ﰡ
﴿اتقوا رَبَّكُمُ﴾ فواردةٌ على طريقة التغليب لعدم تناولِها حقيقةً للإناث عند غيرِ الحنابلة وأما إدخالهن في الأمر بالتقوى بما ذُكر من الدليل الخارجيِّ وإن كان فيه مراعاةُ جانبِ الصيغةِ لكنه يستدعي تخصيصَ لفظِ النَّاسِ ببعض أفرادِه والمأمورُ به إما مطلقُ التقوى التي هي التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِمَ من فعلٍ أو تركٍ وإما التقوى فيما يتعلق بحقوق أبناءِ الجنسِ أي اتقوه في مخالفة أوامره ونواهيه على الإطلاقِ أو في مخالفة تكاليفه الواردة ههنا وأيًّا ما كان فالتعرضُ لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكيةِ والتربيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لتأييدِ الأمرِ وتأكيدِ إيجابِ الامتثالِ به على طريقة الترغيبِ
﴿الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة﴾ فإن خلْقَه تعالى إياهم على هذا النمطِ البديعِ لإنبائه عن قدرة شاملةٍ لجميع المقدُورات التي من جُملتها عقابُهم على معاصيهم وعن نعمة كاملة لا يقادر قدرها من أَقْوى الدَّواعي إلى الاتقاء من موجبات نقمتهِ وأتمِّ الزواجرِ عن كُفران نعمته وكذا جعلُه تعالى إياهم صنوانا مفرغة من أرومةٍ واحدة هي نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ من موجبات الاحترازِ عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوةِ وتعميمُ الخطابِ في ربّكم وخلقَكم للأمم السالفة أيضاً مع اختصاصه فيما قبلُ بالمأمورين بناءً على أن تذكيرَ شمولِ ربوبيته تعالى وخلقِه للكل من مؤكِّدات الأمرِ بالتقوى وموجباتِ الامتثالِ به تفكيك للنظم الكريمِ مع الاستغناء عنه لأن خلقَه تعالى للمأمورين من نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ حيث كان بواسطة ما بينهم وبينه عليه السلام من الآباء والأمهاتِ كان التعرّضُ لخلقهم متضمِّناً للتعرّض لخلق الوسايطِ جميعاً وكذا التعرضُ لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبةً لا سيما وقد نطقَ بذلك قوله عز وجل
﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ فإنه معَ ما عُطف عليه صريحٌ في ذلك وهو معطوفٌ إما على مقدر ينبئ عنه سَوقُ الكلامِ لأن تفريع الفروعِ من أصل واحد يستدعي إنشاءَ ذلك الأصلِ لا محالة كأنَّه قيل خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة خلقها أولاً وخلق منها زوجَها إلخ وهو استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير وَحدةِ المبدأ وبيانِ كيفيةِ خلْقِهم منه وتفصيلِ ما أُجمل أولاً أو صفةٌ لنفسٍ مفيدةٌ لذلك وإما على خلقَكم داخلٌ معه في حيزِ الصلةِ مقررٌ ومبينٌ لما ذكر وإعادةُ الفعلِ مع جواز عطفِ مفعوله على مفعول الفعلِ الأول كما في قوله تعالى ﴿يا أيها الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ﴾ الخ لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت فإن الأولَ بطريق التفريعِ من الأصل والثاني بطريق الإنشاءِ من المادة فإن تعالى خلقَ حواءَ من ضِلْعِ آدمَ عليه السلام روى أنه عز وجل لما خلقه عليه السلام وأسكنه الجنة ألقى عليه النومَ فبينما هو بين النائمِ واليقظانِ خَلَق حواءَ من ضِلْع من أضلاعه اليسرى فلما انتبه وجدها عنده وتأخيرُ ذكرِ خلقِها عن ذكر خلقِهم لما أن تذكيرَ خلقهم أدخلُ في تحقيق ما هو المقصودُ من حملهم على الامتثال بالأمر بالتقوى من تذكير خلقها وتقديمُ الجار والمجرور للاعتناء ببيان مبدئيتهِ عليه السلام لها مع ما فيه من التَّشويقِ إلى المؤخرِ كما مر مراراً وإيرادُها بعنوان الزوجيةِ تمهيدٌ لما بعده من التناسل
﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا﴾ أي نشرَ من تلك النفس وزوجها المخلوقةِ منها بطريقِ التوالدِ والتناسلِ
﴿رِجَالاً كَثِيراً﴾ نعت لرجالا مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الكثرةِ والإفرادِ باعتبار معنى الجمع أو العددِ وقيلَ هو نعتٌ لمصدرٍ مؤكدٍ للفعل أي بثاً كثيراً
﴿وَنِسَاء﴾ أي كثيرة وتركُ التصريحِ بها للاكتفاء بالوصف المذكورِ وإيثارُهما على ذكوراً وإناثاً لتأكيد الكثرةِ والمبالغةِ فيها بترشيح كلِّ فردٍ من الأفراد المبثوثةِ لمبدئية غيره وقرئ وخالقٌ وباثٌّ على حذف المبتدأ أي وهو خالقٌ وباث
﴿واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ﴾ تكريرٌ للأمر وتذكير لبعض آخَرَ من موجبات الامتثالِ به فإن سؤالَ بعضِهم بعضاً بالله تعالى بأن يقولوا أسألُك بالله وأنشُدك اللَّهَ على سبيل الاستعطافِ يقتضي الاتقاءَ من مخالفة أوامرِه ونواهيه وتعليقُ الاتقاءِ بالاسمِ الجليلِ لمزيد التأكيدِ والمبالغةِ في الحمل على الامتثال بتربية المهابةِ وإدخالِ الروعة لوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته وتساءلون أصلُه تتساءلون فطُرحت إحدى التاءين تخفيفيا وقرئ بإدغام تاءِ التفاعلِ في السين لتقاربهما في الهمس
﴿والارحام﴾ بالنَّصبِ عطفاً عَلى محلِّ الجارِّ والمجرورِ كقولك مررتُ بزيد وعمراً وينصره قراءةُ تساءلون به وبالأرحام فإنهم كانوا يقرُنونها في السؤال والمناشدةِ بالله عز وجل ويقولون أسألك بالله وبالرَّحمِ أو عطفاً على الاسم الجليلِ أي اتقوا اللَّهَ والأرحام وصلوها ولاتقطعوها فإن قطيعتها مما يجب أن يُتقّى وهو قولُ مجاهدٍ وقتادة والسدي والضحاك والفراءِ والزجاج وقد جَوّز الواحديُ نصبَه على الإغراء أي والزَموا الأرحام وصلوها وقرئ بالجر عطفاً على الضمير المجرور بالرَّفعِ على أنَّه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ تقديره والأرحامُ كذلك أي مما يُتقى أو يتساءل به ولقد نبه سبحانه وتعالى حيث قرنها باسمه الجليلِ على أن صلتَها بمكان منه كما في قوله تعالى ﴿أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا﴾ وعنه عليه السلام الرحِمُ معلقةٌ بالعرش تقول مَنْ وَصَلني وصله اللَّهُ ومَنْ قَطَعني قَطَعَهُ اللَّه
﴿إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ أي مراقباً وهي صيغة مبالغة من رقَب يرقُب رَقْباً إذا أحدّ النظرَ لأمر يريد تحقيقَه أي حافظاً مطلعاً على جميع ما يصدر عنكم من الأفعال والأقوالِ وعلى ما في ضمائركم من النيات مُريداً لمجازاتكم بذلك وهو تعليلٌ للأمر ووجوبِ الامتثالِ به وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتأكيده وتقديمُ الجارِّ والمجرور لرعاية الفواصل
﴿وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب﴾ نهيٌ عن أخذ مالِ اليتيمِ على الوجه المخصوصِ بعد النهي الضِّمني عن أخذه على الإطلاق وتبدل الشئ بالشئ واستبدالُه به أخذُ الأول بدلَ الثاني بعد أن كان حاصلاً له أو في شرف الحصولِ يُستعملان أبداً بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى ﴿وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان﴾ الخ وقوله تعالى أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ وأما التبديلُ فيستعمل تارة كذلك كما في قولِه تعالى وبدلناهم بجنتيهم جَنَّتَيْنِ الخ وأخرى بالعكس كما في قولك بدلتُ الحلقةَ بالخاتم إذا أذبتَها وجعلتَها خاتماً نص عليه الأزهري وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسِه كما في قولِه تعالى يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات والمرادُ بالخبيث والطيبِ إن كان هو الحرامُ والحلالُ فالمنهيُّ عنه استبدالُ مالِ اليتيمِ بمال أنفسهم مطلقا كما قاله الفراءُ والزجاجُ وقيل معناه لا تذَروا أموالَكم الحلالَ وتأكُلوا الحرامَ من أموالهم فالمنهيُّ عنه أكلُ مالِه مكان ما لهم المحقّقِ أو المقدّرِ وقيل هو اختزال ما له مكان حفظِه وأياً ما كان فإنما عبّر عنهما بهما تنفيراً عما أخذوه وترغيباً فيما أُعْطوُه وتصويراً لمعاملتهم بصورة مالا يصدُر عن العاقل وإن كان هو الردئ والجيدُ فموردُ النهي ما كانوا عليه من أخذ الجيّدِ من مال اليتيمِ وإعطاء الردئ من مال أنفسِهم وبه قال سعيدُ بنُ المسيِّب والنخعيُّ والزُّهري والسدي وتخصيصُ هذه المعاملةِ بالنهي لخروجها مَخرجَ العادةِ لا لإباحة ما عداها وأما التعبيرُ عنها بتبدُّل الخبيثِ بالطيب مع أنها تبديلُه به أو تبدلُ الطيبِ بالخبيث فللإيذان بأن الأولياءَ حقُّهم أن يكونوا في المعاوضات عاملين لليتيم لا لأنفسهم مُراعين لجانبه قاصدين لجلب المجلوبِ إليه مشترىً كان أو ثمناً لا لسَلَب المسلوبِ عنه
﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم﴾ نهيٌ عن منكر آخر كانوا يتعاطَوْنه أي لا تأكلوها مضمومةً إلى أموالكم ولا تُسوّوا بينهما وهذا حلالٌ وذاك حرامٌ وقد خُصَّ من ذلك مقدارُ أجرِ المثل عند كون
﴿إِنَّهُ﴾ أي الأكلُ المفهومُ من النهي
﴿كَانَ حُوباً﴾ أي ذنباً عظيما وقرئ بفتح الحاء وهو مصدرُ حاب حوبا وقرئ حاباً وهو أيضاً مصدرٌ كقال قولاً وقالا
﴿كَبِيراً﴾ مبالغةٌ في بيان عِظَمِ ذنبِ الأكلِ المذكورِ كأنه قيل من كبار الذنوب العظيمة لا من أفنائها
﴿فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾ ما موصولةٌ أو موصوفة ما بعدها صلتُها أو صفتها أو أُوثِرَت على مَنْ ذهاباً إلى الوصف وإيذاناً بأنه المقصودُ بالذات والغالبُ في الاعتبار لا بناءً على أن الإناثَ من العقلاء يجرين مَجرى غيرِ العقلاءِ لإخلاله بمقام الترغيبِ فيهن وقرأ ابنُ أبي عَبْلةَ من طاب ومِنْ في قولِه تعالَى
﴿مّنَ النساء﴾ بيانيةٌ وقيل تبيضية والمرادُ بهن غيرُ اليتامى بشهادة قرينةِ المقامِ أي فانكحوا من استطابتها نفوسُكم من الأجنبيات وفي إيثار الأمرِ بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصودُ بالذات مزيدُ لطفٍ في استنزالهم عن ذلك فإن النفسَ مجبولةٌ على الحِرص على ما مُنِعت منه كما أن وصفَ النساءِ بالطيب على الوجه الذي أشير إليه فيه مبالغةٌ في الاستمالة إليهن والترغيبِ فيهن وكلُّ ذلك للاعتناء بصَرْفهم عن نكاح اليتامى وهو السرُّ في توجيه النهي الضمنيِّ إلى النكاح المُتَرقَّبِ مع أن سببَ النزولِ هو النكاحُ المحققُ لما فيه من المسارعة إلى دفع الشرِّ قبل وقوعِه
﴿مثنى وثلاث وَرُبَاعَ﴾ معدولةٌ عن أعداد مكررةٍ غيرُ منصرفةٍ لما فيها من العدْلين عدلِها عن صِيَغها وعدلِها عن تكرُّرِها وقيل للعدل والصفةِ فإنها بُنيت صفاتٍ وإن لم تكن أصولها كذلك وقرئ وثُلَثَ ورُبَعَ على القصر من ثلاثَ ورُباعَ ومحلُّهن النَّصبِ على أنَّها حالٌ من فاعل طاب مؤكدةٌ لما أفاده وصفُ الطيّبِ من الترغيب فيهن والاستمالةِ إليهن بتوسيع دائرةِ الإذْنِ أى فانحكوا الطيباتِ لكم معدوداتٍ هذا العددَ ثنتين ثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً حسبما تريدون على معنى أن لكل واحدٍ منهم أن يختار أيَّ عددٍ شاء من الأعداد المذكورة لا أن بعضَها لبعض منهم وبعضَها لبعض آخرَ كما في قولك اقتسِموا هذه البَدْرةَ درهمين درهمين وثلاثا ثلاثا وأربعةً أربعة ولو أُفردت لفُهم منه تجويزُ الجمعِ بين تلك الأعدادِ دون التوزيعِ ولو ذكرت بكلمة أو لفات تجويزُ الاختلافِ في العدد هذا وقد قيل في تفسير الآيةِ الكريمةِ لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالِهم من الحُوب الكبيرِ أخذ الأولياءُ يتحرّجون من ولايتهم خوفاً من لحوق الجوب بترك الإقساطِ مع أنهم كانوا لايتحرجون من ترك العدلِ في حقوق النساءِ حيث كان تحت الرجلِ منهم عشرٌ منهن فقيل لهم إن خفتم تركَ العدلِ في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها فخافوا أيضاً تركَ العدلِ بين النساءِ فقلِّلوا عددَ المنكوحاتِ لأن من تحرّج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكبٌ مثلَه فهو غيرُ متحرِّجٍ ولا تائبٍ عنه وقيل كانوا لا يتحرجون من الزنى وهم يتحرّجون من ولاية اليتامى فقيل إن خفتم الجَوْرَ في حق اليتامى فخافوا الزنى فانكِحوا ما حل لكم من النساء ولا تحرموا حولَ المحرَّماتِ ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالةُ النظم الكريم لابتنائهما على تقدّم نزولِ الآيةِ الأولى وشيوعِها بين الناسِ مع ظهور توقفِ حُكمِها على ما بعدها من قوله تعالى وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أموالكم إلى قوله تعالى وكفى بالله حَسِيباً
﴿فإن خفتم ألا تَعْدِلُواْ﴾ أي فيما بينهن ولو في أقل الأعدادِ المذكورةِ كما خِفتُموه في حق اليتامى أو كما لو تعدِلوا في حقهن أو كما لم تعدِلوا فيما فوق هذه الأعدادِ
﴿فواحدة﴾ أي فالزَموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجميع بالكلية وقرئ بالرفع أي فالمُقنِعُ واحدةٌ أو فحسبُكم واحدةٌ
﴿أَوْ ما ملكت أيمانكم﴾ أيمن السراري بالغةً ما بلغت من مراتب العددِ وهو عطفٌ على واحدةً على أن اللزومَ والاختيارَ فيه بطريق التسرِّي لا بطريق النكاحِ كما فيما عُطف عليه لا ستلزمه ورودَ ملكِ النكاحِ على ملك اليمينِ بموجب اتحادِ المخاطَبين في الموضعين بخلاف ما سيأتِي من قولِه تعالى ﴿وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم﴾ فإن المأمورَ بالنكاح هناك غيرُ المخاطَبين بملك اليمين وإنما سُوِّي في السهولة واليُسرِ بين الحرةِ الواحدةِ وبين السراري من غير حصرٍ في عدد لقلة تبعتهن
﴿ذلك﴾ إشارةٌ إلى اختيار الواحدة والتسرى
﴿أدنى ألا تَعُولُواْ﴾ العَول الميلُ من قولهم عال الميزانُ عَوْلاً إذا مال وعال في الحكم أي جار والمرادُ هنا الميلُ المحظورُ المقابلُ للعدل أي ما ذُكر من اختيار الواحدةِ والتسرّي أقربُ بالنسبةِ إلى ما عداهما من أن لا تميلوا ميلاً محظوراً لانتفائه رأساً بانتفاء محلِّه في الأول وانتفاءِ خطرِه في الثاني بخلاف اختيارِ العددِ في المهائر فإن الميلَ المحظورَ متوقَّعٌ فيه لتحقق المحل والخطر ومن ههنا تبين أن مدارَ الأمرِ هو عدمُ العولِ لا تحققُ العدلِ كما قيل وقد فُسِّر بأن لا يكثُر عيالُكم على أنه من عال الرجلُ عيالَه يعولُهم أي مانَهم فعبر عن كثرة العيال بكثرة المؤنة على طريقة الكناية ويؤيده قراءة أن لاتعيلوا من أعال الرجلُ إذا كثُر عيالُه ووجهُ كونِ التسري مَظِنَّةَ قلةِ العِيالِ مع جواز الاستكثارِ من السراري أنه يجوز العزلُ عنهن بغير رضاهن ولا كذلك المهائرُ والجملةُ مستأنفةٌ جارية مما قبلها مجرى التعليل
﴿صدقاتهن﴾ جمعُ صَدُقة كسمرة وهي المهر وقرئ بسكون الدالِ على التخفيف وبضم الصادِ وسكونِ الدال جمع صدقة كغرفة وبضمها على التوحيد وهو تثقيلُ صُدْقة كظُلُمة في ظُلْمة
﴿نِحْلَةً﴾ قال ابنُ عبَّاسٍ وقتادةُ وابن جريج وابن زيد فريضةً من الله لأنها مما فرضه الله في النِحْلة أي المِلةِ والشِرْعة والديانةِ فانتصابُها على الحالية من الصَّدُقات أي أعطوهن مهورَهن حالَ كونِها فريضةً منه تعالى وقال الزجاجُ تديُّناً فانتصابُها على أنها مفعولٌ له أي أعطوهن ديانة وشرعة وقال الكلبي نحلةً أي هِبةً وعطيةً من الله تعالى وتفضّلاً منه عليهن فانتصابُه على الحالية منها أيضاً وقيل عطيةً من جهة الأزواجِ من نَحَله كذا إذا أعطاه إياه ووهبَه له عن طِيبةٍ من نفسه نِحْلةً ونُحْلاً والتعبير عن إيتاء المهورِ بالنِّحلة مع كونها واجبةً على الأزواج لإفادة معنى الإيتاءِ عن كمال الرضا وطيبِ الخاطرِ وانتصابُها على المصدرية لأن الإيتاءَ والنحلةَ بمعنى الإعطاءِ كأنه قيل وانحَلوا النساءَ صَدُقاتِهن نِحْلةً أي أعطوهن مهورَهن عن طيبةِ أنفسِكم أو على الحالية من ضمير أَتَوْا أي آتوهن صَدُقاتِهن ناحلين طيِّبي النفوسِ بالإعطاء أو من الصَّدُقات أي منحولةً مُعطاةً عن طيبة الأنفسِ فالخطابُ للأزواج وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخُذون مهورَ بناتِهم وكانوا يقولون هنيئاً لك النافجةُ لِمَن يولدُ له بنتٌ يعنون تأخُذ مَهرَها فتنفج به مالَك أي تعظّمه
﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ﴾ الضميرُ للصدُقات وتذكيرُه لإجرائه مُجرى ذلك فإنه قد يشار به إلى المتعدد كما في قوله عز وجل قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم بعد ذكر الشهواتِ المعدودةِ وقد رُوي عن رؤية أنه حين قيل له في قوله... فيها خطواط من سوادٍ وبَلَق... كأَنَّهُ فِي الجلدِ تَوْليعُ البهق...
إن أردت الخطوطَ ينبغي أن تقول كأنها وإن أردت السوادَ والبلَقَ ينبغي أن تقول كأنهما قال لكني أردتُ كأن ذلك أو للصَّداق الواقعِ موقعَه صدُقاتِهن كأنه قيل وآتوا النساءَ صَداقَهن كما في قوله تعالى ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن﴾ حيث عَطفَ أكنْ على ما دلَّ عليه المذكورُ ووقع موقعَه كأنه قيلَ إنْ أخرتنِي أصَّدقْ وأكنْ واللامُ متعلقةٌ بالفعل وكذا عن لكن
﴿نَفْساً﴾ تمييزٌ والتوحيدُ لما أنَّ المقصودَ بيانُ الجنس أي وإن وهَبْن لكم شيئاً من الصَّداق متجافياً عنه نفوسُهن طيباتٍ غيرَ مُخْبثاتٍ بما يَضطرُّهن إلى البذل من شكاسة أخلاقِكم وسوءِ معاشرتِكم لكن عَدَل عن لفظ الهبةِ والسماحةِ إلى مَا عليهِ النظمُ الكريمُ إيذاناً بأن العُمدة في الأمر إنما هو طيبُ النفسِ وتجافيها عن الموهوب بالمرة
﴿فَكُلُوهُ﴾ أي فخذوا ذلك الشئ الذي طابت به نفوسُهن وتصرفوا فيه تملُّكاً وتخصيصُ الأكلِ بالذكر لأنه معظمُ وجوهِ التصرفاتِ المالية
﴿هَنِيئاً مَّرِيئاً﴾ صفتان من هنُؤَ الطعامُ ومرُؤَ إذا كان سائغاً لا تنغيصَ فيه وقيل الهنئ الذي يلذه الأكل والمرئ ما يحمده عاقبتُه وقيل ما ينساغ في مجراه الذي هو المرء وهو ما بين الحُلْقوم إلى فم المعِدةِ سُمِّي بذلك لمروءِ الطعامِ فيه أي انسياغِه ونصبُهما على أنهما صفتانِ للمصدر أي أكلاً هنيئاً مريئاً أو على أنهما حالانِ من الضمير المنصوب أي كلوة وهو هنئ مرئ وقد يوقف على كلوه ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مُقامَ المصدرين كأنه قيل هنْأً ومَرْأً وهذه عبارةٌ عن التحليل والمبالغةِ في الإباحة وإزالة التبعية وروى أن ناساً كانوا يتأثمون أن يَقْبل أحدُهم من زوجته شيئاً مما ساقه إليها فنزلت
﴿التى جَعَلَ الله لَكُمْ قياما﴾ أي جعلها الله شيئاً تقومون به وتنتعشون على حذف المفعول الأول فلو ضيَّعتُموه لضِعْتم ثم زيد في المبالغة حتى جُعل ما به القيامُ قياماً فكأنها في أنفسها قيامُكم وانتعاشُكم وقيل إنما أضيفت إلى الأولياء لأنها من جنس ما يقيم به الناسُ معايشَهم حيث لم يُقصَدْ بها الخصوصيةُ الشخصيةُ بل الجنسيةُ التي هي معنى ما يقام به المعاشُ وتميل إليه القلوبُ ويُدّخر لأوقات الاحتياج وهي بهذا الاعتبارِ لا تختص باليتامى وأنتُ خبيرٌ بأنَّ ذلكَ بمعزل من حمل الأولياءِ على المحافظة المذكورةِ كيف لا والوحدةُ الجنسيةُ الماليةُ ليست مختصّةً بما بين أموال اليتامى وأموال
﴿وارزقوهم فِيهَا واكسوهم﴾ أي واجعلوها مكاناً لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتتربحوا حتى تكون نفقاتُهم من الأرباح لا من صُلْب المالِ وقيلَ الخطابُ لكلِّ أحدٍ كائناً مَنْ كان والمرادُ نهيُه عن أن يفوِّض أمرَ مالِه إلى من لا رُشدَ له من نسائه وأولادِه ووكلائِه وغير ذلك ولا يخفى أن ذلكَ مُخِلٌّ بجزالةِ النظمِ الكريم
﴿وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ أي كلاماً ليناً تطيب به نفوسُهم وعن سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج عِدوْهم عِدةً جميلةً بأن تقولوا إذا صلحتم ورسدتم سلَّمْنا إليكم أموالَكم وكلُّ ما سكَنت إليه النفسُ لحسنه شرعاً أو عقلاً من قول أو عمل فهو معروفٌ وما أنكَرَتْه لقُبحه شرعاً أو عقلاً فهو منكر
﴿حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ﴾ بأن يحتلموا لأنهم يصلُحون عنده للنكاح
﴿فإن آنستم﴾ أي شاهدتم وتبينتم وقرئ أحَسْتم بمعنى أحسستم كما في قول من قال... خلا أن العتاقَ من المطايا... أحَسْنَ به وهنّ إليه شوُسُ...
﴿مّنْهُمْ رُشْداً﴾ أي اهتداءً إلى وجوه التصرفاتِ من غير عجز وتبذيرٍ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على المفعول للاهتمام بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المؤخر أو للاعتداد بمبدئيته له والتنوينُ للدِلالة على كفاية رُشدٍ في الجملة وقرئ بفتح الراء والشين وبضمها
﴿فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم﴾ من غير تأخيرٍ عن حد البلوغِ وفي إيثار الدفعِ على الإيتاء الواردِ في أول الأمرِ إيذانٌ بتفاوتهما بحسسب المعنى كما أُشيرَ إليهِ فيما سلف ونظم الآية الكريمة أن حتى هي التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله... فما زالت القتلى تمُجُّ دماءَها... بدِجلةَ حتى ماءُ دِجلةَ أشكلُ... وما بعدها جملةٌ شرطيةٌ جُعلت غايةً للابتلاء وفعلُ الشرطِ بَلَغُواْ وجوابُه الشرطيةُ الثانيةُ كأنه قيل وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغِهم واستحقاقِهم دفعَ أموالِهم إليهم بشرط إيناسِ الرُشدِ وظاهرُ الآيةِ الكريمةِ أن من بلغ غيرَ رشيدٍ إما بالتبذير أو بالعجز لا يدفع إليه مالُه أبداً وبه أخذ أبو يوسفَ ومحمدٌ وقال أبو حنيفة ينتظر إلى خمس وعشرين سنةً لأن البلوغ بالسن ثماني عشرة سنةً فإذا زادت عليها سبعُ سنين وهي مدةٌ معتبرةٌ في أحوالِ الإنسانِ لما قالَه عليه الصَّلاةُ
﴿وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ﴾ أي مسرفين ومبادرين كِبرَهم إو لإسرافكم ومبادرتِكم كِبرَهم تفرِّطون في إنفاقها وتقولون نُنفق كما نشتهي قبل أن يكبَرَ اليتامى فينتزعوها من أيدينا والجملة تأكيدٌ للأمر بالدفع وتقريرٌ لها وتمهيدٌ لما بعدَها من قوله تعالى
﴿وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ الخ أي من كان من الأولياء والأوصياءِ غنياً فليتنزَّهْ عن أكلها وليقنَعْ بما آتاه الله تعالى من الغنى والرزقِ إشفاقاً على اليتيم وإبقاءً على ماله
﴿وَمَن كَانَ﴾ من الأولياء والأوصياءِ
﴿فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف﴾ بقدْر حاجتِه الضروريةِ وأُجرةِ سعيِه وخِدمتِه وفي لفظ الاستعفافِ والأكلِ بالمعروف ما يدل على أن للوصيّ حقاً لقيامه عليها عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له إن في حِجري يتيماً أفآكلُ من ماله قال بالمعروف غيرَ متأثِّلٍ مالاً ولا واقٍ مالَك بماله وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن وليَّ يتيمٍ قال له أفأشرب من لبن إبلِه قال إن كنت تبغي ضالّتَها وتلوطُ حوضَها وتهنأ جر باها وتسقيها يوم ورودِها فاشرَبْ غير مضل بنسل ولا ناهكٍ في الحلب وعن محمد بن كعب يتقرَّمُ كما تتقرّم البهيمة ويُنزِل نفسَه منزلةَ ألأجير فيما لابد منه وعن الشعبي يأكلُ من ماله بقدر ما يُعين فيه وعنه كالميتة يتناول عند الضرورة ويقضي وعن مجاهد يستسلف فإذا أيسرَ أدى وعن سعيد بن جبير أن شاء شرِب فضلَ اللبن وركِبَ الظهرَ ولبس ما يستُره من الثياب وأخَذَ القوتَ ولا يجاوزُه فإن أيسر قضاه وإن أعسر فهو في حل وعن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى منزلةَ وليَّ اليتيمِ إن استغنيتُ استعففتُ وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف وإذا أيسرتُ قضيت واستعفَّ أبلغُ من عفّ كأنه يطلب زيادةَ العفة
﴿فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم﴾ بعد ما راعيتم الشرائطَ المذكورةَ وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عن المفعول الصريحِ للاهتمام به
﴿فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ﴾ بأنهم تَسَلَّموها وقبضوها وبرِئَتْ عنها ذممُكم لما أن ذلك أبعدُ من التهمة وأنفى للخصومة وأدخَلُ في الأمانة وبراءةِ الساحةِ وإن لم يكن ذلك واجباً عند أصحابنا فإن الوصيَّ مُصدِّقٌ في الدفع مع اليمين خلافاً لمالكٍ والشافعيِّ رحمهما الله
﴿وكفى بالله حَسِيباً﴾ أي محاسباً فلا تُخالفوا ما أمركم به ولا تجاوزا ما حَدَّ لكم
﴿وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والاقربون﴾ إيرادُ حكمِهن على الاستقلال دون الدرْجِ في تضاعيف أحكامِهم بأن يقالَ للرجال والنساءِ الخ للاعتناء بأمرهن والإيذانِ بأصالتهن في استحقاق الإرثِ والإشارةِ من أول الأمرِ إلى تفاوت ما بين نصيبَي الفريقين والمبالغةِ في إبطال حكمِ الجاهليةِ فإنهم ما كانوا يُورِّثون النساءَ والأطفالَ ويقولون إنما يرث مَنْ يحارِبُ ويذُبُّ عن الحَوْزة روي أن أوسَ بنَ ثابت الأنصاري
﴿مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ﴾ بدلٌ من مَا الأخيرةِ بإعادة الجارِّ وإليها يعود الضميرُ المجرورُ وهذا البدلُ مرادٌ في الجملة الأولى أيضاً محذوفٌ للتعويل على المذكور وفائدتُه دفعُ توهُّمِ اختصاص بعضِ الأموالِ ببعض الورثةِ كالخيل وآلاتِ الحربِ للرجال وتحقيقُ أن لكلَ من الفريقين حقاً من كلِّ ما جلَّ ودقَّ
﴿نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾ نُصب على أنَّه مصدرٌ مؤكّدٌ كقوله تعالى ﴿فَرِيضَةً مّنَ الله﴾ كأنه قيل قسمةً مفروضةً أو على الحالية إذ المعنى ثبَت لهم نصيبٌ كائنٌ مما ترك الوالدان والاقربون حالَ كونِه مفروضاً أو على الاختصاصِ أيْ أعنِي نصيباً مقطوعاً مفروضاً واجباً لهم وفيه دليلٌ على أنَّ الوارثَ لو أعرض عن نصيبه لم يسقُطْ حقُّه
﴿أُوْلُواْ القربى﴾ ممن لا يرث
﴿واليتامى والمساكين﴾ من الأجانب
﴿فارزقوهم مّنْهُ﴾ أي أعطوهم شيئاً من المال المقسومِ المدلولِ عليه بالقسمة وقيل الضميرُ لما وهو أمرُ ندبٍ كُلف به البالغون من الورثة تطييبا لقوب الطوائفِ المذكورةِ وتصدقاً عليهم وقيل أمرُ وجوبٍ ثم اختلف في نَسْخه
﴿وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً﴾ وهو أن يدعوا لهم ويستقِلّوا ما أعطَوْهم ويعتذروا من ذلك ولا يُمنّوا عليهم
﴿فَلْيَتَّقُواّ الله﴾ في ذلك والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلَها
﴿وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً﴾ أمرهم بالتقوى التي هي غايةُ الخشيةِ بعد ما أمرهم بها مراعاةً للمبدأ والمنتهى إذ لانفع للأول بدون الثاني ثم أمرهم بان بقولوا لليتامى مثلَ ما يقولون لأولاودهم بالشفقة وحُسنِ الأدبِ أو للمريض ما يصُده عن الإسراف في الوصية وتضييعِ الورثة ويذكره التوبةَ وكلمةَ الشهادةِ أو لحاضري القسمةِ عذراً ووعداً حسناً أو يقولوا في الوصية مالا يؤدّي إلى تجاوز الثلث وقوله تعالى
﴿إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ﴾ أي ملءَ بطونِهم
﴿نَارًا﴾ أي ما يُجرُّ إلى النار ويؤدِّي إليها وعن أبي بردة أنه ﷺ قال يبعث الله تعالى قوماً من قبورهم تتأجّج أفواهُهم ناراً فقيل من هم فقال عليه السلام ألم ترأن الله يقول إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً
﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً﴾ أي سيدخُلون ناراً هائلةً مبْهمةَ الوصف وقرئ بضم الياء مخففاً ومشدداً من الإصلاء والتصلية يقال صِليَ النار قاسي حرَّها وصليته شويته وأصليته ألقيته فيها والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعَرتُ النارَ إذا ألهبتُها روي ان آكل مال اليتم يبعث يوم القيامةِ والدخانُ يخرج من قبره ومِنْ فيه وأنفِه وأُذنيه وعينيه فيعرف الناسُ أنه كان يأكلُ مالَ اليتيمِ في الدنيا وروي أنه لمَّا نزلتْ هذهِ الآيةُ ثقُل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمرُ على اليتامى فنزلَ قولُه تعالى وَإِن تُخَالِطُوهُمْ الأية
﴿فِى أولادكم﴾ أولاد كلِّ واحدٍ منكم أي في شأن ميراثهم بدئ بهم لأنهم أقربُ الورثةِ إلى الميتِ وأكثرُهم بقاءً بعد المورِّث
﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين﴾ جملةٌ مستأنفةٌ جئ بها لتبيين الوصيةِ وتفسيرِها وقيل محلُّها النصبُ بيوصيكم على أن المعنى يفرِض عليكم ويشرَع لكم هذا الحُكمَ وهذا قريبٌ مما رآه الفراءُ فإنه يجري ما كان بمعنى القولِ من الأفعال مَجراه في حكاية الجملةِ بعدَه ونظيرُه
﴿فَإِن كُنَّ﴾ أي الأولادُ والتأنيثُ باعتبار الخبرِ وهو قوله تعالى
﴿نِسَاء﴾ أي خُلَّصاً ليس معهن ذكرٌ
﴿فَوْقَ اثنتين﴾ خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ لنساءً أي نساءً زائداتٍ على اثنتين
﴿فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ أي المتوفى المدلولُ عليه بقرينة المقامِ
﴿وَإِن كَانَتْ﴾ أي المولودةُ
﴿واحدة﴾ أي امرأةً واحدةً ليس معها أخٌ ولا أختٌ وعدمُ التعرّضِ للموصوف لظهوره مما سبق
﴿فَلَهَا النصف﴾ مما ترك وقرئ واحدةٌ على كان التامة واختلف في الثنتين فقال ابنُ عباس حكمُهما حكمُ الواحدةِ لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما وقال الجمهورُ حكمُهما حكمُ ما فوقهما لأنه تعالى لما بين حظَّ الذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان اقتضى ذلك أن فرضَهما الثلثان ثم لما أوهم ذلك أن يُزاد النصيبُ بزيادة العددِ رُدَّ ذلك بقوله تعالى ﴿فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثنتين﴾ ويؤيد ذلك أن البنتَ الواحدةَ لما استحقَّت الثُلُثَ مع أخيها الأقوى منها في الاستحقاق فلأَنْ تستحِقَّه مع مثلها أولى وأحرى وأن البنتين أمسُّ رَحِماً من الأختين وقد فرض الله لهما الثلثين حيث قال تعالى ﴿فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ﴾
﴿وَلأَبَوَيْهِ﴾ أي لأبوي الميت غُيِّر النظمُ الكريمُ لعدم اختصاصِ حُكمِه بما قبله من الصور
﴿لِكُلّ واحد مّنْهُمَا﴾ بدلٌ منه بتكرير العاملِ وُسِّط بين المبتدإِ الذي هو قوله تعالى
﴿السدس﴾ وبين خبرِه الذي هو لأبويه ونُقل الخبريةُ إليه تنصيصاً على استحقاق كلَ منهما السدسَ وتأكيداً له بالتفصيل بعد الإجمالِ وقرئ السدْسُ بسكون الدال تخفيفاً وكذلك الثلْثُ والربْعُ والثمْنُ
﴿مّمَّا تَرَكَ﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من السدس والعاملُ الاستقرارُ المعتبرُ في الخبر أي كائناً مما ترك المتوفى
﴿إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ أو ولدُ ابن ذكرا كان أوانثى واحداً أو متعدداً غير أن الأبَ في صورة الأنوثةِ بعد ما أخذ فرضَه المذكورَ يأخذ ما بقيَ من ذوي الفروضِ بالعصوبة
﴿فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ﴾ ولا ولدُ ابنٍ
﴿وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ﴾ فحسْبُ
﴿فَلاِمّهِ الثلث﴾ مما ترك والباقي للأب وإنما لم يُذكَرْ لعدم الحاجةِ إليه لأنه لما فُرض انحصارُ الوارثِ في أبويه وعُيِّن نصيبُ الأم عُلمَ أن الباقيَ للأب وتخصيصُ جانبِ الأمِّ بالذِكر وإحالةُ جانبِ الأبِ على دَلالة الحالِ مع حصولِ البيانِ بالعكس أيضاً لما أنَّ حظَّها أخصَرُ واستحقاقَه أتمُّ وأوفرُ أو لأن استحقاقَه بطريق العصوبةِ دون الفرضِ هذا إذا لم يكن معهما أحدُ الزوجين أما إذا كان معهما ذلك فللأم ثلثُ ما بقيَ بعد فرضِ أحدِهما لا ثلثُ الكلِّ كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما فإنه يُفضي إلى تفضيل الأمِّ على الأب مع كونه أقوى منها في الإرث بدليل إضعافِه عليها عند انفرادِهما عن أحد الزوجين وكونِه صاحبَ فرضٍ وعصبةٍ وذلك خلافُ وضعِ الشرع
﴿فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ أي عددٌ ممن له أخوةٌ من غير اعتبارِ التثليثِ سواءٌ كانت من جهة الأبوين أو من جهة أحدِهما وسواءٌ كانوا ذكوراً أو إناثاً
﴿فَلاِمِهِ السدس﴾ وأما السدسُ الذي حجبوها عنه فهو للأب عند وجودِه ولهم عند عدمِه وعليه الجمهورُ وعند ابنِ عباس رضي الله عنهما أنه لهم على كلِّ حالٍ خلا أن هذا الحجبَ عنده لا يتحقق بما دون الثلاثِ وبالأخوات الخلص وقرئ فلإِمِّه بكسر الهمزةِ إتْباعاً لما قبلها
﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ والجملةُ متعلقةٌ بما تقدم جميعاً لا بما يليها وحدَه أي هذه الأنصباءُ للورثة من بعد إخراجِ وصيةٍ
﴿يُوصِى بِهَا﴾ أي الميت وقرئ مبنياً للمفعول مخففاً ومبنياً للفاعل مشددا وفائدةُ الوصفِ الترغيبُ في الوصية والندب إليها أودين عطفٌ على وصيةٍ إلا أنه غيرُ مقيدٍ بما قُيدتْ به من الوصف بل هو مُطلقٌ يتناول ما ثبت بالبينة أو الإقرارِ في الصحةِ وإيثارُ أَوْ المفيدةِ للإباحة على الواو للدِلالة على تساويهما في الوجوب وتقدُّمِهما على القِسْمة مجموعَيْن أو منفردَيْن وتقديمُ الوصيةِ على الديْن ذكراً مع تأخّرها عنه حُكماً لإظهار كمالِ العنايةِ بتنفيذها لكونها مظِنةً للتفريط في أدائها ولاطّرادها بخلاف الدَّين
﴿آباؤكم وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً﴾ الخطابُ للورثة فآباؤكم مبتدأ وأبناؤكم عطفٌ عليه ولا يدرون خبرُه وأيُّهم مبتدأٌ وأقربُ خبرُه ونفعاً نُصب على التمييز منه وهو منقول من الفاعلية كأنه قيل أيُّهم أقربُ لكم نفعُه والجملةُ في حيز النصبِ بلا تدرون والجملةُ الكبيرةُ اعتراضيةٌ مؤكِّدةٌ لوجوب تنفيذِ الوصيةِ أي أصولُكم وفروعُكم الذين يُتَوَفَّون لا تدرون أيُّهم أنفعُ لكم أمَنْ يوصي ببعض مالِه فيُعرِّضَكم لثواب الآخرةِ بتنفيذ وصيتِه أم مَنْ لا يوصي بشيء فيوفرَ عليكم عَرَضَ الدنيا وليس المرادُ بنفي الدرايةِ عنهم بيانَ اشتباهِ الأمرِ عليهم وكونَ أنفعيةِ كلَ من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحانِ أحدِهما على الآخر كما في قولِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مثلُ أمتي مثلُ المطرِ لا يدرى أولُه خيرٌ أمْ آخرُه فإنَّ ذلكَ بمعزلٍ من إفادة التأكيدِ المذكورِ والترغيبِ في تنفيذ الوصيةِ بل تحقيقَ أنفعيةِ الأولِ في ضمن التعريضِ بأن لهم اعتقاداً بأنفعية الثاني مبنياً على عدم الدراية وقد أُشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربيه النفع تذكير المناط زعمِهم وتعييناً لمنشأ خطئِهم ومبالغةً في الترغيب المذكورِ بتصوير الثوابِ الآجلِ بصورة العاجل لما أن الطباعَ مجبولةٌ على حب الخيرِ الحاضرِ كأنه قيل لاتدرون أيُّهم أنفعُ لكم فتحكُمون نظراً إلى ظاهر الحالِ وقربِ المنالِ بأنفعية الثاني مع أن الأمرَ بخلافه فإن ثوابَ الآخرةِ لتحقق وصولِه إلى صاحبه ودوامِ تمتّعِه به مع غاية قصْرِ مدةِ ما بينهما من الحياة الدنيا أقربُ وأحضرُ وعرَضُ الدنيا لسرعة نفادِه وفنائِه أبعدُ وأقصى وقيل الخطابُ للمورِّثين والمعنى لاتعلمون من أنفعُ لكم ممن يرِثُكم من أصولكم وفروعِكم عاجلاً وآجلاً فتحَرَّوا في شأنهم ما أوصاكم الله تعالى به ولا تعمِدوا إلى تفضيلِ بعضٍ وحرمانِ بعض روي أن أحدَ المتوالدين إذا كان أرفعَ درجةً من الآخر في الجنة سأل الله تعالى أن يرفعَ إليه صاحبَه فيُرفعُ إليه بشفاعته قيل فالجملةُ الاعتراضيةُ حينئذ مؤكدةٌ لأمر القِسْمةِ وأنت خبيرٌ بأنه مُشعرٌ بأن مدارَ الإرثِ ما ذُكر من أقربيه النفع مع أنه العلاقةُ النسبية
﴿فَرِيضَةً مّنَ الله﴾ نُصِبت نصْبَ مصدر مؤكد لفعل محذوف أي فرَض الله ذلك فرضاً أو لقوله تعالى ﴿يُوصِيكُمُ الله﴾ فإنه في معنى يأمركم ويفرِض عليكم
﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً﴾ أي بالمصالح والرُّتَب
﴿حَكِيماً﴾ في كلِّ ما قضَى وقدر فيدخُل فيه الأحكامُ المذكورة دخولا أوليا
﴿إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ﴾ أي ولد وارث من بطنه أو من صُلْب بنيها أو بني بنيها وإن سفَلَ ذكراً كان أو أنثى واحداً كان أو متعدداً لأن لفظ الولدِ ينتظِمُ الجميعَ منكم أو من غيركم والباقى لورثهتن من ذوى الفروض والعصبات أو غيرِهم ولبيت المالِ إن لم يكن لهن وارثٌ آخرُ أصلاً
﴿فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ﴾ على نحو ما فُصِّل والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ذِكرَ تقديرِ عدمِ الولدِ وبيانِ حكمِه مستتبِعٌ لتقدير وجودِه وبيانِ حكمِه
﴿فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ﴾ من المال والباقي لباقي الورثةِ
﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ﴾ متعلق بكلتا الصورتين لابما يليه وحده
﴿يُوصِينَ بِهَا﴾ في محل الجرِّ على أنه صفةٌ لوصيةٍ وفائدتُها ما مر من ترغيب الميتِ في الوصية وحثِّ الورثةِ على تنفيذها
﴿أَوْ دَيْنٍ﴾ عطفٌ على وصيةٍ سواءٌ كان ثبوتُه بالبينة أو بالإقرار وإيثارُ أَوْ على الواو لما ذكر من إبراز كمالِ العنايةِ بتنفيذها
﴿وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ﴾ على التفصيل المذكورِ آنفاً والباقي لبقية ورثتِكم من أصحاب الفروضِ والعصباتِ أو ذوي الأرحامِ إو لبيت المالِ إن لم يكن لكم وارثٌ آخرُ أصلاً
﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ﴾ على النحو الذي فُصل
﴿فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم﴾ من المال للباقين
﴿مّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ الكلامُ فيه كما فُصِّل في نظيرَيْه فُرض للرجل بحق الزواجِ ضعفُ ما فرض للمرأة كما في النسب لمزيَّته عليها وشرفِه الظاهِرِ ولذلك اختُص بتشريف الخطابِ وهكذا قياسُ كلِّ رجلٍ وامرأةٍ اشتركا في الجهة ولا يستثنى منه إلا أولادُ الأمِّ والمُعتِقُ والمعتقةُ وتستوي الواحدةُ والعددُ منهن في الربع والثمن
﴿وَإِن كَانَ رَجُلٌ﴾ شروعٌ في بيان أحكامِ القسمِ الثالثِ من الورثة المحتمِلِ للسقوط ووجهُ تأخيرِه عن الأولَيْن بيِّنٌ والمرادُ بالرجل الميتُ وقوله تعالى
﴿يُورَثُ﴾ على البناءِ للمفعولِ من ورِث لامن أَوْرث خبر كان أي يورث منه
﴿كلالة﴾ الكلالةُ في الأصل مصدرٌ بمعنى الكَلالِ وهو ذهابُ القوةِ من الإعياء استُعيرت للقرابة من غير جهة الوالدِ والولد لضعفها بالإضافة إلى قرابتهما وتُطلق على من لم يخلِّفْ ولداً ولا والداً وعلى مَن ليس بوالد ولا ولد من المخلفين بمعنى ذي كلالة كما تطلق القَرابةُ على ذوي القرابة وقد جُوِّز كونُها صفةً كالهَجاجَة والفَقَاقة للأحمق فنصبُها إما على أنها مفعولٌ له أي يورثُ منه لأجل القرابةِ المذكورةِ أو على أنَّها حالٌ من ضمير
﴿أَو امرأة﴾ عطف على رجلٌ مقيدٌ بما قُيِّد به أي أو امرأةٌ تورث كذلك ولعل فَصْلَ ذكرِها عن ذكره للإيذان بشرفه وأصالتِه في الأحكام
﴿وَلَهُ﴾ أي للرجل ففيه تأكيدٌ للإيذان المذكورِ حيث لم يتعرَّضْ لها بعد جَرَيانِ ذكرِها أيضاً وقيل الضميرُ لكل منهما
﴿أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ أي من الأم فحسب وقد قرئ كذلك فإن أحكامَ بني الأعيانِ والعَلاّتِ هي التي ذُكرت في آخرِ السورةِ الكريمةِ والجملةُ في محل النصب على أنها حالٌ من ضمير يورَث أو من رجلٌ على تقدير كون يورث صفة له ومساقها لتصوير المسألةِ وذكرُ الكَلالةِ لتحقيق جريانِ الحكمِ المذكورِ وإن كان مع مَنْ ذُكر ورَثةٌ أخرى بطريق الكلالة وأما جرَيانُه في صورة وجودِ الأمِّ أو الجدةِ مع أن قرابتَهما ليست بطريق الكلالة فبالإجماع
﴿فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا﴾ من الأخ والأختِ
﴿السدس﴾ من غير تفضيلٍ للذكر على الأنثى لأن الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة
﴿فإن كانوا أكثر من ذلك﴾ أي أكثرَ من الأخ أو الأختِ المنفردَيْن بواحد أو بأكثرَ والفاءُ لما مرَّ منْ أنَّ ذكرَ احتمالِ الانفرادِ مستتبِعٌ لذكر احتمالِ التعدد
﴿فَهُمْ شُرَكَاء فِى الثلث﴾ يقتسمونه بالسوية والباقي لبقية الورثةِ من أصحاب الفروض والعصبات هذا وأمَّا تجويزُ أنْ يكونَ يُورَث في القراءة المشهورة مبنياً للمفعول من أورث على أن المرادَ به الوارث والمعنى وإن كان رجلٌ يجعل وارثاً لأجل الكلالةِ أو ذا كلالة ة أى غير والده أو ولده ولذلك الوارث أخ أأو أختٌ فلكل واحدٍ من ذلك الوراث وأخيه أو أختِه السدسُ فإن كانوا أكثر مِن ذلك أي من الاثنين بأن كانوا ثلاثةً أو أكثرَ فهم شركاءُ في الثلث الموزع للاثنين لايزاد عليه شئ فبمعزل من السَّداد أما أولاً فلأن المعتبرَ على ذلك التقدير إنما هي الأخوةُ بين الوارثِ وبين شريكِه في الإرث من أخيه أو أختِه لا ما بينه وبين مورِّثه من الأخوة التي عليها يترتبُ حكمُ الإرثِ وبها يتِمُّ تصويرُ المسألةِ وإنما المعتبرُ بينهما الوراثةُ بطريق الكلالةِ وهي عامةٌ لجميع صورِ القَراباتِ التي لا تكون بالولادة فلا يكون نصيبُه ولا نصيبُ شريكِه مما ذكر بعينه ومن ادَّعى اختصاصَها بالإخوة لأمَ متمسكاً بالإجماع على أن المراد بالكلالة ههنا أولادُ الأمِّ فقد اعترف ببطلان رأيه مِن حيثُ لاَ يحتسبُ كيف لا ومبناه إنما هو الإجماعُ على أن المرادَ بالأخوةِ في قوله تعالى ﴿وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ﴾ هو الإخوةُ لأم خاصةً حسبما شهِدت به القراءةُ المحْكيةُ والآيةُ الآتيةُ في آخرِ السورةِ الكريمةِ ولولا أن الرجلَ عبارةٌ عن الميت والأُخوّةُ معتبرةٌ بينه وبين ورثتِه لما أمكن كونُ الكلِّ أولادَ الأمِّ ثم إن الكلالةَ كما نبّهتُ عليه باقيةٌ على إطلاقها ليس فيها شائبةُ اختصاصٍ بأولاد الأمِّ فضلاً عن الإجماع على ذلك وإلا لاقتصر البيانُ على حكم صورةِ انحصارِ الورثةِ فيهم وإنما الإجماعُ فيما ذكر من أنَّ المرادَ بالأخ والأختِ مَنْ كان لأمَ خاصة وأنتخبير بأن ذلك في قوة الإجماعِ على أن يُورَثَ من ورِث لا من أورث فتدبروا أما ثانياً فلأنه يقتضي أن يكون المعتبرُ في استحقاق الورثةِ في الفرض المذكورِ إخوةً بعضَهم لبعض من جهة الأم لما ذُكر من الإجماع مع
﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ الكلامُ فيه كالذي مر في نظائره خلا أن الدين ههنا موصوفٌ بوصف الوصيةِ جرياً على قاعدة تقييدِ المعطوفِ بما قُيِّد به المعطوفُ عليه لاتفاق الجمهورِ على اعتبار عدمِ المُضارَّةِ فيه أيضاً وذلك إنما يتحقق فيما ثبوتُه بالإقرار في المرض كأنه قيل أو دينٍ يوصى به
﴿غَيْرَ مُضَارّ﴾ حالٌ من فاعل فعلٍ مُضمر يدلُّ عليه المذكورُ وما حُذف من المعطوف اعتماداً عليه كما أنّ رجالٌ في قوله تعالى ﴿يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال رِجَالٌ﴾ على قراءة المبنيِّ للمفعول فاعل لفعل ينبى عنه المذكورُ ومن فاعل الفعلِ المذكورِ والمحذوفِ اكتفاءً به على قراءة البناءِ للفاعل أي يوصى بما ذكر من الوصية والدَّيْن حالَ كونِه غيرَ مضارَ للورثة أي بأن يوصيَ بما زاد على الثلث أو تكونُ الوصية لقصد الإضرارِ بهم دون القُربةِ وبأن يُقِرَّ في المرض بدَين كاذباً وتخصيصُ هذا القيدِ بهذا المقام لما أن الورثةَ مَظِنةٌ لتفريط الميتِ في حقهم
﴿وَصِيَّةً مّنَ الله﴾ مصدرٌ مؤكدٌ لفعل محذوفٍ وتنوينُه للتفخيم ومن متعلقةٌ بمضمر وقع صفةً له مؤكدةً لفخامته الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي يوصيكم بذلك وصيةً كائنةً من الله كقوله تعالى ﴿فَرِيضَةً مّنَ الله﴾ ولعل السرَّ في تخصيص كلَ منهما بمحله الإشعارُ بما بين الأحكامِ المتعلقةِ بالأصول والفروعِ وبين الأحكامِ المتعلّقةِ بغيرهم من التفاوت حسب تفاوُتِ الفريضةِ والوصية وإن كانت كلتاهما واجبة المراعاةِ أو منصوبٌ بغيرَ مُضارَ على أنه مفعولٌ به فإنه اسمُ فاعلٍ معتمدٍ على ذي الحالِ أو منفيٌّ معنىً فيعمل في المفعول الصريحِ ويعضُده القراءةُ بالإضافة أي غيرَ مضارٍ لوصية اللَّهِ وعهدُه لا في شأن الأولادِ فقط كما قيلَ إذْ لا تعلقَ لهم بالمقام بل في شأن الورثةِ المذكورةِ ههنا فإن الأحكامَ المفصَّلةَ كلَّها مندرجةٌ تحت قوله تعالى ﴿يُوصِيكُمُ الله﴾ جاريةٌ مَجرى تفسيرِه وبيانه ومُضارّتُها الإخلالُ بحقوقهم ونقصُها بما ذُكر من الوصية بما زاد على الثلث والوصيةِ لقصد الإضرارِ دون القُربةِ والإقرارِ بالدين كاذباً وإيقاعُها على الوصية مع أنها واقعةٌ على الورثة حقيقةً كما في قوله يار سارق الليلة أهل الدار للمبالغة في الزجر عنها بإخراجها مخرج مضارة أمرالله تعالى ومضادَّتهِ وجعلُ الوصيةِ عبارةً عن الوصية بالثلث فما دونه يقتضي أن يكونَ غيرَ مضارَ حالاً من ضمير الفعلِ المتعلقِ بالوصية فقط وذلك يؤدي إلى الفصل بين الحالِ وعاملِها بأجنبيَ هو المعطوفُ على وصية مع أنه لا تنحسِمُ به مادةُ المضارة لبقاء الإفرار بالدين على إطلاقه
﴿والله عَلِيمٌ﴾ بالمُضارِّ وغيرِه
﴿حَلِيمٌ﴾ لا يُعاجلُ بالعقوبةِ فلا يَغترَّ بالإمهال وإيرادُ الاسمِ الجليلِ مع كفاية الإضمارِ لإدخال الروعةِ وتربيةِ المهابةِ
﴿حُدُودُ الله﴾ أي شرائعه المحدودة التى لاتجوز مجاوزتُها
﴿وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ﴾ في جميع الأوامرِ والنواهي التي من جملتها ما فصل ههنا وإظهار الاسم الجليل لما ذكر آنفاً
﴿يُدْخِلْهُ جنات﴾ نُصب على الظرفية عند الجمهورِ وعلى المفعولية عند الأخفشِ
﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ صفةٌ لجنات منصوبة حسب انتصابِها
﴿خالدين فِيهَا﴾ حالٌ مقدرةٌ من مفعول يدخِلْه وصيغةُ الجمعِ بالنظر إلى جمعية مَنْ بحسب المعنى كما أنَّ إفرادَ الضميرِ بالنظر إلى إفراده لفظاً
﴿وَذَلِكَ﴾ إشارةٌ إِلى مَامرَّ من دخول الجناتِ الموصوفةِ بما ذكرَ على وجه الخلودِ وما فيه من معنى البعد للإيذانب كمال علوِّ درجتِه
﴿الفوز العظيم﴾ الذِي لاَ وصف وراءَه وُصف الفوزُ وهو الظفرُ بالخير بالعظيم إما باعتبار مُتعلّقِه أو باعتبار ذاتهِ فإن الفوزَ بالعظيم عظيمٌ والجملةُ اعتراض
﴿وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ﴾ شرائعَه المحدودة في جميع الأحكامِ فيدخُل فيها ما نحن فيه دخولا أوليا
﴿يدخله﴾ وقرئ بنون العظمةِ في الموضعين
﴿نَارًا﴾ أي عظيمةً هائلةً لايقادر قدرُها
﴿خَالِداً فِيهَا﴾ حال كما سبق ولعل إيثارَ الإفراد ههنا نظراً إلى ظاهر اللفظِ واختيارُ الجمعِ هناك نظراً إلى المعنى للإيذان بأن الخلودَ في دار الثوابِ بصفة الاجتماعِ أجلبُ للأنس كما أن الخلودَ في دار العذاب بصفة الانفرادِ أشدُّ في استجلاب الوحشة
﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ أي وله مع عذاب الحريقِ الجُسماني عذابٌ آخرُ مُبهمٌ لايعرف كُنهُه وهو العذابُ الروحاني كما يُؤْذِنُ به وصفُه والجملةُ حالية
﴿فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مّنْكُمْ﴾ خبر للموصول والفاء للدلالة على سببية مَا في حيزِ الصلةِ للحكم أي فاطلبوا أن يشهَدَ عليهن بإتيانها أربعةٌ من رجال المؤمنين وأحرارِهم
﴿فَإِن شَهِدُواْ﴾ عليهن بذلك
﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى البيوت﴾ أي فاحبِسوهن فيها واجعلوها سِجْناً عليهن
﴿حتى يَتَوَفَّاهُنَّ﴾ أي إلى أن يستوفيَ أرواحَهن
﴿الموت﴾ وفيه تهويلٌ للموت وإبرازٌ له في صورة من يتولى قبض الأرواح
﴿أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ أي يشرع لهن حكماً خاصًّا بهن ولعل التعبيرَ عنه بالسبيل للإيذان بكونه طريقاً مسلوكاً فليس فيه دَلالةٌ على كونه أخفَّ من الحبس كما قاله أبو مسلم
﴿فآذوهما﴾ أي بالتوبيخ والتقريعِ وقيل بالضرب بالنعال أيضا وظاهر أن إجراءَ هذا الحكمِ أيضاً إنما يكون بعد الثبوتِ لكنْ ترك ذكره تعويلاً على ما ذُكر آنفاً
﴿فَإِن تَابَا﴾ عما فعلا من الفاحشة بسبب ما لقيا من زواجرِ الأذيةِ وقوارعِ التوبيخِ كما ينبئ عنه الفاء
﴿وَأَصْلَحَا﴾ أي أعمالهما
﴿فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا﴾ بقطع الأذيةِ والتوبيخِ فإن التوبةَ والصلاحَ مما يمنع استحقاقَ الذمِّ والعقابِ وقد جُوِّز أن يكون الخطابُ للشهود الواقفين على هَناتهما ويراد بالإيذاء ذمُّهما وتعنيفُهما وتهديدُهما بالرفع إلى الولاة وبالإعراض عنهما تُرك التعرُّضُ لهما بالرفع إليهما قيل كانت عقوبةُ الفريقين المذكورين في أوائل الإسلامِ على مامر من التفصيل ثم نُسخ بالحدّ لما رُوي أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال خُذوا عني خُذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً الثيبُ تُرجم والبِكرُ تُجلد وقيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً وكانت عقوبةُ الزناةِ مطلقا الأذى ثم الحبسُ ثم الجلدُ ثم الرجمُ وقد جُوِّز أن يكون الأمرُ بالحبس غيرَ منسوخٍ بأن يُتركَ ذكرُ الحدِّ لكونه معلوماً بالكتاب والسنة ويوصى بإمساكهن في البيوت بعد إقامةِ الحدِّ صيانةً لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروجِ من البيوت والتعرُّضِ للرجال ولا يخفى أنه ممَّا لا يساعدُهُ النظمُ الكريمُ وقال أبو مسلم وقد عزاه إلى مجاهد إن الأولى في السّحّاقات وهذه في اللوّاطين وما في سورة النورِ في الزناة والزواني متمسكاً بأن المذكورَ في الولى صيغةُ الإناثِ خاصةً وفي الثانية صيغةُ الذكورِ ولا ضرورة إلى المصير إلى التغليب على أنه لا إمكانَ له في الأولى ويأباه الأمرُ باستشهاد الأربعةِ فإنه غيرُ معهودٍ في الشرع فيما عدا الزنا
﴿إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً﴾ مبالغاً في قبول التوبةِ
﴿رَّحِيماً﴾ واسعَ الرَّحمةِ وهو تعليلٌ للأمر بالإعراض
﴿لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء﴾ خبرُه وقولُه تعالى على الله متعلقٌ بما تعلَّق بهِ الخبرُ من الاستقرار فإن تقديمُ الجار والمجرور على عامله المعنويِّ مما لا نزاعَ في جوازه وكذا الظرفُ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ضمير المبتدإ المستكنِّ فيما تعلقَ بهِ الخبرُ على رأي من جوَّز تقديمَ الحالِ على عاملها المعنويِّ عند كونِها ظرفاً
﴿بجهالة﴾ متعلق يمحذوف وقع حالاً من فاعل يعملون أي يعملون السوءَ ملتبسين بها أي جاهلين سفهاءَ أو بيعملون على أن الباء سببية أي بعملونه بسبب الجهالةِ لأن ارتكابَ الذنبِ مما يدعو إليه الجهلُ وليس المرادُ به عدمَ العلمِ بكونه سوءاً بل عدمَ التفكرِ في العاقبة كما يفعله الجاهلُ قال قتادة اجتمع أصحابُ الرسول ﷺ فرأوا أن كل شئ عصى به ربَّه فهو جهالةٌ عمداً كان أو خطأ وعن مجاهد من عصى الله تعالى فهو جاهلٌ حتى ينزِعَ عن جهالته وقال الزجاج يعني بقوله بجهالة اختيارَهم اللذة الفانيةَ على اللذة الباقية
﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ﴾ أي من زمان قريب وهو ما قبلَ حضورِ الموت كما ينبى عنه ما يسأتي من قوله تعالى حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت الخ فإنَّه صريحٌ في أن وقت الاختصار هو الوقتُ الذي لا تقبل فيه التوبةُ فبقيَ ماوراءه في حيِّز القَبول وعن ابن عباس رضي الله عنهما قبل أن ينزِلَ به سلطانُ الموتِ وعن الضحاك كلُّ توبةٍ قبل الموتِ فهو قريبٌ وعن إبراهيمَ النخعى مالم يُؤخَذْ بكَظَمِه وهو مجرى النفَس وروى أبو أيوبَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أن اللَّهَ تعالى يقبل توبة العبد مالم يغرغر وعن عطاء ولو قبل موته بفُواق ناقة وعن الحسن أن إبليسَ قال حين أُهبط إلى الأرض وعزتِك لا أفارق ابنَ آدمَ ما دام روحُه في جسده فقال تعالى وعزتي لا أُغلق عليه باب التوبة مالم يُغرغِرْ ومن تبعيضيةٌ أي يتوبون بعضَ زمانٍ قريبٍ كأنه سمى مابين وجودِ المعصيةِ وبين حضورِ الموتِ زماناً قريباً ففي أي جُزءٍ تاب من أجزاء هذا الزمانِ فهو تائب
﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارةٌ إلى المذكورين من حيث اتصافُهم بما ذُكر وما فيهِ من معنى البُعد باعتبار كونِهم بانقضاء ذكرِهم في حكم البعيدِ والخطابُ للرسول ﷺ أو لكل أحد ممن يصلُح للخطاب وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى
﴿يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ﴾ وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم وهذا وعدٌ بقَبول توبتهم إثرَ بيانِ أن التوبة لهم والفاءُ للدِلالة على سببيتها للقَبول
﴿وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً﴾ مبالِغاً في العلمِ والحِكمةِ فيبني أحكامَه وأفعالَه على أساس الحِكمةِ والمصلحةِ والجملةُ اعتراضيةٌ مقررة لمضمون ما قبلها وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موضع الإضمارِ للإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ فإنَّ الألوهية منشأ لاتصافه تعالى بصفات الكمالِ
﴿حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الان﴾ حتى حرفُ ابتداءٍ والجملةُ الشرطيةُ بعدها غايةٌ لما قبلها أي ليس قبولُ التوبةِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئاتِ إلى حضور موتِهم وقولهم حينئذٍ إني تبتُ الآنَ وذكرُ الآن لمزيد تعيينِ الوقتِ وإيثارُ قال على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبارِ والتحاشي عن تسميته توبةً
﴿وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ عطفٌ على الموصول الذي قبله أي ليس قبولُ التوبةِ لهؤلاء ولا لهؤلاء وإنما ذُكر هؤلاء مع أنه لا توبةَ لهم رأساً مبالغة في بيان عدمِ قبولِ توبةِ المُسوِّفين وإيذاناً بأن وجودَها كعدمها بل في تكرير حرفِ النفيِ في المعطوف إشعارٌ خفيٌّ بكون حالِ المسوِّفين في عدم استتباعِ الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر والمرادُ بالموصولَيْن إما الكفارُ خاصةً وإما الفساقُ وحدهم وتسميتُهم في الجملة الحاليةِ كفاراً للتغليظ كما في قوله تعالى ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين﴾ وأما ما يعمُّ الفريقين جميعاً فالتسميةُ حينئذٍ للتغليب ويجوز أن يراد بالأول الفسقَةُ وبالثاني الكفرةُ ففيه مبالغةٌ أخرى
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى الفريقين وما فيه من معنى البعد للإيذان بترامي حالهم في الفظاعة وبُعدِ منزلتِهم في السوء وهو مبتدأٌ خبرُه
﴿أَعْتَدْنَا لَهُمْ﴾ أي هيأنا لهم
﴿عَذَاباً أَلِيماً﴾ تكريرُ الإسناد لما مر من تقوية الحكم وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بكون العذابِ مُعدًّا لهم وتنكير العذاب ووصفُه للتفخيم الذاتي والوصفي
﴿وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ﴾ عطفاً على ترِثوا ولا لتأكيد النفْي والخطابُ للأزواج والعضْلُ الحبسُ والتضييقُ ومنه عضَلت المرأةُ بولدها إذا اختنقت رحِمُها فخرج بعضُه وبقيَ بعضُه أي ولا أن تُضَيِّقوا عليهن
﴿لِتَذْهَبُواْ ببعض ما آتيتموهن﴾ أي من الصَّداق بأن يدفعن إليكم بعضَه اضطراراً فتأخُذوه منهن وإنما لم يُتعرَّضْ لفعلهن إيذاناً بكونه بمنزلة العدمِ لصدوره عنهن اضطراراً وإنما عُبّر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ ولا بالإذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمُّنِه لأمرين كلٌّ منهما محظورٌ شنيعُ الأخذِ والإذهابِ منهن لأنه عبارةٌ عن الذهاب مستصحباً به
﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ﴾ على صيغة الفاعلِ من بيَّن بمعنى تبين وقرئ على صيغة المفعولِ وعلى صيغة الفاعل من أبان بمعنى تبين أي بيِّنةِ القُبحِ من النشوز وشكاسةِ الخلُقِ وإيذاءِ الزوجِ وأهلِه بالبَذاء والسَّلاطةِ ويعضُده قراءة أُبي إلا أنْ يُفْحِشْن عليكُم وقيل الفاحشة الزنا وهو استئناءٌ من أعمِّ الأحوالِ أو أعمِّ الأوقاتِ أو أعمِّ العللِ أي ولا يحلِ لكم عضْلُهن في حالٍ من الأحوالِ أو في وقتٍ من الأوقات أولعلة من العِللِ إلا في حال إتيانِهن بفاحشة أو إلا في وقت إتيانِهن أو إلا لإتيانهن بها فإن السببَ حينئذٍ يكون من جهتهن وأنتم معذورن في طلب الخُلْع
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف﴾ خطابٌ للذين يُسيئون العشرة معهن والمعروف مالا يُنكِرُه الشرعُ والمروءةُ والمرادُ ههنا النَّصَفَةُ في المبيت والنفقةُ والإجمال في المقال ونحو ذلك
﴿فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ﴾ وسئِمْتم صُحبتَهن بمقتضى الطبيعةِ من غير أن يكون من قِبَلهن ما يُوجبُ ذلك من الأمور المذكورةِ فلا تفارِقوهن بمجرد كراهةِ النفسِ واصبِروا على معاشرتهن
﴿فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ علةٌ للجزاء أُقيمت مُقامه للإيذان بقوة استلزامِها إياه كأنه قيل فإن كرِهتُموهن فاصبِروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرَهونه خيراً كثيراً ليس فيما تُحبّونه وعسى تامةٌ رافعةٌ لما بعدها مُستغنيةٌ عن تقدير الخبر أبي فقد قرَّبتْ كراهتُكم شيئاً وجعل اللَّهُ فيه خيراً كثيراً فإن النفسَ ربما تكره ما هو أصلحُ في الدين وأحمدُ عاقبةً وأدنى إلى الخير وتحبُّ ما هو بخلافه فليكنْ نظرُكم إلى ما فيه خيرٌ وصلاحٌ دون ما تهوى أنفسُكم وذكرُ الفعلِ الأولِ مع الاستغناء عنه وانحصارُ العلية في الثاني للتوسل إلى تعميم مفعولِه ليُفيدَ أن ترتيبَ الخيرِ الكثيرِ من الله تعالى ليس مخصوصاً بمكروه دون مكروهٍ بل هو سنةٌ إلهية جاريةٌ على الإطلاق حسَبَ اقتضاءِ الحكمةِ وأن ما نحن فيه مادةٌ من موادّها وفيهِ من المبالغةِ في الحمل على ترك المفارقةِ وتعميمِ الإرشادِ ما لايخفي وقرى ويجعلُ مرفوعاً على أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف والجملة حاليةٌ تقديرُه وهو أي ذلك الشئ يجعل اللَّهُ فيه خيراً كثيراً وقيل تقديرُه واللَّهُ يجعل بوضع المُظهر موضِعَ المُضمرِ وتنوينُ خيراً لتفخيمه الذاتي ووصفُه بالكثرة لبيان فخامته الوصفية والمراد به ههنا الولدُ الصالحُ وقيل الأُلفةُ والمحبة
﴿مَّكَانَ زَوْجٍ﴾ ترغبون عنها بأن تُطلقوها
﴿وآتيتُمْ إحْدَاهُنَّ﴾ أي إحدى الزوجاتِ فإن المرادَ بالزوج هو الجنس
﴿قِنْطَاراً﴾ أي مالاً كثيراً
﴿فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ﴾ أي من ذلك القنطارِ
﴿شَيْئاً﴾ يسيراً فضلاً عن الكثير
﴿أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لتقرير النهْي والتنفيرِ عن المنهيِّ عنه والاستفهامُ للإنكار والتوبيخِ أي أتأخذونه باهتين وآثمين أو للبهتان والإثم فإن أحدَهم كان إذا تزوج امرأةً بَهَت التي تحته بفاحشة حتى يُلجِئَها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرِفه إلى تزوج الجديدةِ فنُهوا عن ذلك والبهتانُ الكذبُ الذي يبهَتُ المكذوبَ عليه ويُدهِشه وقد يستعمل في الفعل الباطلِ ولذلك فسر ههنا بالظلم وقوله عز وجل
﴿وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ﴾ حالٌ من فاعل تأخُذونه مفيدةٌ لتأكيد النكيرِ وتقريرِ الاستبعادِ أي على أيّ حالٍ أو في أي حالٍ تأخُذونه والحالُ أنه قد جرى بينكم وبينهن أحوالٌ منافيةٌ له من الخَلْوة وتقرُّرِ المَهرِ وثبوتِ حقِّ خِدْمتِهن لكم وغير ذلك
﴿وَأَخَذْنَ مِنكُم ميثاقا غَلِيظاً﴾ عطفٌ على ما قبله داخلٌ في حُكمهِ أيْ أخذْنَ منكم عهداً وثيقاً وهو حقُّ الصحبةِ والمعاشرةِ أو ما أوثق اللَّهُ تعالى عليهم في شأنهن بقوله تعالى فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان أو ما أشار إليه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بقوله أخذتموهن بأمانة الله واستحللم فروجَهن بكلمة الله تعالى
﴿مّنَ النساء﴾ بيانٌ لما نُكِح على الوجهين
﴿إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ استثناءٌ مما نكَحَ مفيدٌ للمبالغة في التحريم بإخراج الكلامِ مُخرَجَ التعليقِ بالمُحال على طريقةِ قولهِ... ولا عيبَ فيهم غيرَ أن سيوفيهم... بهن فُلولٌ من قراع الكتائبِ... والمعنى لا تنكِحوا حلائلَ آبائِكم إلا من ماتت منهن والمقصودُ سدُّ طريقِ الإباحةِ بالكلية ونظيرُه قوله تعالى ﴿حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط﴾ وقيل هو استثناء مما يستلزِمُه النهي ويستوجبه مباشرةً المنهي عنه
﴿إِنَّهُ كَانَ فاحشة وَمَقْتاً﴾ فإنه تعليلٌ للنهي وبيانٌ لكون المنهيِّ عنه في غاية القُبحِ مبغوضاً أشدَّ البُغضِ وأنه لم يزَلْ في حُكمِ الله تعالى وعلمِه موصوفاً بذلك ما رَخَّص فيه لأمة من الأمم فلا يلائم أن يُوسَّطَ بينهما ما يُهوِّن أمرَه من ترك المؤاخذة على ماسلف منه
﴿وَسَاء سَبِيلاً﴾ في كلمة سَاء قولانِ أحدُهما أنها جاريةٌ مَجرى بئسَ في الذم والعملِ ففيها ضميرٌ مُبْهمٌ يفسِّره ما بعدَهُ والمخصوصُ بالذم محذوفٌ تقديرُه وساء سبيلاً سبيلُ ذلك النكاحِ كقوله تعالى بِئْسَ الشراب أي ذلك الماءُ وثانيهما أنها كسائر الأفعالِ وفيها ضميرٌ يعود إلى ما عاد إليه ضميرُ أَنَّهُ وسبيلاً تمييز والجملةُ إما مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو معطوفة على خبر كان محكيةٌ بقول مُضْمرٍ هو المعطوفُ في الحقيقة تقديرُه ومقولاً في حقه ساء سبيلاً فإن ألسنةَ الأممِ كافةً لم تزَلْ ناطفة بذلك في الأعصار والأمصار قيل مراتبُ القُبحِ ثلاثٌ القبحُ الشرعيُّ والقبحُ العقليُّ والقبحُ العاديُّ وقد وصف الله تعالى هذا النكاحَ بكل ذلك فقولُه تعالى فاحشة مرتبةُ قُبحِه العقليِّ وقولُه تعالى وَمَقْتاً مرتبةُ قبحِه الشرعيِّ وقولُه تعالى وَسَاء سَبِيلاً مرتبةُ قبحِه العاديِّ وما اجتمع فيه هذه المراتبُ فقد بلغَ أقصى مراتبِ القُبحِ
﴿وأمهاتكم الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وأخواتكم مّنَ الرضاعة﴾ نزّل الله تعالى الرَّضاعة منزلةَ النَسَب حتى سمَّى المُرضِعةَ أماً للرضيع والمراضعة أختاً وكذلك زوجُ المرضعةِ أبوه وأبواه جدّاه وأختُه عمتُه وكلُّ ولدٍ وُلد له من غير المُرْضِعة قبلَ الرّضاعِ وبعده فهم إخوتُه وأخواتُه لأبيه وأمُّ المرضعةِ جدتُه وأختُها خالتُه وكل من ولد من هذا الزوجِ فهم أخوانه وأخواتُه لأبيه وأمه ومِنْ ولدها من غيره فهم إخوتُه وأخواتُه لأمه ومنْهُ قولُه عليهِ السَّلامُ يحرُم من الرضاعة ما يحرُم من النَسَب وهو حكمٌ كليٌّ جارٍ على عمومه وأما أمُّ أخيه لأب وأختُ ابنِه لأم وأمُّ أمِّ ابنِه وأمُّ عمِّه وأمُّ خالِه لأب فليست حرمتُهن من جهة النسبِ حتى يحِلَّ بعمومه ضرورةَ حلِّهن في صور الرضاعِ بل من جهة المصاهرةِ ألا يُرى أن الأولى موطوءةُ أبيه والثانيةَ بنتُ موطوءتِه والثالثةَ أمُّ موطوءتِه والرابعةَ موطوءةُ جدِّه الصحيحِ والخامسةَ موطوءةُ جدِّه الفاسد
﴿وأمهات نِسَائِكُمْ﴾ شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرةِ إثرَ بيان المحرَّماتِ من جهة الرَّضاعةِ التي لها لُحمةٌ كلُحمةِ النَسبِ والمرادُ بالنساء النكوحات على الإطلاق سواءٌ كن مدخولا بهن أولا وعليه جمهورُ العلماء روي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال في رجل تزوج امرأةً ثم طلقها قبل أن يدخل بها إنه لا بأس بأن يتزوجَ ابنتَها ولا يحِلُّ له أن يتزوجَ أمَّها وعن عمرَ وعِمرانَ بنِ الحصين رضيَ الله عنهما أنَّ الأمَّ تحرُم بنفس العقدِ وعن مسروقٍ هي مُرسلةٌ فأرسِلوا ما أرسلَ الله وعن ابن عباس أبهِموا ما أبهم الله خلا أنه روي عنه وعن علي وزيد وابنِ عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم قرءوا وأمهاتُ نسائِكم اللاتي دخلتم بهن وعن جابر روايتان وعن سعيد بن المسيب عن زيد أنه إذا ماتت عنده فأخذ ميراثَها كُره أن يخلُفَ على أمها وإذا طلقها قبل أن يدخُل بها فإن شاء فَعَل أقام الموتَ في ذلك مُقام الدخولِ كما قام مقامَه في باب المهرِ والعِدّةِ ويُلحقُ بهن الموطوءاتُ بوجه من الوجوه المعدودةِ فيما سبَق والممسوساتُ ونظائرُهن والأمهاتُ تعم المرضِعاتِ كما تعم الجداتِ حسبما ذكر
﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللاتى فِى حُجُورِكُمْ﴾ الربائبُ جمعُ ربيية فعيل بمعنى مفعول والتَّاءُ للنقلِ إلى الاسميَّةِ والربيبُ ولدُ المرأةِ من آخَرَ سمي به لأنه يرُبُّه غالباً كما يرُبُّ ولدَه وإن لم يكن ذلك أمراً مطَّرِداً وهو المعنيُّ بكونهن في الحُجور فإن شأنهن الغالبَ المعتادَ أن يكنّ في حضانة أمهاتِهن تحت حماية أزواجهن لاكونهن كذلك بالفعل وفائدةُ وصفِهن بذلك تقويةُ عِلةِ الحُرمةِ وتكميلها كما أنها النُّكتةُ في إيرادهن باسم الربائبِ دون بناتِ النساءِ فإن كونَهن بصدد احتضانِهم لهن وفي شرف التقلّبِ في حجورهم وتحت حمايتِهم وتربيتِهم مما يقوِّي الملابسةَ والشبَهَ بينهن وبين أولادِهم ويستدعي إجراءَهن مُجرى بناتِهم لا تقييدُ الحرمةِ بكونهن في حجورهم بالفعل كما رُوي عن عليَ رضيَ الله عنه وبه أخذ داودُ ومذهبُ جمهورِ العلماءِ ما ذكر أولاً بخلاف ما في قوله تعالى
﴿مّن نِّسَائِكُمُ اللاتى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ فإنه لتقييدها به قطعاً فإن
﴿فَإِن لَّمْ تكونوا﴾ أي فيما فبل
﴿دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ أصلاً
﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ أي في نكاح الربائبِ وهو تصريحٌ بما أَشعَرَ به ما قبله والفاءُ الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن بيانَ حكمِ الدخولِ مستتبِعٌ لبيانِ حكمِ عدمِه
﴿وحلائل أَبْنَائِكُمُ﴾ أي زوجاتُهم سُمّيت الزوجةُ حليلةً لحِلّها للزوج أو لحلولها في محله وقيل لَحِلّ كلَ منهما إزارَ صاحبِه وفي حكمهن مزْنياتُهم ومَن يجرين مَجراهن من الممسوسات ونظائرِهن وقولُه تعالى
﴿الذين مِنْ أصلابكم﴾ لإخراج الأدعياءِ دون أبناءِ الأولادِ والأبناءِ من الرَّضاع فإنهم وإن سفلوا في حكم الأنباء الصلبية
﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين﴾ في حيز الرفعِ عطفاً على ما قبله من المحرمات والمرادُ به جمعُهما في النكاح لا في ملك اليمن وأما جمعُهما في الوطء بملك اليمن فملحقٌ به بطريق الدِلالةِ لاتحادهما في المدار ولقوله عليه الصلاة والسلام مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخرِ فلا يجمَعَنّ ماءَه في رحم أختين بخلاف نفسِ ملكِ اليمينِ فإنه ليس في معنى النكاحِ في الأفضاء إلى الوطء ولا مستلزِماً له ولذلك يصَحُّ شراءُ المجوسيةِ دون نكاحِها حتى لو وطئهما لايحل له وطءُ إحداهما حتى يحرُمَ عليه وطءُ الأخرى بسبب من الأسباب وكذا لو تزوج أختَ أَمَتِه الموطوءةِ لا يحل له وطء إحداهما حتى يحرم عليه الأخرى لأن المنكوحةَ موطوءةٌ حكماً فكأنه جمعهما وطأ وإسنادُ الحرمةِ إلى جمعهما لا إلى الثانية منهما بأن يقال وأخواتُ نسائِكم للاحتراز عن إفادة الحُرْمةِ المؤبدةِ كما في المحرماتِ السابقة ولكونه بمعزلٍ من الدِلالة على حرمة الجمعِ بينهما على سبيل المعية ويشترك في هذا الحكمِ الجمعُ بين المرأةِ وعمتِها ونظائرِها بل أولى فإن العمةَ والخالةَ بمنزلة الأمِّ فقوله عليه السلام لا تُنكحُ المرأةُ على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها من قبيل بيان التفسير لابيان التغييرِ وقيل هو مشهورٌ يجوز به الزيادةُ على الكتاب
﴿إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ استثناءٌ منقطعٌ أي لكِنْ ما قد مضى لاتؤاخذون به ولا سبيل إلى جعله متصلاً بقصد التأكيدِ والمبالغةِ كما مر فيما سلف لأن قوله تعالى
﴿إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ تعليلٌ لما أفاده الاستثناءُ فيتحتم الانقطاعُ وقال عطاء والسدي معناه إلا ما كان من يعقوبَ عليه السلام فإنه قد جمع بين ليا أمِّ يهوذا وبين راحيلَ أم يوسف عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وَلاَ يساعده التعليلُ لأن ما فعله يعقوبُ عليه السلام كان حلالاً في شريعته وقالَ ابنُ عباسٍ رضيَ الله عنهما أهلُ الجاهليةِ يحرِّمون مَا حَرَّمَ الله
﴿مّنَ النساء﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً منها أي كائناتٍ من النساء وفائدتُه تأكيدُ عمومِها لا دفع توهُّمِ شمولِها للرجال بناءً على كونها صفةً للأنفس كما تُوهِّم
﴿إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أيمانكم﴾ استثناءٌ من المحصَنات استثناءَ النوعِ من الجنس أي ملكتُموه وإسنادُ المِلكِ إلى الأَيْمان لما أن سببَه الغالبَ هو الصفةُ الواقعةُ بها وقد اشتهر ذلك في الأرقاء لاسيما في إناثهم وهن المراداتُ ههنا رعايةً للمقابلة بينه وبين مِلكِ النكاحِ الواردِ على الحرائر والتعبيرُ عنهن بما لإسقاطهن بما فيهن من قصور الرقِّ عن رتبة العقلاءِ وهي إما عامةٌ حسب عمومِ صلتِها فالاستثناءُ حينئذ ليس لإخراج جميعِ أفرادِها من حكم التحريمِ بطريق شمولِ النفي بل بطريق نفيِ الشمولِ المستلزِمِ لإخراج بعضِها أي حُرمت عليكم المحصَناتُ على الإطلاق إلا المحصناتِ اللاتي ملكتُموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لايحرم نكاحُهن في الجملة وهن المسببات بغير أزواجِهن أو مطلقاً حسب اختلافِ الرأيين وإما خاصةٌ بالمذكورات فالمعنى حُرمت عليكم المحصناتُ إلا اللاتي سُبِين فإن نكاحَهن مشروعٌ في الجملة أي لغير مُلاّكِهن وأما حِلُّهن لهم بحكم ملكِ اليمينِ فمفهومٌ بدِلالة النصِّ لاتحاد المَناطِ لابعبارته لما عرفتَ من أنَّ مَساقَ النظمِ الكريمِ لبيانِ حرمةِ التمتعِ بالمحرمات المعدودةِ بحكم ملكِ النكاحِ وإنما ثبوتُ حرمةِ التمتعِ بهن بحكم ملك اليمن بطريق دِلالةِ النصِّ وذلك مما لا يجري فيه الاستثناءُ قطعاً وأما عدُّهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفُرقةِ بينهن وبين أزواجهن قطعا بالتباين أو بالسبْي على اختلاف الرأيين فمبنيٌّ على اعتقاد الناسِ حيث كانوا حينئذ غافلين عن الفُرقة ألا يُرى إلى ما رُوي عن أبي سعيدٍ الخدريُّ رضيَ الله عنه من أنه قال أصبْنا يومَ أوطاس سبايا لهن أزواج فكرهنا أن تقع عليهن فسألنا النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وفي رواية عنه قلنا يا رسول الله كيف نقع على
﴿كتاب الله﴾ مصدرٌ مؤكّدٌ أي كتَبَ الله
﴿عَلَيْكُمْ﴾ تحريمَ هؤلاءِ كتاباً وفرضه فرضاً وقيل منصوبٌ على الإغراء بفعل مضمر أى مؤكد أي الزَموا كتابَ الله وعليكم متعلقٌ إما بالمصدر وإما بمحذوف وقع حالاً منه وقيل هو إغراءٌ آخَرُ مؤكدٌ لما قبله قد حُذف مفعولُه لدِلالة المذكورِ عليه أو بنفس عليكم على رأي من جوّز تقديمَ المنصوبِ في باب الإغراءِ كما في قوله... يأيها امائح دَلْوي دونكا... إني رأيتُ الناس يحمدونكا...
وقرئ كُتُبُ الله بالجمع والرفع أي هذه فرائضُ الله عليكم وقرئ كتَبَ الله بلفظ الفعل
﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ﴾ عطفٌ على حُرّمت عليكم الخ وتوسيطُ قوله تعالى كتاب الله عَلَيْكُمْ بينهما للمبالغة في الحمل على المحافظة على المحرمات المذكورة وقرئ على صيغة المبنيِّ للفاعلِ فيكون معطوفاً على الفعل المقدّرِ وقيل بل على حرمت الخ فإنهما جملتانِ متقابلتانِ مؤسِّستانِ للتحريم والتحليلِ المنوطَيْن بأمر الله تعالى ولا ضير في اختلاف المُسندِ إليه بحسب الظاهِرِ لاسيما بعد ما أُكّدت الأولى بما يدل على أن المحرِّمَ هو الله تعالى
﴿مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ﴾ إشارةٌ إلى ما ذكر من المحرمات المعدودةِ أي أُحِلَّ لكم نِكاحُ ما سواهن انفراداً وجمعاً ولعل إيثارَ اسمِ الإشارةِ المتعرِّضِ لوصفِ المشارِ إليه وعنوانِه على الضمير المتعرِّضِ للذات فقط لتذكير ما في كل واحدةٍ منهن من العنوان الذي عليه يدور حُكمُ الحرمةِ فيُفهم مشاركةُ مَنْ في معناهن لهن فيها بطريق الدلالةِ فإن حرمةَ الجمعِ بين المرأةِ وعمتِها وبينها وبين خالتِها ليست بطريق العبارة بل بطريق الدِلالةِ كما سلف وقيل ليس المرادُ بالإحلالِ الإحلال مطلقاً أي على جميع الأحوالِ حتى يردَ أنه يلزمُ منه حِلُّ الجمعِ بين المرأةِ وعمتِها وبينها وبين خالتِها بل إنما هو إحلالُهن في الجملة أي على بعض الأحوالِ ولا ريب في حل نكاحِهن بطريق الانفرادِ ولا يقدَحُ في ذلك حرمتُه بطريق الجمع إلا يرى أن حرمةَ نكاحِ المعتدّةِ والمطلقةِ ثلاثاً والخامسةِ ونكاحِ الأمةِ على الحرة ونكاحِ الملاعنة لاتقدح في حل نكاحِهن بعد العدةِ وبعد التحليلِ وبعد تطليقِ الرابعةِ وانقضاءِ العدةِ وبعد تطليقِ الحرةِ وبعد إكذابِ الملاعِنِ نفسَه وأنت خبير بأن الحلَّ يجب أن يتعلق ههنا بما تعلق به الحرمةُ فيما سلف وقد تعلق ههنا بالجمع فلا بد أن يتعلق الحل به أيضاً
﴿أَن تَبْتَغُواْ﴾ متعلق بالفعلين المذكورين على أنَّه
﴿بأموالكم﴾ بصَرْفها إلى مهورهن أو بدا اشتمالٍ مما وراءَ ذلكم بتقدير ضميرِ المفعولِ
﴿مُّحْصِنِينَ﴾ حالٌ من فاعل تبتغوا والإحصانُ العفةُ وتحصينُ النفسِ عن الوقوع فيما يوجب اللومَ والعِقابَ
﴿غَيْرَ مسافحين﴾ حال ثانية منه أو حالٌ من الضمير في محصِنين والسِفاحُ الزنا والفجورُ من السَّفْح الذي هو صبُّ المنيِّ سُمّي به لأنه الغرضُ منه ومفعولُ الفعلين محذوفٌ أي محصِنين فروجَكم غيرَ مسافحين الزّواني وهي في الحقيقة حالٌ مؤكدةٌ لأن المحصَنَ غيرُ مسافحٍ ألبتةَ وما في قوله تعالى
﴿فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ﴾ إما عبارةٌ عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال وعلى التقديرين فهي إما شرطيةٌ ما بعدها شرطُها وإما موصولةٌ ما بعدها صلتُها وأياً ما كان فهي مبتدأٌ خبرُها على تقدير كونِها شرطيةً إما فعلُ الشرطِ أو جوابُه أو كلاهما على الخلاف المعروفِ وعلى تقدير كونِها موصولةً قولُه تعالى
﴿فآتوهنَّ أجورهُنَّ﴾ والفاءُ لتضمُّن الموصولِ معنى الشرطِ ثم على تقدير كونِها عبارةً عن النساء فالعائدُ إلى المبتدأ هو الضميرُ المنصوبُ في فآتوهن سواءٌ كانت شرطيةً أو موصولةً ومن بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ محلُّها النصبُ عَلى الحاليةِ منَ الضميرِ المجرورِ في به والمعنى فأيُّ فردٍ استمتعتم به أو فالفردُ الذي استمتعتم به حالَ كونِه من جنس النساءِ أو بعضِهن فآتوهن أجورهن وقد روعيَ تارةً جانبُ اللفظِ فأُفرِدَ الضميرُ أولاً وأخرى جانبُ المعنى فجمع ثانياً وثالثاً وأما على تقدير كونِها عبارةً عما يتعلق بهن فمن ابتدائيةٌ متعلقةٌ بالاستمتاع والعائدُ إلى المبتدأ محذوفٌ والمعنى أيُّ فعلٍ استمتعتم به من جهتهن من نكاح أو خلوةٍ أو نحوِهما أو فالفعلُ الذي استمتعتم به من قِبَلهن من الأفعال المذكورةِ فآتوهن أجورَهن لأجله أو بمقابلته والمرادُ بالأجور المهورُ فإنها أجورُ أبضاعِهن
﴿فَرِيضَةً﴾ حالٌ من الأجور بمعنى مفروضةً أو نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي إيتاءً مفروضاً أو مصدرٌ مؤكدٌ أي فُرض ذلك فريضةً أي لهن عليكم
﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ﴾ أي لا إثمَ عليكم فيما تراضيتم به من الحط عن المهر أو الإبراءِ منه على طريقة قولِه تعالى ﴿فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ﴾ إثرَ قوله تعالى ﴿وآتوا النساء صدقاتهن﴾ وقوله تعالى ﴿إَّلا أَن يَعْفُونَ﴾ وتعميمُه للزيادة على المسمى لايساعده رفعُ الجُناحِ عن الرجال لأنها ليست مَظِنةَ الجُناحِ إلا أن يجعل الخطاب للأزواج تغليباً فإن أخذَ الزيادةِ على المسمّى مظِنةُ الجُناحِ على الزوجة وقيل فيما تراضيتم به من نفقة ونحوِها وقيل من مقام أو فِراقٍ ولا يساعدُه قولُه تعالى
﴿مِن بَعْدِ الفريضة﴾ إذ لا تعلقَ لهما بالفريضة إلا أن يكون الفِراقُ بطريق المخالعةِ وقيل نزلت في المتعة التي هي النكاحُ إلى وقت معلومٍ من يوم أو أكثرَ سُمِّيت بذلك لأن الغرضَ منها مجردُ الاستمتاعِ بالمرأة واستمتاعِها بما يُعطى وقد أبيحت ثلاثةَ أيامٍ حين فُتحت مكةَ شرَّفها الله تعَالَى ثم نُسخت لما روي أنه عليه السلام أباحها ثم أصبح يقول يا أيها الناسُ إني كنتُ أمرتُكم بالاستمتاع من هذه النساءِ ألا أنَّ الله حَرَّمَ ذلك إلى يومِ القيامةِ وقيلَ أُبيح مرتين وحُرِّم مرتين ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه رجَع عن القول بجوازه عند موتِه وقال اللهم إني أتوبُ إليك من قولي بالمتعة وقولي في الصرْف
﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً﴾ في مصالح العبادِ
﴿حَكِيماً﴾ فيما شرَع لهم من الأحكام ولذلك شرَع لكم هذه الأحكامَ اللائقة بحالكم
﴿طولا﴾ أو غنىً وسعة أي اعتلاءً ونيلا وأصله الزيادة أي اعتلاء والفضلُ مفعولٌ ليستطِعْ وَقَولُهُ عزَّ وَجَلَّ
﴿أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات﴾ إما مفعولٌ صريح لطَولاً فإن أعمالَ المصدرِ المنوَّنِ شائعٌ ذائعٌ كما في قوله تعالى أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ كأنه قيل ومن لم يستطعْ منكم أن ينال نكاحَهن وإما بتقدير حرفِ الجرِّ أي ومن لم يستطع منكم غِنىً إلى نكاحهن أو لنكاحهن فالجارُّ في محل النصبِ صفةٌ لطولاً أي طَوْلاً مُوصِلاً إليه أو كائناً له أو على نكاحهن على أن الطَولَ بمعنى القُدرة في القاموس الطَّوْلُ والطائلُ والطائلةُ الفَضْلُ والقُدْرَةُ والغِنَى والسَّعَةُ ومحلُّ أن بعد حذفِ الجارِّ نَصْبٌ عند سيبويهِ والفراءِ وجرٌّ عند الكسائيِّ والأخفشِ وإما بدلٌ من طولاً لأن الطَوْلَ فضلٌ والنكاحُ قدرةٌ وإما مفعولٌ ليستطِعْ وطَوْلاً مصدرٌ مؤكدٌ له لأنه بمعناه إذ الاستطاعةُ هي الطَّوْلُ أو تمييزٌ أي ومن لم يستطع منكم نكاحهن استطاعته أو من جهة الطَوْل والغِنى أي لا من جهة الطبيعةِ والمزاجِ فإن عدمَ الاستطاعةِ من تلك الجهةِ لا تعلقَ له بالمقامِ والمرادُ بالمحصنات الحرائرُ بدليل مقابلتِهن بالمملوكات فإن حريتَهن أحصَنَتْهن عن ذل الرقِّ والابتذالِ وغيرِهما من صفات القصورِ والنقصان وقوله عز وجل
﴿فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم﴾ إما جوابٌ للشرط أو خبرٌ للموصول والفاءُ لتضمُّنه معنى الشرطِ والجارُّ متعلقٌ بفعل مقدرٍ حُذف مفعولُه وما موصولةٌ أي فلينكِح امرأةً أو أمةً من النوع الذي ملكتْه أيمانُكم وهو في الحقيقة متعلقٌ بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول المحذوف ومِنْ تبعيضيةٌ أي فلينكِح امرأةً كائنةً من ذلك النوعِ وقيل مِنْ زائدةٌ والموصولُ مفعولٌ للفعل المقدر أي فلينكِحْ ما ملكتْه أيمانُكم وقولُه تعالى
﴿مّن فتياتكم المؤمنات﴾ في محل النصب على الحالية من الضمير المقدر ملكت الراجعِ إلى ما وقيل هو المفعولُ للفعل المقدر على زيادة من ومما ملكتْ متعلقٌ بنفس الفعلِ ومن لابتداء الغايةِ أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فتياتكم ومِنْ للتبعيض أي فلينكِحْ فتياتِكم كائناتٍ بعضَ ما ملكت أيمانُكم والمؤمناتِ صفةٌ لفتياتكم على كل تقدير وقيل هو المفعولُ للفعل المقدرِ ومما ملكت على ما تقدم آنفاً ومن فتياتكم حالٌ من العائد المحذوفِ وظاهرُ النظمِ الكريمِ يفيد عدمَ جواز نكاح الأمة للمستطيع كما ذهب اليه الشافعيِّ رحمَهُ الله تَعَالَى وعدم جوازِ نكاحِ الأمةِ الكتابيةِ أصلاً كما هو رأيُ أهلِ الحجازِ وقد جوزهما أبو حنيفة رحمه الله تعالى متمسكاً بالعمومات فمَحْمَلُ الشرطِ والوصفِ هو الأفضليةُ ولا
﴿والله أَعْلَمُ بإيمانكم﴾ جملة معترضة جئ بها لتأنيسهم بنكاح الإماءِ واستنزالِهم من رتبة الاستنكافِ منه ببيان أن مناطَ التفاضُل ومدارَ التفاخُرِ هو الإيمانُ دون الأحساب والأنسابِ على ما نطقَ به قولُه عز قائلا ﴿يا أيها الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم﴾ والمعنى أنه تعالى أعلمُ منكم بمراتبكم في الإيمان الذي به تنتظِمُ أحوالُ العبادِ وعليه يدور فلَكُ المصالحِ في المعاش والمعادِ ولا تعلّقَ له بخصوص الحريةِ والرقِّ فرُبّ أمةً يفوق إيمانُها إيمانَ الحرائرِ وقولُه تعالى
﴿بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ﴾ إن أريد به الاتصالُ من حيث الدينُ فهو بيانٌ لتناسبهم من تلك الحيثيةِ إثرَ بيانِ تفاوتِهم في ذلك وإن أريد به الاتصالُ من حيث النسبُ فهو اعتراضٌ آخرُ مؤكدٌ للتأنيس من جهة أخرى والخطابُ في الموضعين إما لمن كما في الخطاب الذي يعقُبه قد روعيَ فيما سبق جانبُ اللفظ وههنا جانبُ المعنى والالتفاتُ للاهتمام بالترغيب والتأنيس وإما لغيرهم من المسلمين كالخِطابات السابقةِ لحصول الترغيبِ بخطابهم أيضاً وإياما كان فإعادةُ الأمرِ بالنكاح على وُجِّه الخطابِ في قولِه تعالَى
﴿فانكحوهن﴾ مع انفهامه من قوله تعالى ﴿فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم﴾ حسبما ذُكر لزيادة الترغيبِ في نكاحهن وتقييدُه بقوله تعالى
﴿بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ﴾ وتصديرُه بالفاء للإيذان بترتبه على ما قبله أي وإذْ قد وقفتم على جلية الأمرِ فانكِحوهن بإذن مواليهن ولاتترفعوا عنهن وفي اشتراط إذنِ الموالي دون مباشرتِهم للعقد إشعارٌ بجواز مباشرتِهن له
﴿وآتوهنَّ أجُورَهُنَّ﴾ أي مهورَهن
﴿بالمعروف﴾ متعلقٌ بآتوهن أي أدّوا إليهن مهورَهن بغير مَطْلٍ وضِرارٍ وإلجاءٍ إلى الاقتضاء واللزِّ حسبما يقتضيه الشرعُ والعادةُ ومن ضرورته أن يكون الأداءُ إليهن بإذن الموالي فيكونُ ذكرُ إيتائِهن لبيان جوازِ الأداءِ إليهن لا لكون المهورِ لهن وقيل أصلُه آتُوا موالِيَهن فحُذف المضافُ وأُوصل الفعلُ إلى المضاف إليه
﴿محصنات﴾ حال من مفعول فانكِحوهن أي حال كونِهن عفائفَ عن الزنا
﴿غَيْرَ مسافحات﴾ حالٌ مؤكدةٌ أي غيرَ مجاهراتٍ به
﴿وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ﴾ عطفٌ على مسافحات ولا لتأكيد ما في غَيْرِ من معنى النفى الخدن الصاحُب قال أبو زيد الأخدن الأصدقاءُ على الفاحشة والواحد خِدنٌ وخَدين والجمعُ للمقابلة بالانقسام على معنى ان لا يكونَ لواحدة منهن خِدنٌ لا على مَعْنى أنَّ لا يكونَ لها أخدانٌ أي غيرَ مجاهراتٍ بالزنا ولا مُسِرّاتٍ له وكان الزنا في الجاهلية منقسماً إلى هذين القسمين
﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ﴾ أي بالتزويج وقرئ على البناء للفاعل أي أحصن فروجهن أو أزواجَهن
﴿فَإِنْ أَتَيْنَ بفاحشة﴾ أي فعلْن فاحشةً وهى الزنا
﴿فعليهن﴾ فثابت عليهن شرعاً
﴿نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات﴾ أي الحرائرِ الأبكارِ
﴿مّنَ العذاب﴾ من الحد الذي هو جَلدُ مائةٍ فنصفُه خمسون كما هو كذلك قبل الإحصانِ فالمرادُ بيانُ عدمِ تفاوتِ حدِّهن بالإحصان كتفاوت حدِّ الحرائرِ فالفاءُ في فَإِنْ أَتَيْنَ جواب إذا والثانيةُ جوابُ إنْ والشرطُ الثاني مع جوابه مترتبٌ على وجود الأولِ كما في قولك إذا أتيتَني فإنْ لم أكرِمْك فعبدي حرٌّ
﴿ذلك﴾ أي نكاحُ الإماءِ
﴿لِمَنْ خَشِىَ العنت مِنْكُمْ﴾ أي لمن خاف وقوعَه في الإثم الذي تؤدّي إليه غلبةُ الشهوةِ وأصلُ العنَتِ انكسارُ العظْمِ بعد الجبْرِ فاستُعير لكل مشقةٍ وضررٍ يعتري الإنسانَ بعد
﴿وَأَن تَصْبِرُواْ﴾ أي عن نكاحهن متعفِّفين كآفّين أنفسَكم عما تشتهيه من المعاصي
﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ من نكاحهن وإن سبَقَت كلمةُ الرُّخصةِ فيه لما فيه من تعريض الولدِ للرق قال عمرُ رضي الله عنه أيُّما حرَ تزوّج بأمة فقد أرَقَّ نصفَه وقالَ سعيدُ بنُ جُبَيرٍ ما نكاحُ الأمةِ من الزنا إلا قريبٌ ولأن حقَّ المولى فيها أقوى فلا تخلُصُ للزوج خُلوصَ الحرائرِ ولأن المولى يقدِرُ على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضَرِ وعلى بيعها للحاضرِ والبادي وفيه من اختلال حالِ الزوجِ وأولادِه مالا مزيدَ عليه ولأنها مُمتهنةٌ مبتذَلةٌ خرّاجةٌ ولاّجةٌ وذلك كلُّه ذلٌّ ومهانةٌ ساريةٌ إلى الناكح والعزةُ هي اللائقةُ بالمؤمنين ولأن مَهرَها لمولاها فلا تقدِر على التمتع به ولا على هِبته للزوج فلا ينتظم أمرُ المنزلِ وقد قال ﷺ الحرائِرُ صلاحُ البيتِ والإماءُ هلاكُ البيتِ
﴿والله غَفُورٌ﴾ مبالِغٌ في المغفرة فيغفرُ لمن لم يصبِرْ عن نكاحهن مافى ذلك من الأمور المنافيةِ لحال المؤمنين
﴿رَّحِيمٌ﴾ مبالغٌ في الرحمة ولذلك رَخّص لكم في نكاحهن
﴿وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين من قبلكم﴾ من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم
﴿وَيَتُوبَ عليكم﴾ إذا تبتم إليه تعالى عما يقع منكم من النقصير والتفريط في مراعاة ماكلفتموه من الشرائع فإن المكلفَ قلما يخلو من تقصير يستدعي تلافِيَه بالتوبة ويغفرُ لكم ذنوبَكم أو يُرشدُكم إلى ما يردعكم عن المعاصي ويحثُكم على التوبة أو إلى ما يكون كفارةً لسيئاتكم وليس الخطابُ لجميع المكلفين حتى يتخلفَ مراده تعالى عن إرادته فيمن لم يتُبْ منهم بل لطائفة معينةٍ حصَلت لهم هذه التوبةُ
﴿والله عَلِيمٌ﴾ مبالغٌ في العلم بالأشياء التي من جملتها
﴿حَكِيمٌ﴾ مُراعٍ في جميع أفعالِه الحكمةَ والمصلحةَ
﴿وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات﴾ للإشارة إلى الحدوثِ وللإيماء إلى كمالِ المباينةِ مضموني الجملتين كما مر في قوله تعالى ﴿الله ولي الذين آمنوا﴾ الآية والمراد بمبتعى الشهواتِ الفَجَرةُ فإن اتّباعَها الائتمارُ بها وأما المتعاطي لما سوّغه الشرعُ من المشهيات دون غيرِه فهو متّبعٌ له لا لها وقيل هم اليهودُ والنصارى وقيل هم المجوسُ حيث كانوا يُحِلون الأخواتِ من الأب وبنات الخ وبناتِ الأختِ فلما حرَّمهن الله تعالى قالوا فإنكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة مع أن العمةَ والخالةَ عليكم حرامٌ فانكِحوا بناتِ الأخِ والأختِ فنزلت
﴿أَن تَمِيلُواْ﴾ عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهواتِ واستحلالِ المحرماتِ وتكونوا زناةً مثلَهم وقرئ بالياء التحتانية والضميرُ للذين يتبعون الشهواتِ
﴿مَيْلاً عَظِيماً﴾ أي بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئةً على نُدرة بلا استحلالٍ
﴿وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً﴾ عاجزاً عن مخالفة هواه غيرَ قادرٍ على مقابلة دواعيه وقواه حيث لا يصبِرُ عن اتباع الشهواتِ ولا يستخدم قواه في مشاقِّ الطاعاتِ وعن الحسن أن المرادَ ضَعفُ الخِلْقةِ ولا يساعده المقام فإن الجلمة اعتراضٌ تذييليٌّ مَسوقٌ لتقرير ما قبله من التخفيف بالرُخصة في نكاح الإماءِ وليس لضعف البُنيةِ مدخلٌ في ذلك وإنما الذي يتعلق به التخفيفُ في العبادات الشاقةِ وقيل المراد به ضعفُه في أمر النساءِ خاصة حيث لا يصبِرُ عنهن وعن سعيد بن المسيِّب ما أيِسَ الشيطانُ من بني آدمَ قطُّ إلا أتاهم من قبل النساءِ فقد أتى عليَّ ثمانون سنةً وذهبت إحدى عينى وانا أعشوا بالأخرى وإن أخوفَ ما أخاف على فتنةُ النساءِ وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما وخَلَق الإنسانَ على البناء للفاعل والضمير له عز وجل وعنْهُ رضيَ الله عنْهُ ثماني آياتٍ في سورة النساء هنّ خيرٌ لهذه الأمةِ مما طلعت عليه الشمسُ وغربت ﴿يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ﴾ ﴿والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ ﴿يُرِيدُ الله أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ﴾ ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ﴾ ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ ﴿إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذرة وإن تك حسنة يضاعفها﴾ ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ ﴿مَّا يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم﴾
﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ﴾ استثناءٌ منقطِعٌ وعن متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لتجارةً أي إلا أن تكون التجارةُ تجارةً صادرةً عن تراض كما في قوله... إذَا كان يوما ذا كواكب اشنعا... أي إذا كان اليومُ يوما الخ أو الاأن تكون الأموالُ أموالَ تجارة وقرئ تجارةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ أي ولكن اقصِدوا كونَ تجارةً عن تراض أي وقوعَها أو ولكن وجودَ تجارةً عن تراض غيرِ منهيَ عنه وتخصيصها بالذكر من بيان سائرِ أسبابِ المُلكِ لكونها معظمها وأغلبها وقوعا وأوافقها لذوي المروءاتِ والمرادُ بالتراضي مراضاةُ المتبايعَيْن فيما تعاقدا عليه في حال المبايعةِ وقتَ الإيجابِ والقبولِ عندنا وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله حالة الاقتراق عن مجلس العقد
﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ﴾ أي مَنْ كان من جنسكم من المؤمنين فإن كلَّهم كنفس واحدة وعن الحسن لاتقتلوا إخوانَكم والتعبيرُ عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم بتصويره بصورةِ ما لا يكاد يفعلُه عاقلٌ أولا تُهلِكوا أنفسَكم بتعريضها للعقاب باقتراف ما يُفضي إليه فإنه القتل الحقيقى لها كما يُشعِرُ به إيرادُه عَقيبَ النهي عن أكل الحرامِ فيكونُ مقرَّراً للنهي السابق وقيل لاتقتلوا أنفسَكم بالبخْع كما يفعله بعضُ الجهلةِ أو بارتكاب ما يؤدي إلى القتل من الجنايات وقيل بإلقائها في التهلُكة وأُيِّد بما روى عن عمر بنِ العاص أنه تأوله بالتيمم لخوف البردِ فلم ينكر عليه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقرئ ولا تُقتِّلوا بالتشديد للتكثير وقد جُمع في التوصية بين حفظِ النفسِ وحفظِ المالِ لما أنه شقيقُها من حيثُ أنَّه سببٌ لقوامها وتحصيل كمالاته واستيفاءِ فضائلِها وتقديمُ النهي عن التعرض له لكثرة وقوعِه
﴿إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ تعليل للنهي بطريق الاستئنافِ أي مبالغاً في الرحمة والرأفةِ ولذلك نهاكم عما نهى فإن ذلك رحمةً عظيمةً لكم بالزجر عن المعاصي وللذين هم في معرِض التعرُّض لهم بحفظ أموالِهم وأنفسِهم وقيل معناه إنه كان بكم يا أمةَ محمدٍ رحيماً حيث أمرَ بني إسرائيلَ بقتلهم أنفسَهم ليكون توبةً لهم وتمحيصاً لخطاياهم ولم يكلِّفْكم تلك التكاليفَ الشاقةَ
﴿عدوانا وَظُلْماً﴾ أي إفراطاً في التجاوز عن الحد وإتياناً بما لا يستحقّه وقيل أُريد بالعدوان التعدّي على الغير بالظلم الظلمُ على النفس بتعريضها للعقاب ومحلُّها النصبُ عَلى الحاليّةِ أو على العلية أى معتديا وظالما أوللعدوان والظلم وقرئ عدوانا بكسر العين
﴿فَسَوْفَ نُصْلِيهِ﴾ جوابٌ للشرط أى ندخله وقرئ بالتشديد من صلّى وبفتح النون من صَلاة يَصْليه ومنه شاةٌ مَصْليةٌ ويُصليه بالياء والضمير لله تعالى أو لذلك من حيث غنه سببٌ للصَّلْي
﴿نَارًا﴾ أي ناراً مخصوصةً هائلةً شديدةَ العذابِ
﴿وَكَانَ ذلك﴾ أي إصلاؤُه النار
﴿عَلَى الله يَسِيراً﴾ لتحقق الداعي وعدمِ الصارفِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفات لتربيةِ المهابةِ وتأكيدِ استقلالِ الاعتراضِ التذييليِّ
﴿نُكَفّرْ عَنْكُمْ﴾ بنون العظمةِ على طريقة الالتفات وقرئ بالياء بالإسنادِ إليه تعالى والتكفير إما طة المستحَقِّ من العقاب بثوابٍ أزيد أو بتوبة أي نغفِرْ لكم
﴿سَيّئَاتِكُمْ﴾ صغائرَكم ونمحُها عنكم قال المفسرون الصلاةُ إلى الصلاة والجمعةُ إلى الجمعة ورمضانُ إلى رمضانَ مكفِّراتٌ لما بينهن من الصغائر إذا اجتُنِبَت الكبائرُ واختلف في الكبائر والأقربُ أن الكبيرةَ كلُّ ذنبٍ رتّب الشارعُ عليه الحدَّ او صرح بالوعيد وقيل ما عُلم حرمتُه بقاطع وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنها سبعٌ الإشراكُ بالله تعالى وقتلُ النفسِ التي حرمها الله تعالى وقذفُ المحصناتِ وأكلُ مالِ اليتيمِ والربا والفِرارُ من الزحف وعقوقُ الوالدين وعَنْ عليَ رضيَ الله عنه التعقب بعد الهجرةِ مكان عقوقِ الوالدين وزاد ابنُ عمر رضى الله عنهما السحرَ واستحلالَ البيتِ الحرامِ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال له الكبائر سبعٌ قال هي إلى سبعمائةٍ أقربُ منها إلى سبع روى عنه إلى سبعين إذْ لا صغيرةَ مع الإصرار ولا كبيرةَ مع الاستغفار وقيل أريد به أنواعُ الشركِ لقوله تعالى ﴿إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء﴾ وقيل صِغرُ الذنوب وكِبَرُها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها وبحسب فاعلِها بل بحسب الأوقاتِ والأماكنِ أيضاً فأكبرُ الكبائرِ الشركُ وأصغر الصغار حديثُ النفسِ وما بينهما وسايط يصدق عليه الأمر أن فمن عن له أمر أن منها ودعت نفسُه إليهما بحيث لا يتمالك فكفّها عن أكبرهما كُفّر عنه ما ارتكبه لمااستحق على اجتناب الأكبرِ من الثواب
﴿وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً﴾ بضم الميم اسمُ مكانٍ هو الجنة
﴿كَرِيماً﴾ أي حسَناً مَرْضياً أو مصدرٌ ميميٌّ أي إدخالاً مع كرامةً وقرئ بفتح الميم وهو أيضاً يحتمل المكانَ والمصدر ونصبُه على الثاني بفعل مقدرٍ مطاوِعٍ للمذكور أي ندخلكم فتدخلون مدخلاً أو دخولاً كريماً كما في قوله... وعضةُ دهر يأبن مروانَ لم تَدَع... مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ...
أيْ لَم تدعَ فلم يبْقَ إلا مسحتٌ الخ
﴿لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبوا وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكتسبن﴾ فإنه صريحٌ في جريان التمني بين فريقي الرجالِ والنساءِ ولعل صيغةَ المذكرِ في النهى لما عبر عنهن بالبعض والمعنى لكلَ من الفريقين في الميراث نصيبٌ معينُ المقدارِ مما أصابه بحسَب استعدادِه وقد عُبّر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارةِ التبعيةِ المبنيةِ على تشبيه اقتضاءِ حالِه لنصيبه باكتسابه إياه تأكيداً لاستحقاق كلَ منهما لنصيبه وتقويةً لاختصاصه به بحيث لايتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجبه الانتهاءُ عن التمني المذكور وقوله تعالى
﴿واسألوا الله مِن فَضْلِهِ﴾ عطفٌ على النهي وتوسيطُ التعليلِ بينهما لتقرير الانتهاءِ مع ما فيه من الترغيب في الامتثالِ بالأمر كأنه قيل لاتتمنوا ما يختصُّ بغيركم من نصيبه المكتَسبِ له واسألوا الله تعالى من خزائن نعمة التى لانفاد لها وحُذف المفعولُ الثاني للتعميم أي واسألوه ما تريدون فإنه تعالى يعطيكُموه أو لكونه معلوماً من السياق أي واسألوه مثلَه وقيل مِنْ زائدةٌ والتقديرُ واسألوه فضلَه وقد جاءَ في الحديثِ لا يتمنّينّ أحدُكم مالَ أخيه ولكن ليقل اللهم ارزُقني اللهم أعطِني مثلَه وعن ابن مسعود رضي الله عنْهُ أنَّ رسولَ الله ﷺ قال سَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ فإنَّهُ يُحِبُّ أن يُسألَ وأفضلُ العبادةِ انتظارُ الفرجِ وحملُ النصيبِ على الأجر الأُخرويِّ وإبقاءُ الاكتسابِ على حقيقته بجعل سببِ النزولِ ما رُوي أن أم سلمة رضيَ الله عَنْهَا قالتْ ليت الله كتب علينا الجهادَ كما كتبه على الرجال فيكونَ لنا من الأجر مثلُ ما لَهم على أن المعنى لكلَ من الفريقين نصيبٌ خاصٌّ به من الأجر مترتبٌ على عمله فللرجال أجرٌ بمقابلة ما يليقُ بهم من الأعمال كالجهاد ونحوه وللنساء أجرٌ بمقابلة ما يليق بهن من الأعمال كحفظ حقوق الأزواج ونحوه فلا تتمنى النساءُ خصوصيةَ أجرِ الرجالِ ولْيَسألْنَ من خزائن رحمتِه تعالى ما يليق بحالهن من الأجر لا يساعده سياقُ النظمِ الكريمِ المتعلق بالمواريث وفضائلِ الرجالِ
﴿إِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيماً﴾ ولذلك جعل الناسَ على طبقات ورفَع بعضَهم على بعض درجاتٍ حسب مراتبِ استعداداتِهم الفائضةِ عليهم بموجب المشيئةِ المبنيةِ على الحِكَم الأبيةِ
﴿والذين عَقَدَتْ أيمانكم﴾ هم موالي الموالاةِ كان الحليف يورث السدسَ من مال حليفِه فنُسخ بقوله تعالى وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ وعند أبي حنيفةَ رحمَهُ الله إذا أسلم رجلٌ على يد رجلٍ وتعاقدا على أن يرثَه ويعقِلَ عنه صح وعليه عقْلُه وله إرثُه إن لم يكن له وارثٌ أصلاً وإسنادُ العقدِ إلى الأَيْمان لأن المعتادَ هو المماسحةُ بها عند العقدِ والمعنى عقَدَتْ أيمانكم وما سحتموه وهو مبتدأ مضمن لمعنى الشرطِ ولذلك صُدِّر الخبر أعني قوله تعالى
﴿فآتوهم نصيبهم﴾ بالفاء أو منصوبٌ بمضمر يفسّره ما بعده كقولك زيداً فاضرِبْه أو مرفوعٌ معطوفٌ على الوالدان والأقربون وقوله تعالى فآتوهم الخ جملةٌ مبيِّنةٌ للجملة قبلها ومؤكِّدةٌ لها والضميرُ للموالي
﴿إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء﴾ منَ الأشياء التي من جملتها الإيْتاءُ والمنعُ
﴿شَهِيداً﴾ ففيه وعدٌ ووعيد
﴿بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ الباءُ سببيةٌ متعلقة بقوامون أوبمحذوف وقع حالاً من ضميره وما مصدريةٌ والضميرُ البارزُ لكِلا الفريقين تغليباً أي قوامون عليهن بسبب تفضبل الله تعالى إياهم عليهن أو ملتبسين بتفضيله تعالى الخ ووضعُ البعضِ موضِعَ الضميرين للإشعار بغاية ظهورِ الأمرِ وعدمِ الحاجةِ إلى التصريحِ بالمفضّل والمفضّل عليه أصلا ولمثل ذلك لم يصرَّحْ بما به التفضيلُ من صفات كمالِه التي هي كمالُ العقلِ وحسنُ التدبيرِ ورزانةُ الرأي ومزيدُ القوة في الأعمال والطاعاتِ ولذلك خُصّوا بالنبوة والإمامةِ والولايةِ وإقامةِ الشعائرِ والشهادةِ في جميع القضايا ووجوبِ الجهادِ والجمعةِ وغير ذلك
﴿وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم﴾
﴿فالصالحات﴾ شروعٌ في تفصيل أحوالِهن وبيانِ كيفية القيامِ عليهن بحسب اختلافِ أحوالِهن أي فالصالحاتُ منهن
﴿قانتات﴾ أي مطيعاتٌ لله تعالى قائماتٌ بحقوق الأزواج
﴿حافظات للغيب﴾ أى لموجب الغيبِ أي لما يجب عليهن حفظُه في حال غيبةِ الأزواجِ من الفروج والأموال عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم خيرُ النساءِ امرأةٌ إن نظَرتَ إليها سرّتْك وإن أمرتها أطاعتْك وإذا غِبت عنها حفِظَتْك في مالها ونفسها وتلا الآية وقيل لأسرارهم وإضافةُ المالِ إليها ى للإشعار بأن مالَه في حق التصرفِ في حكم مالِها كما في قوله تعالى ولا تؤتوا السفاء أموالكم الآية
﴿بِمَا حَفِظَ الله﴾ ما مصدرية أي بحفظه تعالى إياهم بالأمر بحفظ الغيبِ والحثِّ عليه بالوعد والوعيد والتوفيقِ له أو موصولةٌ أي بالذي حفِظَ الله لهن عليهم من المَهر والنفقةِ والقيامِ بحفظهن والذبِّ عنهن وقرئ بما حفِظ الله بالنصب على حذفِ المضافِ أي بالأمر الذي حفِظ حقَّ الله تعالى وطاعتَه وهو التعفف والشفقة على الرحال
﴿واللاتى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ خطابٌ للأزواج وإرشادٌ لهم إلى طريق القيام عليهن والخوفُ حالةٌ تحصُل في القلب عند حدوثِ أمرٍ مكروهٍ أو عند الظنِّ أو العلمِ بحدوثه وقد يُراد به أحدُهما أي تظنون عِصيانَهن وترفُّعَهن عن مطاوعتكم من النشَز وهو المرتفع من الأرض
﴿فَعِظُوهُنَّ﴾ فانصحوهن بالترغيب والترهيب
﴿واهجروهن﴾ بعد ذلك إن لم ينفَع الوعظُ والنصيحةُ
﴿فِى المضاجع﴾ أي في المراقد فلا تُدْخِلوهن تحت اللحف ولا تباشِروهن فيكون كنايةً عن الجمع وقيل المضاجعُ المبايتُ أي لا تبايتوهن وقرئ في المضْجَع وفي المُضْطجع
﴿واضربوهن﴾ أن لم ينجح ما فعلتم من العظة والهُجران ضرباً غيرَ مبرِّحٍ ولا شائنٍ
﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ﴾ بذلك كما هو الظاهرُ لأنه منتهى ما يعد زاجراً
﴿فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾ بالتوبيخ والأذيةِ أي فأزيلوا عنهن التعرّضَ واجعلوا ما كان منهن كأنه لم يكن فإنَّ التائبَ منَ الذنبِ كمنْ لا ذنبَ لَهُ
﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾ فاحذَروه فإنه تعالى أقدرُ عليكم منكم على مَنْ تحت أيديكم أو أنه تعالى على علو شأنِه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوبُ عليكم عند توبتِكم فأنتم أحقُّ بالعفو عن أزواجكم عند إطاعتهن لكم أوأنه يتعالى ويكبُر أن يظلمَ أحداً أو ينقُصَ حقَّه وعدمُ التعرضِ لعدم إطاعتِهن لهم للإيذان بأن ذلك ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يتحققَ أو يُفرضَ تحققُه وأن الذي يُتوقع منهن ويليق بشأنهن لاسيما بعد ما كان من الزواجر هو الإطاعةُ ولذلك صُدِّرت الشرطيةُ بالفاء المُنْبئةِ عن سببية ما قبلَها لما بعدَها
﴿فابعثوا﴾ أي إلى الزوجين لإصلاح ذاتِ البَينِ
﴿حُكْمًا﴾ رجلاً وسطاً صالحاً للحكومة والإصلاحِ
﴿مّنْ أَهْلِهِ﴾ من أهل الزوج
﴿وَحَكَماً﴾ آخرَ على صفة الأولِ
﴿مّنْ أَهْلِهَا﴾ فإن الأقاربَ أعرفُ ببواطن الأحوالِ وأطلبُ للصلاح وهذا على وجه الاستحبابِ فلو نُصِبا من الأجانب جاز واختلف في أنهما هل يليان الجمعَ والتفريقَ إن رأيا ذلك فقيل لهما ذلك وهو المروى عن عليَ رضيَ الله عنه وبه قال الشعبيُّ وعن الحسن يَجمعان ولا يفرِّقان وقال مالكٌ لهما أن يتخالعا إن كان الصلاحُ فيه
﴿إِن يُرِيدَا﴾ أي الحَكَمان
﴿إصلاحا﴾ أي إن قصدا إصلاحَ ذاتِ البينِ وكانت نيتُهما صحيحةً وقلوبُهما ناصحةً لوجه الله تعالى
﴿يُوَفّقِ الله بَيْنَهُمَا﴾ يوقِع بين الزوجين الموافقةَ والأُلفةَ وألقى في نفوسهما المودةَ والرأفةَ وعدمُ التعرضِ لذكر عدمِ إرادتِهما الإصلاحَ لما ذُكر من الإيذان بأن ذلك ليسَ ممَّا ينبغِي أنْ يُفرَضُ صدورُه عنهما وأن الذي يليق بشأنهما ويُتوَقّعُ صدورُه عنهما هو إرادةُ الإصلاحِ وفيه مزيدُ ترغيبٍ للحَكَمين في الإصلاح وتحذير عن المساهلة كيلا يُنسَبَ اختلالُ الأمرِ إلى عدم إرادتِهما فإن الشرطيةَ الناطقة بدور أن وجودِ التوفيقِ على وجود الإرادةِ منبئةٌ عن دوران عدمِه على عدمها وقيل كلا الضميرين للحكَمين أي إن قصد الإصلاحِ يوفقِ الله بينهما فتتّفقَ كلمتُهما ويحصُلَ مقصودُهما وقيل كلاهما للزوجين أي إن أرادا إصلاحَ ما بينَهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الأُلفةَ والوِفاقَ وفيه تنبيهٌ على أن من أصلح نيتَه فيما يتوخاه وفقه الله لمبتغاه
﴿إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾ بالظواهر والبواطنِ فيعلم كيف يرفعُ الشقاقَ ويوقعُ الوفاقَ
﴿وبالوالدين إحسانا﴾ أى أحسنوا بهما إحسانا
﴿وَبِذِى القربى﴾ أي بصاحب القرابةِ من أخ أو عمَ أو خالٍ أو نحو ذلك
﴿واليتامى والمساكين﴾ من الأجانب
﴿والجار ذِى القربى﴾ أي الذي قرُب جواره وقيل الذي له مع الجِوار قُربٌ واتصال بنسب أودين وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيماً لحق الجارِ ذي القربى
﴿والجار الجنب﴾ أي البعيدِ أو الذي لا قرابةَ له وعنه عليه الصلاة والسلام الجيرانُ ثلاثةٌ فجارٌ له ثلاثةُ حقوقٍ حقُّ الجِوارِ وحقُّ القرابةِ وحق الإسلامِ وجارٌ له حقان حقُّ الجوارِ وحقُّ الإسلام وجارٌ له حقٌّ واحدٌ وهو حقُّ الجِوارِ وهو الجارُ من أهل الكتاب وقرئ والجار الجنب
﴿والصاحب بالجنب﴾ أي الرفيقِ في أمر حسنٍ كتعلُّم وتصرُّف وصناعةٍ وسفرٍ فإنه صحِبَك وحصل بجانبك ومنهم من قعد بجنبك في مسجد أو مجلسٍ أو غيرِ ذلك من أدنى صحبةٍ التَأَمَتْ بينك وبينه وقيل هي المرأةُ
﴿وابن السبيل﴾ هو المسافرُ المنقطِعُ به أو الضيفُ
﴿وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم﴾ من العبيدِ والإماءِ
﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً﴾ أي متكبراً يأنف عن أقاربه وجيرانِه وأصحابه ولايلتفت إليهم
﴿فَخُوراً﴾ يتفاخرُ عليهم والجملةُ تعليلٌ للأمر السابق
﴿ويكتمون ما آتاهم الله من فَضْلِهِ﴾ أي من المال والغِنى أو من نعوته عليه السلام التي بيّنها لهم في التوراة وهو أنسبُ بأمرهم للناس بالبخل فإن أحبارَهم كانوا يكتُمونها ويأمرون أعقابَهم بكتمها
﴿وَأَعْتَدْنَا للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً﴾ وُضع الظاهرُ موضعَ المُضمرِ إشعاراً بأن مَنْ هذا شأنُه فهو كافرٌ بنعمة الله تعالى ومن كان كافراً بنعمة الله تعالى فله عذابٌ يُهينُه كما أهان النعمةَ بالبخل والإخفاءِ والآيةُ نزلت في طائفة من اليهود وكانوا يقولون للأنصار بطريق النصيحةِ لاتنفقوا أموالَكم فإنا نخشى عليكم الفقرَ وقيل في الذين كتموا نعتَ رسولِ الله ﷺ والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبلها
اومبتدأ خبرُه محذوفٌ يدلُّ عليه قوله تعالى وَمَن يَكُنِ الخ كأنه قيل والذين يُنْفِقُونَ أموالهم رِئَاء الناس
﴿وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر﴾
﴿وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَاء قِرِيناً﴾ أي فقرينُهم الشيطانُ وإنما حُذف للإيذان بظهوره واستغنائِه عن التَّصريح به والمرادُ به إبليسُ وأعوانُه حيث حملوها على تلك القبائحِ وزيَّنوها لهم كما في قوله تعالى ﴿إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين﴾ ويجوز أن يكون وعيداً لهم بأن الشيطانَ يُقرَنُ بهم في النار
﴿لو آمنوا بالله واليوم الاخر وَأَنفَقُواْ من ما رَزَقَهُمُ الله﴾ أي ابتغاءَ لوجه الله تعالى وإنَّما لم يصرَّحْ به تعويلاً على التفصيل السابقِ واكتفاءً بذكر الإيمانِ بالله واليومِ الآخرِ فإنه يقتضي أن يكون الإنفاقُ لابتغاء وجهِه تعالى وطلَبِ ثوابه الْبتةَ أي ماالذى عليهم أو وأي تَبعةٍ ووبالٍ عليهم في الإيمان بالله والإنفاقِ في سبيله وهو توبيخٌ لهم على الجهل بمكان المنفعةِ والاعتقادِ في الشئ بخلاف ما هو عليه وتحريضٌ على التفكر لطلب الجوابِ لعله يؤدّي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلةِ والعوائدِ الجميلةِ وتنبيهٌ على أن المدعو إلى أمر لاضرر فيه ينبغي أن يُجيبَ إليه احتياطاً فكيف إذا كان فيه منافع لاتحصى وتقديم الإيمان بهما لأهمية في نفسه ولعدم الاعتدادِ بالإنفاق بدونه وأما تقديمُ إنفاقِهم رئاءَ الناسِ على عدم إيمانِهم بهما مع كون المؤخَّرِ أقبحَ من المقدَّمِ فلرعاية المناسبةِ بين إنفاقِهم ذلك وبين ما قبله من بُخلهم وأمرِهم للناس به
﴿وَكَانَ الله بِهِم﴾ وبأحوالهم المحقّقةِ
﴿عَلِيماً﴾ فهو وعيدٌ لهم بالعقاب أو بأعمالهم المفروضة فهو بيان لإثابته تعالى إياهم لو كانوا قد آمنوا وأنفقوا كما ينبئ عنه قوله تعالى
﴿وَإِن تَكُ حَسَنَةً﴾ أي وإن تك مثقالَ ذرةٍ حسنةً أنَّث لتأنيث الخبرِ أو لإضافته إلى الذرة وحُذِف النونُ من غير قياسٍ تشبيهاً بحروف العلةِ وتخفيفاً لكثرة الاستعمال وقرئ حسَنةٌ بالرفعِ على أنَّ كانَ تامةٌ
﴿يضاعفها﴾ أي يضاعفْ ثوابَها جعل ذلك مضاعفةً لنفس الحسَنةِ تنبيهاً على كمال الاتصالِ بينهما كأنهما شئ واحد وقرئ يُضْعِفْها وكلاهما بمعنى واحد وقرئ نُضاعِفْها بنون العظمةِ على طريقة الالتفات عن عثمانَ النهدي أنه قال لأبي هريرةَ رضيَ الله عنه بلغني عنك أنك تقول سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الله تعالى يعطي عبدَه المؤمنَ بالحسنة ألفَ ألفِ حسنةٍ قال أبو هريرة لابل سمعته ﷺ يقول
﴿وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ﴾ ويعطِ صاحِبَها من عنده على نهج التفضُّلِ زائداً على ما وعده في مقابلة العملِ
﴿أَجْراً عَظِيماً﴾ عطاء جزيلاً وإنما سماه أجراً لكونه تابعاً للأجر مَزيداً عليه
﴿إِذَا جِئْنَا﴾ يومَ القيامة
مِن كُلّ أمَّةٍ منَ الأُممِ ﴿بِشَهِيدٍ﴾ يشهد عليهم بكا كانوا عليه من فساد العقائدِ وقبائحِ الأعمالِ وهو نبيُّهم كما في قوله تعالى ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ والعاملُ في الظرف مضمونُ المبتدأ والخبرِ من هول الأمرِ وعِظَمِ الشأنِ أو الفعلُ المقدرُ ومِنْ متعلقةٌ بجئنا
﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمد
﴿على هَؤُلاء﴾ إشارةٌ إلى الشهداء المدلولِ عليهم بما ذكر
﴿شَهِيداً﴾ تشهَدُ على صدقهم لعلمك بعقائدهم لاستجماع شرعِك لمجامعِ قواعدِهم وقيل إلى المكذبين المستفهَمِ عن حالهم تشهد عليهم بالكفر والعصيانِ كما يشهد سائرُ الأنبياء على أممهم وقيل إلى المؤمنين كما في قوله تعالى ﴿لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾
﴿لَوْ تسوى بِهِمُ الارض﴾ إن جعلت مصدرية فالجلمة مفعولٌ ليوَدّ أي يودون أن يُدفنوا فتُسوَّى بهم الأرضُ كالموتى وقيل يودّون أنهم لم يُبْعثوا أو لم يحلقوا وكأنهم والأرضَ سواءٌ وقيل تصير البهائمُ تراباً فيودّون حالها وإن جعلت جارية على بابها فالمفعولُ محذوفٌ لدِلالة الجملةِ عليه أي يودون تسوية الأرض وجوابُ لو أيضاً محذوفٌ إيذاناً بغاية ظهورِه أي لسُرُّوا بذلك وقوله تعالى
﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ عطف على يود أي ولا يقدِرون على كتمانه لأن جوارحَهم تشهد عليهم وقيل الواو للحال
﴿إِلاَّ عَابِرِى سبِيلِ﴾ استثناء مفرغ من أعم الأحوالِ محلُّه النصبُ على أنَّهُ حال من ضمير لاتقربوا باعتبار تقيُّدِه بالحال الثانيةِ دون الأولى والعاملُ فيه فعلُ النهي أي لا تقربوا الصلاةَ جُنباً في حال من الحوال إلا حالَ كونِكم مسافرين على معنى أن في حالة السفرِ ينتهي حكمُ النهي لكن لا بطريق شمولِ النفْي لجميع صورِها بل بطريق نفي الشمول في الجلمة من غير دلالة على انتفاء خصوصيةِ البعضِ المنتفي ولا على بقاء خصوصيةِ
﴿حتى تَغْتَسِلُواْ﴾ غايةٌ للنهي عن قُربان الصلاةِ حالةَ الجنابة ولعل تقديم الاستشاء عليه للإيذانِ من أولِ الأمرِ بأن حكمَ النهي في هذه الصورةِ ليس على الإطلاق كما في صورة السُّكرِ تشويقاً إلى البيان وروما لزبادة تقرّرِه في الأذهان وفي الآية الكريمةِ إشارةٌ إلى أن المصلِّي حقُّه أن يتحرَّزَ عما يُلْهيه ويشغَلُ قلبَه وأن يزكيَ نفسَه عما يدنسها ولايكتفى بأدنى مراتبِ التزكية عند إمكان أعاليها
﴿وَإِنْ كُنتُم مرضى﴾ شروعٌ في تفصيل ما أجمل في الاستئناف وبيانِ ما هُوَ في حُكمِ المستثنى من الأعذار والاقتصارُ فيما قبلُ على استئناء السفرِ مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيصِ للإشعار بأنه العذرُ الغالبُ المنبئ عن الضرورة التي عليَها يدورُ أمرُ الرُخصةِ كأنه قيل ولا جنباً إلا مضْطرين وإليه مرجِعُ ما قيل من أنه جُعل عابري سبيلٍ كنايةً عن مطلق المعذورين والمرادُ بالمرض ما يمنع من استعمال الماءِ مطلقاً سواءٌ كان ذلك بتعذر الوصول التي إليه أو بتعذر استعمالِه
﴿أَوْ على سَفَرٍ﴾ عطفٌ على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصُر وإيرادُه صريحاً مع سبق ذكرُه بطريق الاستثناءِ لبناء الحكمِ الشرعيِّ عليه وبيانِ كيفيتِه فإن الاستثناءَ كما أشير إليه بمعزلٍ من الدِلالة على ثبوته فضلاً عن الدِلالة على كيفيته وتقديمُ المرضِ عليه للإيذان بأصالته واستقلالِه بأحكام لا توجد في غيره كالاشتداد باستعمال الماءِ ونحوِه
﴿أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط﴾ هو المكانُ الغائرُ المطمئنُّ والمجئ منه كنايةٌ عن الحدث لأن المعتاد أن مَنْ يريدُه يذهب إليه ليُوارِيَ شخصَه عن أعين الناس وإسناد المجئ منه إلى واحد منهم من المخاطبين دونهم للتفادي عن التصريح بنسبتهم إلى ما يُستحيا منه أو يُستهجن التصريحُ به وكذلك إيثارُ الكنايةِ فيما عُطف عليه من قولهِ عزَّ وجلَّ
﴿أَوْ لامستم النساء﴾ على التصريح بالجِماع ونظمُهما في سلك سَبَبَيْ سقوطِ الطهارةِ والمصيرُ إلى التيمم مع كونهما سببَيْ وجوبِها ليس باعتبار أنفسِهما بل باعتبار قيدِهما المستفادِ من قوله تعالى
﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً﴾ بل هو السببُ في الحقيقة وإنما ذُكرا تمهيداً له وتنبيهاً على أنه سببٌ للرخصة بعد انعقادِ سببِ الطهارةِ الصغرى والكبرى كأنه قيل أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب معَ تحققِ ما يُوجبُ استعمالَه وتخصيصُ ذكرِه بهذه الصورة مع أنه معتبرٌ في صورة المرضِ والسفرِ أيضاً لنُدرة وقوعِه فيها واستغنائِهما عن ذكره إما لأن الجنابة معتبرةٌ فيهما قطعاً فيُعلم من حكمها حكمُ الحدثِ الأصغرِ بدِلالة النصِّ لأن تقديرَ النظمِ لا تقربوا الصلاة في حال الجناية إلا حالَ كونِكم مسافرين فإن كنتم كذلك أو كنتم مرضى الخ وإما لِما قيل من أن عمومَ إعوازِ الماءِ في حق المسافرِ غالبٌ والعجزُ عن استعمال الماءِ القائمِ مَقامَ عدمِه في حق المريض مغنٍ عن ذكره لفظاً وما قيل من أن هذا القيدَ راجعٌ إلى الكل وأن قيدَ وجوبِ التطهرِ المكنى عنه بالمجئ من الغائط والملامسة
﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً﴾ فتعمَّدوا شيئاً من وجه الأرضِ طاهراً قال الزجاجُ الصعيدُ وجهُ الأرضِ تراباً أو غيرَه وإن كان صخراً لا ترابَ عليه لو ضرب المتيممُ يدَه عليه ومسَحَ لكان ذلك طَهورَه وهو مذهبُ أبي حنيفةَ رحمَهُ الله وعندَ الشافعيِّ رحمَهُ الله لا بد أن يعلَقَ باليد شئ من التراب
﴿فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ﴾ أي إلى المِرْفقين لما روى أنه ﷺ تيمّم ومسح يديه إلى مِرْفقيه ولأنه بدلٌ من الوضوء فيتقدر بقَدَره
﴿إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً﴾ تعليلٌ للترخيص والتيسيرِ وتقريرٌ لهما فإن مَنْ عادتُه المستمرَّةُ أن يعفوَ عن الخاطئين ويغفرَ للمذنبين لا بد أن يكون ميسِّراً لا معسراً وقيل هو كنايةٌ عنهما فإن الترفيهَ والمسامحةَ من روادف العفوِ وتوابعِ الغُفران
﴿يَشْتَرُونَ الضلالة﴾ قيل هو حالٌ مقدرةٌ منْ واوِ أُوتُواْ ولا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائِهم وأنت خبيرٌ بأنه خالٍ عن إفادة أن مادةَ التشنيعِ والتعجيبِ هو الاشتراءُ المذكورُ وما عُطف عليه والذي تقتضيهِ جزالةُ النظمِ الكريمِ أنه استئنافٌ مبينٌ لمناط التشنيعِ ومدارِ التعجيبِ المفهومَيْن من صدر الكلامِ على وجه الإجمالِ والإبهام مبنى على سئوال نشأَ منْهُ كأنَّه قيلَ ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم فقيل يأخذون الضلالةَ ويترُكون ما أُوتوه من الهداية وإنما طوى المتروك لغاية ظهورِ الأمرِ لا سيما بعد الإشعار المذكورِ والتعبيرُ عن ذلك بالاشتراء الذي هو عبارةٌ عن
﴿وَيُرِيدُونَ﴾ عطفٌ على يشترون شريكٌ له في بيان محل التشنيع والتعجيب وصيغةُ المضارعِ فيهما للدِلالة على الاستمرار التجددي فإن تجددَ حُكمِ اشترائِهم المذكورِ وتكررَ العملِ بموجبه في قوة تجدّدِ نفسِه وتكرُّرِه أي لا يكتفون بضلال أنفسِهم بل يريدون بما فعلوا من كتمان نعوتِه عليه السلام
﴿أَن تَضِلُّواْ﴾ أنتم أيضاً أيها المؤمنون
﴿السبيل﴾ المستقيمَ الموصِلَ إلى الحقِّ
﴿بِأَعْدَائِكُمْ﴾ جميعاً ومن جملتهم هؤلاءِ وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون بكم لتكونوا على حذر منهم ومن مخالطتهم أو هو أعلمُ بحالهم ومآلِ أمرِهم والجملةُ معترضةٌ لتقرير إرادتِهم المذكورةِ
﴿وكفى بالله وَلِيّاً﴾ في جميع أمورِكم ومصالِحِكم
﴿وكفى بالله نَصِيراً﴾ في كل المواطنِ فثِقوا به واكتفُوا بولايته ونُصرتِه ولا تتولوا ولا تُبالوا بهم وبما يسومونَكم من السوء فإنه تعالى يكفيكم مكرَهم وشرَّهم ففيه وعدٌ ووعيدٌ والباءُ مزيدةٌ في فاعل كفَى لتأكيد الاتصالِ الإسناديِّ بالاتصال الإضافيِّ وتكريرُ الفعلِ في الجملتين مع إظهار الجلالةِ في مقام الإضمارِ لا سيما في الثاني لتقوية استقلالها المناسب للإعتراض وتأكيد كفياتة عز وجل في كلَ من الولاية والنصرة والإ شعار بعلّيتهما فإن الألوهية من موجباتهما لا محالة
﴿يُحَرّفُونَ الكلم عَن مواضعه﴾ صفةٌ له أي من الذين هادوا قومٌ أو فريق يحرفون الخ وفيه أنه يقتضي كونَ الفريقِ السابقِ بمعزل من التحريف الذي هو المصداقُ لاشترائهم في الحقيقة فالذي يليق بشأن
﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ الخ على ما قبله عطفاً تفسيرياً لما ستقف على سره فإن أريد به الأولُ كما هو رأيُ الجمهورِ فتحريفُه إزالتُه عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم في نعت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أسمرُ رَبعةٌ عن موضعه في التوراة بأن وضعوا مكانه آدمُ طُوالٌ وكتحريفهم الرجمَ بوضعهم بدله الحدَّ أو صرفِه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى مالا صِحةَ له بالتأويلات الزائغةِ الملائمةِ لشهواتهم الباطلةِ وإن أُريد به الثاني فلا بد من أن يُرادَ بمواضعه ما يليق به مطلقاً سواءٌ كان ذلك بتعيينه تعالى صريحاً كمواضِعِ ما في التوراة أو بتعيين العقلِ أو الدين كمواضع غيره وأياما كان فقولُهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ينبغي أن يجريَ على إطلاقه من غير تقييدٍ بزمان أو مكانٍ ولا تخصيصٍ بمادة دون مادةٍ بل وأن يُحمَلَ على ما هو أعمُّ من القول الحقيقيِّ ومما يُترجِم عنه عِنادُهم ومكابَرتُهم ليندرجَ فيه ما نَطقَتْ به ألسنةُ حالِهم عند تحريفِ التوراةِ فإن من لا يتفوّه بتلك العظيمةِ لا يكادُ يتجاسرُ على مثل هذه الجنايةُ وإلا فحملُه على ما قالوه في مجلس النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من القبائح خاصةً يستدعي اختصاصَ حُكمِ الشرطيةِ الآتيةِ وما بعدها بهن من غير تعرُّضٍ لتحريفهم التوراةَ مع أنه معظم جنايتهم المعدودة ومن ههنا انكشف لك السرُّ الموعودُ فتأمل أي يقولون في كل أمرٍ مخالفٍ لأهوائهم الفاسدةِ سواءٌ كان بمحضر النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أولا بلسان المقالِ أو الحال سمعنا وعصينا عِناداً وتحقيقاً للمخالفة وقوله تعالى
﴿واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ عطف على سمِعنا وعصينا داخلٌ تحت القولِ أي ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته ﷺ خاصةً وهو كلامٌ ذو وجهين محتمِلٌ للشر بأن يحمل على معنى اسمع حالَ كونِك غيرَ مسمَعٍ كلاماً أصلاً بصمم أو موت أي مدعواً عليك بلا سمِعْتَ أو غيرَ مسمَعٍ كلاماً ترضاه فحينئذ يجوز أن يكون نصبُه على المفعولية وللخير بأن يُحمل على اسمَعْ منا غير مسمع مكروها كانوا يخاطبون به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم استهزاءً به مُظْهرين له ﷺ إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأولَ مطمئنون به
﴿وراعنا﴾ عطفٌ على اسمَعْ غيرَ مسمَعٍ أي ويقولون في أثناء خطابهم له ﷺ هذا أيضاً يوردون كلاًّ من العظائمِ الثلاثِ في مواقعها وهي أيضاً كلمةٌ ذاتُ وجهينِ محتملة للخير بحملها على معنى ارقُبْنا وانظرنا نكلمك وللشر يحملها على السبّ بالرُّعونة أي الحَمق أو بإجرائها مجرى ما يُشبِهُها من كلمة عبرانيةٍ أو سريانية كانوا يتسابُّون بها وهي راعينا كانوا يخاطبونه ﷺ بذلك ينوون الشتيمةَ والإهانةَ ويُظهرون التوقيرَ والاحترامَ ومصيرُهم إلى مسلك النفاقِ في
﴿لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ﴾ أي فتْلاً بها وصرفاً للكلام عن نهجه إلى نسبة السبِّ حيث وضعوا غير مسمع موضع لا أسمعت مكروهاً وأجْرَوا راعِنا المشابِهةَ لراعينا مُجْرى انظُرنا أو فتلاً بها وضمّاً لما يُظهرونه من الدعاء والتوقير إلى ما يُضمِرونه من السبِّ والتحقير
﴿وَطَعْناً فِى الدين﴾ أي قدحاً فيه بالإسنهزاء والسخرية وانتصابهما على العلية ليقولون باعتبار تعلّقِه بالقولين الأخيرين أي يقولون ذلك لصرف الكلامِ عن وجهه إلى السب والطعن في الدين أو على الحالية أي لاوين وطاعنين في الدين
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ﴾ عندما سمعوا شيئاً من أوامرِ الله تعالى ونواهيه
﴿قَالُواْ﴾ بلسانِ المقالِ أو بلسانِ الحالِ مكانَ قولِهم سمعنا وعصَينا
﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ إنما أعيد سمِعْنا مع أنه متحقِّقٌ في كلامهم وإنما الحاجةُ إلى وضْعِ أطعنا مكانَ عصينا لا للتنبيه على عدم اعتبارِه بل على اعتبار عدمه كيف لا وسماعُهم سماعُ الرد ومرادهم بحكايته إعلام عِصيانَهم للأمر بعد سماعِه والوقوفِ عليه فلا بد من إزالته وإقامةِ سماعِ القَبول مُقامَه
﴿واسمع﴾ أي لو قالوا عند مخاطبةِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم بدلَ قولِهم اسمَعْ غيرَ مُسمَعٍ اسمع
﴿وانظرنا﴾ أي ولو قالوا ذلك بدلَ قولِهم راعِنا ولم يدُسّوا تحت كلامِهم شراً وفساداً أي لو ثبت أنهم قالوا هذا مكانَ ما قالوا من الأقوال
﴿لَكَانَ﴾ قولُهم ذلك
﴿خَيْراً لَّهُمْ﴾ مما قالوا
﴿وَأَقْوَمُ﴾ أي أعدلَ وأسدَّ في نفسه وصيغةُ التفضيلِ إما على بابها واعتبارِ أصلِ الفضلِ في المفضَّلِ عليه بناءً على اعتقادهم أو بطريق التهكمِ وإما بمعنى اسمِ الفاعلِ وإنما قُدّم في البيان حالُه بالنسبة إليهم على حاله في نفسه لأن هِممَهم مقصورةٌ على ما ينفعهم
﴿وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ﴾ أي ولكن لم يقولوا ذلك واستمرُّوا على كفرهم فخذلهم الله تعالى وأبعدَهم عن الهدى بسبب كفرِهم بذلك
﴿فَلاَ يُؤْمِنُونَ﴾ بعد ذلك
﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ قيل أي إلا إيماناً قليلاً لا يُعبأ به وهو الإيمانُ ببعض الكتُبِ والرسلِ أو إلا زماناً قليلاً وهو زمانُ الاحتضارِ فإنهم يؤمنون حين لا ينفعُهم الإيمانُ قال تعالى وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وكلاهما ليس بإيمان قطعاً وقد جُوِّز أن يراد بالقِلة العدمُ بالكُلِّية على طريقةِ قوله تعالى لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى أي إن كان الإيمانُ المعدومُ إيماناً فهم يُحدِثون شيئاً من الإيمان فهو في المعنى تعليقٌ بالمحال وأنت خبيرٌ بأن الكلَّ يأباه ما يعقُبه من الأمر بالإيمان بالقرآنِ الناطقِ بهذا لإفضائه إلى التكليف بالمُحال الذي هو إيمانُهم بعدم إيمانِهم المستمرِّ أما على الوجه الأخيرِ فظاهرٌ وأمَّا على الأولينِ فلأنَّ أمرَهم بالإيمان المُنْجَزِ بجميع الكتبِ والرسلِ تكليفٌ لهم بإيمانهم بعدم إيمانِهم إلى وقت الاحتضارِ فالوجهُ أن يُحملَ القليلُ على من يؤمن بعد ذلك لكن لا يجعل المستثنى منه ضمير الفاعل في لا يؤمنون لإفضائه إلى وقوعِ إيمانِ مَنْ لعنه الله تعالى وخَذَله مع ما فيه من نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختارِ بل بجعله ضميرَ المفعولِ في لعنهم أي ولكن لعنهم الله إلا فريقاً قليلاً فإنه تعالى لم يلعنْهم فلم ينسَدَّ عليهم بابُ الإيمانِ وقد آمن بعد ذلك فريقٌ من الأحبار كعبدِ اللَّه بنِ سَلاَم وكعبٍ وأضرابِهما كما سيأتي
﴿آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا﴾ من القرآن عبّر عنه بالموصولِ تشريفاً له بما في حيز الصلةِ وتحقيقاً لكونه من عنده عز وجل
﴿مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ﴾ من التوراة عبر عنها بذلك للإيذان بكمالِ وقوفِهم على حقيقة الحالِ فإن المعيَّةَ المستدعية لدوام تلاوتها وتكرير المراجعةِ إليها من موجبات العثور على ما في تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكون القرآنِ مصدِّقاً لها ومعنى تصديقِه إياها نزولُه حسبما نُعِتَ لهم فيها أو كونُه موافقاً لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدلِ بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكامِ بسبب تفاوتِ الأممِ والأعصارِ فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي عينُ الموافقة من حيث إن كلا منها حق بالإضافة إلى عصره متضمِّنٌ للحكمة التي عليها يدورُ فَلَكُ التشريعِ حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدّمَ قطعاً ولذلك قال ﷺ لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي
﴿مّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً﴾ متعلقٌ بالأمر مفيدٌ للمسارعة إلى الامتثال به والجِدِّ في الانتهاء عن مخالفته بما فيه من الوعيد الشديدِ الواردِ على أبلغِ وجهٍ وآكدِه حيث لم يعلَّقْ وقوعُ المتوعَّدِ به بالمخالفة ولم يصرَّحْ بوقوعه عندها تنبيهاً على أن ذلك أمرٌ محقَّقٌ غنيَ عنِ الإخبارِ بهِ وأنه على شرف الوقوعِ متوجِّهٌ نحوَ المخاطَبين وفي تنكير الوجوهِ المفيدِ للتكثير تهويلٌ للخطب وفي إبهامها لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الإيمان وأصلُ الطمسِ محوُ الآثارِ وإزالةُ الأعلام أي آمنوا من قبل أن نمحُوَ تخطيطَ صورِها ونزيلَ آثارَها قال ابن عباس رضي الله عنهما نجعلها كخُفّ البعيرِ أو كحافر الدابةِ وقال قتادة والضحاك نُعْميها كقوله تعالى ﴿فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ﴾ وقيل نجعلها منابتَ الشعرِ كوجوه القِردة
﴿فَنَرُدَّهَا على أدبارها﴾ فنجعلَها على هيئة أدبارِها وأقفائِها مطموسةً مثلَها فالفاءُ للتسبيب أو نُنَكّسَها بعد الطمسِ فنردَّها إلى موضع
﴿أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أصحاب السبت﴾ فإن لم يقعِ الأمرُ الأولُ فلا نزاعَ في وقوع الثاني كيف لا وهم ملعونون بكل لسانٍ في كل زمانٍ وتفسيرُ اللعن بالمسخ ليس بمقرَّرٍ الْبتّةَ وأنت خبير بأن المتبادرَ من اللعن المشبَه بلعن أصحابِ السبت هو المسخُ وليس في عطفه على الطمس والردِّ على الأدبارِ شائبةُ دلالةٍ على عدم إرادةِ المسخِ ضرورة أنه تغييرٌ مغايرٌ لما عُطف عليهِ عَلى أنَّ المتوعَّدَ به لا بد أن يكون أمراً حادثاً مترتباً على الوعيد محذوراً عندهم ليكون مَزْجرةً عن مخالفة الأمرِ ولم يُعهَدْ أنه وقع عليهم لعنٌ بهذا الوصف إنما الواقعُ عليهم ما تداولته الألسنةُ من اللعن المستمرِّ الذي ألِفُوه وهو بمعزل من صلاحية أن يكونَ حكماً لهذا الوعيدِ أو مزجرةً للعنيد وقيل إنما كان الوعيدُ بوقوع ما ذُكر في الآخرة عند الحشرِ وسيقع فيها لا محالةَ أحدُ الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيعِ وأمَّا ما رُوِيَ عن عبدُ اللَّه بنِ سَلاَم وكعبٍ فمبنيٌّ على الاحتياط اللائقِ بشأنهما والحق أن النظمَ الكريمَ ليس بنص في أحد الوجهين بل المتبادرُ منه بحسب المقامِ هو الأولُ لأنه أدخلُ في الزجر وعليه مبنيٌّ ما روي عن الحَبْرين لكن لمّا لم يتضِحْ وقوعُه عُلم أن المرادَ هو الثاني والله تعالى أعلم وأياً ما كان فلعل السرَّ في تخصيصهم بهذه العقوبةِ من بين العقوباتِ مراعاةُ المشاكلةِ بينهما وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريفُ والتغييرُ والله هو العليمُ الخبير
﴿وَكَانَ أَمْرُ الله﴾ أي ما أمر به كائناً ما كانَ أو أمرُه بإيقاع شئ ما من الأشياء
﴿مَفْعُولاً﴾ نافذاً كائناً لا محالة فيدخُل فيه ما أُوعِدْتم به
﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ﴾ عطفٌ على خبر إن وذلك إشارةٌ إلى الشرك وما فيه من معنى البُعدِ مع قُربه في الذكر للإيذان ببُعدِ درجتِه وكونِه في أقصى مراتبِ القُبحِ أي ويغفر ما دونه في القبح من المعاصي صغيرةً كانت أو كبيرةً تفضلاً من لدنه وإحساناً من غير توبةٍ عنها لكن لا لكل أحدٍ بل
﴿لِمَن يَشَاء﴾ أي لِمَن يَشَاء أنْ يغفرَ له ممن اتصف به فقط لا بما فوقه فإن مغفرتَهما لمن اتصف بهما سواءٌ في استحالة الدخولِ تحت المشيئةِ المبْنيةِ على الحكمةِ التشريعيةِ فإن اختصاصَ مغفرةِ المعاصي من غير توبةٍ بأهل الإيمان من الترغيبِ فيه والزجْرِ عن الكفر ومن علق المشيئةَ بكلا الفعلين وجعل الموصولَ الأولَ عبارةً عمن لم يتُبْ والثاني عمن تاب فقد ضل سواء الصواب كيف لا وإن مساقَ النظمِ الكريمِ لإظهار كمالِ عِظَمِ جريمةِ الكفرِ وامتيازِه عن سائر المعاصي ببيان استحالةِ مغفرتِه وجوازِ مغفرتِها فلو كان الجوازُ على تقدير التوبةِ لم يظهَرْ بينهما فرقٌ للإجماع على مغفرتهما بالتوبة ولم يحصُلْ ما هو المقصودُ من الزجر البليغِ عن الكفر والطغيانِ والحملِ على التوبة والإيمان
﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله﴾ إظهارُ الاسمِ الجليل في موضعِ الإضمارِ لزيادةِ تقبيحِ الإشراكِ وتفظيعِ حالِ من يتصف به
﴿فقد افترى إثما عظيما﴾ أي افترى واختلق مرتكباً إثماً لا يقادَر قدْرُه ويُستحقر دونه جميعُ الآثامِ فلا تتعلق به المغفرةُ قطعاً
﴿بل الله يزكى من يَشَاء﴾ عطفٌ على مقدَّر ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنه قيل هم لا يزكونها في الحقيقة لكَذِبهم وبُطلان اعتقادِهم بل الله يزكي من يشاء تزكيتَه ممن يستأهِلُها من المرتَضَيْن من عباده المؤمنين إذ هو العليمُ الخبيرُ بما ينطوي عليه البشرُ من المحاسن والمساوي وقد وصفهم الله بما هم متصفون به من القبائح وأصلُ التزكيةِ نفيُ ما يستقبح بالفعل أو القول
﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ﴾ عطفٌ على جملةٍ قد حُذفت تعويلاً على دِلالة الحالِ عليها وإيذاناً بأنها غنيةٌ عن الذكر أي يعاقَبون بتلك الفَعلةِ القبيحةِ ولا يظلمون في ذلك العقاب
﴿فَتِيلاً﴾ أي أدنى ظُلمٍ وأصغرَه وهو الخيطُ الذي في شِقّ النواةِ يُضرب به المثل في القلة والحقارة وقيل التقديرُ يثاب المزكّون ولا يُنقص من ثوابهم شيءٌ أصلاً ولا يساعده مقامُ الوعيد
﴿وكفى بِهِ﴾ أي بافترائهم هذا من حيث هو افتراءٌ عليه تعالى مع قطع النظرِ عن مقارنته لتزكية أنفسِهم وسائرِ آثامِهم العظامِ
﴿إِثْماً مُّبِيناً﴾ ظاهراً بيّناً كونه إثماً والمعنى كفى ذلك وحدَه في كونهم أشدَّ إثماً من كل كَفارٍ أثيم أو في استحقاقهم لأشدِّ العقوباتِ لما مر سرُّه وجعلُ الضميرِ لزعمهم مما لا مساغَ له لإخلاله بتهويل أمرِ الافتراءِ فتدبرْ
﴿يؤمنون بالجبت والطاغوت﴾ اسئناف مُبينٌ لمادة التعجب مبنيٌّ على سؤال ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيل ماذا يفعلون حين يُنظَر إليهم فقيل يؤمنون الخ والجبتُ الأصنامُ وكلُّ ما عُبد من دونِ الله تعالَى فقيل أصلُه الجِبسُ وهو الذي
﴿وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ أي لأجلهم وفي حقّهم
﴿هَؤُلاء﴾ يعنونهم
﴿أهدى من الذين آمنوا سبيلا﴾ أي أقومُ ديناً وأرشدُ طريقة وإبرادهم بعنوان الإيمانِ ليس من قِبلَ القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفاً لهم بالوصف الجميلِ وتخطئةً لمن رجّح عليهم المتصفين بأقبح القبائح
﴿الذين لَعَنَهُمُ الله﴾ أيْ أبعدهم عن رحمته وطردهم والجملةُ مستأنفةٌ لبيان حالِهم وإظهارِ مصيرِهم ومآلِهم
﴿وَمَن يَلْعَنِ الله﴾ أي يُبعده عن رحمته
﴿فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً﴾ يدفع عنه العذابَ دنيويا كان أو أخرويا لابشفاعة ولا بغيرها وفيه تنصيصٌ على حِرمانهم مما طلبوا من قريش وفي كلمة لن وتوجيهِ الخطابِ إلى كل أحد ممن يتسنى له الخطاب وتوحيد النصر مُنكّراً والتعبيرِ عن عدمه بعدم الوجدان المنبئ عن سبق الطلبِ مُسنداً إلى المخاطبَ العامِّ من الدِلالة على حِرمانهم الأبديِّ بالكلية ما لا يخفى
﴿فَإذاَ لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً﴾ بيانٌ لعدم استحقاقِهم له بل لاستحقاقهم الحِرمانَ منه بسب أنهم من البخل والدناءةِ بحيث لو أوتوا شيئاً من ذلك لما أعطَوا الناسَ منه أقلَّ قليلٍ ومن حق مَنْ أوتي المُلكَ أن يُؤثِرَ الغيرَ بشئ منه فالفاءُ للسببية الجزائيةِ لشرط محذوفٍ أي إن جُعل لهم نصيبٌ منه فإذن لا يؤتون الناسَ مقدار ونقير وهو ما في ظهر النواة من النقرة ويضرب به المثل في القلة والحقارةِ وهذا هو البيانُ الكاشفُ عن كُنه حالِهم وإذا كان شأنُهم كذلك وهم مُلوكٌ فما ظنُّك بهم وهو أذلاءُ متفاقرون ويجوز أن لا تكون الهمزةُ لإنكار الوقوعِ بل لإنكار الواقعِ والتوبيخِ عليه أي لعدِّه مُنكراً غيرَ لائقٍ بالوقوع على أن الفاءَ للعطف والإنكارُ متوجهٌ إلى مجموع المعطوفَين على معنى ألهمْ نصيبٌ وافرٌ من الملك حيث
﴿على مَا آتاهم الله من فضله﴾ يعني النبوةَ والكتابَ وازديادَ العزِّ والنصرِ يوماً فيوماً وقوله تعالى تعالى
﴿فقد آتينا﴾ تعليلٌ للإنكار والاستقباحِ وإلزامٌ لهم بما هومسلم عندهم وحسمٌ لمادة حسَدِهم واستبعادِهم المبنيَّيْن على توهّم عدمِ استحقاقِ المحسودِ لِما أوتيَ من الفضل ببيان استحقاقِه له بطريق الوراثةِ كابراً عن كابر وإجراءُ الكلامِ على سَنن الكبرياءِ بطريق الالتفاتِ لإظهار كمالِ العنايةِ بالأمر والمعنى أن حسدَهم المذكورَ في غاية القبحِ والبُطلانِ فإنا قد آتينا من قبلِ هذا
﴿آل إبراهيم﴾ الذين هم أسلافُ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم أو أبناءُ أعمامِه
﴿الكتاب والحكمة﴾ أى النبوة
﴿وآتيناهم﴾ مع ذلك
﴿مُّلْكاً عَظِيماً﴾ لا يقادَر قدرُه فكيف يستبعدون نوبته ﷺ ويحسُدونه على إيتائها وتكريرُ الإيتاء لما يقيتضيه مقامُ التفضيلِ مع الإشعار بما بين النبوةِ والمُلكِ من المغايرة فإن أريد به الإيتاءُ بالذات فالمرادُ بآل إبراهيمَ أنبياؤهم خاصة والضميرُ المنصوبُ في الفعل الثاني لبعضهم إما بحذف المضافِ أو بطريق الاستخدامِ لما أن المُلكَ لم يُؤتَ كلَّهم قال ابن عباس رضي الله عنهما الملكُ في آل إبراهيمَ مُلكُ يوسفَ وداودَ وسليمانَ عليهم السلام وإن أريد به ما يعُمّه وغيرَه من الإيتاء بالواسطةِ وهو اللائقُ بالمقام والأوفقُ لما قبله من نسبة إيتاءِ الفضلِ إلى الناس فالمرادُ بآل إبراهيمَ كلُّهم فإن تشريفَ البعضِ بما ذُكر من إيتاء النبوةِ والمُلكِ تشريفٌ للكل لاعتنائهم بآثاره واقتباسِهم من أنواره وفي تفصيل ما أُوتوه وتكريرِ الفعلِ ووصفِ المُلكِ بالعظم وتنكيره التفخيمى منن تأكيد الإلزامِ وتشديدِ الإنكارِ مالا يخفى هذا هو المتبادرُ من النظم الكريمِ وإليه جنحَ جمهورُ أئمةِ التفسيرِ لكن الظاهرَ حينئذٍ أنْ يكونَ قولُه تعالى
﴿وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً﴾ ناراً مسعرةً يعذّبون بها والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها
﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً﴾ قال سيبويهِ سوف كلمةٌ تُذكر للتهديد والوعيدِ وينوبُ عنها السينُ وقد يُذكران في الوعد فيفيدانِ التأكيدِ أي نُدخلهم ناراً عظيمةً هائلة
﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ﴾ أي احترقت وكلما ظرفُ زمانٍ والعامل فيه
﴿بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا﴾ من قَبيل بدّله بخوفه أمناً لا من قبيل يبدل الله سئاتهم حسناتٍ أي أعطيناهم مكانَ كلِّ جلدٍ محترقٍ عند احتراقِه جلداً جديداً مغايراً للمحترق صورةً وإن كان عينَه مادةً بأن يُزالَ عنه الاحتراقُ ليعودَ إحساسُه للعذاب والجملةُ في محل النصب على أنها حالٌ من ضمير نُصليهم وقد جوز كونها لناراً على حذف العائدِ أي كلما نضِجت فيها جلودُهم فمعنى قولِه تعالى
﴿ليذوقوا العذاب﴾ ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك لللعزيز أعزَّك الله وقيل يخلُق مكانَه جلداً آخرَ والعذابُ للنفس العاصيةِ لا لآلة إدراكِها قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يُبدَّلون جلوداً بيضاءَ كأمثال القراطيسِ وروي أن هذه الآيةَ قُرئت عند عمرَ رضي الله تعالى عنه فقال للقارئ أعِدْها فأعادها وكان عنده معاذُ بنُ جبلٍ فقال معاذٌ عندي تفسيرُها يُبَدّل في ساعةٍ مائةَ مرةٍ فقال عمرُ رضي الله عنه هكذا سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول وقال الحسنُ تأكلُهم النارُ كلَّ يومٍ سبعين ألفِ مرةٍ كلما أكلتْهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا ورَوَى أبُو هُريرةَ عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أن بين منكِبَي الكافرِ مسيرةَ ثلاثةِ أيامٍ للراكبِ المسرعِ وعن أبي هريرة أنه قال قالَ رسولُ الله ﷺ ضِرْسُ الكافرِ أو نابُ الكافرمثل أحُدٍ وغِلَظُ جلدِه مسيرةُ ثلاثةِ أيامٍ والتعبيرُ عن إدراك العذابِ بالذوق ليس لبيان قلته بل
﴿إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً﴾ لا يمتنع عليه ما يريده ولا يمانعه أحدٌ
﴿حَكِيماً﴾ يعاقِب مَنْ يعاقبه على وَفق حكمتِه والجملةُ تعليلٌ لما قبلها من الإصلاء والتبديلِ وإظهارُ الاسمِ الجليلِ بطريق الالتفاتِ لتهويل الأمرِ وتربية المهابةِ وتعليلِ الحكم فإن عنوانَ الألوهيةِ مناطٌ لجميع صفاتِ كمالِه تعالى
﴿سَنُدْخِلُهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ وقرئ سيُدخِلُهم بالياء رداً على الاسم الجليلِ وفي السين تأكيدٌ للوعد
﴿خالدين فِيهَا أَبَداً﴾ حالٌ مقدّرةٌ من الضميرِ المنصوبِ في سندخلهم وقوله عز وعلا
﴿لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ﴾ أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذَرةِ البدنية والأدناسِ الطبيعية في محل النصب على أنه حال من جناتٍ أو حالٌ ثانيةٌ من الضمير المنصوبِ أو على أنه صفةٌ لجناتٍ بعد صفةٍ أو في محلِ الرفعِ على أنه خبرٌ للموصول بعد خبرٍ
﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً﴾ أي فيْناناً لا جَوْبَ فيه دائماً لا تنسَخُه شمسٌ اللهم ارزُقنا ذلك بفضلك وكرمِك يا أرحمَ الراحمين والظليلُ صفةٌ مشتقةٌ من لفظ الظلِّ للتأكيد كما في ليلٌ ألْيلُ ويوم أيوم وقرئ يُدخلهم بالياء وهو عطفٌ على سيُدخِلهم لا على أنه غيرُ الإدخالِ الأولِ بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى ﴿وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾
﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل﴾ أمرٌ لهم بإيصال الحقوقِ المتعلقةِ بذمم الغيرِ إلى أصحابها وحيث كان المأمورُ به ههنا مختصاً بوقت المرافعةِ قُيِّد به بخلاف المأمورِ به أو لا فإنه لما لم يتعلَّقْ بوقت دون وقت أُطلق إطلاقاً فقوله تعالى أَن تَحْكُمُواْ عطفٌ على أن تؤدوا قد فُصِل بين العاطفِ والمعطوفِ بالظرف المعمولِ له عند الكوفيين والمقدرُ يدل هو عليه عند البصريين لأن مَا بعد إنَّ لا يعملُ فيما قبلَها عندهم أي وإن تحكموا إذا حكمتم الخ وقولُه تعالى بالعدل متعلقٌ بتحكموا أو بمقدرٍ وقع حالاً من فاعلِه أيْ ملتبسينَ بالعدل والإنصاف ﴿إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِه﴾ مَا إما منصوبةٌ موصوفةٌ بيعظكم به أو مرفوعةٌ موصولةٌ به كأنه قيل نعم شيئاً يعظكم به أو نعم الشئ الذي يعظكم به والمخصوصُ بالمدح محذوفٌ أي نِعِمّاً يعطكم به ذلك وهو المأمورُ به من أداء الأماناتِ والعدلِ في الحكومات وقرىء نَعِمّاً بفتح النون والجملةُ مستأنَفة مقرِّرةٌ لما قبلها متضمنه لمزبد لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الامتثال بالأمر وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابة ﴿إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً﴾ لأقوالكم ﴿بَصِيراً﴾ بأفعالكم فهو وعدٌ ووعيدٌ وإظهارُ الجلالةِ لما ذُكر آنفاً فإن فيه تأكيداً لكلَ من الوعد والوعيد
﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الامر مِنْكُمْ﴾ وهم أمراءُ الحقِّ وولاةُ العدلِ كالخلفاء الراشدين ومن يقتدي بهم من المهتدين وأما أمراءُ الجَوْرِ فبمعزل من استحقاق العطفِ على الله تعالى والرسولِ ﷺ في وجوب الطاعةِ لهم وقيل هم علماءُ الشرعِ لقوله تعالى ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرسول وإلى أولى الامر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ ويأباهُ قولُه تعالى
﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى الله﴾ إذ ليس للمقلد أن ينازعَ المجتهدَ في حكمه إلا أن يجعل الخطاب لأولي الأمر بطريق الالتفاتِ وفيه بعد وتصدير الشرطية بالفاء لترتبها على ما قبلها فإن بيانَ حكمِ طاعةِ أولي الأمرِ عند موافقتِها لطاعة الله تعالى وطاعة الرسول ﷺ يستدعي بيانَ حكمِها عند المخالفةِ أي إن اختلفتم أنتم وأولوا الأمرِ منكم في أمرٍ من أمورِ الدِّين فراجعوا فيه إلى كتاب الله
﴿والرسول﴾ أي إلى سنته وقد استدل
﴿إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر﴾ متعلقٌ بالأمر الأخيرِ الواردِ في محل النزاعِ إذ هو المحتاجُ إلى التحذير من المخالفة وجوابُ الشرطِ محذوفٌ عند جمهورِ البصريين ثقةً بدِلالة المذكورِ عليهِ أيْ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليومِ الآخرِ فردوه الخ فإن الإيمانَ بهما يوجب ذلك أما الإيمانُ بالله تعالى فظاهرٌ وأما الإيمانُ باليوم الآخرِ فلما فيه من العقاب على المخالفة
﴿ذلك﴾ أي الرد المأمورُ به
﴿خَيْرٌ﴾ لكم وأصلح
﴿وَأَحْسَنُ﴾ في نفسه
﴿تَأْوِيلاً﴾ أي عاقبةً ومآلاً وتقديمُ خيْريّتِه لهم على أحسنيته في نفسه لما مر من تعلق أنظارِهم بما ينفعهم والمرادُ بيانُ اتصافِه في نفسه بالخيرية الكاملة في حد ذاتِه من غير اعتبار فضلِه على شئ يشاركه في أصل الخيريةِ والحسن كما ينبئ عنه التحذيرُ السابق
﴿وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ﴾ كونُهم مأمورين بكفره في الكتابين وما ذاك إلا الشيطانُ وأولياؤُه المشهورون بولاته كالكَهنة ونظائرِهم لا مَنْ عداهم ممن لم يشتهِرْ بذلك وقرئ أَن يَكْفُرُواْ بِهَا على أن الطاغوتَ جمعٌ كما في قوله تعالى ﴿أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم﴾ والجملةُ حالٌ من ضمير يريدون مفيدةٌ لتأكيد التعجيبِ وتشديد الاستقباحِ كالوصف السابقِ وقولُه عز وجل
﴿وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضلالا بَعِيداً﴾ عطفٌ على يريدون داخلٌ في حُكمِ التعجيبِ فإن اتّباعَهم لمن يريد إضلالَهم وإعراضَهم عمن يريد هدايتَهم أعجبُ من كل عجيب وضلالا وإما مصدرٌ مؤكدِّ للفعل المذكور بحذفِ الزوائدِ كَما في قولُه تعالَى وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا أي إضلالاً بعيداً وإمَّا مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعله المدلولِ عليه بالفعل المذكورِ أى فيضلوا إضلالا وأياما كان فوصفُه بالبُعد الذي هو نُعِت موصوفُه للمبالغة وقولُه تعالى
﴿رَأَيْتَ المنافقين﴾ إظهارُ المنافقين في مقام الإضمارِ للتسجيل عليهم بالنفاق وذمّهم به والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ والرؤيةُ بصَريةٌ وقوله تعالى
﴿يَصُدُّونَ عَنكَ﴾ حالٌ من المنافقين وقيل الرؤيةُ قلبيةٌ والجملةُ مفعولٌ ثانٍ لها والأول وهو الأنسبُ بظهور حالِهم وقولُه تعالى
﴿صُدُوداً﴾ مصدرٌ مؤكدٌ لفعله أي يُعرِضون عنك إعراضاً وأيَّ إعراضٍ وقيل هو اسمٌ للمصدر الذي هو الصدُّ والأظهرُ أنه مصدرٌ لصدَّ اللازمِ والصدُّ مصدرٌ للمتعدي يقال صَدَّ عنه صُدوداً أي أعرض عنه وصدَّه عنه صداً أي منعه منه وقوله تعالى
﴿إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ﴾ أي وقتَ إصابةِ المصيبةِ إياهم بافتضاحهم بظهور نفاقِهم
﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ بسببِ ما عمِلوا من الجنايات التي من جُملتها التحاكمُ إلى الطاغوت والإعراضُ عن حكمك
﴿ثُمَّ جاؤوك﴾ للاعتذار عما صنعوا
﴿يَحْلِفُونَ بالله﴾ حالٌ من فاعل جاءوك
﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً﴾ أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الفصلَ بالوجه الحسَنِ والتوفيقِ بين الخصمين ولم نُرِدْ مخالفة لك ولاتسخطا لحكمك فلا تؤاخِذْنا بما فعلنا وهذا وعيدٌ لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون عليه حين لاينفعهم الندمُ ولا يغني عنهم الاعتذارُ وقيل جاء أولياءُ المنافقِ يطلُبون بدمه وقد أهدره الله تعالى فقالوا ما أردنا أي ما أراد صاحبُنا المقتولُ بالتحاكم إلى عمرَ رضي الله عنه تعالى إلا أن يُحسِن إليه ويوفِّقَ بينه وبين خصمِه
﴿الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ﴾ أي من فنون الشرور والفسادات المنافيةِ لما أظهروا لك من الأكاذيب
﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ جوابُ شرطٍ محذوفٍ أيْ إذا كان حالُهم كذلك فأعرِضْ عن قَبول معذرتِهم وقيل عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم ولا تُظهِرْ لهم علمَك بما في بواطنهم ولاتهتك سترَهم حتى يبقَوْا على وجَلٍ وحذر
﴿وَعِظْهُمْ﴾ أي ازجُرْهم عن النفاق والكيد
﴿وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ﴾ في حق أنفسِهم الخبيثةِ وقلوبِهم المُنْطويةِ على الشرور التي يعلمها الله تعالى أو في أنفسهم خالياً بهم ليس معهم غيرُهم مُسارّاً بالنصيحة لأنها في السرّ أنجَعُ
﴿قَوْلاً بَلِيغاً﴾ مؤثراً واصِلاً إلى كُنه المرادِ مطابقاً لما سيق له من المقصود فالظرفُ على التقديرين متعلقٌ بالأمر وقيل متعلقٌ ببليغاً على رأي من يُجيز تقديمَ معمولِ الصفةِ على الموصوف أي قل لهم قولاً بليغاً في أنفسهم مؤثراً في قلوبهم يغتنمون به اغتناما ويستشعرون منه الخوفَ استشعاراً وهو التوعُّدُ بالقتل والاستئصالِ والإيذانُ بأن ما في قلوبِهِم منَ مكنونات الشرِّ والنفاقِ غيرُ خافٍ على الله تعالى وأن ذلك مستوجِبٌ لأشد العقوباتِ وإنما هذه المكافأةُ والتأخيرُ لإظهارهم الإيمانَ والطاعةَ وإضمارِهم الكفرَ ولئن أظهروا الشقاقَ وبرَزوا بأشخاصهم من نفق النفاق لَيَمسَّنهم العذابُ أَنَّ الله شديدُ العقاب
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ وعرضوها لعذاب على عذاب النفاقِ بترك طاعتِك والتحاكمِ إلى غيرك
﴿جاؤوك﴾ من غير تأخير كما يُفصح عنه تقديمُ الظرفِ متوسِّلين بك في التنصُّل عن جنايتهم القديمةِ والحادثةِ ولم يزدادوا جنايةً على جناية بالقصد إلى سترها
﴿فاستغفروا الله﴾ بالتوبة والإخلاصِ وبالغوا في التضرُّع إليك حتى انتصبت شفيعا لهم إلى الله تعالى واستغفرْتَ لهم وإنما قيل
﴿واستغفر لَهُمُ الرسول﴾ على طريقة لالتفات تفخيماً لشأن رسولِ الله ﷺ وتعظيماً لاستغفاره وتنبيهاً على أن شفاعتَه في حيِّز القَبول
﴿لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً﴾ لعَلِموه مبالغاً في القبول توبتهم والتفضّل عليهم بالرحمة وإن فُسّر الوُجدانُ بالمصادفة كان قوله تعالى تَواباً حالا ورحيما بدل منه أو حالاً من الضمير فيه وأيا ما كان ففيه فضلُ ترغيبٍ للسامعين في المسارعة إلى التوبة والاستغفارِ ومزيدُ تنديمٍ لأولئك المنافقين على ما صنعوا لما أن ظهورَ تباشيرِ قَبولِ التوبةِ وحصولَ الرحمةِ لهم ومشاهدتَهم لآثارهما نعمةٌ زائدةٌ عليهما موجبةٌ لكمال الرغبة في تحصليها وتمامِ الحسرةِ على فواتها
﴿حتى يُحَكّمُوكَ﴾ أي يتحاكموا إليك ويترافعوا إليك وإنما جئ بصيغة التحكيمِ مع أنه ﷺ حاكمٌ بأمر الله سبحانه إيذاناً بأن حقَّهم أن يجعلوه حَكَماً فيما بينهم ويرْضَوا بحكمه وإن قُطع النظرُ عن كونه حاكماً على الإطلاق
﴿فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ أي فيما اختَلف بينهم من الأمور واختَلط ومنه الشجرُ لتداخُل أغصانه
﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ﴾ عطفٌ على مقدَّر ينساقُ إليهِ الكلامُ أي فتقضي بينهم ثم لا يجدوا
﴿فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً﴾ ضِيقاً
﴿مّمَّا قَضَيْتَ﴾ أي مما قضيت به أو من قضائك وقيل شكاً من أجله إذا الشاكُّ في ضيق من أمره
﴿وَيُسَلّمُواْ﴾ أي ينقادوا لأمرك ويُذعِنوا له
﴿تَسْلِيماً﴾ تأكيدٌ للفعل بمنزلة تكريرِه أي تسليماً تاماً بظاهرهم وباطنِهم يقال سَلَّم لأمرِ الله وأسلم له بمعنىً وحقيقتُه سلّم نفسَه له إذا جعلها سالمةً له خالصةً أي ينقادوا لحكمك انقياداً لا شُبهةَ فيه بظاهرهم وباطنهم وقيل نزلت في شأن المنافق واليهودى وقيل في شأن الزبيرِ ورجلٍ من الأنصار حين اختصما إلى رسولِ الله ﷺ في شِراجٍ من الحرة كانا يسقيان بها النخلَ فقال ﷺ اسقِ يا زبيرُ ثم أرسلِ الماءَ إلى جارك فغضب الأنصارى وقال لأن كان ابنَ عمتِك فتغير وجهُ رسولِ الله ثم قال اسقِ يا زبيرُ ثم احبِس الماءَ حتى يرجِعَ إلى الجُدُر واستوفِ حقّك ثم أرسلْه إلى جارك كان قد أشار على الزبير برأي فيه سعةٌ له ولخصمه فلما أحفظ رسول الله ﷺ مستوعب للزبير حقَّه في صريح الحُكم ثم خرجا فمرّا على المقدار بن السود فقال لمن القضاءُ فقال الأنصاريُّ قضى لابن عمتِه ولوى شِدْقَه ففطِن يهوديٌّ كان مع المقداد فقال قاتل الله هؤلاءِ يشهدون أنه رسولُ الله ثم يتّهمونه في قضاء يقضي بينهم وايمُ الله لقد أذنبنا ذنباً مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال اقتُلوا أنفسَكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربِّنا حتى رضيَ عنا فقال ثابتُ بنُ قَيْسِ بنِ شماس أما والله إن الله ليعلم مني الصدقَ لو أمرني محمدٌ أن أقتُلَ نفسي لقتلتُها وروي أنه قال ذلك ثابتٌ وابنُ مسعودٍ وعمارُ بن ياسر
﴿مَّا فَعَلُوهُ﴾ أي المكتوبَ المدلولَ عليه بكتبْنا أو أحدِ مصدرَي الفعلين
﴿إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ﴾ أي إلا أناسٌ قليلٌ منهم وهم المخلِصون من المؤمنين وروي عن عمر رضيَ الله عنه أنَّه قال والله لو أمَرَنا ربُّنا لفعلْنا والحمدُ لله الذي لم يفعلْ بنا ذلك وقيل معنى اقتُلوا أنفسَكم تعرَّضوا بها للقتل بالجهاد وهو بعيدٌ وقرئ إلا قليلاً بالنصب على الاستثناء أوإلا فِعلاً قليلاً
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ﴾ من متابعة الرسول ﷺ وطاعتِه والانقيادِ لما يراه ويحكم به ظاهراوباطنا وسُمِّيت أوامرُ الله تعالى ونواهيه مواعظ لاقترانهما بالوعد والوعيد
﴿لَكَانَ﴾ أي فعلُهم ذلك
﴿خَيْراً لَّهُمْ﴾ عاجلاً وآجلاً
﴿وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً﴾ لهم على الإيمان وأبعدَ من الاضطراب فيه وأشدَّ تثبيتاً لثواب أعمالِهم
﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارةٌ إلى المطيعين والجمعُ باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفرادَ في فعل الشرطِ باعتبار لفظِها وما فيهِ من معنى البعد مع القُرب في الذكر للإيذان بعلوّ درجتِهم وبُعد منزلتِهم في الشرف وهو مبتدأٌ خبرُه
﴿مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم﴾ والجملةُ جوابُ الشرطِ وتركُ ذكرِ المنعَمِ به للإشعار بقصور العبارةِ عن تفصيله وبيانِه
﴿مّنَ النبيين﴾ بيانٌ للمنعَم عليهم والتعرّضُ لمعيّة سائرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مع أنَّ الكلامَ في بيان حكمِ طاعةِ نبيِّنا ﷺ لجريان ذكرهم في
﴿والصديقين﴾ أي المتقدمين في تصديقهم المبالغين في الصدق والإخلاصِ في الأقوال والأفعالِ وهم أفاضلُ أصحابِ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام وأماثلُ خواصِّهم المقربين كأبي بكرٍ الصدِّيقِ رضيَ الله عنه
﴿والشهداء﴾ الذين بذلوا أرواحَهم في طاعة الله تعالى وإعلاءِ كلمتِه
﴿والصالحين﴾ الصارفين أعمارَهم في طاعته وأموالَهم في مرضاته وليس المرادُ بالمعية الاتحادَ في الدرجة ولا مطلقَ الاشتراكِ في دخول الجنةِ بل كونَهم فيها بحيث يتمكن كلُّ واحدٍ منهم من رؤية الآخرَ وزيارتِه متى أراد وإن بعُد ما بينهما من المسافةِ
﴿وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾ الرفيقُ الصاحبُ مأخوذ من الرِّفق وهو لِينُ الجانبِ واللَّطافةُ في المعاشرة قولاً وفعلاً فإن جُعل أولئك إشارة إلى النبين ومَنْ بعدَهم على أنَّ ما فيهِ من معنى البعدِ لما مرَّ مرارا فرفيقاً إما تمييزٌ أو حالٌ على مَعنْى أنَّهم وصفوا بالحسن من وجهة كونِهم رُفقاءَ للمطيعين أو حال كونهم رفقاء لهم وإفرادُه لما أنه كالصِّديق والخليط والرسولُ يستوِي فيه الواحدُ والمتعددُ أو لأنه أريد حُسنُ كلِّ واحدٍ منهم رفيقاً وإن جعل إشارةً إلى المطيعين فهو تمييزٌ على معنى أنهم وُصفوا بحُسن الرفيقِ من النبيين ومَنْ بعدهم لا بنفس الحُسن فلا يجوز دخول من عليه كما يجوز في الوجه الأولِ والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لمَا قبلَهُ مؤكدٌ للترغيب والتشويقِ قيل فيه معنى التعجب كأنه قيل وما أحسنَ أولئك رفيقاً ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ وحسن بسكون السين
﴿الفضل﴾ صفتُه وقولُه تعالى
﴿مِنَ الله﴾ خبرُه أي ذلك الفضلُ العظيمُ من الله
﴿وكفى بالله عليما﴾ بحزاء من أطاعه وبمقادير الفضلِ واستحقاق اهله
﴿فانفروا﴾ بكسر الفاءِ وقرئ بضمها أي اخرُجوا إلى الجهاد عند خروجِكم
﴿ثُبَاتٍ﴾ جمعُ ثُبةٍ وهي الجماعةُ من الرجال فوق العشَرةِ ووزنها في الأصل فُعَلة كحُطَمة حُذفت لامُها وعوِّض عنها تاءُ التأنيثِ وهل هي واوٌ أو ياء فيه قولان قيل إنها مشتقةٌ من ثبا يثبو كحلا يحلو أي اجتمعَ وقيل من ثبَيْتُ على الرجل إذا أثنيت عليه كأنك جمعتَ محاسنَه ويُجمع أيضاً على ثُبينَ جبراً لما حُذف من عَجْزه ومحلُّها النصبُ على الحالية أي انفِروا جماعاتٍ متفرقةً سَرِيةً بعد سرية
﴿أَوِ انفروا جَمِيعاً﴾ أي مجتمعين كوكبةً واحدةً ولا تتخاذلوا فتُلقوا بأنفسكم إلى التهلُكة
﴿فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ﴾ كقتل وهزيمة
﴿قال﴾ أي المبطئ فرحاً بصنعه وحامداً لرأيه
﴿قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ﴾ أي بالقعود
﴿إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً﴾ أي حاضراً في المعركة فيصيبني ما أصابهم والفاءُ في الشرطية لترتيب مضمونِها على ما قبلها فإن ذِكرَ التبطئةِ مستتبِعٌ لذكر ما يترتب عليها كما أن نفس التبطئة مستدعية لشئ ينتظر المبطئ وقوعَه
﴿مِنَ الله﴾ متعلقٌ بأصابكم أو بمحذوف وقع صفة لفضل أي كائنٍ من الله تعالى ونسبة إصابةِ الفضلِ إلى جناب الله تعالى دون إصابةِ المصيبةِ من العادات الشريفةِ التنزيليةِ كما في قوله سبحانه وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وتقديمُ الشرطيةِ الأولى لِما أن مضمونَها لمقصِدهم أوفقُ وأَثرَ نفاقِهم فيها أظهرُ
﴿لَّيَقُولَنَّ﴾ ندامةً على تثبطه وقعودِه وتهالُكاً على حُطام الدنيا وتحسُّراً على فواته وقرئ ليقولُنَّ بضم اللام إعادةً للضمير إلى مَعْنى مَنْ وقولُه تعالى
﴿كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ﴾
﴿يا ليتني كنتُ معهم فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ لئلا يُفهمَ من مطلع كلامِه أن تمنِّيَهُ لمعيّة المؤمنين لنُصرتهم ومظاهَرتِهم حسبما يقتضيه ما في البين من المودة بل هو للحِرص على المال كما ينطِق به آخِرُه وليس إثباتُ المودةِ في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكّمِ وقيل الجملةُ التشبيهيةُ حالٌ من ضمير ليقولَن أي ليقولن مشبها بمن لامودة بينكم وبينه وقيل هي داخلةٌ في المقول أي ليقولن المثبط من المنافقين وضَعَفة المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمدٍ مودةٌ حيث لم يستصحِبْكم في الغزو حتى تفوزا بما فاز ياليتنى كنتُ معهم وغرضُه إلقاءُ العدواة بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام وتأكيدُها وكأنْ مخففةٌ من الثقيلةِ واسمُها ضميرُ الشأنِ وهو محذوف وقرئ لم يكن بالياء والبمادى في ياليتنى محذوفٌ أي يا قومُ قيا يا أُطلق للتنبيه على الاتساع وقولُه تعالى فَأَفُوزَ نصب على جواب التنمنى وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ أي فأنا أفوزُ في ذلك الوقتِ أو على أنه معطوفٌ على كنت داخلٌ معه تحت التمني
﴿الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالاخرة﴾ أي يبيعونها بها وهم المؤمنون فالفاءُ جوابُ شرطٍ مقدرٍ أي إن بطّأ هؤلاءِ عن القتال فليقاتِلِ المُخلِصون الباذلون أنفسَهم في طلب الآخرةِ أو الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة وهم االمبطئون فالفاءُ للتعقيب أي لِيترُكوا ما كانوا عليه من التثبيط والنفاق وليعقبوه بالقتال في سبيل الله
﴿وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ﴾ بنون العظمةِ التفاتاً
﴿أَجْراً عَظِيماً﴾ لا يقادَرُ قَدْرُه وتعقيبُ القتالِ بأحد الأمرين للإشعار بأن المجاهدَ حقُّه أن يوطِّن نفسَه بإحدى الحسنيين ولا يُخطِرَ بباله القسمَ الثالثَ أصلاً وتقديمُ القتلِ للإيذان بتقدّمه في استتباع الأجرِ روى أبو هريرةَ رضيَ الله عنه إن رسولَ الله ﷺ قال تكفّل الله تعالى لمن جاهد في سبيله لايخرجه إلا جهادٌ في سبيله وتصديقُ كلمتِه أن يُدخِلَه الجنةَ أو يُرجِعَه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة
﴿لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله﴾ حالٌ عاملُها ما في الظرف من معنى الفعلِ والاستفهامُ للإنكار والنفي أى أى شئ لكم غيرَ مقاتِلين أي لا عذرَ لكُم في تركِ المقاتلة
﴿والمستضعفين﴾ عطفٌ على اسم الله أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصُهم من الأسر وصونُهم عن العدو أو على السبيل بحذف المضافِ أي في
﴿مِنَ الرجال والنساء والولدان﴾ بيانٌ للمستضعفين أو حالٌ منهم وهم المسلمون الذين بقُوا بمكةَ لصدّ المشركين أو لضعفهم عن الهجرة مستذَلّين ممتَهنين وإنما ذُكر الوِلْدان معهم تكميلا للاستعطاف واستجلاب المرحمة وتنبيهاً على تناهي ظلمِ المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيانَ لإرغام آبائِهم وأمهاتِهم وإيذاناً بإجابة الدعاءِ الآتي واقترابِ زمانِ الخَلاصِ ببيان شِرْكتِهم في التضرعِ إِلى الله تعالى كلُّ ذلك للمبالغةِ في الحثِّ على القتال وقيل المرادُ بالوِلدان العبيدُ والإماءُ إذ يقال لهما الوليدُ والوليدةُ وقد غلَب الذكورُ على الإناث فاطلق الوالدن على الولائد أيضاً
﴿الذين﴾ محلُّه الجرُّ على أنه صفةٌ للمستضعفين أو لما في حيز البيانِ أو النصبُ على الاختصاص ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا﴾ بالشرك الذي هو ظلمٌ عظيمٌ وبأذِيَّة المسلمين وهي مكةُ والظالم صفتها وتذكيرة لتذكير ما أسند إليه فإن اسمَ الفاعلِ والمفعولِ إذا أُجريَ على غيرِ مَن هُو له كان كالفعل في التذكير والتأنيثِ بحسب ما عمِل فيه واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً كلا الجارَّيْنِ متعلقٌ باجْعل لاختلاف معنييهما وتقديمُ المجرورين على المفعول الصريحِ لإظهار الاعتناءِ بهما وإبرازِ الرغبةِ في المؤخَّر بتقديمِ أحوالِه فإن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ عما هو من أحواله المُرَغّبة فيه كما يورث شوقَ السامعِ إلى وروده ينبئ عن كمال رغبةِ المتكلّمِ فيه واعتنائِه بحصوله لا محالة وتقديمُ اللامِ على مِنْ للمسارعة إلى إبراز كون المسئول نافعاً لهم مرغوباً فيه لديهم ويجوزُ أن تتعلقَ كلمةُ مِن بمحذوفٍ وقعَ حالاً من ولياً قُدِّمت عليهِ لكونِه نكرةٌ وكذا الكلامُ في قولِه تعالى
﴿واجعل لَّنَا مِن لدنك نَصِيراً﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما أي ولِّ علينا والياً من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفَظ علينا دينَنا وشَرْعَنا وينصُرنا على أعدائنا ولقد استجاب الله عز وجل دعاءَهم حيث يسّر لبعضهم الخروجَ إلى المدينة وجعل لمن بقيَ منهم خيرَ وليَ وأعزَّ ناصِر ففتح مكةَ على يدي نبيِّه ﷺ فتولاهم أيَّ تولَ ونصرهم أيةَ نُصرةٍ ثم استعمل عليهم عتابَ بنَ أسيد فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعزَّ أهلِها وقيل المرادُ واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ ولايةً ونُصرةً أي كن أنت وليَّنا وناصِرَنا وتكريرُ الفعلِ ومتعلِّقَيْه للمبالغة في التضرع والابتهال
﴿والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الطاغوت﴾ أي فيما يوصِلُهم إلى الشيطان فلا ناصرَ لهم سواه والفاءُ في قوله تعالى
﴿فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان﴾ لبيان استتباعِ ما قبلَها لما بعدَها وذكرهم بهذا العُنوانِ للدِلالة عَلى أنَّ ذلكَ نتيجةٌ لقتالهم في سبيل الشيطانِ والإشعارِ بأن المؤمنين أولياءُ الله تعالى لما أن قتالَهم في سبيله وكل
﴿إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً﴾ أي في حد ذاتِه فكيف بالقياس إلى قُدرةِ الله تعالى ولم يتعرّضْ لبيان قوةِ جنابِه تعالى إيذاناً بظهورها قالوا فائدةُ إدخالِ كان في أمثالِ هذهِ المواقعِ التأكيدُ ببيان أنه منذ كان كان كذلك فالمعنى أن كيدَ الشيطانِ منذ كان موصوفاً بالضعف
﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاة﴾ فإني لم أُومْر بقتالهم وبناءُ القولِ للمفعول مع أن القائلَ هو النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم للإيذان بكون ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى ولأن المقصودَ بالذات والمعتبرَ في التعجيب إنما هو كمالُ رغبتهم في القتال وكونههم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه وإنما ذُكر في حيز الصِّلةِ الأمرُ بكف الأيدي لتحقيقه وتصويرِه على طريقة الكنايةِ فلا يتعلق ببيان خصوصة الأمرِ غرضٌ وكانوا في مدة إقامتِهم بمكةَ مستمرِّين على تلك الحالةِ فلما هاجروا مع رسول الله ﷺ إلى المدينة وأُمروا بالقتال في وقعة بدرٍ كرِهَه بعضُهم وشق ذلك عليه لكن لاشكا في الدين ولا رغبةً بل نفوراً عن الإخطار بالأرواح وخوفاً من الموت بموجَب الجِبِلَّة البشريةِ وذلك قولُه تعالى
﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال﴾ الخ وهو عطفٌ على قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ باعتبار مدلولِه الكنائيِّ إذْ حينئذٍ يتحقق التبايُنُ بين مدلولَي المعطوفَين وعليه يدور أمرُ التعجيبِ كأنه قيل أَلَمْ ترَ إِلَى الذين كانوا حِراصاً على القتال فلما كُتب عليهم كرِهَه بعضُهم وقولُه تعالى
﴿إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس﴾ جوابُ لمّا على أن فريقٌ مبتدأٌ ومنهم متعلقٌ بمحذوف وقع صفة له ويخشَوْن خبرُه وتصديرُه بإذا المفاجَأةِ لبيان مسارعتِهم إلى الخشية آثِرَ ذي أثيرٍ من غيرِ تلعثمٍ وترددٍ أي فاجأ فريقٌ منهم أن يخشوا الكفارَ أن يقتلوهم ولعل توجيهَ التعجيبِ إلى الكل مع صدور الخشيةِ عن بعضهم للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدُر عن أحدهم ما ينافي حالتَهم الأولى وقولُه تعالى
﴿كَخَشْيَةِ الله﴾ مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ محلُّه النصبُ على أنَّهُ حال من فاعل يخشَون أي يخشَوْنهم مُشْبِهين لأهل خشيةِ الله تعالى وقوله تعالى
﴿أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ عطفٌ عليه بمعنى أو أشدَّ خشيةً من أهل
﴿وَقَالُواْ﴾ عطف على جوابُ لمّا أي فلما كتب عليهم القتال فاجأ فريقٌ منهم خشيةَ الناسِ وقالوا
﴿رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال﴾ في هذا الوقتِ لا على وجه الاعتراضِ على حكمه تعالى والإنكارِ لإيجابه بل على طريق تمنِّي التخفيفِ
﴿لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ استزادةٌ في مُدة الكفِّ واستمهالٌ إلى وقت آخرَ حذراً من الموت وقد جُوِّز أن يكون هذا مما نَطَقت به ألسنةُ حالِهم من غير أن يتفوهوا به صريحاً
﴿قُلْ﴾ أي تزهيداً لهم فيما يؤمِّلونه بالقعود من المتاع الفاني وترغيباً فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي
﴿متاع الدنيا﴾ أي ما يُتَمتّع ويُنتفع به في الدنيا
﴿قَلِيلٌ﴾ سريعُ التقضِّي وشيكُ الانصرامِ وإن أُخِّرتم إلى ذلك الأجلِ
﴿والاخرة﴾ أي ثوابُها الذي من جملته الثوابُ المنوطُ بالقتال
﴿خَيْرٌ﴾ أي لكم من ذلك المتاعِ القليلِ لكثرته وعدمِ انقطاعِه وصفائِه عن الكدورات وإنما قيل
﴿لِمَنِ اتقى﴾ حثاً لهم على اتقاء العصيان والإحلال بمواجب التكليفِ
﴿وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ عطفٌ على مقدَّرٍ ينسحبُ عليه الكلام أي تُجزَوْن فيها ولا تُنقَصون إدنى شئ من أجور أعمالِكم التي منْ جُملتِها مسعاكم في شأن القتالِ فلا ترغبوا عنه والفتيلُ ما في شق النواةِ من الخيط يضرب به المثل في القلة والحقارة وقرئ يظلمون بالياء إعادةً للضمير إلى ظاهر مَنْ
﴿وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ﴾ في حصون رفيعةٍ أو قصور مُحصَّنة وقال السدي وقتادة بروجُ السماء يقال شاد البناء وأشادة وشيده رفعه وقرئ مشيدة بكسر الياء وصف لها بفعل فاعلها مجازاً كما في قصيدةٌ شاعرةٌ ومَشِيدةٍ من شاد القصرَ إذا رفعه أو طلاه بالشِّيدِ وهو الجِصُّ وجوابُ لو محذوفٌ اعتماداً على دلالة
﴿وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله﴾ كلام مبتدأ جئ به عَقيبَ ما حُكي عن المسلمين لِمَا بينهما من المناسبة في اشتمالها على إسناد ما يكرَهونه إلى بعض الأمورِ وكراهتِهم له بسبب ذلك والضميرُ لليهود والمنافقين روي أنه كان قد بُسط عليهم الرزقُ فلما قدِم النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم المدينةَ فدعاهم إلى الإيمان فكفروا أُمسِك عنهم بعضَ الإمساك فقالوا مازلنا نعرِف النقصَ في ثمارنا ومَزارِعنا منذ قدِمَ هذا الرجلُ وأصحابُه وذلك قوله تعالَى
﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ﴾ أي وإن تصبْهم نِعمةٌ ورخاءٌ نسبوها إلى الله تعالى وإن تصبْهم بليةٌ من جَدْب وغلاءٍ أضافوها إليك كما حُكي عن أسلافهم بقوله تعالَى ﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ﴾ فأُمر النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم بأن يرُدَّ زعمَهم الباطلَ ويُرشِدَهم إلى الحق ويُلقِمَهم الحجر ببيان إسنادِ الكلِّ إليه تعالى على الإجمال إذ لا يجترئون على معارضة أمرِ الله عزَّ وجلَّ حيث قيل
﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِندِ الله﴾ أي كلُّ واحدةٍ من النعمة والبليةِ من جهة الله تعالى خلقاً وإيجاداً من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شئ منهما بوجهٍ من الوجوه كما تزعُمون بل وقوعُ الأوُلى منه تعالى بالذات تفضلاً ووقوعُ الثانية بواسطة ذنوبِ من ابتُليَ بها عقوبةً كما سيأتي بيانُه فهذا الجوابُ المُجملُ في معنى ما قيل رداً على أسلافهم من قوله تعالى ﴿أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله﴾ أي إنما سببُ خيرِهم وشرِّهم أو سببُ إصابةِ السيئةِ التي هي ذنوبُهم عندَ الله تعالَى لاَ عند غيرِه حتى يسندوها إليه ويَطّيّروا به وقوله تعالى
﴿فما لهؤلاء القوم﴾ الخ كلام معترضٌ بين المُبينِ وبيانِه مَسوقٌ من جهتِه تعالَى لتعييرهم بالجهل وتقبيحِ حالِهم والتعجيبِ من كمال غباوتِهم والفاءُ لترتيبه على ما قبله وقولُه تعالى
﴿لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً﴾ حالٌ من هؤلاء والعاملُ فيها ما في الظرف من مَعْنى الاستقرارِ أيْ وحيث كان الأمر كذلك فأى شئ حصل لهم حالَ كونِهم بمعزل من أن يفقَهوا حديثاً أو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأ من الاستفهام كأنه قيلَ ما بالُهم وماذا يصنعون حتى يُتعجّبَ منه أو يُسألَ عن سببه فقيل لا يكادون يفقهون حديثاً من الأحاديث أصلاً فيقولون ما يقولون إذ لو فقِهوا شيئاً من ذلك لفهموا هذا النصَّ وما في معناه وما هو أوضحُ منه من النصوص القرآنية الناطقةِ بأن الكلَّ فائضٌ من عند الله تعالى وأن النعمةَ منه تعالى بطريق التفضلِ والإحسانِ والبليةَ بطريق العقوبةِ على ذنوب العباد لاسيما النصُّ الواردُ عليهم فِى صُحُفِ موسى وإبراهيم الذى وفي لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ولم يُسنِدوا جنايةَ أنفسِهم إلى غيرهم وقوله تعالى
﴿فَمِنَ الله﴾ أي فهي منه تعالى بالذات تفصيلا وإحساناً من غير استيجابٍ لها مِنْ قِبَلك كيف لا وأن كلَّ ما يفعله المرءُ من الطاعات التي يُفرض كونُها ذريعةً إلى إصابة نعمةٍ ما فهي بحيث لا تكاد تكافئ نعمةَ حياتِه المقارنةِ لأدائها ولا نعمةَ إقدارِه تعالى إياه على أدائها فضلاً عن استيجابها لنعمة أخرى ولذلك قال ﷺ ما أحدٌ يدخُل الجنة إلا برحمة الله تعالى قيل ولا أنت يا رسولَ الله قالَ ولا أنا
﴿وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ﴾ أي بلية من البلايا
﴿فَمِن نَّفْسِكَ﴾ أي فهي منها بسبب اقترافِها المعاصيَ الموجبةَ لها وإن كانت من حيث الإيجادُ منتسبة إليه تعالى نازلةً من عنده عقوبةً كقوله تعالى ﴿وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عَن كَثِيرٍ﴾ وعنْ عائشةَ رضيَ الله عنها ما من مسلم يُصيبه وصَبٌ ولا نصَبٌ حتى الشوكةُ يُشاكُها وحتى انقطاعُ شِسْعِ نعلِه إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثرُ وقيل الخطابُ لرسولِ الله ﷺ كما قبلَه وما بعدَهُ لكن لا لبيان حالِه ﷺ بل لبيان حالِ الكفرةِ بطريق التصويرِ ولعل ذلك لإظهار كمالِ السخطِ والغضبِ عليهم والإشعارِ بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استقاق الخطابِ لا سيما بمثل هذه الحكمةِ الأنيقة
﴿وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً﴾ بيانٌ لجلالة منصبه ﷺ ومكانته عند الله عز وجل بعد بيانِ بُطلانِ زعمِهم الفاسد في حقه ﷺ بناءً على جهلهم بشأنه الجليلِ وتعريفُ الناسِ للاستغراق والجارُّ إما متعلقٌ برسولاً قُدّم عليه للاختصاص الناظرِ إلى قيد العمومِ أي مرسَلاً لكل الناس لا لبعضهم فقط كما في قولِه تعالى ﴿وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ﴾ وإما بالفعل فرسولاً حالٌ مؤكدةٌ وقد جوز أن يكون مصدرا مؤكدا كما في قوله... لقد كذَب الواشون ما فُهْتُ عندهم... بسرَ ولا أرسلتُهم برسولِ...
أي بإرسال بمعنى رسالة
﴿وكفى بالله شَهِيداً﴾ أي على رسالتك بنصب المعجزاتِ التي من جملتها هذا النصُّ الناطقُ والوحيُ الصادِقُ والالتفاتُ لتربية المهابةِ وتقويةِ الشهادة والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ
﴿ومن تولى فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ وجوابُ الشرطِ محذوفٌ والمذكورُ تعليلٌ له أي ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه إنما أرسلناك رسولاً مبلغا لاحفيظا مهيمِناً تحفَظ عليهم أعمالَهم وتحاسِبُهم عليها وتعاقبهم بحسَبها وحفيظاً حالٌ من الكاف وعليهم متعلقٌ بهِ قُدِّم عليهِ رعايةً للفاصلة وجمعُ الضميرِ باعتبارِ مَعْنى من كما أن الإفراد في تولى باعتبار لفظِه
﴿فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ﴾ أي خرجوا من مجلسك
﴿بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ﴾ أي من القائلين المذكورين وهم رؤساؤُهم
﴿غَيْرَ الذى تَقُولُ﴾ أي زوَّرتْ طائفةٌ منهم وسوَّتْ خلافَ ما قالت لك من القَبول وضمانِ الطاعةِ لأنهم مُصِرُّون على الرد والعصيانِ وإنما يُظهرون ما يُظهرون على وجه النفاقِ أو خلافَ ما قلتَ لها والتبييتُ إما من البيتوته لأنه قضاءُ الأمرِ وتدبيرُه بالليل يقال هذا أمرٌ بُيِّت بليل وإما من بيت الشِّعر لأن الشاعر يُدبِّره ويسوبه وتذكيرُ الفعلِ لأن تأنيثَ الطائفة غير حقيقى وقرئ بإدغام التاء في الطاء لقُرب المخرَجِ وإسنادُه إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدّون له بالذات والباقون أتباعٌ لهم في ذلك لا لأن الباقبن ثابتون على الطاعة
﴿والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ﴾ أي يكتُبه في جملة ما يوحى إليك فيُطلعُك على أسراراهم فلا يحسَبوا أن مكرَهم يخفى عليكم فيجدوا بذلك إلى الإصرار بكم سبيلاً أو يُثبتُه في صحائفهم فيجازيهم عليهِ وأيَّاً ما كانَ فالجملةُ اعتراضيةٌ
﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي لاتبال بهم وبما صنعوا أو تَجافَ عنهم ولا تتصدَّ للانتقام منهم والفاءُ لسببيةِ ما قبلَها لما بعدها
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ في كل ما تأتِي وما تذرُ لاسيما في شأنهم وإظهارُ الجلالةِ في مقام الإضمارِ للإشعار بعلة الحُكمِ
﴿وكفى بالله وكيلا﴾ فيكفيك معرفتهم وينتقم لن منهم والإظهار ههنا أيضا لما مر والتنبية على استقلال الجملةِ واستغنائِها عما عداها من كل وجه
﴿وَلَوْ كَانَ﴾ أي القرآنُ
﴿مِنْ عِندِ غَيْرِ الله﴾ كما يزعُمون
﴿لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً﴾ بأن يكون بعضُ أخبارِه غيرَ مطابقٍ للواقع إذ لا علم با لأمور الغيبيةِ ماضيةً كانت أو مستقبلةً لغيره سبحانه وحيث كانت مطابقةً للواقع تعيَّن كونُه من عندِه تعالَى قال الزجاج ولولا أنَّه من عندِ الله تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب مما يُسِرُّه المنافقون وما يُبيِّتونه مختلفاً بعضُه حق وبعضه
﴿وَلَوْ رَدُّوهُ﴾ أي ذلك الأمرَ الذي جاءهم
﴿إِلَى الرسول﴾ أي عرَضوه على رأية ﷺ مستكشفين لمعناه وما ينبغي له من التدبير والالتفاتِ لما أن عنوانَ الرسالةِ من موجبات الردِّ والمراجعةِ إلى رأيه صلى الله عليه وسلم
﴿وإلى أُوْلِى الامر مِنْهُمْ﴾ وهم كبراءُ الصحابةِ البصراءِ في الأمور رضي الله تعالى عنهم
﴿لَعَلِمَهُ﴾ أي لعلم الرادُّون معناه وتدبيرَه وإنَّما وضعَ موضعَ ضميرِهم الموصولُ فقيل
﴿الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ للإيذان بأنه ينبغي أن يكون قصدهم برده إليهم استكشافُ معناه واستيضاحُ فحواه أي لعَلِمه أولئك الرادون الذين يستبطونه أى يتلقونه ويستخرجون علمه وتدبيرَه منهم أي من جهة الرسول ﷺ وأولي الأمرِ من صحابته رضوانُ الله عليهم أجمعين ولمّا فعلوا في حقه ما فعلوا فلم يقَعْ ما وقع من الاشتباه وتوهّمِ الاختلافِ وقيل لعَلمه الذين يستخرجون تدبيره بفظنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدِها فكلمةُ مِنْ في مِنْهُمْ بيانية وقيل إنهم كانوا إذا بلغهم خبرٌ عن سرايا رسولِ الله ﷺ مِنْ أمن وسلامةٍ أو خوفٍ وخللٍ أذاعوا به وكانت إذاعتُهم مفسدةً ولو ردوا ذلك الخبرَ إلى رسول الله ﷺ وإلى أولي الأمرِ لعلم تدبيرَ ما أُخبروا به الذين يستنبطونه أى بستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحربِ ومكايدِها وقيل
﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ للطائفة المذكورةِ على طريقة الالتفاتِ أي لولا فضلُه تعالى عليكم ورحمتُه بإرشادكم إلى طريق الحقِّ الذي هو المراجعةُ في مظانِّ الاشتباهِ إلى الرسول ﷺ وأولي الأمرِ
﴿لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان﴾ وعمِلتم بآراء المنافقين فيمَا تأتونَ وما تذرونَ ولم تهتدوا إلى سُنن الصوابِ
﴿إلا قليلا﴾ وهم أولو الأمرِ الواقفون على أسرار الكتابِ الراسخون في معرفة أحكامِه فالاستثناءُ منقطعٌ وقيل ولولا فضلُه تعالى عليكم ورحمتُه بإرسالِ الرسولِ وإنزالِ الكتابِ لاتَّبعتم الشيطانَ وبقِيتم على الكفر والضلالةِ إلا قليلاً منكم قد تفضَّلَ عليه بعقل راجح اهتدى به إلى طريق الحقِّ والصوابِ وعصَمَه من متابعة الشيطان كقس ابن ساعِدةَ الإياديِّ وزيدِ بنِ عمْرو بنِ نُفيل ووَرَقةَ بنِ نوفلٍ وأضرابِهم فالخطابُ للكل والاستثناءُ متصلٌ وقيل المرادُ بالفضل والرحمة النُصرةُ والظفر بالأعداء أى ولولا حصولُ النصرِ والظفرِ على التواتر والتتابع لاتبعتم الشيطانَ وتركتم الدينَ إلا قليلا منكم وهم أولوا البصائر الناقدة والنياتِ القويةِ والعزائمِ الماضيةِ من أفاضل المؤمنين الواقفين على حقية الدينِ البالغين إلى درجة حقِّ اليقينِ المستغنين عن مشاهدة آثارِ حقِّيتِه من الفتْح والظفَرِ وقيل إلا اتباعاً قليلاً
﴿لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾ أي إلا فِعْلَ نفسِكْ استئناف مقرر لما قبله فإن اختصاص تكليفه ﷺ بفعل نفسِه من موجبات مباشرتِه للقتال وحدَه وفيه دَلالةٌ على أن ما فعلوا من التثبيط لا يضره ﷺ ولا يؤاخَذ به وقيلَ هُو حالٌ من فاعل قاتِلْ أي فقاتِلْ غيرَ مكلف إلا نفسك وقرئ لا تُكَلّفُ بالجزم على النهي وقيل على جواب الأمر وقرئ بنون العظمة أى لانكلفك إلا فعلَ نفسِك لا عَلى معنى لا نكلف أحداً إلا نفسَك
﴿وَحَرّضِ المؤمنين﴾ عطفٌ على الأمر السابقِ داخلٌ في حكمه فإن كونَ حالِ الطائفتين كما
﴿عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ﴾ عِدَةٌ منه سبحانه وتعالى محقَّقةُ الإنجازِ بكف شدةِ الكفرة ومكرهم فإن ما صدر بلعل وعسى مقرَّرُ الوقوعِ من جهته عزَّ وجلَّ وقد كانَ كذلكَ حيثُ رُوِيَ أنَّ رسولَ الله ﷺ واعد أبا سفيانَ بعد حربِ أُحدٍ موسِمَ بدرٍ الصغرى في ذي القَعدةِ فلما بلغ الميعادَ دعا الناسَ إلى الخروج فكرِهه بعضُهم فنزلت فخرج رسولُ الله ﷺ في سبعين راكباً ووافَوا الموعِدَ وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعبَ فرجعوا من مرِّ الظّهرانِ ورويَ أنَّ رسولَ الله ﷺ وافى بجيشه بدراً وأقام بها ثمانيَ ليالٍ وكانت معهم تجاراتٌ فباعوها وأصابوا خيراً كثيراً وقد مرَّ في سورةِ آل عمران
﴿والله أَشَدُّ بَأْساً﴾ أي من قريش
﴿وَأَشَدُّ تَنكِيلاً﴾ أي تعذيباً وعقوبةً تُنكّل مَنْ يشاهدُها عن مباشرة ما يؤدي إليها والجملةُ اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ لما قبلها وإظهارُ الاسمِ الجليلِ لتربية المهابة وتعليل الحكم وتقويةِ استقلالِ الجُملة وتكريرُ الخبرِ لتأكيد التشديدِ وقوله تعالى
﴿وَمَن يَشْفَعْ شفاعة سَيّئَةً﴾ وهي ما كانت بخلاف الحسنةِ
﴿يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا﴾ أي نصيب من وِزْرها مساوٍ لها في المقدار من غير أن ينقص منه شئ
﴿وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء مُّقِيتاً﴾ أي مقتدراً من أقات على الشيء إذا اقتدر عليه أو شهيداً حفيظاً واشتقاقُه من القُوت فإنه يقوِّي البدَنَ ويحفَظُه والجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لما قبلها على كلا المعنيين
﴿فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا﴾ أي بتحيةٍ أحسنَ منها بأن تقولوا وعليكم السلامُ ورحمةُ الله إن اقتصر المُسلمُ على الأول وبأن تزيدوا وبركاته إن جمعها المسلمُ وهي النهايةُ لانتظامها لجميع فنونِ المطالبِ التي هي السلامةُ عن المضارِّ ونيلُ المنافعِ ودوامُها ونماؤُها
﴿أَوْ رُدُّوهَا﴾ أي أجيبوها بمثلها رُوي أن رجالاً قال أحدُهم لرسول الله ﷺ السلامُ عليك فقال وعليك السلام ورحمةُ الله وقال الآخرُ السلامُ عليك ورحمةُ الله فقال وعليك السلامُ ورحمةُ الله وبركاتُه وقال الآخرُ السلامُ عليك ورحمةُ الله وبركاتُه فقال وعليك فقال الرجل نقصتَني فأين ما قال الله تعالى وتلا الآية فقال ﷺ إنك لم تترُكْ ليَ فضلاً فردَدْتُ عليك مثلَه وجوابُ التسليم واجبٌ وإنما التخييرُ بين الزيادةِ وتركِها وعن النخعيّ أن السلامَ سنةٌ والردَّ فريضةٌ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الردُّ واجبٌ وما من رجل يمُرُّ على قوم مسلمين فيسلّم عليهم ولا يردّون عليه إلا نزَع الله منهم روُحَ القُدسِ وردَّت عليه الملائكة ولا يردّ في الخُطبة وتلاوةِ القرآنِ جهراً وروايةِ الحديثِ وعند دراسةِ العلمِ والآذانِ والإقامةِ ولا يسلّم على لاعب النرْدِ والشطرنج والمغنّي والقاعدِ لحاجته ومُطيِّرِ الحَمام والعاري في الحمّام وغيرِه قالوا ويسلم الرجلُ على امرأته لا على الأجنبية والسُّنةُ أن يسلِّم الماشي على القاعد والراكبُ على الماشي وراكبُ الفرسِ على راكب الحمارِ والصغيرُ على الكبير والقليلُ على الكثير وإذا التَقَيا ابتدرا وعن أبي حنيفةَ رضى الله عنه لا يجهر بالرد يعني الجهرَ الكثيرَ وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم إذا سلَّم عليكُم أهلُ الكتابِ فقولوا وعليكُم أي وعليكم ما قلتم حيث كان يقول بعضُهم السلام عليكم وروي لا تبدأ اليهوديَّ بالسلام وإذا بدأك فقل وعليك وعن الحسن أنه يجوز أن يقول للكافر وعليك السلامُ دون الزيادة وقيل التحيةُ بالأحسن عند كونِ المسلِّمِ مسلماً وردُّ مثلِها عند كونِه كافراً
﴿إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء حَسِيباً﴾ فيحاسبكم على كل شئ من أعمالِكم التي منْ جُملتِها ما أُمرتم بهِ من التحية فحافِظوا على مراعاتها حسبما أُمرتم به
﴿لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة﴾ جوابُ قسمٍ محذوفٍ أيْ والله ليحشُرَّنكم من قبوركم إلى يومِ القيامةِ وقيلَ إلى بمعنى في والجملةُ القسميةُ إما مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب أو خبرٌ ثانٍ للمبتدأ أو هي الخبر ولا إله إِلاَّ هُوَ اعتراضٌ وقوله تعالَى
﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ أي في يوم القيامةِ أو في الجمع حالٌ من اليوم أو صفةٌ للمصدر أي جمعاً لا ريب فيه
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً﴾ إنكار لأن يكون أحد أصدقَ منه تعالى في وعده وسائر
﴿فِى المنافقين﴾ متعلقٌ إما بما تعلَّق بهِ الخبرُ أي أي شئ كائنٌ لَكُمْ فِيهِمْ أي في أمرهم وشأنِهم فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مُقامَه وإما بما يدلُّ عليه قولُه تعالى
﴿فِئَتَيْنِ﴾ من معنى الافتراقِ أي فما لكم تفترقون في المنافقين وإما بمحذوفٍ وقعَ حالاً من فئتين أي كائنتين في المنافقين لأنَّه في الأصلِ صفةٌ فلما قدمت انتصبت حالا كما هو شأنُ صفاتِ النكراتِ على الإطلاقِ أو منْ الضمير في تفترقون وانتصابُ فئتين عند البصْريين على الحالية من المخاطَبين والعاملُ ما في لكم من معنى الفعلِ كما في قولِه تعالَى ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ وعند الكوفيين على خبرية كان مُضمرةً أي فما لكم في المنافقين كنتم فئتين والمرادُ إنكارُ أن يكون للمخاطبين شئ مصحح لاختلافهم في أمر المنافقين وبيانِ وجوبِ بتِّ القولِ بكفرهم وإجرائهم مُجرى المجاهرين بالكفر في جميع الأحكامِ وذكرُهم بعنوان النفاقِ باعتبار وصفِهم السابق روي أنهم قومٌ من المنافقين استأذنوا رسولَ الله ﷺ في الخروج إلى البدو معتلين باجتواء المدينةِ فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مَرْحلةً فمرحلة حتى لحِقوا بالمشركين فاختلف المسلمون في أمرهم وقيل هم قوم هاجروا من مكةَ إلى المدينةِ ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إلى رسول الله ﷺ إنا على دينك وما أخرَجَنا إلا اجتواءُ المدينةِ والاشتياقُ إلى بلدنا وقيل هم ناسٌ أظهروا الإسلامَ وقعدوا عن الهجرة وقيل هم قومٌ خرجوا مع الرسول الله ﷺ يوم أُحد ثم رجعوا ويأباهُ ما سيأتِي من جعل هِجرتِهم غايةً للنهي عن تولهم وقيل هم العُرَنيّون الذين أغاروا على السَّرْح وقتلوا راعى رسول الله ﷺ ويرده ما سيأتي من الآيات الناطقةِ بكيفية المعاملة معهم من السلم والحربِ وهؤلاء قد أُخذوا وفُعل بهم ما فُعل من المُثلةِ والقتلِ ولم يُنقلْ في أمرهم اختلافُ المؤمنين
﴿والله أَرْكَسَهُمْ﴾ حال من المنافقين مفيدةٌ لتأكيد الإنكارِ السابقِ واستبعادِ وقوعِ المنكرِ ببيان وجود الباقى بعد بيانِ عدمِ الداعي وقيل من ضمير المخاطَبين والرابطُ هو الواو أي أى شئ يدعوكم إلى الاختلاف في كفرهم معَ تحققِ ما يُوجبُ اتفاقَكم على كفرهم وهو إنَّ الله تعالى قد ردهم في الكفر كما كانوا
﴿بِمَا كَسَبُواْ﴾ بسبب ما كسَبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين ولاحتيال على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم والعائدُ إلى الموصول محذوفٌ وقيل ما صدرية أي بكسبهم وقيل معنى أركسهم نَكّسهم بأن صيَّرهم للنار وأصلُ الرِّكسِ ردُّ الشئ مقلوبا وقرئ رَكَّسهم مشدداً ورَكَسَهم أيضاً مخففاً
﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله﴾ تجريدٌ للخطاب وتخصيصٌ له بالقائلين بإيمانهم من الفئتين وتوبيخٌ لهم على زعمهم ذلك وإشعارٌ بأنه يؤدي إلى محاولة المُحالِ الذي هو هدايةُ من أضله الله تعالى وذلك لأن الحُكمَ بإيمانهم وادعاءِ اهتدائِهم وهم بمعزل من ذلك سعيٌ في هدايتهم وإرادةٌ لها ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرِ المنافقين لتشديد الإنكارِ
﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ أي ومن يَخْلُقْ فيه الضلالَ كائناً من كان فلن تجدَ له سبيلاً من السبل فضلاً عن أن تهدِيَه إليه وفيه من الإفصاح عن كمال الاستحالةِ مَا ليسَ في قولِه تعالى ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ ونظائرِه وحملُ إضلالِه تعالى على حُكمه وقضائِه بالضلال مُخِلٌّ بحسن المقابلة بين الشرطِ والجزاءِ وتوجيهُ الخطابِ إلى كلِّ واحدٍ من المخاطَبين للإشعار بشمول عدمِ الوجدان للكل على طريق التفصيلِ والجملةُ إما حالٌ من فاعل تريدون أو تهتدوا والرابطُ هو الواو أو اعتراضٌ تذييليٌّ مقرِّرٌ للإنكار السابق ومؤكده لاستحالة الهدايةِ فحينئذ يجوز أن يكون الخطابُ لكلِّ أحدٍ ممن يصلُح له من المخاطَبين أولاً ومن غيرهم
﴿كَمَا كَفَرُواْ﴾ نُصب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أى كفر مثلَ كفرِهم أو حالٌ من ضميرِ ذلك المصدرِ كما هُو رأيُ سيبويهِ وقولُه تعالى
﴿فَتَكُونُونَ سَوَاء﴾ عطفٌ على تكفرُونَ داخلٌ في حُكمهِ أيْ ودوا أن تكفروا فتكونوا سواءً مستوِين في الكفر والضلالِ وقيل كلمةُ لو على بابها وجوابُها محذوفٌ كمفعول ودّوا لتقدير ودوا كفرَكم لو تكفرون كما كفروا لسروا بذلك
﴿فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء﴾ الفاء جوابُ شرطٍ محذوفٍ وجمعُ أولياءَ لمراعاة جمعِ المخاطَبين فإن المرادَ نهيُ أن يتخذ واحدٌ من المخاطبين ولياً واحداً منهم أيْ إذا كانَ حالُهم ما ذُكر من وِدادة كفرِكم فلا توالوهم
﴿حتى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ الله﴾ أي حتى يؤمنوا ويحققوا إيمانَهم بهجرةٍ كائنةٍ لله تعالى ورسوله ﷺ لالغرض من أغراض الدنيا
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أي عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحية المستقيمةِ
﴿فَخُذُوهُمْ﴾ أي إذا قدَرتم عليهم
﴿واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ من الحِلّ والحرمِ فإن حُكمَهم حكمُ سائرِ المشركين أسراً وقتلاً
﴿وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ أي جانبوهم مجانبةً كليةً ولا تقبَلوا منهم وِلايةً ولا نُصرةً إبداً
﴿أَوْ جاؤوكم﴾ عطفٌ على الصلة أي أو الذين جاءوكم كافّين عن قتالكم وقتالِ قومِهم استُثني من المأمور بأخذهم وقتلِهم فريقان أحدُهما من ترك المحاربين ولحِق بالمعاهَدين والآخرُ من أتى المؤمنين وكفّ عن قتال الفريقين أو على صفةِ قومٍ كأنه قيل إلا الذين يصلون إلى قوم معاهَدين أو إلى قوم كافّين عن القتال لكم والقتالِ عليكم والأول هو الأظهر لما سيأتِي من قولِه تعالى ﴿فَإِنِ اعتزلوكم﴾ الخ فإنَّه صريحٌ في أن كفَّهم عن القتال أحدُ سَبَبي استحقاقِهم لنفي التعرُّضِ لهم وقرئ جاءوكم بغير عاطفٍ على أنه صفةٌ بعد صفةٍ أو بيانٌ ليصِلون أو استئنافٌ
﴿حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ حالٌ بإضمار قد يدليل أنه قرئ حَصِرَةٌ صدورُهم وحَصِراتٌ صدورُهم وحاصرات صدورهم وقيل صفة لموصوفٍ محذوف هو حال من فاعل جاءوا أى أو جاءوكم قوما حصرت صدورُهم وقيل هو بيانٌ لجاءوكم وهم بنو مَدلج جاءوا رسول الله ﷺ غيرَ مقاتلين والحصرُ الضيقُ والانقباض
﴿أن يقاتلوكم أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ﴾ أي من أن يقاتلوكم أو لأَنْ يقاتلوكم أو كراهةَ أن يقاتلوكم الخ وَلَوْ شاء الله لسلطنهم عَلَيْكُمْ جملةٌ مبتدأةٌ جاريةٌ مجرى التعليل لا ستثناء الطائفةِ الأخيرةِ من حكم الأخذِ والقتلِ ونظمِهم في سلك الطائفةِ الأولى الجاريةِ مَجرى المعاهَدين مع عدم تعلّقِهم بنا ولا بمن عاهدونا كالطائفة الأولى أي وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عليكم ببسط صدورِهم وتقويةِ قلوبِهم وإزالةِ الرعبِ عنها
﴿فلقاتلوكم﴾ عَقيبَ ذلك ولم يكفّوا عنكم واللامُ جوابُ لو على التكرير أو الإبدال من الأولى وقرئ فلقتلوكم بالخفيف والتشديد
﴿فَإِنِ اعتزلوكم﴾ ولم يتعرضوا لكم
﴿فَلَمْ يقاتلوكم﴾ مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئةِ الله عَزَّ وجَلَّ
﴿وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم﴾ أى الانقياد والاستسلام وقرئ بسكون اللام
﴿فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾ طريقاً بالأسر أو بالقتل فإن مكافتهم عن قتالكم وأن يقاتلوا قومَهم أيضاً وإلقاءَهم إليكم السَّلَم وإن لم يعاهدوكم كافيةٌ في استحقاقهم لعدم تعرضكم لهم
﴿كل ما رُدُّواْ إِلَى الفتنة﴾ أي دُعوا إلى الكفر وقتالِ المسلمين
﴿أُرْكِسُواْ فِيِهَا﴾ قُلبوا فيها أقبحَ قلْبٍ وأشنَعَه وكانوا فيها شراً من كل عدو شرَّيرٍ
﴿فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ﴾ بالكف عن التعرُّض لكم بوجه ما
﴿وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السلم﴾ أي لم يُلْقوا إليكم الصُلْحَ والعهدَ بل نَبَذوه إليكم
﴿وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ﴾ أي لم يكفّوها عن قتالكم
﴿فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حيث ثقفتموهم﴾ أي تمكّنتم منهم
﴿وَأُوْلَئِكُمْ﴾ الموصوفون بما عُدّد من
﴿جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سلطانا مُّبِيناً﴾ حُجةً واضحةً في الإيقاع بهم قتلا وسببا لظهور عدواتهم وانكشافِ حالِهم في الكفر والغدرِ وإضرارِهم بأهل الإسلامِ أو تسلطاً ظاهراً حيث أذِنّا لكم في أخذهم وقتلِهم
﴿أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً﴾ بغير حقَ فإن الإيمانَ زاجرٌ عن ذلك
﴿إِلا خطأ﴾ فإنه ربما يقع لعدم دخولِ الاحترازِ عنه بالكلية تحت الطاقةِ البشريةِ وانتصابُه إمَّا على أنَّه حالٌ أي وما كان له أن يقتلَ مؤمناً في حالٍ من الأحوالِ إلا في حال الخطأ أو على أنَّه مفعولٌ له أي وما كان له أن يقتله لعِلّة من العلل إلا للخطأ أو على أنه صفةٌ للمصدر أي إلا قتلاً خطأً وقيل إلا بمعنى ولا والتقديرُ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً عمداً ولا خطأً وقيل مَا كَانَ نفيٌ في مَعْنى النهي والاستثناءُ منقطِعٌ أي لكنْ إن قتله خطأً فجزاؤُه ما يُذكر والخطأ مالا يقارِنه القصْدُ إلى الفعل أو إلى الشخص أولا يُقصد به زُهوقُ الروحِ غالباً أو لا يقصد به محظورٌ كرمي مُسلمٍ في صف الكفارِ مع الجهل بإسلامه وقرئ خطأ بالمد وخَطاً كعصا بتخفيف الهمزة روي أن عياشَ بنَ أبي ربيعةَ وكان أخا أبي جهلٍ لأمّه أسلم وهاجر إلى المدينة خوفاً من أهله وذلك قبل هجرة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فأقسمَتْ أمُّه لا تأكلُ ولا تشربُ ولا يَأْويها سقفٌ حتى يرجِع فخرج أبو جهل ومعه الحرث بنُ زيدِ بنِ أبي أنيسةَ فأتياه وهو في أطم ففتل منه أبو جهل في الذُّروة والغارب وقال أليس محمدٌ يحثُّك على صلة الرحِمِ انصرِفْ وبَرَّ أمَّك وأنت على دينك حتى نزل وذهب معهما فلما فسَحا من المدينة كتفاه وجلده فقال للحرث هذا أخي فمن أنت يا حرث لله علي إن وجدتك خالياً أن أقتلَك وقدِما به على أمه فحلفت لا يُحَلُّ كِتافُه أو يرتدَّ ففعل بلسانه ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحرث وهاجر فلقِيَه عياشُ بظهر قُباءَ ولم يشعُرْ بإسلامه فأنحى عليه فقتله ثم أُخبر بإسلامه فأتى رسولَ الله ﷺ فقال قتلتُه ولم أشعُرْ بإسلامه فنزلت
﴿وَمَن قَتَلَ مؤمنا خطأ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ أي فعليه أو فموجبة تحريرُ رقبةٍ أي إعتاقُ نسمةٍ عبّر عنها بها كما يعبر عنها بالرأس
﴿مؤمنة﴾ أى محكوما بإسلامها وإن كانت صغيرة
﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ﴾ مؤدّاةٌ إلى ورثته يقتسِمونها كسائر المواريث لقول ضحاك بنِ سفيانَ الكِلابيّ كتب إلى رسول الله ﷺ يأمُرني أن أُورّث امرأةَ أشيمَ الضبابيّ من عقْل زوجِها
﴿إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ﴾ أي إلا أن يتصدق أهلُه عليه سمِّي العفوُ عنها صدقةً حثاً عليه وتنبيهاً على فضله وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم كل معروف صدقة وقرئ إلا أن يتصدقوا وهو متعلقٌ بعليه أو بمُسلّمة أي تجب الديةُ أو يسلّمها إلى أهله إلا وقت تصدقِهم عليه فهو في محل النصب على الظرفية أو إلا حالَ كونِهم متصدِّقين عليه فهو حالٌ من الأهل أو القاتلِ
﴿فَإن كَانَ﴾ أي المقتولُ
﴿مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ﴾ كفارٍ محاربين
﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ ولم يَعْلم به القاتلُ لكونه بين أظهُرِ قومه
﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ أي فعلى قاتله الكفارةُ دون الديةِ إذ لا وِراثة بينه وبين أهلِه لأنهم محارَبون
﴿وَإِن كَانَ﴾ أي المقتولُ المؤمنُ
﴿مِن قَوْمٍ﴾ كفرَة
﴿بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق﴾ أي عهدٌ مؤقتٌ أو مؤبدٌ
﴿فَدِيَةٌ﴾ أي فعلى قاتله ديةٌ
﴿مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ﴾ من أهل الإسلامِ إن وجدوا ولعل تقديمَ هذا الحكم ههنا مع تأخيره فيما سلف لللإشعار بالمسارعة إلى تسليم الديةِ تحاشياً عن توهّم نقضِ الميثاقِ
﴿وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً﴾ كما هو حكمُ سائرِ المسلمين ولعل إفرادَه بالذكر مع اندراجه في حكم ما سبقَ من قولِه تعالى وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خطأ الخ لبيان أن كونَه فيما بين المعاهَدين لا يمنع وجوبَ الديةِ كما منعه كونُه فيما بين المحارَبين وقيل المرادُ بالمقتول الذميُّ أو المعاهَدُ لئلا يلزَمَ التكرارُ بلا فائدةٍ ولا التوريثُ بين المسلمِ والكافر وقد عرفت عدم لزومها
﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ﴾ أيْ رقبةً ليُحرِّرها بأن لم يملِكْها ولا ما يُتوصّل به إليها من الثمن
﴿فَصِيَامُ﴾ أيْ فعليهِ صيامُ
﴿شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ لم يتخللْ بين يومين من أيامهما إفطارٌ
﴿تَوْبَةً﴾ نُصب على أنَّه مفعولٌ له أي شُرع لكم ذلك توبةً أي قَبولاً لها من تاب الله عليه إذا قبِل توبتَه أو مصدرٌ مؤكد لفعل محذوف أي تاب عليكم توبةً وقيل على أنه حال من الضمير المجرورِ في عليه بحذف المضافِ أيْ فعليهِ صيامُ شهرينِ ذا توبةٍ وقولُه تعالى
﴿مِنَ الله﴾ متعلق بمحذوف وقع صفة لتوبةً أي كائنةً منه تعالى
﴿وَكَانَ الله عَلِيماً﴾ بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جملتها حالُه
﴿حَكِيماً﴾ في كل ما شرَع وقضى من الشرائع والأحكامِ التي من جملتها ما شرعه في شأنه
﴿فَجَزَاؤُهُ﴾ الذي يستحقه بجنايته
﴿خَالِداً فِيهَا﴾ حالٌ مقدّرةٌ من فاعل فعلٍ مقدرٍ يقتضيه المقامُ كأنه قيل فجزاؤه أن يدخُلَ جهنَّم خالداً فيها وقيلَ هُو حالٌ من ضمير يجزاها وقيل من مفعول جازه وأُيّد ذلك بأنه أنسبُ بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغةً ولا يخفى أن ما يُقدّر للحال أو العطف عليه حقُّه أن يكون مما يقتضيه المقامُ اقتضاءً ظاهراً ويدل عليه الكلامُ دَلالةً بينةً وظاهرٌ أن كونَ جزائِه ما ذُكر لا يقتضي وقوعَ الجزاءِ البتةَ كما ستقف عليه حتى يُقدَّرَ يُجزاها أو جازاه بطريق الإخبارِ عن وقوعه وأما قولُه تعالى
﴿وغضب الله عليه﴾ فعطف على مقدر يدلُّ عليه الشرطيةُ دِلالةً واضحةً كأنه قيل بطريق الاستئنافِ تقريراً وتأكيداً لمضمونها حكمُ الله بأن جزاءَه ذلك وغضِب عليه أي انتقم منه
﴿وَلَعَنَهُ﴾
أي أبعده عن الرحمة بجعل جزائِه ما ذكر وقيل هو وما بعده معطوفٌ على الخبر بتقدير أنّ وحملُ الماضي على معنى المستقبلِ كَما في قولِه تعالى ﴿وَنُفِخَ فِى الصور﴾ ونظائرِه أي فجزاؤُه جهنمُّ وأن يغضَبَ الله عليه الخ
﴿وَأَعَدَّ لَهُ﴾ في جهنم
﴿عَذَاباً عظيما﴾ لا يقادر قدره ولِما ترى في الآية الكريمةِ من التهديد الشديدِ والوعيدِ الأكيدِ وفنونِ الإبراق والإرعادِ وقد تأيدت بما رُوي من الأخبار الشِّداد كقوله ﷺ والذي نفسي بيده لَزَوالُ الدُّنيا عند الله أهونُ من قتلِ مؤمن وقوله ﷺ لو أن رجلاً قُتل بالمشرق وآخَرُ رضِي بالمغرب لأَشرَك في دمه وقوله ﷺ من أعان على قتل مؤمنٍ ولو بشَطْر كلمةٍ جاء يوم القيامةِ مكتوبٌ بين عينيه آيسٌ من رحمة الله تعالى وبنحو ذلك من القوارع تمسكت الخوارجُ والمعتزلةُ بها في خلود مَنْ قتل المؤمنَ عمداً في النار ولا مُتمَسَّك لهم فيها إلا لِما قيل من أنها في حق المستحِلِّ كما هو رأيُ عِكرِمةَ وأضرابِه بدليل أنها نزلت في مقيسِ بنِ ضبابةَ الكِناني المرتدِّ حسبما مرت حكايتُه فإن العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوص السببِ بل لأن المرادَ بالخلود هو المكثُ الطويلُ لا الدوامُ لتظاهر النصوصِ الناطقةِ بأن عصاةَ المؤمنين لا يدوم عذابُهم وما رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لا توبةَ لقاتل المؤمنِ عمداً وكذا ما روي عن سفيانَ أن أهلَ العلم كانوا إذا سُئلوا قالوا لا توبةَ له محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى في التشديد والتغليظِ وعليه يُحمل ما روي عن أنسٍ رضيَ الله تعالى عنه أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال أبى الله أن يجعل لقاتل المؤمنِ توبة كيفَ لاَ وقد رُويَ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلاً سأله ألِقاتلِ المؤمنِ توبةٌ قال لا وسأله آخَرُ ألقاتل المؤمن توبةٌ فقال نعم فقيل له قلت لذلك كذا ولهذا كذا قال كان الأولُ لم يقتُلْ بعد فقلت ما قلت كيلا يقتُلَ وكان هذا قد قتل فقلت له ما قلت لئلا ييأسَ وقد روي عنه جوازُ المغفرةِ بلا توبة أيضاً حيث قال في قوله تعالى فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ الآيةُ هي جزاؤُه فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له ورُوي مرفوعا عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال هو جزاؤُه إن جازاه وبه قال عونُ بنُ عبدِ اللَّهِ وبكرُ بنُ عبدِ اللَّه وأبو صالح قالوا قد يقول الإنسانُ لمن يزجُره عن أمر إن فعلتَه فجزاؤُك القتلُ والضربُ ثم إن لم يجازِه بذلك لم يكن ذلك منه كذباً قال الواحدي والأصلُ في ذلك إِنَّ الله عز وجل يجوزُ أن يُخلِفَ الوعيدَ وإن امتنع أن يُخلِف الوعد بهذا وردت السنة عن رسول الله ﷺ في حديث أنسٌ رضيَ الله عنه أنه ﷺ قال من وعده الله تعالى على عمله ثواباً فهو مُنجِزُه له ومن أوعده على عمله عِقاباً فهو بالخيار والتحقيقُ أنه لا ضرورة إلى تفريع
﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله﴾ أي سافرتم في الغزو ولِمَا في إذا من معنى الشرطِ صُدِّر قولُه تعالى
﴿فتبينوا﴾ بالفاء أى فاطلُبوا بيانَ الأمرِ في كل ما تأتون وما تذرون ولا تعجَلوا فيه بغير تدبر وروية وقرئ فتثبّتوا أي اطلُبوا إثباته وقوله تعالى
﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام﴾ نهيٌ عما هو نتيجةٌ لترك المأمورِ به وتعيينٌ لمادّة مُهمّةٍ من الموادّ التي يجب فيها التبيينُ وقرئ السِّلْمَ بغير ألف وبكسر السين وسكون اللام أي لا تقولوا بغير تأمل لمن حياكم بتحية الإسلامِ أو لمن ألقى إليكم مقاليدَ الاستسلام والانقيادِ
﴿لَسْتَ مُؤْمِناً﴾ وإنما أظهرتَ ما أظهرتَ متعوِّذاً بلِ اقبَلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه وقرئ مُؤمَناً بالفتح أي مبذولاً لك الأمانُ وهذا أنسبُ بالقراءتين الأخرتين ولاقتصار على ذكر تحيةِ الإسلامِ في القراءة الأولى مع كونها مقرونةً بكلمتي الشهادةِ كما سيأتي في سبب النزول للمبالغة في النهي والزجرِ والتنبيهِ على كمال ظهورِ خطئِهم ببيان أن تحية الإسلامِ كانت كافيةً في المُكافّة والانزجارِ عن التعرض لصاحبها فكيف وهي مقرونةٌ بهما وقوله تعالى
﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا﴾ حال من فاعل لاتقولوا منبئ عما يحمِلُهم على العَجَلة وتركِ التأنّي لكن لا على أن يكون النهيُ راجعاً إلى القيد فقط كما في قولك لا تطلُبَ العلمَ تبتغي به الجاهَ بل إليهما جميعاً أي لا تقولوا له ذلك حالَ كونِكم طالبين لمالِه الذي هو حُطامٌ سريع النفاذ وقولُه تعالى
﴿فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ﴾ تعليلٌ للنهي عن ابتغاء مالِه بما فيه من الوعد الضِّمني كأنه قيل لا تبتغوا مالَه فعند الله مغانمُ كثيرةٌ يُغنِمُكموها فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه وقولُه تعالى
﴿كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ﴾ تعليلٌ للنهي عن القول المذكورِ ولعل تأخيرَه لما فيه من نوع تفصيل ربَّما يُخلُّ تقديمُه بتجاوب أطرافِ النظمِ الكريم مع مافيه من مراعاة المقارنةِ بين التعليلِ السابقِ وبين ما عُلِّل به كما في قوله تعالى ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ﴾ الخ وتقديمُ خبرِ كان للقصر المفيد لتأكيد المشابهةِ بين طرفي التشبيهِ وذلك إشارةٌ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلةِ والفاء في فمن للعطف على كنتم أي مثلَ ذلك الذي ألقى إليكم السلامَ كنتم أنتم أيضا في مبادى إسلامكم لايظهر منكم للناس غيرُ ما ظهر منه لكم من تحية الإسلامِ ونحوِها فمنّ الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبةَ وعصَم بها دماءَكم وأموالَكم ولم يأمُرْ بالتفحُّص عن سرائركم والفاء في قوله تعالى
﴿فَتَبَيَّنُواْ﴾
﴿إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ منَ الأعمالِ الظاهرةِ والخفيةِ وبكيفياتها
﴿خَبِيراً﴾ فيجازيكم بحسبها إنْ خيراً فخيرٌ وإنْ شراً فشرٌّ فلا تتهاونوا في القتل واحتاطوا فيه والجملةُ تعليلٌ لما قبلها بطريق الاستئناف وقرئ بفتح
﴿مِنَ المؤمنين﴾ متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من القاعدين أي كائنين من المؤمنين وفائدتُها الإيذانُ من أولِ الأمرِ بعدمِ إخلالِ وصفِ القعودِ بإيمانهم والإشعارُ بعلة استحقاقِهم لما سيأتي من الحُسنى
﴿غَيْرُ أُوْلِى الضرر﴾ صفة للقاعدون لجريانه مجرئ النكرةِ حيث لم يُقصَدْ به قومٌ بأعيانهم أو بدل منه وقرئ بالنصب على أنه حال منه أو استثناء وبالجر على أنه صفةٌ للمؤمنين أو بدلٌ منه والضررُ المرضُ أو العاهةُ من عمىً أو عرَجٍ أو زَمانةٍ أو نحوها وفي معناه العجزُ عن الأُهبة عن زيدِ بنِ ثابتٍ رضي الله تعالى عنه أنه قال كنت إلى جنب رسول الله ﷺ فغشِيَتْه السكينةُ فوقعت فخِذُه على فخذي حتى خشِيتُ أن ترُضَّها ثم سُرِّيَ عنه فقال اكتبْ فكتبتُ لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين والمجاهدون فقال ابنُ أمِّ مكتومٍ وكان أعمى يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهادَ من المؤمنين فغشيتْه السكينةُ كذلك ثم سُرِّي عنه فقال اكتب ﴿لاَّ﴾ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر
﴿والمجاهدون﴾ إيرادُهم بهذا العنوانِ دون الخروجِ المقابلِ لوصف المعطوفِ عليه كما وقع في عبارة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذا تقييدُ المجاهدةِ بكونها
﴿فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ﴾ لمدحهم بذلك والإشعارِ بعلة استحقاقِهم لعلو المرتبةِ مع ما فيه من حسن موقعِ السبيلِ في مقابلة القعودِ وتقديمِ القاعدين في الذكر والإيذانِ من أولِ الأمرِ بأنَّ القصور الذى ينبئ عنه عدمُ الاستواءِ من جهتِهِم لا من جهةِ مقابلِيهِم فإن مفهومَ عدمِ الاستواءِ بين الشيئينِ المتفاوتينِ زيادةً ونقصاناً وإن جازَ اعتبارُهُ بحسبِ زيادةُ الزائدِ لكنْ المتبادرُ اعتبارُهُ بحسبِ قصورِ القاصر وعليهِ قولُه تعالى ﴿هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور﴾ إلى غير ذلك وأما قولُهُ تعالى ﴿هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ فلعلَّ تقديمَ الفاضلِ فيهِ لأنَّ صلَتَهُ ملكة لصلة المفضول وقوله عز وجل
﴿فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً﴾ استئناف مسوق لتفضيل ما بينَ الفريقينِ من التفاضل المفهومِ من ذكر عدمِ استوائِهما إجمالاً ببيان كيفيتِه وكمِّيتِه مبنيٌّ على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنه قيل كيف وقع ذلك فقيل الله الخ وأما تقديرُ ما لهم لا يستووى فإنما يليق بجعل الاستئنافِ
﴿وَكُلاًّ﴾ مفعولٌ أولٌ لما يعقُبه قُدّم عليه لإفادة القصرِ تأكيداً للوعد أي كلَّ واحدٍ من المجاهدين والقاعدين
﴿وَعَدَ الله الحسنى﴾ أي المثوبةَ الحُسنى وهي الجنةُ لا أحدَهما فقط كما في قولِه تعالى وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً على أن اللامَ متعلقةٌ برسولا والجملة اعتراض جئ به تداركاً لما عسى يُوهِمَهُ تفضيلُ أحدِ الفريقين على الآخَر من حرمانِ المفضول وقوله عز وجل
﴿وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين﴾ عطفٌ على قوله تعالى فَضَّلَ الله الخ واللامُ في الفريقين مُغْنيةٌ لهما عن ذكر القيودِ التي تُركت على سبيل التدريجِ وقوله تعالى
﴿أَجْراً عَظِيماً﴾ مصدرٌ مؤكّدٌ لفضّل على أنه بمعنى أَجَر وإيثار على ما هو مصدرٌ من فعله للإشعار بكون ذلك التفضيل أجرا لأعمالهم أو مفعولٌ ثانٍ له بتضمينه معنى الإعطاءِ أي أعطاهم زيادةً على القاعدين أجراً عظيماً وقيل هو منصوبٌ بنزعِ الخافضِ أي فضّلهم بأجر عظيم وقولُه تعالى
﴿مِنْهُ﴾ متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجاتٍ دالةً على فخامتها وجلالةِ قدْرِها أي درجاتٍ كائنةً منه تعالى قال ابن محير يزهي سبعون درجةٍ ما بين كلِّ درجتين عدْوُ الفرسِ الجوادِ المُضْمرِ سبعين خريفاً وقال السدي هي سبعُمائةِ درجةٍ وعن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه إن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال إنَّ في الجنةِ مائةَ درجةٍ أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بينَ السماءِ والأرضِ ويجوز أن يكونَ انتصابُ درجاتٍ على المصدرية كما في قولك ضربه أسواطاً أي ضرباتٍ كأنه قيل فضّلهم تفضيلات وقوله تعالى
﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ بدلٌ من أجراً بدلَ البعضِ لأن بعضَ الأجرِ ليس من باب المغفرة أي مغفرة لَما يفرطُ منهم من الذنوب التي لا سائرُ الحسناتِ التي يأتي بها القاعدون أيضاً حتى تُعدَّ من خصائصهم وقولُه تعالى
﴿وَرَحْمَةً﴾ بدل الكلِّ من أجرا مثل درجاتٍ ويجوز أن يكون انتصابُهما بإضمار فعلِهما أي غَفَر لهم مغفرةً ورحِمَهم رحمة هذا ولعل تكريرَ التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة وتقييدَه تارةً بدرجة وأخرى بدرجاتٍ مع اتحاد المفضّلِ والمفضلِ عليه حسبما يقتضيه الكلامُ ويستدعيه حسن النظام إما لتنزيل الاختلاف العنوانيِّ بين التفضيلين وبين الدرجةِ والدرجاتِ منزلةَ الاختلافِ الذاتي تمهيداً لسلوك طريقِ الإبهامِ ثمَّ التفسيرِ رَوْماً لمزيد التحقيقِ والتقريرِ كما في قوله تعالى فلما جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ كأنه قيل فضّل الله المجاهدين على القاعدين درجةٍ لا يقادَر قدرُها ولا يُبلَغُ كُنهُها وحيث كان تحقّقُ هذا البونِ البعيدِ بينهما مُوهِماً لحِرمان القاعدين قيل وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى ثم أريد تفسيرُ ما أفاده
﴿وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ تذليل مقرِّرٌ لما وَعَد من المغفرة والرحمة
﴿ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ﴾ حالٌ من ضمير تَوَفاهم فإنه وإن كان مضافاً إلى المعرفة إلا أنه نكرةٌ في الحقيقة لأن المعنى على الانفصال وإن كان موصولاً في اللفظِ كما في قولِه تعالى غَيْرَ مُحِلّى الصيد وهديا بالغ الكعبه وثانى عِطْفِهِ أي مُحلّين الصّيدَ وبالغاً الكعبةَ وثانياً عِطْفَه كأنه قيل ظالمين أنفسَهم وذلك بترك الهجرةِ واختيارِ مجاورة الكفرة الموجبةِ للإخلال بأمور الدينِ فإنها نزلتْ في ناسٍ من مكةَ قد أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرةُ فريضة
﴿قَالُواْ﴾ أي الملائكةُ للمُتوفَّيْن تقريراً لهم بتقصيرهم في إظهار إسرمهم وإقامةِ أحكامِه من الصلاة ونحوها وتوبيخها لهم بذلك
﴿فِيمَ كُنتُمْ﴾ أي في أي شئ كنتم من أمور دينِكم
﴿قالوا﴾ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤالِ الملائكةِ كأنه قيل فماذا قالوا في الجواب فقيل قالوا متجانِفين عن الإقرار
﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرض﴾ أي في أرض مكةَ عاجزين عن القيام بمواجب الدينِ فيما بين أهلِها
﴿قَالُواْ﴾ إبطالاً لتعللهم وتبكيتاً لهم
﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا﴾ إلى قطر آخر منها تقدِرون فيه على إقامةِ أمورِ الدينِ كما فعله من هاجر إلى المدينة وإلى الحبشة وأما حملُ تعلُّلِهم على إظهار العجزِ عن الهجرة وجعلُ جوابِ الملائكةِ تكذيباً لهم في ذلك فيردوه أن سببَ العجز عنها لا ينحصر في فُقدان دار الهجرةِ بل قد يكون لعدم الاستطاعةِ للخروج بسب الفقرِ أو لعدم تمكينِ الكفَرة منه فلا يكون بيانُ سعةِ الأرضِ تكذيباً لهم ورداً عليهم بلْ لا بدَّ من بيان استطاعتِهم أيضاً حتى يتم التبكيتُ وقيل كانت الطائفةُ المذكورة قد خرجوا مع المشركين إلى بدرٍ منهم قيسُ بنُ الفاكِهِ بنِ المغيرةِ وقيسُ بنُ الوليدِ بنِ المغيرة وأشباهُهما فقُتلوا فيها فضَرَبت الملائكةُ وجوهم وأدبارهم وقالوا لهم ماقالوا فيكون ذلك منهم تقريعاً وتوبيخاً لهم بما كانوا فيه من مساعدة الكَفَرةِ وانتظامِهم في عسكرهم ويكون جوابُهم بالاستضعاف تعلّلاً بأنهم كانوا مقهورين تحت أيديهم وأنهم أخرجوا كارهين فرُدَّ عليهم بأنهم كانوا بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكّنين من المهاجرة
﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ الذين حُكِيت أحوالُهم الفظيعةُ
﴿مَأْوَاهُمْ﴾ أي في الآخرة
﴿جَهَنَّمُ﴾ كما أن مأواهم في الدنيا دارُ الكفرِ لتركهم الفريضةَ المحتومة فمأواهم مبتدأوجهنم خبره والجملة خبر لأولئك وهذه الجملةُ خبرُ إن والفاءُ فيه لتضمُّن اسمِها معنى الشرطِ وقولُه تعالى قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ حالٌ من الملائكة بإضمار قد عند من يشترطه أو هو الخبرُ والعائدُ منه محذوفٌ أي قالوا لهم والجملةُ المصدرةُ بالفاء معطوفةٌ عليه مستنتَجَةٌ منه ومما في حيّزه
﴿وَسَاءتْ مَصِيراً﴾ أى مصيرهم أي جهنم وفي الآية الكريمةِ إرشادٌ إلى وجوب المهاجرة من موضع لايتمكن الرجلُ من إقامة أمورِ دينِه بأي سبب كان وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم من فرَّ بدينِه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنَّة وكان رفيقَ إبراهيمَ ونبيه محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم
﴿من الرجال والنساء والولدان﴾ متعلقةٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من المستضعفين أي كائنين منهم وذِكرُ الوِلدان إن أريد بهم المماليكُ أو المراهقون ظاهرٌ وأما إن أريد بهم الأطفالُ فللمبالغة في أمر الهجرة وإبهام انها بحيث لو استطاعها غيرُ المكلفين لوجبت عليهم والإشعارِ بأنهم لا محيصَ لهم عنها البتة عليهم كما بلغوا حتى كأنها واجبةٌ عليهم قبل البلوغِ لو استطاعوا وأن قومهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت وقوله تعالى
﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾ صفةٌ للمستضعفين فإنَّ ما فيهِ من اللام ليس للتعريف أو حالٌ منْهُ أو من الضميرِ المستكنِّ فيه وقيل تفسيرٌ لنفس المستضعفين لكثرة وجوهِ الاستضعافِ واستطاعةُ الحيلةِ وُجدانُ أسبابِ الهجرةِ ومباديها واهتداءُ السبيلِ معرفةُ طريقِ الموضعِ المهاجَرِ إليه بنفسه أو بدليل
﴿عَسَى الله أَن يعفو عنهم﴾ جئ بكلمة الإطماعِ ولفظِ العفوِ إيذاناً بأن الهجرةَ من تأكُّدِ الوجوبِ بحيث ينبغي أن يُعدَّ تركُها ممن تحقق عدمُ وجوبِها عليه ذنباً يجب طلبُ العفوِ رجاءً وطمعاً لا جزماً وقطعاً
﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الارض مُرَاغَماً كَثِيراً﴾ ترغيبٌ في المهاجَرَة وتأنيسٌ لها أي يجدْ فيها متحوَّلاً ومهاجَراً وإنما عبّر عنه بذلك تأكيد للترغيب لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتجول بحيث يصل فيه المهاجرُ من الخير والنعمةِ إلى ما يكون سبباً لرغم آنف قومه الذين هاجروهم والرُّغمُ الذلُّ والهوانُ وأصلُه لصوقُ الأنفِ بالرَّغام وهو التراب وقيل يجد فيها طريقاً يراغِمُ بسلوكه قومَه أي يفارقهم على رَغم أنوفهم
﴿وسعة﴾ أي من الرزق
﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت﴾ أي قبل أن يصل إلى المقصِد وإن كان ذلك خارج بابه كما ينبئ عنه إيثارُ الخروجِ من بيته على المهاجَرة وهو عطفٌ على فعل الشرطِ وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوفٍ وقيل هو حركةُ الهاءِ نُقلت إلى الكاف على نية الوقفِ كما في قوله... من عنزى سبنى لم أضربه عجيب والدهر كثير عجبه وقرى بالنصب على إضمار أنْ كما في قوله وألحقُ بالحجاز فأستريحا...
﴿فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله﴾ أي ثبت ذلك عنده تعالى ثبوتَ الأمرِ الواجبِ رُوِيَ أنَّ رسولَ الله ﷺ لما بَعَث بالآيات المتقدمةِ إلى مسلمي مكةَ قال جُندُبُ بنُ ضَمْرةَ لبنيه وكان شيخاً كبيراً احمِلوني فإني لستُ من المستضعفين وإني لأهتدي الطريقَ والله لا أبيتُ الليلةَ بمكةَ فحمَلوه على سرير متوجِّهاً إلى المدينة فلما بلغ التنعيمَ أشرفَ على الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايُعك على ما بايعك رسولُك فمات حميداً فبلغ خبرُه أصحاب رسول الله ﷺ فقالوا لو تُوفيَ بالمدينة لكان أتمَّ أجراً فنزلت قالوا كلُّ هجرةٍ في غرض دينيَ من طلبِ علمٍ أو حجَ أو جهاد أونحو ذلك فهي هجرةٌ إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم
﴿وَكَانَ الله غَفُوراً﴾ مبالِغاً في المغفرة فيغفرُ له ما فَرَط منه من الذنوبِ التي من جملتها القعودُ عن الهجرة إلى وقت الخروجِ
﴿رَّحِيماً﴾ مبالِغاً في الرحمة فيرحمه بإكمال ثوابِ هجرتِه
﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ أى حرج أو اثم
﴿أَن تَقْصُرُواْ﴾ أي في أن تقصُروا والقصرُ خلافُ المد يقال قصرت الشئ أي جعلته قصيراً بحذف بعضِ أجزائِه أو أوصافِه فمُتعلَّقُ القصرِ حقيقةً إنما هو ذلك الشئ لا بعضُه فإنه متعلَّقُ الحذف دون القصرو على هذا فقوله تعالى
﴿إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ﴾ جوابُه محذوفٌ لدِلالة مَا قبلَهُ عليهِ أيْ إنْ خفتم أن يتعرّضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيرِه فليس عليكم جُناح الخ وهو شرطٌ معتبرٌ في شرعية ما يُذكر بعده من صلاة الخوفِ المؤداةِ بالجماعة وأما في حق مُطلقِ القصرِ فلا اعتبار له اتفاقاً لتظاهُر السننِ على مشروعيته حسبما وقفت على تفصيلها وقد ذكر الطحاويُّ في شرح الآثارِ مسنداً إلى يعلى بن أميةَ أنه قال قلت لعمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه إنما قال الله ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ﴾ وقد
﴿إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً﴾ تعليلٌ لذلك باعتبار تعلُّلِه بما ذُكر أو لما يُفهم من الكلام من كون فتنتِهم متوقَّعةً فإن كمالَ عداوتِهم للمؤمنين من موجبات التعرُّض لهم بسوء وقولُه تعالى
﴿فأقمت لهم الصلاة﴾ أي أردت أن تقيم بهم الصلاة
﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ﴾ بعد أن جعلتَهم طائفتين ولتقِف الطائفةُ الأخرى بإزاء العدوِّ ليحرسوكم منهم وإنما لم يصرَّحْ به لظهوره
﴿وَلْيَأْخُذُواْ﴾ أي الطائفةُ القائمة معك
﴿أَسْلِحَتَهُمْ﴾ أي لا يضعوها ولا يلقوها وإنما عبر عن ذلك بالأخذ للإيذان بالاعتناء باستصحابها كأنهم يأخُذونها ابتداءً
﴿فَإِذَا سَجَدُواْ﴾ أي القائمون معك وأتمّوا الركعة
﴿فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ﴾ أي فلينصرِفوا إلى مقابلة العدوِّ للحراسة
﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ﴾ بعدُ وهي الطائفةُ الواقفة تجاه العدوِّ للحراسة وإنما لم تُعرَفْ لما أنها لم تُذكرْ فيما قبل
﴿فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ﴾ الركعةَ الباقيةَ ولم يبيِّنْ في الآية الكريمة حالَ الركعةِ الباقيةِ لكل من الطائفتين وقد بُيِّن ذلك بالسنة حيث روى عن ابن عمرو ابن مسعود رضي الله عنهم أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم حين صلى صلاةَ الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعةً وبالطائفة الأخرى ركعةً كَما في الآيةِ الكريمةِ ثم جاءت الطائفةُ الأولى وذهبت هذه إلى مقابلة العدوِّ حتى قضت الأولى الركعة الأخيرةَ بلا قراءة وسلّموا ثم جاءت الطائفةُ الأخرى وقضَوا الركعةَ الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان
﴿وَلْيَأْخُذُواْ﴾ أي هذه الطائفة
﴿حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ لعل زيادة الأمرِ بالحذرِ في هذه المرة لكونها مظِنّةً لوقوف الكَفَرة على كون الطائفةِ القائمةِ مع النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم في شغل شاغلً وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحرب وتكليفُ كلَ من الطائفتين بما ذكر لما أن الاشتغالَ بالصلاة مظنةٌ لإلقاء السلاحِ والإعراض عن غيرها ومئنة لهجوم العدوِّ كما ينطِقُ به قوله تعالى
﴿وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة﴾ فإنه اسئناف مَسوقٌ لتعليل الأمرِ المذكورِ والخطابُ للفريقين بطريق الالتفاتِ أي تمنَّوا أن ينالوا غِرّةً وينتهزوا فرصةً فيشدّوا عليكم شدةً واحدةً والمرادُ بالأمتعة ما يُتمتع به في الحرب لا مطلقاً وهذا الأمر الموجوب لقوله تعالى
﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ﴾ حيث رُخّص لهم في وضعها إذا ثقُل عليهم استصحابها بسبب المطر أو مرضٍ وأُمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياطِ فقيل
﴿وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾ لئلا يهجُمَ العدوُّ عليكم غِيلةً روى الكلبيُّ عن أبي صالحٍ ان رسول الله ﷺ غزا محاربا وبنى إنما فنزلوا ولا يرَوْن من العدو أحداً فوضع الناسُ أسلحتَهم وخرج رسولُ الله ﷺ لحاجة له وقد وضَع سلاحَه حتى قطع الواديَ والسماءُ ترُشّ فحال الوادي بينه ﷺ وبين أصحابِه فجلس رسولُ الله ﷺ فبصُرَ به غَوْرَثُ بنُ الحرث المحاربي فقال قتلني الله إن لم أقتلْك ثم انحدر من الجبل ومعه السيفُ فلم يشعُرْ به رسول الله ﷺ إلا وهو قائمٌ على رأسه وقد سل سيفَه من غِمْدِهِ فقال يا محمد من يعصِمك مني الآن فقال رسول الله ﷺ الله عز وجل ثم قال اللهم اكفِني غورث بن الحرث بما شئت ثم أهوى بالسيفِ إلى رسولِ الله ﷺ ليضرِبه فأكبَّ لوجهه من زلخة زلخها بين كتفيه فبدر سيفه فقام رسولُ الله ﷺ فأخذه ثم قال يا غَوْرَثُ من يمنعك مني الآن قال لا أحد قال ﷺ تشهدُ أَن لاَّ إلَه إِلاَّ الله وأن محمداً عبدُه ورسولُه وأعطيك سيفَك قال لا ولكن أشهد أن لا أقاتِلَك أبداً ولا أُعينَ عليك عدواً
﴿إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً﴾ تعليلٌ للأمر بأخذ الحذرِ أعد لهم عذاباً مهيناً بأن يخذُلهم وينصُرَكم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تُهمِلوا في مباشرة الأسباب كى يحل بهم عذابُه بأيديكم وقيل لما كان الأمرُ بالحذر من العدو مُوهماً لتوقّع غلبتِه واعتزازِه نُفي ذلك الإيهامُ بأن الله تعالى ينصُرهم ويُهين عدوَّهم لتقوى قلوبُهم
﴿فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ﴾ أي فداوموا على ذكر الله تعالى وحافِظوا على مراقبته ومناجاتِه ودعائِه في جميعِ الأحوالِ حَتَّى في حال المسايفة والقتالِ كما في قوله تعالى إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
﴿فَإِذَا اطمأننتم﴾ سكنَت قلوبُكم من الخوف وأمنتم بعد ما وضعت الحربُ أوزارَها
﴿فأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ أي الصلاةَ التي دخل وقتُها حينئذ أي أدُّوها بتعديل أركانِها ومراعاةِ شرائطِها وقيل المرادُ بالذكر في الأحوال الثلاثةِ الصلاةُ فيها أى فإذ أردتم أداءَ الصلاةِ فصلّوا قِياماً عند المسايفةِ وقعوداً جاثين على الرّكَب عند المراماةِ وعلى جنوبكم مُثخَنين بالجِراح فإذا اطمأننتم في الجملة فاقضُوا ما صليتم في تلك الأحوالِ التي هي أحوال القلقِ والانزعاجِ وهو رأى الشافعى رحمه الله وفيه من البعد مالا يخفى
﴿إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾ أى فرضا مؤقتا قال مجاهدٌ وقّته الله عليهم فلا بد من إقامتها في حالة الخوفِ أيضاً على الوجه المشروحِ وقيل مفروضاً مقدّراً في الحضَر أربَعَ ركعاتٍ وفي السفر ركعتين فلا بد أن تؤدى في كل وقتٍ حسبما قُدِّر فيه
﴿إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ﴾ تعليلٌ للنهي وتشجيعٌ لهم أي ليس ما تقاسونه من الآلام مختصاً بكم بل هو مشترَكٌ بينكم وبينهم ثم إنهم يصبِرون على ذلك فما لكم لاتصبرون مع أنكم أولى به منهم حيث ترجُون من الله من إظهار دينِكم على سائر الأديانِ ومن الثواب في الآخرة مالا يخطر ببالهم وقرئ أن تكونوا بفتح الهمزة أى لاتهنوا لأن تكونوا تألمون وقوله تعالى فَإِنَّهُمْ تعليلٌ للنهي عن الوهن لأجله والآيةُ نزلت في بدرٍ الصُّغرى
﴿وَكَانَ الله عَلِيماً﴾ مبالِغاً في العلم فيعلم أعمالَكم وضمائرَكم
﴿حَكِيماً﴾ فيما يأمُر وينهى فجِدُّوا في الامتثال بذلك فإن فيه عواقب حميدة
﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله﴾ أي بما عرّفك وأوحى به إليك
﴿وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ﴾ أي لأجلهم والذبِّ عنهم وهم طُعمةُ ومن يُعينُه من قومه أو هو ومن يسير بسيرته
﴿خَصِيماً﴾ مخاصماً للبرآء أي لاتخاصم اليهودَ لأجلهم والنهيُ معطوفٌ على أمر ينسحب عليه النظمُ الكريمُ كأنه قيل فاحكم به ولا تكن الخ
﴿إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾ مُبالغاً في المغفرةِ والرحمةِ لمن يستغفره
﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً﴾ مُفرِطاً في الخيانة مُصِراً عليها
﴿أَثِيماً﴾ منهمكاً فيه وتعليقُ عدمِ المحبةِ الذي هو كنايةٌ عن البغضِ والسُّخطِ بالمبالِغ في الخيانة والإثمِ ليس لتخصيصه به بل لبيان إفراطِ طُعمةَ وقومِه فيهما
﴿وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله﴾ أيْ لا يستحيون منه سبحانه وتعالى وهو أحقُّ بأن يُستحيا منه ويُخافَ من عقابه
﴿وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ عالمٌ بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى
الاستخفاء سوى تركِ ما يستقبِحُه ويؤاخِذُ به
﴿إِذْ يُبَيّتُونَ﴾ يدبرون ويزورون
﴿مَا لاَ يَرْضَى مِنَ القول﴾ مِنْ رمى البرئ والحلِفِ الكاذب وشهادةِ الزور
﴿وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ من الأعمال الظاهرةِ والخافية
﴿مُحِيطاً﴾ لا يعزُب عنه شئ منها ولا يفوت
﴿جادلتم عَنْهُمْ فِى الحياة الدنيا﴾ جملةٌ مبيِّنةٌ لوقوع أولاءِ خبراً ويجوز أن يكون أولاءِ اسماً موصولاً بمعنى الذين وجادلتم الخ صلة له والمجادَلةُ أشدُّ المخاصَمَة والمعنى هَبُوا أنكم خاصمتم عن طُعمةَ وأمثالِه في الدنيا
﴿فَمَن يجادل الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة﴾ فمن يخاصم عنهم يومئذ عند تعذيبهم وعقابِهم
﴿أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ حافظاً ومحامياً من بأس الله تعالى وانتقامه
﴿أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ﴾ بما يختص به كالحلِف الكاذبِ وقيل السوء مادون الشرك والظلم الشركِ وقيل هما الصغيرةُ والكبيرة
﴿ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله﴾ بالتوبة الصادقة
﴿يَجِدِ الله غفورا﴾ لذنوبه كائنة ماكانت
﴿رَّحِيماً﴾ متفضّلاً عليه وفيه مزيدُ ترغيبٍ لطعمةَ وقومِه في التوبة والاستغفارِ لما أن مشاهَدةَ التائبِ لآثار المغفرةِ والرحمةِ نعمةٌ زائدةٌ كما مر
﴿فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ﴾ حيث لا يتعدّى ضررُه ووبالُه إلى غيره فليحترز عن تعريضها للعقاب والعذابِ عاجلاً وآجلاً
﴿وَكَانَ الله عَلِيماً﴾ مُبالغاً في العلم
﴿حَكِيماً﴾ مراعياً للحكمة في كل ما قَدَّر وقضى ولذلك لا يحمل وازِرَةٌ وزرَ أخرى
﴿أَوْ إِثْماً﴾ كبيرةً أو ما كان من عمد
﴿ثُمَّ يَرْمِ بِهِ﴾ أي يقذِفْ به ويُسنده وتوحيد الضمير مع تعدد المرجِعِ لمكان أَوْ وتذكيره لتغليب الإثم على الخطيئة كأنه قيل ثم يرم بأحدهما وقرئ يرمِ بهما وقيل الضمير للكسبِ المدلولِ عليه بقوله تعالى يَكْسِبْ وثُمَّ للتراخِي في الرتبةِ
﴿بَرِيئاً﴾ أي مما رماه به ليُحمِّلَه عقوبتَه العاجلةَ كما فعله طعمةُ بزيدٍ
﴿فَقَدِ احتمل﴾ أي بما فعل من تحميل جريرته على البرئ
﴿بهتانا﴾ وهو الكذِبُ على الغير بما يُبَهتُ منه ويُتَحيَّر عند سَماعِه لفظاعته وهولِه وقيل هو الكذبُ الذي يُتحيَّر في عِظَمه
﴿وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ أي بيناً فاحشاً وهو صفة لإثماً وقد اكتُفي في بيان عِظَمِ البهتانِ بالتنكير التفخيميّ
كأنه قيل بهتاناً لا يقادَرُ قدرُه وإثماً مبيناً على أن وصفَ الإثمِ بما ذُكر بمنزلة وصفِ البهتانِ به لأنهما عبارةٌ عن أمر واحد هو رمى البرئ بجناية نفسِه قد عبّر عنه بهما تهويلاً لأمره وتفظيعاً لحاله فمدارُ العِظَم والفخامةِ كونُ المرميِّ به للرامي فإن رمى البرئ بجناية ما خطيئةً كانت أو إثماً بهتانٌ وإثمٌ في نفسه أما كونُه بهتاناً فظاهرٌ وأما كونُه إثماً فلأن كونَ الذنبِ بالنسبة إلى مَنْ فعله خطيئةً لا يلزم منه كونُه بالنسبة إلى مَنْ نسبه الى البرئ منه أيضاً كذلك بل لا يجوزُ ذلك قطعاً كيف لا وهو كذِبٌ محرَّمٌ في جميع الأديانِ فهو في نفسه بهتانٌ وإثمٌ لا محالةَ وبكون تلك الجنايةِ للرامي يتضاعفُ ذلك شدةً ويزداد قُبحاً لكنْ لا لانضمام جنايتِه المكسوبة الى رمى البرئ وإلا لكان الرميُ بغير جناية مثله في العظم ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرميُ بغير جنايةٍ مع تبرئةِ نفسِه كذلك في العِظَم بل لاشتماله على قصد تحميلِ جنايته على البرئ وإجراءِ عقوبتِها عليه كما ينبئ عنه إيثارُ الاحتمالِ على الاكتساب ونحوِه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديرِه على ما فيه من الإشعار بثِقَل الوِزرِ وصعوبةِ الأمرِ نعم بما ذُكر من انضمام كسبِه وتبرئةِ نفسه الى رمى البرئ تزداد الجنايةُ قبحاً لكنّ تلك الزيادةَ وصفٌ للمجموع لا للإثم
﴿لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ﴾ أي منْ بني ظفَر وهم الذابّون عن طُعمةَ وقد جوز أن يكون المراد بالطائفة كلَّهم ويكونُ الضميرُ راجعاً إلى الناس وقيل هم وفدُ بني ثقيفٍ قدِموا على رسُولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم وقالوا جئناك لنبايعَك على أن لا تكسِرَ أصنامَنا ولا تعشِّرَنا فردّهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم
﴿أَن يُضِلُّوكَ﴾ أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق مع علمهم بكُنه الأمرِ والجملةُ جوابُ لولا وإنما نفى همَّهم مع أن المنفيَّ إنما هو تأثيرُه فقط إيذاناً بانتفاء تأثيرِه بالكلية وقيل المراد هو الهمُّ المؤثّر ولا ريب في انتفائه حقيقةً وقيل الجوابُ محذوفٌ أي لأضلوك وقوله تعالى لَهَمَّتْ جملةٌ مستأنفةٌ أي لقد همت طائفة الخ
﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ﴾ لاقتصار وبالِ مكرِهم عليهم من غير أن يصيبك منهم شئ والجملةُ اعتراضٌ وقولُه تعالى
﴿وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء﴾ عطفٌ عليه ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على المصدرية أي وما يضرونك شيئاً من الضرر لما أنه تعالى عاصمُك وأما ما خطرَ ببالك فكان عملاً منك بظاهر الحالِ ثقةً بأقوال القائلين من غير أن يخطُر ببالك أن الحقيقةَ على خلاف ذلك
﴿وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة﴾ أي القرآنَ الجامعَ بين العنوانين وقيل المرادُ بالحكمة السنة
﴿وَعَلَّمَكَ﴾ بالوحي من خفيّات الأمورِ التي من جملتها وجوهُ إبطالِ كيدِ المنافقين أو من أمور الدين وأحكامِ الشرع
﴿مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ ذلك إلى وقت التعليم
﴿وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً﴾ إذ لا فضلَ أعظمُ من النبوة العامةِ ووالرياسة التامّة
﴿إِلاَّ مَنْ أَمَرَ﴾ أي إلا في نجوى مَنْ أمرَ
﴿بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ وقيل المرادُ بالنجوى المتناجون بطريق المجازِ وقيل النجوى جمع نجى نقله الكرماني وأيَّاً ما كان فالاستثناءُ متصلٌ ويجوز الانقطاعُ أيضاً على معنى لكنْ مَنْ أمر بصدقة الخ ففي نجواه الخير والمعروفُ كلُّ ما يستحسنه الشرعُ ولا يُنكره العقلُ فينتظم أصنافَ الجميلِ وفنونَ أعمالِ البِرِّ وقد فُسِّر ههنا بالقرض وإعاثة الملهوف وصدقةِ التطوعِ على أن المراد بالصدقة الواجبة
﴿أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس﴾ عندوقوع المشاقة والمعاداة بينهم من غير أن يجاوزَ في ذلك حدودَ الشرعِ الشريفِ وبين إما متعلقٌ بنفس إصلاحٍ يقال أصلحتُ بين القوم أو بمحذوف هو صفةٌ له أي كائنٍ بين الناسِ عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ﷺ قال له ألا أدلك على صدقةٍ خيرٍ لك من حمر النعم فقال بلى يا رسولَ الله قالَ تُصلح بين الناسِ إذا تفاسدوا وتُقرِّب بينهم إذا تباعدوا قالوا ولعل السرَّ في إفراد هذه الأقسامِ الثلاثةِ بالذكر أن عملَ الخيرِ المتعدِّي إلى الناس إما لإيصال المنفعةِ أو لدفع المضرَّةِ والمنفعةُ إما جُسمانية كإعطاء المالِ واليه الإشارة إلى قولِه تعالى إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بصدفة وإما روحانيةٌ وإليه الإشارةُ بالأمر بالمعروف وأما دفعُ الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى أَوْ إصلاح بَيْنَ الناس
﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك﴾ إشارةٌ إلى الأمور المذكورةِ أعني الصدقةَ والمعروفَ والأصلاح فإنه يشاربه إلى متعدد وما فيه من معنى البعد مع قُرب العهدِ بها للإيذان ببُعد منزلتِها ورفعةِ شأنِها وترتيبُ الوعدِ على فعلها إثرَ بيانِ خيريةِ الأمرِ بها لما أن المقصودَ الأصليَّ هو الترغيبُ في الفعل وبيانُ خيريةِ الأمرِ به للدِلالة على خيريته بالطريق الأولى لما أن مدارَ حُسنِ الأمرِ وقُبحِه حسنُ المأمورِ به وقبحُه فحيث ثبت خيريةُ الأمرِ بالأمور المذكورةِ فخيريةُ فعلِها أثبتُ وفيه تحريضٌ للأمر بها على فعلها أو إشارةٌ إلى الأمر بها كأنه قيل ومن يأمْر بها والكلامُ في ترتيب الوعدِ على فعلها كالذي مر في الخيرية فإن استتباع الأمر بها للأجر العظيمِ إنما هو لكونه ذريعة إلى فعلها فاستتباعُه له أولى وأحقُّ
﴿ابتغاء مَرْضَاتَ الله﴾ علةٌ للفعل والتقييدُ به لأن الأعمالَ بالنيات وأن من فعل خيراً لغير ذلك لم يستحِقَّ به غيرَ الحِرْمان
﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ﴾ بنون العظمةِ على الالتفات وقرئ بالياء
﴿أَجْراً عَظِيماً﴾ يقصُر عنه الوصفُ
﴿مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى﴾ ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته
﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين﴾ أي غيرَ ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل وهو الدين القيم
﴿نُوَلّهِ مَا تولى﴾
﴿وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ﴾ أي ندخله إياها وقرئ بفتح النون من صَلاه
﴿وَسَاءتْ مَصِيراً﴾ أي جهنمُ وفيها دِلالةٌ على حجية الإجماعِ وحُرمةِ مخالفتِه
﴿وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بعيدا﴾ عن الحق فإن الشركَ أعظمُ أنواعِ الضلالةِ وأبعدُها عن الصواب والاستقامةِ كما أنه افتراءٌ وإثمٌ عظيمٌ ولذلك جُعل الجزاءُ في هذه الشرطيةِ فقد ضل الخ وفيما سبق فقد افترى إثماً عظيما حسبما يقتضيهِ سياقُ النظمِ الكريمِ وسياقُه
﴿إِلاَّ إناثا﴾ يعني اللاتَ والعُزَّى ومناةَ ونحوَها عن الحسن أنه لم يكن من أحياء العربِ حيٌّ إلا كان لهم صنمٌ يعبُدونه يسمُّونه أنثى بني فلان قيل لأنهم كانوا يقولون في أصنامهم هن بناتُ الله وقيل لأنهم كانوا يُلْبِسونها أنواعَ الحَلْي ويزينونها على هيآت النِّسوانِ وقيل المرادُ الملائكةُ لقولهم الملائكةُ بناتُ الله وقيل تسميتُها إناثاً لتأنيث أسمائِها أو لأنها في الأصل جمادٌ والجماداتُ تؤنَّثُ من حيث أنها ضاهت الإناثَ لانفعالها وإيرادُها بهذا الاسم للتنبيه على فرط حماقةِ عَبَدتِها وتناهي جهلِهم والإناثُ جمع أنثى كرِباب وربى وقرئ على التوحيد وأُنُثاً أيضاً على أنه جمع أنيث كقليب وقلُب أو جمع إناث كثمار وثمر وقرئ وثنا واثنا بالتخفيف والتثقيل جمع وثن كقولك أسد وأسد وآسد على الأصل وقلبِ الواو ألفاً نحو أُجوه في وجوه
﴿وَإِن يَدْعُونَ﴾ وما يعبدون بعبادتها
﴿إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً﴾ إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها فكانت طاعتُهم له عبادةً والمَريد والمارد هو الذى لا يعلق بخير وأصلُ التركيبِ للملاسة ومنه صرحٌ مُمرّد وشجرةٌ مرداءُ للتي تناثر ورقُها
﴿وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً﴾ عطفٌ على الجملة المتقدمةِ أي شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنةِ الله وهذا القولِ الشنيعِ الصادرِ عنه عند اللعنِ ولقد برهن على أن عبادةَ الأصنام غايةُ الضلال بطريق التعليلِ بأن ما يعبدونها ينفعل ولا
يفعل فعلاً اختيارياً وذلك ينافي الألوهيةَ غايةَ المنافاةِ ثم استُدل عليه بأن ذلك عبادةٌ للشيطان وهو أفظعُ الضلالِ من وجوه ثلاثةٍ الأولُ أنه منهمكٌ في الغي لا يكاد يعلق بشئ من الخير والهدى فتكون طاعتُه ضلالاً بعيداً عن الحق والثاني أنه ملعونٌ لضلاله فلا تستتبعُ مطاوعتُه سوى اللعنِ والضلالِ والثالثُ أنه في غاية السعي في إهلاكهم وإضلالِهم فموالاةُ مَنْ هذا شأنُه غايةُ الضلالِ فضلاً عن عبادته والمفروضُ المقطوعُ أي نصيباً قُدّر لي وفُرض من قولِهم فرَضَ له في العطاء
﴿ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام﴾ أي فلَيقْطَعُنَّها بموجب أمري ويشُقُّنّها من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير وذلك ما كانت العرب تفعله فيه بالبحائر والسوائب
﴿وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ﴾ ممتثلين به
﴿خَلَقَ الله﴾ عن نهجه صورةً أو صفةً وينتظم فيه ما قيل من فقءِ عين الحامي وخِصاءِ العبيدِ والوشمِ والوشْرِ ونحوِ ذلك وعمومُ اللفظِ يمنع الخِصاءَ مطلقاً لكن الفقهاء رخّصوا في البهائم لمكان الحاجةِ وهذه الجملُ المحكيةُ عن اللعين مما نطق به لسانُه مقالاً أو حالاً وما فيها من اللامات كلَّها للقَسَم والمأمورُ به في الموضعين محذوفٌ ثقةً بدلالة النظمِ عليه
﴿وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله﴾ بإيثار ما يدعوا إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزتِه عن طاعةِ الله تعالَى إلى طاعته
﴿فَقَدْ خَسِرَ خسرانا مبينا﴾ لأنه ضيَّع رأسَ مالِه بالكلية واستبدل بمكانه من الجنة مكانَه من النار
﴿وَيُمَنّيهِمْ﴾ أي الأمانيَّ الفارغةَ أو يفعل لهم الوعدَ والتمنيةَ على طريقة فلان يُعطي ويمنَعُ والضميران لمَنْ والجمعُ باعتبارِ معناهَا كما أن الإفراد في يتخذ وخسر باعتبار لفظها
﴿وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً﴾ وهو إظهارُ النفعِ فيما فيه الضررُ وهذا الوعدُ إما بإلقاء الخواطرِ الفاسدةِ أو بألسنة أوليائِه وغروراً إما مفعولٌ ثانٍ للوعد أو مفعولٌ لأجله أونعت لمصدر محذوفٍ أي وعداً ذا غرورٍ أو مصدرٌ على غير لفظِ المصدرِ لأنّ يَعِدُهُمْ في قوة يغرّهم بوعده والجملةُ اعتراضٌ وعدمُ التعرّضِ للتمنية لأنها بابٌ من الوعد
﴿مَأْوَاهُمْ﴾ مبتدأٌ ثانٍ وقولُه تعالَى
﴿جَهَنَّمُ﴾ خبرٌ للثانِي والجملةُ خبرٌ للأولِ
﴿وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً﴾ أي معدِلاً ومهرَباً من حاص الحمارُ إذا عدَل وقيل خلَص ونجا وقيل الحَيْصُ هو الروغان بنفور وعنها متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من محيصاً أي كائناً عنها ولا مَساغَ لتعلُّقه بمحيصاً أما إذا كان اسمَ مكانٍ فظاهرٌ وأما إذا كان مصدراً فلأنه لا يعملُ فيما قبلَهُ
﴿سندخلهم جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا أَبَداً﴾ قرَن وعيدَ الكفرةِ بوعد المؤمنين زيادةً لمَسرَّة هؤلاءِ ومَساءةِ أولئك
﴿وَعْدَ الله حَقّا﴾ أي وعَده وعداً وحقَّ ذلك حقاً فالأولُ مؤكدٌ لنفسه لأن مضمونَ الجملةِ الاسميةِ وعدٌ والثاني مؤكدٌ لغيره ويجوز أن ينتصِبَ الموصولُ بمضمر يفسِّره ما بعده وينتصب وَعَدَ الله بقوله تعالى سَنُدْخِلُهُمْ لأنه في معنى نعِدُهم إدخالَ جناتٍ الخ وحقاً على أنه حال من المصدر
﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً﴾ جملةٌ مؤكدةٌ بليغةٌ والمقصودُ من الآية معارضَةُ مواعيدِ الشيطانِ الكاذبةِ لقرنائه بوعد الله الصادقِ لأوليائه والمبالغةُ في تأكيده ترغيباً للعباد في تحصيله والقيلُ مصدرٌ كالقول والقال وقال ابنُ السِّكِّيتِ القيلُ والقالُ اسمانِ لا مصدرانِ ونصبُه على التمييز وقرئ بإشمام الصادِ وكذا كلُّ صادٍ ساكنةٍ بعدها دالٌ
﴿مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ﴾ عاجلاً أو آجلاً لما رُوي أَنَّهُ لمَّا نزلتْ قال أبُو بكرٍ رضيَ الله تعالى عنه فمن ينجو مع هذا يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ أما تحزنُ أو تمرَضُ أو يصيبُك البلاء قال بلى يا رسولَ الله قالَ هو ذاك
﴿وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله﴾ أي مجاوزاً لموالاة الله ونُصرتِه
﴿وَلِيّاً﴾ يواليه
﴿وَلاَ نَصِيراً﴾ ينصُره في دفع العذاب عنه
﴿من ذَكَرٍ أَوْ أنثى﴾ في موضع الحالِ من المستكنِّ في يَعْمَلُ ومن للبيان أو من الصالحات فمن للابتداء أي كائنةً من ذكر الخ
﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ حالٌ شرَط اقترانَ العملِ بها في استدعاء الثوابِ المذكورِ تنبيهاً على أنه لا اعتدادَ به دونه
﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارةٌ إلى مَنْ بعنوان اتصافِه بالإيمان والعملِ الصالحِ والجمعُ باعتبار معناها كما أنَّ الإفرادَ فيما سبقَ باعتبار لفظِها وما فيهِ من معنى البعدِ لما مرَّ غيرَ مرَّةٍ من الإشعار بعلوِّ رُتبةِ المُشَارِ إليهِ وبُعد منزلتِه في الشَّرفِ
﴿يَدْخُلُونَ الجنة﴾ وقرئ يُدخَلون مبنياً للمفعول من الإدخال
﴿وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً﴾ لا يُنقصون شيئاً حقيراً من ثواب أعمالِهم فإن النقيرَ عَلَم في القلة والحَقارةِ وإذا لم يُنقص ثوابُ المطيعِ فلأَنْ لا يزادَ عقابُ العاصي أولى وأحرى كيف لا والمجازي أرحمُ الراحمين وهو السرُّ في الاقتصار على ذكره عَقيبَ الثواب
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي آتٍ بالحسنات تاركٌ للسيئات أو آتٍ بالأعمال الصالحة على الوجه اللائقِ الذي هو حسنُها الوصفيُّ المستلزِمُ لحسنها الذاتي وقد فسره ﷺ بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ والجملة حال من فاعل أسلم
﴿واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم﴾ الموافقةُ لدين الإسلامِ المتّفق عل صحتها وقبولِها
﴿حَنِيفاً﴾ مائلاً عن الأديان الزائغةِ وهو حالٌ من فاعلِ اتبع أو من إبراهيم
﴿واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً﴾ اصطفاه وخصَّه بكرامات تُشبه كراماتِ الخليلِ عند خليله واظهاره ﷺ في مواقع الإضمار لتفخيم شأنِه والتنصيصِ على أنه الممدوحُ وتأكيدِ استقلالِ الجملةِ الاعتراضية والخُلّةُ من الخِلال فإنه ودٌّ تخلَّل النفسَ وخالطَها وقيل من الخَلَل فإن كلَّ واحدٍ من الخليلين يسد خلَلَ الآخَر أو من الخل وهو الطريقُ في الرمل فإنهما يتوافقان في الطريقة أو من الخَلّة
بمعنى الخَصْلة فإنهما يتوافقان في الخِصال وفائدةُ الاعتراضِ جملة من جملتها الترغيبُ في اتباع ملتِه عليه السلام فإن من بلغ من الزُّلفى عند الله تعالى مَبْلغاً مصحِّحاً لتسميته خليلاً حقيقٌ بأن يكون اتباعُ طريقته أهم مايمتد إليه أعناقُ الهِمم وأشرفَ ما يَرمُق نحوه أحداقُ الأمم قيلَ إنَّه عليه الصلاةُ والسلام بَعث إلى خليل له بمصرَ في أزمة أصابت الناسَ يمتارُ منه فقال خليلُه لو كان إبراهيمُ يطلب المِيرةَ لنفسه لفعلت ولكنه يُريدها للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناسَ من الشدة فرجَع غِلمانُه عليه الصلاة والسلام فاجتازوا ببطحاء لينة فملئوا منها الغرائرَ حياءً من الناس وجاؤا بها إلى منزل إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وألقَوْها فيه وتفرّقوا وجاء أحدُهم فأخبر إبراهيمَ بالقصة فاغتم لذلك غماً شديداً لاسيما لاجتماع الناسِ ببابه رجاءَ الطعام فغلبه عيناه وعمَدت سارةُ إلى الغرائر فإذا فيها أجودُ ما يكون من الحُوَّارَى فاختبزت وفي رواية فأطعمت الناس وانتبه إبراهيم عليه السلام فاشتم رائحةَ الخبزِ فقال من أين لكم قالت سارة من خليلك المِصريِّ فقال بل من عند خليلى الله عز وجل فسماه الله تعالى خليلاً
﴿وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء مُّحِيطاً﴾ تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ماقبله على الوجوه المذكورةِ فإن إحاطتَه تعالى علماً وقُدرةً بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جملتها ما فيهما من المكلفين وأعمالِهم مما يقرِّرُ ذلك أكملَ تقرير
﴿قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عليكم فى الكتاب﴾ بإسناد الإفتاءِ الذي هو تبيين المُبهم وتوضيحُ المُشكلِ إليه تعالى وإلى ما تُليَ من الكتاب فيما سبق باعتبارين على طريقة قولِك أغناني زيدٌ وعطاؤُه بعطف مَا على المبتدأ أو ضميرِه في الخبر لمكان الفصلِ بالمفعول والجارِّ
﴿فِى يتامى النساء﴾ على الوجه الأولِ وهو الأظهرُ متعلقٌ بيتلى أي ما يتلى عليكم في شأنهن وعلى الأخيرين بدلٌ من فيهن وهذه الإضافةُ بمعنى من لأنها إضافة الشئ إلى جنسه وقرئ ييامى على قلب همزةِ أيامى ياءً
﴿اللاتى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ﴾ أي ما فُرض لهن من الميراث وغيره
﴿وَتَرْغَبُونَ﴾ عطفٌ على الصلة عطفَ جملةٍ مُثبتةٍ على جملة منفية وقيل حال من فاعل تؤتونهن بتأويل وأنتم ترغبون ولاريب في أنه لا يظهر لتقييدِ عدمِ الإيتاءِ بذلك فائدةٌ إلا إذا أريد بما كُتب لهن صَداقُهن
﴿أَن تَنكِحُوهُنَّ﴾ أي في ان تنكحوهن لالأجل التمتعِ بهن بل لأكل ما لهن أوفي أن تنكحوهن بغير إكمالِ الصَّداقِ وذلك ما رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ رضيَ الله تعالى عنها من أنها اليتيمةُ تكون في حجر وليها هو وليِّها فيرغب في مالها وجمالِها ويريد أن ينكِحَها بأدنى من سُنة نسائِها فنُهوا أن ينكِحوهن إلا أن يُقسِطوا لهن في إكمال الصَّداقِ أو عن أن تنكحوهن وذلك ماروى عنها رضيَ الله عنْهَا أنَّها يتيمةٌ يرغب وليُّها عن نكاحها ولا يُنكِحُها فيعضُلها طمعاً في ميراثها وفي رواية عنها رضى الله عنه هو الرجلُ يكون عنده يتيمة ووارثُها وشريكُها في المال حتى في العِذْق فيرغب أن ينكِحَها ويكره أن يزوِّجَها رجلاً فيَشرُكَه في ماله بما شرَكَتْه فيعضُلها فالمرادُ بما كُتب لهن على الوجه الأولِ والأخير ميراثُهن وبما يتلى في حقهن قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم وقولُه تعالى وَلاَ تَأْكُلُوهَا ونحوُهما من النصوص الدالةِ على عدم التعرّضِ لأموالهم وعلى الوجه الثاني صَداقُهن وبما يتلى فيهن قولهِ تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى اليتامى الآية
﴿والمستضعفين مِنَ الولدان﴾ عطفٌ على يتامى النساءِ وما يتلى في حقهم قولُه تعالى يُوصِيكُمُ الله الخ وقد كانوا في الجاهلية لا يورِّثونهم كما لا يورِّثون النساءَ وإنما يورِّثون الرجالَ القوام بالأمور رُوي أن عيينةَ بنَ حصنٍ الفزاريَّ جاء إلى رسول الله ﷺ فقال أُخبرنا بأنك تعطي الابنةَ النصفَ والأختَ النصفَ وإنما كنا نورِّث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة فقال ﷺ كذلك أُمِرْتُ
﴿وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط﴾ بالجر عطفٌ على ما قبله وما يتلى في حقهم قولُه تعالى وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم ونحوُ ذلك مما لا يكاد يحصر هذا على تقديرِ كونِ فِى يتامى النساء متعلقاً بيتلى وأما على تقدير كونِه بدلاً من فيهن فالوجهُ نصبُه عطفاً على موضع فِيهِنَّ أي يفتيكم أن تقوموا ويجوز نصبُه بإضمار فعلٍ أي ويأمركم وهو خطابٌ للولاة أو للأولياء والأوصياءِ
﴿وَمَا تَفْعَلُواْ﴾ في حقوق المذكورين
﴿مّنْ خَيْرٍ﴾ حسبما أُمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق فيندرجُ فيه ما يتعلق بهم اندراجاً أولياً
﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً﴾ فيجازيكم بحسبه
﴿مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً﴾ أي تجافياً عنها وترفّعاً عن صحبتها كراهةً لها ومنعاً لحقوقها
﴿أَوْ إِعْرَاضاً﴾ بأن يُقِلَّ محادثَتَها ومؤانستَها لما يقتضي ذلك من الدواعي والأسباب
﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا﴾ حينئذ
﴿أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً﴾ أي في أن يصلحا بينهما بأن تحط له المَهرَ أو بعضَه أو القَسْمَ كما فعلت سَودةُ بنتُ زَمعةٍ حين كرِهت أن يفارِقَها رسولُ الله ﷺ فوهبت يومها لعائشة رضيَ الله عْنُها أو بأن تهَبَ له شيئا تستميله وقرئ يَصّالحا من يتصالحا ويصَّلِحا من يصطلحا ويُصالِحا من المفاعلة وصُلحاً إما منصوبٌ بالفعل المذكورِ على كل تقديرٍ على أنه مصدرٌ منه بحذف الزوائدِ وقد يُعبّر عنه باسم المصدرِ كأنه قيل إصلاحاً أو تصلحا أو إصطلاحا حسبما قرئ الفعل أو بفعل مترتبٍ على المذكور أي فيُصلِح حالَهما صلحاً وبينهما ظرفٌ للفعل أو حال من صُلحاً والتعرُّضُ لنفي الجُناحِ عنهما مع أنه ليسَ من جانبها الأخذُ الذي هو المَظِنَّةُ للجُناح لبيان أن هذا الصلحَ ليس من قبيل الرَّشوةِ المحرمة للمعطي والآخذ
﴿والصلح خَيْرٌ﴾ أي من الفُرقة أو من سوء العِشرةِ أو من الخصومة فاللامُ للعهد أو هو خيرٌ من الخيور فاللامُ للجنس والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما فبله وكذا قوله تعالى
﴿وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح﴾ أي جعلت حاضرةً له مطبوعةً عليه لا تنفك عنه أبداً فلا المرأةُ تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجلُ يجود بحسن المعاشرةِ مع دمامتها فإن فيه تحقيقاً للصلح وتقريراً له بحثِّ كلَ منهما عليه لكنْ لا بالنظر إلى حال نفسِه فإن ذلك يستدعي التمادي في المماكسة والشقاقِ بل بالنظر إلى حال صاحبِه فإن شحَّ نفسِ الرجلِ وعدمَ ميلِها عن حالتها الجِبِلِّية بغير استمالةٍ مما يحمِل المرأةَ على بذل بعض حقوقِها إليه لاستمالته وكذا شحُّ نفسِها بحقوقها مما يحمل الرجلَ على أن يقتنع من قِبَلها بشيء يسير ولا يُكلّفَها بذلَ الكثيرِ فيتحقق بذلك الصلح
﴿وَإِن تُحْسِنُواْ﴾ في العِشرة
﴿وَتَتَّقُواْ﴾ النشوز والإعراض وإن تعاضدت الأسبابِ الداعيةِ إليهما وتصبِروا على ذلك مراعاةً لحقوق الصُّحبةِ ولم تَضْطَرُّوهن إلى بذل شئ من حقوقهن
﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي من الإحسان والتقوى أو بما تعملون جميعاً فيدخُل ذلك فيه دخولاً أولياً
﴿خبيرا﴾ فيجازيكم ويثيبكم على ذلك البتةَ لاستحالة أن يُضيِّعَ أجرَ المحسنين وفي خطاب الأزواجِ بطريق الالتفاتِ والتعبيرِ عن رعاية حقوقِهن بالإحسان ولفظِ التقوى المنبئ عن كون النشوزِ والإعراض مما يُتوقى منه وترتيبِ الوعدِ الكريمِ عليه من لطف الاستمالةِ والترغيب في حسن المعاملة مالا يخفى رُوِيَ أنَّها نزلتْ في عَمرةَ بنتِ محمدِ بنِ مَسلمةَ وزوجِها سعدِ بنِ الربيع تزوّجها وهي شابةٌ فلما علاها الكِبَرُ تزوج شابةً وآثرها عليها وجفاها فأتت رسولَ الله ﷺ وشكت إليه ذلك وقيل نزلتْ في أبي السائب كانت له امرأةٌ قد كبِرَت وله منها أولادٌ فأراد أن يطلقَها ويتزوجَ غيرَها فقالت لا تُطلِّقَني ودعني على أولادي فاقسِمْ لي من كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسِمْ لي فقال إن كان
يصلُح ذلك فهو أحبُّ إلي فأتى رسولَ الله ﷺ فذكر له ذلك فنزلت
﴿وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ أي على إقامة العدلِ وبالغتم في ذلك
﴿فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل﴾ أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كلَّ الجَوْرِ واعدِلوا ما استطعتم فإن عجْزَكم عن حقيقة العدلِ إنما يصحح عدمَ تكليفِكم بها لا بما دونها من المراتب الداخلةِ تحت استطاعتِكم
﴿فَتَذَرُوهَا﴾ أي التي مِلْتم عنها
﴿كالمعلقة﴾ التي ليست ذاتَ بعلٍ أو مطلقة وقرئ كالمسجونة وفي الحديث مَنْ كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحدُ شِقَّيه مائلٌ
﴿وَإِن تُصْلِحُواْ﴾ ما كنتم تُفسِدون من أمورهن
﴿وَتَتَّقُواْ﴾ الميلَ فيما يستقبل
﴿فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً﴾ يغفرُ لكم ما فرَط منكُم من الميل
﴿رَّحِيماً﴾ يتفضل عليكم برحمته
﴿يُغْنِ الله كُلاًّ﴾ منهما أي يجعلْه مستغنياً عن الآخر ويكفيه مُهمّاتِه
﴿مّن سَعَتِهِ﴾ من غناه وقُدرته وفيه زجرٌ لهما عن المفارقة رُغماً لصاحبه
﴿وَكَانَ الله واسعا حَكِيماً﴾ مقتدراً متْقِناً في أفعاله وأحكامِه وقولُه تعالى
﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب من قَبْلِكُمْ﴾ أي أمرناهم في كتابهم وهم اليهودُ والنصارى ومَنْ قبلهم من الأمم واللامُ في الكتاب للجنس ومن متعلقة بوصّينا أو بأوتوا
﴿وإياكم﴾ عطف على الموصول
﴿أَنِ اتقوا الله﴾ أي وصينا كلا منكم بأن اتقوا الله على أنَّ أنْ مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ ويجوز أن تكون مفسِّرةً لأن التوصيةَ في معنى القولِ فقوله تعالى
﴿وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ ما في السماوات وَمَا فِي الارض﴾ حينئذ من تتمة القولِ المحكيِّ أي ولقد قلنا لهم ولكم اتقوا الله وإن تكفروا إلى آخر الآية وعلى تقدير كونِ أنْ مصدرية مبني الكلام إرادة القول أي أمرناهم وإياكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا الآية وقيل هي جملةٌ مستأنفةٌ خوطب بها هذه الأمة وأيما ما كان فالمترتبُ على كفرهم ليس مضمونَ قولِه تعالى فإن لله الآية بل هو الأمرُ بعلمه كأنه قيل وإن تكفروا فاعلَموا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات وما في الأرض
من الخلائق قاطبةً مفتقرون إليه في الوجود وسائرِ النعمِ المتفرِّعةِ عليه لا يستغنون عن فيضه طرفةَ عينٍ فحقُّه أن يُطاع ولا يعصى ويتقى عقابُه ويجى ثوابُه وقد قرر ذلك بقوله تعالى
﴿وَكَانَ الله غَنِيّاً﴾ أي عن الخلق وعبادتِهم
﴿حَمِيداً﴾ محموداً في ذاته حمِدوه أو لم يحْمَدوه فلا يتضرر بكفرهم ومعاصيهم كما لا ينتفع بشكرهم وتقواهم وإنما وصّاهم بالتقوى لرحمته لا لحاجته
﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾ في تدبير أمورِ الكلِّ وكلِّ الأمور فلا بد من أن يُتوكلَ عَلَيْهِ لا على أحد سواه
﴿وَيَأْتِ بِآخَرِينَ﴾ أي يوجد دفعةً مكانكم قوماً آخرين من البشر أو خلقاً آخرين مكانَ الإنسِ ومفعولُ المشئية محذوفٌ لكونه مضمونَ الجزاءِ أي إن يشأ إفناءَكم وإيجادَ آخرين يذهبْكم الخ يعني أن إبقاءَكم على أما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ولعدم تعلقِ مشيئته المبنية على الحكم البالغةِ بإفنائكم لا لعجزه سبحانه تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً
﴿وَكَانَ الله على ذلك﴾ أي على إفناءكم بالمرة وإيجاد آخرين دفعة مكانكم
﴿قديرا﴾ بليغ القدرة وفيه لا سيما في توسيط الخطابِ بين الجزاءِ وما عُطف عليهِ من تشديد التهديد ما لا يخفى وقيل هو خطاب لمن عادى رسولَ الله ﷺ من العرب أي إن يشأ يُمِتْكم ويأتِ بأناس آخرين يوالونه فمعناه هو معنى قوله تعالى وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم ويروى أنها لما نزلت ضرب رسول الله ﷺ بيده على ظهر سلمانَ وقال إنهم قومُ هذا يريد أبناءَ فارسَ
﴿فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والاخرة﴾ أي فعنده تعالى ثوابُهما له إن أراده فما له يطلُب أخسَّهما فليطلُبْهما كمن يقول ربنا آتِنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً أو لِيَطلُبْ أشرفَهما فإن من جاهد خالصاً لوجهِ الله تعالى لم تُخطِئْه الغنيمةُ وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شئ أي فعند الله ثوابُ الدارين فيعطي كلاًّ ما يريده كقوله تعالى مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرةِ نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ الآية
﴿وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً﴾ عالماً بجميع المسموعاتِ والمُبصَرات فيندرج فيها ما صدَر عنهُم من الأقوال والأعمالِ المتعلقةِ بمراداتهم اندراجاً اوليا
﴿شهداء لله﴾ بالحق تقيمون شهاداتِكم لوجه الله تعالى وهو خبرٌ ثانٍ وقيلَ حَالٌ
﴿وَلَوْ على أنفسكم﴾ أى ولو كانت الشهادةُ على أنفسكم بأن تُقِرُّوا عليها على أن الشهادةَ عبارةٌ عن الإخبار بحق الغيرِ سواءٌ كان ذلك عليه أو على ثالث بأن يكون الشهادةُ مستتبِعةً لضرر ينالكم من جهة المشهودِ عليه
﴿أَوِ الوالدين والاقربين﴾ أي ولو كان على والدِيكم وأقاربِكم
﴿إِن يَكُنَّ﴾ أي المشهودُ عليه
﴿غنيا﴾ ينبغى في العادة رضاه ويتقى سَخَطُه
﴿أَوْ فَقَيراً﴾ يُترحّم عليه غالبا وقرئ إن يكن غنيٌّ أو فقيرٌ على أنَّ كانَ تامةٌ وجوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالة قوله تعالى
﴿فالله أولى بهما﴾ عليه أى فلا تمنعوا عنها طلباً لرضا الغِنى أو ترحماً على الفقير فإن الله تعالى أَولى بجنسي الغنيِّ والفقير المدلولِ عليهما بما ذكر ولولا أن الشهادةَ عليهما مصلحةٌ لهما لما شرعها وقرئ أَوْلى بهم
﴿فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ﴾ أي مخافةَ أن تعدِلوا عن الحق فإن اتباعَ الهوى من مظانِّ الجَوْرِ الذي حقُّه أن يُخافَ ويُحذر وقيل كراهةَ أن تعدِلوا بين الناسِ أو إرادةَ أن تعدِلوا عن الحق
﴿وَإِن تَلْوُواْ﴾ أي ألسنتَكم عن شهادة الحقِّ أو حكومةِ العدلُ بأن تأتوا بها لا على وجهها وقرئ وإن تلُوا من الولاية والتصدي أي وإن وَلِيتم إقامةَ الشهادة
﴿أَوْ تُعْرِضُواْ﴾ أي عن إقامتها رأساً
﴿فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ مِن لَيِّ الألسنةِ والإعراضِ بالكلية أو من جميعِ الأعمالِ التي من جُملتها ما ذكر
﴿خَبِيراً﴾ فيجازيكم لا محالة على ذلك فهو على القراءة المشهورةِ وعيدٌ محضٌ وعلى القراءة الأخيرةِ متضمِّنٌ للوعيد
﴿آمنُوا بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذى نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ﴾ اثبُتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه وازدادوا فيه طُمأْنينةً ويقيناً أو آمِنوا بما ذكر مفصلا بناء على أن إيمانَ بعضِهم إجماليٌّ والمرادُ بالكتاب الثاني الجنسُ المنتظِمُ لجميعِ الكتبِ السماوية لقوله تعالى وكتبه بالإيمان به الإيمانُ بأن كلَّ كتاب من تلك الكتبِ مُنزَّلٌ منه تعالى على رسول معينٍ لإرشاد أمتِه إلى ما شرَع لهم من الدين بالأومر والنواهي لكن لا على أن مدارَ الإيمانِ بكل واحد من تلك الكتب خصوصيةُ ذلك الكتابِ ولا على أن أحكامَ تلك الكتبِ وشرائعَها باقيةٌ بالكلية ولا على أن الباقيَ منها معتبرٌ بالإضافة إليها بل على أن الإيمانَ بالكل
مندرجٌ تحت الإيمانِ بالكتاب المنزلِ على رسوله وأن أحكامَ كلَ منها كانت حقة ثابتة إلى ورود ما نسخها وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتةٌ من حيث إنها من أحكام هذا الكتاب الجليلِ المصونِ عن النسخ والتبديلِ كما مر في تفسير خاتمةِ سورة البقرةِ وقرئ نُزل وأُنزل على البناء للمفعول وقيل هو خطابٌ لؤمنى أهل الكتاب لما أنَّ عبدَ اللَّه بنَ سلام وابنَ أختِه سلامةَ وابنَ أخيه سَلَمةَ وأسَداً وأُسيداً ابنى كعبٍ وثعلبةَ بنَ قيسٍ ويامينَ بنَ يامينَ أتَوا رسول الله ﷺ وقالوا يا رسولَ الله أنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراةِ وعزيرٍ ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال ﷺ بل آمِنوا بالله ورسولِه محمدٍ وكتابه القرآنِ وبكل كتابٍ كان قبله فقالوا لا نفعل فنزلت فآمنوا كلُّهم فأمرهم بالإيمان بالكتاب المتناوِلِ للتوراة مع أنهم مؤمنون بها من قبلُ ليس لكون المرادِ بالإيمان ما يعُمّ إنشاءَه والثباتَ عليه ولالأن متعلَّقَ الأمر حقيقةً هو الإيمانُ بما عداها كأنه قيل آمِنوا بالكل ولا تخُصُّوه بالبعض بل لأن المأمور به إنما هو الإيمانُ بها في ضمن الإيمانِ بالقرآن على الوجه الذي أشير إليه آنفاً لا إيمانُهم السابقُ ولأن فيه حملاً لهم على التسوية بينهما وبين سائر الكتبِ في التصديق لاشتراك الكلِّ فيما يوجبه وهو النزولُ من عند الله تعالى وقيل خطابٌ لأهل الكتابين فالمعنى آمنوا بالكل لا ببعض دون بعض وأمر كل طائفةٍ بالإيمان بكتابه في ضمن الأمرِ بالإيمان بجنس الكتابِ لما ذكر وقيل هو للمنافقين فالمعنى آمِنوا بقلوبكم لا بألسنتكم فقط
﴿ومن يكفر بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الاخر﴾ أى بشئ من ذلك
﴿فَقَدْ ضَلَّ ضلالا بَعِيداً﴾ عن المقصِد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه وزيادةُ الملائكةِ واليومِ الآخرِ في جانب الكفر لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمانُ أصلاً وجمعُ الكتبِ والرسلِ لما أن الكفرَ بكتاب أو برسول كفرٌ بالكل وتقديمُ الرسولِ فيما سبق لذكر الكتابِ بعنوان كونِه منزلاً عليه وتقديمُ الملائكة والكتبِ على الرسل لأنهم وسايط بين الله عزَّ وجلَّ وبيّن الرسلِ في إنزال الكتب
﴿ثُمَّ كَفَرُواْ﴾ بعبادتهم العجلَ
﴿ثُمَّ آمنوا﴾ عند عَودِه إليهم
﴿ثُمَّ كَفَرُواْ﴾ بعيسى والإنجيل
﴿ثُمَّ ازدادوا كُفْراً﴾ بكفرهم بمحمد ﷺ وقيل هم قومٌ تكررَ منهم الارتدادُ وأصرّوا على الكفر وازدادوا تمادياً في الغي
﴿لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً﴾ لما أنه يُستبعد منهم أن يتوبوا عن الكفر ويثبُتوا على الإيمان فإن قلوبَهم قد ضربت بالكفر وتمرّنت على الرِّدة وكان الإيمانُ عندهم أهونَ شئ وأدونه لاانهم لو أخلصوا الإيمانَ لم يُقبل منهم ولم يغفَرْ لهم وخبرُ كان محذوفٌ أي مريداً ليغفر لهم وقوله عز وجل
﴿مِن دُونِ المؤمنين﴾ حال من فاعل يتخذون أي يتخذون الكفرةَ أنصاراً متجاوزين ولايةَ المؤمنين وكانوا يوالونهم ويقول بعضُهم لبعض لايتم أمر محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم فتولَّوا اليهود
﴿أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة﴾ إنكارٌ لرأيهم وإبطالٌ له وبيانٌ لخيبة رجائِهم وقطعٌ لأطماعهم الفارغةِ والجملةُ معترضةٌ مقررةٌ لما قبلها أي أيطلُبون بموالاة الكَفرةِ القوةَ والغلبة قال الواحدي أصلُ العزة الشدةُ ومنه قيل للأرض الشديدة الصُلبة عَزازٌ وقوله تعالى
﴿فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً﴾ تعليلٌ لما يفيده الاستفهامُ الإنكاريُّ من بُطلانِ رأيِهم وخَيبةُ رجائِهم فإن انحصارَ جميعِ أفرادِ العزةِ في جنابه عز وعلا بحيث لا ينالها إلا أولياؤُه الذين كُتب لهم العزةُ والغَلَبةُ قال تعالَى وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يقضي ببطلان التعززِ بغيره سبحانه وتعالى واستحالةِ الانتفاعِ به وقيل هو جوابُ شرطٍ محذوفٍ كإنَّه قيل إن يبتغوا عندهم عزة فإن العزةَ لله وجميعاً حال من المستكن في قوله تعالى لِلَّهِ لاعتماده على المبتدأ
﴿فِى الكتاب﴾ أي القرآن الكريم
﴿أن إذا سمعتم آياتِ الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فلا تقعدوا معهم حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غيره﴾ وذلك قوله تعالى وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى آياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ الآية وهذا يقتضي الانزجارَ عن مجالستهم في تلك الحالة القبيحةِ فكيف بموالاتهم والاعتزازِ بهم وأنْ هي المخففةُ من أنَّ وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ والجملةُ الشرطية خبرُها وقولُه تعالى يَكْفُرُ بِهَا حالٌ من آياتِ الله وقوله تعالى وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا عطفٌ عليهِ داخلٌ في حكم الحاليةِ وإضافةُ الآياتِ إلى الاسمِ الجليلِ لتشريفها وإبانةِ خطرِها وتهويلِ أمر الكفرِ بها أي نزل عليكم في الكتاب أنه إذا سمعتم آياتِ الله مكفوراً بها ومستهزَأً بها وفيه دِلالةٌ على أن المنزلَ على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وإن خوطب به خاصةً منزلٌ على الأمة وأن مدارَ الإعراضِ عنهم هو العلمُ بخوضهم في الآيات ولذلك عبّر عن ذلك تارة بالرؤية
﴿إنكم إذا مّثْلُهُمْ﴾ جملةٌ مستأنفةٌ سيقت لتعليل النهي غيرُ داخلةٍ تحت التنزيلِ وإذن ملغاةٌ عن العمل لوقوعها بين المبتدأ والخبر أي لا تقعدوا معهم في ذلك الوقتِ إنكم إن فعلتموه كنتم مثلَهم في الكفر واستتباعِ العذابِ وإفرادُ المثلِ لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع وقرئ شاذاً مثلَهم بالفتح لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ كما في قوله تعالى مّثْلَ ماانكم تَنطِقُونَ وقيلَ هو منصوبٌ على الظرفية أي في مثل حالهم
وقوله تعالى ﴿إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً﴾ تعليلٌ لكونهم مثلَهم في الكفر ببيان ما يستلزمه من شِرْكتهم لهم في العذاب والمرادُ بالمنافقين إما المخاطَبون وقد وُضع موضِعَ ضميرهم المظهر تسجيلاً بنفاقهم وتعليلاً للحكم بمأخذ الاشتقاقِ وإما الجنسُ وهم داخلون تحته دخولاً أولياً وتقديمُ المنافقين على الكافرين لتشديد الوعيدِ على المخاطبين ونصبُ جميعاً مثلُ ما قبله
﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله﴾ لترتيب مضمونِه على ما قبلها فإن حكايةَ تربُّصِهم مستتبعة لحاية ما يقع بعد ذلك كما أن نفس التربُّص يستدعي شيئاً ينتظر المتربَّصُ وقوعَه
﴿قَالُواْ﴾ أي لكم
﴿أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ﴾ أي مُظاهرين لكم فأسهموا لنا في الغنيمة
﴿وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ﴾ من الحرب فإنها سِجالٌ
﴿قَالُواْ﴾ أي للكفرة
﴿أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ﴾ أي ألم نغلِبْكم ونتمكنْ من قتالكم وأسرِكم فأبقَينا عليكم
﴿وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين﴾ بأن ثبّطناهم عنكم وخيّلنا لهم ما ضَعُفَت به قلوبُهم ومرِضوا في قتالكم وتوانَينا في مظاهرتهم وإلا لكنتم نُهبةً للنوائب فهاتوا نصيباً لنا مما أصبتم وتسميةُ ظفرِ المسلمين فتحاً وما للكافرين نصيباً لتعظيم شأنِ المسلمين وتخسيس حظ الكافرين وقرئ ونمنعَكم بإضمار أن
﴿فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة﴾ حكماً يليق بشأن كلَ منكم من الثواب والعقاب وأما في الدنيا فقد أُجريَ على من تفوه بكلمة الإسلام حُكمُه ولم يضع السيفَ على من تكلم بها نفاقاً
﴿وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً﴾ حينئذ كما قد يجعل ذلك في الدنيا بطريق الابتلاءِ والاستدراجِ أو في الدنيا على أن المرادَ بالسبيل الحجة
﴿وإذا قَامُوا إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كسالى﴾ متثاقلين كالمكره على الفعل وقرئ بفتح الكاف وهما جَمْعا كسلان
﴿يراؤون الناس﴾ ليحسَبوهم مؤمنين والمراءاةُ مفاعلة بمعنى التفعيل كنَعِم وناعم أو للمقابلة فإن المرئى يُري غيرَه عملَه وهو يُريه استحسانَه والجملةُ إمَّا استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال نشأَ من الكلامِ كأنَّه قيل فماذا يريدون بقيامهم إليها كُسالى فقيل يراءون إلخ أو حالٌ من ضمير قاموا
﴿وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً﴾ عطف على يراءون أي لا يذكرونه سبحانه إلا ذكراً قليلاً وهو ذكرُهم باللسان فإنه بالإضافة إلى الذكر بالقلب قليلٌ أو إلا زماناً قليلاً أو لا يصلّون إلا قليلاً لأنهم لايصلون إلا بمر أى من الناس وذلك قليلٌ وقيل لا يذكرونه تعالى في الصلاة إلا قليلاً عند التكبيرِ والتسليمِ
﴿لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إلى هؤلاء﴾ اى لامنسوبين إلى المؤمنين ولا منسوبين إلى الكافرين أولا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخَرين فمحلُّه النصبُ على أنه حال من ضمير مذبذبين أو على أنه بدلٌ منه أو بيان وتفسيرله
﴿وَمَن يُضْلِلِ الله﴾ لعدم استعدادِه للهداية والتوفيق
﴿فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً﴾ موصِلاً إلى الحق والصواب فضلاً عن أن تهديه إليه والخطابُ لكلِّ من يصلُح له كائناً من كانَ
﴿أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً﴾ أي أتريدون بذلك أن تجعلوا لله عليكم حجةً بيّنةً على أنكم منافقون فإن موالاتَهم أوضحُ أدلةِ النفاقِ أو سلطاناً يُسلِّط عليكم عقابَه وتوجيهُ الإنكار إلى الإرادة دون متعلَّقِها بأن يقال أتجعلون المبالغة في إنكارِه وتهويلِ أمرِه ببيان أنه مما لا يصدُر عن العاقل إرادتُه فضلاً عن صدور نفسِه كما في قوله عز وجل أم تريدون أن تسألوا رسولكم
﴿ولن تجد لهم نصيراً﴾ يخلصهم منه والخطاب كما سبق
﴿وأصلحوا﴾ ما أفسدوا من أحوالهم فى حال النفاق
﴿واعتصموا بالله﴾ أى وثقوا به وتمسكوا بدينه
﴿وأخلصوا دينهم﴾ أى جعلوه خالصاً
﴿لله﴾ لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه
﴿فأولئك﴾ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلةِ وما فيهِ منْ مَعْنى البُعدِ للإيذانِ ببعدِ المنزلة وعلو الطبقة
﴿مع المؤمنين﴾ أى المؤمنين المعهودين الذين لم يصدر عنهم نفاق أصلا منذ آمنوا وإلا فهم أيضاً مؤمنون أى معهم فى الدرجات العالية من الجنة وقد بين ذلك بقوله تعالى
﴿وسوف يؤت الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً﴾ لا يُقادر قدره فيساهمونهم فيه
﴿وكان الله شاكراً﴾ الشكر من الله سبحانه هو الرضا باليسير من طاعة عباده وأضعاف الثواب بمقابلته
﴿عَلِيماً﴾ مُبالغاً في العلمِ بجميعِ المعلوماتِ التي مِنْ جملتها شكركم وإيمانكم فيستحيل أن لا يوفيكم أجوركم
﴿إَلاَّ مَن ظَلَمَ﴾
﴿وَكَانَ الله سَمِيعاً﴾ لجميع المسوعات فيندرجُ فيها كلامُ المظلومِ والظالم
﴿عَلِيماً﴾ بجميعِ المعلوماتِ التي مِنْ جملتها حالُ المظلومِ والظالم فالجملةُ تذييلٌ مقرِّرٌ لما يفيده الاستثناء
﴿أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء﴾ مع ما سُوِّغ لكم من مؤاخذة المسئ والتنصيص عليه مع اندراجه في إبداء الخيرِ وإخفائه لما أنه الحقيقُ بالبيان وإنما ذُكر إبداءُ الخير وإخفاؤه بطريق التسبيب له كما ينبئ عنه قولُه عزَّ وجلَّ
﴿فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً﴾ فإن إيرادَه في معرِض جوابِ الشرطِ يدل على أن العُمدة هو العفوُ مع القدرة أي كان مبالِغاً في العفو مع كمال قدرتِه على المؤاخذة وقال الحسن يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسُنة الله تعالى وقال الكلبي هو أقدر على عفو ذنوبِكم منكم على عفو ذنوبِ مَنْ ظلمكم وقيل عفُوّاً عمن عفا قديراً على إيصال الثوابِ إليه
﴿وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ﴾ أي بأن يؤمنوا به تعالى ويكفُروا بهم لكن لا بأن يصرِّحوا بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبةً بل بطريق الاستلزامِ كما يحكيه قوله تعالى
﴿وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ﴾ أي نؤمن ببعض الأنبياءِ ونكفُر ببعضهم كما قالت اليهود نؤمن بموسى والتوراةِ وعزيرٍ ونكفر بما وراء ذلك وما ذاك إلا كفرٌ بالله تعالى ورسُلِه وتفريقٌ بين الله تعالى ورسُله في الإيمان لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياءِ عليهم السلام وما من نبيَ من الأنبياء إلا وقد أخبر قومَه بحقية دين نبينا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وعليهم أجعين فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضاً من حيث لايحتسب
﴿وَيُرِيدُونَ﴾ بقولهم ذلك
﴿أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك﴾ أي بين الإيمان والكفرِ
﴿سَبِيلاً﴾ يسلُكونه مع أنه لا واسطةَ بينهما قطعاً إذِ الحق لا يختلف وماذا بعد الحقِّ إلا الضلال
﴿هُمُ الكافرون﴾ الكاملون في الكفر لا عبرة بمايدعونه ويسمونه إيماناً أصلاً
﴿حَقّاً﴾ مصدرٌ مؤكدٌ لمضمون الجملةِ أي حَقَّ ذلك أي كونُهم كاملين في الكفر حقاً أو صفةٌ لمصدر الكافرين أي هم الذين كفروا حقا أى
﴿وَأَعْتَدْنَا للكافرين﴾ أي لَهم وإنما وُضع المُظهرُ مكان المضمر ذما وتذكيراً لوصفهم أو لجميع الكافرين وهم داخلونَ في زُمرتهم دخولا أولياء
﴿عَذَاباً مُّهِيناً﴾ سيذوقونه عند حلوله
﴿وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ﴾ بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخَرين كما فعله الكفرة ودخولُ بَيْنَ على أحد قد مرَّ تحقيقُه في سورة البقرة بما لا مزيدَ عليهِ
﴿أولئك﴾ المنعوتون بالنعوت الجليلةِ المذكورةِ
﴿سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ الموعودةَ لهم وتصديرُه بسوف لتأكيد الوعدِ والدلالةِ على إنه كائنٌ لا محالةَ وإن تراخى وقرئ نُؤتيهم بنون العظمة
﴿وَكَانَ الله غَفُوراً﴾ لما فرَط منهم
﴿رَّحِيماً﴾ مبالغاً في الرحمة عليهم بتضعيف حسناتِهم
﴿فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك﴾ جوابُ شرطٍ مقدّر أى إن استكبرت ماسألوه منك فقد سألوا موسى شيئا اكبر وقيل تعليلٌ للجوابِ أي فلا تُبالِ بسؤالهم فقد سألوا موسى أكبر وهذه المسألةُ وإن صدَرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا مقتدين بهم في كلِّ ما يأتُون وما يذرون أُسنِدت إليهم والمعنى أن لهم في ذلك عِرْقاً راسخاً وأن ما اقترحوا عليك ليس أولَ جهالاتِهم
﴿فقالوا أرنا الله جهرة﴾ أي أرِناه نَرَهُ جهرةً أي عِياناً أو مجاهرين معاينين له والفاءُ تفسيريةٌ
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة﴾ أي النارُ التى جاءت من السماء فأهلكتهم وقرئ الصعقةُ
﴿بِظُلْمِهِمْ﴾ أي بسبب ظلمِهم وهو تعنتُهم وسؤالُهم لما يستحيل في تلك الحالةِ التي كانوا عليها وذلك لا يقتضي امتناعَ الرؤيةِ مطلقاً
﴿ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات﴾ أي المعجزاتِ التى أظهرها لفرعون من العصا واليدِ البيضاءِ وفلْقِ البحر وغيرِها لاالتوراة لأنها لم تنزلْ عليهم بعد
﴿فَعَفَوْنَا عَن ذلك﴾ ولم نستأصِلْهم وكانوا أحقاءَ به قيل هذا استدعاءٌ لهم إلى التوبة كأنه قيل إن أولئك أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضاً حتى نعفو عنكم
﴿وآتينا موسى سلطانا مبينا﴾ سلطانا ظاهرا عليهم حيث أمرهم بأن يقتُلوا
﴿وَقُلْنَا لَهُمُ﴾ على لسان موسى عليه السلام والطورُ مظل عليهم
﴿ادخلوا الباب﴾ قال قتادة كنا نحدَّث أنه بابٌ من أبواب بيتِ المقدس وقيل هو إيليا وقيل هو أريحا وقيل هو اسمُ قريةٍ وقيل بابُ القُبة التي كانوا يصلون إليها فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام
﴿سُجَّدًا﴾ أي متطامنين خاضعين
﴿وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ﴾ أي لاتظلموا باصطياد الحيتانِ
﴿فِى السبت﴾ وقرئ لاتعتدوا بفتح العين وتشديد الدال على أن أصله تعتدوا فأدغمت التاءُ في الدال لتقاربهما في المخرج بعد نقل حركتها إلى العين
﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ﴾ على الامتثال بما كُلّفوه
﴿ميثاقا غَلِيظاً﴾ مؤكداً وهو العهدُ الذي أخذه الله عليهم في التوراة قيل إنهم أعطَوا الميثاقَ على أنهم إن همّوا بالرجوع عن الدين فالله تعالى يعذِّبهم بأي أنواع العذاب أراد
﴿وكفرهم بآيات الله﴾ أي بالقرآن أو بما في كتابهم
﴿وَقَتْلِهِمُ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ﴾ كزكريا ويحيى عليهما السلام
﴿وَقَوْلِهِمْ قلوبنا غلف﴾ جمع أغلف أي هي مغشاةٌ بأغشية جبلية لايكاد يصل إليها ماجاء به محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم أو هو تخفيفُ غُلُفٌ جمع غِلاف أي هي أوعيةٌ للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبي يعنون أن قلوبَنا بحيث لا يصل إليها حديث إلا وعته ولو كان في حديثك خير لوعته أيضا
﴿بل طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ﴾ كلامٌ معترِضٌ بين المعطوفَين جئ به على وجه الاستطرادِ مسارعةً إلى رد زعمِهم الفاسدِ أي ليس كفرُهم وعدمُ وصولِ الحقِّ إلى قلوبهم لكونها غُلفاً بحسب الجِبِلّة بل الأمرُ بالعكس حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم أو ليست قلوبهم كما زعموابل هي مطبوع عليها
﴿فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ منهم كعبدِ اللَّهِ بنِ سَلاَم وأضرابه أو إلا إيماناً قليلاً لا يُعبأ به
﴿وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً﴾ لا يقادَر قدرُه حيث نسبوها إلى ما هي عنه بألف منزل
﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ﴾ حالٌ واعتراض
﴿ولكن شُبّهَ لَهُمْ﴾ رُوي أنَّ رهطاً مِنْ اليهود سبُّوه عليه السلام وأُمَّه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردةً وخنازيرَ فأجمعت اليهودُ على قتله فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء فقال لأصحابه أيُّكم يرضى بأن يُلقى عليه شبهي فيقتل فيصلب ويدخُلَ الجنة فقال رجل منهم أنا فألقَى الله تعالى عليه شبَهَه فقتل وصُلب وقيل كان رجل ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتلَه قال أنا أدلُّكم عليه فدخل بيتَ عيسى عليه السلام فرُفعَ عيسى عليه السلام وأُلقي شبَهُه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه السلام وقيل إن طيطانوس اليهوديَّ دخل بيتاً كان هو فيه فلم يجده فألقى الله تعالى عليه شبَهه فلما خرج ظُن أنه عيسى عليه السلام فأُخذ وقُتل وأمثالُ هذه الخوارقِ لا تستبعد في عصر النبوةِ وقيل إن اليهودَ لما همّوا بقتله عليه السلام فرفعه الله تعالى إلى السماء خاف رؤساءُ اليهودِ من وقوع الفتنةِ بين عوامِّهم فأخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه ولبّسوا على الناس وأظهروا لهم أنه هو المسيحُ وما كانوا يعرفونه إلا بالاسم لعدم مخالطتِه عليه السلام لهم إلا قليلا وشبه مسندا إلى الجار والمجرور كأنه قيل ولكن وقع لهم التشبيهُ بين عيسى عليه السلام والمقتول أوفى الأمر على قول من قال لم يُقتَلْ أحدٌ ولكنِ أُرجِفَ بقتله فشاع بين الناسِ أو إلى ضمير المقتولِ لدِلالة إِنَّا قَتَلْنَا على أن ثمَّ مقتولاً
﴿وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ﴾ أي في شأن عيسى عليه السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعةُ اختلف الناسُ فقال بعضُ اليهود إنه كان كذبا فقتلناه حتماً وتردد آخرون فقال بعضُهم إن كان هذا عيسى
﴿لَفِى شَكّ مّنْهُ﴾ لفي تردد والشكُ كما يطلق على ما لم يترجح أحدُ طرفيه يُطلق على مطلق الترددِ وعلى ما يقابل العلم ولذلكَ أُكِّدَ بقولِه تعالى
﴿مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن﴾ استثناءٌ منقطعٌ أي لكنهم يتبعون الظن ويجوز أن يفسَّر الشكُ بالجهل والعلمُ بالاعتقاد الذي تسمن إليه النفسُ جزماً كان أو غيرَه فالاستثناءُ حينئذ متصلٌ
﴿وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً﴾ أي قتلاً يقيناً كما زعموا بقولهم إنا قتلنا المسيحَ وقيل معناه وما علموه يقيناً كما في قوله من قال كذاك تُخبِرُ عنها العالماتُ بها وقد قَتَلْتُ بعلمي ذلكم يقَناً من قولهم قتلتُ الشيءَ علماً ونحَرتُه علماً إذا تَبالغَ علمُك فيه وفيه تهكمٌ بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة وقد نُفيَ ذلك عنهم بالكلية
﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً﴾ لا يغالَب فيما يريده
﴿حَكِيماً﴾ في جميع أفعالِه فيدخُل فيها تدبيراتُه تعالى في أمر عيسى عليه السلام دخولاً أولياً
﴿إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ جملةٌ قَسَمية وقعت صفةً لموصوف محذوفٍ إليه يرجع الضميرُ الثاني والأول لعيسى عليه السلام أي وما من أهل الكتاب أحدٌ إلا ليؤمِنَنّ بعيسى عليه السلام قبل أن تَزهَقَ روحُه بأنه عبدُ الله ورسولُه ولات حين إيمان لانقطاع وقت التكليف ويعضده بأنه قرئ ليؤمنن قبل موتهم بضم النون لِما أن أحداً في معنى الجمعِ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهُمَا أنَّه فسّره كذلك فقال له عِكرِمة فإن أتاه رجلٌ فضَرَبَ عُنقَه قال لا تخرُجُ نفسُه حتى يُحرِّك بها شفتيه قال فإن خرَّ من فوق بيت أو احترق أو أكله سبُعٌ قال يتكلم بها في الهواء ولا تخرُجُ روحُه حتى يؤمِنَ به وعن شهرِ بنِ حَوْشبَ قال لي الحجاج آيةٌ ما قرأتُها إلا تَخالَج في نفسي شيءٌ منها يعني هذه الآيةَ وقال إني أوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضربُ عُنقَه فلا أسمعُ منه ذلك فقلت إن اليهوديَّ إذا حضره الموتُ ضربت الملائكةُ دُبُرَه ووجهَه وقالوا يا عدوَّ الله أتاك عيسى عليه السلام نبياً فكذبتَ به فيقول آمنتُ أنه عبدٌ نبيٌّ وتقول للنصراني أتاك عيسى عليه السلام نبياً فزعمتَ أنه الله وابن الله فيؤمنُ أنه عبدُ الله ورسولُه حيث لا ينفعه إيمانُه قال وكان متكئا فاستولا جالساً فنظر إليَّ وقال ممن سمعتَ هذا قلت حدثني محمدُ بنُ عليَ بنِ الحنفيةِ فأخذ ينكُث الأرضَ بقضيبه ثم قال لقد أخذتُها من عين صافية والإخبارُ بحالهم هذه وعيدٌ لهم وتحريضٌ على المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يُضْطروا إليه مع انتفاء جدواه وقيل كلا الضميرين لعيسى والمعنى وما من أهل الكتاب الموجودين عند نزولِ عيسى عليه السلام أحدٌ إلا ليؤمنن به قبل موته روي أنه عليه السلام ينزِلُ من السماء في آخر الزمانِ فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمنُ به حتى تكونَ الملةُ واحدةً وهي ملةُ الإسلام ويُهلك الله في زمانه الدجالَ وتقعُ الأمنة
﴿وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ﴾ أي عيسى عليه السلام
﴿عَلَيْهِمْ﴾ على أهل الكتاب ﴿شَهِيداً﴾ فيشهد على اليهود بالتكذيب وعلى النصارى بأنهم دعَوْه ابن الله تعالَى الله عن ذلكَ علواً كبيراً
﴿حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ ولِمن قبلَهم لا بشيء غيرِه كما زعموا فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصيةً من المعاصي التي اقترفوها يُحرَّم عليهم نوعٌ من الطيبات التي كانت محلَّلةً لهم ولمن تقدّمهم من أسلافهم عُقوبةً لهم وكانوا مع ذلك يفترون على الله سبحانه ويقولون لسنا بأولِ مَنْ حرمت عليه وإنما كان على نوح وإبراهيم من بعدَهما حتى انتهى الأمرُ إلينا فكذبهم الله عزَّ وجلَّ في مواقعَ كثيرةٍ وبكّتهم بقوله تعالى كلك الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسرائيلَ إلا ما حرم اسرائيل على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين أي في ادعاكم أنه تحريم قديم روي أنه عليه السلام لما كلفهم إخراجَ التوراةِ لم يجسُرْ أحدٌ على إخراجها لِما أن كونَ التحريمِ بظلمهم كان مسطوراً فيها فبُهتوا وانقلبوا صاغرين
﴿وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً﴾ أي ناساً كثيراً أو صداً كثيراً
﴿وَأَكْلِهِمْ أموالَ الناس بالباطل﴾ بالرّشوة وسائرِ الوجوهِ المحرَّمةِ
﴿وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ﴾ أي للمُصِرِّين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم
﴿عَذَاباً أَلِيماً﴾ سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبةَ التحريم
﴿والمؤمنون﴾
أي منهم وصفوا بالإيمان بعد ما وُصِفوا بما يوجبُه من الرسوخ في العلم بطريق العطف المنبئ عن المغايرة بين المعطوفَين تنزيلاً للاختلاف العنوانيِّ منزلةَ الاختلافِ الذاتيِّ وقوله تعالى
﴿يؤمنون بما أنزل إليك وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ حال من المؤمنون مبيِّنةٌ لكيفية إيمانِهم وقيل اعتراضٌ مؤكدٌ لما قبله وقوله عز وجل
﴿والمقيمين الصلاة﴾ قيل نُصب بإضمار
﴿والمؤتون الزكاة﴾ عطفٌ على المؤمنون مع اتحاد الكلِّ ذاتاً وكذا الكلامُ في قولِه تعالى
﴿والمؤمنون بالله واليوم الاخر﴾ فإن المراد بالكل مؤمنو أهلِ الكتابِ قد وُصِفوا أولاً بكونهم راسِخين في علم الكتابِ إيذاناً بأن ذلك موجبٌ للإيمان حتماً وأن مَنْ عداهم إنما بقُوا مُصرِّين على الكفر لعدم رسوخِهم فيه ثم بكونهم مؤمنين بجميع الكتبِ المنزلةِ على الأنبياء ثم بكونهم عاملين بما فيها من الشَّرائعِ والأحكامِ واكتُفي من بينها بذكر إقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ المستتبعين لسائر العباداتِ البدنيةِ والماليةِ ثم بكونهم مؤمنين بالمبدأ والمعادِ تحقيقاً لحيازتهم الإيمانَ بقطريه وإحاطتِهم به من طرفيه وتعريضاً بأن مَنْ عداهُم من أهلِ الكتابِ ليسوا بمؤمنين بواحد منهما حقيقةً فإنهم بقولهم عزيرٌ ابنُ الله مشركون بالله سبحانه وبقولهم لن تمسنا النارُ إلا أياماً معدودةً كافرون باليوم الآخِرِ وقولُه تعالى
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بما عُدِّد من الصفات الجميلةِ وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعلوّ درجتِهم وبُعدِ منزلَتهِم في الفضلِ وهو مبتدأُ وقولُه تعالى
﴿سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً﴾ خبرُه والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الذي هو الراسخون وما عطف عليه والسينُ لتأكيد الوعدِ وتنكيرُ الأجرِ للتفخيم وهذا أنسبُ بتجاوُبِ طرَفي الاستدراكِ حيث أُوعِد الأولون بالعذاب الأليم ووُعِد الآخَرون بالأجر العظيم كأنه قيل إثر قولِه تعالى وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً لكنِ المؤمنون منهم سنؤتيهم أجراً عظيماً وأما ما اجتح إليه الجمهورُ من جعل قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ الخ خبراً للمبتدأففي كمال السداد خلا أنه غير معترض لتقابل الطرفين وقرئ سيؤتيهم بالياء مراعاةً لظاهر قوله تعالى والمؤمنون بالله
﴿وَأَوْحَيْنَا إلى إبراهيم﴾ عطفٌ على أوحينا إلى نوح داخلٌ معه في حكم التشبيهِ أي وكما أوحينا إلى إبراهيم
﴿وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط﴾ وهم أولادُ يعقوبَ عليهم السلام
﴿وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وهارون وسليمان﴾ خُصوا بالذكر مع ظهور انتظامِهم في سلك النبيين تشريفاً لهم وإظهاراً لفضلهم كما في قوله تعالى مَن كَانَ عدوا لله وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال وتصريحاً بمن ينتمي إليهم اليهودُ من الأنبياء وتكريرُ الفعلِ لمزيد تقريرِ الإيحاء والتنبيهِ على أنهم طائفةٌ خاصةٌ مستقلةٌ بنوع مخصوصٍ من الوحي
﴿وآتينا داود زَبُوراً﴾ قال القرطبي كان فيه مائة وخمسون ليس فيها حكم من الأحكام إنما هي حِكَمٌ ومواعظُ وتحميدٌ وتمجيدٌ وثناءٌ على الله تعالى وقرئ بضم الزاءِ وهو جمعُ زِبْرٍ بمعنى مزبور والجملةُ عطف على أوحينا داخلٌ في حكمه لأن إيتاءَ الزبورِ من باب الإيحاءِ أي وكما آتينا داودَ زبورا وإيثاره على وأوحينا إلى داود لتحقيق المماثلة في أمر خاصَ هو إيتاءُ الكتابِ بعد تحقيقِها في مطلق الإيحاءِ ثم أشير إلى تحقيقها في أمر لازمٍ لهما لزوماً كلياً وهو الإرسال فإن قوله تعالى
﴿قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ﴾ أي وقصصنا رسلاً كما قالوا وفرّعوا عليه إنَّ قولَه تعالَى قَدْ قصصناهم على الوجه الأول منصوبٌ على أنه صفةٌ لرسلاً وعلى الوجه الثاني لا محلَّ له من الإعراب فإنه مما لا سبيل إليه كما ستقف عليه وقرئ برفع رسلٌ وقولُه تعالى
﴿مِن قَبْلُ﴾ متعلقٌ بقصصنا أي قصصنا من قبلِ هذه السورةِ أو اليوم
﴿وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ عطفٌ على رسلاً منصوبٌ بناصبه وقيل كلاهما منصوبٌ بنزع الخافضِ والتقديرُ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نوحٍ وإلى الرسل الخ والحقُّ أن يكون انتصابُهما بأرسلنا فإن فيه تحقيقاً للمماثلة بين شأنِه عليه الصلاةُ والسلام وبين شؤونِ من يعترفون بنبوته من الأنبياءِ عليهم السلام في مطلق الإيحاءِ ثم في إيتاءِ الكتابِ ثم في الإرسال فإن قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ منتظِمٌ بمعنى آتيناك وأرسلناك حتماً كأنه قيل إنا أوحينا إلى إبراهيمَ ومَنْ بعده وآتيناك وأرسلناك حتماً كأنه قيل إنا أوحينا إليك إيحاءً مثلَ ما أوحينا إلى نوح ومثلَ ما أوحينا إلى إبراهيمَ ومَنْ بعده وآتيناك الفرقانَ إيتاءً مثلَ ما آتينا داودَ زبوراً وأرسلناك إرسالاً مثلَ ما أرسلنا رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل رسلنا وآخرين لم نقصُصْهم عليك من غير تفاوت بيك وبينهم في حقيقة الإيحاءِ وأصلِ الإرسالِ فما للكفرة يسألونك شيئاً لم يُعطَه أحدٌ من هؤلاء الرسلِ عليهم السلام ومنْ ههُنا اتضحَ أنَّ رسلاً لا يمكن نصبُه بقصصنا فإن ناصبه أنْ يكونَ معطوفاً على أوحينا داخلاً معه في حكم التشبيه الذي عليه يدورُ فلَكُ الاحتجاجِ على الكفرة ولا ريب في أن قصصنا لا تعلُّقَ له بشيء من الإيحاء والإيتاءِ حتى يمكنَ اعتبارُه في ضمن
﴿وَكَلَّمَ الله موسى﴾ برفع الجلالةِ ونصبِ موسى وقرئ على القلب وقوله تعالى
﴿تَكْلِيماً﴾ مصدرٌ مؤكدٌ رافعٌ لاحتمال المجازِ قال الفراء العربُ تسمِّي ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصَل مالم يؤكَّدْ بالمصدر فإذا أُكّد به لم يكنْ إلا حقيقةُ الكلامِ والجملةُ إما معطوفةٌ على قولِه تعالى إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ عطفَ القصةِ على القصة لا على آتينا وما عطف عليه وإما حالٌ بتقدير قد كما ينبئ عنه تغييرُ الأسلوبِ بالالتفات والمعنى أن التكليمَ بغير واسطةٍ منتهى مراتبِ الوحي خُصَّ به موسى من بينهم فلم يكن ذلك قادحاً في نبوة سائرِ الانبياء علهم السلام فكيف يُتوَّهم كونُ نزول التوراة عليه عليه السلام جملةً قادحاً في صحة نبوةِ من أنزل عليه الكتابُ مفصلاً مع ظهور أن نزولُها كذلك لما آمنوا بها ومع ذلك ما آمنوا بها إلا بعد اللئيا والتي وقد فضل الله تعالى نبينا محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم بأن أعطاه مثلَ ما أعطى كلَّ واحدٍ منهم ﷺ تسليماً كثيراً
﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ﴾ أي مَعذرةٌ يعتذرون بها قائلين لَوْلا أرسلتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فيبينَ لنا شرائعَك ويعلمنا مالم نكن مالم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوةِ البشريةِ عن إدراك كلياتِها كما في قوله عز وجل وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فنتبع آياتك الآية وإنما سُمِّيت حجةً مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجةٌ في فعل من أفعاله بل له أن يفعلَ ما يشاءُ كما يشاءُ للتنبيه على أن المعذرةَ في القَبول عنده تعالى بمقتضى كرمِه ورحمتِه لعباده بمنزلة الحجةِ القاطعةِ التي لا مرد لها ولذلك قال تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً قال النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم ما أحدٌ أغيرُ مِنَ الله تعالى ولذلك حرَّم الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بطن وما أحدٌ أحبُّ إليه المدحُ من الله تعالى ولذلك مدح نفسَه وما أحدٌ أحبُّ إليه العذر من الله تعالى ولذلك أرسلَ الرسلَ وأنزلَ الكتُب فاللامُ متعلقةٌ بأرسلنا وقيل بقوله تعالى مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وحجةٌ اسمُ كان وللناس خبرُها وعلى الله متعلقٌ بمحذوفٍ وقعَ حالاً من حجة كائنةً على الله أو هو الخبرُ وللناس حالٌ على الوجه المذكور ويجوز أن يتعلق كلٌّ منهما بما تعلقَ به الآخرُ الذي هو الخبرُ ولا يجوز التعلقُ بحجة لأن المعمول المصدر لا يتقدم عليه وقوله تعالى
﴿بَعْدَ الرسل﴾ أي بعد إرسالِهم وتبليغِ الشرائعِ إلى الأمم على ألسنتهم متعلقٌ بحجة أو بمحذوف وقع صفة لها لأن الظروف يوصف بها الأحداثُ كما يُخبر بها عنها نحو القتالُ يومُ الجمعة
﴿وَكَانَ الله عَزِيزاً﴾ لا يغالَب في أمرٍ من أمورِه ومن قضيته الامتناعُ عن الإجابة إلى مسألة المتعنّتين
﴿حَكِيماً﴾ في جميع أفعالِه التي من جملتها إرسالُ الرسلِ وإنزالُ الكتبِ فإن تعدد الرسل والكتب واختلافها في كيفية النزولِ وتغايُرَها
﴿بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ﴾ على البناء للفاعل وقرئ على البناء للمفعولِ والباءُ صلةٌ للشهادة أي يشهد بحقية مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن القرآن المعجزِ الناطِقِ بنبوتك وقيل لمَّا نزل قوله تعالى إنا أوحينا إِلَيْكَ قالوا ما نشهد لك بهذا فنزل لكنِ الله يشهد
﴿أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ أي ملتبساً بعلمه الخاصِّ الذي لا يعلمه غيرُه وهو تأليفُه على نمط بديعٍ يَعجِز عنه كلُّ بليغٍ أو بعلمه بحال مَنْ أنزله عليه واستعدادِه لاقتباس الأنوارِ القدسية أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناسُ في معاشهم ومعادِهم فالجارُّ والمجرورُ على الأولَينِ حالٌ من الفاعل وعلى الثالث من المفعولِ والجملةُ في موقع التفسير لما قبلها وقرئ نزله وقوله تعالى
﴿والملائكة يشهدون﴾ أي بذلك مبتدأوخبر والجملة عطفٌ على ما قبلَها وقيل حالٌ من مفعول أنزله أي أنزله والملائكةُ يشهدون بصدقه وحقِّيتِه
﴿وكفى بالله شَهِيداً﴾ على صحة نُبوّتِك حيث نصَبَ لها معجزاتٍ باهرةً وحججاً ظاهرةً مغْنيةً عن الاستشهاد بغيرها
﴿وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ وهو دينُ الإسلام مَنْ أراد سلوكَه بقولهم ما نعرِف صفةَ محمدٍ في كتابنا وقرئ صُدُّوا مبنياً للمفعول
﴿قَدْ ضَلُّواْ﴾ بما فعلُوا منَ الكفرِ والصدِّ عن طريق الحق
﴿ضلالا بَعِيداً﴾ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلالِ ولأن المُضِل يكون أعرقَ في الضلال وأبعدَ من الإقلاع عنه
﴿وَظَلَمُواْ﴾ أي محمدا ﷺ بإنكار نبوّتِه وكتمانِ نعوتِه الجليلةِ ووضعِ غيرِها مكانَها أو الناسَ بصدهم عما فيه صلاحُهم في المعاش والمعاد
﴿لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ لاستحالة تعلّقِ المغفرةِ بالكافر
﴿وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طريقا﴾
﴿خالدين فِيهَا﴾ حالٌ مقدرةٌ من الضمير المنصوب والعاملُ فيها ما دل عليه الاستثناءُ دلالةً واضحةً كأنه قيل يُدخلهم جهنمَ خالدين فيها الخ وقوله تعالى
﴿أَبَدًا﴾ نصبٌ على الظرفية رافعٌ لاحتمال حملِ الخلودِ على المكث الطويل
﴿وَكَانَ ذلك﴾ أي جعلهم خالدين في جهنم
﴿عَلَى الله يَسِيراً﴾ لاستحالة أن يتعذّر عليه شيءٌ من مراداته تعالى
﴿قَدْ جَاءكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبّكُمْ﴾ تكريرٌ للشهادة وتقريرٌ لحقية المشهودِ به وتمهيدٌ لما يعقُبه من الأمر بالإيمان وإيرادُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بعنوان الرسالةِ لتأكيد وجوبِ طاعتِه والمرادُ بالحق هو القرآنُ الكريمُ والباء متعلقةٌ بجاءكم فهي للتعدية أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً من الرسول أي ملتبساً بالحق ومِنْ أيضاً متعلقةٌ إما بالعقل وإمَّا بمحذوفٍ هو حالٌ من الحق أي جاءكم به من عنده تعالى أو جاءكم بالحق ومِنْ أيضاً متعلقةٌ إما بالفعل وإمَّا بمحذوفٍ هو حالٌ من الحق أي جاءكم به من عنده تعالى أو جاءكم بالحق كائناً من عندِه تعالَى والتعّرضُ لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضمير المخاطَبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغِهم إلى كمالهم اللائقِ بهم ترغيباً لهم في الامتثال بما بعده من الأمر والفاء في قوله عز وجل
﴿فَآمِنُواْ﴾ للدِلالة على إيجاب ما قبلَها لما بعدَها أي فآمنوا به وبما ءجاء به من الحق وقولُه تعالى
﴿خَيْراً لَّكُمْ﴾ منصوبٌ على أنَّه مفعولٌ لفعل واجبِ الإضمار كما هو رأيُ الخليل وسيبويهِ أي اقصِدوا أو ائتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر أو على أنه نعتٌ لمصدر محذوف كما هو في رأي الفراء أي آمنوا إيماناً خيراً لكم أو على أنَّه خبرُ كان المضمرةِ الواقعةِ جواباً للأمر لاجزاء للشرط الصناعيّ وهو رأيُ الكسائي وأبي عبيدةَ أي يكنِ الإيمانُ خيراً لكم
﴿وَإِن تَكْفُرُواْ﴾ أي أن تُصِرُّوا وتستمروا على الكفر به
﴿فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السماوات والارض﴾ من الموجودات سواء كانت داخلةً في حقيقتهما وبذلك يُعلم حالُ أنفسِهما على أبلغِ وجهٍ وآكدِه أو خارجة عنهما متسقرة فيهما من العُقلاء وغيرِهم فيدخلُ في جملتهم المخاطَبون دخولاً أولياً أي كلُّها له عز وجل
﴿وَكَانَ الله عَلِيماً﴾ مُبالغاً في العلم فهو أعلم بأحوال الكلِّ فيدخُل في ذلك علمُه تعالى بكفرهم دخولاً أولياً
﴿حَكِيماً﴾ مراعياً للحِكمة في جميع أفعالِه التي من جملتها تعذيبُه تعالى إياهم بكفرهم
﴿لا تغلوا فى دينكم﴾ بالإفراط في رفع شأنِ عيسى عليه السلام وادعاءِ ألوهيتِه وأما غلوُّ اليهودِ في حط رتبتِه عليه السلام ورميِهم له بأنه وُلد لغير رَشْدةٍ فقد نعى عليهم ذلك فيما سبق
﴿وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق﴾ أي لا تصِفوه بما يستحيل اتصافُه به من الحلول والاتحادِ واتخاذِ الصاحبةِ والولدِ بل نزّهوه عن جميع ذلك
﴿إِنَّمَا المسيح﴾ قد مر تفسير في سورة آل عمران وقرئ بكسر الميم وتشديد السين كالسِّكّيت على صيغة المبالغة وهو مبتدأُ وقولُه تعالى
﴿عِيسَى﴾ بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ له وقولُه تعالى
﴿رَسُولِ الله﴾ خبرٌ للمبتدأ والجملةُ مستأنفةٌ مسوقةٌ لتعليل النهي عن القول الباطلِ المستلزِم للأمر بضده أعني الحقَّ أي إنه مقصورٌ على رتبة الرسالةِ لا يتخطاها
﴿وَكَلِمَتُهُ﴾ عطف على رسولُ الله أي مُكوَّن بكلمته وأمرِه الذي هو كنْ من غير واسطةِ أبٍ ولا نطفة
﴿ألقاها إلى مَرْيَمَ﴾ أي أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريلَ عليه السلام وقيل أعلمها إياها وأخبرَها بها بطريق البِشارةِ وذلك قولُه تعالى إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ اسمه المسيح عيس بن مَرْيَمَ وقيل الجملةُ حالٌ من ضميره عليه السلام المستكنِّ فيما دل عليه وكلمتُه من معنى المشتق الذي هو العاملُ فيها وقد مقدَّرة معها
﴿وَرُوحٌ مّنْهُ﴾ قيل هو الذي نفخ جبريلُ عليهِ السَّلامُ في دِرْع مريم فحملت بإذن الله تعالى سُمِّي النفخُ روحاً لأنه ريحٌ تخرج من الروح ومِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً لا تبعيضية كما زعمت النصارى يُحكى أن طبيباً حاذقاً نصرانياً للرشيد ناظر عليَّ بن حسين الواقدي المروزي ذاتَ يوم فقال له إن في كتابكم ما يدلُّ على إنَّ عيسَى عليهِ السَّلامُ جزءٌ منه تعالى وتلا هذه الآية فقرأ الواقديُّ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السموات وَمَا فى الأرض جَمِيعاً مّنْهُ فقال إذن يلزم أن يكونَ جميعُ تلك الأشياء جزءا من الله تعالى علواً كبيراً فانقطع النصرانيُّ فأسلم وفرِح الرشيدُ فرحاً شديداً ووصل الواقديَّ بصلة فاخرة وهي متعلقةٌ بمحذوف وقع صفة لروح أي كائنةٌ من جهته تعالى جعلت منه تعالى وإن كانت بنفخ جبريلَ عليه السلام لكون النفخِ بأمره سبحانه وقيل سُمِّي روحاً لإحيائه الأمواتَ وقيل لإحيائه القلوبَ كما سمي به القرآن
﴿فآمِنُوا باللهِ﴾ وخُصّوه بالألوهية
﴿وَرُسُلِهِ﴾ أجمعين وصِفوهم بالرسالة ولا تُخرجوا بعضَهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية
﴿وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة﴾ أي الألهةُ ثلاثةٌ الله والمسيحُ ومريم كما ينبئ عنه قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله ثلاثةٌ إن صح أنهم يقولون الله جوهر واحدٌ ثلاثةُ أقانيمَ أقنومُ الأب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس وأنهم يريدون بالأول الذات وقيل الوجود وبالثاني العلمَ وبالثالث الحياةَ
﴿انتهوا﴾ أي عن التثليث
﴿خَيْراً لَّكُمْ﴾ قد مر وجوهُ انتصابِه
﴿إِنَّمَا الله إله واحد﴾ أي بالذات مُنزَّه عن التعدد بوجهٍ من الوجوه فالله مبتدأوإله خبرُه وواحدٌ نعتٌ أي منفردٌ في ألوهيته
﴿سبحانه أن يكون له ولد﴾ أي أسبّحه تسبيحاً من ذلك فإنه إنما يُتصوَّر فيمن يماثله شيءٌ ويتطرق إليه فناء والله سبحانه منزه عن أمثاله وقرئ إنْ يكونُ أي سبحانه ما يكون له ولد وقوله تعالى
﴿لَّهُ مَا في السماوات وَمَا فِي الارض﴾ جملةٌ مستأنفةٌ مسوقةٌ لتعليل التنزيهِ وتقريرِه أي له مَا فِيهمَا مِنَ الموجوداتِ خلقاً وملكا وتصرفا لا يخرج عن ملكوته شيءٌ من الأشياء التي من جملتها عيسى عليه السلام فكيف يُتوَّهم كونُه ولداً له تعالى
﴿وكفى بالله وَكِيلاً﴾ إليه يكل كل الخلق مورهم وهو غني عن العالمين فأنى يُتصوَّر في حقه اتخاذُ الولدِ الذي هو شأن المعجزة المحتاجين في تدبير أمورِهم إلى من يَخلُفهم ويقوم مقامهم
﴿أن يكون عبدا لله﴾ أي أن يكون عبداً له تعالى مستمراً على عبادته وطاعتِه حسبما هو وظيفةُ العبودية كيف وإن ذلك أقصى مراتبِ الشرفِ والاقتصارُ على ذكر عدمِ استنكافِه عليه السلام عنه مع أن شأنه عليه السلام المباهاةُ به كما يدل عليه أحوالُه ويُفصِحُ عنه أقواله أو لا يُرى أن أولَ مقالةٍ قالها للناس قوله إِنّى عَبْدُ الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا لوقوعه في موقع الجوابِ عما قاله الكفرة روي إن وفد نجران قالوا لرسول الله ﷺ لِمَ تَعيبُ صاحبَنا قال ومن صاحبُكم قالوا عيسى قال وأيُّ شيء أقول قالوا تقول إنه عبدٌ الله قال إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله قالوا بلى فنزلت وهو السرُّ في جعل المستنكَفِ عنه كونَه عليه السلام عبداً له تعالى دون أن يقال عن عبادة الله ونحوُ ذلك مع إفادة فائدةٍ جليلةٍ هي كمالُ نزاهتِه عليه السلام عن الاستنكافِ بالكلية فإن كونَه عبداً له تعالى مستمرة لدوام العبادةِ قطعاً فعدمُ الاستنكافِ عنه مستلزِمٌ لعدم الاستنكافِ
﴿ولا الملائكة المقربون﴾ عطفٌ على المسيح أي ولا يستنكف الملائكةُ المقربون أن يكونوا عبيداً لله تعالى وقيل أن أريد بالملائكة كلُّ واحد منهم لم يُحتَجْ إلى التقدير واحتَجّ بالآية من زعم فضلَ الملائكةِ على الأنبياءِ عليهم السلامُ وقال مسافة لرد النصارى في رفع المسيحِ عن مقام العبوديةِ وذلك يقتضي أن يكون المعطوفُ أعلى درجةً من المعطوف عليه حتى يكون عدمُ استنكافِهم مستلزماً لعدم استنكافِه عليه السلام وأجيب بأن مناطَ كفرِ النصارى ورفعِهم له عليه السَّلامُ عن رتبة العبوديةِ لمّا كان اختصاصُه عليه السلام وامتيازُه عن سائر أفرادِ البشرِ بالولادة من غير أب وبالعلم من المغيبات وبالرفع إلى السماء عُطف على عدم استنكافِه عن عبوديته تعالى عدمُ استنكافِ مَنْ هو أعلى درجةً منه فيما ذكر فإن الملائكةَ مخلوقون من غير أبٍ ولا أمَ وعالمون بما لا يعلمه البشرُ من المغيبات ومَقارُّهم السمواتُ العلا ولا نزاعَ لأحد في علو درجتِهم من هذه الحيثيةِ وإنما النزاعُ في علوّها من حيث كثرةُ الثوابِ على الطاعات وبأن اآية ليست للرد على النصارى فقط بل على عبَدة الملائكةِ أيضاً فلا اتجاه لما قالوا حينئذ وإنْ سَلِم اختصاصُها بالرد على النصارى فلعله أُريد بالعطف المبالغةُ باعتبار التكثيرِ والتفصيلِ لا باعتبار التكبيرِ والتفضيلِ كما في قولك أصبح الأميرُ لا يخالفه رئيسٌ ولا مرءوس ولئن سُلّم إرادةُ التفضيلِ فغايةُ الأمرِ الدلالةُ على أفضلية المقربين منهم وهم الكروبيون الذين حول العرشِ أو من هو أعلى منهم رتبةً من الملائكةِ عليهمِ السَّلامُ على المسيح من الأنبياءِ عليهم السلام وليس يلزم من ذلك فضل أحدِ الجنسين على الآخر مطلقاً وهل التشاجرُ إلا فيه
﴿وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ أي عن طاعته فيشمل جميعَ الكفرةِ لعدم طاعتهم الثبوت للكفرة فإن عدم طاعتِهم له تعالى ممَّا لا سبيلَ لهم إن إنكار اتصافهم به إن قيل لم عبّر عن عدم طاعتِهم له تعالى بالاستنكاف عنها مع أن ذلك منهم كان بطريق إنكارِ كونِ الأمرِ منْ جهتِه تعالَى لا بطريق الاستنكافِ قلنا لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسول الله ﷺ وهل هو الإستنكاف عن طاعةِ الله تعالَى إذ لا أمرَ له عليه الصَّلاةُ والسلام سوى أمرِه تعالى مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله
﴿وَيَسْتَكْبِرْ﴾ الاستكبارُ الأنَفةُ عما لا ينبغي أن يُؤنَفَ عنه وأصلُه طلبُ الكِبْر لنفسه بغير استحقاقٍ له لا بمعنى طلب تحصيلِه مع اعتقاد عدمِ حصولِه فيه بل بمعنى عدِّ نفسِه كبيراً واعتقادِه كذلك وإنما عبَّر عنه بما يدلُّ على الطلب للإيذان بأن مآلَه محضُ الطلبِ بدون حصولِ المطلوب وقد عبر عن مثل ذلك بنفس الطلبِ في قولِه تعالَى يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا فإنهم ما كانوا يطلبون ثبوتَ العِوِجِ لسبيل الله مع اعتقادهم لاستقامتها بل كانوا يعدّونها ويعتقدونها مُعْوجّةً ويحكمون بذلك ولكن عبّر عن ذلك بالطلب لِما ذكر من الإشعار بأن ليس هناك شيءٌ سوى الطلبِ والاستكبارِ دون الاستنكافِ المنبئ عن توهم لحقوق العارِ والنقصِ من المستنكَفِ عنه
﴿فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً﴾ أي المستنكِفين ومقابليهم المدلولَ عليه بذكر عدمُ استنكافِ المسيحِ والملائكةِ عليهم السلام وقد تُرك ذكرُ أحدِ الفريقين في المفصل تعويلاً على إنباء التفصيل عنه وثقة
﴿فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ من غير أن ينقُص منها شيئاً أصلاً
﴿وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ﴾ بتضعيفها أضعافا مضاعفة وبإعطاء ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطَر على قلب بشر
٦ - ﴿وَأَمَّا الذين استنكفوا﴾ أي عن عبادته عز وجل
﴿واستكبروا فَيُعَذّبُهُمْ﴾ بسبب استنكافِهم واستكبارِهم
﴿عَذَاباً أَلِيماً﴾ لا يُحيط به الوصفُ
﴿وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وليا﴾ بلى أمورَهم ويدبّر مصالحَهم
﴿وَلاَ نصيرا﴾ بنصرهم من بأسه تعالى وينجِّيهم من عذابه
﴿قَدْ جَاءكُمُ﴾ أي وصل إليكم وتقرَّرَ في قلوبكم بحيث لا سبيلَ لكم إلى الإنكار
﴿بُرْهَانَ﴾ البرهانُ ما يُبرهَنُ به على المطلوب والمرادُ به القرآنُ الدالُّ على صحة نبوة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم المُثبِتُ لِما فيهِ من الأحكامِ التي من جُملتها ما أشير إليه مما أثبتته الآياتُ الكريمةُ من حقية الحقِّ وبُطلانِ الباطل ورُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عبَّر عنه به لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه وقيل هو المعجزاتُ التي أظهرها وقيل هو دينُ الحقِّ الذي أتى به وقوله تعالى
﴿مِنْ رَّبّكُمْ﴾ إما متعلق بجاءكم أو بمحذوف وقع صفةً مشرّفةً لبرهانٌ مؤكدة لما أفادَه التنوينُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافيةِ أي كائنٌ منه تعالى على أن مِنْ لابتداء الغايةِ مجازاً وقد جُوِّز على الثاني كونُها تبعيضيةً بحذف المضافِ أي كائنٌ من براهينِ ربِّكم والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لإظهار اللُّطفِ بهم والإيذانِ بأن مجيئَه إليهم لتربيتهم وتكميلِهم
﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً﴾ أريد به أيضاً القرآنُ الكريمُ عبّر عنه تارة بالبُرهان لما أشير إليه آنفا وأخرى بالنور المنير بنفسه المنوَّرِ لغيره إيذاناً
﴿واعتصموا بِهِ﴾ أي عصَموا به أنفسَهم مما يُرديها من زيغ الشيطان وغيره
﴿فسيدخلهم في رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ﴾ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي الجنةُ وما يتفضل عليهم مما لا عينٌ رأتْ ولا أذن سمعت ولا خطَر على قلب بشر وعبّر عن إفاضة الفضلِ بالإدخال على طريقةِ قوله علفتُها تِبْناً وماء باردا وتنوينُ رحمةً وفضلٍ تفخيميٌّ ومنه متعلقٌ بمحذوف وقع صفة مشرِّفة لرحمة
﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ﴾ أي إلى الله عزَّ وجلَّ وقيل إلى الموعود وقيل إلى عبادته
﴿صراطا مُّسْتَقِيماً﴾ هو الإسلامُ والطاعةُ في الدنيا وطريقُ الجنةِ في الآخرة وتقديمُ ذكرِ الوعد بإدخال الجنةِ على الوعد بالهداية إليها على خلاف الترتيبِ في الوجود بين الموعودَين للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي قبل انتصابُ صِراطاً على أنه مفعولٌ لفعل محذوف ينبئ عنه يهديهم أي يعرِفهم صراطاً مستقيماً
﴿قل الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة﴾ وقد مر تفسيرُها في مطلع السورةِ الكريمةِ والمستفتي جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه يروى
﴿إِن امرؤ هَلَكَ﴾ استئنافٌ مبينٌ للفُتيا وارتفع امرؤ أنه مفسِّرٌ للمحذوف غيرُ مقصودٍ في الكلام أي إن هلَك امرؤٌ غيرُ ذي ولد ذكراً كان أو أنثى واقتُصر على ذكر عدمِ الولدِ مع أن عدم الولد أيضاً معتبرٌ في الكلالة ثقةً بظهور الأمرِ ودَلالةِ تفصيل الورثةِ عليه وقوله تعالى
﴿وله أخت﴾ عطف على قوله تعالى لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ أو حالٌ والمرادُ بالأخت من ليست لأم فقط فإن فرضَها السدسُ وقد مر بيانُه في صدرِ السورةِ الكريمةِ
﴿فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ أي بالفرض والباقي للعصبة أولها بالردد إن لم يكن له عَصَبة
﴿وَهُوَ﴾ أي المرءُ المفروضُ
﴿يَرِثُهَا﴾ أي أختَه المفروضةَ إن فُرض هلاكُها مع بقائه
﴿إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ﴾ ذكراً كان أو أنثى فالمرادُ بإرثه لها إحرازُ جميعِ ما لها إذ هو المشروطُ بانتفاء الولدِ بالكلية لا إرثُه لها في الجملة فإنه يتحقق مع وجود بنتِها وليس في الآية ما يدل على سقوط الإخوةِ بغير الولدِ ولا على عدمِ سقوطِهم وإنما دلت على سقوطهم مع الأب السنة الشريفة
﴿فَإِن كَانَتَا اثنتين﴾ عطفٌ على الشرطية الأولى أي اثنتين فصاعداً
﴿فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ﴾ الضميرُ لمن يرث بالأخُوّة والتأنيثُ والتثنيةُ باعتبار المعنى قيل وفائدةُ الإخبارِ عنها باثنتين مع دَلالة ألفِ التثنية على الاثْنَيْنِيّة التنبيهُ عَلى أنَّ المعتبرَ في اختلاف الحُكْمِ هو العددُ دون الصِغَر والكِبَر وغيرِهما
﴿وَإِن كَانُواْ﴾ أي من يرث بطريق الأخُوّة
﴿إِخْوَةً﴾ أي مختلطة
﴿رّجَالاً وَنِسَاء﴾ بدلٌ من إخوةٍ والأصلُ وإن كانوا إخوةً وأخواتٍ فغلَبَ المذكرُ على المؤنث
﴿فَلِلذَّكَرِ﴾ أي فللذكر منهم
﴿مِثْلُ حَظِ الانثيين﴾ يقتسمون التركةَ على طريقة التعصيبِ وهذا آخر ما أُنزل من كتاب الله تعالى في الأحكام روي أن الصِّدِّيقِ رضي الله تعالى عنه قال في خطبته ألا إن الآيةَ التي أنزلَهَا الله تعالَى في سورة النساءِ في الفرائض فأولها الولد والوالد وثانيها في الزوج والزوجة والأخُوَّة من الأم والآيةُ التي خَتَم بها السورةَ في الأخوة والأخوات لأبوين أو لأب والآيةُ التي خَتَم بها سورةَ الأنفالِ أنزلها في أولي الأرحام
﴿يُبَيّنُ الله لَكُمْ﴾ أي حكمَ الكلالةِ أو أحكامَه وشرائعَه التي من جملتها حِكَمُها
﴿أَن تَضِلُّواْ﴾ أي كراهةَ أن تضلوا في ذلك وهذا رأيُ البصريين صرّح به المبرَّدُ وذهب الكسائيُّ والفراءُ وغيرُهما من الكوفيين إلى تقدير اللام في طرفي أن أي لئلا تَزُولاَ وقال أبو عبيد رويتُ للكسائي حديثَ ابنِ عُمر رضي الله تعالى عنهما وهو لا يدعُوَنّ أحدُكم على ولده أن يوافقَ من الله إجابةً أي لئلا يوافقَ فاستحسنه وليس ما ذُكر من الآيةِ والحديثِ نصاً فيما ذهب إليه الكسائي وأضرابُه فإن التقديرَ فيهما عند البصْريين كراهةَ أن تزولا وكراهةَ أن يوافِقَ الخ وقيل ليس هناك حذفٌ ولا تقديرٌ وإنما هو مفعولُ يبيِّن أي يُبين لكم ضلالَكم الذي هو من شأنكم إذا خُلِّيتم وطباعَكم لتحترزوا
﴿والله بِكُلّ شيءٍ﴾ من الأشياء التي من جملتها أحوالُكم المتعلقةُ بمحياكم ومماتِكم
﴿عَلِيمٌ﴾ مبالِغٌ في العلمِ فيبيِّنُ لكم ما فيه مصلحتُكم ومنفعتُكم عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ النساءِ فكأنما تصدّق على كل مؤمنٍ ومؤمنةٍ ورِث ميراثاً وأُعطي من الأجر كمن اشترى محررا وبرئ من الشرك وكان في مشيئة الله تعالى من الذين يُتجاوز عنهم والله أعلم
سورة المائدة مدنية وهي مائة وعشرون آية (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم)