان يضروك بشىء لم يضروك الا بشىء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجف الصحف- رواه احمد والترمذي وقال حسن صحيح وعن ابى ذر قال قال رسول الله ﷺ انى لا علم اية لو أخذ الناس بها لكفتهم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ رواه احمد وابن ماجة والدارمي وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ قال ربكم عز وجل لو ان عبيدى أطاعوني لاسقيت عليهم المطر بالليل واطلعت عليهم الشمس بالنهار ولم أسمعهم صوت الرعد- رواه احمد وعن صهيب قال قال رسول الله ﷺ عجبا لامر المؤمن ان امره له كله خير وليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان أصابته سراء شكر فكان خيرا له وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له رواه مسلم إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ اى الكفار من اضرارهم بالمؤمنين مُحِيطٌ (١٣) بعلمه فيجازيهم عليه ويحفظكم عن اضرارهم ان شاء ويجازيكم على الضراء ان أراد بكم.
وَاذكر إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ تنزلهم وتسوّى وهى لهم مَقاعِدَ مواطن ومواقف من الميمنة والقلب والساقة لِلْقِتالِ متعلق......
127
بتبوئ وَاللَّهُ سَمِيعٌ لاقوالهم عَلِيمٌ (١٣١) لنياتهم قال الحسن هو يوم بدر وقال مقاتل يوم الأحزاب- وقال سائر المفسرين وهو الصحيح انه هو يوم أحد اخرج ابن ابى حاتم وابو يعلى عن المسور بن مخرمة انه قال لعبد الرحمن بن عوف أخبرني عن قصتكم يوم أحد قال اقرأ بعد العشرين ومائة من ال عمران تجد قصتنا وإذ غدوت من أهلك الى قوله إذ همّت طائفتن منكم ان تفشلا قال هم الذين طلبوا الامان من المشركين الى قوله وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ الاية قال هو تمنى المؤمنين لقاء العدو الى قوله أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ قال هو صاح الشيطان يوم أحد قتل محمد الى قوله أَمَنَةً نُعاساً قال القى عليهم النوم الى اخر «١» ستين اية (يعنى الى قوله تعالى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ويتلوه قوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ) قال ابن إسحاق رحمه الله وكان مما انزل الله تعالى فى يوم أحد يعنى فى شأن يوم أحد ستون اية من ال عمران فيها صفة ما كان فى يومهم ذلك ومعاتبة من غاب منهم قال مجاهد والكلبي والواقدي غدا رسول الله ﷺ من منزل عائشة رضى الله عنها فمشى على رجليه الى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوم القدح- واخرج ابن جرير والبيهقي فى الدلائل من طريق محمد بن إسحاق عن رجاله ورواه عبد الرزاق فى مصنفه عن معمر عن الزهري ان المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ثانى عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة وكانوا ثلاثة آلاف فاستشار رسول الله ﷺ أصحابه ودعا عبد الله بن ابى بن سلول ولم يدعه قط قبلها فقال هو واكثر الأنصار أقم يا رسول الله بالمدينة لا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا الى عدو منا قط الا أصاب منا ولادخلها علينا الا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فان أقاموا أقاموا بشر مجلس وان دخلوا قاتلهم الرجال فى وجوههم ورماههم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم وان رجعوا رجعوا خائبين فاعجب رسول الله ﷺ هذا الرأى وكان هذا رأى الأكابر من المهاجرين والأنصار وقال حمزة بن عبد المطلب وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك فى طائفة من الأنصار رضى الله عنهم (غالبهم احداث لم يشهدوا البدر وطلبوا الشهادة وأحبوا إلقاء العدو وأكرمهم الله بالشهادة يوم الأحد) اخرج بنا يا رسول الله الى هذه الا كلب لا يرون انا حببنا عنهم وضعفنا- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(١) فى الأصل الى الأخر
128
انى رايت فى منامى بقرا فاولتها خيرا ورايت فى ذباب سيفى ثلما فاولتها هزيمة ورايت انى ادخلت يدى فى درع حصينة فاولتها المدينة فان رايتم ان تقيموا بالمدينة وكان يعجبه ان يدخلوا عليهم المدينة فيقاتلوهم فى الازقة- روى احمد والنسائي والدارمي بسند صحيح بلفظ رايت فى درع حصينة ورايت بقرا تنحر فاولت ان الدرع الحصينة المدينة وان البقر خير والله- وروى البزار والطبراني عن ابن عباس قال لما نزل ابو سفيان وأصحابه قال رسول الله ﷺ لاصحابه انى رايت فى المنام سيفى ذا الفقار انكسر وهى مصيبة ورايت بقرا تذبح وهى مصيبة ورايت علىّ درعى وهى مدينتكم لا يصلون إليها ان شاء الله قال ابن إسحاق وابن عقبة وابن سعد وغيرهم كانت هذه الرؤيا ليلة الجمعة- قال عروة وكان الذي راى بسيفه ما أصاب وجهه- وقال ابن هشام واما الثلم فى السيف فرجل من اهل بيتي يقتل وفى رواية ثم هززته يعنى السيف مرة اخرى فعاد احسن ما كان فاذا هو ما جاء الله به من الفتح- وقال حمزة والذي انزل عليك لا اطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفى خارج المدينة وكان يوم الجمعة صائما ويوم السبت صائما- وقال «١» النعمان بن مالك يا رسول الله لا تحرمنا الجنة فو الذي نفسى بيده لادخلنها فقال رسول الله ﷺ لمن قال انى أحب الله ورسوله وفى لفظ اشهد ان لا اله الا الله وانك رسول الله ولا أفر يوم الزحف فقال له رسول الله ﷺ صدقت فاستشهد يومئذ وحث مالك بن سنان الخدري وإياس بن عتيك على الخروج للقتال- فلما أبوا الا ذلك صلى الجمعة بالناس فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم ان لهم النصر ما صبروا ففرح الناس بالشخوص الى عدوهم وكره ذلك المخرج بشر كثير وصلى رسول الله ﷺ العصر بالناس وحضر اهل العوالي ورفعوا النساء فى الآطام ودخل بيته ومعه ابو بكر وعمر وقد صف الناس له ما بين حجرته الى منبره ينتظرون خروج رسول الله ﷺ فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقال للناس استكرهتم رسول الله ﷺ وقلتم له ما قلتم والوحى ينزل اليه من السماء فردوا الأمر اليه فما أمركم به فافعلوا فخرج رسول الله ﷺ وقد لبس لامته ولبس الدرع اى السلاح- منه رح
(١) فى الأصل وقال وقال
129
فاظهرها وحزم وسطه بمنطقة من حمائل السيف من آدم واعتم وتقلد السيف- وندم الناس على إكراهه فقالوا يا رسول الله استكرهناك ولم يكن لنا ذلك فان شئت فاقعد فقال رسول الله ﷺ قد دعوتكم الى هذا الحديث فابيتم وما ينبغى لنبى إذا لبس لامته ان يضعها حتى يقاتل انظروا ما أمركم به فاتبعوه امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم ووجد مالك بن عمرو النجاري قد مات ووضعوه عند موضع الجنائز فصلى عليه ثم خرج ثم ركب رسول الله ﷺ فرسه السكب وتقلد القوس وسعد بن عبادة وسعد بن معاذ وكل منهما دارع والناس عن يمينه وشماله حتى «١» إذا انتهى الى رأس الثنية رأى كتيبة خشنا لها رحل فقال ما هذا قالوا «٢» هؤلاء حلفاء عبد الله بن ابى من اليهود فقال اسلموا فقيل لا فقال انا لا نستنصر باهل الشرك على اهل الشرك وسار رسول الله ﷺ فعسكر بالشيخين وهما اطمان- وعرض «٣» على رسول الله ﷺ عسكر فاستصغر غلمانا فردهم رد سبعة عشر وهم أبناء اربعة عشر وعرضوا عليه وهم أبناء خمسة عشر فاجازهم منهم عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت واسامة بن زيد وزيد بن أرقم والبراء بن عاذب وابو سعيد الخدري وأوس بن ثابت الأنصاري- وأجاز رافع بن خديج بعد الرد لما قيل انه رام فقال سمرة بن جندب أجاز رسول الله ﷺ رافع بن خديج وردنى وانا اصرعه فاعلم بذلك رسول الله ﷺ فقال تصارعا فصرع سمرة رافعا فاجازه- فلما فرغ العرض وغابت الشمس اذن بلال بالمغرب فصلى رسول الله ﷺ بأصحابه ثم اذن بالعشاء فصلى بهم وبات بالشيخين واستعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة فى خمسين رجلا يطوفون بالعسكر ونام رسول الله ﷺ حتى كان السحر فصلى الصبح ثم قال اين الأدلاء من رجل يخرج بنا من كثب لا يمر بنا عليهم فقام ابو خثيمة الحارثي فقال انا يا رسول الله فسلك به فى حرة بنى حارثة وبين أموالهم حتى سلك فى مال لمربع بن قنطى وكان منافقا ضرير البصر فلما سمع حس رسول الله ﷺ ومن معه من المسلمين قام يحثو التراب فى وجوههم ويقول ان كنت رسول الله فانى لا أحل لك ان تدخل حائطى وأخذ حفنة من تراب ثم قال والله لو اعلم انى لا أصيب غيرك لضربت بها وجهك- فابتدر لا القوم
(١) فى الأصل حتى انتهى.
(٢) فى الأصل قال.
(٣) فى الأصل وعرض رسول الله.
130
ليقتلوه فقال رسول الله ﷺ لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر وقد بدر اليه سعد بن زبدة الأشهلي قبل نهى رسول الله ﷺ فضربه بالقوس فشجه- وكان رسول الله خرج الى أحد فى الف رجل وقيل فى تسعمائة وخمسين رجلا فلما بلغوا بالمهملات الخلط اى مقام خلط العسكرين- منه رح السوط انحزل عبد الله بن ابى بثلث الناس ورجع فى ثلاثمائة وقال علام نقتل أنفسنا وأولادنا فتبعهم ابو جابر السلمى فقال أنشدكم فى نبيكم وفى أنفسكم فقال عبد الله بن ابى لو نعلم قتالا لاتّبعنكم وبقي رسول الله ﷺ فى سبعمائة وفرسه وفرس لابى بردة وقال ابن عقبة لم يكن مع المسلمين فرس- وهمت بنوا سلمة من الخزرج وبنوا حارثة من الأوس وكانا جناحى العسكر بالانصراف مع عبد الله بن أبيّ فعصمهم الله فلم ينصرفوا فذكّرهم الله تعالى عظيم نعمته وقال.
إِذْ هَمَّتْ بدل من قوله إذ غدوت او ظرف عمل فيه سميع عليم طائِفَتانِ يعنى بنى حارثة وبنى سلمة مِنْكُمْ فيه تعريض على ابن أبيّ انهم ليسوا منكم ولذا لم يذكر رجوعهم أَنْ تَفْشَلا اى ان تجبنا وتضعفا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما اى محبهما او المعنى عاصمهما عن اتباع تلك الخطرة او المعنى والله ناصرهما ومتولى أمرهما فما لهما تفشلان ولا يتوكلان وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وتقديم الظرف للحصر يعنى فليتوكلوا عليه لا على غيره فلا يفشلوا بفرار المنافقين عن جابر بن عبد الله قال فينا نزلت هذه الاية- قالوا ما سرّنا انا لم نهم بالذي هممنا به وقد اخبر الله تعالى انه ولينا- ثم ذكّرهم ما يوجب التوكل مما يسّر لهم الله من الفتح يوم بدر وهم فى حالة قلة وذلة فقال.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ الأكثرون على ان بدرا اسم لموضع بين مكة والمدينة وقيل اسم لبير هناك قيل كانت بدر بيرا «١» الرجل يقال له بدر قاله الشعبي وأنكره الآخرون وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ جمع ذليل حال من الضمير- وانما قال اذلة ولم يقل ذلائل ليدل على قلتهم مع ذلتهم لضعف الحال وقلة المراكب والسلاح فانهم كانوا ثلاثمائة رجل «٢» ومعهم سبعين بعيرا يعتقبون عليها وفرسان فرس لمقداد وفرس لزبير بن العوام فَاتَّقُوا اللَّهَ فى الثبات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) ما أنعم به عليكم بتقواكم من نصره او لعلكم بنعم الله عليكم فتشكرون فوضع الشكر موضع الانعام لانه سببه وفيه تنبيه
(١) فى الأصل بير-
(٢) فى الأصل رجلا-
على انه لا بد ان يكون نظر العبد فى الانعام على الشكر وانه انما يرغب فى الانعام لانه وسيلة للشكر.
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ظرف لنصركم على ما قال قتادة انه كان هذا يوم بدر أمدهم الله تعالى بألف من الملائكة كما قال فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف كما ذكر هاهنا- اخرج ابن ابى شيبة فى المصنف وابن ابى حاتم عن الشعبي انه بلغ رسول الله ﷺ والمسلمين يوم بدر ان كرز بن جابر المحاربي يريد ان يمد المشركين فشق ذلك عليهم فانزل الله تعالى أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) قرا ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاء من التفعيل على التكثير هاهنا وفى العنكبوت انّا منزلون والآخرون بسكون النون والتخفيف من الانزال استفهام لانكار ان لا يكفيهم ذلك- وجئ بلن اشعارا بانهم كانوا كالايسين من النصر لضعهم وقلتهم وقوة العدو وكثرتهم.
بَلى إيجاب لما بعد لن اى بلى يكفيهم ذلك- ثم وعدهم بالزيادة بشرط الصبر والتقوى حثّا عليهما وتقوية لقلوبهم إِنْ تَصْبِرُوا على القتال وَتَتَّقُوا خلاف ما يأمركم به رسول الله ﷺ وَيَأْتُوكُمْ اى المشركون مِنْ فَوْرِهِمْ هذا اى من ساعتهم هذه وهو فى الأصل مصدر فارت القدر فورا إذا غلت فاستعير للسرعة ثم اطلق للحال التي لا تراخى عنه والمعنى ان يأتوكم فى الحال حال ضعفكم وقوتهم- قلت الظاهر ان التقييد بالفور لا مفهوم له بل للترقى والمعنى ان يأتوكم بالتراخي بعد ما تقوون على قتالهم ينصركم الله بالطريق الاولى وان يأتوكم من فورهم هذا ايضا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ الامداد اعانة الجيش بالجيش بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) روى ابن ابى شيبة وابن ابى حاتم عن الشعبي انه بلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين فلم يمد المسلمين بخمسة آلاف والله اعلم- قرا ابن كثير وابو عمرو وعاصم مسوّمين بكسر الواو على وزن اسم الفاعل والباقون بالفتح على وزن اسم المفعول من التسويم بمعنى الاعلام «١» قال قتادة والضحاك كانوا قد اعلموا بالعهن فى نواصى الخيل وإذ نابها- واخرج ابن ابى شيبة فى المصنف
(١) اخرج الطبراني وابن مردوية بسند ضعيف عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ فى قوله تعالى مسومين اى معلمين قال ابن عباس كان سماء الملائكة يوم بدر عمائم سود ويوم أحد عمائم حمر- منه رحمه الله
132
عن عمرو بن إسحاق مرسلا انه قال رسول الله ﷺ لاصحابه يوم بدر تسوّموا فان الملائكة قد تسوّمت بالصوف الأبيض فى قلانسهم ومغافرهم «١» - وكذا اخرج ابن جرير وزاد وقال وهو أول يوم وضع فيه الصوف او بمعنى الاسامة يعنى الإرسال يعنى مرسلين قال عروة بن الزبير كانت الملائكة على خيل بلق عليهم عمائم صفر- وقال على وابن عباس رضى الله عنهم كانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم- وقال هشام بن عروة والكلبي عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم- قال قتادة فصبروا يوم بدر واتقوا فامدهم بخمسة آلاف كما وعد- وقال الحسن فهؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين الى يوم القيامة يعنى بشرط الصبر والتقوى وقال ابن عباس ومجاهد لم يقاتل الملائكة فى المعركة الا يوم بدر وفيما سوا ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون انما يكونون عددا ومددا- وقال جماعة وعد الله المسلمين يوم بدر ان صبروا على طاعته واتقوا محارمه ان يمدهم فى حروبهم كلها فلم يصبروا الا فى يوم الأحزاب- فامدهم حين حاصروا قريظة والنضير- قال عبد الله بن ابى اوفى كنا محاصرى قريظة والنضير ما شاء الله تعالى فلم يفتح لنا فرجعنا فدعا رسول الله ﷺ بغسل فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبرئيل عليه السلام فقال وضعتم أسلحتكم ولم يضع الملائكة أوزارها فدعا رسول الله ﷺ بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثم نادى فينا فقمنا حتى اتينا قريظة والنضير فيومئذ امدّنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ففتح لنا فتحا يسيرا- وقال الضحاك وعكرمة كان قوله تعالى إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ الاية حكاية عن يوم أحد وعدهم المدد ان صبروا واتقوا فلم يصبروا وخالفوا الرسول ﷺ فلم يمدوا وعلى هذا قوله تعالى إِذْ تَقُولُ بدل ثان من إذ غدوت- وقال مجاهد والضحاك معنى قوله تعالى من فورهم من غضبهم هذا لانهم انما رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر وقد امدّ الله تعالى رسوله فى تلك الوقعة بجبرئيل وميكائيل لصبره وتقواه عن سعد بن ابى وقاص قال رايت رسول الله ﷺ يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كاشد القتال ما رايتهما قبل ولا بعد متفق عليه والرجلان جبرئيل وميكائيل- قال محمد بن إسحاق لما كان يوم أحد
(١) المغفر هو ما يلبسه الدارع على رأسه من الرادع- منه رحمه الله
133
انجلى القوم عن رسول الله ﷺ وبقي سعد بن مالك يرمى وفتى شاب ينبل له فلما فنى النبل أتاه به جبرئيل فنثره فقال ارم أبا إسحاق مرتين فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف.
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ اى ما جعل امدادكم بالملائكة إِلَّا بُشْرى اى بشارة لَكُمْ بالنصر وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ «١» فلا تجزعون من كثرة أعدائكم وقلتكم فان الإنسان معتاد بتشبث الأسباب فيطمئن قلبه عند ملاحظة الأسباب بالنصر عند كثرة الأعوان وَمَا النَّصْرُ فى الحقيقة إِلَّا مِنْ «٢» عِنْدِ اللَّهِ لا من العدة والعدد لان الأسباب كلها عادية وافعال العباد بشرا كان او ملائكة مخلوقة لله تعالى الْعَزِيزِ الغالب الذي لا يغلب عليه أحد الْحَكِيمِ (١٢٦) الذي ينصر او يخذل بوسط وبغير وسط على مقتضى الحكمة تفضلا من غير ان يجب عليه شىء.
لِيَقْطَعَ متعلق بقوله لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ او بقوله يمددكم او بقوله وما النّصر ان كان اللام للعهد طَرَفاً اى طائفة مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فى القاموس الطرف الناحية وطائفة من الشيء والرجل الكريم يعنى نصركم لكى يهلك جماعة منهم فقتل من قادتهم وسادتهم يوم بدر سبعون واسر سبعون- ومن حل الاية على حرب أحد فقال قد قتل منهم يومئذ ستة عشر وكانت النصرة للمؤمنين حتى خالفوا امر رسول الله صلى الله عليه فانقلب عليهم أَوْ يَكْبِتَهُمْ فى الصحاح الكبت الرد بعنف وفى القاموس كبته يكبته صرعه وأخزاه وصرفه وكسر؟؟؟ رد العدو بغيظة واذلة قلت وهذه المعاني كلها لازمة للهزيمة وكلمة او للتنويع لا للترديد يعنى نصركم لكى يهلك طائفة من الكفار ويهزم سائرهم فَيَنْقَلِبُوا الى بلادهم خائِبِينَ (١٢٧) لم ينالوا شيئا مما أرادوا- روى مسلم واحمد عن انس ان النبي ﷺ كسرت رباعيته
(١) فى الأصل به قلوبكم.
(٢) عن عياض الأشعري قال شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء ابو عبيدة ويزيد بن ابى سفيان وابن حسنة وخالد بن الوليد وعياض وليس عياض هذا قال وقال عمر إذا كان قتالا فعليكم ابو عبيدة فكتبنا اليه انه قد جاء إلينا الموت فاستمددناه فكتب إلينا انه قد جاءنى كتابكم تستمدونى وانى أدلكم على من هو أعز نصرا واحضر جندا الله عز وجل فاستنصروه فان محمدا ﷺ قد نصر يوم بدر فى اقل من عدتكم فاذا جاءكم كتابى هذا فقاتلوهم ولا تراجعونى فقاتلناهم فهزمنا اربع فراسخ- منه رح
يوم أحد وشج وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال كيف يصلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم الى ربهم فانزل الله تعالى.
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ شىء اسم ليس ولك خبره واللام بمعنى الى كما فى قوله مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ ومن الأمر حال من شىء روى احمد والبخاري عن ابن عمر قال سمعت رسول الله ﷺ يقول اللهم العن فلانا وفى رواية اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحرث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن امية فنزلت هذه الاية الى آخرها فتيب عليهم كلهم وروى البخاري عن ابى هريرة نحوه قال الحافظ ابن حجر طريق الجمع انه ﷺ دعا على المذكورين فى صلاته بعد ما وقع له من الأمر المذكور يوم أحد فنزلت الاية فى الامرين معا فيما وقع له وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم- وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحاق لما راى رسول الله ﷺ والمسلمون يوم أحد ما نال أصحابهم من جزع الاذان والأنوف وقطع المذاكير قالوا لئن انا لنا الله منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد فانزل الله تعالى هذه الاية- وقيل أراد النبي ان يدعوا عليهم بالاستيصال فنزلت هذه الاية وذلك لعلمه تعالى فيهم بان كثيرا منهم يسلمون لكن يشكل ما رواه مسلم من حديث ابى هريرة انه ﷺ كان يقول فى الفجر اللهم العن رعلا وذكوان وعصية حتى انزل الله تعالى هذه الاية فان قصة رعل وذكوان كان بعد ذلك وهم اهل بير معونة بعث إليهم رسول الله ﷺ سبعين رجلا من القراء ليعلموا الناس القران والعلم أميرهم المنذر بن عمرو- فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد من ذلك وجدا شديدا وقنت شهرا فى الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن والسنين- قال الحافظ ثم ظهرت لى علة فى حديث ابى هريرة هذه وان فيه إدراجا فان قوله حتى انزل الله منقطع من رواية الزهري عمّن بلغه بيّن ذلك مسلم وهذا البلاغ لا يصح- ويحتمل ان يقال ان قصة رمل وذكوان كان عقيب غزوة أحد باربعة أشهر فى صفر سنة اربع من الهجرة فلعلها نزلت فى جميع ذلك وتأخير نزول الاية عن سبب نزولها قليلا غير مستبعد- وورد فى سبب نزول الاية ايضا ما أخرجه البخاري فى تاريخه وابن إسحاق عن سالم بن عبد الله بن عمر قال جاء رجل من قريش الى النبي ﷺ فقال......
انك تنهى عن الشيء ثم تحول فحول قفاه الى النبي ﷺ وكشف استه فلعنه ودعا عليه فانزل الله تعالى هذه الاية ثم اسلم الرجل فحسن إسلامه وهو مرسل غريب أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ان اسلموا أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فى الدنيا بالقتل والاسر وفى الاخرة بالنار ان أصروا على الكفر فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) تعليل للتعذيب قال الفراء كلمة او فى قوله او يتوب عليهم بمعنى حتى وقال ابن عيسى انها بمعنى الّا ان كقولك لا لزمنك او تعطينى حقى يعنى ليس مفوضا إليك من أمرهم من التعذيب او الانجاء شىء حتى يتوب الله عليهم بإسلامهم فتفرح به او يعذبهم بظلمهم فتشفى منهم- وقيل يحتمل ان يكون او يتوب عليهم معطوفا على الأمر او على شىء بإضمار ان والمعنى ليس لك من أمرهم او من التوبة عليهم او من تعذيبهم شىء انما أنت عبد مامور بانذارهم وجهادهم والأمر كله لله قال التفتازانيّ فهو من قبيل عطف الخاص على العام وفى مثله بكلمة او نظر وأجيب بان هذا إذا كان الأمر بمعنى الشأن- ولك ان تجعل الأمر بمعنى التكليف والإيجاب- والمعنى ليس ما تأمر به من عندك وليس الأمر وإيجاب الواجبات بيدك ولا التوب عليهم ولا التعذيب قلت ولو كان نزول الاية متصلا بما قبله فالظاهر ان يكون قوله او يتوب عليهم معطوفا على قوله او يكبتهم والمعنى نصركم الله ببدر ليقطع ويهلك طائفة من الذين كفروا بالقتل او يكبت طائفة منهم بالهزيمة او يتوب على طائفة منهم بالإسلام او يعذب طائفة منهم بالأسر وأخذ الفدية فهو بيان لانواع احوال الكفار وقوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ جملة معترضة لمنعه عن الدعاء عليهم.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا فله الأمر كله لا لغيره يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ مغفرته بفضله بعد توفيقه للاسلام سواء تاب او لم يتب وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه صريح فى نفى وجوب التعذيب عليه وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) فلا تبادر بالدعاء عليهم- اخرج الفرياني عن مجاهد قال كانوا يتبايعون الى الاجل فاذا حل الاجل زادوا عليهم وزادوا فى الاجل فنزلت.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً اى زيادات مكررة فهو نهى عن الربوا مع توبيخ على ما كانوا يعملونه لا......
للاحتراز وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما نهيتم عنه من الربوا وغيره لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) راجين الفلاح.
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) قال البيضاوي فيه تنبيه على ان النار بالذات معدة للكافرين وبالعرض لعصاة المؤمنين- قلت والظاهر ان النعت للتخصيص والنار المعدة للكافرين مغائرة للنار المعدة للعصاة فيكون فيه اشارة الى ان أكل الربوا يوجب قساوة القلب بحيث ربما يفضى الى الكفر ويؤيده ما فى المدارك انه كان ابو حنيفة رحمه الله يقول هى أخوف اية فى القران حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين ان لم يتقوه فى اجتناب محارمه وقد أمد ذلك بما اتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله بقوله.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) راجين رحمته وعلى كلا التأويلين يعنى سواء كانت النار بالذات معدة للكافرين وبالعرض للعصاة او كانت النار المعدة للكافرين مغائرة للنار المعدة للعصاة فى هذه الاية رد على المرجئة حيث قالوا لا يضر مع الايمان معصية قال اكثر المفسرين ان لعل وعسى من الله تعالى للتحقيق والظاهر انه لا يفيد الوجوب بل يفيد الرجاء مع بقاء الخوف وقال البيضاوي ان لعل وعسى فى أمثال ذلك دليل على عرة التوصل الى ما جعل خبرا له.
وَسارِعُوا معطوف على أطيعوا قرا نافع وابن عامر بحذف واو العطف والباقون بالواو إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ قال ابن عباس الى الإسلام وروى عنه الى التوبة قاله عكرمة وقال على بن ابى طالب رضى الله عنه الى أداء الفرائض- وروى عن انس بن مالك انها التكبيرة الاولى ومرجع الأقوال كلها الى ما يستحق به مغفرة الذنوب الموجب للتفصى من النار ورحمة الله تعالى الموجب لدخول الجنة من الإسلام والاعتقادات الحقة والأخلاق والأعمال الصالحة وقد مر فيما سبق حديث ابى امامة بادروا بالأعمال هرما ناغضا الحديث وعن ابى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ بادروا بالأعمال سبعا ما تنظرون الا فقرا منسيا او غنى مطغيا او مرضا مفسدا او هرما مفندا او موتا مجهزا او الدجال فانه شر منتظر او الساعة والسّاعة أدهى وامرّ رواه الترمذي والحاكم عَرْضُهَا اى سعتها صفة للجنة السَّماواتُ وَالْأَرْضُ اى كعرضهما وسعتهما وهذا على التمثيل دون الحقيقة فان أوسع......
المسافات المكانية فى ظن العوام سعة السموات والأرض فمثل فى هذه الاية بها كما مثل فى قوله تعالى خلدين فيها ما دامت السّموات والأرض المسافة الزمانية للخلود فى الجنة بمدة دوامها يعنى عند ظنكم قال البغوي سئل انس بن مالك رضى الله عنه عن الجنة أفي السماء أم فى الأرض فقال فاى ارض وسماء تسع الجنة فقيل فاين هى قال فوق السموات السبع تحت العرش وقال قتادة كانوا يرون ان الجنة فوق السموات السبع وان جهنم تحت الأرضين السبع- اخرج ابو الشيخ فى العظيمة من طريق ابى الزعراء عن عبد الله قال الجنة فى السماء السابعة العليا (قلت يعنى فوقها) والنار فى الأرض السابعة السفلى قلت يعنى تحتها أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) حقيقة التقوى وهم الذين اتقوا من شغل قلوبهم بغير الله ومن رذائل أنفسهم ويجرى فيه التأويلان كما جريا فى النار التي أعدت للكافرين-.
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ اى المسرة بكثرة المال وَالضَّرَّاءِ اى النقص فى الأموال كذا فى القاموس اى لا يخلون فى حال ما من الانفاق بما قدروا عليه من قليل او كثير قال البغوي أول ما ذكر من اخلاقهم الموجبة للجنة السخاء قال رسول الله ﷺ السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار وجاهل سخى أحب الى الله من عابد بخيل رواه الترمذي عن ابى هريرة وذكر البغوي بلفظ أحب الى الله من العالم البخيل- ورواه البيهقي عن جابر والطبراني عن عائشة وعن ابن عباس مرفوعا السخاء خلق الله الأعظم رواه ابن النجار- وقال رسول الله ﷺ السخاء شجرة من أشجار الجنة أغصانها متدليات فى الدنيا فمن أخذ يغصن منها قادة ذلك الغصن الى الجنة والبخل شجرة من أشجار النار أغصانها متدليات فى الدنيا فمن أخذ بغصن من أغصانها قاده ذلك الغصن الى النار رواه الدارقطني والبيهقي عن على عليه السلام وابن عدى والبيهقي عن ابى هريرة رضى الله عنه وابو نعيم فى الحلية عن جابر رضى الله عنه والخطيب عن ابى سعيد رضى الله عنه وابن عساكر عن انس رضى الله عنه والديلمي فى مسند الفردوس عن معاوية رضى الله عنه وعن ابى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ سبق درهم مائة الف فقال رجل وكيف ذاك يا رسول الله فقال رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة الف درهم تصدق بها ورجل......
138
ليس له الا درهمان فاخذ أحدهما فتصدق به رواه النسائي وصححه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الكظم حبس النفس عند امتلائها يعنى الكافين أنفسهم عن إمضاء الغيظ مع القدرة من كظمت القربة إذا ملاتها وشددت رأسها عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملا الله قلبه أمنا وايمانا رواه احمد وعبد الرزاق وابن ابى الدنيا فى ذم الغضب- وروى البغوي عن انس مرفوعا بلفظ من كظم غيظا وهو يقدران ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤس الخلائق حتى يخيره من اىّ الحور شاء وروى ابن ابى الدنيا عن ابن عمر مرفوعا من كف غضبه ستر الله عورته وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال الكلبي العافين عن المملوكين سوء الأدب- وقال زيد بن اسلم ومقاتل العافين عمن ظلمهم وأساء إليهم قال رسول الله ﷺ ان هؤلاء من أمتي قليل الا من عصم الله- رواه الثعلبي فى تفسيره عن مقاتل والبيهقي فى مسند الفردوس من حديث ابن مالك وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٣) اللام للجنس ويدخل تحته هؤلاء او للعهد فيكون اشارة إليهم ووضع المظهر موضع المضمر للمدح والاشارة الى ان تلك صفات المحسنين عن الثوري الإحسان ان تحسن الى المسيء فان الإحسان الى المحسن متاجّرة- وقال رسول الله ﷺ فيما رواه الشيخان فى الصحيحين من حديث عمر فى قصة سوال جبرئيل الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك قلت فالمحسنون هم الصوفية ولعل كظم الغيظ كناية عن فناء النفس لان الغيظ منشاه رذائل النفس من الكبر والحسد والحقد والبخل ونحو ذلك ولعل العفو عن الناس كناية عن فناء القلب لان بفناء القلب يسقط الناس عن نظر اعتباره ويرى الافعال كلها منسوبة الى الله تعالى فلا يرى جواز مواخذة أحد من الناس بشىء مما اتى به الا لحق الله تعالى على حسب ما امر به امتثالا وتعبدا ولعل الانفاق فى السراء والضراء عبارة عن عدم اشتغال قلوبهم بامتعة الدنيا والله اعلم- لمّا ذكر الله سبحانه فى هذه الاية المتقين المحسنين العارفين عقبهم بذكر اللاحقين......
139
بهم التائبين فقال.
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فعلى هذا الموصول مبتدا وجملة أولئك جزاؤهم الاية خبره- وجاز ان يكون الموصول معطوفا على المتقين او على الذين ينفقون فعلى هذا جملة أولئك مستانفة والأظهر هو الاول قال ابن مسعود قال المؤمنون يا رسول الله كانت بنوا إسرائيل أكرم على الله منا كان أحدهم إذا أذنب أصبح وكفارته مكتوبة فى عتبة بابه اجدع انفك او اذنك افعل كذا فسكت رسول الله ﷺ فانزل الله تعالى هذه الاية- وقال عطاء نزلت فى نبهان التمّار وكنيته ابو معبد أتته امراة حسناء تبتاع منه تمرا فقال لها ان هذا التمر ليس بجيد وفى البيت أجود منه فذهب بها الى بيته فضمها الى نفسه وقبلها فقالت له اتق الله فتركها وندم على ذلك فاتى النبي ﷺ وذكر ذلك له فنزلت هذه الاية- وقال مقاتل والكلبي أخي رسول الله ﷺ بين رجلين أحدهما من الأنصار والاخر من ثقيف فخرج الثقفي فى غزاة واستخلف الأنصاري على اهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم فلما أرادت المرأة ان تأخذ منه دخل على اثرها وقبل يدها ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه- فلما رجع عليه الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسال امرأته عن حاله فقالت لا اكثر الله فى الاخوان مثله ووصفت له الحال والأنصاري يسيح فى الجبال تائبا مستغفرا فطلبه الثقفي حتى وجده فاتى به أبا بكر رجاء ان يجد عنده راحة وفرجا وقال الأنصاري هلكت وذكر القصة فقال ابو بكر ويحك ما علمت ان الله تعالى يغار للغازى ما لا يغار للمقيم ثم لقيا عمر فقال مثل ذلك فاتيا النبي ﷺ فقال له مثل مقالتهما فانزل الله تعالى هذه الاية- واصل الفحش القبح والخروج عن الحد والمراد بالفاحشة هاهنا الكبيرة لخروجه عن الحد فى القبح والعصيان وقال جابر الفاحشة الزنى أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالصغائر او بما دون الزنى من القبلة والمعانقة واللمس وقيل فعلوا فاحشة قولا او ظلموا أنفسهم فعلا وقيل الفاحشة ما يتعدى الى غيره وظلم النفس ما ليس كذلك وهذا اظهر ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ
يعنى ذكروا وعيد الله وان الله سائلهم فندموا وتابوا واستغفروا وقال مقاتل بن حبان ذكروا لله باللسان عند الذنوب قلت يمكن ان يقال المراد بذكر الله صلوة الاستغفار لحديث علىّ عن ابى بكر رضى الله عنهما انه......
140
سمع رسول الله ﷺ يقول ما من عبد مؤمن وفى رواية ما من رجل يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلى ثم يستغفر الله الا غفر الله له رواه ابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان وزاد الترمذي ثم قرا وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الاية وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ استفهام بمعنى النفي حتى صح المفرغ يعنى لا يغفر الذنوب أحد الا الله فان العافين عن الناس من الناس انما يعفون حقوقهم دون الذنوب والمعاصي التي هى حقوق الله تعالى او يقال العافي عن الناس منهم يعفوا رجاء لمغفرة الله تعالى فهو المتجر وغافر الذنب بلا غرض ومنفعة انما هو الله تعالى والجملة معترضة بين المعطوفين لبيان سعة رحمة الله وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة وجاز ان يكون حالا بتقدير القول يعنى قائلين ومن يغفر او معطوفة على مفعول ذكروا يعنى ذكروا الله وذكروا مغفرته وتوحده فى تلك الصفة وَلَمْ يُصِرُّوا الإصرار التقعد فى الذنب والتشدد فيه والامتناع من الإقلاع كذا فى الصحاح يعنى لم يقيموا عَلى ما فَعَلُوا من الذنوب وبهذا يظهر ان العزم على ترك الفعل شرط للاستغفار كالندم على الفعل فلا بد للاستغفار من العزم على الترك وان صدر منه بعد ذلك قال رسول الله ﷺ ما أصر من استغفر وان عاد فى اليوم سبعين مرة- رواه ابو داود والترمذي من حديث ابى بكر الصديق وقال رسول الله ﷺ المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه رواه البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس (مسئلة) الإصرار على الصغيرة تكون كبيرة عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة
مع الإصرار رواه الديلمي فى مسند الفردوس وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) حال من الضمير فى لم يصروا يعنى تركوا الإصرار على المعصية لعلمهم كونها معصية خوفا من الله تعالى لا لكسالة او تنفر طبعى «١» او خوف من العباد او عدم تيسر فان الجزاء انما هو على كف النفس بنية الطاعة دون عدم الفعل مطلقا لكن عدم الفعل مطلقا مانع من الجزاء المترتب على المعصية فان من العصمة ان لا تقدر وقال الضحاك وهم يعلمون الله يملك مغفرة الذنوب وقال
(١) فى الأصل طبيعى
141
الحسين بن الفضل وهم يعلمون ان له ربا يغفر الذنوب وقيل وهم يعلمون ان الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وان كثرت- وقيل يعلمون انهم ان استغفروا غفر لهم عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ ان عبدا أذنب ذنبا فقال رب أذنبت ذنبا فاغفره لى فقال ربه اعلم عبدى ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدى ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا فقال رب أذنبت ذنبا اخر فاغفره لى فقال اعلم عبدى ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدى ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا فقال رب أذنبت ذنبا اخر فاغفره لى فقال اعلم عبدى ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدى فليفعل ما شاء متفق عليه وعن ابن عباس عن رسول الله ﷺ قال قال الله عز وجل من علم انى ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا رواه الطبراني والحاكم بسند صحيح.
أُولئِكَ ان كانت الجملة مستانفة فالمشار إليهم المتقون والتائبون جميعا وان كان هذا خبرا للموصول فالمشار إليهم هم التائبون جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وتنكير جنات للدلالة على ان ما لهم أدون مما للمتقين الموصوفين بالصفات المذكورة فى الاية المقدمة ولذا فصل آيتهم ببيان انهم محسنون مستوجبون لمحبة الله تعالى حافظون على حدود الشرع وفصل هذه الاية بقوله وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) فان المتدارك لتقصيره كالعامل لتحصيله بعض ما فوت على نفسه لكن كم بين المحسن والمتدارك والمحبوب والأجير- ولعل تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النكتة والمخصوص بالمدح محذوف اى نعم اجر العاملين المغفرة والجنات قال رسول الله ﷺ التائب من الذنب كمن لا ذنب له رواه البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس والقشيري فى الرسالة وابن النجار عن علىّ (فائدة) ولا يلزم من اعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم ان لا يدخلها المصرون كما لا يلزم من اعداد النار للكافرين جزاء لهم ان لا يدخلها غيرهم- وجاز ان يقال العصاة المصرون على الكبائر يدخلهم الله الجنة بعد تطهيرهم من الذنوب بالمغفرة اما بعد العذاب بالنار فان النار فى حق المؤمن كالكير يدفع خبث الفلز واما بالمغفرة......
بلا تعذيب فحينئذ يلحق العاصي بالتائب فى التطهّر- قال ثابت البناني بلغني ان إبليس بكى حين نزلت هذه الاية وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الى آخرها-.
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) السنة الطريقة المتبعة فى الخير او الشر قال رسول الله ﷺ من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شىء ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير ان ينقص من أوزارهم شىء وجاز ان يكون فى الكلام حذف المضاف اى اهل سنن وقيل السنن بمعنى الأمم والسنة الامة قال الشاعر ما عاين الناس من فضل كفضلهم ولا راوا مثلهم فى سالف السنن ومعنى الاية قد مضت قبلكم طرق من الخير والشرا واهل طرق فانظروا كيف كان عاقبة طريقة التكذيب وما ال اليه امر المكذبين من الهلاك وقال مجاهد قد مضت وسلفت منى سنن فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة بامهالى واستدراجى إياهم حتى بلغ الكتاب اجله الذي اجلته لاهلاكهم ثم أهلكتهم ونصرت انبيائى ومن تبعهم فسيروا وانظروا لتعتبروا وقال عطاء السنن الشرائع وقال الكلبي مضت لكل امة سنة ومنهاج إذا اتبعوها رضى الله عنهم ومن كذبه ولم يتبعه أهلكه الله فانظر ما عاقبة المكذبين.
هذا اى القران او قوله قد خلت او مفهوم قوله فانظروا بَيانٌ لِلنَّاسِ عامة وَهُدىً من الضلالة وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) خاصة فانهم هم المنتفعون به- وقيل هذا اشارة الى ما لخص من امر المتقين والتائبين وقوله قد خلت اعتراض للحث على الايمان والتوبة-.
وَلا تَهِنُوا اى لا تضعفوا ولا تجبنوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح يوم أحد وكان قد قتل يومئذ من المهاجرين خمسة منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ومن الأنصار سبعون رجلا وَلا تَحْزَنُوا على من قتل منكم وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ والحال انكم أعلى شأنا منهم فانكم ترجون من الاجر والثواب على ما أصابكم ما لا يرجوه الكفار وقتلاكم فى الجنة وقتلاهم فى النار نظيره قوله تعالى وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ قال الكلبي......
امر النبي ﷺ أصحابه بطلب القوم بعد ما أصابهم من الجراح يوم أحد فاشتد ذلك على المسلمين فنزلت هذه الاية- او المعنى أنتم الأعلون عاقبة الأمر بالنصر من الله والظفر قال ابن عباس انهزم اصحاب رسول الله ﷺ فى الشعب فاقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد ان يعلوا عليهم الجبل فقال النبي ﷺ اللهم لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا الا بك- وبات نفر من المسلمين رماة فصعد والجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموا فذلك قوله تعالى وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) يعنى ان صح ايمانكم فلا تهنوا ولا تحزنوا فان مقتضى الايمان رجاء الثواب وقوة القلب بالتوكل على الله او المعنى ان صح ايمانكم فانتم الأعلون فى العاقبة فانه حقّ علينا نصر المؤمنين.
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ يوم أحد قرا حمزة والكسائي وأبو بكر قرح بضم القاف حيث جاء والباقون بالفتح وهما لغتان معناهما عض السلاح ونحوه مما يخرج البدن كذا فى القاموس وقال الفراء القرح بالفتح الجراحة وبالضم الم الجراحة فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ اى قوم الكفار من قريش قَرْحٌ مِثْلُهُ يوم بدر وهم لم يضعفوا عن معاودتكم للقتال فانتم اولى بذلك نزلت هذه الاية تسلية للنبى ﷺ والمؤمنين حين انصرفوا من أحد مع الكآبة والحزن وليجتروا على عدوهم وَتِلْكَ الْأَيَّامُ يعنى اوقات النصر نُداوِلُها نصرفها بَيْنَ النَّاسِ يعنى كذلك جرت عادتنا فيكون النصر تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء والأيام صفة لتلك وهو مبتدا خبره نداولها او الأيام خبر ونداولها حال والعامل فيه معنى الاشارة عن البراء بن عازب قال جعل النبي ﷺ على الرجالة وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير فقال ان رايتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وان رايتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزمهم قال وانا والله رايت النساء يشتددن قد بدت خلا خلهن واسوقهن رافعات ثيابهن- فقال اصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة اى قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله ﷺ قالوا والله لناتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فاقبلوا منهزمين فذاك قوله تعالى وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ إذ يدعوهم الرسول......
144
فى أخراهم فلم يبق مع النبي ﷺ غير اثنى عشر رجلا فاصابوا منا سبعين- وكان النبي ﷺ وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين سبعين أسيرا وسبعين قتيلا فقال ابو سفيان افى القوم محمد ثلاث مرات فنهاهم النبي ﷺ ان يجيبوه ثم قال افى القوم ابن ابى قحافة ثلاث مرات ثم قال افى القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع الى أصحابه فقال اما هؤلاء قد قتلوا فما ملك عمر رضى الله عنه نفسه فقال كذبت والله يا عدو الله ان الذين عددت لاحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك فقال يوم بيوم بدر والحرب سجال انكم ستجدون فى القوم مثلة لم آمر بها ولا تسؤنى ثم أخذ يرتجز اعل هبل اعل هبل فقال النبي ﷺ الا تجيبوه قالوا يا رسول الله ما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل قال ان لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله ﷺ الا تجيبوه قالوا يا رسول الله ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم رواه البخاري وغيره وفى رواية فقال ابو سفيان قد أنعمت هلم يا عمر فقال رسول الله ﷺ لعمر آته فانظر ما شأنه فجاءه فقال ابو سفيان أنشدك الله يا عمر اقتلنا محمدا قال اللهم لا انه يسمع كلامك الان قال أنت عندى اصدق من ابن قمية وابر وقد قال ابن قمية لهم انى قتلت محمدا ثم قال ابو سفيان الا ان موعدكم بدر الصغرى على رأس الحول فقال رسول الله ﷺ قل نعم هو بيننا وبينكم موعد وانصرف ابو سفيان الى أصحابه وأخذ فى الرحيل وروى هذا المعنى عن ابن عباس وفى حديثه قال ابو سفيان يوم بيوم وان الأيام دول والحرب سجال فقال عمر لا سواء قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار- قال الزجاج الدولة يكون للمسلمين على الكفار لقوله تعالى إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ
وانما كانت يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم امر رسول الله ﷺ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على علة محذوفة وفائدة الحذف الإيذان بان العلة المحذوفة متعددة يطول ذكرها واللام متعلق بنداولها اى نداولها لحكم ومصالح لا يحصى وليعلم الله المؤمنين ممتازين عند الناس بالصبر والثبات على الايمان من غيرهم وجاز ان يقال المعطوف عليه غير محذوف بل هو المفهوم من قوله تعالى وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها كانه قال داو لنا بينكم الأيام لان هذه عادتنا وليعلم والخلق......
145
والافناء من قبيل مداولة الأيام- والقصد فى أمثاله ونقائضه ليس الى اثبات علمه تعالى ونفيه بل الى
اثبات المعلوم فى الخارج ونفيه على طريقة البرهان لان علم الله تعالى لازم للمعلوم وبالعكس ونفى المعلوم مستلزم لنفى العلم كيلا ينقلب العلم جهلا فاطلق الملزوم وأريد به اللازم فمعنى الاية ليتحقق امتياز المؤمنين من غيرهم عند الناس- وقيل معناه ليعلم الله علما يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء موجودا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ اى يكرم ناسا منكم بالشهادة يريد شهداء أحد- او المعنى وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بالثبات والصبر على الشدائد- اخرج ابن ابى حاتم عن عكرمة قال لما ابطأ على النساء الخبر خرجن يستخبرن فاذا رجلان مقبلان على بعير فقالت امراة ما فعل رسول الله ﷺ قالا حى قالت فلا أبالي يتخذ الله من عباده شهداء- فنزل القران على ما قالت وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) الكافرين المنافقين الذين لم يظهر منهم الثبات على الايمان جملة معترضة بين المعطوفين وفيه تنبيه على ان الله لا ينصر الكافرين على الحقيقة وانما يغلبهم أحيانا استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين.
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ التمحيض التطهير والتصفية الَّذِينَ آمَنُوا من الذنوب وَيَمْحَقَ المحق نقض الشيء قليلا قليلا الْكافِرِينَ (١٤١) يعنى ان كانت الدولة على المؤمنين فللتميز والاستشهاد والتمحيص وان كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو اثارهم.
أَمْ حَسِبْتُمْ أم منقطعة بمعنى بل احسبتم أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ والاستفهام للانكار وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ يعنى ولما يتحقق الجهاد من بعضكم وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) نصب بإضمار ان والواو للجمع كما فى نحو لا تأكل السمك وتشرب اللبن او جزم للعطف على يعلم الله وحركت الميم لالتقاء الساكنين بالفتح لفتحة ما قبلها- اخرج ابن ابى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس ان رجالا من الصحابة كانوا يقولون ليتنا نقتل كما قتل اصحاب بدر او ليت لنا يوما ليوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبلى فيه خيرا او نلتمس الشهادة والجنة والحيوة والرزق فاشهدهم الله أحدا فلم يلبثوا الا من شاء الله منهم فانزل الله تعالى.
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فى سبيل الله......
او المراد به الحرب فانه سبب للموت مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ تشاهدوه وتعرفوا شدته فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) حال من فاعل رايتموه وفائدته بيان ان المراد بالروية روية البصر دون العلم يعنى عاينتم الموت حين قتل دونكم من قتل من إخوانكم وفيه توبيخ على انهم تمنوا الحرب وتسببوا لها ثم جبنوا وانهزموا عنها او على تمنى الشهادة فانها يستلزم تمنى غلبة الكفار- اخرج ابن ابى حاتم عن الربيع قال لما أصابهم يوم أحد ما أصابهم من القرح وتداعوا نبى الله قالوا قد قتل فقال أناس لو كان نبيا ما قتل وقال ناس قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم او تلحقوا به واخرج ابن المنذر عن عمر قال تفرقنا عن رسول الله ﷺ يوم أحد فصعدت الجبل فسمعت يهوديا يقول قتل محمد فقلت لا اسمع أحدا يقول قتل محمدا لاضربت عنقه فنظرت فاذا رسول الله ﷺ والناس يتراجعون- واخرج البيهقي فى الدلائل عن ابى نجيح ان رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط فى دمه فقال له أشعرت ان محمدا قتل فقال ان كان محمد قتل فقد بلّغ فقاتلوا عن دينكم فنزلت على هذه الروايات.
وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ «١» يعنى ليس هو ربّا يستحيل عليه الفناء والموت وما هو يدعوا الناس الى عبادته- فى القاموس الحمد الشكر والرضاء والجزاء وقضاء الحق والتحميد حمد الله مرة بعد مرة ومنه محمد كانّه حمد مرة بعد مرة قلت الى ما لا نهاية لها قال البغوي محمد هو المستغرق لجميع المحامد لان الحمد لا يستوجبه الا الكامل والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه الا المستولى على الأمد فى الكمال قال حسان بن ثابت ((شعر)) الم تر ان الله أرسل عبده ببرهانه والله أعلى وامجد وشقه من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد قَدْ خَلَتْ مضت وماتت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيموت هو ايضا أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى
(١) اخرج البخاري عن ابن عباس ان أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال اجلس يا عمرو قال ابو بكر اما بعد من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات- ومن كان يعبد الله فان الله حىّ قال الله وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ الى الشّكرين قال فو الله لكانّهم لم يعلموا ان الله انزل هذه الاية حتى تلاها ابو بكر فتلاها منه الناس كلهم فما اسمع بشرا من الناس الا يتلوها وروى عن ابى هريرة وعروة وغيرهما نحو ذلك قال ابراهيم قال أبو بكر لو منعونى عقالا اعطوا رسول الله ﷺ لجاهدتهم ثم تلا وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ- منه رحمه الله [.....]
147
أَعْقابِكُمْ اى رجعتم الى دينكم الاول من الكفر انكار على ارتدادهم بموته ﷺ بعد علمهم بموت من سبقه من الأنبياء وبقاء دينهم- وقيل الفاء للسببية والهمزة لانكار ان يجعل موته سببا لارتدادهم وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ اى يرتد عن دينه فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بارتداده بل يضر نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ «١» (١٤٤) على نعمة الإسلام بالثبات عليه- ذكر اصحاب المغازي انه نزل رسول الله ﷺ بالشعب من أحد فى سبعمائة وجعل عبد الله بن جبير على الرجالة كما ذكرنا من حديث البراء بن عازب فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن ابى جهل ومعهم النساء يضر بن بالدفوف ويقلن الاشعار فقاتلوا حتى حميت الحرب فأخذ رسول الله ﷺ سيفا فقال من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب العدو حتى يثخن فاخذ ابو دجانة سماك بن حرسة الأنصاري رضى الله عنه فلما اخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر فقال رسول الله ﷺ انها لمشية يبغضها الله الا فى هذا الموضع فعلق به هام المشركين الهام الرأس وهام القوم اشرافهم- منه رح وحمل النبي ﷺ وأصحابه على المشركين فهزموهم وانزل الله تعالى نصره على المسلمين وصدقهم وعده فحسوا المشركين بالسيف حتى كشفوهم عن العسكر ونهكوهم قتلا- وقد حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مغلوبة وكانت الرماة يحمى ظهور المسلمين ويرشقون اى يرمون- منه رح خيل المشركين بالنبل فلا يقع الا فى فرس او رجل فتولى هو ارب- وقتل على بن ابى طالب طلحة بن طلحة صاحب لواء المشركين وكبر المسلمون وشددوا على المشركين يضربونهم حتى اختلت صفوفهم قال الزبير بن العوام فرايت هندا وصواحبها هاربات مصعدات فى الجبل باديات خدامهن ما دون أخذهن شيئا- فلما نظر الرماة اصحاب عبد الله بن جبير الى القوم قد انكشفوا اذهبوا الى عسكر المشركين ينتهبون كما ذكرنا من حديث البراء لم يبق مع أميرهم عبد الله بن جبير الا دون العشرة نظر خالد الى الجبل وقلة اهله واشتغال المسلمين بالغنيمة وراى ظهورهم خالية صاح فى خيله من المشركين ثم حملهم من خلفهم وتبعه عكرمة فهزموهم وقتلوهم
(١) عن على رضى الله عنه فى قوله وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ قال الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه فكان على يقول ابو بكر امير الشاكرين- منه رحمه الله
148
وثبت أميرهم عبد الله بن جبير رضى الله عنه فقالت حتى قتل فجردوه ومثلوا به أقبح المثل فبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والغنائم حمل خالد بن الوليد على اصحاب النبي ﷺ من خلفهم فهزموهم وقتلوهم قتلا ذريعا وتفرق المسلمون من كل وجه وتركوا ما انتهبوا وخلوا من أسروا وكانت الريح أول النهار صباء فصارت دبورا وكرّ الناس منهزمين فصاروا أثلاثا ثلثا جريحا وثلثا منهزمين وثلثا قتيلا- روى البيهقي عن المقداد والذي بعثه بالحق ما زال رسول الله ﷺ من مكانه شبرا واحدا وانه لقى وجه العدو وتفيء اليه طائفة من أصحابه وتفترق مرة فربما رايته قائما يرمى عن قوسه ويرمى بالحجر وثبت مع رسول الله ﷺ خمسة عشر رجلا ثمانية من المهاجرين ابو بكر وعمر وعلى وطلحة وزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابى وقاص وابو عبيدة بن الجراح وسبعة من الأنصار الحباب بن منذر وابو دجانة وعاصم بن ثابت والحارث بن صمة وسهل بن حنيف وسعد بن معاذ وقيل سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة رضى الله عنهم أجمعين- روى عبد الرزاق مرسلا عن الزهري قال ضرب وجه رسول الله ﷺ سبعون ضربة بالسيف وقاه الله شرها كلها ورمى عتبة بن وقاص لعنه الله رسول الله ﷺ باربعة أحجار فكسر منها رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى قال الحافظ المراد السن الذي بين الثنية والناب قال حاطب بن «١» بلتعة فقتلت عتبة بن وقاص وجئت برأسه الى رسول الله ﷺ فسره ذلك ودعا لى رواه الحاكم وشجه ﷺ عبد الله بن شهاب الزهري واسلم بعد ذلك وسال الدم حتى اخضل الدم لحيته الشريفة ورماه عبد الله بن قمية فشج وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر فى وجنته واقبل عبد الله بن قمية يريد قتل النبي ﷺ فذبه مصعب بن عمر وهو صاحب رأية رسول الله ﷺ فقتله ابن قمية وهو يرى انه قتل رسول الله ﷺ فرجع وقال انى قتلت محمدا وصارخ صارخ الا ان محمدا قد قتل ويقال ان ذلك الصارخ إبليس لعنه الله- روى الطبراني عن ابى امامة انه قال ﷺ لابن قمية أقمأك الله فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة اى استاصلك الله- منه رح
(١) الصحيح حاطب بن ابى بلتعة-
149
قطعة- ونهض رسول الله ﷺ الى صخرة ليعلوها وكان قد ظاهر بين در عين فلم يستطع فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها فقال رسول الله ﷺ أوجب طلحة- ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من اصحاب النبي ﷺ يجد عن الاذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشيا ونقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع ان تسيغها فلفظتها وجعل رسول الله ﷺ يدعو الناس الىّ عباد الله فاجتمع اليه ثلاثون رجلا كل يقول وجهى دون وجهك ونفسى دون نفسك وعليك السلام فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن ابى وقاص حتى اندقت ستة قوسه ونثر رسول الله ﷺ كنانته فقال له ارم فداك ابى وأمي رواه البخاري وكان ابو طلحة رجلا راميا شديد النزع كسر يومئذ قوسين او ثلاثا وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل فيقول انثرها لابى طلحة وكان إذا رمى استشرفه النبي ﷺ لينظر الى موضع نبله- وأصيب يد طلحة بن عبيد الله فيبست وقى بها رسول الله ﷺ روى ابو داود الطيالسي وابن حبان عن عائشة قالت قال ابو بكر ذلك اليوم كله لطلحة- وذكر محمد بن عمر انّ طلحة أصيب يومئذ فى رأسه فنزف الدم حتى غشى عليه فنضح ابو بكر الماء فى وجهه حتى أفاق فقال ما فعل رسول الله ﷺ قال خيرا هو أرسلني إليك فقال الحمد لله كل مصيبة بعده جلل- وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردها رسول الله ﷺ فعادت كاحسن ما كانت- فلمّا انصرف رسول الله ﷺ أدركه ابى بن خلف الجمحي وهو يقول لا نجوت وان نجوت فقال القوم يا رسول الله الا يعطف عليه رجل منا فقال رسول الله ﷺ دعوه حتى إذا دنا منه (وكان أبيّ قبل ذلك يلقى رسول الله ﷺ فيقول عندى رمكة اعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها فقال رسول الله ﷺ بل انا أقتلك ان شاء الله) فلما دنا منه تناول رسول الله ﷺ الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه فى عنقه وخدشه خدشة فتد هداه عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول قتلنى محمد فحمله أصحابه وقالوا ليس عليك بأس قال بلى لو كانت......
150
هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال لى انا أقتلك فلو بزق علىّ بعد تلك المقالة قتلنى فلم يلبث الا يوما حتى مات بموضع يقال له سرف- روى البخاري فى الصحيح عن ابن عباس قال اشتد غضب الله على من قتله نبى واشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله ﷺ قالوا وفشا فى الناس ان محمدا قد قتل فقال بعض المسلمين ليت لنا رسولا الى عبد الله بن أبيّ فياخذ لنا أمانا من ابى سفيان وبعض الصحابة جلسوا والقوا بايديهم وقال أناس من اهل النفاق ان كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الاول فقال انس بن النضر عم انس بن مالك رضى الله عنه يا قوم ان كان قد قتل محمد ﷺ فان رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ﷺ فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله ﷺ وموتوا على ما مات ثم قال اللهم انى اعتذر إليك مما يقول هؤلاء يعنى المسلمين وابرا إليك مما جاء به هؤلاء يعنى المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل- ثم ان رسول الله ﷺ انطلق الى الصخرة وهو يدعو الناس فاول من عرف رسول الله ﷺ كعب بن مالك قال عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت با على صوتى يا معشر المسلمين ابشروا هذا رسول الله ﷺ فاشار الىّ ان اسكت فانحازت اليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي ﷺ على الفرار فقالوا يا نبى الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا انك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين فانزل الله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الاية
-.
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ اى الا بمشية الله وقضائه او باذنه لملك الموت فى قبض روحه كِتاباً مصدر مؤكد اى كتب كتابا مُؤَجَّلًا صفة له اى موقتا لا يتقدم ولا يتاخر فيه تحريض وتشجيع على القتال وَمَنْ يُرِدْ بعمله ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها اى من الدنيا تعريض بمن شغلهم الغنائم عن القتال يعنى نؤته منها ما نشاء مما قدرناه له وَمَنْ يُرِدْ بعمله ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها اى من الاخرة يعنى ثوابها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) قلت لعل المراد بهذه الجملة انه من يرد بعمله نفس الشكر لا يريد به ثواب الدنيا ولا ثواب الاخرة سيجزيه الله تعالى جزاء......
لا يدركه فهم ولا يتطرق اليه وهم يدل عليه إبهام الجزاء يعنى يكون جزاؤه ذاته «١» تعالى فى القاموس الشكر عرفان الإحسان ونشره عن انس بن مالك ان النبي ﷺ قال من كانت نيته طلب الاخرة جعل الله غناه فى قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا راغمة ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه شمله ولا يأتيه منها الا ما كتب له رواه البغوي- وعن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله ﷺ انما الأعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته الى الله والى رسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها او امراة يتزوجها فهجرته الى ما هاجر اليه متفق عليه.
وَكَأَيِّنْ قرا ابن كثير بالمد والهمز على وزن كاعن وبتلين الهمزة ابو جعفر والباقون بهمزة مفتوحة والتشديد ومعناه كم من نبىّ قتل قرا الكوفيون وابن عامر من المفاعلة على البناء للفاعل والباقون قتل من المجرد على البناء للمفعول مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة جموع كثيرة وقال ابن مسعود الرّبّيّون الألوف وقال للكلبى الربية الواحدة عشرة آلاف وقال الضحاك الربية الواحدة الف وقال الحسن فقهاء علماء وقيل هم الاتباع فالربانيون الولاة والربيون الرعية- وقيل منسوب الى الرب وهم الذين يعبدون الرب- واسناد قتل على قراءة اهل الحجاز والشام «٢» الى الربيون لا الى ضمير النبي ويكون معه ربيون حالا عنه لانه يستلزم حينئذ الإضمار ويكون تقدير الكلام ومعه ربيون كثير ولما قال سعيد بن جبير ما سمعنا ان نبيا قتل فى القتال وكلمة كايّن تدل على الكثرة فالمعنى كايّن من نبىّ قتل معه اى فى عسكره وفى قتاله ربيون- وكذا على قراءة الباقين اسناد القاتلة الى ربيون بالمطابقة ويفهم منه قتال النبي استلزاما فَما وَهَنُوا اى ما وهن من بقي منهم بعد القتل وما جبنوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ من الجروح والشدائد وقتل الاصحاب وَما ضَعُفُوا عن الجهاد وَمَا اسْتَكانُوا يعنى ما استسلموا وما خضعوا لعدوهم وما ذلوا وما تضرعوا ولكن صبروا على امر ربهم وطاعة نبيهم وجهاد عدوهم واصل استكن من السكون فان الخاضع الذليل يسكن لصاحبه فيفعل به ما يريد وهذا
(١)
هر كس كه ترا شناخت جان را چهـ كند فرزند وعيال خان ومان را چهـ كند
ديوانه كنى هر دو جهانش بخشى ديوانه تو هر دو جهان را چهـ كند
منه رحمه الله
(٢) هو سباق قلم والصحيح اهل البصرة- ابو محمد عفا عنه
تعريض لمن طلب الامان عن ابى سفيان او جبنوا عن الحرب وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) فينصرهم ويعظم قدرهم.
وَما كانَ قَوْلَهُمْ خبر كان إِلَّا أَنْ قالُوا اسمه وانما جعل اسما لكونه اعرف لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدوث رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا الصغائر وَإِسْرافَنا اى تجاوزنا عن حد العبودية فِي أَمْرِنا فى شأننا يعنى الكبائر وَثَبِّتْ أَقْدامَنا على صراطك المستقيم وعلى الجهاد فى مقابلة العدو وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) يعنى ما كان غير هذا القول مقالتهم بعد ما أصابهم الشدائد ووجه هذه المقالة ان الله سبحانه وعد للمؤمنين النصر والغلبة حيث قال حقّا علينا نصر المؤمنين وقال انّ جندنا لهم الغالبون وان ما يصيبهم من ضر ومصيبة فانما هو لاجل ذنوبهم وإسرافهم فى أمرهم حيث قال الله تعالى ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ فيجب على المؤمن عند إصابة الضر الاعتراف بذنبه ليحصل الندم والاستغفار ثم دعاء النصر منه تعالى وطلب التثبت وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ والدعاء بعد الاستغفار والتطهر من الذنوب اقرب الى الاجابة.
فَآتاهُمُ اللَّهُ ببركة هذا القول ثَوابَ الدُّنْيا من النصر والغنيمة والملك وحسن الذكر وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ من الجنة ومراتب القرب ورضوان من الله اكبر وخص ثوابها بالحسن لانه المعتد به عنده ولفضله وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) وضع المظهر موضع المضمر للاشعار بانهم هم المحسنون لان الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه يعنى بكمال الحضور وطرد الغفلة فمقتضاه هذا القول وهذه المعرفة يعنى معرفة ان السراء والضراء انما هو من الله تعالى وان الكريم لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من النعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الطاعة فحينئذ يغير ما بهم من النعمة ويذيقهم بعض النقمة كى يتنبهوا ويستغفروا وكى يتطهروا عن الذنوب باستيفاء جزائها فى الدنيا-.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا قال على رضى الله عنه يعنى المنافقين فى قولهم للمؤمنين عنه الهزيمة ارجعوا الى إخوانكم وادخلوا فى دينهم ولو كان محمد نبيا ما قتل- وقيل معناه ان تطيعوا أبا سفيان ومن معه وتستكينوا لهم وتستأمنوهم يَرُدُّوكُمْ......
عَلى أَعْقابِكُمْ
يعنى يرجعوكم الى ما كنتم عليه قبل الإسلام من الشرك فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) مغبونين خسران الدنيا والاخرة.
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ محبكم وناصركم وحافظكم على دينه فلا تتولوا غيره تعالى وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) فاستغنوا به عن ولاية غيره ونصره- روى ان أبا سفيان والمشركين لمّا ارتحلوا يوم أحد ١٦ شوال متوجهين الى مكة انطلقوا حتى إذا بلغوا بعض الطريق ندموا وقالوا بئس ما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم الا الشريد تشرد البعير إذا نفر وذهب فى الأرض- منه رح تركناهم ارجعوا فاستأصلوهم فلما عزموا على ذلك قذف الله فى قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما هموا به وانزل الله تعالى.
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى أبا سفيان وأشياعه الرُّعْبَ اى الخوف قرا ابن عامر والكسائي وابو جعفر ويعقوب بضم العين حيث وقع والباقون بسكونها- وجاز ان يكون إلقاء هذا الرعب حين أراد المشركون نهب المدينة عند الارتحال الى مكة ولو كان نزول الاية بعد تلك الوقعة فالسين لمجرد التأكيد مجردا عن التسويف وصيغة المضارع حكاية عن الحال الماضي بِما أَشْرَكُوا اى بسبب اشراكهم بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً اصل السلطنة القوة والمراد به الحجة والمعنى أشركوا بالله الهة لم يقم على اشراكها حجة وبرهانا بل اقام الله الحجج والبراهين العقلية والنقلية على التوحيد وَمَأْواهُمُ اى المشركين النَّارُ عطف على سنلقى وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) النار فالمخصوص بالذم محذوف ووضع المظهر موضع المضمر للتغليظ والتعليل- قال محمد بن كعب لما رجع رسول الله ﷺ وأصحابه من أحد الى المدينة وقد أصابهم ما أصابهم قال ناس من أصحابه عليه السلام من اين هذا وقد وعدنا الله النصر فانزل الله تعالى.
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ بالنصر بشرط التقوى والصبر حين نصركم فى ابتداء القتال كما ذكرنا إِذْ تَحُسُّونَهُمْ متعلق بصدقكم اى تقتلونهم قتلا ذريعا من احسه إذا أبطل حسه وقال ابو عبيدة الحسن الاستيصال بالقتل بِإِذْنِهِ اى بقضائه حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ اى جبنتم وضعفتم وقيل معناه ضعف رأيكم وملتم الى الغنيمة فان الحرص من ضعف العقل وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ كما مرّ انه تنازع اصحاب عبد الله بن جبير حين راوا غلبة المؤمنين وانهزام المشركين فقال أكثرهم انهزم القوم فما مقامنا فقال......
154
عبد الله أنسيتم ما قال رسول الله ﷺ فقالوا لم يرد رسول الله ﷺ هذا النأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة وقال عبد الله ومن معه لا تجاوز امر رسول الله ﷺ وَعَصَيْتُمْ امر الرسول صلى الله عليه وسلم- وقيل الواو زائدة ومعناه إذا فشلتم تنازعتم وهذا ليس بشىء لانه يقتضى تقدم الفشل على التنازع والواقع ان الفشل اى الجبن انما وجد بعد التنازع والعصيان فانهم اجترءوا أول الأمر حيث كروا على عسكر المشركين للنهب وقيل فى الكلام تقديم وتأخير تقديره حتى إذا تنازعتم فى الأمر وعصيتم فشلتم فلا إشكال على كون الواو زائدة- والأظهر ان الواو ليست بزائدة وجواب إذا محذوف يعنى إذا فشلتم وتنازعتم فى الأمر وعصيتم منعكم نصره والقاكم فيما أصابكم والواو لمطلق الجمع دون الترتيب فلا يقتضى تقديم الفشل على التنازع والعصيان مِنْ بَعْدِ متعلق بفشلتم ما أَراكُمْ الله ما تُحِبُّونَ من الظفر والغنيمة مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يعنى تركوا المركز واقبلوا على النهب وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يعنى ثبتوا مع عبد الله بن جبير- قال عبد الله بن مسعود ما شعرت ان أحدا من اصحاب محمد ﷺ يريد الدنيا حتى كان يوم أحد نزلت هذه الاية يعنى لم يرد أحد من اصحاب النبي ﷺ الدنيا الا هؤلاء النفر فى ذلك اليوم فقط حتى نزلت فيهم هذه الاية ثُمَّ صَرَفَكُمْ ايها المسلمون بشوم عصيانكم عَنْهُمْ اى عن الكفار بالهزيمة حتى حالت الحالة فغلبوكم لِيَبْتَلِيَكُمْ اى ليمتحنكم حتى يظهر المؤمنين من المنافقين او المعنى لينزل البلاء عليكم بما صنعتم وبهذا يظهر انه قد يبتلى العامة بمعصية بعضهم فيكون ذلك عقوبة للعاصى وسببا لمزيد الاجر للمطيع وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة تفضلا او بعد ما ندمتم على المخالفة وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) يتفضل عليهم بالعفو إذا شاء او يتفضل عليهم فى الأحوال كلها فان إنزال المصيبة بالمؤمنين بعد معصيتهم ايضا تفضل من الله تعالى حيث يمحصهم من الذنوب- روى البغوي بسنده عن على بن ابى طالب قال الا أخبركم بأفضل اية من كتاب الله حدثنا بها رسول الله ﷺ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفوا عن كثير وسافسرها لك يا علىّ ما أصابكم من مرض او عقوبة او بلاء فى الدنيا فبما كسبت ايديكم......
155
والله عز وجل أكرم من ان يثنى عليهم العقوبة فى الاخرة وما عفا الله عنه فى الدنيا فالله احكم من ان يعود بعد عفوه-.
إِذْ تُصْعِدُونَ متعلق بصرفكم او بيبتليكم او عفا عنكم او بمقدر كاذكر- قرا ابو عبد الرحمن السلمى والحسن وقتادة تصعدون بفتح التاء من المجرد والقراءة المجمع عليها بضم التاء من الافعال- قال المفضل صعد واصعد وصعّد بمعنى واحد- وقال ابو حاتم اصعدت إذا مضيت حيال وجهك يعنى فى مستوى الأرض وصعدت إذا ارتقيت فى جبل وقال المبرد اصعد ابعد فى الذهاب قال البغوي كلا الامرين وقعا فكان منهم مصعد وصاعد وَلا تَلْوُونَ أعناقكم عَلى أَحَدٍ يعنى لا يلتفت بعضكم الى بعض لشدة الدهش وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ يقول الىّ عباد الله فانا رسول الله من يكر فله الجنة- الجملة فى موضع الحال فَأَثابَكُمْ فجازاكم عن فشلكم وعصيانكم عطف على صرفكم جعل الاثابة وهو من الثواب موضع العقاب على طريقة قوله تعالى فبشّرهم بعذاب اليم اشارة الى انه تعالى عاقبكم على ما فعلتم مكان ما كنتم ترجون من الثواب غَمًّا بِغَمٍّ اى غما متصلا بغم من الاغتمام من القتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم- قيل الغم الاول فوت الغنيمة والثاني ما نالهم من القتل والجرح والهزيمة- وقيل الغم الاول ما أصابهم من القتل والجرح والثاني ما سمعوا ان رسول الله ﷺ قتل فانساهم الغم الاول- وقيل الغم الاول اشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين والثاني اشراف ابو سفيان عليهم وذلك ان رسول الله ﷺ انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى الى اصحاب الصخرة فلما راوه وضع رجل سهما فى قوسه فاراد ان يرميه فقال انا رسول الله ففرحوا حين وجدوا رسول الله ﷺ وفرح النبي ﷺ حين راى من يمتنع به فاقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا فاقبل ابو سفيان وأصحابه حتى وقفوا على باب الشعب فلما نظر المسلمون إليهم همهم ذلك وظنوا انهم يميلون عليهم فيقتلونهم فانساهم هذا ما نالهم فقال رسول الله ﷺ ليس لهم ان يعلونا اللهم ان تقتل هذه العصابة لا تعبد فى الأرض ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى انزلوهم- قلت لعل......
قوله تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ صار نازلا فى هذا المقام حيث القى الرعب فى قلب ابى سفيان ومن معه- قلت وجاز ان يكون الغم الثاني ما روى انه لمّا أخذ ابو سفيان وأصحابه الرحيل الى مكة اشفق رسول الله ﷺ والمسلمون من ان يغير المشركون على المدينة فيهلك الذراري والنساء فبعث رسول الله صلى الله عليا وسعد بن ابى وقاص لينظرا فقال ان ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فهو الظعن وان ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فانهم يريدون المدينة فهى الغارة والذي نفسى بيده لان ساروا عليها لا سيرن إليهم ثم لاناخرنهم فسار على وسعد وراءهم فاذا هم قد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل بعد ما تشاوروا فى نهب المدينة فقال صفوان بن امية لا تفعلوا وقيل معنى الاية فاثابكم غما بسبب غم اذقتم النبي ﷺ بعصيانكم له لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الفتح والغنيمة وَلا ما أَصابَكُمْ من القتل والجرح والهزيمة ولا زائدة ومعناه لكى تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم- وقيل معنى الاية اثابكم غما بغم لتمتروا على الصبر فى الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا على ضر لا حق- قلت وجاز ان يكون المعنى فاثابكم الله غما بغم يعنى اعطاكم الله ثواب غم متصلا بغم وأخبركم بذلك على لسان نبيكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم بل تفرحوا بثوابه- وقيل الضمير المرفوع فى اثابكم للرسول ﷺ اى فاساءكم فى الاغتمام من اسيته بمالى اى جعلته أسوتي فيه- والباء للسببية او البدلية يعنى اغتم رسول الله ﷺ بما نزل عليكم كما اغتممتم ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها.
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ يا معشر المسلمين مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً يعنى اطمينانا فى القلوب وسكينة يدركه الصوفي عند نزول الرحمة نُعاساً بدل اشتمال من امنة- وجاز ان يكون مفعولا لا نزل وامنة حال منه مقدم عليه ولعل النعاس هاهنا عبارة عن استغراق يحصل للصوفى عند نزول الرحمة بحيث يغفل عما سواه لكمال مشابهته بالنعاس يَغْشى قرا حمزة وخلف ابو محمد والكسائي بالتاء ردا الى الامنة والباقون بالياء ردا الى النعاس طائِفَةً مِنْكُمْ......
157
وهم المؤمنون حقا- روى البخاري وغيره عن انس ان أبا طلحة قال غشينا النعاس ونحن فى مصافنا يوم أحد قال فجعل سيفى يسقط من يدى واخذه ويسقط واخذه- وقال ثابت عن انس عن ابى طلحة قال رفعت رأسى يوم أحد فجعلت ما ارى أحدا من القوم الا وهو يميل تحت جحفته من النعاس وَطائِفَةٌ مبتدا وهم المنافقون قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ صفة لطائفة يعنى ألقتهم أنفسهم فى الهموم وكانوا محرومين عن نزول الامنة والسكينة عليهم- او المعنى ما كان همهم الإخلاص أنفسهم يَظُنُّونَ خبر لطائفة بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ منصوب على المصدرية اى يظنون غير الظن الحق اى الذي يحق ان يظن به تعالى يعنى انه لا ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم- او انه لو كان محمد نبيا ما قتل ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل من غير الحق او منصوب بنزع الخافض يعنى كظن اهل الجاهلية والشرك والجملة صفة اخرى لطائفة او حال او استيناف على وجه البيان لما قبله- وجملة وطائفة إلخ حال من فاعل يغشى او من مفعوله يَقُولُونَ للرسول ﷺ او فى أنفسهم بدل من يظنون هَلْ لَنا استفهام بمعنى الإنكار مِنَ الْأَمْرِ الذي وعد الله من النصر مِنْ شَيْءٍ يعنى ما لنا من ما وعد نصيب قط- قيل اخبر ابن أبيّ بقتل بنى الخزرج فقال ذلك والمعنى انا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شىء- او هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شىء اخرج ابن راهويه انه قال عبد الله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام لقد رايتنى مع رسول الله ﷺ حين اشتد علينا الخوف أرسل الله علينا النوم فما منا أحد إلا وذقنه فى صدره- والله انى لا سمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشانى ما أسمعه الا كالحلم يقول لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا هاهنا فحفظتها فانزل الله فى ذلك ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً الى قوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قُلْ يا محمد إِنَّ الْأَمْرَ اى الحكم كُلَّهُ لِلَّهِ يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد- او امر الغلبة الحقيقية لله وأوليائه فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ وان كان فى بعض الأحيان لم يظهر ذلك لحكمة- قرا ابو عمر «١» وكلّه بالرفع على الابتداء وما بعده خبره والباقون بالنصب على التأكيد والجملة معترضة يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ حال من ضمير يقولون اى يقولون مظهرين انهم مسترشدون طالبون للنصر ويقولون مخفين بعضهم الى بعض غير ذلك يَقُولُونَ بدل من يخفون او استيناف على وجه البيان يعنى يقولون مخفين منكرين لقولك
(١) فى الأصل ابو عامر-
158
انّ الأمر كلّه لله لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ كما وعد محمد ﷺ او زعم انّ الأمر كلّه لله ولاوليائه- أولو كان لنا اختيار وتدبير لم نبرح المدينة كما كان يقول ابن أبيّ وغيره ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ فى اللوح المحفوظ وقدّر الله عليهم القتل إِلى مَضاجِعِهِمْ اى يخرجون الى مصارعهم ولم ينفعهم الاقامة بالمدينة بل لا يستطيعون الاقامة وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ اى ليمتحن ما فى صدوركم ويظهر سرائرها من الإخلاص والنفاق معطوف على محذوف متعلق بقوله برز تقديره لبرزوا الى مضاجعهم لنفاذ القضاء ولمصالح كثيرة وللابتلاء- او متعلق بفعل محذوف والجملة معطوفة على جملة سابقة يعنى ثمّ انزل عليكم تقديره وفعل ذلك ليبتلى او معطوف على قوله كيلا تحزنوا وَلِيُمَحِّصَ اى ليكشف ويميز ما فِي قُلُوبِكُمْ او المعنى يخلص ما فى قلوبكم ايها المؤمنون من الوساوس وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٢) قبل إظهارها وغنى عن الابتلاء وانما فعل ذلك لتمرين المؤمنين واظهار حال المنافقين واقامة الحجة عليهم-.
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ اى انهزموا منكم يا معشر المسلمين يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد وقد انهزم أكثرهم ولم يبق مع النبي ﷺ الا ثلاثة عشر كما ذكرنا ولا مع عبد الله بن جبير الا عشرة إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ اى طلب زلتهم او حملهم على الزلة يعنى المعصية بإلقاء الوسوسة فى قلوبهم قيل ازل واستزل بمعنى واحد بِبَعْضِ ما كَسَبُوا اى بشوم ذنوبهم قال بعضهم بتركهم المركز وقال الحسن ما كسبوا هو قبولهم وسوسة الشيطان وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ هذا هو الذي قال ابن عمر لمّا وقع بعض اهل المصر فى عثمان رضى الله عنه وذكر فراره يوم أحد وغيبته عن بدر وعن بيعة الرضوان فقال اما فراره يوم أحد فاشهد ان الله عفا عنه واما تغيبه عن بدر فانه كانت تحته رقية بنت رسول الله ﷺ وكانت مريضة فقال له رسول الله ﷺ ان لك اجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه واما تغييه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه فبعثه الى مكة وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان الى مكة فقال رسول الله ﷺ بيده اليمنى هذا يد عثمان فضرب بها على يده وقال هذه لعثمان ثم قال ابن عمر اذهب بها الان معك رواه البخاري فلا يجوز لاحد الطعن......
فى الصحابة لاجل هذا الفرار وايضا كان هذا الفرار قبل ورود النهى عنه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥).
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا يعنى المنافقين عبد الله بن ابى وأصحابه فانه من تشبه بقوم فهو منهم رواه ابو داود عن ابن عمر مرفوعا والطبراني عن حذيفة مرفوعا لا سيما إذا كان وجه المشابهة موجبا للكفر كما فى ما نحن فيه فان ذلك القول انكار للقدر وهو كفر وَقالُوا كلمة قالوا صيغة ماض لكنه بمعنى الاستقبال بدليل جعل ظرفه إذا دون إذ وإذا للمستقبل وان دخل على الماضي وانما أورد صيغة الماضي لتدل على تحققه قطعا كما فى قوله تعالى إذا السّماء انشقّت لِإِخْوانِهِمْ فى النسب او فى النفاق قال بعض المفسرين يعنى قالوا لاجل إخوانهم وفيهم لان قولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا يدل على انهم لم يكونوا مخاطبين قلت وجاز ان يكون جعل القول لاخوانهم باعتبار بعضهم الحاضرين وضمير لو كانوا إليهم باعتبار بعضهم المقتولين او الأموات والاسناد الى الجميع باعتبار البعض شائع وتفسير الاخوة باخوة النفاق لا بتصور الا فى المخاطبين والا فالذين كانوا غزّى لم يكونوا منافقين غالبا إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ اى ذهبوا فيها وأبعدوا للتجارة او غيرها وإذا متعلق بقالوا ويعتبر ذلك الزمان ممتدا وقع فيه الضرب والموت والقول- قال البيضاوي وكان حقه إذ لقوله قالوا لكنه جىء على حكاية الحال الماضي واعترض عليه بان الماضي مع إذا كلمة استقبال لا يكون للحال فكيف يصح حكاية عن الحالة الماضية بفرض وجود ذلك الزمان الان او بفرضك متكلما فى الماضي فالاولى ما قلنا ان قالوا للاستقبال أَوْ كانُوا غُزًّى جمع غازى كعاف وعفّى يعنى كانوا على سفر او غزّى فماتوا او قتلوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا مقولة قالوا- وانما قالوا ذلك لعدم ايمانهم بالقدر فكذلك القدرية لِيَجْعَلَ اللَّهُ اللام للعاقبة كما فى قوله تعالى ليكون لهم عدوّا وحزنا ذلِكَ الاعتقاد الذي دل عليه القول حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ قوله ليجعل اما متعلق بقالوا فالمعنى يصير عاقبة قولهم واعتقادهم ذلك حسرة واما متعلق بلا تكونوا والمعنى لا تكونوا مثلهم فى النطق بهذا القول والاعتقاد وذلك اشارة الى ما دل عليه النهى والمعنى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة فى قلوبهم فان مخالفتكم إياهم يغمهم وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ لا تأثير للسفر والجهاد فى الموت ولا لضدهما فى الحيوة فانه قد يموت المقيم القاعد دون المسافر الغازي وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) تهديد للمؤمنين على مما ثلتهم على قراءة الخطاب وقرا ابن كثير وحمزة وخلف ابو محمدو الكسائي يعملون بالياء......
على الغيبة على انه وعيد للذين كفروا.
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ فى سبيله- قرا نافع وحمزة والكسائي بكسر الميم متّم متّ متنا حيث وقع من مات يمات على وزن خاف يخاف وابن كثير وابو عمرو ابن عامر وابو بكر بالضم حيث وقع من مات يموت على وزن قال يقول وحفص بالضم فى هذين الحرفين خاصة وفى الباقي بالكسر لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) قرا حفص بالياء على الغيبة- والباقون بالتاء على الخطاب جواب للقسم سار مسد الجزاء للشرط يعنى ان السفر والجهاد لا تأثير له فى الموت ولا لضده فى الحيوة فان الله هو يحيى ويميت ولئن كان له نوع تأثير فى الموت على سبيل جرى العادة فما يترتب على ذلك الموت من مغفرة من الله ورحمته خير مما يجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم يموتوا فليطلب ذلك الخير ولا يجوز التحسر على ما فات من الدنيا.
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ على اى وجه كان لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) لا الى غيره فعليكم بذل الجهد فى تحصيل الانس به تعالى والمحبة حتى يكون حشركم الى المحبوب وخلاصا عن سجن الفراق-.
فَبِما رَحْمَةٍ تقديم الجار والمجرور للحصر وما مزيدة للتأكيد ومزيد الدلالة على الحصر كائنة مِنَ اللَّهِ عليك وعلى أمتك لِنْتَ لَهُمْ اى للمؤمنين ورفقت بهم واغتممت لاجلهم بعد ما خالفوك بتوفيق الله تعالى وحسن الهامه ثم بين وجه كون ذلك اللين رحمة بقوله وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا سىء الخلق جافيا غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسية لَانْفَضُّوا تفرقوا مِنْ حَوْلِكَ ولم يسكنوا إليك وحينئذ يتخلعوا عن ربقة الإسلام واستحقاق الجنة ويقل أجرك بقلة اتباعك فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما كان حقك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فى حقوق الله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ امر الحرب وغيره مما يتعلق بالمشاورة «١» وليس فيه عندك علم من الله تعالى استظهارا برأيهم وتطيبا لنفوسهم وتمهيد السنة المشاورة للامة- روى البغوي بسنده عن عائشة قالت ما رايت رجلا اكثر استشارا «٢» للرجال من رسول الله ﷺ فَإِذا عَزَمْتَ على شىء بعد المشاورة فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ اى فوض أمرك اليه واعتمد عليه وكان هذا شأنه عليه الصلاة والسلام ولذا قال بعد ما خرج للقتال يوم أحد لا ينبغى لنبى ان يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل يعنى بعد المشاورة اعتمد على الله تعالى لا على رأيك وآراء المتشاورين «٣» لان بناء
(١) روى عن ابن عباس وشاورهم فى الأمر أبا بكر وعمرو فى رواية عن ابن عباس قال نزلت هذه الاية فى ابى بكر وعمر فقال النبي ﷺ لو اجتمعتما فى مشورة ما خالفتكما- وعن ابن عمر كتب ابو بكر الى عمر ان رسول الله ﷺ كان يشاور فى الحرب فعليك به- وعن الضحاك قال كان عمر بن الخطاب يشاور حتى المرأة- منه رحمه الله
(٢) فى الأصل استشارة-
(٣) فى الأصل مستشارين-
المشاورة استخراج ما عندهم من العلم بالأصلح بتلاحق الافكار بناء على جرى العادة ولا يعلم ما فى الواقع من الغيب الا الله تعالى- وقد يتخبط العقول فى النظر وقد يفعل الله تعالى على خرق العادة فلا وجه للاعتماد على الآراء- والتوكل ان يلتجىء الى الله خاصة ويطلب منه ان يجعل عاقبة سعيه خيرا ويحسن الظن به فى ذلك قيل التوكل ان لا تعصى الله من أجل رزقك وهذا القول مستلزم للالتجاء ولا التجاء فى المعصية وقيل معناه ان لا يطلب لنفسك ناصرا غير الله ولا لرزقك خازنا غيره ولا لعملك شاهدا غيره- قلت وتخصيص الالتجاء والطلب منه تعالى لا يتصور بدون هذه الأمور عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ يدخلون الجنة سبعون الفا من أمتي بغير حساب قيل يا رسول الله من هم قال هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون متفق عليه وكذا روى البغوي عن عمران بن حصين- وعن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله ﷺ لو انكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو اخماصا وتروح بطانا رواه الترمذي وابن ماجة- فان قيل الظاهر من حديث ابن عباس ان التوكل ترك التشبث بالأسباب العادية كالاكتواء والاستراق- قلت لابل ترك الاعتماد على الأسباب الا ترى الاستيشار من باب التشبث بالأسباب فالله سبحانه امر بالاستشارة ثم امر بترك الاعتماد عليه وقوله عليه الصلاة والسلام فى الحديث وعلى ربهم يتوكلون ليس تفسيرا لقوله لا يكتوون ولا يسترقون فان العطف يقتضى المغائرة- ولعل ذلك السبعون الف لا يتشبّثون بالأسباب غالبا- او المراد ترك التشبث ببعض الأسباب المكروهة كيف وتشبث الأسباب من لوازم هذه النشئة فان الاكل والشرب من اسباب الحيوة عادة والصلاة والصوم من اسباب دخول الجنة غالبا والواجب إتيانها إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) عليه وكونه محبوبا لله تعالى هو المقصد الأسنى- وايضا التوكل على الله يفضى الى ان ينصرهم الله ويهديهم الى الصلاح قال الله تعالى وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وقال فى الحديث القدسي انا عند ظن عبدى بي.
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ أحد إذ يستحيل ان يكون المنصور من الله مغلوبا فانه يستلزم عجزه تعالى عن ذلك علوا كبيرا وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ ومنعكم نصره فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ يعنى لا أحد ينصركم لان افعال العباد مخلوقة لله تعالى فلا يتصور حقيقة النصر من أحد على تقدير خذ لانه منه تعالى مِنْ بَعْدِهِ اى من بعد خذ لانه او المعنى بعد ما جاوزتم الله فى الاستنصار لا يتصور النصر من غيره- فهذه الاية برهان على وجوب التوكل على الله عقلا بعد ما ثبت......
وجوبه سمعا بصيغة الأمر وَعَلَى اللَّهِ خاصة فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) لعلمهم وايمانهم بانه لا ناصر سواه.
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قرا ابن كثير وابو عمرو وعاصم يغلّ بفتح الياء وضم الغين على البناء للفاعل والباقون بضم الياء وفتح الغين على البناء للمفعول- والغلول الخيانة فى الغنائم فعلى القراءة الاولى قال محمد بن إسحاق هذا فى الوحى والمعنى انه ما كان لنبى ان يكتم شيئا من الوحى رغبة او رهبة او مداهنة- وقيل ان الأقوياء ألحوا على النبي ﷺ يسئلونه فى المغنم فانزل الله تعالى وما كان لنبىّ ان يغلّ فيعطى قوما ويمنع آخرين بل عليه ان يقسم بينهم بالسوية- واخرج ابو داود والترمذي وحسنه عن ابن عباس قال نزلت هذه الاية فى قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر فقال بعض الناس لعل رسول الله ﷺ أخذها فانزل الله تعالى وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ يعنى ان الاخذ من الغنيمة لا يحل للنبى وهو غلول- وقال الكلبي ومقاتل نزلت فى غنائم أحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة وقالوا نخشى ان يقول النبي ﷺ من أخذ شيئا فهو له وان لا يقسمها كالم يقسمها يوم بدر فتركوا المركز ووقعوا فى الغنائم فقال لهم النبي ﷺ الم اعهد إليكم لن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم امرى قالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال النبي ﷺ بل ظننتم انا تغل فلا نقسم لكم فانزل الله تعالى هذه الاية واخرج ابن ابى شيبة فى المصنف وابن جرير عن الضحاك مرسلا انه بعث رسول الله ﷺ طلايع فغنم رسول الله ﷺ فقسم على من معه ولم يقسم للطلائع فنزلت هذه الاية فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولا تغليظا ومبالغة- وعلى القراءة الثانية لها وجهان أحدهما ان يكون المعنى ما كان للنبى ان ينسب الى الغلول ويكون مرجع القراءتين واحدا- وثانيهما ان يكون معناه ما كان لنبى ان يخان يعنى ان يخونه أمته- قال قتادة ذكر لنا انها نزلت فى طائفة غلت من أصحابه- واخرج الطبراني فى الكبير بسند رجاله ثقات عن ابن عباس قال بعث النبي ﷺ جيشا فردت رأيته ثم بعث فردت بغلول رأس غزال من ذهب فنزلت هذه الاية وما كان لنبىّ ان يغلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ قال الكلبي يمثل له ذلك الشيء فى النار فيقال له انزل فخذه فينزل فيحمله على ظهره فاذا بلغ موضعه وقع فى النار ثم كلف ان ينزل اليه فيخرجه يفعل ذلك به عن ابى هريرة قال خرجنا مع رسول الله ﷺ عام خيبر فلم يغنم ذهبا ولا فضة الا الأموال والثياب والمتاع قال فوجه رسول الله ﷺ نحو وادي القرى وكان رفاعة بن زيد وهب لرسول الله ﷺ عبدا اسود يقال له مدعم قال فخرجنا......
163
حتى إذا كنا بوادي القرى فبينما مدعم يحط رحل رسول الله ﷺ إذا جاءه سهم عائر فاصابه فقتله- فقال الناس هنيئا له الجنة فقال رسول الله ﷺ كلا والذي نفسى بيده ان الشملة التي أخذ يوم خيبر من الغنائم لم يصبها المقاسم يشتعل عليه نارا فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك او شراكين الى رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ شراك او شرا كان من ناد رواه البغوي- وفى الصحيحين عنه هذا الحديث بلفظ اهدى رجل لرسول الله ﷺ غلاما يقال له مدعم الحديث نحوه- وعن يزيد بن خالد الجهني انه قال توفى رجل يوم خيبر فذكروا لرسول الله ﷺ فزعم يزيد «١» ان رسول الله ﷺ قال صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس لذلك فزعم يزيد ان رسول الله ﷺ قال ان صاحبكم قد غل فى سبيل الله قال ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرز اليهود ما يساوى درهمين رواه مالك وابو داود والنسائي وعن ابى حميد الساعدي قال استعمل النبي ﷺ رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا اهدى لى فقام رسول الله ﷺ فحمد الله واثنى عليه
ثم قال اما بعد فانى استعمل الرجل منكم على العمل مما ولانى الله فيأتى أحدكم فيقول هذا لكم وهذا اهدى لى أفلا جلس فى بيت أبيه وامه حتى يأتيه هديته ان كان صادقا- والله لا يأخذ أحدكم شيئا بغير حقه الا لقى الله يحمله يوم القيامة فلا اعرفن أحدا منكم لقى الله تعالى يحمل بعيرا له رغاء او بقرة لها خوار او شاة يتعر متفق عليه وفى رواية ثم رفع يديه ثم قال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت- وعن عدى بن عميرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتى به يوم القيامة رواه مسلم وعن ابى هريرة قام رسول الله ﷺ فعظّم الغلول وقال الا لا القين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثني أقول لا املك لك من الله شيئا قد أبلغتك ثم ذكر على رقبته فرس على رقبته شاة على رقبته صامت فذكر نحوه متفق عليه- وعن عمر بن الخطاب مرفوعا نحوه رواه ابو يعلى والبزار- وورد نحو هذا من حديث سعد بن عبادة وهلب عند احمد وابن عمرو عائشة عند البزار وابن عباس وعبادة بن الصامت وابن مسعود عند الطبراني كلهم فى سعاة الصدقة إذا غلوا منها وعن ابى مالك الأشعري عن النبي ﷺ قال أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض تجدون
(١) فى الأصل زيد- ابو محمد عفا الله عنه
164
الرجلين جارين فى الأرض او فى الدار فيقطع أحدهما من حق صاحبه ذراعا إذا يقطعه طوّقه من سبع ارضين يوم القيامة- وروى عن قيس بن ابى حازم عن معاذ بن جبل قال بعثني رسول الله ﷺ الى اليمن قال لا تصيبن شيئا بغير اذنى فانه غلول ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيمة وروى عن عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ قال إذا وجد ثم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه- وروى عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله ﷺ وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه رواه ابو داود عن عبد الله بن عمرو قال كان على ثقل النبي ﷺ رجل يقال له كركرة فمات فقال رسول الله ﷺ هو فى النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عباءة قد غلها رواه البخاري وعن ابن عباس قال حدثنى عمر قال كان يوم خيبر اقبل نفر من صحابة النبي ﷺ فقالوا فلان شهيد فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله ﷺ كلا انى رايته فى النار فى بردة غلها او عباءة ثم قال رسول الله ﷺ يا ابن الخطاب اذهب فناد فى الناس انه لا يدخل الجنة الا المؤمنون ثلاثا قال فخرجت فناديت الا انه لا يدخل الجنة الا المؤمنون ثلاثا رواه مسلم ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ يعطى جزاء ما كسبت وافيا كاملا كان المناسب بما سبق ثم يوقى ما كسب لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد فى عقاب عاصيهم.
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ بالطاعة وهم المهاجرون والأنصار كَمَنْ باءَ رجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بالمعاصي والغلول وهم المنافقون وبعض الفساق وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) جهنم.
هُمْ يعنى من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله دَرَجاتٌ شبهو بالدرجات لما بينهم من التفاوت فى الثواب والعقاب او المعنى هم أولوا درجات متفاوتة عِنْدَ اللَّهِ بعض المؤمنين اقرب الى الله من بعض وبعض الكفار والعصاة فى درك أسفل من النار من بعض وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) عالم بأعمالهم فيجازيهم على حسبها-.
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ قيل المراد من أمن من قومه خاصة- وتخصيصهم مع ان نعمة البعثة عامة لسائر المؤمنين لزيادة انتفاعهم به واكتسابهم مزيد الفضل بسببه قال رسول الله ﷺ الناس تبع لقريش مؤمنهم لمؤمنهم وكافرهم لكافرهم متفق عليه- وقال عليه السلام لا يزال هذا الأمر يعنى الخلافة فى قريش ما بقي منهم اثنان متفق عليه- وقيل أراد به مؤمنوا العرب كلهم لانه ليس حى من احياء العرب إلا وله فيهم نسب الا بنى تغلب......
قال الله تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ومعنى كونه من أنفسهم يعنى من جنسهم عربيّا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونون واقفين على حاله فى الصدق والامانة مفتخرين به- عن سلمان قال قال لى رسول الله ﷺ لا تبغضني فتفارق دينك قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله قال تبغض العرب فتبغضنى رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن- وقيل أراد به جميع المؤمنين كما فى قوله تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعنى من الانس دون الملائكة حتى يتحقق التأثير والتأثر لكمال المناسبة قال الله تعالى لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يعنى القران بعد ما كانوا جهالا وَيُزَكِّيهِمْ اى يطهر قلوبهم عن العقائد الفاسدة والاشتغال بغير الله ونفوسهم عن الرذائل وأبدانهم عن الأنجاس والاخباث والأعمال القبيحة وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يعنى العلوم المستنبطة من الكتاب او ما يصلح ان يكتب فى الصحف وَالْحِكْمَةَ العلوم الحقة المستحكمة التي يستفيدها الحكيم من الحكيم بلا توسط كتاب ولا بيان وَإِنْ كانُوا مخففة من المثقلة واسمه ضمير الشأن يعنى انه كانوا مِنْ قَبْلُ بعثته لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) اى ظاهر.
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يوم أحد من قتل سبعين والهزيمة قَدْ أَصَبْتُمْ يوم بدر من الكفار مِثْلَيْها روى احمد والشيخان والنسائي عن البراء قال أصاب المشركون منا يوم أحد سبعين وكان رسول الله ﷺ وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيرا وسبعين قتيلا- قلت جعل الله سبحانه الأسير مثل القتيل لكونهم قادرين على قتلهم وكان قتلهم هو المرضى من الله تعالى وانما كان عدم القتل باختيارهم الفداء من عند أنفسهم- والظرف يعنى لما متعلق بقوله تعالى قُلْتُمْ متعجبين انّى هذا الهزيمة والقتل علينا ونحن مسلمون وفينا رسول الله ﷺ والهمزة لانكار هذا القول والمنع عنه والجملة معطوفة على ما سبق من قصة أحدا ما على قوله لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ يعنى لقد صدقكم الله وعده وقلتم انى هذا حين المصيبة واما على قوله اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ ويحتمل العطف على قوله لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ يعنى وجود الرسول ﷺ منه منه تعالى عليكم وأنتم تريدون ان تنسبوا اليه المصيبة وتجعلوها بسببه او معطوف على محذوف تقديره انما وعدكم النصر بشرط الصبر والتقوى لم تصبروا ولما أصابتكم مصيبة قلتم انى هذا او تقديره أتنازعتم......
وعصيتم الرسول وفشلتم ولما أصابتكم مصيبة قلتم انى هذا وجاز ان يكون معطوفا على القول المحذوف اشارة الى ان قولهم كان غير واحد تقديره أقلتم أقوالا غير واحد لا ينبغى ولما أصابتكم مصيبة قلتم انى هذا قُلْ يا محمد هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ اى بما اقترفتم من المعصية بترك المركز فان الوعد كان مشروطا بالصبر والتقوى وقيل يعنى باختياركم الفداء عن أسارى بدر اخرج ابن ابى حاتم عن عمر بن الخطاب قال عوقبوا يوم أحد بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفرّ اصحاب رسول الله ﷺ وكسر رباعيته وهشّمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فانزل الله تعالى أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الاية وقال البغوي روى عبيدة السلماني عن على قال جاء جبرئيل عليه السلام الى النبي ﷺ فقال ان الله كره ما صنع قومك فى أخذهم الفداء من الأسارى وقد أمرك ان تخيّرهم بين ان يقدموا فيضرب أعناقهم وبين ان يأخذوا الفداء على ان يقتل منهم عدتهم فذكر ذلك رسول الله ﷺ فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا لابل نأخذ فداهم فتقوى به على قتال عدونا ويستشهد مناعدتهم فقتل يوم أحد سبعون عدد أسارى اهل بدر فهذا قوله هو من عند أنفسكم (فائدة) روى سعيد بن منصور عن ابى الصخر مرسلا قال قتل يوم أحد سبعون اربعة من المهاجرين حمزة ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان وسائرهم من الأنصار وروى ابن حبان والحاكم عن أبيّ بن كعب قال أصيب يوم أحد من الأنصار اربعة وستون ومن المهاجرين ستة- قال الحافظ وكان الخامس سعد مولى حاطب بن بلتعة «١» والسادس ثقيف بن عمرو الأسلمي- وروى البخاري عن قتادة قال ما نعلم حيا من احياء العرب اكثر شهيدا من الأنصار- قال قتادة حدثنا انس قال قتل منهم يوم أحد سبعون ويوم بير معونة سبعون ويوم اليمامة سبعون- ونقل الحافظ محب الطبري عن مالك ان شهداء أحد خمسة وسبعون منها أحد وسبعون من الأنصار- وعن الشافعي انهم اثنان وسبعون- وسرد فى العيون اسماء شهداء أحد فبلغ ستة وتسعين من المهاجرين أحد عشر ومن الأوس ثمانية وثلاثون ومن الخزرج سبعة وأربعون- وفى العيون عن الدمياطي مائة واربعة او خمسة وكتاب الله يدل على كونهم سبعين إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من النصر والخذلان وغيرهما قَدِيرٌ (١٦٥).
وَما أَصابَكُمْ من المصيبة يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين وجمع المشركين
(١) الصحيح ابن ابى بلتعة-
يعنى يوم أحد فَبِإِذْنِ اللَّهِ فهو قد حصل بقضاء الله وقدره وسماه اذنا لانه بالأمر التكويني فى قوله كن فيكون والمستحيل فى ما لا يشرع هو الأمر التكليفي دون الأمر التكويني وَلِيَعْلَمَ يعنى لمصالح كثيرة وليعلم الْمُؤْمِنِينَ (١٣٦).
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا ممتازين عند الناس يعنى يتحقق امتيازهم عند الناس فيعرفوا ايمان هؤلاء وكفر هؤلاء وَقِيلَ لَهُمْ اى للمنافقين عطف على نافقوا او كلام مبتدا تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا هذا مقولة القول يعنى قاتلوا الكفار فى سبيل الله ان استطعتم والا فادفعوهم بتكثيركم سواد المؤمنين فاستقيموا ولا تفروا او المعنى قاتلوا فى سبيل الله بالإخلاص ان كنتم مؤمنين حقا او ادفعوا الأعداء عن ذراريكم ان لم تقاتلوا الله تعالى قالُوا يعنى المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه فى جواب المؤمنين حين انصرفوا عن أحد وكانوا ثلاثمائة لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا هذه المصادمة قتالا لَاتَّبَعْناكُمْ لكنه ليس بقتال بل إلقاء بالأنفس فى التهلكة او المعنى انه لو تكونوا على الحق ونعلمه قتالا فى سبيل الله لاتبعناكم او المعنى او نعلم انه قتال معنا لاتبعناكم لكن ليس هذا قتالا معنا ولا قصد للمشركين الا قتالا معكم او المعنى لو نحسن قتالا لاتبعناكم فيه انما قالوه استهزاء بهم هُمْ اى المنافقون لِلْكُفْرِ اللام بمعنى الى اى الى الكفر يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ اى الى الايمان يعنى ان المنافقين كانوا مترددين بين الايمان والكفر كالشاة العائرة بين الغنمين ان أصابهم فى الإسلام خير اطمأنوا به وان أصابتهم فتنة انقلبوا الى الكفر فلما كان يوم أحد يوم الفتنة صاروا اقرب الى الكفر فانه أول يوم ظهر فيه كفرهم ونفاقهم- وقيل معناه هم لاهل الكفر اقرب نصرة منهم لاهل الايمان فان انخزالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيل للمؤمنين يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ يعنى يظهرون الإسلام بأفواههم ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ واضافة القول الى الأفواه تأكيد لنفى صدوره عن الاعتقاد وتحقير لهم يعنى ليس لهم من الايمان الا مجرد القول وهذه الجملة بيان لحالهم مطلقا لا فى هذا اليوم ولذا فصل عما سبق وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) من النفاق منكم.
الَّذِينَ قالُوا مرفوع بدلا من الضمير المرفوع فى يكتمون او منصوب على الذم او الوصف للذين نافقوا- او مجرور بدلا من الضمير فى بأفواههم او قلوبهم لِإِخْوانِهِمْ اى لاجل إخوانهم فى النسب وفى حقهم عمن قتل يوم أحد وَقَعَدُوا حال بتقدير قد اى قالوا قاعدين عن القتال لَوْ أَطاعُونا فى القعود ما قُتِلُوا كما لم نقتل قرا هشام ما قتّلوا بالتشديد للتكثير والباقون بالتخفيف قُلْ لهم يا محمد فَادْرَؤُا فادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)......
ان الحذر يدفع القدر- روى الترمذي وحسنه وابن ماجة وابن خزيمة وصححه والبغوي عن جابر بن عبد الله قال لقينى رسول الله ﷺ فقال لى يا جابر مالى أراك منكسرا قلت يا رسول الله استشهد ابى وترك عيالا ودينا قال أفلا أبشرك بما لقى الله به أباك قلت بلى يا رسول الله قال ما كلم الله تعالى أحدا قط الا من وراء الحجاب وأحيا أباك وكلمه كفاحا قال يا عبدى تمن علىّ أعطيك قال يا رب أحيني فاقتل فيك الثانية قال الرب تبارك وتعالى انه قد سبق منى انهم لا يرجعون قال فانزلت فيهم.
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا الاية- وروى مسلم واحمد وابو داود والحاكم والبغوي عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ لمّا أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله عز وجل أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد انهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح فى الجنة حيث شاءت وتأوى الى قناديل من ذهب تحت العرش- فلما راوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم وراوا ما أعد الله لهم من الكرامة قالوا يا ليت قومنا راوا ما نحن فيه من النعمة وما صنع الله بنا كى يرغبوا فى الجهاد ولا ينكلوا عنه فقال الله تعالى عز وجل انا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فانزل الله تعالى وروى ابن المنذر عن انس قال لما قتل حمزة وأصحابه يوم أحد قالوا يا ليت مخبرا يخبر إخواننا الذي صرنا اليه من كرامة الله فاوحى إليهم ربهم انا رسولكم الى إخوانكم فانزل الله تعالى لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا الى قوله تعالى لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ وقيل ان اولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء وقالوا نحن فى النعمة وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا فى القبور فانزل الله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا قرا هشام لا يحسبنّ بالياء للغيبة والباقون بالتاء للخطاب وقرا ابن عامر قتّلوا هنا وفى الحج بتشديد التاء فيهما لكثرة المقتولين- والباقون بالتخفيف والخطاب لاولياء الشهداء او للرسول ﷺ وجاز ان يكون خطابا للمنافقين الذين قالوا لو أطاعونا ما قتلوا ويكون حينئذ داخلا تحت قل وعلى قراءة هشام الضمير راجع الى اولياء الشهداء وجاز اسناده الى ضمير الرسول ﷺ او الضمير راجع الى المنافقين الذين قالوا لو أطاعونا وجاز اسناده الى الذين قتلوا او المفعول محذوف لانه فى الأصل مبتدا جائز الحذف عند القرينة وانما لا يجوز حذف أحد المفعولين بلا قرينة لانه شطر الجملة فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعنى فى الجهاد لفظ فى سبيل الله عام يشتمل من مات فى شىء من امور الخير غير ان لفظ القتل لا يشتمله عبارة لكن بدلالة النص يدخل فيه بالطريق الاولى او......
169
بالمساوات او بالقياس من جاهد فى الله مع نفسه جهادا اكبر فانه أشد وأشق من الجهاد الأصغر أَمْواتاً غير مشتعرين باللذات والنعماء بَلْ أَحْياءٌ روى ابو حاتم عن ابى العالية فى قوله تعالى بل احياء قال فى صور طير خضر يطيرون فى الجنة حيث شاءوا قال البغوي أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش الى يوم القيامة روى ابن مندة عن طلحة بن عبد الله رضى الله عنه قال أردت مالى بالغابة فادركنى الليل فاويت الى قبر عبد الله بن عمرو بن حرام فسمعت قراءة من القبر ما سمعت احسن منها فجئت الى رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له فقال ذاك عبد الله الم تعلم ان الله قبض أرواحهم فجعلها فى قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة فاذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم الى مكانها التي كانت فيها- وعلى هذا القول يكتسب الشهيد الدرجات وثواب الطاعات بعد الموت ايضا- والشهيد لا يبلى فى القبر ولا يأكله الأرض وهذا ايضا اثر من اثار حياته روى البيهقي من طرقه عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما وابن سعد والبيهقي من طرق اخر عنه ومحمد بن عمرو عن شيوخه عن جابر قال استصرخنا الى قتلانا يوم أحد حين اجرى معاوية العين فاتيناهم فاخرجناهم رطابا تثنى أطرافهم قال شيوخ محمد بن عمرو وجدوا والد جابر ويده على جرحه فاميطت يده عن جرحه فانبعث الدم فردت الى مكانها فسكن الدم قال جابر فرايت ابى فى حفرته كانه نائم والنمرة التي كفن فيها كما هى والخرمة على رجليه على هيئته وبين ذلك ست وأربعون سنة وأصابت المسحاة رجل رجل منهم «١» قال الشيوخ وهو حمزة فانبعث الدم قال ابو سعيد الخدري لا ينكر بعد هذا منكر ولقد كانوا يحفرون التراب فكلما حفروا نثرة من التراب فاح عليهم ريح المسك- قال البغوي قال عبيد بن عمير مر رسول الله ﷺ حين انصرف من أحد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ثم
قال رسول الله ﷺ اشهد ان هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة الا فاتوهم وزوروهم وسلموا عليهم فو الذي نفسى بيده لا يسلم عليهم أحد الى يوم القيامة الا ردوا عليه وروى الحاكم والبيهقي عن ابى هريرة والبيهقي عن ابى ذر وابن مردوية عن خباب بن الأرت ان رسول الله ﷺ مر بمصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف عليه فدعا له ثم قرا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الاية ثم قال لقد رايتك بمكة وما بها ارق حلة ولا احسن لمة منك-
(١) فى الأصل فيهم
170
(مسئلة) هل يبلغ غير الشهيد درجة الشهيد قلت نعم وما ورد فى فضائل الشهداء لا يقتضى نفى الحكم عمن عداهم وقد روى ابو داود والنسائي عن عبيد بن خالد ان النبي ﷺ أخي بين رجلين فقتل أحدهما فى سبيل الله ثم مات اخر بعد جمعة او نحوها فصلوا عليه فقال النبي ﷺ ما قلتم قالوا دعونا الله ان يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه فقال النبي ﷺ فاين صلاته بعد صلاته وعمله بعد عمله او قال صيامه بعد صيامه لما بينهما ابعد مما بين السماء والأرض- وقد ذكرنا بحث مقر الأنبياء والشهداء والصديقين والمؤمنين وغيرهم فى تفسير سورة المطففين ومسئلة حيوة الشهداء فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ اى ذو زلفى وقرب منه تعالى قربا بلا كيف قال الشيخ الشهيد شيخى وامامى رضى الله عنه ورضى عنا بسره السامي انه يرى بنظر الكشف تجليات ذاتية على الشهداء لما بذلوا ذواتهم فى سبيل الله قال الله تعالى وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ فهم قدموا لانفسهم بدل الذوات فجزاهم الله تعالى بالتجليات الذاتية الصرفة يُرْزَقُونَ (١٦٩) من الجنة تأكيد لكونهم احياء.
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أبهم الله سبحانه ما أتاهم لكونه بحيث لا يدركه فهم ولا يحيط بتفصيله عبارة روى ابن ابى شيبة وعبد الرزاق فى المصنف واحمد ومسلم وابن المنذر عن مسروق قال سالنا عبد الله يعنى ابن مسعود عن هذه الآيات فقال قد سالنا عن ذلك رسول الله ﷺ فقال أرواحهم فى جوف طير خضر ولفظ عبد الرزاق أرواح الشهداء كطير خضر لها قناديل من ذهب معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى الى تلك القناديل فاطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا ففعل ذلك ثلاث مرات وفى رواية فقال سلونى ما شئتم فقالوا يا رب كيف نسئلك ونحن نسرح فى الجنة فى ايها شئنا- فلما راوا انهم لم تتركوا من ان يسئلوا شيئا قالوا يا ربنا نريد ان ترد أرواحنا فى أجسادنا حتى نقاتل فى سبيلك مرة اخرى فلما راى ان ليس لهم حاجة تركوا وَيَسْتَبْشِرُونَ يسرون ويفرحون بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ الذين تركوهم احياء فى الدنيا على مناهج الايمان والطاعة والجهاد او المعنى لم يلحقوا بهم فى الدرجة مِنْ خَلْفِهِمْ زمانا او رتبة أَلَّا خَوْفٌ بدل اشتمال من الذين اى بان لا خوف عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) قيل معناه يحتمل انهم يستبشرون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ان لا خوف عليهم يعنى على الشهداء من جهتهم اى من جهة الاخوان لاجل حقوق العباد فى ذمتهم ومخاصمتهم معهم لانه تعالى سيرضيهم......
منهم ويمنعهم عن المخاصمة- قلت ويحتمل انهم يستبشرون بإخوانهم وأحبائهم الذين لم يلحقوا بهم فى درجتهم ان لا خوف على إخوانهم ولا هم يحزنون لما اعطى الله للشهداء درجة الشفاعة فى إخوانهم واحبابهم اخرج ابو داود وابن حبان عن ابى الدرداء قال سمعت رسول الله ﷺ يقول الشهيد يشفع فى سبعين من اهل بيته واخرج احمد والطبراني مثله من حديث عبارة بن الصامت والترمذي وابن ماجة مثله من حديث المقدام بن معد يكرب- واخرج ابن ماجة والبيهقي عن عثمان بن عفان عن النبي ﷺ قال يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء- وأخرجه البزار وزاد فى آخره ثم المؤذنون- قلت لعل المراد بالعلماء الذين سبقوا على الشهداء فى الشفاعة العلماء الراسخون علماء الحقيقة- يَسْتَبْشِرُونَ كرره للتأكيد او يقال الاول بشارة بدفع الضرر وهذا بشارة بجلب النفع.
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ثوابا لاعمالهم وَفَضْلٍ زيادة عليه من الله تعالى وذلك رؤية الله ومراتب قربه وتنكيرهما للتعظيم وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) قرا الجمهور بفتح انّ عطفا على فضل فهو من جملة المستبشر به- عن ابى هريرة ان رسول الله ﷺ قال تكفل الله لمن جاهد فى سبيل الله لا يخرجه من بيته الا الجهاد فى سبيله وتصديق كلمته ان يدخله الجنة او يرجعه الى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من اجر وغنيمة وقال والذي نفسى بيده لا يكلم أحد فى سبيل الله والله اعلم بمن يكلم فى سبيله الا جاء يوم القيامة وجرحه تبعث دما اللون لون الدم والريح ريح المسك رواه ( «١» ) وعنه قال قال رسول الله ﷺ الشهيد لا يجد الم القتل الا كما يجد أحدكم الم القرصة «٢» رواه الدارمي والترمذي وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب ورواه النسائي بسند صحيح ورواه الطبراني فى الوسط عن ابى قتادة بسند صحيح- والاية تدل على عدم ضياع اجر المؤمنين عامة شهيدا كان او غيره كانّ الشهداء يستبشرون بحال جميع المؤمنين- وقرا الكسائي على انه استيناف معترض دال على ان ذلك اجر لهم على ايمانهم ومن لا ايمان له اعماله محبطة لا اجر عليها- وقيل هذه الاية نزلت فى شهداء بدر كانوا اربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين وهذا القول ضعيف وقراءة قتّلوا بالتشديد يأبى عنه لدلالتها لكثرة المقتولين- وقال قوم نزلت هذه الاية فى شهداء بير معونة وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق
(١) هكذا بياض فى الأصل- وفى حاشية نقل البغوي- ابو محمد عفا عنه-
(٢) القرص أخذك لحم الإنسان بإصبعيك حتى تولمه ولسع البراغيث- قاموس- منه رح
172
وعبد الله بن ابى عن انس رضى الله عنه وغيره قال قدم عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الا سنة العامري على رسول الله ﷺ واهدى له فرسين وراحلتين فابى رسول الله ﷺ ان يقبلها وقال لا اقبل هدية مشرك فاسلم ان أردت ان اقبل هديتك فلم يسلم ولم يبعد وقال يا محمد ان الذي تدعوا اليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك الى اهل نجد رجوت ان يستجيبوا لك فقال رسول الله ﷺ انى أخشى عليهم اهل نجد فقال ابو براء أنالهم جار فبعث المنذر بن عمر رضى الله عنه أخا بنى ساعدة فى سبعين رجلا من خيار المسلمين من الأنصار يسمون القراء وفيهم عامر بن فهيرة مولى ابى بكر فى صفر سنة اربع حتى نزلوا بير معونة وهى ارض بين ارض بنى عامر وحرة بنى سليم فبعثوا حرام بن ملحان رضى الله عنه بكتاب رسول الله ﷺ الى عامر بن الطفيل فى رجال من بنى عامر فقال حرام بن ملحان انى رسول رسول الله إليكم انى اشهد ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله فامنوا بالله ورسوله فخرج اليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به فى جنبه حتى خرج من الشق الاخر فقال الله اكبر فزت ورب الكعبة ثم استصرخ عامر بن الطفيل عليهم ببني عامر فابوا ان يجيبوه الى ما دعاهم اليه وقالوا لا تخفروا جوار ابى براء فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم عصية ورعل وذكوان فاجابوه فخرجوا حتى غشوا القوم فاحاطوا بهم فى رحالهم فقاتلوهم حتى قتلوا كلهم الا كعب بن زيد تركوه وبه رمق فعاش حتى قتل يوم الخندق وأخذوا عمرو بن امية أسيرا فلما أخبرهم انه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل فقدم على رسول الله ﷺ واخبر له الخبر فقال رسول الله ﷺ هذا عمل ابى براء فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه اخفار عامر إياه روى محمد بن إسحاق كان يقول عامر بن الطفيل كان يقول من الرجل منهم لما قتل رايته رفع بين السماء والأرض حتى رايت السماء من دونه قالوا هو عامر بن فهيرة ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن ابى براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله- وفى الصحيحين عن قتادة عن انس ان رعلا وذكوان وعصية وبنى لحيان أتوا رسول الله ﷺ فزعموا انهم اسلموا واستمدوا على عدوهم فامدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء فى زمانهم كانوا يحطبون بالنهار ويصلون بالليل حتى كانوا ببئر معونة فقتلوهم وغدروا بهم فبلغ النبي ﷺ فقنت شهرا يدعو فى الصبح على احياء من احياء العرب على رعل وذكوان وعصية وبنى لحيان- وروى احمد والشيخان والبيهقي عن انس والبيهقي عن ابن مسعود والبخاري عن عروة ان أناسا......
173
جاءوا الى رسول الله ﷺ فقالوا ابعث معنا رجالا يعلمون القران والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل ان يبلغوا المكان قالوا اللهم بلغ نبينا وفى لفظ إخواننا انا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا فاوحى الله انا رسولهم إليكم انهم قد رضوا ورضى عنهم قال انس فقرأنا فيهم بلغوا عنا قومنا انا قد لقينا ربنا فرضى عنا وارضانا ثم نسخ- فدعا رسول الله ﷺ أربعين صباحا على رعل وذكوان وعصية وبنى لحيان الذين عصوا الله ورسوله- قال البغوي فى قول انس فرفعت بعد ما قراناها زمانا وانزل الله عز وجل وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الاية- قلت والاختلاف وان وقع فى سبب نزول هذه الاية كما ذكرنا لكن بحسب عموم اللفظ جميع الشهداء داخلون فى حكم هذه الاية والله اعلم- ((مسئلة)) اجمعوا على ان الشهيد لا يغسل لان شهداء أحد لم يغسلوا وامر رسول الله ﷺ بهم ان ينزع الحديد والجلود وان يدفنوا بدمائهم وثيابهم رواه ابو داؤد وابن ماجة عن ابن عباس وروى النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن ثعلبة قوله ﷺ زملوهم بدمائهم فانه ليس كلم يكلم فى سبيل الله
الا هو يأتى يوم القيامة بدماء لونه لون الدم وريحه ريح المسك وفى الباب حديث جابر رمى رجل بسهم فى صدره فمات فادرج فى ثيابه كما هو ونحن مع رسول الله ﷺ أخرجه ابو داؤد بإسناد على شرط مسلم (مسئلة) واختلفوا فى مجنب استشهد هل يغسل أم لا فقال ابو حنيفة واحمد يغسل وقال مالك والشافعي لا يغسل لعموم قوله ﷺ زملوهم بدمائهم ولنا قصة حنظلة بن ابى عامر قال رسول الله ﷺ انى رايت الملائكة يغسل حنظلة بن ابى عامر بين السماء والأرض بماء المزن فى صحاف الفضة قال ابو أسيد الساعدي فذهبنا فنظرنا اليه فاذا رأسه يقطر ماء فرجعت الى رسول الله ﷺ فاخبرته فارسل الى امرأته فسالها فاخبرته انه خرج وهو جنب فولده يقال بنو غسيل الملائكة رواه ابن الجوزي من حديث محمد بن سعد مرسلا ورواه ابن حبان فى صحيحه والحاكم والبيهقي من حديث ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده- قال الحافظ ظاهره ان الضمير فى قوله عن جده يعود على عباد فيكون الحديث من مسند الزبير وهو الذي يمكنه السماع من رسول الله ﷺ فى تلك الحال- ورواه الحاكم فى الإكليل من حديث ابى أسيد وفى اسناده ضعف ورواه......
174
الحاكم فى المستدرك والطبراني والبيهقي من حديث ابن عباس وفى اسناد الحاكم معلى بن عبد الرحمن متروك وفى اسناد الطبراني حجاج مدلس وفى اسناد البيهقي ابو شيبة الواسطي ضعيف- ((مسئلة)) اختلفوا فى الصلاة على الشهيد فقال الشافعي لا يصلى عليه وقال ابو حنيفة ومالك يصلى عليه وعن احمد كالمذهبين قلنا الصلاة اما لمغفرة الذنوب او لرفع الدرجات تكريما للميت والشهيد اولى بالتكرمة ولو كان التكريم فى ترك الصلاة كان النبي ﷺ اولى به وقد صلى عليه اجماعا- والأصل هو الصلاة احتج الشافعي بحديث جابر بن عبد الله ان النبي ﷺ كان يجمع بين رجلين من قتلى أحد فى الثوب الواحد ثم يقول أيهما اكثر قراتا فاذا أشير الى أحدهما قدمه فى اللحد وقال انا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وامر بدفنهم فى ثيابهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا رواه البخاري والنسائي وابن ماجة وابن حبان وحديث انس ان رسول الله ﷺ كان يوم أحد يكفن الرجلين والثلاثة فى الثوب الواحد ودفنهم ولم يصل عليهم رواه احمد وابو داؤد والترمذي وقال حديث حسن والحاكم وصححه وقد أعله البخاري وقال انه غلط فيه اسامة بن زيد فقال عن الزهري عن انس ورجح رواية الليث عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن جابر يعنى هو الحديث الاول والله اعلم- وأجيب عن احتجاج الشافعي بانه يحتمل ان النبي ﷺ لم يصل على شهداء أحد لما كان به من الم الجراح وكسر الرباعية ولعله صلى عليهم غيره ﷺ ويؤيد هذا الاحتمال ما روى ابو داؤد فى المراسيل والحاكم والطحاوي من حديث انس ايضا قال مر النبي صلى الله عليه على حمزة وقد مثل به ولم يصل على أحد من الشهداء غيره زاد الطحاوي قال عليه السلام انا شهيد عليكم يوم القيامة- فان قيل روى هذا الحديث الدارقطني وقال لم يقل هذه الزيادة غير عثمان بن عمرو وليست محفوظة قلنا قال ابن الجوزي عثمان مخرج عنه فى الصحيحين والزيادة من الثقة مقبولة قال الطحاوي لو كان ترك الصلاة على الشهيد سنة لما صلى على حمزة فظهر انه صلى على حمزة لفضله ولم يصل على غيره لما كان به من وجع وقد ورد ما يعارض ما تقدم عدة أحاديث عن عدة من الصحابة منها حديث جابر قال فقد رسول الله ﷺ حمزة حين جاء الناس من القتال فقال رجل رايته عند تلك الشجرة فلما راه ورأى ما مثل به شهق وبكى فقام رجل من الأنصار فرمى عليه بثوب ثم جىء بحمزة فصلى عليه ثم بالشهداء فيوضعون الى جانب حمزة فيصلى عليهم ثم يرفعون ويترك حمزة حتى صلى على الشهداء......
175
كلهم وقال حمزة سيد
الشهداء عند الله يوم القيامة رواه الحاكم وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه الا ان فى سنده مفضل بن صدقة ابو حماد الحنفي قيل هو متروك وضعفه النسائي ويحيى لكن قال الأهوازي كان عطاء بن مسلم يوثقه وكان احمد بن محمد بن شعيب يثنى عليه ثناء تاما وقال ابن عدى ما ارى به بأسا فالحديث لا يسقط عن درجة الحسن ومنها حديث ابن عباس قال امر رسول الله ﷺ بحمزة فسجى ببردة ثم صلى عليه وكبر سبع تكبيرات ثم اتى بالقتلى فيوضعون الى حمزة فيصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلوة رواه ابن إسحاق قال حدثنى من لا اتهمه عن مقسم مولى ابن عباس عنه وفى مقدمة مسلم عن شعبة عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عنه ان النبي ﷺ صلى على قتلى أحد فسالت الحكم فقال لم يصل عليهم قال السهيلي الحسن بن عمارة ضعيف- وقال الحافظ وروى هذا الحديث الحاكم وابن ماجة والطبراني والبيهقي من طريق يزيد بن زياد عن مقسم عن ابن عباس مثله قال الحافظ يزيد فيه ضعف يسير وقال ابن الجوزي قال ابن المبارك ارم به وقال البخاري منكر الحديث وقال النسائي متروك- ومنها حديث ابن مسعود نحوه يعنى صلى على حمزة سبعين صلوة رواه احمد والحديث ضعيف وقال ابن همام لا ينزل عن درجة الحسن- ومنها حديث ابى مالك الغفاري أخرجه ابو داؤد فى المراسيل انه صلّى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد عشرة عشرة فى كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين صلوة قال الحافظ رجاله ثقات وابو مالك تابعي اسمه غزوان- وقد اعل الشافعي هذا الحديث بأنه متدافع لان الشهداء كانوا سبعين فاذا اتى بهم عشرة عشرة يكون قد صلى سبع صلوات وأجيب بان المراد انه صلى على سبعين نفسا وحمزة معهم كلهم وعند اجتماع هذه الأحاديث يثبت انه قد صلّى على قتلى أحد ووجه التطبيق بين ما روى انه ﷺ لم يصل عليهم وما روى انه صلى عليهم وانه لم يصل بنفسه الشريفة الا أول مرة على حمزة ثم امر الناس بالصلوة على كلهم وصلى على حمزة الصلاة مع كل من القتلى انه من أسند الصلاة الى النبي ﷺ على قتلى أحد كلهم فمعناه انه امر بالصلوة فاسند اليه مجازا ومن نفى عنه الصلاة فهو على الحقيقة نظرا الى الأكثر ومن فصّل وقال صلى على حمزة لا غير فقد اتى بما هو الواقع وفى الباب ما رواه النسائي والطحاوي عن شداد بن الهاد مرسلا ان رجلا من الاعراب جاء الى النبي ﷺ فامن به واتبعه وقال أهاجر معك فاوصى به النبي ﷺ بعض الصحابة......
176
فلما كانت غزوة غنم رسول الله ﷺ فيها أشياء فقسم وقسم له الحديث وفيه فقال الاعرابى ما على هذا اتبعك ولكن اتبعك على ان ارمى هاهنا وأشار الى حلقه بسهم فاموت فادخل الجنة الحديث وفيه فاتى به النبي ﷺ يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي ﷺ اهو هو قالوا نعم قال صدّق الله فصدقه وكفنه النبي ﷺ فى جبته ﷺ ثم قدمه فصلى عليه وكان مما ظهر من صلاته عليه اللهم ان هذا عبدك خرج مهاجرا فى سبيلك فقتل شهيدا انا اشهد عليه وهذا مرسل والمرسل عندنا حجة ((فصل)) روى البخاري وغيره عن عقبة بن عامر ان النبي ﷺ صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين يعنى قبيل وفاته عليه السلام وحمله البيهقي على الدعاء وليس بشىء لان الدعاء لم يكن مرة بعد ثمانى سنة وانما هى صلوة الجنازة وقد ورد فى بعض ألفاظه خرج يوما فصلى على اهل أحد صلاته على الميت رواه الطحاوي وغيره- فان قيل الحنفية لا يجيزون الصلاة على الميت بعد ثلاثة ايام قلت انما لا يجيزون لان الميت ينفسخ فى القبر فى ثلاثة ايام واما الشهيد فقد ثبت انه لا يأكله الأرض وهو ابدا كيوم دفنه فلا بأس بالصلوة عليه وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم
والله اعلم- روى الفرياني والنسائي والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس انه قال لما رجع المشركون عن أحد قالوا لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم بئسما صنعتم ارجعوا فسمع بذلك رسول الله ﷺ فندب المسلمين فانتدبوا الحديث قال محمد بن عمرو لما رجع رسول الله ﷺ من أحد يوم السبت ١٥ باتت وجوه الأوس والخزرج على بابه خوفا من كرة العدو فلما طلع الفجر من يوم أحد ١٦ اذّن بلال وخرج ينتظر خروج رسول الله ﷺ فلما خرج أخبره رجل مزنّى قول ابى سفيان حين بلغوا الروحاء ارجعوا نستأصل من بقي وصفوان بن امية يأبى ذلك عليهم ويقول يا قوم لا تفعلوا فان القوم قد حربوا وأخاف ان يجتمع عليكم من تخلف من الخزرج فارجعوا والدولة لكم فانى لا أمن ان رجعتم ان تكون الدولة عليكم فقال رسول الله ﷺ ارشدهم صفوان وما كان برشيد والذي نفسى بيده لقد سومت لهم الحجارة ولو رجعوا لكانوا كامس الذاهب ودعا رسول الله ﷺ أبا بكر وعمر فذكر لهما فقالا يا رسول الله اطلب العدو ولا يقمحون الاقماح رفع الراس وغمض البصر- نهايه مندوح على الذرية- فامر بلالا ان ينادى ان رسول الله......
177
صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم ولا يخرج معنا الا من شهد القتال أمس قال أسيد بن حضير وبه تسع جراحات يريد ان يداويها لما سمع النداء سمعا وطاعة لله ورسوله ولم يعرج على دواء جرحه وخرج من بنى سلمة أربعون جريحا بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا وبخراش بن الصمة عشر جراحات وبكعب بن مالك بضعة عشر جرحا وبعطية بن عامر تسع جراحات ووثب المسلمون الى سلاحهم وما عرجوا على دواء جراحاتهم قال ابن عقبة واتى عبد الله بن أبيّ فقال يا رسول الله انا اركب معك قال لا قال ابن إسحاق ومحمد بن عمرو اتى جابر بن عبد الله فقال يا رسول الله ان مناديك نادى ان لا يخرج معنا الا من حضر القتال بالأمس وقد كنت حريصا على الحضور ولكن ابى خلفنى على أخوات لى سبع وفى لفظ تسع وقال لا ينبغى لى ولك ان نترك هذه النسوة ولا رجل معهن ولست بالذي او ثرك بالجهاد مع رسول الله ﷺ لعل الله تعالى يرزقنى الشهادة وكنت رجوتها فتخلفت عليهن فاستأثر على بالشهادة فأذن لى يا رسول الله أسير معك فاذن له رسول الله ﷺ قال جابر فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيرى استأذنه رجال لم يحضروا القتال فابى ذلك عليهم قال ابن إسحاق ومتابعوه انما خرج رسول الله ﷺ مرهبا للعدو ليبلغهم انه خرج فى طلبهم فيظنوا بهم قوة وان الذي أصابتهم لم يوهنهم عن عدوهم فخرج رسول الله ﷺ ومعه ابو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وابو عبيدة بن الجراح فى سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد موضع من المدينة على ثمانية أميال على يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة وحمل سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا وساق جزرا لتفحر فنحروا فى يوم الاثنين ٧ او يوم الثلاثاء ١٨ وكان رسول الله ﷺ يأمرهم فى النهار بجمع الحطب فاذا امسوا أمران توقد النيران فتوقد كل رجل نارا فاوقدوا خمسمائة نار ولقى معبد الخزاعي وهو يومئذ مشرك وجزم ابو عمرو وابن الجوزي بإسلامه- وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله ﷺ بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها فقال يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك من أصحابك ولوددنا ان الله كان قد عفاك ثم خرج من عند رسول الله ﷺ ولقى أبا سفيان بالروحاء وقد اجمعوا للرجعة الى رسول الله ﷺ وقالوا لقد أصبنا جلة أصحابهم وقادتهم لتكرن......
178
على بقيتهم فلنفرغنّ عنهم فلما راى ابو سفيان معبدا قال وماوراءك قال محمد قد خرج فى أصحابه يطلبكم فى جمع لم ار مثله قط
يتخرقون عليكم تخرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه فى يومكم وندموا على صنيعهم وفيهم من الخنق عليكم شىء لم ار مثله قط قال ويلك ما تقول قال والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصى الخيل قال فو الله لقد اجمعنا الكرة عليهم لنستاصل بقيتهم قال فانى والله أنهاك عن ذلك فثنى ذلك مع كلام صفوان أبا سفيان ومن معه وقت أكبادهم فانصرفوا سراعا خائفين من الطلب- ومر بابى سفيان ركب من عبد القيس فقال اين تريدون قالوا نريد المدينة للميرة فقال فهل أنتم مبلغون عنى محمدا رسالة واحمل لكم ابلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا ووافيتمونا قالوا نعم قال فاذا جئتموه فاخبروا انا قد اجمعنا اليه والى أصحابه لنستأصلهم بقيتهم- وانصرف ابو سفيان الى مكة ومر الركب برسول الله ﷺ وهو بحمراء الأسد فاخبروه بالذي قاله ابو سفيان فقال رسول الله صلى الله حسبنا الله ونعم الوكيل فاقام رسول الله ﷺ هناك الاثنين ١٧ والثلاثاء ١٨ والأربعاء ١٩ وانزل الله تعالى.
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ دعاءه بالخروج للقتال مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ الجراح يوم أحد الموصول منصوب على المدح او مبتدا خبره الجملة الواقعة بعده لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا من للبيان والمقصود من ذكر الوصفين المدح والتعليل دون التقييد لان المستجيبين كلهم كانوا محسنين متقين أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) وجاز ان يكون الموصول صفة للمؤمنين وتم الكلام على قوله مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ وما بعده ابتداء وقال مجاهد وعكرمة خلافا لاكثر المفسرين انه نزلت هذه الاية فى غزوة بدر الصغرى وذلك ان أبا سفيان يوم أحد حين أراد ان ينصرف قال يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى القابل ان شئت فقال رسول الله ﷺ ذلك بيننا وبينك ان شاء الله فلما كان العام المقبل خرج ابو سفيان من مكة فى قريش وهم الفان ومعهم خمسون فرسا حتى نزل مجنة فى ناحية مر الظهران ثم القى الله الرعب فى قلبه فبدا له الرجوع فلقى نعيم بن مسعود الا شجعى وقد قدم معتمرا فقال له ابو سفيان يا نعيم انى وأعدت محمدا وأصحابه ان نلتقى بموسم بدر الصغرى وان هذه عام جدب ولا يصلحنا الا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لى ان لا اخرج إليها واكره ان يخرج محمد ولا اخرج انا فيزيدهم ذلك جرءة ولان الخلف من قبلهم أحب......
179
الىّ من ان يكون من قبلى فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم انى فى جمع كثير ولا طاقة لهم بنا ولك عندى عشرة من الإبل أضعها على يدى سهيل بن عمرو ويضمنها فضمنها سهيل- واتى نعيم المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد ابى سفيان فقال اين تريدون فقالوا واعدنا أبا سفيان بموسم بدر الصغرى ان نقتتل بها فقال بئس الرأى رايتم أتوكم فى دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد فتريدون ان تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم والله لا يفلت منكم أحد فكره بعض اصحاب رسول الله ﷺ الخروج واستبشر المنافقون واليهود وقالوا محمد لا يفلت من هذا الجمع فبلغ ذلك رسول الله ﷺ حتى خشى ان لا يخرج معه أحد وجاء ابو بكر وعمرو قد سمعا ما سمعا وقالا يا رسول الله ان الله مظهر دينه ومعزّ نبيه وقد واعدنا القوم موعدا لا نحب ان نتخلف فسر لموعدهم فو الله ان ذلك لخير فسرّ رسول الله ﷺ بذلك فقال رسول الله ﷺ والذي نفسى بيده لاخرجن ولو وحدي فقال رسول الله ﷺ وأصحابه حسبنا الله ونعم الوكيل فخرج رسول الله ﷺ فى أصحابه وأتوا بدر الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسئلونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون ان يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون حسبنا الله ونعم الوكيل حتى بلغوا بدرا وكانت موضع سوق لهم فى الجاهلية يجتمعون إليها يقوم لهلال ذى القعدة الى ثمان ليال خلون منه فاذا مضت ثمان ليال تفرق الناس الى بلادهم فاقام رسول الله ﷺ ينتظر أبا سفيان وقد انصرف ابو سفيان من مجنة الى مكة فلم يلق رسول الله ﷺ وأصحابه أحد من المشركين وواقفوا السوق وكانت معهم تجارات ونفقات فباعوا وأصابوا للدرهم درهمين وانقلبوا الى المدينة سالمين غانمين فحينئذ نزل قوله تعالى الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ إلخ والصحيح هو القول الاول واقتضاه صنيع البخاري ورجحه ابن جرير قلت ويؤيد القول الاول سياق الاية حيث قال الله تعالى الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ مدحهم بانهم خرجوا للجهاد واستجابوا لله والرسول مع كونهم مجروحين متالمين بالجراحات وليس ذلك الا فى غزوة حمراء الأسد واما غزوة بدر الصغرى فكانت بعد سنة وحينئذ كانوا أصحاء سالمين وبعدية إصابة القرح ان لم يحمل على الفور فلا وجه لتخصيص هذه الاية بغزوة بدر الصغرى بل يصدق على غزوة الخندق وغيرها ايضا والله اعلم.
180
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ان كان نزول الآيتين معا فيكون الّذين قال لهم النّاس بدلا من الّذين استجابوا وان كان نزولهما على التعاقب والتفرق فالموصول هاهنا ايضا اما منصوب على المدح او خبر مبتدا محذوف تقديره هم الذين قال لهم الناس او مبتدا خبره فانقلبوا قال اكثر المفسرين المراد بالناس هاهنا الركب من عبد القيس الذين جاءوا من ابى سفيان والنبي ﷺ فى حمراء الأسد كما مرّ ذكره وقال مجاهد وعكرمة المراد بالناس هاهنا نعيم بن مسعود الأشجعي الذي جاء فى المدينة بخبر ابى سفيان والمشركين والنبي ﷺ وأصحابه يتجهزون لغزوة البدر الصغرى للموعد واطلق عليه الناس لانه من جنسه كما يقال فلان يركب الخيل وما له الا فرس واحد او لانه انضم اليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه- والظاهر عندى ان نزول هذه الاية فى غزوة بدر الصغرى والمراد بالناس نعيم بن مسعود الأشجعي والاية الاولى نزلت فى غزوة حمراء الأسد وبينهما سنة ووجه قولى ان الظاهر نزول هذه الاية فى بدر الصغرى ان قوله إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ يدل على حدوث جمعهم الان بعد ما لم يكن وذا لا يتصور الا فى بدر الموعد واما حين انصرافهم من المدينة بعد وقعة أحد فهم كانوا مجتمعين فلا يناسبه قوله قد جمعوا لكم والله اعلم وكذا قال الامام الرازي حيث قال مدح الله تعالى المؤمنين على غزوتين يعرف أحدهما بغزوة حمراء الأسد وهى المذكورة فى الاية المتقدمة والثانية بغزوة البدر الصغرى وهى المذكورة فى هذه الاية والله اعلم إِنَّ النَّاسَ يعنى أبا سفيان وغيره من المشركين قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ جموعا وآلات «١» الحرب فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً عطف على قال لهم النّاس والضمير المستكن لله تعالى او للمقول او لمصدر قال او لفاعله ان أريد به نعيم وحده- والبارز راجع الى الموصول والمعنى انهم لم يلتفتوا ولم يضعفوا وأظهروا حمية الإسلام وبهذا العمل اقتربوا الى الله سبحانه وصعدوا مدارج الرفعة وزيادة الايمان بزيادة مدارج القرب ومن قال ان الايمان لا يزيد ولا ينقص فنظره مقصور على الايمان المجازى وَقالُوا عطف على زادهم حَسْبُنَا اللَّهُ حسب مصدر بمعنى الفاعل اى محسبنا وكافينا من احسبه إذا كفاه ويدل على انه بمعنى المحسب انه لا يستفيد بالاضافة تعريفا فى قولك هذا رجل حسبك كما لا يستفيد اسم الفاعل وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) اى نعم الموكول اليه الأمور هو المخصوص بالمدح محذوف وفى عطف
(١) فى الأصل والآلات الحرب-[.....]
نعم الوكيل وهو إنشاء على جملة حسبنا الله وهو خبر مبارزة بين الفحول فقيل العطف من الحاكي ولا عطف فى الكلام المحكي تقديره قالوا حسبنا الله وقالوا نعم الوكيل يعنى قالوا هذا القول وهذا القول والظاهر ان المحكي هو المشتمل على العطف لما روى عن ابن عباس قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها ابراهيم حين القى فى النار وقالها محمد ﷺ حين قالوا انّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل رواه البخاري فان افراد الضمير فى قوله قالها ابراهيم يدل على ان الواو من المحكي ولو كان من الحكاية لقال حسبنا الله ونعم الوكيل قالهما ابراهيم بضمير التثنية فقال بعض الأفاضل فى توجيه العطف ان قولهم حسبنا الله كناية عن قولهم اعتمدنا على الله وقولهم نعم الوكيل كناية عن قولهم انا وكلنا أمورنا الى الله- والصحيح عندى ان الجمل التي لا محل لها من الاعراب جاز ان يعطف بعضها على بعض من غير مبالاة بالاختلاف خبرا وإنشاء وقد ورد فى الحديث انه جاءت امراة فقالت يا رسول الله ان ابى زوجنى ابن أخيه ونعم الأب هو الحديث وقال الله تعالى أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ.
فَانْقَلَبُوا فانصرفوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ بما ذهبوا به معهم من المدينة من الايمان والعافية والأموال والعز وَفَضْلٍ زيادة فى الايمان بكثرة الثواب وزيادة فى الأموال بربح فى التجارة وزيادة فى العز حيث ذهبوا القتال العدو وفشل عدوهم وزيادة الأموال انما يتصور فى غزوة بدر الصغرى فانهم واقفوا هناك سوقا فاتجروا وربحوا كما ذكرنا واما فى غزوة حمراء الأسد فلم يكن هناك تجارة لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ الجملة حال من فاعل لم يصبهم اى فى حال لم يصبهم أذى من جراحة او قتل او نهب وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ الذي هو مناط الفوز بخير الدارين قال البغوي قالوا هل يكون هذا غزوا فاعطاهم الله ثواب الغزو ورضى عنهم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) فيه تحسر للمتخلف وتخطية رأيه.
إِنَّما ذلِكُمُ يعنى نعيما او أبا سفيان الشَّيْطانُ خبر وما بعده بيان شيطنته او ما بعده صفة على طريقة ولقد امر على اللئيم يسبنى او الشيطان صفة والخبر ما بعده وجاز ان يكون ذلكم اشارة الى قولهم إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ والشيطان خبره بتقدير المضاف يعنى ذلك القول فعل الشيطان القى فى أفواههم ليرهبوكم وتجبنوا عنهم يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ......
القاعدين عن الخروج مع الرسول ﷺ وجاز ان يكون أولياءه منصوبا بنزع الخافض والمفعول محذوف تقديره يخوفكم باوليائه وكذلك قراءة أبيّ بن كعب وقال السدى يعظم أولياءه فى صدوركم لتخافوهم لما قرا ابن مسعود يخوفكم أولياءه وعلى هذين الوجهين أولياءه ابو سفيان وأصحابه فَلا تَخافُوهُمْ إذ لا قوة لاحد الا بالله الضمير المنصوب للناس الثاني على الوجه الاول وللاولياء على الوجهين الأخيرين وَخافُونِ ان لا اجعلهم غالبين عليكم كما جعلت يوم أحد فان الغلبة من عندى فلا تخالفوني فى امرى ونهيى وجاهدوا مع رسولى- اثبت الياء فى الوصل فقط ابو عمرو- وكذا ابو جعفر وفى الحالين يعقوب- ابو محمد وحذفها الباقون فى الحالين إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) فان مقتضى الايمان ان يخاف الله ولا يخاف غيره قال رسول الله ﷺ إذا سالت فاسئل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم ان الامة لو اجتمعت على ان ينفعوك بشىء لا ينفعونك الا بشىء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا ان يضروك بشىء لا يضرونك الا بشىء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف رواه احمد والترمذي عن ابن عباس-.
وَلا يَحْزُنْكَ قرا نافع بضم الياء وكسر الزاء من الافعال هذا وقوله تعالى ليحزننى وليحزن حيث وقع الا فى الأنبياء لا يحزنهم الفزع وقرا ابو جعفر من الافعال فى الأنبياء خاصة لا غير والباقون بفتح الياء وضم الزاء فى الكل الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ قال الضحاك هم كفار قريش وقال غيره هم المنافقون يسارعون فى الكفر بمظاهرة الكفار وهو الأصح يعنى لا يحزنك مسارعتهم فى الكفر لا خوفا على الإسلام والمسلمين لما إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ اى اولياء الله بمسارعتهم فى الكفر وانما يضرون بها أنفسهم شَيْئاً يحتمل المفعول والمصدر ولا ترحما على الكافرين لانه يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا نصيبا فِي ثواب الْآخِرَةِ حيث كانوا مخلوقين أشقياء وكان مبادى تعيناتهم مستندة الى اسمه المضل ونحوه فلذلك خذلهم حتى سارعوا فى الكفر وَلَهُمْ مع الحرمان عن الثواب عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦).
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ يعنى استبدلوا الكفر بالايمان وهم اهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد ﷺ قبل مجيئه فاذا جاء بالبينات اختاروا الكفر وتركوا الايمان حرصا على الدنيا وعنادا لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ قرا حمزة بالتاء خطابا للنبى ﷺ......
تعريضا بالذين كفروا لانهم هم الحاسبون دون النبي ﷺ او لكل من يحسب والباقون بالياء على الغيبة فعلى قراءة الجمهور فاعله الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله تعالى أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ مفعول قائم مقام المفعولين والاملاء الامهال وإطالة العمر وتخليتهم وشأنهم وعلى قراءة حمزة الّذين كفروا مفعول وما بعده بدل منه وهو ينوب عن المفعولين او هو المفعول الثاني على تقدير مضاف فى أحد المفعولين يعنى لا تحسبن الذين كفروا اصحاب ان الاملاء خير لانفسهم او لا تحسبن حال الذين كفروا ان الاملاء خير لهم وما مصدرية كان حقها ان يفصل فى الخط ولكنها وقعت فى الامام متصلة فاتبع أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ استيناف لبيان علة ما تقدم من الحكم لِيَزْدادُوا إِثْماً اللام لام الارادة والاية حجة لنا على المعتزلة فى مسئلتى الأصلح وارادة المعاصي وعند المعتزلة اللام لام العاقبة وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) قال مقاتل نزلت فى مشركى مكة وقال عطاء فى قريظة والنضير عن ابى بكر قال سئل رسول الله ﷺ اىّ الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله قيل فاىّ الناس شر قال من طال عمره وساء عمله رواه احمد والترمذي والدارمي- وعن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ ينادى مناد يوم القيامة اين أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله تعالى أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ رواه البيهقي فى الشعب-.
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ اللام لتأكيد النفي الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من اختلاط المخلصين بالمنافقين والخطاب لعامة المخلصين والمنافقين المختلطين فى عصر النبي ﷺ حَتَّى يَمِيزَ قرا حمزة «١» والكسائي هاهنا وفى الأنفال بضم الياء وكسر «٢» الميم واسكان الياء مخففة من الافعال والباقون بفتح الياء من ماز يميز يقال مزت الشّيء ميزا إذا فرقته يعنى يفرق الْخَبِيثَ الكافر مِنَ الطَّيِّبِ اى المؤمن اما بالوحى الى النبي ﷺ كما قال الله تعالى يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ او بالوقائع مثل واقعة أحد حيث تميز فيه المنافقون بالانخذال عن المؤمنين وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حتى تعرفوا المنافقين من المؤمنين قبل التميز من الله تعالى
(١) الصحيح قرا حمزة والكسائي ويعقوب وخلف- ابو محمد عفا الله عنه
(٢) الصحيح بضم الياء وفتح الميم وكسر الياء الثانية مشددة من التفعيل إلخ ابو محمد عفا الله عنه
وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فيطلعه على البعض من علوم الغيب أحيانا كما اطلع نبيه ﷺ على احوال المنافقين بنور الفراسة نظير هذه الاية قوله تعالى فى سورة الجن عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ وقد ذكرنا بحث الاطلاع على علم الغيب فى تفسير تلك الاية- قال البغوي قال السدىّ قال رسول الله ﷺ عرضت علىّ أمتي فى صورها فى الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء زعم محمد انه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ونحن معه وما يعرفنا فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقام على المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال ما بال أقوام طعنوا فى علمى لا تسئلونى عن شىء فيما بينكم وبين الساعة الا نبأتكم به فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال من ابى يا رسول الله فقال حذافة فقام عمر فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقران اماما وبك نبيا فاعف عنا عفا الله عنك فقال النبي ﷺ فهل أنتم منتهون هل أنتم منتهون ثم نزل عن المنبر فانزل الله تعالى هذه الاية- قال الشيخ جلال الدين السيوطي لم اقف على هذه الرواية قلت لو صحت هذه الرواية فوجه مناسبة الاية برد قولهم ان الرسول مجتبى بالاطلاع على الغيب ليس له ان يشارك غيره معه فى هذا العلم الا بإذن الله فيما يأذنه فهو يعرف كفركم ولا يظهر لاجتبائه بتلك المعرفة فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ «١» بصفة الإخلاص كيلا تفضحوا وَإِنْ تُؤْمِنُوا بالإخلاص وَتَتَّقُوا النفاق والمعاصي فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩).
وَلا يَحْسَبَنَّ قرا حمزة بالتاء خطابا للنبى ﷺ او لكل من يحسب والباقون بالياء وضمير الفاعل راجع الى النبي ﷺ او الى كل من يحسب وقوله الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ اى يبخلون بالزكاة مفعوله الاول بتقدير المضاف اى لا تحسبن بخل الذين ليطابق المفعولين هُوَ ضمير الفصل خَيْراً لَهُمْ مفعوله الثاني وجاز ان يكون الموصول فاعلا للفعل على قراءة الجمهور والمفعول الاول محذوفا وجاز ان يكون الضمير المرفوع اعنى هو هو المفعول الاول وضع موضع الضمير المنصوب والمعنى على التقديرين لا يحسبن الذين يبخلون بالزكاة بخلهم خيرا لهم او إيتاء الله المال خيرا لهم او ما أتاهم الله خيرا لهم وهذا التقدير أوفق بقوله تعالى سيطوّقون ما بخلوا به بَلْ هُوَ يعنى البخل او إيتاء الله المال او ما أتاهم الله شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ
(١) وفى الأصل ورسوله-
185
ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ نزلت الاية فى ما نعى الزكوة كذا قال ابن مسعود وابن عباس وابو وائل والشعبي والسدىّ- عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا اقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم تأخذ بلهزمتيه يعنى شدقيه ثم يقول انا مالك انا كنزك ثم تلا وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ الاية رواه البخاري- وعن ابى ذر عن النبي ﷺ قال ما من رجل يكون له ابل او بقر او غنم لا يؤدى حقها الا اتى بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه تطاه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جاءت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس متفق عليه- وروى عطية عن ابن عباس ان هذه الاية نزلت فى أحبار اليهود كتموا صفة محمد ﷺ ونبوته وأراد بالبخل كتمان العلم وبقوله سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ انهم يحملون أوزارهم واثامهم وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعنى انه الباقي بعد فناء خلقه وهم يموتون ويتركون الأموال فيعطى أموالهم لمن يشاء من ورثتهم او من غيرهم ويبقى عليهم الحسرة والعقوبة فمالهم يبخلون ولا ينفقون أموالهم فى سبيل الله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ قرا ابن كثير وابو عمرو بالياء للغيبة والضمير راجع الى الذين يبخلون والباقون بالتاء خطابا للناس أجمعين او للذين يبخلون على الالتفات خَبِيرٌ (١٨٠) فيجازى عليه- اخرج محمد بن إسحاق وابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس انه كتب النبي ﷺ مع ابى بكر الصديق رضى الله عنه الى يهود بنى قينقاع يدعوهم الى الإسلام واقام الصلاة وإيتاء الزكوة وان يقرضوا الله قرضا حسنا فدخل ابو بكر ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا الى رجل منهم يقال له فخاص بن عازورا وكان من علمائهم ومعه حبر اخر يقال له اشيع فقال ابو بكر لفخاص اتق الله واسلم فو الله انك لتعلم ان محمدا رسول الله ﷺ قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم فى التورية فامن وصدق واقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب فقال فخاص يا أبا بكر تزعم ان ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض الا الفقير من الغنى فان كان ما تقول حقا فان الله إذا لفقير ونحن اغنياء وانه ينهاكم عن الربوا ويعطينا ولو كان غنيا ما أعطانا الربوا فغضب ابو بكر وضرب وجه فخاص ضربة شديدة وقال والذي نفسى بيده لولا العهد بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فخاص الى رسول الله ﷺ فقال......
186
يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك فقال رسول الله ﷺ لابى بكر ما حملك على ما صنعت فقال يا رسول الله ان عدو الله قال قولا عظيما زعم ان الله فقير وانهم اغنياء فغضبت لله وضربت وجهه فجحد ذلك فخاص فانزل الله تعالى ردا على فخاص وتصديقا لابى بكر.
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ كذا قال عكرمة والسدى ومقاتل واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال أنت اليهود النبي ﷺ حين انزل الله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قالت اليهود ان الله فقير يستقرض منا وذكر الحسن ان قائل هذا الكلام حيى بن اخطب سَنَكْتُبُ فى كتاب الحفظة يعنى يكتب الكرام الكاتبون بامرنا نظيره وانّا له كتبون ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ قرا حمزة سيكتب بالياء وضمها وفتح التاء على البناء للغائب المجهول وقتلهم بالرفع والباقون بالنون وضم التاء على البناء للمتكلم المعروف وقتلهم بالنصب الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ يعنى رضاءهم بفعل ابائهم الذين قتلوا الأنبياء بغير حق ضم الى قولهم ذلك قتلهم الأنبياء تنبيها على ان هذا ليس أول جريمة منهم وَنَقُولُ فى الاخرة على لسان الملائكة جزاء لما قالوا وما فعلوا قرا الجمهور بالتكلم على نسق سنكتب وحمزة بالغيبة يعنى يقول الله ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) فعيل بمعنى الفاعل يعنى عذاب النار المحرق كما فى عذاب اليم او الاضافة بيانية ومعناه العذاب المحرق يقال لهم ذلك إذا القوا فيها والذوق ادراك الطعوم ويستعمل فى ادراك سائر المحسوسات مجازا- ولما كان كفر اليهود لما كلهم الرشى من اتباعهم لاجل تلك المناسبة ذكر فى الجزاء الذوق.
ذلِكَ العذاب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من القتل وغير ذلك من المعاصي وعبر بالأيدي عن الأنفس لان اكثر الأعمال المحسوسة بهن وافعال القلوب واللسان يلزمها ويظهرها اعمال الجوارح وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٧) عطف على ما قدمت ووجه سببية نفى الظلم من الله تعالى لتعذيب الكفار ان نفى الظلم يستلزم العدل المقتضى اثابة المحسن ومعاقبة المسيء فان قيل نفى الظلم لازم لذاته تعالى لان الظلم من القبائح التي يجب تنزيه الله تعالى عنه وإذا كان نفى الظلم مستلزما للعدل المستلزم لاثابة المحسن ومعاقبة العاصي يلزم وجوب الاثابة والمعاقبة وذلك مذهب المعتزلة خلافا لاهل السنة قلنا الظلم فى اللغة وضع الشيء فى غير موضعه المختص به اما بنقصان او بزيادة واما بعدول عن وقته او مكانه وذلك غير متصور من الله تعالى لانه يستلزم......
التصرف فى غير ملكه بغير اذن المالك او على خلاف ما امره به والله سبحانه لو عذب اهل السموات والأرض بغير جرم منهم لا يكون ذلك ظلما لانه المالك على الإطلاق يتصرف فى ملكه كيف يشاء فالظلم المنفي فى هذا المقام ليس بمعناه الحقيقي بل أريد هاهنا فعله تعالى بعبده ما يعد ظلما لو جرى فيما بينهم وان لم يكن ذلك ظلما لو صدر منه تعالى ونفى الظلم بهذا المعنى ليس بواجب عليه سبحانه بل هو مبنى على الفضل وجاز ان يقال معنى الاية ان عدم انتقام الأنبياء من الذين قتلوهم وظلموهم وكذبوهم فى صورة الظلم على الأنبياء وذلك وان لم يجب على الله تعالى فى ذاته لكن مقتضى فضله على الأنبياء الانتقام من أعدائهم وتعذيبهم فالمراد بالعبيد هاهنا الأنبياء وفيه منقبة لهم بكمال انقيادهم وعبوديتهم طوعا مثل انقياد جميع الأشياء له تعالى يسرا وكرها- وهاهنا توجيه اخر وهو ان يقال ان فيه اشارة الى ان الكفار استحقوا العذاب بحيث لو لم يعذبهم الله تعالى لكان ظلما عليهم ومنعا لحقهم فهذه الجملة كانها تأكيد لوقوع العذاب عليهم- قال الكلبي ان كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف ووهب بن يهود او زيد بن التابوت وفخاص بن عازورا وحيى بن اخطب أتوا النبي ﷺ وقالوا يا محمد تزعم ان الله بعثك رسولا إلينا وانزل عليك كتابا وانّ الله عهد إلينا فى التورية الّا نؤمن لرسول يزعم انه من عند الله حتّى يأتينا بقربان تأكله النّار فان جئتنا به صدقناك فانزل الله تعالى.
الَّذِينَ قالُوا محله الجر بدلا من الموصول السابق او الرفع بناء على انه خبر مبتدا محذوف اى هم الذين قالوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا يعنى أمرنا واوصانا فى التورية أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ اى لا نصدق رجلا يدّعى الرسالة من عند الله حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ- القربان فى الأصل كل ما يتقرب به العبد الى الله عز وجل من نسيكة وصدقة وعمل صالح فعلان من القربة ثم صار اسما للذبيحة التي كانوا يتقربون بها الى الله تعالى وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبنى إسرائيل فكانوا إذا قربوا قربانا او غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها لها دوى وحفيف فيأكل ويحرق ذلك القربان والغنيمة فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم تقبل بقيت على حالها- قال السدى ان الله تعالى امر بنى إسرائيل من جاءكم يزعم انه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد فاذا أتياكم فامنوا بهما فانهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى اقامة للحجة عليهم قُلْ يا محمد......
قَدْ جاءَكُمْ يا معشر اليهود رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ المعجزات الواضحات سوى القربان وَبِالَّذِي قُلْتُمْ من القربان كزكريا ويحيى وسائر من قتلوهم من الأنبياء فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ يعنى كذّبهم أسلافهم وقتلوهم واتبعهم أولادهم الذين كانوا فى زمن النبي ﷺ على تكذيبهم والرضاء بالكفر بهم فلذلك توجه إليهم هذا الاستفهام الإنكاري إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) شرط حذف جزاؤه يعنى ان كنتم صادقين فى انّ امتناعنا عن الايمان بك لاجل ذلك العهد فلم لم تؤمنوا بزكريا ويحيى وأمثالهما فاذا لم تؤمنوا بهم ظهران امتناعكم عن الايمان ليس لاجل هذا بل عنادا وتعصبا.
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فلا تحزن فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فعلى هذا التأويل جزاء الشرط محذوف أقيم سببه مقامه وجاز ان يكون المعنى فان كذبوك فتكذيبك تكذيب لرسل من قبلك حيث أخبروا ببعثك جاؤُ بِالْبَيِّناتِ المعجزات الواضحات وَالزُّبُرِ كصحف ابراهيم وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كالتورية والإنجيل وعلى التأويل الاول تسلية للنبى ﷺ يعنى فاصبر كما صبروا وعلى التأويل الثاني الزام لليهود فان تكذيب محمد عليه الصلاة والسلام تكذيب للذين جاءوا بالقربان- قرا هشام بالزّبر وبالكتب المنير بزيادة الباء فيهما وهكذا خطّ هشام عليهما فى كتابه عن أصحابه عن ابن «١» عامر وقرا ابن ذكوان بزيادة الباء فى بالزبر وحده والباقون بغير باء فيهما- والزبر جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرت الشيء إذا احسنته-.
كُلُّ نَفْسٍ مؤمنة او فاجرة ذائِقَةُ الْمَوْتِ قال البغوي فى الحديث انه لمّا خلق الله آدم اشتكت الأرض الى ربها لما أخذ منها فوعدها ان يرد فيها ما أخذ منها فما من أحد الا ويدفن فى التربة التي خلق منها والحاصل انه ليست الحيوة الدنيا ونعماؤها جزاء للطاعات وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ اى جزاء أعمالكم يَوْمَ الْقِيامَةِ ان خيرا فخيرا وان شرا فشرا فاجازيك على الصبر والطاعة وأجازي الكفار على تكذيب الحق- وهذه الاية ايضا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم- ولفظا التوفية يشعر بانه قد يكون بعض الأجور قبلها قال الله تعالى وآتيناه يعنى ابراهيم أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ- وعن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ القبر روضة من رياض الجنة او حفرة من حقر النار رواه الترمذي
(١) فى الأصل ابى عامر-
ورواه الطبراني فى الأوسط عن ابى هريرة فَمَنْ زُحْزِحَ اى ابعد عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ اى ظفر بالمطلوب ونال المراد وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا اى العيش فيها إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) المتاع ما يتمتع وينتفع به والغرور اما مصدر من غرّه يغرّه غرا وغرورا فهو مغرور وغرّه اى خدعه وأطمعه بالباطل او جمع غار شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به البايع على المستام ويغرّه حتى يشتريه يعنى «١» متاعا نظرا الى الظاهر ولا حقيقة لها وذلك لان لذاتها مشوبة بالمكاره والالام ومع ذلك لا بقاء لها كالاحلام- قال قتادة هى متاع متروكة يوشك ان تضمحل باهلها فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم والغرور الباطل وقال الحسن هى كخضر النبات ولعب النبات لا حاصل له عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ يقول الله عز وجل اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فاقرءوا ان شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وان فى الجنة لشجرة يسير الراكب فى ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا ان شئتم وظلّ ممدود ولموضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها واقرءوا ان شئتم فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ رواه البغوي بسنده والفصل الاول متفق عليه عنه وكذا الفصل الثاني والثالث فى الصحيحين غير قوله اقرءوا ان شئتم ظلّ ممدود اقرءوا ان شئتم فمن زحزح الاية-.
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ بالأمور التكليفية من الزكوة والصدقات والصوم والصلاة والحج والجهاد وبالمصائب من الجوائح والعاهات والخسران والأمراض وموت الأحباب وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً من هجاء الرسول ﷺ والطعن فى الدين وإغراء الكفرة على المسلمين أخبرهم بذلك قبل وقوعها لتؤطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال وتستعدوا للقائها- رومى ابن المنذر وابن ابى حاتم فى مسنده بسند حسن عن ابن عباس انها نزلت فيما كان بين ابى بكر وفخاص من قوله إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ كذا قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريح ان النبي ﷺ بعث أبا بكر الى فخاص بن عازورا سيد بنى قينقاع ليستمده وكتب اليه
(١) فى الأصل متاع
190
كتابا وقال لابى بكر لا تفتاتن علىّ بشىء حتى ترجع فجاء ابو بكر وهو متوشح بالسيف فاعطاه الكتاب فلما قرا قال قد احتاج ربك الى ان نمده فهم ابو بكر ان يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي ﷺ لا تفتاتن علىّ بشىء حتى ترجع فكف ونزلت هذه الاية- وذكر عبد الرزاق عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك انها نزلت فى كعب بن الأشرف فانه كان يهجو النبي ﷺ ويسب المسلمين ويحرض المشركين على النبي ﷺ وأصحابه فى شعره ويشبب بنساء المسلمين- قلت وذلك بعد وقعة بدر لما راى دولة الإسلام وقتل صناديد قريش وذهب الى مكة ينتدب المشركين لقتال النبي ﷺ وقالت قريش اديننا اهدى أم دين محمد قال بل دينكم وهجاه حسان بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم- وفى الصحيح فقال النبي ﷺ من لى بابن الأشرف فانه قد أذى الله ورسوله شعره وقوى المشركين علينا فقال محمد بن مسلمة الأنصاري رضى الله عنه انا لك يا رسول الله هو خالى انا اقتله قال أنت افعل ان قدرت على ذلك فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب الا ما تعلق نفسه فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال له رسول الله ﷺ لم تركت الطعام والشراب قال يا رسول الله قلت قولا ولا أدرى هل أفي به أم لا فقال انما عليك الجهد وقال رسول الله ﷺ شاور سعد بن معاذ فقال توجه اليه وأشك له الحاجة وسله ان يسلفك طعاما فاجتمع محمد بن مسلمة وعباد بن بشر وابو نائلة سلكان بن سلامة وكان أخا كعب من الرضاعة والحارث بن عبس والحارث بن أوس بن معاذ بعثه عمه سعد بن معاذ وابو عبس بن حبر فقالوا يا رسول الله نحن نقتله فائذن لنا فلنقل بيننا فانه لا بدلنا ان نقول فيك قال قولوا ما بدا لكم وأنتم فى حل من ذلك فقدّموا بانائلة فجاءه فتحدث معه وتناشدوا الشعر وكان ابو نائلة يقول الشعر ثم قال ويحك يا ابن الأشرف انى قد جئتك لحاجة أريد ذكرها فاكتم علىّ قال افعل قال كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاء عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس فقال كعب لقد كنت أخبرتك ان الأمر سيصير الى هذا فقال ابو نائلة ان معى أصحابا أردنا ان تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك وتحسن فى ذلك قال ترهنونى ابناءكم قالوا انا نستحيى ان نعير أبناءنا فيقال هذا رهينة وسق وهذا رهينة وسقين قال......
191
ترهنونى نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك واية امرأة تمتنع منك لجمالك ولكنا نرهنك الحلقة يعنى السلاح وقد علمت حاجتنا الى السلاح قال نعم ان فى السلاح لوفاء وأراد ابو نائلة ان لا ينكر السلاح إذا راه فواعده ان يأتيه فرجع ابو نائلة الى أصحابه فاخبرهم فاجمعوا أمرهم على ان يأتوه إذا امسى لميعاده- ثم أتوا رسول الله ﷺ عشاء فاخبروه روى ابن إسحاق واحمد بسند صحيح عن ابن عباس ان رسول الله ﷺ مشى معهم الى بقيع الغرقد ثم وجههم ثم قال انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم ثم رجع رسول الله ﷺ الى بيته فى ليلة مقمرة مثل النهار ليلة اربع عشرة من شهر ربيع الاول- فمضوا حتى انتهوا الى حصن ابن الأشرف ليلا وقال ابو نائلة لاصحابه انى فاتل شعره فاذا رايتمونى استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه فهتف به ابو نائلة وكان ابن الأشرف حديث عهد بعرس فوثب فى ملحفه فاخذت امرأته بناحيتها وقالت انك امرؤ محارب وان اصحاب الحرب لا ينزلون فى هذه الساعة وانى اسمع صوتا يقطر منه الدم فكلّمهم من فوق الحصن فقال انه ميعاد علىّ وانما هو ابن أختي محمد بن مسلمة ورضيعى ابو نائلة لو وجدوني نائما ما أيقظوني وان الكريم إذا دعى الى طعنة بليل أجاب- فنزل إليهم متوشحا بملحفة يفوح منها ريح الطيب فتحدث معهم ساعة ثم قالوا يا ابن الأشرف هل لك فى ان
نتماشا الى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه قال ان شئتم فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة فقال ابو نائلة نجد منك ريح الطيب قال تحتى فلانة من أعطر نساء العرب- قال فتأذن لى ان أهم قال نعم فادخل ابو نائلة يده فى رأس كعب ثم شم يده فقال ما رايت كالليلة طيبا أعطر قط وكان كعب يدهن بالمسك الغتيت بالماء والعنبر حتى يتلبد فى صدغيه وكان جعدا جميلا- ثم مشى ابو نائلة ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمان اليه وسلسلت يده فى شعره- ثم عاد فاخذ بقرون رأسه حتى استمكن وقال لاصحابه اضربوا عدو الله فاختلف أسيافهم فلم تغن شيئا قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا «١» فى سيفى فاخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن الا أوقدت عليه نار قال فوضعته فى تندؤته ثم تحاصلت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله- وعند ابن سعد فطعن ابو عيس فى
(١) المغول بالكسر شبه سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه فيغطيه وقيل هو حديدة دقيقة لها حد ماض وقفا- وقيل هو سوط فى جوفه سيف دقيق يشده العاتك على وسطه ليقال به الناس- نهايه منه رح
192
خاصرته فجزوا رأس كعب وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ بجرح فى رأسه أصابه بعض اسيافنا- فخرجنا نشتد نخاف من يهود الارصاد وقد ابطا علينا صاحبنا الحارث بن أوس لجرح فى رأسه ونزفه الدم فناداهم اقرءوا رسول الله ﷺ منى السلام فعطفوا عليه فاحتملوه حتى أتوا رسول الله ﷺ فلما بلغوا بقيع الغرقد اخر الليل كبروا وقد قام رسول الله ﷺ يصلى- فلما سمع رسول الله ﷺ تكبيرهم بالبقيع كبر وعرف ان قد قتلوه- ثم أتوه يعدون حتى وجدوا رسول الله ﷺ واقفا على باب المسجد- فقال رسول الله ﷺ افلحت الوجوه- قالوا ووجهك يا رسول الله ورموا برأسه بين يديه فحمد الله تعالى على قتله- ثم أتوا بصاحبهم الحارث فتفل رسول الله ﷺ على جرحه فلم يؤذه- فرجعوا الى منازلهم- فلما أصبح رسول الله ﷺ قال من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فوثب محيصة بن مسعود على شغينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله- وكان خويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة- فلما قتله جعل خويصة يضربه ويقول اى عدو الله قتلته اما والله لربّ شحم فى بطنك من ماله- قال محيصة والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك- قال لو أمرك محمد بقتلى لقتلتنى قال نعم قال والله ان دينا بلغ بك هذا العجب فاسلم خويصة- فخافت اليهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم- ولم ينطقوا وخافوا ان يبيتوا كما بيّت ابن الأشرف- وعند ابن سعد فاصبحت اليهود مذعورين فجاءوا رسول الله ﷺ فقالوا قتل سيدنا عيلة فذكرهم رسول الله ﷺ صنيعه وما كان يحض عليه ويحرض فى قتاله ويؤذيه ثم دعاهم ان يكتبوا بينهم وبينه صلحا فكان ذلك الكتاب مع على رضى الله عنه (مسئلة) احتج الشافعي بهذه القصة على جواز قتل من سبّ رسول الله ﷺ من الكفار او انتفصه او أذاه سواء كان بعهد او بغير عهد- وقال ابو حنيفة لا يقتل المعاهد بسبّ رسول الله ﷺ لان سبّه كفر والكفر لا ينافى العهد وعند ابى حنيفة انما قتل ابن الأشرف لانه نقض العهد وذهب الى مكة لتحريض المشركين على قتال رسول الله ﷺ وكان عاهده ان لا يعين عليه أحدا وقد اعانهم (مسئلة) لا يجوز ان يقال......
193
ان هذا كان غدرا من محمد بن مسلمة وابو نائلة رضى الله عنهما وقد قال ذلك رجل فى مجلس امير المؤمنين على رضى الله عنه فضرب عنقه وانما يكون الغدر بعد أمان ولم يؤمنه محمد بن مسلمة ولا رفقته رضى الله عنهم بحال وانما كلمه فى امر البيع والرهن الى ان تمكن منه (فائدة) وقع فى الصحيح ان الذي خاطب كعبا محمد بن مسلمة واكثر اهل المغازي على انه ابو نائلة ويمكن الجمع بينهما بان يكون كل منهما كلمه فى ذلك وَإِنْ تَصْبِرُوا على ما ابتليتم به وَتَتَّقُوا مخالفة امر الله تعالى فَإِنَّ ذلِكَ الصبر والتقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) مصدر بمعنى المفعول اى من معزومات الأمور التي يجب عليها العزم او مما عزم الله عليه اى امر به وبالغ فيه والعزم فى الأصل ثبات الرأى على الشيء نحو إمضائه وقال عطاء يعنى من حقيقة الايمان- قلت والمراد بالصبر عدم الجزع والانقياد عند ابتلاء الله العبد وترك الاعتراض عليه وذا لا ينافى الانتقام من الكفار إذا آذوا المسلمين كما دل عليه قصة ابن الأشرف لعنه الله والله اعلم-.
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ اى اذكر وقت أخذ الله مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اى العلماء منهم أخذ منهم العهد فى التورية لَتُبَيِّنُنَّهُ اى الكتاب لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ قرا ابن كثير وابو عمرو وابو بكر بالياء على الغيبة فيهما والباقون بالتاء على الخطاب فَنَبَذُوهُ اى الكتاب وَراءَ ظُهُورِهِمْ يعنى ضيعوه وتركوا العمل به وكتموا ما فيه من نعت محمد ﷺ وَاشْتَرَوْا بِهِ اى أخذوا بدله ثَمَناً قَلِيلًا يعنى المأكل والرشى فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) ما يختارون لانفسهم قال قتادة هذا ميثاق اخذه الله تعالى على اهل العلم فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فانه هلكة- وقال ابو هريرة يوما أخذ الله على اهل الكتاب ما حدثتكم بشىء ثم تلا هذه الاية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ- وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ من سئل عن علم يعلمه فكقمه الجم يوم القيامة بلجام من النار- رواه احمد والحاكم بسند صحيح- وأخرجه ابن ماجة من حديث انس- قال البغوي قال الحسن بن عمارة أتيت الزهري بعد ان ترك الحديث فالفيته على بابه فقلت ان رايت ان تحدثنى فقال اما علمت انى تركت الحديث فقلت اما ان تحدثنى واما ان أحدثك فقال حدّثنى فقلت حدثنى الحكم بن عيينة عن يحيى الجزار قال سمعت......
على بن ابى طالب رضى الله عنه يقول ما أخذ الله على اهل الجهل ان يتعلموا حتى أخذ عن اهل العلم ان يعلموا قال فحدثنى أربعين حديثا- ورواه الثعلبي فى تفسيره من طريق الحارث عن ابى اسامة وهو فى مسند الفردوس من حديث على مرفوعا-.
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا اى بما فعلوا من إضلال الناس والتدليس وكتمان الحق او من مطلق المعاصي وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الوفاء بالميثاق واظهار الحق والاخبار بالصدق وغير ذلك من الحسنات وجه فرحهم كون ما فعلوا بتمسكاتهم فى تكذيب نبوته ﷺ وجاز ان يكون المراد بالموصول المنافقين الذين لم يفعلوا الطاعات على الحقيقة ويظهر ونهار ياء ويحبون ان يحمدوا بانهم زهاد مطيعين لله فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ قرا الكوفيون لا تحسبنّ فلا تحسبنّهم بالتاء على الخطاب للنبى ﷺ وبفتح الباء على الافراد فعلى هذا المفعول الاول للفعل الاول الموصول والثاني بمفازة والفعل الثاني تأكيد للفعل الاول وفاعله ومفعوله الاول وقرا ابن كثير وابو عمرو بالياء للغيبة فيهما وضم الباء فى لا يحسبنّهم لان الضمير راجع الى الذين فعلى هذا الفاعل للفعل الاول الموصول ومفعولاه محذوفان تدل عليهما مفعولا مؤكده او المفعول الاول محذوف ومفعوله الثاني بمفازة والفعل الثاني تأكيد للاول وفاعله ومفعوله الاول يعنى لا يحسبنّ الّذين يفرحون أنفسهم بمفازة وقرا نافع وابن عامر بالياء للغيبة فى الاول على ان مفعوليه «١» محذوفان يدل عليهما المفعولان للفعل الثاني وبالتاء خطابا للنبى ﷺ وحده فى الفعل الثاني مِنَ الْعَذابِ فى الدنيا بالفضيحة والذم والرد وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) فى الاخرة روى الشيخان وغيرهما من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف- وكذا روى البغوي من طريق البخاري عن علقمة بن وقاص ان مروان قال لبوابه اذهب يا رافع الى ابن عباس فقل لئن كان كل امرئ منا فرح بما اوتى وأحب ان يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذ بن أجمعين فقال ابن عباس ومالكم ولهذه انما دعا النبي ﷺ اليهود فسالهم عن شىء فكتموه إياه فاخبروه بغيره فخرجوا قد أروه انهم اخبروه بما سالهم عنه واستجدوا بذلك اليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سالهم عنه ثم قرا ابن عباس وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الى قوله يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ
(١) فى الأصل مفعولاه
يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا- واخرج الشيخان عن ابى سعيد الخدري ان رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله ﷺ الى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ﷺ فاذا قدم اعتذروا اليه وحلفوا وأحبوا ان يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الاية- واخرج عبد فى تفسيره عن زيد بن اسلم ان رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند مروان فقال مروان يا رافع فى اىّ شىء نزلت هذه الاية لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا قال رافع أنزلت فى ناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي ﷺ اعتذروا وقالوا ما حبسنا عنكم الا الشغل فلود دنا انا كنا معكم فانزل الله فيهم هذه الاية وكانّ مروان أنكر ذلك فخرج رافع من ذلك فقال لزيد أنشدك بالله هل تعلم ما أقول قال نعم قال الحافظ ابن حجر يمكن الجمع بينهما بانها نزلت فى الفريقين- وحكى الفراء انها نزلت فى قول اليهود ونحن اهل الكتاب الاول والصلاة والطاعة ومع ذلك لا يقرون بمحمد ﷺ وروى ابن ابى حاتم من طرق عن جماعة من التابعين نحو ذلك ورجحه ابن جرير ولا مانع ان تكون نزلت فى ذلك ايضا- قال البغوي قال عكرمة نزلت فى فخاص واشيع وغيرهما من الأحبار يفرحون باضلالهم الناس وبنسبة الناس إياهم الى العلم وليسوا باهل علم- وقال مجاهدهم اليهود فرحوا بما اعطى الله ال ابراهيم وهم براء من ذلك- وقال قتادة ومقاتل أتت يهود خيبر نبى الله ﷺ فقالوا نحن نعرفك ونصدقك وانّا على رأيكم ونحن لكم ردء وليس ذلك فى قلوبهم فلما خرجوا قال لهم المسلمون أحسنتم هكذا فافعلوا فحمدوهم ودعوا لهم فانزل الله هذه الاية.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خزائن المطر والرزق والنبات وغيرها يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) فيقدر على عقابهم- وفى هذه الاية رد لقولهم انّ الله فقير- اخرج الطبراني وابن ابى حاتم عن ابن عباس قال أتت قريش اليهود فقالوا بما جاءكم موسى من الآيات قالوا عصاه ويده بيضاء للناظرين- وأتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى قالوا «١» كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى- فاتوا النبي ﷺ وقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما فيهما
(١) فى الأصل قال-
من العجائب وافاضة الوجود على ماهيات لا يقتضى لذواتها وجودها وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تعاقبهما على نسق بديع ونظام حكيم وما يتعاقبان عليه لَآياتٍ دلائل واضحة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته وإرادته وحكمته لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) لذوى العقول المنزهة عن شوائب الأوهام ووساوس الشيطان عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ ويل لمن قراها ولم يتفكر فيها أخرجه ابن حبان فى صحيحه- وعن ابن عباس انه وقد عند رسول الله ﷺ فراه استيقظ فتسوك وتوضأ وهو يقول انّ فى خلق السّموت والأرض حتى ختم السورة ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هذه الآيات ثم أوتر بثلاث رواه مسلم.
الَّذِينَ صفة لاولى الألباب فان مقتضى العقل الاتصاف بالذكر والفكر والتسبيح والايمان والاستغفار والدعاء والتضرع اليه- ومن لم يتصف بها فهو كالانعام بل أضل منها فان الانعام يسبحون الله نوع تسبيح يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ قال البغوي قال على رضى الله عنه وابن عباس رضى الله عنهما والنخعي وقتادة هذا فى الصلاة يصلى قائما فان لم يستطع فقاعدا فان لم يستطع فعلى جنب ونظير هذه الاية فى سورة النساء فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ وحديث عمران بن حصين رضى الله عنه قال كانت بي بواسير فسالت رسول الله ﷺ عن صلوة المريض فقال صل قائما فان لم تستطع فقاعدا فان لم تستطع فعلى جنب أخرجه البخاري واصحاب السنن الاربعة زاد النسائي فان لم يستطع فمستلقيا لا يكلّف الله نفسا الّا وسعها- وعن على عليه السلام عن النبي ﷺ قال يصلى المريض قائما ان استطاع فان لم يستطع صلى قاعدا فان لم يستطع ان يسجد أومأ وجعل سجوده اخفض من ركوعه فان لم يستطع يصلى على جنبه الايمن مستقبل القبلة فان لم يستطع ان يصلى على جنبه الايمن صلى مستلقيا رجلاه مما يلى القبلة رواه الدار قطنى وفى اسناده حسين بن زيد ضعفه ابن المديني والحسن بن الحسن المغربي وهو متروك ومن هاهنا قال الشافعي ان المريض إذا عجز عن القيام صلى قاعدا وإذا عجز عن القعود يضطجع على جنبه الايمن مستقبل القبلة......
197
فان لم يستطع استلقى على ظهره ويستقبل رجليه الكعبة حتى يكون ايماؤه فى الركوع والسجود الى القبلة وبه قال مالك واحمد غير انه لو صلى مستلقيا وهو قادر على الصلاة على جنبه الايمن جاز عندهما خلافا للشافعى- وقال ابو حنيفة إذا عجز عن القعود صلى مستلقيا ورجلاه الى الكعبة فان لم يستطع ان يصلى مستلقيا صلى على جنبه- قال ابو حنيفة ان هذه الاية والتي فى سورة النساء ليستافى صلوة المريض بل المراد بها عند عامة المفسرين المداومة على الذكر فى عموم الأحوال لان الإنسان قلما يخلوا عن هذه الحالات الثلاث- قال رسول الله ﷺ من أحب ان يرتع فى رياض الجنة فليكثر ذكر الله رواه ابن ابى شيبة والطبراني من حديث معاذ ولو سلمنا ان الاية فى صلوة المريض فهى لا تنفى صلوة المستلقى ولا تدل على الترتيب الذي ذكره الشافعي وكذا ما فى الصحيح من حديث عمران بن حصين قال ابن همام كان مرض عمران بن حصين البواسير وهو يمنع الاستلقاء ولذا لم يذكر الا ان ما رواه النسائي وزاد فيه صلوة المستلقى لو صح لكان حجة للشافعى وحديث على ضعيف لا يصلح للاحتجاج- ثم وجه قول ابى حنيفة فى تقديم الاستلقاء على الصلاة على جنبه ان المقصود الأهم فى الصلاة الركوع والسجود ولذا قال ابو حنيفة من لم يستطع الركوع والسجود ويقدر على القيام الأفضل ان يصلى قاعدا بالإيماء فان ايماءه اقرب الى السجود خلافا للجمهور- وايماء المستلقى على ظهره إذا كان رجلاه الى الكعبة يقع الى الكعبة بخلاف ايماء من يصلى على جنبه مستقبلا الى القبلة يقع الى جهة رجليه فكان الاستلقاء اولى- وقال الشافعي ومالك واحمد القيام كالركوع والسجود فى كونه مقصودا فلا يجوز الصلاة قاعدا لمن يقدر على القيام وان لم يقدر على الركوع والسجود بل عليه ان يصلى قائما بالإيماء ولا شك ان مدة القيام فى الصلاة اكثر من مدة الركوع والسجود فمن صلى مستلقيا يكون غالب حاله التوجه الى السماء لا الى جهة الكعبة ومن صلى على جنبه يكون غالب حاله التوجه الى الكعبة وذلك هو المأمور به فى قوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ والله اعلم وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما أبدع فيهما وما أودع فيهما ليستدل بها على وجود صانع قادر عليم حكيم واحد لا شريك له عن على رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ لا عبادة كالتفكر أخرجه البيهقي فى شعب الايمان وابن حبان......
198
فى الضعفاء وضعفاه- وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر الى السماء والنجوم فقال اشهد ان لك ربا
وخالقا اللهم اغفر لى فنظر الله اليه فغفر له رواه ابو الشيخ «١» ابن حبان والثعلبي- والفكر عبارة عن ترتيب امور معلومة لتحصيل مجهول فى القاموس هو اعمال النظر فى الشيء قال الجوهري فى الصحاح الفكرة قوة مطرقة للعلم الى المعلوم والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك للانسان دون الحيوان ولا يقال الا فيما يمكن ان يحصل له صورة فى القلب ولهذا روى تفكروا فى آلاء الله ولا تتفكروا فى الله لكون الله تعالى منزها بان يوصف بصورة- وقال بعض العلماء الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر فى المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول الى حقيقتها انتهى كلام الجوهري- قلت ورد فى الحديث تفكروا فى كل شىء ولا تفكروا فى ذات الله تعالى فان بين السماء السابعة الى كرسيه سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك رواه ابو الشيخ فى العظمة عن ابن عباس وعنه بلفظ تفكروا فى الخلق ولا تفكروا فى الخالق فانكم لا تقدرون قدره وعن ابى ذر نحوه بلفظ تفكروا فى خلق الله ولا تفكروا فى الله فتهلكوا وروى ابو نعيم فى الحلية عن ابن عباس تفكروا فى خلق الله ولا تفكروا فى الله- وروى ابو الشيخ والطبراني فى الأوسط وابن عدى والبيهقي بسند ضعيف بلفظ تفكروا فى آلاء الله ولا تفكروا فى الله فهذه الأحاديث تدل على المنع عن التفكر فى مرتبة الذات واقتصاره فى مراتب الافعال والصفات والأسماء- وبهذا يظهر امتناع تعلق العلم الحصولى بحضرت «٢» الذات بلا شائبة الأسماء والصفات وقال المجدد رضى الله عنه العلم الحضوري ايضا ساقط من تلك المرتبة العليا لان جولانه الى نفس العالم وما هو عينه يعنى الى مرتبة العينية والاتحاد وذلك كفر الحقيقة والله سبحانه اقرب إلينا من أنفسنا فهو سبحانه وراء الوراء ثم وراء الوراء ثم وراء الوراء فى جانب القرب لا فى جانب البعد فلا سبيل للعلم الحضوري ايضا الى تلك المرتبة الأسنى- فدوام الحضور والعلم اللدني البسيط الحاصل للصوفى المتعلق بحضرت الذات وراء العلمين لا يدرى ما هو ولا يجوز اطلاق التفكر عليه الا مجازا كما اطلق عليه بعض الصوفية- وقد ورد فى الشرع التعبير عنه بالذكر كان رسول الله ﷺ يذكر الله فى كل احيانه انما هو ذلك لا الذكر اللساني فانه لا يمكن استدامته- ولما
(١) فى الأصل ابو الشيخ وابن حبان
(٢) مسئلة امتناع تعلق العلم الحصولى بحضرت الذات بل العلم المتعلق بالذات وراء العلم الحضوري ايضا-
199
كان دوام الذكر أهم وأسنى وانما الفكر طريقا إليها وصف الله سبحانه اولى الألباب اولا بدوام الذكر وبعد ذلك بالتفكر الموصل الى علم هو كالظل له حيث قال الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ يعنى يديمون الذكر فى جميع الأحوال وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ- وايضا فى تقديم الذكر على الفكر تنبيه بان العقل غير مستقل بافادة الاحكام الحقة ما لم يستضئ بنور الذكر والهداية من الله سبحانه رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا على ارادة القول اى يتفكرون قائلين ذلك- والباطل ضد الحق كذا فى القاموس والحق قد يطلق على موجود متاصل الوجود لا يحتاج فى تحققه ووجوده ولا فى شىء من الأشياء الى غيره وهو الله سبحانه وقد يطلق على موجود فى الخارج بلا نحت الوهم والخيال وان كان مقتبسا تحققه من الوجود الحق- وقد يطلق على موجود يشتمل وجوده على حكم ومصالح لا يكون عبثا ضائعا من غير حكمة ذاهبا بلا فائدة يترتب عليه- والباطل ضد الحق على المعاني كلها فباعتبار المعنى الاول قال رسول الله ﷺ الا احسن القول قول لبيد كل شىء ما خلا الله باطل وجاز اعتبار المعنى الثاني فى البيت يعنى كل معبود ما خلا الله باطل الحقيقة له منحوت للوهم والخيال وباعتبار المعنى الثالث اطلق الباطل على الشيطان قال الله تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ والباطل هاهنا ان كان بالمعنى الثاني فمعنى الاية ما قال اهل الحق أساسا للاستدلال على الصانع (خلافا للسوفسطائية) ان حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق- وان كان بالمعنى الثالث فالمعنى ما خلقت الخلق عبثا بل لحكمة عظيمة دليلا على معرفتك باعثا على شكرك وطاعتك- وهذا اشارة الى السموات والأرض وتذكيره بارادة المتفكر فيه او لانهما فى معنى المخلوق او الى الخلق على انه أريد به المخلوق من السموات والأرض او أريد به التخليق وجاز ان يراد به التفكر فى خلق كل جزء من اجزائها فهذا اشارة الى هذا الجزء- وباطلا منصوب على الحالية من هذا وجاز ان يكون باطلا بمعنى هازلا حالا من فاعل خلقت فعلى هذا قوله تعالى سُبْحانَكَ مؤكد للحال يعنى انه تعالى منزه عن الهزل لكونه رذيلة وعلى التأويل الاول اعتراض فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) للاخلال بالنظر فيه والقيام بما يقتضيه- والفاء تدل على ان خلق السموات والأرض للاستدلال والشكر والطاعة يقتضى ثواب المطيع وعذاب العاصي غالبا......
200
والعلم ينفى البطلان والعبث عنهما يستلزم الرجاء والخوف وهما يقتضيان طلب الثواب والاستعاذة من العذاب وقدم الاستعاذة لان دفع الضرر أهم من جلب النفع- وقيل دخلت الفاء لمعنى الجزاء تقديره إذا نزهناك فقنا عذاب النار.
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ تكرير ربنا للمبالغة فى الابتهال والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها والتمسك بايفاء صفة الربوبية وباعترافهم بانه هو الذي رباهم- ومعنى خزاه قهره وكفه عن هواه وخزى كرضى وقع فى بلية وأخزاه الله فضحه كذا فى القاموس وَما لِلظَّالِمِينَ اى ما لهم يعنى لمن دخل النار وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على ان ظلمهم سبب لادخالهم النار مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) لان النصرة دفع بقهر ولا يتصور القهر فى مقابلة القهار والا يلزم عجزه وهو ينافى الربوبية وهذا لا ينفى الشفاعة- فان قيل قد قال الله تعالى يوم لا يجزى الله النّبىّ والّذين أمنوا معه ومن اهل الايمان من يدخل النار وقد قال هاهنا مَنْ «١» تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فكيف التوفيق قلنا معناه فقد أخزيته ما دام هو فى النار او المراد بالذين أمنوا معه المؤمنون الكاملون وقال انس وقتادة معناه انك من تخلده فى النار فقد أخزيته كذا قال سعيد بن منصور ان هذه خاصة لمن لا يخرج منها وروى عن جابر إخزاء المؤمن تأديبه وان فوق ذلك لخزيا-.
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً قال ابن مسعود وابن عباس واكثر الناس يعنى محمدا ﷺ وقال القرطبي يعنى القران فليس كل أحد يلقى النبي ﷺ قلت من سمع قول النبي ﷺ بالتواتر فقد سمعه- أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه وفيه مبالغة ليست فى إيقاعه على المسموع وفى تنكير المنادى وإطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأن المنادى وشأن النداء فانه لا منادى أعظم ممن ينادى للايمان ولا نداء أعظم من ذلك النداء يُنادِي لِلْإِيمانِ النداء يعدى بالى واللام لتضمنها معنى الانتهاء والاختصاص أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ ان مفسرة للنداء إذ فيه معنى القول او مصدرية بتقدير الباء اى بان أمنوا فَآمَنَّا به فيه اشعار على ان الايمان على حقيقته يترتب على الادلة السمعية واستدل به ابو منصور الماتريدى على بطلان الاستثناء فى الايمان ووجوب القول انا مؤمن حقا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا الفاء للسببية فان الايمان سبب للمغفرة ولا يتصور المغفرة بلا ايمان ذُنُوبَنا يعنى الكبائر وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا
(١) فى الأصل ومن-
يعنى الصغائر والتفعيل للتكثير فان وقوع السيئات يغلب يعنى استرها مرة بعد اخرى وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) جمع برّا وبارّ بمعنى الصادق وكثير الخير والمتسع فى الإحسان- ومعنى التوفى مع الأبرار التوفى حال الاختصاص بصحبتهم معدودين فى زمرتهم لا المعية الزمانية فان ذلك غير متصور عادة ولا مفيد- ولم يقل وتوفنا بارين هضما لانفسهم وإعدادا لانفسهم غير بارين وفيه نهاية الخضوع وهو المحبوب عند الله تعالى- فان قيل هذا سوال الموت وقد نهى رسول الله ﷺ عن تمنى الموت والدعاء به من قبل ان يأتيه كما ذكرنا فى تفسير سورة البقرة فى قوله تعالى فتمنّوا الموت ان كنتم صدقين قلنا قد ذكرنا تحقيق المسألة هناك ان التمني بالموت انما لا يجوز إذا كان لضر نزل به فى مال او جسم او نحوه لا مطلقا على ان المقصود من هذا الدعاء هاهنا الدعاء باستدامة وصف البر والإحسان ابدا الى وقت الموت وحلول الاجل وليس الغرض منه السؤال بتعجيل الموت كما ان قوله تعالى وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ليس المقصود منه النهى عن الموت فانه غير مقدور للعبد بل النهى عن حال غير حال الإسلام فى شىء من الازمنة حتى يأتيه الموت عند حلول اجله وهو مسلم-.
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا من الثواب فى الجنة والروية والرضاء ومراتب القرب والنصر على الأعداء فى الدنيا عَلى رُسُلِكَ على تصديق رسلك او المعنى ما وعدتنا على السنة رسلك او متعلق بمحذوف تقديره ما وعدتنا منزلا على رسلك وجاز ان يكون على بمعنى مع يعنى اتنا مع رسلك وشاركهم معنا فى أجرنا والغرض منه أداء حق الرسالة وتكثير فضل أنفسهم ببركة مشاركة الرسل والمراد بضمير المتكلم فى قوله ما وعدتنا معشر المسلمين يعنى اتنا ما وعدت المسلمين الصالحين فهذا السؤال ليس مبنيا على الخوف من خلف الوعد منه تعالى عن ذلك بل مخافة ان لا يكون السائل من الموعودين بسوء عاقبته نعوذ بالله منها او لقصور فى إيمانه وطاعته وجاز ان يكون هذا السؤال تعبدا واستكانة فان الله غالب على امره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسئل عمّا يفعل وهم يسئلون وقيل لفظه دعاء ومعناه الخبر اى لتؤتينا تقديره فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا... وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ لتوتينا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ من الفضل والرحمة- وقيل انما سالوا تعجيل ما وعدهم الله من النصر على الأعداء قالوا معناه قد علمنا انك لا تخلف وعدك من النصر لكن لا صبرلنا......
على حلمك فعجل خزيهم وانصرنا عليهم وَلا تُخْزِنا اى لا تفضحنا ولا تدخلنا النار يَوْمَ الْقِيامَةِ اى يوم القيام من القبور دفعة واحدة بان تعصمنا عن ارتكاب ما يقتضى الخزي وتغفر لنا وتستر ما صدر عنا عن ابى هريرة قال يدنى الله العبد منه يوم القيامة ويضع كتفه عليه فيسرّه من الخلائق ويرفع اليه كتابه فى ذلك السر فيقول الله عز وجل اقرأ كتابك فيمر بالحسنة فتبيض بها وجهه ويسر بها قلبه ويقول اتعرف يا عبدى فيقول نعم اى رب اعرف فيقول انى قد قبلتها منك فبخر ساجدا فيقول ارفع رأسك وانظر فى كتابك فيمر بالسيئة فيسود بها وجهه ويوجل بها قلبه فيقول الله تعالى أتعرف يا عبدى فيقول نعم اى رب اعرف فيقول انى اعرف بها منك انى قد غفرتها لك فلا يزال يمر بحسنة يقبل فيسجد وبسيّئة يغفر فيسجد فلا يرى الخلائق منه الا السجود حتى يناجى الخلائق بعضه بعضا طوبى لهذا العبد الذي لم يعص الله قط ولا يدرون ما قد لقى فيما بينه وبين الله مما قد وقف عليه رواه عبد الله بن احمد فى زوائد الزهد- واخرج البيهقي عن ابى موسى نحوه وفى الباب عن ابن عمر فى الصحيحين إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) بإثابة المؤمن واجابة الداعي ولمّا كان السؤال بقوله اتنا ما وعدتنا موهما لاحتمال خلف الوعد عقبه بهذه الجملة دفعا لذلك الوهم-.
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ اى طلبتهم وهو أخص من أجاب- ويعدى بنفسه وباللام كذا قال البيضاوي وقيل أجاب واستجاب بمعنى واحد أَنِّي اى بانى او قائلا انى لا أُضِيعُ اى لا أحبط عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ ايها المؤمنون مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى عن أم سلمة قالت يا رسول الله انى اسمع الله يذكر الرجال فى الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الاية أخرجه الترمذي والحاكم وصححه وابن ابى حاتم وعبد الرزاق وسعيد بن منصور بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ قال الكلبي فى الدين والنصرة والموالاة- وقيل فى النسب والانسانية فان كلكم من آدم وحواء الذكر من بطن الأنثى والأنثى من صلب الذكر فتثأب النساء على الأعمال كما يثاب الرجال- والجملة معترضة لبيان شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال ثم فصل عمل العاملين على سبيل التعظيم فقال فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي فى طاعتى ودينى او بسبب ايمانهم بي ومن اجلى وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا قرا ابن عامر وابن كثير قتّلوا بتشديد التاء للتكثير قال الحسن يعنى انهم قطعوا فى المعركة والباقون بالتخفيف وقرأ حمزة والكسائي قتلوا وقتلوا بتقديم المبنى للمفعول على المبنى......
للفاعل على عكس قراءة الجمهور وعكس الترتيب فى الذكر لا يوجب الاختلاف فى المعنى لان الواو لمطلق الجمع دون الترتيب وقيل فى وجه قراءة حمزة والكسائي ان معناه قتل بعضهم وقاتل بقيتهم ولم يهنوا وما استكانوا بقتل أصحابهم يقول العرب قتلنا بنى فلان اى بعضهم وقيل معناه قتلوا وقد قاتلوا قبل ذلك يعنى ما قتلوا منهزمين بل مقبلين على القتال والله اعلم لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ لاسترنها وأمحونها وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً قال المبرد مصدر مؤكد اى لاثيبنهم بذلك ثوابا والأظهر ان ثوابا حال من جنات وكانه أراد جعل ثوابا من عند الله جزاء فوق الجنات مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تفضلا منه على ثواب جزاء اعماله- وفيه التفات من التكلم الى الغيبة وجملة لاكفرن وما عطف عليه جواب قسم محذوف والقسم مع الجواب خبر للموصول وَاللَّهُ عِنْدَهُ فى قدرته ويختص به حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) اى الثواب الحسن او احسن الثواب الذي لا يقدر عليه غيره- او المعنى والله تعالى درجات قربه وعنديته احسن ثوابا من الجنات وما فيها- قال البغوي كانت المشركون فى رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين ان اعداء الله تعالى فيما نرى من الخير ونحن فى الجهد فانزل الله تعالى.
لا يَغُرَّنَّكَ الخطاب للنبى ﷺ والمراد منه أمته او الخطاب لكل أحد تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى ضربهم فى الأرض وتصرفهم فِي الْبِلادِ (١٩٦) للتجارات والمكاسب- والمعنى لا تنظر الى ما هم فيه من السعة ولا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم فى المعاش- فالنهى فى المعنى للمخاطب وانما جعل للتقلب تنزيلا للسبب منزلة المسبب للمبالغة- عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ لا تغبطن فاجرا فانك لا تدرى ما هو لاق بعد موته ان له عند الله قاتلا لا يموت يعنى النار رواه البغوي.
فى شرح السنة مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدا محذوف اى ذلك متاع قليل- او مبتدا خبره ظرف محذوف اى لهم متاع قليل لقصر مدته وقلته كمّا وكيفا عن المسور بن شداد قال قال رسول الله ﷺ ما الدنيا فى الاخرة الا مثل ما جعل أحدكم إصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع- رواه مسلم ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) ما مهدوا لأنفسهم يعنى جهنم.
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ......
فِيها
لكن للاستدراك عند النحاة اى دفع توهم نشا مما قبل وذلك التوهم ان متاع الكافرين المتنعمين فى الدنيا لمّا كان قليلا فمتاع المتقين المعرضين عن اللذات يكون اقل قليلا فقال الله تعالى لدفع ذلك التوهم لكن الّذين اتّقوا الاية يعنى ان المتقين اكتسبوا فى الدنيا ما يكون لهم وسيلة لنعماء الاخرة فهم تمتعوا من الدنيا ما لا مزيد عليه- وعند علماء المعاني لكن لرد اعتقاد المخاطب وذلك ان الكافرين يزعمون انهم متمتعون من الدنيا والمتقين فى خسران عظيم نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ صفة لنزلا- والنزل ما يعد للضيف النازل من الضيافة- ففى لفظة نزلا بيان لرفعة قدر المتقين حيث جعلهم أضياف الله والكريم يجعل خير ما عنده وما يقدر عليه للضيف- ونزلا منصوب على الحال من جنات والعامل فيه الظرف- وقيل انه مصدر مؤكد والتقدير أنزلوها نزلا- وجاز ان يكون منصوبا على التميز- وقيل تقديره جعل ذلك نزلا وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب ودرجات القرب والرضاء والرحمة خَيْرٌ من متاع الدنيا ومن كل شىء لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وضع المظهر موضع المضمر للمدح والتعظيم- عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال جئت فاذا رسول الله ﷺ فى مشربة وانه لعلى حصير ما بينه وبينه شىء وتحت رأسه وسادة من آدم حشوها ليف وان عند رجليه قرطا مصبورا وعند رأسه أهب معلقة فرايت اثر الحصير فى جنبه فبكيت فقال ما يبكيك فقلت يا رسول الله ان كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله فقال اما ترضى ان تكون لهما الدنيا ولنا الاخرة- وفى رواية قلت يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فان فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله قال اوفى هذا أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى الحيوة الدنيا- متفق عليه وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ الدنيا سجن المؤمن وسنته فاذا فارق الدنيا فارق السجن والسنة رواه البغوي فى شرح السنة- وعن قتادة بن النعمان ان رسول الله ﷺ قال إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمى سقيمه الماء رواه احمد والترمذي والله اعلم- روى النسائي عن انس وابن جرير نحوه عن جابر قال لما جاء نعى النجاشي قال رسول الله ﷺ صلوا عليه قال يا رسول الله تصلى على عبد حبشى فانزل الله تعالى.
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الاية وكذا فى المستدرك عن عبد الله بن الزبير قال نزلت فى النجاشي-......
قال البغوي لما مات النجاشي نعاه جبرئيل عليه السلام لرسول الله ﷺ فى اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله ﷺ لاصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم النجاشي فخرج الى البقيع وكشف له الى ارض الحبشة فابصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر اربع تكبيرات واستغفر له فقال المنافقون انظروا الى هذا يصلى على علج حبشى نصرانى لم يره قط وليس على دينه فانزل الله هذه الاية- وقال عطاء نزلت فى اهل نجران أربعين رجلا اثنان وثلاثون من ارض الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فامنوا بالنبي ﷺ واخرج ابن جرير عن ابن جريح قال نزلت فى عبد الله بن سلام وأصحابه- وقال مجاهد نزلت فى مومنى اهل الكتاب كلهم وان من اهل الكتاب لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ حق إيمانه بصفاته وأسمائه دخلت اللام على اسم ان للفصل بالظرف وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القران وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التورية والإنجيل والزبور خاشِعِينَ لِلَّهِ اى خاضعين متواضعين حال من فاعل يؤمن وجمعه باعتبار المعنى لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ حال بعد حال اى غير مشترين بايات التورية التي فيها نعت محمد ﷺ ثَمَناً قَلِيلًا كما يفعله المحرفون من الأحبار لاجل المأكل أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ اى اجرا مخصوصا بهم زائدا على أجور غيرهم كما فى قوله تعالى أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ- وعن ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله ﷺ ثلاثة لهم أجران رجل من اهل الكتاب أمن بنبيّه وأمن بمحمد الحديث متفق عليه إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) لعلمه بالأعمال وما يستوجبه من الجزاء واستغنائه عن التأمل روى انه تعالى يحاسب الخلق فى قدر نصف نهار من ايام الدنيا- والمراد ان الاجر الموعود سريع الوصول إليهم فان سرعة الحساب كناية عن سرعة الجزاء-.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا على دينكم ومشاق التكليفات ومخالفة الهوى وعلى محبة ربكم وطاعته لا تدعوها فى شدة ولا رخاء وعلى جهاد أعدائكم وعلى البليات والشدائد- قال جنيد الصبر حبس النفس على المكروه بغير جزع وَصابِرُوا يعنى غالبوا اعداء الله فى الصبر على شدائد الحرب فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ......
206
ما لا يَرْجُونَ
تخصيص بعد التعميم- والمصابرة كما يوجد فى مقابلة الكفار فى الجهاد الأصغر يوجد فى مقابلة النفس فى الجهاد الأكبر ايضا فان النفس يتحمل من الشدائد والمكاره فى طلب الدنيا وشهواتها ما لا يخفى وقد يتحمل لنيل النعيم الباقية فى الجنات العلى فلا بد للصوفى ان يتحمل اكثر من ذلك كلها فى طلب المولى جلّ وعلى وَرابِطُوا أبدانكم وخيولكم فى الثغور مترصدين للغزو- او أنفسكم وقلوبكم وأبدانكم فى ذكر الله والطاعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فى المساجد وحلق الذكر واصل الربط الشد يعنى شد الخيل فى الثغور ثم قيل ذلك لكل مقيم فى ثغر يدفع عمن وراءه وان لم يكن له مركب ثم قيل لكل مقيم على شىء يدفع عنه ما يمنعه- والمرابطة المغالبة فى الرباط على من عداه يعنى ان الأعداء يربطون لمحاربتكم فانتم غالبوهم فى ذلك- عن سهل بن سعد الساعدي ان رسول الله ﷺ قال رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد فى سبيل الله او الغدوة خير من الدنيا وما عليها- رواه البغوي من طريق البخاري والفصل الاول فى الصحيحين عن سهل والفصل الثالث فيهما عن انس- وعن سلمان الخير ان رسول الله ﷺ قال من رابط يوما وليلة فى سبيل الله كان له اجر صيام شهر مقيما ومن مات مرابطا اجرى له مثل ذلك الاجر واجرى عليه من الرزق واو من من الفتان رواه البغوي- ورواه مسلم بلفظ رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وان مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله واجرى عليه رزقه وأمن من الفتان- وأخرجه احمد وابن ابى شيبة بلفظ من رابط يوما او ليلة فى سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته الا لحاجة- وعن فضالة بن عبيد عن رسول الله ﷺ قال كل ميت يختم على عمله الا الذي مات مرابطا فى سبيل الله فانه ينمى له عمله الى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر رواه الترمذي وابو داود ورواه الدارمي عن عقبة بن عامر- وعن عثمان رضى الله عنه عن رسول الله ﷺ قال رباط يوم فى سبيل الله خير من الف يوم فيما سواه من المنازل رواه الترمذي والنسائي- وقال البغوي قال ابو سلمة بن عبد الرحمن لم يكن فى زمن النبي ﷺ غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة- ودليل هذا التأويل......
207
حديث ابى هريرة ان رسول الله ﷺ قال الا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا الى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط رواه البغوي وروى مسلم والترمذي عن ابى هريرة نحوه وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠) الفلاح الفوز بالمحبوب بعد الخلاص من المكروه- ولعل لتغيّب المال لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال- عن عثمان بن عفان من قرا اخر ال عمران فى ليلة كتب له قيام ليلة رواه الدارمي- وعن ابى امامة قال قال رسول الله ﷺ اقرءوا الزهراوين البقرة وال عمران فانهما تأتيان يوم القيامة كانهما غمامتان- او كانهما غيابتان او كانهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما رواه مسلم وعن النواس بن سمعان قال سمعت النبي ﷺ يقول يؤتى بالقران يوم القيامة واهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وال عمران كانهما غمامتان او ظلتان سوداوان بينهما شرق او كانها فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن صاحبهما رواه مسلم- وعن مكحول قال من قرا سورة ال عمران «١» يوم الجمعة صلت عليه الملائكة الى اللّيل رواه الدارمي- الحمد
لله ربّ العلمين وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين- وقع الفراغ من تفسير سورة ال عمران يوم الاثنين ثامن ذى القعدة سنة الف ومائة وسبع وتسعين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم- يتلوه تفسير سورة النساء ان شاء الله تعالى-
(١) وروى الطبراني بسند ضعيف عن ابن مليك من قرا السورة التي تذكر فيه ال عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تحجب الشمس لشخص- منه رحمه الله تعالى-
بتصحيح: مولانا غلام نبى تونسوى الراجي الى مغفرة ربه القوى (محمد غفران مظفر نگرى).
208
فهرس للتّفسير المظهرى سورة ال عمران
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سورة ال عمران- ٢ تحقيق اسم الله الأعظم وما ورد فيه- ٤ حديث ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة الحديث ونحوه- ٧ بحث الآيات المحكمات والمتشابهات وتأويل المتشابهات وان ما يتعلق به التكليف لا يجوز تأخير بيانه عن وقت الحاجة إلخ ٩ حديث ما من ثلب الا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ونحوه- ١٣ مسئلة الخلف فى الوعد محال لا فى الوعيد- ١٣ قصة غزوة بدر اجمالا- ١٤ بحث تزيين الشهوات- ١٧ بحث ما ورد فى نعماء الجنة وان فيها جميع ما يشتهونه- ١٩ السر فى ان نعيم الدنيا غير مرضية لله تعالى بخلاف نعيم الاخرة- ٢١ وسر شغف يعقوب بيوسف عليهما السلام- ٢١ مسئلة مجرد الايمان سبب لاستحقاق المغفرة وما ورد فيه- ٢٢ الاستغفار بالأسحار- ٢٢ حديث ينزل الله سبحانه الى السماء الدنيا كل ليلة- ٢٢ حديث الإسلام ان تشهد ان لا اله الا الله إلخ- ٢٤ ما ورد فى قوله تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ إلخ- ٢٤ حديث اىّ الناس أشد عذابا قال رجل قتل نبيا ورجل امر بالمنكر- ٢٦ قوله تعالى قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ- ٢٩ مسئلة الوجود خير محض مستفاد من الواجب وحصة الشر المستند الى العدم ذاتى نتمكن- ٣٠ ما ورد فى قراءة قل اللهمّ ملك الملك- ٣١ فصل الحب فى الله والبغض فى الله والنهى عن ولاية الفاسق ٣٢ مسئلة العقبة ٣٣ حديث ان الله يد فى العبد فيضع عليه كتفه- ٣٤ حديث ما منكم من أحد الا سيكلمه ربه- ٣٥ الحب ما هو من العبد لله وما هو من الله لعبده واستلزام حب الله اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم- ٣٧ حديث كل ابن آدم يطعن الشيطان فى جنبه غير عيسى- ٤١ وبيان عصمة فاطمة وأولاده عليهم السلام- ٤٢ ذكر كرامة مريم وكرامة فاطمة- ٤٣ ما ورد فى فضل يحيى عليه السلام ٤٥ ما ورد فى فضائل مريم- وخديجة- وعائشة وفاطمة وآسية امرأة فرعون- ٤٧ فضائل عيسى عليه السلام ومعجزاته ٥٠ ما ورد فى رفع عيسى عليه السلام الى السماء ونزوله قبل القيامة ٥٦ مسئلة حجية القياس- ٦٠ قصة المباهلة ورد ما استدل به الروافض على نفى خلافة الخلفاء الثلاثة رضى الله عنهم- ٦١ ما ورد فى انه لا يجوز الاخذ بقول العلماء والصوفية فيما لا مستند لهم من الشرع- ٦٤ حديث لا طاعة للمخلوق فى معصية الخالق- ٦٤ مسئلة إذا صح الحديث على خلاف مذهبه يجب العمل به ٦٤ مسئلة لا يجوز اتخاذ المساجد والسرج على القبور والطواف ونحو ذلك- ٦٥ حديث كتاب رسول الله ﷺ الى هرقل ٦٥ قصة هجرة جعفر الى النجاشي ومنازعة كفار قريش معه بحضرة النجاشي- ٦٨ اختلاف القراء فى الإشباع والاختلاس والإسكان فى يؤدّه ونؤته وأمثالها- ٧٣ حديث أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله ٧٤ ما ورد فى آيات المنافق- ٧٤ حديث من حلف على يمين صبر- ٧٥ ما ورد فى يمين الغموس ٧٦ حديث الدواوين ثلاثة لا يعبأ به- ولا يترك شيئا ولا يغفر- ٧٦ حديث ثلاثة لا يكلمهم الله الاية المسيل إزاره والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب وفى رواية منها رجل على فضل ماء فى فلاة يمنعه ورجل بايع اماما للدنيا- وفى رواية منها شيخ زان عائل متكبر- ٧٧ حديث يقول الله لاهون اهل النار عذابا لو ان لك ما فى الأرض اكنت تفتدى به قال نعم الحديث- ٨٦ قوله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا وذكر الزكوة والصدقة من أحب أمواله- ٨٦ حديث وعليكم بالصدق وإياكم والكذب- ٨٧ اوّل بيت وضع بيت الله- ٩٢ ما ورد فى فضل الصلاة فى المسجد الحرام وللاقصى وغيرهما وهل هو فى الفرائض فقط او مطلقا- ٩٣ ما ورد فى حرمة البيت وما فيه من الآيات- ٩٤ مسئلة وجوب الحجج وشرائط وجوبه وما فيها من اختلاف الائمة وحجج كلمهم- ٩٥ التغليظ فى ترك الحجج- ١٠٠ بحث صورة الكعبة وخليقة الكعبة والقران والصلاة- ١٠١ قصة كيد اليهود لايقاظ الفتنة بين الأنصار بعد ايتلافهم ١٠٢ حديث انى تارك فيكم كتاب الله واهل بيتي وذكر اقطاب الإرشاد- ١٠٣ حق التقوى بغناء القلب والنفس وغيرهما ووجوب طريقة الصوفية ١٠٤ ما ورد فى اتباع الإجماع وما ورد فى تفرق الامة الى ثلاث وسبعين فرقة- ١٠٦ حديث ان الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا- ١٠٦ قصة بدو اسلام الأنصار وبدو ألفتهم وبيعة العقبة الاولى- ١٠٨ وبيعة العقبة الثانية- ١١٢ ما ورد فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ومن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم- ١١٤ حديث اختلاف العلماء رحمة يعنى
فى الضروع- ١١٦ قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فى اهل الأهواء- ١١٦......
209
وكذا حديث انى على الحوض حتى انظر من يرد علىّ منكم وسيؤخذ ناس دونى- ١١٧ حديث بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم- ١١٧ حديث لا يدخل الجنة أحدا عمله- ١١٧ ما ورد فى فضل هذه الامة- وفى فضل الصحابة رضى الله عنهم- ١١٨ ذكر قوة ارشاد رجال هذه الامة- ١١٩ حديث اتدرون ما الايمان بالله وحده- ١٢٠ حديث تأخير صلوة العشاء- ١٢٢ النهى عن مباطنة الكفار واهل الأهواء وطلب الأعالي للمصاحبة- ١٢٤ وما يدل على جواز مودة الكفار إذ لم يكن له عداوة مع مؤمن لاجل إيمانه- ١٢٥ حديث هل نفعت أبا طالب شيئا- ١٢٥ ما ورد فى انه من يصبر ويتقى ويتوكل على الله لا يضره شىء فى الدنيا- ١٢٧ قصة خروج النبي ﷺ للغزو يوم أحد ونزول القران فى غزوة أحد من قوله تعالى وَإِذْ غَدَوْتَ الى قوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ ستين اية- ١٢٧ ذكر غزوة بدر مجملا- ١٣٢ ذكر محاصرة قريظة- ١٣٣ ذكر قتال جبرئيل وميكائيل يوم أحد- ١٣٣ ما روى انه ﷺ لعن الكفار يوم أحد ودعا على رعل وذكران شهرا- ونزول النهى عنه- ١٣٥ النهى عن أكل الربوا وانه ربما يوجب تسارة يفضى الى الكفر ١٣٧ حديث بادروا بالأعمال سبعا- ١٣٧ ما ورد فى فضل السخاء- ١٣٨ ما ورد فى كظم الغيظ- ١٣٩ ما ورد فى الإحسان وكونه محبوبا لله- ١٣٩ ما ورد فى الاستغفار وصلوة الاستغفار- ١٤١ حديث ما أصر من استغفر- ١٤١ حديث المستغفر من الذنوب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه- ١٤١ مسئلة الإصرار على الصغيرة كبيرة- ١٤١ قصة القتال يوم أحد.. ١٤٤
ومن يرد بعمله نفس الشكر لا الدنيا ولا الاخرة- ١٥١ مسئلة إنزال المصيبة بالمؤمنين تفضل من الله تعالى بهم- ١٥٥ مسئلة لا يجوز الطعن فى الصحابة لاجل الفرار يوم أحد- ١٦٠ حديث من تشبه بقوم فهو منهم- ١٦٠ ما ورد فى المشاورة- ١٦١ بحث التوكل وما هو- ١٦٢ ما ورد فى الغلول- ١٦٣ فضائل قريش وفضائل العرب- ١٦٥ عدد شهداء أحد- ١٦٧ فضائل الشهداء- ١٦٩ مسئلة هل يبلغ درجة الشهيد غيره- ١٧١ قصة سرية بيرمعونة- ١٧٣ مسئلة الشهيد لا يغسل اجماعا- وهل يغسل مجنب استشهد ١٧٤ مسئلة اختلاف الائمة فى الصلاة على الشهيد- ١٧٥ فصل ما ورد انه ﷺ صلى على شهداء أحد بعد ثمانى سنة ١٧٧ قصة غزوة حمراء الأسد- ١٧٨ قصة غزوة بدر الصغرى- ١٨٠ حديث إذا سالت فسئل الله وإذا استعنت فاستعن بالله إلخ- ١٨٣ حديث اىّ الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله اىّ الناس شر قال من طال عمره وساء عمله- ١٨٤ ما ورد فى البخل وترك الزكوة ١٨٦ حديث القبر روضة من رياض الجنة إلخ- ١٨٩ قصة سرية محمد بن مسلمة وابى نائلة لقتل كعب بن الأشرف- ١٩١ مسئلة هل يجوز قتل الكافر المعاهد بسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- ١٩٣ مسئلة الصبر ما هو وانه لا ينافى الانتقام من الكفار- ١٩٤ ما ورد فى كتمان العلم- ١٩٤ مسئلة صلوة المريض على جنبه او مستلقيا- ١٩٧ تحقيق معنى الفكر وما ورد فى النهى عن التفكر فى ذات الله تعالى وامتناع تعلق العلم الحصولى بل العلم الحضوري ايضا فى مرتبة الذات وان العلم فى تلك المرتبة وراء العلمين- ١٩٩ حديث لا تغبطن فاجرا إلخ ٢٠٤ حديث ما الدنيا فى الاخرة الا مثل ما جعل أحدكم إصبعه فى اليم إلخ- ٢٠٤ حديث عمران كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله- ٢٠٥ ما ورد فى كون الدنيا سجن المؤمن ونحو ذلك- ٢٠٥ حديث صلوة الجنازة على النجاشي غائبا- ٢٠٦ ما ورد فى الصبر والمصابرة والرباط وانتظار الصلاة بعد الصلاة- ٢٠٧ فضائل سورة ال عمران وخواتمه ٢٥ ذيقعدة سنه ١١٩٧ هـ ٢٠٨ تمت فهرس سورة ال عمران إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ هذا كتاب جليل صنف لتذكرة الشيخ الشهيد سيّدنا ومولانا ميرزا جانجانان مظهر قدس سره الموسوم بالتّفسير المظهرى منه النّساء تأليف الشيخ الأكمل بيهقى الوقت علم الهدى مولانا القاضي محمد ثناء الله العثماني الحنفي المظهرى النقشبندي الفاني فتى رضى الله عنه وعن ابائه ومشائخه ولد رحمه الله فى سنة ثلاث وأربعين بعد الف ومائة من الهجرة او قبله بسنة او سنتين بفانى فت ونشابها فحفظ القران وعمره سبع سنين واشتغل بعده بأخذ العلوم النقلية والعقلية فتبحر فيها ثم ارتحل الى الدهلى فلزم العلامة البحر الفهامة مولانا الشاه ولىّ الله المحدث الدهلوي فسمع الحديث منه بتمامه وكماله وتفقه فيه- وأخذ الطريقة العالية النقشبندية اولا من شيخ الشيوخ مولانا خواجه محمد عابد السنامى ثم انسلك بخدمت الشهيد مولانا الشيخ ميرزا جانجانان مظهر وأخذ منه الطريقة الاحمدية بكماله ثم رجع الى وطنه واقام به وأفنى عمره الشريف فى نشر العلوم وفصل الخصومات وإفتاء الاسئلة والف كتبا عديدة فى التفسير والفقه وغيرها تجاوز عددها من ثلاثين ولم يزل مقبلا متوجها الى الله وازديادا مجتهدا فى الخيرات الى ان أدركته المنية فتوفى فى غرة الرجب المرجب سنة الف ومائتين وخمس وعشرين من الهجرة على صاحبها التحية مكتبه رشيديّه سركى رود كوئه.
210
Icon