تفسير سورة يوسف

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

تفسير سورة يوسف

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - قوله (١) عز وجل ﴿الر﴾ قال ابن عباس (٢): يريد أنا الله الرحمن. والكلام في الحروف المعجمة قد ذكرناه في مواضع (٣)، وهذه الحروف لا تعد آية كما تعد ﴿طه﴾؛ لأن آخرها لا يشاكل رؤوس الآي.
وقوله تعالى ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ قال صاحب النظم وأبو بكر بن الأنباري: [تلك بمعنى (هذه) كما كان (ذلك) (٤)] بمعنى: هذا في قوله تعالى ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ (٥) وقد فسرناه مستقصًى في موضعه، إلا أن ﴿ذَلِكَ﴾ مذكر؛ لأنه يومئ به إلى الكتاب، و (تلك) تأنيث ذلك؛ لأنه يومئ بها إلى الآيات.
وقال أبو بكر (٦): يجوز أن يكون (تلك) إشارة إلى ما ذكره عز وجل في
(١) في (ب) بزيادة (تعالى).
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٤.
(٣) ذكر ذلك باستفاضه في أول البقرة.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) أول البقرة. وقد ذكر هنالك ما ملخصه: أن (ذلك) يكون بمعنى (هذا) عند كثير من المفسرين، وذكر عن الفراء أن (ذلك) يجوز بمعنى (هذا) لما مضى، وقرب وقت تقضيه أو تقضي ذكره.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٤.
التوراة والإنجيل، وتلخيصه: هذه الأقاصيص التي تسمعونها ﴿تِلْكَ﴾ الآيات التي وصفت في التوراة، ﴿الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ على هذا هو التوراة، وهذا معنى قول أبي إسحاق (١).
قال أبو بكر (٢): ويجوز أن يكون (تلك) إشارة إلى ﴿الر﴾ وأخواتها بين حروف المعجم، أي: تلك الحروف المفتتحة بها السور هي آيات الكتاب المبين؛ لأن الكتاب بها يُتلى عليكم، وألفاظه إليها ترجع، و ﴿الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ القرآن المبين في قول ابن عباس، قال: والمبين الذي بُيّن فيه الحلال والحرام (٣)، وقال قتادة (٤): بَيّن فيه الهدى والرشد، فكان الكتاب (٥) مبيّنًا لهذه الأشياء.
٢ - قوله تعالى ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ قال أبو إسحاق (٦) وأبو بكر (٧): هذه الهاء تصلح لشيئين:
أحدهما: أن يكون الكتاب، ويجوز أن يكون ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ خبر يوسف وقصته.
قال أبو بكر: وذلك أن اليهود قالوا للمشركين سلوا محمدًا لم انتقل
(١) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٨٧.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٤.
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٣٠، وذكره ابن جرير وعزاه لمجاهد ١٢/ ١٤٩.
(٤) أخرجه عبد الرزاق عن قتادة بقوله "بين الله تعالى رشده وهداه" ٢/ ٣١٧، وأخرجه الطبري عنه أيضًا ١٢/ ١٤٩، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢٠٩٩ ب. وانظر: "الدر" ٤/ ٤، البغوي ٤/ ٢١١، و"زاد المسير" ٤/ ١٧٧.
(٥) في (ب): والرشد. والمبين من نعت الكتاب مبينًا.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٨٧. بتصرف.
(٧) "البحر المحيط" ٥/ ٢٧٧.
ولد يعقوب من الشام إلى مصر؟ وسلوه عن خبر يوسف وإخوته؟ فأنزل الله ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ (١) يعني أنزلنا (٢) خبر يوسف وإخوته الذي طالب اليهودُ بشرحه (٣).
﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ قال: ولا يجوز رجوع الهاء على القرآن المتأخر؛ لأن الكناية لا تصح إلا بسبق ظاهر يوضح تأويلها.
وقوله تعالى: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ ذكرنا معنى العربي والعرب والأعراب في قوله ﴿الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا﴾ (٤).
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ قال ابن عباس (٥): يريد كي تفهموا، قال مقاتل (٦): لو لم يكن عربيًا لما فهموا عنه.
٣ - قوله تعالى ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ الآية، قد ذكرنا معنى القص والقصص عند قوله ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ﴾ (٧) الآية، قال
(١) ذكر ذلك البغوي ٤/ ٤١٧، و"زاد المسير" ٤/ ١٧٧، والرازي ١٨/ ٨٣.
(٢) في (ب): ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾.
(٣) هذا القول رجحه النحاس كما في "معاني القرآن" ٣/ ٣٩٦، وضعفه ابن عطيه ٧/ ٤٣١.
(٤) التوبة: ٩٧. قال هنالك: وقال أهل العلم: إنما سمي العرب عربًا؛ لأن أولاد إسماعيل نشأوا بعربة، وهي من تهامة فنسبوا إلى بلدهم، وكل من سكن بلاد العرب وجزيرتها ونطق بلسان أهلها فهم منهم.. والأعرابي: إذا كان بدويًّا صاحب نجعه وانتواء.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٧٨، البغوي ٤/ ٢١١، القرطبي ٩/ ١١٨.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٥٠ ب.
(٧) آل عمران: ٦٢. وقال هناك: القصص مصدر قولهم: قص فلان الحديث يقصة قصًّا وقصصًا، وأصله اتباع الأثر، وقيل للقاص يقص لأتباعه خبرًا لعد خبرًا وسوقه الكلام سوقًا، فمعنى القصص الخبر الذي تتابع في المعاني. اهـ.
الزجاج (١): أي نبين لك أحسنَ البيان، لا إلى القصة، ولو قيل: أحسن القصص، بكسر القاف على جمع قصة، قلنا (٢) نحتاج أن نذكر لم قيل هذه القصة أحسن القصص؟.
وقوله تعالى ﴿بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ قال الأخفش (٣) والفراء (٤) والكسائي والزجاج (٥): أي بوحينا إليك هذا القرآن، كأنهم جعلوا (ما) (٦) مع الفعل بمنزلة المصدر.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتَ﴾ أي ما كنت من قبله، قال ابن عباس (٧): يريد من قبل أن يوحى إليك، ﴿لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ أي: إلا من الغافلين، كقوله ﴿وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [الشعراء: ١٨٦] ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ [البقرة: ١٩٨] قال ابن عباس (٨): يريد لا علم لك بحديث يعقوب، ولا حديث ولده، وقال الزجاج (٩): أي من الغافلين عن قصة يوسف وإخوته؛ لأنه - ﷺ - إنما علم ذلك بالوحي.
٤ - قوله تعالى ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ﴾ قال ابن الأنباري (١٠): (إذ) صلة لفعل مضمر معناه: اذكر إذ قال يوسف لأبيه، واختلفوا في التاء التي في
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٨.
(٢) في (ج): (كنا).
(٣) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٥٨٧، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٢٠.
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣١.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٨.
(٦) (ما) ساقطه من (ب).
(٧) "تنوير المقباس" ص ١٤٦، و"زاد المسير" ٤/ ١٧٩، والثعلبي ٧/ ٦٢ أ.
(٨) "تنوير المقباس" ص ١٤٦.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٨٨.
(١٠) "زاد المسير" ٤/ ١٨٠.
10
(أبت)، فزعم الزجاج (١) -وهو مذهب البصريين- أن التاء علامة التأنيث دخلت على الأب في باب النداء خاصة، لتكون بدلاً من ياء الإضافة، ولأن المذكر قد يدخل عليه علامة التأنيث، فيقال: رجل ربعة ونكحة وهزأة.
وقال الفراء (٢) وأصحابه: التاء في (يا أبت) ليست علامة التأنيث (٣) إنما هي هاء أصلاً أدخلوها للسكت، وهو قولهم: يا أباه، ثم سقطت الألف لدلالة فتحة الباء عليها، وانصرف عن الهاء إلى لفظ التاء؛ لكثرة الاستعمال تشبيهًا بتاء التأنيث، وكسرت تقديرًا أن بعدها ياء الإضافة، ولم يستعمل في غير النداء؛ لأن هاء السكت مع الألف لا تدخلان إلا في النداء، وذكرنا مثل هذا (٤) في الأم عند قوله ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾ (٥) في حكاية مذهب ابن الأنباري، وأما قول من قال: يا أبتاه، فإنه زاد الألف والهاء على التاء لما انتقلت عن لفظ الهاء، فأما قول الشاعر (٦):
تقولُ ابْنَتِي لمّا رأتْنِي شَاحِبًا كأنّك فينا يأ أباتَ (٧) غَرِيبُ
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٨.
(٢) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٢، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٢٠.
(٣) في (أ)، (ب): (التأنيث) من غير ألف.
(٤) في (ج): (إلا في الأم) بزيادة إلا.
(٥) النساء: ٢٣. وقد ذكر هناك نقلاً عن ابن الأنباري أن الأصل: أم، ثم يقال في النداء: يا أماه، فيدخلون هاء السكت. أهـ.
(٦) البيت لأبي الحدرجان كما في "نوادر أبي زيد" (٢٣٩) وفيه:
كأنك فينا يا أباه غريب
وبلا نسبة في "العين" ٤/ ٢٥٣، و"الخصائص" ١/ ٣٣٩، و"اللسان" (أبي) ١/ ١٦، و"الدر" ٤/ ٢٥٣، "الهمع" ٦/ ٣٤٢، وهو من الشعراء المجهولين.
(٧) في (أ)، (ب): (يا أباة).
11
ففيه وجهان:
أحدهما: أن أصله يا أباه فشبهت هاء الموقف بتاء التأنيث، والألف هي التي تزاد للنداء في: يا رباه ويا زيداه، والآخر: أن الألف هي لام الفعل من الأب التي تجدها في قولك: يا با عمرو، والتاء بدل من هاء الوقف، وهذا اختيار أبي علي (١)؛ لأنه قال: القول فيه أنه رد المحذوف من الأب، وزاد عليها التاء كما يزاد فيه إذا كان اللام ساقطًا. قال ابن الأنباري: ونظير قولهم: يا ابته، في إدخال الألف والهاء على تاء أصلها هاء السكت، قولهم: أهرقت الماء، حين أدخلوا ألف أفعلت على هاء مبدلة من (٢) ألف أفعلت لما كان لفظ الهاء يخالف، وساغ لهم باختلاف اللفظين أن يقدروا أن الهاء فاء الفعل.
ورد الكوفيون مذهب البصريين في هذا، وقالوا: لو كانت هذه التاء تاء تأنيث لدخلت في النداء وغيره، كما ثبتت هاء نكحة في جميع الأبواب، ولو كانت بدلاً من ياء الإضافة لاستُغْني بها عن الكسرة في التاء في (٣) يا أبت؛ لأنها نائبة عن كل ياء إضافة في قولهم: (يا غلام أقبل) و (يا رب اغفر لي)، فلما وجدنا الكسرة على التاء علمنا أنها هي الكافية من (٤) ياء الإضافة دون التاء، وكان دخول التاء لغير هذه العلة، وأما الهاء في: نكحة وهزأة، فلم يدخل للمعنى الذي ذهب إليه البصريون، لكنهم قصدوا بها قصد المبالغة في الوصف وشبهوا الموصوف بالداهية، فاستحق
(١) "الحجة" ٤/ ٣٩٥.
(٢) في (ب): (عن).
(٣) (في) ساقطة من (ج).
(٤) في (ب): (عن).
12
التأنيث لذلك، ولو كان الموصوف بما فيه الهاء مذمومًا، كان مشبهًا بالبهيمة يؤنث (١) نعته لمعناها، والاختيار في القراءة كسر التاء لأنها أجريت مجرى تاء التأنيث، وكسرت على الإضافة إلى نفس المتكلم على معني: يا أبتي، ثم حذف الياء؛ لأن ياء الإضافة تحذف في النداء.
فأما من فتح التاء (٢) فقال علي (٣): له وجهان، أحدهما: أن يكون كقولهم: (يا طلحة أقبل)، ووجه قول من قال: يا طلحة، أن هذا النحو من الأسماء التي فيها تاء التأنيث أكثر ما يدعى مُرخَّى (٤) فلما كان كذلك رد التاء المحذوفة في الترخيم إليه، وترك الأخرى تجري على ما كان يجري عليه في الترخيم من الفتح فلم يعتد بالهاء، كما أن من قال: اجتمعت اليمامة، وهو يريد أهل اليمامة، رد الأهل ولم يعتد به، وقال اجتمعت أهل اليمامة، فجعله على ما كان يكون عليه عند حذف الأهل، وعلى هذا ينشد (٥):
كِلِيني لهَمٍّ يا أمَيْمَةَ ناصبِ
(١) (يؤنث) ساقطة من (ج).
(٢) هي قراءة ابن عامر، انظر "السبعة" (٣٤٤)، و"الكشف" ٢/ ٣، و"إتحاف" ص ٢٦٢، و"الحجة" ٤/ ٣٩٠.
(٣) كذا والصحيح أبو علي، انظر كتاب: "الحجة" ٤/ ٣٩٠.
(٤) في "الحجة" ٤/ ٣٩٠، (مُرَخّمًا).
(٥) البيت للنابغة الذبياني وعجزه:
وليل أقاسيه بطئ الكواكب
وقوله (كليني): اتركيني، من وكلت الأمر إليه (ناصب): (متعب).
انظر: ديوانه: ٢٩، سيبويه، والشنتمري ١/ ٣١٥، و"الشعر والشعراء" ٢٢، و"الأزهية" ٢٤٦، و"الحجة" لابن خالويه ص ١٦٧، و"الدرر" ١/ ١٦٠، و"العيني" ٣/ ٣٠٣، و"معاني القرآن" ٢/ ٣٢، و"شرح المفصل" ٢/ ١٠٧، و"الخزانة" ١/ ٣٧٠، و"الدر المصون" ٦/ ٤٣٥.
13
بفتح التاء.
والوجه الآخر: أن هون اراد بـ يا ابتي، بالياء، ثم أبدل الياء بالألف، كما ذكرنا في قراءة من قرأ يا بني بفتح الياء (١)، فقال: يا أبتا، ثم حذف الألف كما تحذف الياء، فتبقى الفتحة دالة على الألف. كما أن الكسرة تبقى دالة على الياء، والدليل على قوة هذا الوجه كثيرة ما جاء من هذ الكلمة على هذا الوجه، كقوله (٢):
وهل جَزعٌ إن قُلتُ وابِأْبَاهُما
ولذلك قال رؤبة (٣):
وهي تُرَبِّي يابا وابْنَاهَا
وقال الأعشى (٤)
ويا أبَتَا لا تزلْ عِنْدنا فإنَّا نَخَافُ بأن تُخْتَرَم
وقال رؤبة (٥):
يا أبَتَا عَلَّك أو عَسَاكَا
(١) هذ قراءة حفص عن عاصم في جميع المواضع، وقراءة أبي بكر عن عاصم بالفتح في هود ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا﴾. انظر: "السبعة" (٣٣٣)، و"إتحاف" ص ٢٦٢.
(٢) البيت سبق تخريجه.
(٣) روايته في الديوان: (فهي ترثي باب..) وبعد: (إن تميمًا خلقت ملموما). انظر: ملحق "ديوانه" ص١٨٥ "المفصل" ٢/ ١٢، وبلا نسبة في "الإعراب" (٥١)، و"الإنصاف" ٤٠٣، و"مجاز القرآن" ٢/ ٧١، ٧٦.
(٤) "ديوانه" ص ٢٠٠، تخترم: يقال اخترمه الموت: أخذه. وانظر: "شرح التسهيل" ٣/ ٤٠٦، و"الدر المصون" ٦/ ٤٣٢.
(٥) سبق تخريجه.
14
وقال آخر (١):
يا أبتا ويا أبه... خَشَنْتَ إلا الرقبة
فلما كثرت هذه الكلمة في كلامهم هذه الكثرة ألزموها القلب والحذف، على أن أبا عثمان قَدّر (٢) هذا مطردًا في جميع هذا الباب، فأجازوا وضع الألف مكان الياء في الإضافة في النداء إجازة مطردة، فأجاز: يا زيدًا أقبل، إذا أردت الإضافة، وهذا الوجه الثاني في فتح التاء من (يا أبت) هو اختيار الزجاج (٣) وهو مذهب البصريين.
قال ابن الأنباري: وهذا غلط؛ لأن مبناه على لغة شاذة، وهو على لغة مَنْ يقول: قام غلاما، وهذا ثوبَا، يعني غلامي وثوبي، وكقراءة من قرأ: (وأقم الصلاة لذكرا) (٤) أي لذكري، ولا يحمل كتاب الله على هذه اللغة، والعلة في فتح التاء أنهم أرادوا: (يا أبتاه) فأسقطوا الألف والهاء، وأقروا ما قبلها على الفتح، اختصاصًا لما أكثروا استعمال (٥) الحرف، وهذا أيضًا قول قطرب، وأنكر البصريون هذا، قال الزجاج (يا أبتاه) للندبه، والندبة هاهنا لا معنى لها، وقال أبو عثمان: من قال: يا أبتاه، فهو نداء على جهة الندبة، فإذا حذفت الألف والهاء صار نداءً على غير جهة الندبة فلا يجوز فتح التاء، وذكر قطرب قولًا آخر في فتح التاء وهو أنه قال: أراد يا أبةً، ثم حذف التنوين كما قال الطرماح:
(١) الرجز لجارية من العرب تخاطب أباها، و"جمهرة اللغة" ١/ ١٧٦، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٢٧، و"اللسان" ١/ ٥٣٣.
(٢) في "الحجة" ٤/ ٣٩٢ (قد رأى أن ذلك مطردًا).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٩.
(٤) طه: ١٤.
(٥) في (ب): (الاستعمال).
15
يَا دَارَ أقْوَتْ بعد أحْرَامِها
على إرادة التنوين.
قال أبو إسحاق (١): وهذا الذي قاله قطرب خطأ؛ لأن التنوين لا يحذف من المنادى المنصوب؛ لأن النصب إعراب المنادى فلا يكون معربًا منصرفًا غير منون في حال النصب، وأما قوله: (يا دار أقوت) بفتح الراء فلم يروه أحد من أصحابنا بالفتح، ولا أعرف له وجهًا، وأنشده الخليل وسيبويه وجميع البصريين بضم الراء، والقول في فتح التاء قول البصريين أن الألف بدل من الياء التي هي للإضافة ثم حذفت وبقيت الفتحة، يدل عليه من يحذف الياء ويجتزئ بالكسرة، وإنكار ابن الأنباري عليهم بأنها لغة شاذة لا يلزم؛ لأنهم أجازوا هذا الإبدال في النداء وهو غير شاذ، وإنما يكون شاذًا في غير النداء، كما ذكر من قولهم: قام غلامًا، وهذا ثوبًا، وأجاز الفراء (٢): يا أبتُ، بضم التاء على أنها آخر المنادى المفرد، من قبل أنهم لم يلحقوها ياء الإضافة (٣) ألا وهي عندهم كالدال من زيد، وأبطل البصريون ضم التاء، قالوا: هي بدل من ياء الإضافة، والمنادى المضاف غير مستحق للرفع، واحتج الكوفيون عليهم بأنها لو كانت بدلاً من ياء الإضافة لما كسرت كما بينا.
قال ابن الأنباري: وقراءة من قرأ بالفتح يدل على جواز الرفع؛ لأن الألف والهاء سبيلهما أن يدخلا على آخر حروف الاسم المستحق للرفع، وكان ابن كثير (٤) يقرأ: يا أبتِ، بكسر التاء، فإذا وقف وقف بالهاء؛ لأن
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٩.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٣٢.
(٣) في (ب): (بالإضافة).
(٤) انظر: "السبعة" (٣٤٤)، و"إتحاف" ٢/ ٢٦٢، و"الحجة" ٤/ ٣٩٠.
16
تاء التأنيث يبدل منها الهاء في الوقف، فيغير الحرف في الوقف بذلك كما غير التنوين في حال النصب بالألف، وتغييرات الوقف كثيرة، ولا يلزم اعتبار الإضافة في قراءته لأنه في الوصل بكسر التاء، وذلك أنه إذا وقف عليها سُكنت للوقف، فإذا سكنت كانت بمنزلة ما لا يراد فيه الإضافة، فيساوي ما يراد به الإضافة ما لا يراد في الوقف.
وأما ابن عامر (١) فإنه يفتح التاء في الوصل ويقف بالهاء، فإن قلنا: إنه فتح التاء كنحو قولهم: يا طلحة ويا أميمة، فإنه أبدل التاء هاء في الوقف كما تبدل من سائر تاءات التأنيث، وإن قلنا: إنه أراد: يا أبتا، فحذف الألف في النداء كما يحذف التاء، فوقفه بالهاء كوقف ابن كثير بالهاء، والباقون يقفون بالتاء وهم يكسرون، وذلك أن من كسر التاء كان الاسم في تقدير الإضافة، والمضاف إليه على حرف واحد وقد حذف وتركت الحركة تدل عليه، والحركة لا تكون إلا في تقدير الانفصال من المتحرك على أنه قد حكي أن قومًا يقفون على التاء في الوقف ولا يبدلون منها الهاء. وأنشد أبو الحسن (٢):
بل جَوْزِ تَيْهَاء كظَهْرِ الحَجَفَتْ
وهذا مما قد مرّ.
(١) انظر: "السبعة" (٣٤٤)، و"إتحاف" ٢/ ٢٦٢، و"الحجة" ٤/ ٣٩٠.
(٢) ورد البيت منسوبًا إلى سُؤر الذئب كما في "اللسان"، والحجفة: الترس يصنع من جلد الإبل، وقوله (بل جوز تيهاء)، يريد: رب جوز تيهاء.
انظر: "الخصائص" ١/ ٣٠٤، ٢/ ٩٨، و"المحتسب" ٢/ ٩٢، و"المخصص" ٩/ ٧ - ١٦، ٨٤ - ٩٦، و"اللسان" (حجف، بلل) ٢/ ٧٨٧، و"سر صناعة الإعراب" ١/ ١٧٧، و"شرح المفصل لابن يعيش" ٢/ ١٨١.
17
قوله تعالى ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ الآية.
قال وهب (١) والمفسرون (٢): رأى يوسف وهو ابن اثنتي عشرة سنة أن أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر سجدن له.
قال ابن عباس (٣) وقتادة (٤) ومحمد بن إسحاق (٥) والمفسرون (٦): هم إخوته وأبواه.
وقال ابن جريج (٧): الكواكب إخوته، والشمس أمه راحيل، والقمر أبوه.
وقال مقاتل (٨): الشمس أبوه والقمر أمه.
وقال السدي (٩): الشمس أبوه والقمر خالته، وذلك أن أمه كانت قد ماتت.
وقوله تعالى: ﴿رَأَيْتُهُمْ﴾ قال ابن الأنباري: لما تطاول الكلام بين الرؤية والسجود أعيدت الرؤية مع السجود؛ ليكون ذلك أكشف للمعنى وأدل على التوكيد والبيان.
(١) الثعلبي ٧/ ٦٣ ب، الرازي ١٨/ ٨٧.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٨٠.
(٣) انظر: الطبري ١٢/ ١٥٢، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٤/ ٦، والثعلبي ٧/ ٦٣ ب.
(٤) الطبري ١٢/ ١٥٢، وتفسير عبد الرزاق ٢/ ١٢٣، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٤/ ٦.
(٥) انظر: ابن كثير ٢/ ٥١٣، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٠.
(٦) الطبري: ١٢/ ١٥٢.
(٧) الطبري: ١٢/ ١٥٢، ولم يذكر اسمه أمه.
(٨) "تفسير مقاتل" ١٥٠ ب.
(٩) البغوي ٤/ ٢١٣، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٠، الثعلبي ٧/ ٦٣ ب.
18
وهذا معنى قول (١) الفراء (٢) والزجاج (٣).
وذكر صاحب النظم أنه يجوز أن يكون أحدهما من الرؤية والآخر من الرؤيا، وقوله ﴿رَأَيْتُهُمْ﴾ وهي مما لا يَفْهم ولا يُفهم وحسن ذلك؛ لأنه لما وصفها بالسجود صارت كأنها تعقل، فأخبر عنها كما يخبر عمن يعقل كما قال في صفة الأصنام ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨] وقد مر، وكذلك قوله ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل: ١٨]، وهذا معنى قول الفراء (٤) والزجاج (٥).
وقيل في معنى سجودهم له قولان، أحدهما (٦): أنه السجود المعروف على الحقيقة تكرمة له لا عبادة كسجود الملائكة لآدم، الثاني (٧): أن السجود هاهنا بمعنى الخضوع كقوله (٨):
(١) قل ساقطة من (أ)، (ب)، (ج).
(٢) لم أجده في مظانه، وانظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٢٣، و"التبيان" للعكبري ص ٤٦٥، و"البحر المحيط" ٥/ ٢٨٠.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩١.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٣٥.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩١.
(٦) قال به ابن زيد كما في الطبري ١٢/ ١٥٢، وابن الأنباري كما في "زاد المسير" ٤/ ٢٩٠، وبه قال الطبري ١٢/ ١٥٢.
(٧) انظر البغوي ٤/ ٢٨٠.
(٨) عجز بيت لزيد الخيل وصدره:
بجمل تضل البلق في حجراته
انظر: "الكامل" ١/ ٣٥٨، و"الأغاني" ١٦/ ٥٢، و"مجمع البيان" ١/ ١٤١، الطبري ١/ ٣٠٠، ١/ ٣٦٥ وغير منسوب في "تأويل مشكل القرآن" ص ٤١٧، و"الصناعتين" ٢٩٥، و"البحر المحيط" ١/ ٥١. ومعناه: تضل البلق في حجراته: لكثرته لا يرى فيه الأبلق، والأبلق مشهور المنظر لاختلاف لونه، وحجراته: نواحيه، وقوله: (ترى الأكم منه سجدًا للحوافر) لكثرة الجيش تطحن الأكم حتى تلصقها بالأرض.
19
تَرَى الأكْمَ مِنْهُ سُجَّدًا للحَوَافِرِ (١)
قال ابن عباس (٢): إن ذلك الزمان كان سجود بعضهم لبعض، وقال في رواية الكلبي (٣): رأى يوسف هذه الرؤيا ليلة الجمعة وكانت ليلة القدر، فلما قصَّها على يعقوب أشفق عليه من حسد إخوته له، فقال له: يا بني لا تقصص.
٥ - وهو قوله: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ﴾ الآية.
قال العلماء وأصحاب الآثار (٤): أشفق يعقوب على يوسف حسد إخوته بهذه الرؤيا؛ لأن يوسف كان نبيًا في علم الله مذ كان، ورؤيا الأنبياء وحي لا يبطل منها شيء.
قال ابن عباس (٥): رؤيا الأنبياء وحي، وعَلِمَ يعقوب أن إخوة يوسف يعرفون تأويلها ويشفقون من علو يوسف عليهم على صغر سنه وتقدم أمرهم أمره، وسبقهم من العلم إلى ما تأخر عنه، بهذا جاءت الآثار.
وقوله تعالى ﴿رُؤْيَاكَ﴾ الرؤيا (٦) مصدر كالبُشْرى والسُقيا والتقى والشورى، إلا أنه لما صار اسمًا لهذا المتُخيل في المنام جرى مجرى
(١) في (ب): (حوافر).
(٢) ذكر نحوه عند قوله تعالى ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ آية: ١٠٠. انظر: "زاد المسير" ٤/ ٢٩٠، القرطبي: ٩/ ٢٦٥.
(٣) البغوي: ٤/ ٢١٣، ابن عطية: ٧/ ٤٣٦.
(٤) الطبري ١٢/ ١٥٢، "زاد المسير" ٤/ ١٨٥، البغوي ٤/ ٢١٣، القرطبي ٩/ ١٢٢، الثعلبي ٧/ ٦٣ ب، ابن عطية: ٧/ ٤٣٧، ابن كثير ٣/ ٥١٢ - ٥١٤.
(٥) الطبري ١٢/ ١٥١، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٠١ أ، وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه كما في "الدر" ٤/ ٦، والبغوي ٤/ ٢١٣.
(٦) حديثه عن الرؤيا واشتقاقها منقول عن الفراء والزجاج والفارسي كما سيأتي.
20
الأسماء، وخرج من حكم الأعمال فلا يعمل واحدٌ منها أعمال المصادر، ومما يقوي خروجه عن أحكام المصادر تكسيرهم لها (رؤى) فصار بمنزلة ظلم، والمصادر في أكثر الأمر لا تكسر.
وفي الرؤيا أربع لغات: تحقيق الهمز، وتحقيقها بقلبها واوًا من غير إدغامها في التاء وإن كانت ساكنة؛ لأنها في تقدير الهمز فهي ليست بواو، وإذا لم يلزم لم يقع الاعتداد بها فلم يدغم، ومن ثم جاء صنو وشي في تخفيف وشي، وبقي الاسم على حرفين أحدهما حرف لين، وجاز تحرك حرف اللين وتصحيحه مع انفتاح ما قبله؛ لأن الهمزة (١) في تقدير الثبات، وقد أدغم قوم فقالوا: ريًا؛ لأنه لما ترك الهمز سكنت الواو وبعدها ياء فتحولتا ياءً مشددة كما يقال: لويته ليًّا، وكويته كيًا، والأصل كويًا ولويا، وكسروا الفاء كما كسروا من قولهم: قرن ألوى وقرون لي، وإن أشرت إلى الضمة فقلت (رُيًا) فرفعت الراء جاز، وتكون هذه الضمة مثلها في قوله: و (حيل) و (سيق).
وأنشد الفراء (٢):
(١) في (ب): (الهمز)
(٢) قال الفراء: أنشدني أبو الجراح.
و (العرض) الوادي فيه شجر، و (الغين) جمع الغيناء وهي الخضراء من الشجر، وهو بدل من (أفنانه)، و (يصرف): يصوت، وفي "اللسان" (رنه) ولا شاهد فيه. "اللسان" (عرض) ٥/ ٢٨٨٨، (غين) ٦/ ٣٣٣١ (رأى) ٣/ ١٥٤١، و"معاني القرآن" ٢/ ٣٥، و"الزاهر" ٢/ ٢٠٥، و"ديوان الأب" ١/ ١٢٢، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٢٣ مادة (رأى)، ٣/ ٢٧٠٩ مادة (غين)، و"تاج العروس" ١٣/ ٣٨١، و"معجم البلدات" ٤/ ١٠٢ (العرض).
21
لَعِرْضٌ (١) من الأعْراضِ تَمْشِي حَمَامُه ويُضَحِي على أفْنَانِه الغِينِ يَهْتِفُ
أحبُّ إلى قَلْبِي مِنَ الدِّيَك رَنَّة وبابٍ إذا ما مَالَ للغَلْقِ يَصرِفُ
قال أراد: رؤية، فلما ترك الهمز أدغم على ما ذكرنا، وكل ما ذكرنا في الرؤيا (٢) من كلام الفراء (٣) والزجاج (٤) وأبي علي (٥).
وقوله تعالى: ﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ أي: فيحتالوا في هلاكك؛ لأنهم يعلمون تأويلها فيحسدوك (٦)، واللام في قوله ﴿لَكَ﴾ تأكيد للصلة، كقوله ﴿لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ وقيل هي من صلة الكيد، على معنى: فيكيدوا كيدًا لك.
قال أهل المعاني (٧): وهذا يدل على أنه قد كان لهم علم بالرؤيا وتعبيرها، وأن يعقوب قد علم منهم حسدًا له وبغضًا، فخافهم عليه.
٦ - كذلك قوله ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾. قال أبو إسحاق (٨): موضع الكاف في (كذلك) النصب، المعنى: ومثل ما رأيت يجتبيك ربك، وعلى
(١) في (ب) زيادة هن فيكون: (لغيرهن). وفي "معاني القرآن" ٢/ ٣٥: (لعرض من الأعراض).
(٢) (في الرؤيا) ساقطة من (ب).
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٥.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٩٢.
(٥) "الحجة" لأبي علي الفارسي ٤/ ٣٩٨، وأغلب النقل السابق عنه.
(٦) هذه عبارة الثعلبي ٧/ ٦٣ ب، و"مشكل القرآن وغريبه" ص ٢١٦، والقرطبي ٩/ ١٢٢، والطبري ١٢/ ١٥٢.
(٧) البغوي ٤/ ٢١٣.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٩١.
22
هذا قال ابن الأنباري (١): (ذلك) إشارة إلى قول يوسف: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ فقال له يعقوب: ومثل ذلك التفضيل وتلك الرفعة والحال الجليلة (٢) التي شاهدتها في رؤياك يجتبيك ربك، فموضع الكاف نصب بيجتبي [وموضع ذلك خفض بالكاف الزائدة، والمعنى: وكما أراك الله من هذه الرؤيا يجتبيك] (٣).
[وقال الفراء (٤): ﴿وَكَذَلِكَ﴾ جواب لقوله ﴿إِنِّي رَأَيْتُ﴾ فقيل له: وهكذا يجتبيك ربك، كذلك وهكذا سواء في المعنى.
قال أبو بكر: وعلى هذا (كذلك) حرف واحد معناها هكذا، وموضعه نصب بيجتبيي] (٥).
قال الفراء (٦): ومثله في الكلام أن يقول الرجل: قد فعلت اليوم كذا وكذا من الخير، فيقول له القائل: هكذا السعادة والتوفيق، وكذلك السعادة والتوفيق، فيسوي بينهما، وقد ذكرنا قبل هذا أن (كذلك) تحقيق لما مضى من الكلام، ضد كَلّا.
وقوله تعالى ﴿يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ قال ابن عباس (٧) والمفسرون (٨) وأهل
(١) "زاد المسير" ٤/ ١٨١.
(٢) في (أ)، (ب): (الجلية).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج).
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٦.
(٥) ما بين المعقوفين مكرر في (أ)، (ج).
(٦) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣٦.
(٧) نقله عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٤/ ١٨١، وابن جرير وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٤/ ٧.
(٨) وهو قول عكرمة وقتادة كما في الطبري ١٢/ ١٥٣، وعزاه ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٠٣ أ، لقتادة، وانظر "الدر" ٤/ ٧.
23
اللغة (١): يختارك ويصطفيك.
قال الزجاج (٢): وهو مشتق من: جبيت الشيء، إذا خلصته لنفسك، ومنه: جبيت الماء في الحوض.
وقوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ قال ابن عباس (٣) ومجاهد (٤) وقتادة (٥): يريد تعبير الأحلام، وعبارة الرؤيا.
قال ابن زيد (٦): وكان أعبر الناس للرؤيا، فعلى هذا معنى التأويل: المنتهى الذي يؤول إليه المعنى في الرؤيا، والأحاديث هي أحاديث الناس عما يرونه في منامهم، قال الزجاج (٧): وغير ذلك.
وقيل (٨): يعلمك تأويل أحاديث الأنبياء والأمم، يعني الكتب والأحاديث في آيات الله ودلائله على توحيده، وغير ذلك من أمور دينه.
وقوله تعالى: ﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ قال ابن عباس (٩): يريد بالنبوة، ﴿وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ﴾. قال المفسرون (١٠): يعني وعلى النبيين من آل يعقوب،
(١) قال به أبو عبيدة كما في "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٢٥، والفراء كما في "معاني القرآن" ٢/ ٣٦.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٩١.
(٣) "تنوير المقباس" ١٤٦، و"زاد المسير" ٤/ ١٨١.
(٤) الطبري ١٢/ ١٥٣، وأخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٠٣ أ، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٤/ ٧، و"زاد المسير" ٤/ ١٨١، وابن عطية ٧/ ٤٣٨.
(٥) الطبري ١٢/ ١٥٣، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٠٣ أ.
(٦) الطبري ١٢/ ١٥٣، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٠٣ ب، وانظر: "الدر" ٤/ ٧.
(٧) "معاني القرآن" ٣/ ٩٢.
(٨) "زاد المسير" ٤/ ١٨١، القرطبي ٩/ ١٢٩.
(٩) "زاد المسير" ٤/ ١٨١، القرطبي ٩/ ١٢٩، البغوي ٤/ ٢١٤، ابن عطية ٧/ ٤٣٨.
(١٠) البغوي ٤/ ٢١٤، ابن عطية ٧/ ٤٣٨.
24
بمعنى (١) الخصوص، وإن كان الظاهر ظاهر عموم، كما قال النبي - ﷺ -: "اللهم (٢) اجعل رزق آل محمد قوتًا" (٣) يريد البعض، فعلى هذا المعنى: ويتم نعمته عليك وعلى المختصين من آل يعقوب بالنبوة، [كما أتمها بالنبوة] (٤)، على أبويك.
وقال أبو إسحاق (٥): فسر يعقوب الرؤيا ليوسف بهذه الآية، وذلك أنه لما قال له: ﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا﴾ الآية، تأول الأحد عشر كوكبًا: أحد عشر نفسًا لهم فضل وأنهم يستضاء بهم؛ لأنه لا شيء أضوأ من الكواكب وبها يُهْتدى، فتأويل الكواكب إخوته، وتأويل الشمس والقمر أبواه، تأول له أن يكون نبيًّا، وأن إخوته يكونون أنبياء؛ لأنه أعلمه أن الله جلَّ وعلا يتم نعمته عليه وعلى إخوته، كما أتمها على إبراهيم وإسحاق، فإتمام النعمة عليهم أن يكونوا أنبياء، وعلى هذه الأقوال إتمام النعمة بالنبوة، ﴿آلِ يَعْقُوبَ﴾ الأنبياء منهم أو بنوه.
وقال ابن عباس في رواية الكلبي: ويتم نعمته عليك بتوحيده وعبادته، كما أتمها على أبويك بتوحيد الله وعبادته وإيثار طاعته، وقال مقاتل بن
(١) في (ج): (يعني).
(٢) اللهم: ساقطة من (ب).
(٣) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة (٦٤٦٥)، كتاب: الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي - ﷺ - وأصحابه وتخليهم من الدنيا، ومسلم كتاب: الزكاة، باب في الكفاف والقناعة (١٠٥٥) كما في مختصر المنذري ص ٥٥١، كتاب الزهد والرقاق تحقيق الألباني، وأحمد ١٩/ ٢٤، برقم (٩٧٥٢)، و٢٠/ ٢٨ برقم (١٠٢٤٢) تحقيق أحمد شاكر، والترمذي برقم (٢٣٦١) أبواب الزهد، باب: ما جاء في معيشة النبي - ﷺ - وأهله، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ب).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج: ٣/ ٩٢. بتصرف.
25
سليمان (١): ويتم نعمته عليك بإعلانك وتحقيق رؤياك كما أتم النعمة على أبيك إبراهيم، بإنجائه من النار، وعلى أبيك إسحاق بالسلامة من الذبح، والفداء، ونحو هذا قال عكرمة (٢). وقال الكلبي (٣): كما أتمها على أبويك بأن ثبتهما على الإسلام حتى ماتا عليه، وعلى هذا المراد بآل يعقوب، قال أبو بكر: يعني أهل دينه فوقع الآل على أهل الدين كقوله تعالى: ﴿أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر: ٤٦] يعني أهل دين فرعون، قال قتادة (٤) في هذه الآية: كل ذلك فعل الله به، اجتباه، واصطفاه، وعلمه من تأويل الأحاديث، وأتم النعمة عليه.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ﴾ يريد حيث يضع النبوة. قاله عطاء عن ابن عباس (٥)، ﴿حَكِيمٌ﴾ في خلقه.
٧ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ﴾ قال المفسرون (٦): يعني في خبر يوسف وإخوته وقصتهم، ﴿آيَاتٌ﴾ أي عبر وعزائم (٧)، وقرأ ابن كثير (٨) ﴿ءَايَةٌ﴾ كأنه (٩) جعل شأنهم كله آية، ويقوي هذا ما روي أن في مصحف أبي (عبرة) (١٠).
(١) "تفسير مقاتل" ١٥٠ ب.
(٢) الطبري ١٢/ ١٥٤، والثعلبي ٧/ ٦٤ أ، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٢.
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٤٧.
(٤) الطبري ١٢/ ١٥٤.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٨٢.
(٦) الثعلبي ٧/ ٦٤ أ، والبغوي ٤/ ٤١٦، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٢.
(٧) في (ج): (وعجائب)، الطبري ١٢/ ١٥٤، الثعلبي ٧/ ٦٤ أ.
(٨) قرأ ابن كثير بالإفراد ووافقه ابن محيصن، والباقون بالجمع، انظر: "السبعة" ٣٤٤، و"إتحاف" ص ٢٦٢، و"الحجة" ٤/ ٣٩٦.
(٩) في (ب): (كان).
(١٠) "البحر المحيط" ٥/ ٢٨٢.
26
قال أبو إسحاق (١): المعنى أنه بصيرة للذين سألوا النبي - ﷺ -، فأنبأهم بقصة يوسف وهو عنها غافل، لم يقرأ كتابًا، وقال ابن الأنباري وأبو علي (٢): ويجوز أن يكون المفرد المنكور بالإيجاب يقع دالًّا على الكثرة، كما يكون ذلك في غير الإيجاب.
وقوله تعالى: ﴿لِلسَّائِلِينَ﴾ قال المفسرون (٣): سألت اليهود رسول الله - ﷺ - عن قصة يوسف فأخبرهم بها كما في التوراة فعجبوا منه، وقالوا: من أين لك هذا يا محمد؟. فقال: علمنيه ربي، فمعنى قوله ﴿لِلسَّائِلِينَ﴾ أي عن خبر يوسف وإخوته.
وقال الكلبي عن ابن عباس (٤): ﴿لِلسَّائِلِينَ﴾ لكل من سأل عن خبر يوسف وإخوته ليعلم علمه.
قال ابن الأنباري: معنى قوله ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ﴾ إلى آخر الآية، أن قوماً سألوا النبي - ﷺ - عن هذه القصة مُعنتًا ممتحنًا، فكأن الذي ورد من جوابه يضطر عقول أهل التمييز إلى الانقياد لتصديقه؛ لأنه شرح أخبار قوم لم يشاهدهم، ولم ينظر في الكتب إذ هو معروف بالأمية، وكان في هذا أعجب آية وأوضح دلالة للسائلين وغيرهم على صدق النبي - ﷺ -، وخص السائلين بكون الآيات لهم اكتفاء منهم بغيرهم؛ لأنه إذا كان لهم آية، كان
(١) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٩٢.
(٢) "الحجة" ٤/ ٣٩٧.
(٣) هذه عبارة الثعلبي ٧/ ٦٤ أ، والبغوي ٤/ ٤١٧، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٢. وأخرجه البيهقي في الدلائل ٦/ ٢٧٦ من طريق الكلبي عن أبي صالح عن عبد الله بن عباس بنحوه.
(٤) مروي عن قتادة والضحاك كما في "الدر" ٤/ ٧، وانظر: "زاد المسير" ٤/ ١٨٢، القرطبي ٩/ ١٢٩.
27
غيرهم أيضًا يعتبر به اعتبارهم؛ لأنهم (١) وإن لم يسألوا فإن سؤال غيرهم نتج لهم الأعجوبة، وكشف المعنى لهم (٢).
٨ - قوله تعالى ﴿إِذْ قَالُوا﴾ يعني: إخوة يوسف ﴿لَيُوسُفُ﴾ هذه لام التأكيد، وهي التي يتلقى بها القسم هاهنا، ﴿وَأَخُوهُ﴾ قال ابن عباس (٣): ولد راحيل وهي خالتهم ﴿أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ قال الفراء (٤): العصبة عشرة فما زاد.
وقال أهل اللغة (٥): العصبة من العشرة إلى الأربعين، وقال المبرد (٦): العصبة الجماعة، وتعصب القوم: إذا اجتمعوا على هيئة يشد بعضهم بعضًا، ومنه العصبة في النسب، وهم الذين يجمعهم التعصب، فمعنى العصبة: جماعة متعاونة.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ قال أبو بكر بن الأنباري (٧): أي ضل بإيثاره يوسف وأخاه علينا (٨) ضلالا خطأ يلحقه ضرره (٩) في دنياه، إذ الذي آثره علينا عناؤنا يزيد على عنائه، ذهب إلى هذا الجواب
(١) في (أ)، (ب): (لأنه).
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٨٢.
(٣) انظر: الطبري ١٢/ ١٥٤، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٣.
(٤) "معاني القرآن" ٢٩/ ٣٦.
(٥) قال به أبو عبيد. انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٥٤ (عصب)، وابن قتيبة انظر: "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢١٦.
(٦) انظر: القرطبي ٩/ ١٣٠.
(٧) "زاد المسير" ٤/ ١٨٣.
(٨) هذه عبارة الثعلبي في ٧/ ٦٤ ب.
(٩) في (أ)، (ب): (ضروره).
الكلبي (١) وغيره من المفسرين (٢)، وقال مقاتل بن سليمان (٣): الضلال هاهنا يعني الشقاء، وتلخيصه: إن أبانا لفي شقاء واضح، واحتج بقوله عز وجل ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: ٤٧] يعني في شقاء، قال أبو بكر: فكان مقاتل ذهب إلى أن الضلال عني به شقاء الدنيا؛ لأنه لما آثر ولدين صغيرين على عشرة ذوي أسنان عالية، عاد من ذلك عليه إيغار صدور الجماعة وحملهم على العقوق.
وقال أهل المعاني (٤): إن أبانا في ذهاب عن طريق الصواب الذي فيه التعديل بيننا في المحبة، وقيل معناه: إنه في غلط في تدبير (٥) أمر الدنيا، إذ كنا أنفع له في القيام بمواشيه وأمواله من يوسف وأخيه، وهذا هو معنى القول، وليسوا يريدون الضلال في الدين، قال الزجاج (٦): ولو وصفوه بالضلال (٧) في الدين كانوا كفارًا.
٩ - قوله تعالى ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا﴾ قال النحويون (٨): انتصاب الأرض بإسقاط الخافض، يراد واطرحوه في أرض، فلما سقط الخافض وصل الفعل إليها فنصبها؛ لأن أرضًا ليست من الظروف المبهمة.
(١) "تنوير المقباس" ص ١٤٧.
(٢) الطبري ١٢/ ١٥٥، والبغوي ٤/ ٢١٧ - ٢١٨، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٣.
(٣) نقل عنه "زاد المسير" ٤/ ١٨٣، انظر "تفسر مقاتل" ١٥١ أ.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ١٨٣، الثعلبي ٧/ ٦٤ ب.
(٥) في (ب): (تدبر).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٣.
(٧) في (ج): (بالضلالة).
(٨) "إعراب القرآن" للنحاس ص ١٢٥، و"معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٩٣.
29
قال أبو إسحاق (١): أراد أرضًا يبعد فيها عن أبيه؛ لأنه لم يخل من أن يكون في أرض، ودل على هذا المحذوف قوله ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ لأن هذا يدل على أنهم تآمروا في أن يطرحوه في أرض لا يقدر عليه فيها أبوه.
قال ابن الأنباري: تلخيصه: أو اطرحوه أرضًا بعيدة عن أبيه، فلما دل على هذا المضمر قوله ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ كان الإضمار سائغًا، ومعنى قوله ﴿يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ أي: يقبل بكليته عليكم، ويخلص لكم عن شغله بيوسف، يعنون أن يوسف شغله عنا وصرف وجهه إليه، فإذا فقده أقبل إلينا بالميل والمحبة (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ قال ابن عباس (٣): يريد تحدثوا (٤) توبة بعد ذلك يقبلها الله منكم، وهذا قول عامة المفسرين (٥)، وعلى هذا المعنى ﴿وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ بإحداث التوبة.
وقال مقاتل بن سليمان (٦): ليس الصلاح هاهنا مقصودًا به (٧) قصد صلاح الدين، لكن المعني به: ويصلح شأنكم عند أبيكم وتغلبوا على قلبه
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٣.
(٢) الثعلبي ٧/ ٦٤ ب، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٤، البغوي ٤/ ٢١٨.
(٣) نقله عنه في "زاد المسير" ٤/ ١٨٤، وذكره الطبري عن السدي ١٢/ ١٥٥.
(٤) في (ج): (يجدونه).
(٥) ومنهم الطبري ١٢/ ١٥٠، والبغوي ٢/ ٢١٨، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٤، وابن عطية ٧/ ٤٤٣.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٥١أ، نقله عنه في "زاد المسير" ٤/ ١٨٤، والثعلبي ٧/ ٦٤ ب.
(٧) في (ج): (مقصودًا).
30
بعد فقده يوسف، والآية بيان عما يوجبه الحسد من قتل المحسود أو تعريضه للقتل بالإلقاء في المهالك.
١٠ - قوله تعالى ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ قال عطاء عن ابن عباس (١): هو يهودا، وهو أكبر ولد يعقوب وأعقلهم، ونحو هذا قال الكلبي (٢) ومقاتل (٣) والزجاج (٤).
وقال قتادة (٥) ومحمد بن إسحاق (٦): هو روبيل.
وقوله تعالى: ﴿وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ﴾ قال أبو عبيدة (٧) وأهل اللغة (٨): الغيابة: كل ما غيب شيئًا وستره، وأنشدوا للمُنَخَّل (٩):
فإنْ أنا يَوْمًا غَيّبتني غَيَابتي فسِيرُوا بسَيْرِي في العَشِيرَة والأَهل
(١) عزاه له القرطبي ٩/ ١٣٢، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٤.
(٢) "تنوير المقباس" ص ١٤٧.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٥١ أ، وعزاه له "زاد المسير" ٤/ ١٨٤.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٤.
(٥) الطبري ١٢/ ١٥٥، و"تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣١٧، وأخرج ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٠٦ أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٤/ ١٣، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٥.
(٦) الطبري ١٢/ ١٥٦، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٥، والثعلبي ٧/ ٦٤ ب من غير عزو.
(٧) "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٢.
(٨) "اللسان" (غيب) ٦/ ٣٣٢٣.
(٩) هو المنخل بن سبيع بن زيد بن معاوية بن العنبر، والبيت في "معجم المرزباني" ٣٨٨، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٠٢، و"شواهد الكشاف" (٩٦)، والقرطبي ٩/ ١٣٢، و"معاني الزجاج" ٣/ ٩٣، و"المحرر" ٧/ ٤٤٤، و"البحر المحيط" ٥/ ٢٨٤، و"الدر المصون" ٦/ ٤٤٦.
31
أراد بالغيابة حفرة القبر؛ لأنها يغيب المدفون فيها، وأما الجب فهو الركية قبل أن تطوى، يقال: جب هذه الركية صلب، وقال زيد بن كثوه (١): جبّ الركية جَرِابُها، وقال الزجاج (٢): الجب البئر التي ليست بمطوية، سميت جبًّا من أنها قطعت قطعًا ولم يحدث فيها غير القطع من طي ومما أشبهه. الليث (٣): والجميع جباب وأجباب وجببة.
قال الحسن (٤): غيابة قعر الجب، قال (٥) قتادة (٦): أسفل الجب.
قال ابن الأنباري: وإنما ذكرت الغيابة مع الجب دلالة على أن المشير أشار بطرحه في موضع مظلم من الجب لا يلحقه نظر الناظرين، فأفاد ذكر الغيابة هذا المعنى، إذ كان يحتمل أن يلقى في موضع من الجب لا يحول بينه وبين الناظرين.
وقرأ أهل المدينة (٧) ﴿غيابات الجب﴾ بالجمع على معنى أن للجب (٨) أقطارًا ونواحي ويكون فيها غيابات، وأوثر الجمع لذلك، ومن وحد قال: المقصود موضع واحد من الجب يغيمب فيه يوسف فيستره من
(١) "تهذيب اللغة" (حبيب) ١/ ٥٣٠.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٤.
(٣) "تهذيب اللغة" (جبب) ١/ ٥٢٩، وهو كذا في النسخ، ولعل (قال) ساقطة.
(٤) نقله في "زاد المسير" ٤/ ١٨٥، وقد ذكره الطبري ١٢/ ١٥٦، من غير أن يعزوه لأحد.
(٥) في (ج): (وقال) بزيادة الواو.
(٦) الطبري ١٢/ ١٥٦، الثعلبي ٧/ ٦٤ ب.
(٧) قرأ بالمجمع نافع وأبو جعفر، والباقون بالإفراد، انظر "السبعة" ص ٣٤٥، و"إتحاف" ص ٢٦٢، و"الحجة" ٤/ ٣٩٩، والطبري ١٢/ ١٥٦.
(٨) في (أ)، (ب): (الجب).
32
أبصار المتأملين، فالتوحيد أحصر وأدل على المعنى المطلوب، يدل على صحة التوحيد قراءةُ مجاهد (١) ﴿في غيبة الجب﴾، انتهى كلامه.
وقال أبو علي (٢): وجه قول من أفرد أن الجب لا يخلو من أن يكون له غيابة واحدة أو غيابات، فغيابة المفرد يجوز أن يعني به الجمع كما يعني به الواحد، ووجه قول من جمع، أنه يجوز أن يكون له غيابة واحدة فجعل كل جزء منه غيابة فجمع لذلك، كقولهم: (شابت مفارقه (٣) وتغير ذو عثانين) ويجوز أن يكون للجب عدة غياب فجمع لذلك، والدليل على جواز الجمع فيه قول ابن أحمر (٤):
ألا فالبِثَا شَهْرَيْن أو نِصْفَ ثالث إلى ذَاكُما (٥) ما غَيّبتْني غَيَابِيَا
يريد جمع غيابة، فجمع مع أن ذا الغيابة واحد، واختلفوا في هذا الجب، فقال قتادة (٦): في بئر بيت المقدس، وقال وهب (٧): هو بأرض
(١) "زاد المسير" ٤/ ١٨٥، ونسبها إلى الحسن وقتادة ومجاهد، و"البحر المحيط" ٥/ ٢٨٤ ونسبها إلى الحسن.
(٢) "الحجة" ٤/ ٤٠٠.
(٣) في (أ)، (ب)، (ي): (مفاريقه)، والصواب ما أثبته كما في "الحجة".
(٤) من قصيدة له في هجاء يزيد بن معاوية، انظر: "ديوانه" ص ١٧١، و"المحتسب" ٢/ ٢٢٧ - ٢٢٨، و"الخصائص" ٢/ ٤٦٠، وابن الشجري ٣/ ٧٥، ٢٠٧، و"الإنصاف" ص ٣٨٧، و"شواهد كتاب سيبويه" ١٢٩.
(٥) (ما): ساقطة من (ج).
(٦) الطبري ٢/ ١٥٦، وعبد الرزاق ٢/ ٣١٨، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٠٧ ب، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٤/ ١٣، والثعلبي ٧/ ٦٤ ب، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٥، و"البحر المحيط" ٥/ ٢٨٤.
(٧) الثعلبي ٧/ ٦٤ ب، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٥.
33
الأردن، وقال مقاتل (١): هو على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب.
وقوله تعالى: ﴿يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ الالتقاط: تناول الشيء من الطريق، ومنه اللقط واللقيط، والسيارة: الذين يسيرون في الطريق للسفر. قال ابن عباس (٢): يريد المارة.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ قال ابن عباس (٣): يريد إن أضمرتم مما تريدون، وهذه الآية بيان عن اختيار أنقص الشرين، كما أشار هذا القائل إذ رأى أنه لابد من أحدهما.
١١ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ﴾ قال المفسرون (٤): لما تآمروا بينهم في إيقاع المكروه بيوسف وعزموا على ذلك قالوا (٥) لأبيهم: ﴿مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ﴾ والقراء مجمعون (٦) على إدغام النون الأولى في الثانية، والإشارة إلى إعراب النون المدغمة بالضم، وذلك أن الحرف المدغم بمنزلة الحرف الموقوف عليه من حيث جمعهما السكون، فكما أشموا الحرف الموقوف عليه إذا كان مرفوعًا عند الإدارج، ليعلم أنه كذلك في الوصل، أشموا الحرف المدغم ليعلم أنه لو ظهر كان مرفوعًا، والإشمام ضم الشفتين فقط، وليس بصوت خارج إلى اللفظ، إنما هو تهيئة العضو لإخراج الصوت به، ليعلم بالتهيئة أنه يريد ذلك المهيأ له،
(١) الثعلبي ٧/ ٦٤ ب، و"تفسير مقاتل" ١٥١أ، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٥.
(٢) "تنوير المقباس" ص ١٤٧، والثعلبي ٧/ ٦٥ أ.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ١٨٥.
(٤) الطبري ٢١/ ١٥٧، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٦.
(٥) في (أ)، (ب): (قال).
(٦) "الحجة" ٤/ ٤٠٠، و"إبراز المعاني" ص ٥٣١، و"السبعة" لابن مجاهد ٣٤٥، وأبو جعفر يقرأ بالإدغام المحض بلا إشمام ولا روم. "إتحاف" ص ٢٦٢.
ولا يجوز رَوْم الحركة مع الإدغام، كما جاز الإشمام؛ لأن روم الحركة حركة، وإن كان الصوت قد أضعف بها، ولا يجوز الإدغام مع الحركة وإن كانت قد أضعفت؛ لأن اللسان لا يرتفع مع روم الحركة في الحرف المدغم عن الحرفين ارتفاعة واحدة، وأما من ترك الإشمام؛ فلأنه أخف على اللفظ، وهو قياس الإدغام.
قال أهل المعاني: هذا تلطف منهم مع أبيهم في أمر يوسف، وتشبيب لمساءلتهم إرساله معهم، بدأوا بالإنكار عليه خوفه إياهم على يوسف، وثنوا بإظهار النصح له في قولهم ﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾، قال ابن عباس (١): يريد في الرحمة والبر.
١٢ - قوله تعالى (٢): ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾، قرأ ابن كثير (٣) ﴿نرتع﴾ هو بالنون وكسر العين من الارتعاء، و (يلعب) بالياء، والارتعاء: افتعال من رعيت، يقال: رعى الماشيةُ الكلأ يرعاها رعيًا، إذا أكلته، والرعي الكلأ، ومثله ارتعى، قال الأعشى (٤):
تَرْتَعِي السَّفْحَ فالكثيب فَذَاقَارٍ فُرُوضَ القَطَا فَذَاتَ الرِّئالِ
هذا معنى الارتعاء للإبل والمواشي، وقد أضافوه إلى أنفسهم؛ لأن المعنى نرتعي إبلنا، ثم يحذف المضاف فيكون نرتعي، أو يقال حقيقة
(١) انظر: "تنوير المقباس" ص ١٤٧.
(٢) في (ج): (وقوله) بزيادة الواو.
(٣) الطبري ١٢/ ١٥٨، و"الحجة" ٤/ ٤٠٢، و"إبراز المعاني" ص ٥٣٣، و"النشر" ٣/ ١٢٣.
(٤) انظر "البحر المحيط" ٥/ ٢٧٦، و"اللسان" (سفح) ٤/ ٢٠٢٣، و"التنبيه والإيضاح" ١/ ٢٤٧، و"تاج العروس" (سفح) ٤/ ٩٠.
35
الرعي والارتعاء للماشية وينسب ذلك إلى أصحابها؛ لأنهم السبب في ذلك بإيرادها الكلأ ومواضعه والقيام عليها، فيسند ذلك إليهم، وعلى هذا يقول العرب: رعينا روضة كذا، ومكان كذا، وهو كثير في أشعارهم، ويحمل على ما ذكرنا من أحد الوجهين.
وأما فصله بين الارتعاء واللعب بالياء والنون، فحَسَنٌ؛ لأنه جعل الارتعاء والقيام على المال لمن بلغ وجاوز [الصغر، وأسند اللعب إلى يوسف لصغره، ولا لوم] (١) على الصغير في اللعب، وقرأ نافع (٢) كلاهما بالياء وكسر العين من يرتعي، أضاف الارتعاء إلى يوسف على معنى أنه يقوم على ماله في الارتعاء ليتدرب بذلك، فمرة يرتعي ومرة يلعب كفعل الصبيان، وقرأ أبو عمرو (٣) وابن عامر (٤) (نرتعْ) بالنون وجزم العين، ومثله (نلعبْ)، والعرب تقول: رتع المال، إذا رعى ماشيًا، وارتعتها أنا، والرتع لا يكون إلا في الخصب والسعة، وإبل رتاع، وقوم مرتعون وراتعون (٥) إذا كانوا مخاصيب.
وقال ابن الأعرابي: الرتع الأكل بشَرَه، يقال رتع يرتع رتعًا ورتاعًا (٦)، ومنه قولهم (٧): القيد والرتعة، ويقال بسكون التاء ومعناها الخصب ونيل ما يراد.
(١) ما بين المعقوفين بياض في (ب).
(٢) "السبعة" ص ٣٤٥ - ٣٤٦، و"إتحاف" ص ٢٦٢، و"الحجة" ٤/ ٤٠٢، ٤٠٣.
(٣) في (ج): (قرئ ابن عمرو).
(٤) "السبعة" ص ٣٤٥ - ٣٤٦، و"إتحاف" ص ٢٦٢، و"الحجة" ٤/ ٤٠٢، ٤٠٣.
(٥) (راتعون): ساقطة من (ج).
(٦) ما سبق كله نقل عن الأزهري في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٥٦ - ١٣٥٧. بتصرف.
(٧) مثل: وأصله أن عمرو بن الصعق أسرته شاكر من همدان، فأحسنوا إليه وكان فارق قومه نحيفًا، فهرب من شاكر فلما وصل إلى قومه قالوا: أي عمرو خرجت من عندنا نحيفًا، وأنت اليوم بادن؟ فقال (القيد والرتعة) فأرسلها مثلاً، و (الرتعة): الخصب، انظر "الميداني" ٢/ ٣٩، و"المفضل الضبي في أمثاله" ٦٢، و"الفاخر" للمفضل بن سلمة ص ١٧٠، ٢٤١، و"اللسان" (رتع) ٣/ ١٥٧٧، الطبري ١٢/ ١٥٨، و"تعليق شاكر"، ونسبه أبو عبيد في الأمثال ص ٥٦: إلى الغضبان بن القبعثري، قاله للعجاج عندما حبسه. "تهذيب اللغة" (رتع) ٢/ ١٣٥٦.
36
وقد حصل، للرتع معنيان أحدهما: رعي المال في الخصب، فعلى هذا معني نرتع بالنون كمعنى يرتعي في أنه للمال. ثم يحذف المضاف على ما ذكرنا، الثاني: أن معناه نيل ما يراد، وهذا يوصف به الإنسان كما ذكرنا في المثل، فقرأه أبو عمرو (نرتع) على معنى: نرتع إبلنا، ثم حذف المضاف، أو ينال ما يحتاج إليه.
وأما يلعب فقد روي أنه قيل لأبي عمرو: كيف يقولون نلعب وهم أنبياء؟ فقال: لم يكونوا يومئذٍ أنبياء (١)، على أنه يجوز أن يراد باللعب هاهنا الذي هو ضد التشمر من الأخذ باللهو نيالاً، الذي هو ضد الحق، كما روي عن النبي - ﷺ - أنه قال لجابر: "فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك" (٢) وهذا كأنه تشاغل بمباح وتنفس وجمام.
وقرأ أهل الكوفة (٣) كلاهما بالياء وسكون العين والياء ووجهه بيِّن، لأن إسناد الرتع بمعنى النيل من الشيء إلى يوسف لا يبعد، كما لا يمتنع أن
(١) "الحجة" ٤/ ٤٠٦، ابن جرير الطبري ١٢/ ١٥٨، الثعلبي ٧/ ٦٥ أ.
(٢) أخرج البخاري بنحوه (٥٠٧٩، ٥٠٨)، كتاب: النكاح، باب: تزويج الثيبات، ومسلم (٥١٧/ ٥٥) في كتاب: الرضاع، باب: استحباب نكاح البكر.
(٣) انظر: "السبعة" ص ٣٤٦، و"إتحاف" ص ٢٦٢، و"الحجة" ٤/ ٤٠٣، والطبري ١٢/ ١٥٨.
37
ينسب إليه اللعب، على أن أبا عبيدة (١) فسَّر نرتع باللهو، فقال نرتع: نلهو، وهذه القراءة أبين من قراءة من قرأ (٢) (نلعبْ) بالنون؛ لأنهم إنما سألوا إرسال يوسف ليتنفس بلعبه لا ليلعبوا هم.
وأما قول المفسرين فقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (٣): نرتع: نذهب ونجيء وننشط ونلعب ونلهو.
[وقال مقاتل بن سليمان (٤): نرتع نفرح، ونلعب نتلاهى.
وقال مجاهد (٥) وقتادة (٦) نسعى وننبسط] (٧) وقال أبو عبيدة (٨): ﴿نرتع ونلعب﴾ معناه نلهو وننعم، قال: هو من القيد والرتعة، وقال غيره: نقم في المرتع، يقول بعضهم: نرتع نرعى إبلنا، وقال قوم: نرتع نأكل، واحتج يقول الشاعر (٩):
ويُحَيِّينِي إذا لاقَيْتُه وإذا يخلو له لَحْمي رَتَعْ
(١) "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٣.
(٢) وهي قراءة أبي عمرو وابن عامر كما سبق.
(٣) الطبري ٢/ ١٥٨، ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٠٨ أ، عن مجاهد، وانظر: "الدر" ٤/ ١٣.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٥١ أبنحوه.
(٥) ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٠٨ أ.
(٦) الطبري ١٢/ ١٥٩، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٧، والقرطبي ٩/ ١٣٩، وعبد الرزاق ٢/ ٣١٨.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج).
(٨) "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٣.
(٩) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري من قصيدة في المفضليات: ١٩٠ - ٢٠٢ تعد عن علي الشعر وأنفسه، وانظر "ديوانه" ص ٣١، و"الشعر والشعراء" ص ٢٧٠ (٣٨٤)، والرواية فيهما (حبيب لي إذا لاقيته..)، وهو في "الخزانة" ٢/ ٥٤٧ كما هاهنا، و"الزاهر" ٢/ ٣١، و"الدر المصون" ٦/ ٤٥٠، و"اللسان" (رتع) ٣/ ١٥٧٧.
38
أي: أكله، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد (١) في قوله نرتع: نتكالأ ونتحارس بعضنا بعضًا، وعلى هذا فهو افتعال من الرعاية بمعنى الحفظ، لا من رعي الماشية.
وقال بعض أهل المعاني: أصل الرتع للمال، ثم يستعمل في الإنسان على معنيين، أحدهما: الاتساع في البلاد بالذهاب في جهاتها من اليمين والشمال، والآخر: التصرف في الشهوات وضروب الملاذ، يقال: رتع فلان في ماله، إذا أنفقه في شهواته.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ قال ابن عباس (٢): يريد من كل ما تخافه عليه.
١٣ - وقوله تعالى ﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ﴾ خبر عما يوجبه شدة الإشفاق من الحزن عن الفراق، فقال يحزنني ذهابكم، وأخاف أن يأكله الذئب.
قال الكلبي وغيره من المفسرين (٣): إن يعقوب عليه السلام رأى في النوم ذئبًا عدا على يوسف، فكان حذرًا عليه، خائفًا من تناول الذئب له، لرؤياه التي رآها.
وقال آخرون: إنما خاف عليه يعقوب الذئب؛ لأن أرضهم كانت مذأبة، ذكره مقاتل بن سليمان وغيره (٤).
(١) الطبري ١٢/ ١٥٩، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٠٧ أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٤/ ١٤، والثعلبي ٧/ ٦٥ ب، وابن عطية ٧/ ٤٤٨.
(٢) القرطبي ٩/ ١٤٠.
(٣) الثعلي ٧/ ٦٥ ب، والبغوي ٤/ ٢٢٠، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٨، و"تنوير المقباس" ص ١٤٧.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٥١ أ، و"زاد المسير" ٤/ ١٨٨، الرازي ١٨/ ٩٧.
ويقرأ الذئب (١) مهموزًا ومخففًا، وأصله الهمز (٢)؛ لأنه من قول العرب: تذابت الريح وتذأبت، إذا جاءت من كل جهة كالذيب يحتل بالحيلة من كل جهة، فإذا خففت الهمز منه قلبت ياء، وكذلك البير، ويجمع أذؤبًا وذؤبانًا (٣) كما قالوا: زق وزقان.
قال (٤):
وازْوَرّ يَمْطُو في بلادٍ بَعِيدَةٍ تَعَاوا به ذُئبَانُه وثَعَالِبُه
وقوله تعالى: ﴿وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ قال ابن عباس (٥) يريد لاهون مشتغلون برعيتكم، وهذا بيان عما توجبه الشفقة من سوء الظن بحوادث الزمان وعوارض الآفات.
١٤ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ أي إن أكله الذئب ونحن جماعة نرى الذئب قد قصده فلا نرده عنه، إنا إذًا [لجاهلون في قول الكلبي، أي] (٦): لجاهلون (٧) بما يُعرفُ
(١) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة بالهمز، وقرأ الكسائي وحده بغير همز، و"الحجة" ٤/ ٤٠٧، و"السبعة" ص ٣٤٦، و"البدور الزاهرة" ١٦١، و"التبصرة" ص ٥٤٥، و"إتحاف" ص ٢٦٣.
(٢) هذا النص منقول عن أبي علي في كتابه "الحجة" ٤/ ٤٠٨. بتصرف.
(٣) في (ب): (وذؤبًا).
(٤) البيت لذي الرمة في "ديوانه" ص ٤٨، و"البحر المحيط" ٥/ ٢٧٦، و"الدر المصون" ٦/ ٤٥٢، و"شرح شواهد الإيضاح" ص/ ٥١٧، وهو في "التكملة" ص ٢٠٠ بلا نسبة. وازور: يعني الطريق فيه عوج، يمطو: يمد.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٨٨.
(٦) ما بين المعقوفين مكرر في (أ)، (ج).
(٧) القرطبي ٩/ ١٤١.
فضله من إيثار البر وصلة الرحم وتجنب العقوق إن أكله الذئب بحضرتنا ولم نرده عنه.
وقال مقاتل (١): معناه لئن أكله الذئب ونحن حضور، وعندنا بأس ودفع، إنا إذًا لعاجزون.
قال: فالخسران هاهنا محمول على معنى العجز، كقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٣٤] معناه لعاجزون، ولابد (٢) من إضمار في الآية على تقدير: ونحن عصبةٌ عنده أو بحضرته؛ لأنه يجوز أن يأكله الذئب وهم عصبة غائبون عنه، فلا يُنْسَبون إلى الجهل ولا إلى العجز، وإنما يلزمهم العجز والجهل إن أكله الذئب بحضرتهم فلم يردوه عنه.
١٥ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا﴾ ذكرنا معنى الإجماع عند قوله ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ﴾ [يونس: ٧١].
وقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾ هذه الواو مقحمة زائدة عند الكوفيين، لأنه جواب لما، وجواب لما لا يقتضي واوًا، وعند البصريين لا يجوز إقحام الواو، وجواب لما عندهم محذوف، على تقدير لما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم، أو كبر ما قصدوا، ثم قال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾ وحذف الجواب كثير، وهذه المسألة ذكرناها فيما تقدم، قال المفسرون (٣): أوحى الله (٤) إلى يوسف تقويةً لقلبه في البئر:
(١) "تفسير مقاتل" ١٥١ أبنحوه.
(٢) في (ج): (لابد) من غير واو.
(٣) الثعلبي ٧/ ٦٥ ب، الطبري ١٢/ ١٦٠، البغوي ٤/ ٢٢١، و"زاد المسير" ٤/ ١٩١.
(٤) في (ب): بزيادة (تعالي).
41
لتصدقن رؤياك ولتخبرن إخوتك بصنيعهم هذا بعد اليوم ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بأنك يوسف في وقت إخبارك إياهم بأمرهم، وهذا (١) قول ابن عباس (٢) والحسن (٣) وابن جريج (٤).
وقال (٥) مجاهد (٦) وقتادة (٧): ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ بأنه أوحي (٨) إليه، وأجمعوا على أنه أوحي إلى يوسف في البئر.
قال الحسن (٩) أعطاه الله النبوة وهو في الجب.
وقال قتادة (١٠): أتاه وحي الله وهو في البئر.
وقال الكلبي (١١): ألقي في الجب وهو ابن ثماني عشرة سنة.
قال أبو بكر بن الأنباري (١٢): الفائدة في استتار الوحي عنهم، أنهم لو وقفوا على الوحي وعلموا أن مدة يوسف تطول، وأن أمره يقوى جاز أن
(١) في (ب): (هذا). من غير واو.
(٢) الطبري ١٢/ ١٦٢، الثعلبي ٧/ ٦٦ أ، ابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٠ أ، وانظر: "الدر" ٤/ ١٥، و"زاد المسير" ٤/ ١٩١، والقرطبي ٩/ ١٤٣.
(٣) انظر: الرازي ١٨/ ١٠٠.
(٤) الطبري ١٢/ ١٦٢.
(٥) في (أ)، (ج): زيادة (محمد).
(٦) الطبري ١٢/ ١٦١، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٠٩ أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ١٥، والقرطبي ٩/ ١٤٣، والثعلبي ٧/ ٦٦ أ، و"زاد المسير" ٤/ ١٩١.
(٧) الطبري ١٢/ ١٦١، عبد الرزاق ٢/ ٣١٨، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٠٩ أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٤/ ١٥، و"زاد المسير" ٤/ ١٩١.
(٨) في (ب): (أوحى الله إليه) بزيادة لفظ الجلالة.
(٩) "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٢٥٩، القرطبي ٩/ ١٤٢.
(١٠) الطبري ١٢/ ١٦١، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٠٩ أ، وعبد الرزاق ٢/ ٣١٨.
(١١) القرطبي ٩/ ١٤٢.
(١٢) الرازي ١٨/ ١٠٠.
42
يسبق إلى قلب بعضهم من الحسد ما لعله أن يقدم على إيقاع بلية بيوسف، في وقت إخبارهم بصنيعهم، فإن الله تعالى ألزم يوسف أن لا يطلع أباه ولا أحداً من إخوته على نسبه وموضعه، ليوبخهم على ما سلف من عقوقهم، ويعد عليهم ما فرط من إساءتهم، فهم لا يعرفون عنه، ولا يعرفون أن أخوهم. ولهذه العلة ما كتم يوسف أباه يعقوب نفسه طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه به خوفًا من الخلاف على الله عز وجل، فصبر على تجرع المرارة بما يعلمه من قلق أبيه (١) إيثارًا لطاعة ربه واتباعًا لأمره، وكان الله تعالى قد قضى على يعقوب أن يوصله إلى درجة عالية لا يصل إليها إلا بعظيم الحسرة التي كان يكابدها، فلذلك أمر يوسف بكتمان شأنه عن أبيه.
والقولان في قوله ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ حكاهما الزجاج (٢) فقال: في قوله ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ هذا جائز أن يكون من صلة ﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾، وجائز أن يكون من صلة ﴿أَوْحَيْنَا﴾، المعنى: وأوحينا إليه (٣) وهم لا يشعرون، أي نبأناه بالوحي وهم لا يشعرون أنه نبي قد أوحي إليه.
١٦ - قوله تعالى ﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ﴾ قال ابن عباس (٤): ثم إنهم ذبحوا سَخْلة وجلوا دمها على قميص يوسف، وكانوا (٥) قد ألقوه في الجب عريانًا ﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً﴾ ليكونوا أجراً في الظلمة على الاعتذار وترويج
(١) في (ب): (الله).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٥.
(٣) في (ج): (إليهم).
(٤) الثعلبي ٧/ ٦٦ ب، الطبري ١٢/ ١٦٣.
(٥) في (أ)، (ب)، (ج): (كانا).
ما مكروا (١)، ﴿يَبْكُونَ﴾ مكرًا لإيهام براءتهم مما عرض (٢) ليوسف من البلية بأكل الذئب على زعمهم. روى مجالد (٣) عن الشعبي قال: خاصمت امرأة إلى شريح وجعلت تبكي فقيل له: يا أبا أمية، أما تراها تبكي، فقال شريح: قد جاء إخوة يوسف أباهم عشاءً يبكون (٤).
١٧ - قوله تعالى: ﴿يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ﴾ قال أكثر المفسرين (٥): نتنصل في الرمي، وهذا اختيار الزجاج (٦) وابن قتيبة (٧)، قال نتنصل: يسابق بعضنا بعضًا في الرمي، وعلى هذا هو من السباق في النصال، وفيه قول النبي - ﷺ -: "لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر" (٨) يعني بالنصل: الرمي، وأصل السبق في الرمي للسهم، وهو أن يرمي اثنان أيهما يكون أسبق بينهما وأبعد غلوة، ثم يوصف المتراميان بذلك، فيقول: استبقا
(١) "البحر المحيط" ٥/ ٢٨٨.
(٢) في (ج): (عرضوا).
(٣) هو مجالد بن سعيد بن عمير الكوفي الهمداني، لين الحديث، تغير حفظه في آخره، توفي سنة ١٤٤ هـ. انظر: "الجرح والتعديل" ٨/ ٣٦١، و"التهذيب" ٤/ ٢٤ - ٢٥.
(٤) أخرجه ابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٤/ ١٥.
(٥) الطبري ١٢/ ١٦٢، والثعلبي ٧/ ٦٦ ب، و"زاد المسير" ٤/ ١٩١، والبغوي ٤/ ٢٢٢.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٥.
(٧) "مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ص ٢١٧.
(٨) أخرجه أحمد ٢/ ٤٧٤، برقم (١٠١٣٨)، ط. الرسالة، من حديث أبي هريرة، والترمذي (١٧٠٠) في الجهاد، باب: ما جاء في الرهبان والسبق، وأبو داود "عون المعبود" (٢٥٥٧) في الجهاد، باب: في السبق، وابن ماجه (٢٨٧٨) في الجهاد، باب: السبق والرهان وصححه الألباني. انظر: "صحيح سنن ابن ماجه" للألباني (١٣٢٦)، كتاب: الجهاد، باب: السبق والرهان وخرجه الألباني في "إرواء الغليل" (١٥٠٦).
44
وتسابقا، إذا فعلا ذلك لتبيين أيهما أسبق سهمًا، ويدل على صحة هذا التفسير ما روي أن في قراءة عبد الله ﴿إنا ذهبنا ننتصل﴾ (١).
وقال السدي (٢) ومقاتل (٣): نستبق: نشتد ونعَدو لنتبين أينا أسرع عَدْوًا، فإن قيل كيف جاز لهم أن يستبقوا وهم رجال بالغون، وهذا من فعل الصبيان؟
فالجواب ما ذكره صاحب النظم، وهو أن الاستباق فيهم كان مثل السباق في الخيل والنصال عندنا، وكانوا يُحْزنُون بذلك أنفسهم ويدربونها على العَدْو؛ لأنه كالآلة لهم في محاربة العدو، ومدافعة الذئب إذا رام ماشيتهم (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا﴾ قال ابن عباس (٥): يريد ثيابهم ﴿فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾، قال عامة المفسرين (٦) وأصحاب المعاني (٧): مصدق لنا، وذكرنا تحقيق هذا في أول سورة البقرة (٨).
(١) الثعلبي ٧/ ٦٦ ب، القرطبي ٩/ ١٤٥.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٩٢، الرازي ١٨/ ١٠١.
(٣) ذكره الثعلبي بقوله ابن حيان ٧/ ٦٧ أ.
(٤) الرازي ١٨/ ١٠١، القرطبي ٩/ ١٤٥.
(٥) البغوي ٤/ ٢٢٢، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٢.
(٦) الطبري ١٢/ ١٦٢، الثعلبي ٧/ ٦٧ أ، البغوي ٤/ ٢٢٢، "زاد المسير" ٤/ ١٩٢،
القرطبي ٩/ ١٤٨.
(٧) "معاني القرآن وإعربه" ٣/ ٩٦، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة ١/ ٣٠٣، و"مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ١/ ٢١٧.
(٨) ذكر عند قوله تعالى ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: ٣] أقوال العلماء في أن الإيمان بمعنى التصديق: ونقل عن الأزهري حكايته اتفاق العلماء على هذا المعنى، وشرح دلالة اللفظ عليه مع الاستشهاد بأقوال أهل اللغة، ثم قال: والقول في معنى الإيمان ما قاله الأزهري.
قلت: إن كان المقصود أن ذلك في اللغة، فالأمر فيه واسع وهو محل خلاف، وإن كان المقصود المعنى الشرعي فهو مردود، والإيمان عند علماء السلف: تصديق القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح. انظر: "شرح العقيدة الطحاوية" ص٣٨١، ٣٨٢.
45
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾، قال أبو إسحاق (١): ليسوا يريدون أن يعقوب لا يصدق من يعلم أنه صادق، هذا محال لا يوصف الأنبياء بذلك، لكن المعنى: لو كنا عندك من أهل الثقة والصدق لاتهمتنا في يوسف؛ لمحبتك إياه وظننت أنا قد كذبناك.
ونحو هذا قال أبو العباس (٢) في معنى هذه الآية: قال: معناه: ولو كنا صادقين في كل الأشياء، لاتهمتنا في هذه القصة ولم يقرب قولنا من قلبك، لغلبة استغشاشك لنا وتهمتك إيانا في أمر يوسف.
وقال أبو بكر: أرادوا نحن صادقون عند أنفسنا، وأنت غير مصدق لنا، إن لم تقم أمارات صدقنا عندك، فلو كنا صادقين عند الله أولاً ثم عند أنفسنا ما صدقتنا، إذ لم يقم عندك براهين صدقنا.
١٨ - قوله تعالى: ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ قال ابن عباس (٣)
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٦.
(٢) لعله أبو العباس الأصم محمد بن يعقوب السناني النيسابوري الوراق، أحد أئمة الشافعية، إمام ثقة حافظ، توفي سنة ٣٤٦ هـ. انظر: "طبقات فقهاء الشافعية" ١/ ٧٦، و"طبقات الشافعية" للآسنوي ١/ ٤٢.
(٣) الطبري ١٢/ ١٦٣، ابن أبي حاتم ٧/ ٢١١١ ب وانظر. "الدر" ٤/ ١٦، وعبد الرزاق ٢/ ٣١٨.
46
ومجاهد (١) وعامة المفسرين (٢): كان ذلك دم سَخْلة، وقيل جدي (٣)، وقيل: حمل، كل هذا من لفظهم.
قال الفراء (٤) وأبو العباس (٥) والزجاج (٦) وابن الأنباري (٧) وأصحاب العربية (٨) ﴿بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ أي مكذوب فيه، إلا أنه وصف بالمصدر على تقدير: ذي كذب، ولكنه أجري على الوصف بالمصدر للمبالغة، وهذا معنى قول الأخفش (٩): جعل الدّمَ كذبًا لأنه كذب فيه، كما قال ﴿فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ﴾ [البقرة: ١٦] قالوا: والمفعول والفاعل يسميان بالمصدر كما يقال: ماء سكب، أي: مسكوب، ودرهم ضرب الأمير، وثوب نسج اليمن، والفاعل كقوله ﴿إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ [الملك: ٣٠] ورجل عدل وصوم (١٠)، ونساء نَوْح ومنه (١١):
... وجاوبي نَوْحًا قِيَاما
(١) الطبري ١٢/ ١٦٣، القرطبي ٩/ ١٤٩، ابن أبي حاتم ٧/ ٢١١١ ب.
(٢) الطبري ١٢/ ١٦٣، والبغوي ٤/ ٢٢٢، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٣، والرازي ١٨/ ١٠٢.
(٣) قاله السدي كما في الطبري ١٢/ ١٦٣، والشعبي كما في الطبري ١٢/ ١٦٤.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٣٨.
(٥) "تهذيب اللغة" للأزهري ٤/ ٣١١٥.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٦.
(٧) الرازي ١٨/ ١٠٢.
(٨) "معاني القرآن" ٢/ ٥٩٠، و"مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ١/ ٢١٧، و"تهذيب اللغة" للأزهري ١٠/ ١٦٧.
(٩) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٥٩٠.
(١٠) (صوم): ساقطة من (ج).
(١١) بعض بيت من الوافر وتمامه:
هَريْقي منْ دموعها سجالا... صنباعَ وجاوبي نَوْحًا قيامًا ولم ينسبه الواحدي هنا، وهو بلا نسبة أيضاً في "مجاز القرآن" ١/ ٤٠٤، الطبري ١٥/ ٢٤٩ (العلمية)، القرطبي ١٠/ ٤٠٩.
47
ولما سميتا بالمصدر، سُمِّي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل: المعقول، وللجلد: المجلود، ومنه قوله تعالي: ﴿بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ [القلم: ٦] وقالوا للكذب الكاذبه، وللخيانة الخائنة، ومثله العاقبة والعافية.
قال الحسن (١) وسعيد بن جبير (٢): لما جاءوا يعقوب بالقميص ملطخًا بالدم، قال: كذبتم، ما عهدي (٣) بالذئب حليمًا، لو كان أكله لخرق قميصه.
وقال الكلبي عن ابن عباس (٤): قال لهم: لقد كان هذا الذئب رفيقًا حين أكل ابني ولم يخرق قميصه، قالوا: فقتله اللصوص، قال: كيف قتلوه وتركوا قميصه، وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله.
وقوله تعالى: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ قال ابن عباس (٥) وعامة المفسرين (٦): زينت لكم أنفسكم أمرًا.
قال أهل المعاني: التسويل تقدير معنى في النفس على الطمع في
(١) الطبري ١٢/ ١٦٤، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٤/ ١٦، وانظر: "تفسير الحسن" ٢/ ٢٩.
(٢) أخرجه الطبري من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ١٢/ ١٦٤ وكذا ابن أبي حاتم ٧/ ٢١١ ب.
(٣) في (أ)، (ج): (ما عهد بي).
(٤) ذكره الفراء في "معاني القرآن" ٢/ ٣٨، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٣، والقرطبي ٩/ ١٤٩.
(٥) "تنوير المقباس" ص ١٤٧.
(٦) الثعلبي ٧/ ٦٧ ب، والطبري ١٢/ ١٦٥، والبغوي ٤/ ٢٢٣، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٣، القرطبي ٩/ ١٥١، و"مشكل القرآن وغريبه" ٢١٧، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٠٣.
48
تمامه، وقوله ﴿بَل﴾ رد لقولهم: أكله الذئب، كأنه قال: ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمرًا غير ما تصفون.
وقال الأزهري (١): وكأن التسويل تفعيل من سوْل الإنسان، وهي أمنيته التي يطلبها، فيزين لطالبها الباطل وغيره من أمر الدنيا، وأهله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمز لما كثر في كلامهم.
وقوله تعالى: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ قال مجاهد (٢)، والمفسرون (٣): أي صبر ليس فيه جزع ولا شكوى، وروي مرفوعًا أن النبي - ﷺ -، سئل عن الصبر الجميل فقال: "هو صبرٌ لا شكوى فيه" (٤).
وقال أهل المعاني: الصبر الجميل هو أن يصبر حتى لا يظهر فيه تغير بعبوس وجه وانقباض عما كان يتبسط (٥) فيه قبل المصيبة.
واختلفوا في وجه ارتفاع الصبر، فقال الخليل (٦): معناه: فالذي أعتقده صبر جميل.
وقال قطرب (٧): معناه: فصبري صبر جميل.
(١) "تهذيب اللغة" ١٣/ ٦٧، وهذا السياق نص نسخة (ج)، وفي الأصل [فيزين لطالبها الباطل والغرور].
(٢) الطبري ١٢/ ١٦٥، وعبد الرزاق ٢/ ٣١٨، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٢ أ، والفريابي وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٤/ ١٩.
(٣) الطبري ١٢/ ١٦٥، الثعلبي ٧/ ٦٧ ب، البغوي ٤/ ٢٢٣، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٣.
(٤) أخرجه الطبري ١٢/ ١٦٥، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٢ أ. قال المناوي: هو من حديث حبان بن حيلة وهو مرسل، و"الفتح السماوي" ٢/ ٧٢٧.
(٥) في (ب): (تبسط).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٩٦، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٣.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٦، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٣، والقرطبي ٩/ ١٥١.
49
وقال الفراء (١): فهو صبر جميل، وقال أبو عبيد (٢): تقديره: فليكن مني صبر جميل.
وقال الزجاج (٣): فشأني صبر جميل، قال ابن الأنباري: والمعاني متقاربة. وقال بعضهم: فصبر جميل أولى بي، وعلى هذا هو ابتداء وخبره محذوف.
وقال أبو إسحاق (٤): ويجوز في غير القرآن: فصبرًا جميلاً، وأنشد (٥):
يَشْكُو إليَّ جَمَلِي طُولَ السّرَى يا جَمَلِي ليسَ إليَّ المُشْتَكَى
قال: وروي: صبرًا، على فاصبرْ صبرًا، قال أبو عبيدة (٦) وغيره: الأحسن إذا وصف الصبر الرفع، وإذا أفرد النصب.
وأنشدوا (٧):
ألا انمامي فصَبْرًا بَليَّة وقد يُبْتَلَى المَرْءُ الكَرِيمُ فيَصبِرُ
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٥٣، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٣.
(٢) انظر: "البحر المحيط" ٥/ ٢٨٩، و"الدر المصون" ٦/ ٤٥٧.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٦.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٦.
(٥) الأبيات لملبد بن حرملة، في ابن السيرافي ص ٢٢٨ وبلا نسبه في "معاني الفراء" ٢/ ٥٤، و"معاني الزجاج" ٣/ ٩٧، و"تأويل مشكل القرآن" ص ١٠٧، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٠٣، ٣٠٤، و"اللسان" (شكا) ٤/ ٢١١٤، و"تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٠٩، والقرطبي ٩/ ١٥٣، و"كتاب سيبويه" ١/ ٣٢١، و"شواهد الكشاف" (شكا إلي جملي).
(٦) "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٣.
(٧) كذا في النسخ ولعل البيت: (ألا يا نمامي فصبرًا..) وبه يستقيم الوزن، وهو من الطويل، ولم أقف عليه.
50
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ قال أهل المعاني: هذا بيان عما يوجبه التقى من الصبر الجميل عند المصيبة، والاستعانة بالله عزّ وجلّ عندما يعرض من الأمور الهائلة.
١٩ - قوله تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾ قال المفسرون (١): يعني رفقة تسير للسفر، ﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ﴾ وهو الذي يرد الماء ليستقي للقوم.
وقوله تعالى: ﴿فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾ قال عامة أهل اللغة (٢): يقال: أدلى دلوه، إذا أرسلها في البئر، ودَلّاها: إذا نزعها من البئر، يقال: أدلى يدلي إدلاءً إذا أرسل، ودلى يدلو دلوًا، إذا جذب وأخرج.
قال الشاعر (٣):
يَنْزِعُ من جَمّاتِها دَلْو الدَّالىِ
أي ينزع النازع، والدلو معروف، والجميع الدلاء، والعدد إدل ودُلي، ويقال للدلو دلاة.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾ قال ابن عباس (٤) وقتادة (٥) والسدي (٦): لما أدلى المدلي تشبث يوسف بالرشا فأخرجه الوارد، فقال: يا بشراي. قال الحسن (٧): يا بشراي مثل: يا فرحتنا، وهو في موضع نصب؛ لأنه نداء مضاف.
(١) الثعلبي ٧/ ٦٧ ب.
(٢) "تهذيب اللغة" للأزهري ٢/ ١٢١٣ مع تقديم وتأخير، (دلا).
(٣) سبق تخريجه.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ١٩٤.
(٥) عبد الرزاق ٢/ ٣٠٢، والطبري ١٢/ ١٦٧، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٣ ب، وابن المنذر كما في "الرد" ٤/ ١٧، القرطبي ٩/ ١٥٣.
(٦) الطبري ١٢/ ١٦٧، والقرطبي ٩/ ١٥٣.
(٧) "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٢٦٠.
51
قال ابن الأنباري: وقع النداء في اللفظ بالبشرى، وهو في المعنى واقع لغيرها، تأويله: يا هؤلاء تنبهوا لبشراي. وهذا معنى قول أبي إسحاق (١)، ومعنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب تنبيه المخاطبين، وتوكيد القصة إذا قلت: يا عجباه، فكأنك قلت: اعجبوا، وذكر وجهًا آخر، وهو أن يكون المعنى: يا أيتها البشرى هذا من إيانك وأوانك، وزاد أبو علي (٢) لهذا الوجه بيانًا، فقال: المعنى فيه أن هذا من أوانك ولو كنت ممن يخاطب لخوطبت الآن، وهذا في كل منادى لا يجيب ولا يعقل.
وقرأ أهل (٣) الكوفة ﴿يَا بُشْرَى﴾ من غير إضافة، وهذه القراءة كالأولى في أنه نداءٌ لمن لا يجيب، إلا أن هذا نداءٌ غير مضاف فيكون رفعًا، قال السدي (٤): نادى المدلي صاحبه وكان اسمه بشرى، فقال: يا بشراي، كما تقول: يا زيد.
وروي عن الأعمش (٥) أنه قال: دعا امرأة اسمها بشرى.
قال أبو علي (٦): من جعل البشرى اسمًا للبشارة وهو الوجه، جاز أن يكون في محل الرفع مثل: يا رجل، لاختصاصه بالنداء، وجاز أن يكون في موضع نصب على أن يجعله نداءً شائعًا في جنس البشرى ولم يخص كما
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٧.
(٢) "الحجة" ٤/ ٤١٢.
(٣) "السبعة" ص ٣٤٦، و"النشر" ٣/ ١٢٤، و"إبراز المعاني" ص ٥٣٣، و"إتحاف" ص ٢٦٣.
(٤) الطبري ١٢/ ١٦٧ - ١٦٨، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٣أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ١٧، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٤، والقرطبي ٩/ ١٥٣.
(٥) الرازي ١٨/ ١٠٦، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٤.
(٦) "الحجة" ٤/ ٤١١.
52
فعلت في الوجه الأول، كما يقول: يا رجلاً، و ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ﴾ [يس: ٣٠]، فالوجه الأول على أنه بشرى مختصة، والآخر أن ينزله من جملة كلها مثلها في الشياع، إلا أن التنوين لم يلحق بشرى لأنه لا ينصرف.
وقوله تعالى: ﴿وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾، قال مجاهد (١) والسدي (٢) وأكثر المفسرين (٣): أسره الوارد وجاءوا من كان معه من التُّجار من الذين معهم في الرفقة، وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الماء إلى مصر، خيفة أن يطلبوا منهم فيه الشركة؛ لرخص ثمنه.
قال إسحاق بن بشر (٤): قالوا فيما بينهم: إن قلنا لهم التقطناه شاركونا، وإن قلنا اشتريناه، سألونا الشركة، فنقول: إن أهل الماء أبضعوه معنا على أن نبيعه لهم بمصر، قال ابن عباس (٥) في رواية عطية: (أسروه) يعني: إخوة يوسف أسروا شأنه أن يكون أخاهم، وقالوا: هو عبد لنا أبق منا، وتابعهم يوسف على ذلك؛ لأنهم توعدوه بالقتل بلسان العبرانية.
(١) الطبري ١٢/ ١٦٨، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٤أوابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ١٨، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٥، والثعلبى ٧/ ٦٨ أ، والبغوي ٤/ ٢٢٤.
(٢) الطبري ١٢/ ١٦٩، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٤ أ.
(٣) الطبري ١٢/ ١٦٨، الثعلبي ٧/ ٦٨ أ، البغوي ٤/ ٢٢٤، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٥، الرازي ١٨/ ١٠٦.
(٤) هو: إسحاق بن بشر أبو حذيفة البخاري، له كتاب المبتدأ، تركوه وكذبه ابن المديني، وقال الدارقطني: كذاب متروك. توفي سنة ٢٠٦ هـ. انظر: "ميزان الاعتدال" ١/ ١٨٤، و"الأعلام" ١/ ٢٩٤، و"معجم المؤلفين" ١/ ٣٤٠. وانظر: الرازي ١٨/ ١٠٧.
(٥) الطبري ١٢/ ١٦٨، الثعلبي ٧/ ٦٨ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٩٥، ابن عطية ٧/ ٤٦٣.
53
وقوله تعالى: ﴿بِضَاعَةً﴾ البضاعة: القطعة من المال تجعل للتجارة، من: بضعت الشيء، إذا قطعته، قال الزجاج (١): وبضاعة منصوب على الحال، كأنه قال: وأسروه جاعليه بضاعة، [وعلى القول الأول في أسروه، الجاعلون هم الوارده، جعلوه بضاعة على ما بينا وعلى القول الثاني الجاعلون إخوته، جعلوه بضاعة] (٢) حيث باعوه كما تباع الضائع.
قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ قال ابن عباس (٣): يريد بيوسف (٤).
قال أهل المعاني: هذه الآية بيان عما يوجبه حسن تدبير الله تعالى من التسبيب لنجاة من يشاء نجاته.
٢٠ - قوله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ قال ابن عباس (٥) في رواية الكلبي: لما طرح يوسف في الجب وانصرفوا رجعوا بعد ثلاث، يتعرفون خبره، فلما لم يروه في الجب رأوا أثار السيارة اتبعوهم، فحين أبصروا يوسف قالوا: هذا عبدنا أبق منا، فقالوا: لهم فبيعوناه، فباعوه منهم باثنين وعشرين درهمًا، وهم أحد عشر، ونحو هذا قال مجاهد (٦): باع يوسف إخوته باثنين وعشرين درهمًا.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٨.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٤٧.
(٤) في (ج): (يوسف). من غير باء.
(٥) الرازي ١٨/ ١٠٧، ابن عطية ٧/ ٤٦٤ - ٤٦٦.
(٦) الطبري ١٢/ ١٧٣، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٦ أوابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ١٨، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٧، والقرطبي ٩/ ١٥٦، والبغوي ٤/ ٢٢٤، والثعلبي ٧/ ٦٨ ب.
54
قال الزجاج (١): أخذ كل واحد من إخوته درهمين.
وقال ابن عباس (٢) في رواية عطاء: باعوه بعشرين درهمًا، فأخذ كل واحد منهم، إلا يهودا فإنه لم يأخذ شيئًا، وهذا قول ابن مسعود (٣) والسدي (٤)، فذلك قوله ﴿وَشَرَوْهُ﴾ أي باعوه، يقال: شريت الشيء، إذا بعته وإذا اشتريته، قال الشماخ في البيع (٥):
فلما شَرَاهَا فَاضَتِ العَيْنُ عَبْرةً وفي الصَّدْرِ حَزَّازٌ من اللومِ حَامِزُ
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٩٨.
(٢) الطبري ١٢/ ١٧٣، لكنها من رواية ابن جريح، وابن أبي حاتم: ٧/ ٢١١٦ أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ١٩، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٦، والقرطبي ٩/ ١٥٥، والبغوي ٢/ ٢٢٤، والثعلبي ٧/ ٦٨ ب.
(٣) الطبري ١٢/ ١٧٢، الثعلبي ٧/ ٦٨ ب، وابن أبي شيبة والطبراني: وقال في "المجمع" ٧/ ٣٩: ورجاله رجال الصحيح إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه والحاكم: وصححه وابن المنذر كما في "الدر" ٤/ ١٩، والبغوي ٤/ ٢٢٤، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٦، والقرطبي ٩/ ١٥٥.
(٤) الطبري ١٢/ ١٧٢، "زاد المسير" ٤/ ١٩٦، القرطبي ٩/ ١٥٥، الثعلبي ٧/ ٦٨ ب.
(٥) وهو الشماخ بن ضرار الغطفاني، شاعر فحل مخضرم، شهد القادسية وتوفي في خلافة عثمان انظر: "الشعر والشعراء" ص ١٩٥، و"الإصابة " ٢/ ١٥٤، و"الأعلام" ٣/ ١٧٥، "ديوانه" ١٩٠، و"الزاهر" ١/ ٣٧١، ٢/ ٢٥٦، والبيت قاله في رجل باع قوسه من رجل، ومعنى (حامز): عامر وقيل: ممض محرق، ويروى (من الوجد) "اللسان" (حزز) ١/ ٦١٢، القرطبي ٩/ ١٥٥. كتاب: "العين" ٣/ ١٧، ١٦٧، و"تهذيب اللغة" ١/ ٩١٨ (حمز)، و"جمهرة اللغة" (٥٢٩)، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٨، و"مجمل اللغة" ١/ ٢١٢، و"أساس البلاغة" (حزز) ١/ ١٧١.
55
يريد: باعها، وقال قتادة (١) في رواية معمر: السيارة هم الذين باعوه.
وقوله تعالى: ﴿بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ يريد حرام، وهذا قول الضحاك (٢) ومقاتل (٣) والسدي (٤)، وعلى هذا سمى الحرام بخسًا؛ لأنه لا بركة فيه، فهو منقوص البركة.
وقال قتادة (٥): بخس ظلم، والظلم: النقصان، يقال: ظلمه حقه، أي: نقص. وقال عكرمة (٦) والشعبي (٧): قليل.
وقال مقاتل بن حيان (٨): زيوف من دراهم اليمن، وعلى الأقوال كلها، البخس مصدر وضع موضع الاسم، والمعنى: بثمن مبخوس، أي: منقوص البركة؛ لأنه حرام، أو منقوص لقلته عن ثمن مثله، أو منقوص القيمة لأنه زيف.
(١) عبد الرزاق ٢/ ٣٢٠، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٦، والطبري ١٢/ ١٧١، و"الدر" ٤/ ١٨.
(٢) الطبري ١٢/ ١٧١، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ١٨، الثعلبي ٧/ ٦٨ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٩٦، القرطبي ٩/ ١٥٥.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٥٢ أ، الثعلبي ٧/ ٦٨ ب، البغوي ٤/ ٢٢٤.
(٤) الثعلبي ٧/ ٦٨ ب، البغوي ٤/ ٢٢٤، القرطبي ٩/ ١٥٥.
(٥) الطبري ١٢/ ١٧٢، وعبد الرزاق ٢/ ٣٢٠، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ١٨، والقرطبي ٩/ ١٥٥، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٦ ب.
(٦) الطبري ١٢/ ١٧٢، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٦ ب، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ١٨، والبغوي ٢/ ٢٢٤، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٦.
(٧) الطبري وابن المنذر كما في "الدر" ٤/ ١٨، البغوي ٤/ ٢٢٤، "زاد المسير" ٤/ ١٩٦.
(٨) الثعلبي ٧/ ٦٨ ب، وعزاه البغوي لابن عباس وابن مسعود ٤/ ٢٢٤.
56
وقوله تعالى: ﴿دَرَاهِمَ﴾ بدل من الثمن وتفسير له وواحده درهم، ويقال (١): رجل مدرهم، أي: كثير الدراهم.
وقوله تعالى: ﴿مَعْدُودَةٍ﴾ قال ابن إسحاق (٢): كانوا يعدون الدراهم، حتى يبلغ أوقية، فقال الله عزّ وجلّ ﴿دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ﴾، ليعلم أنها أقل من أوقية، وذلك أنهم كانوا في ذلك الزمان لا يزنون ما كان وزنه أقل من أربعين درهماً، إنما كانوا يعدونه عدًّا، وقال أصحاب المعاني (٣): يعني معدودة قليلة، وذكر العدد عبارة عن القلة، وذلك أن الكثير قد يمتنع من عدده لكثرته، والقليل يعد لقلته، وذكرنا الاختلاف في عدد الدراهم.
وقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ قال الليث (٤): الزهد: الزهادة في الدنيا، ولا يقال الزهد إلا في الدين خاصة، والزهادة في الأشياء كلها، ومعنى الزهد قلة الرغبة، يقال: زهد فلان في هذا، إذا لم يرغب فيه، وأصله من القلة، ومنه يقال: رجل زهيد، إذا كان قليل الطُّعْم، رجل مزهد قليل المال، ومصدر قوله ﴿مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ الزهادة لا الزهد، قال ابن عباس (٥): يريد إخوة يوسف، كانوا في يوسف من الزاهدين.
قال الضحاك (٦): لم يعرفوا نبوته، وموضعه من الله، وكرامته عليه،
(١) "تهذيب اللغة" (درهم) ٢/ ١١٨١.
(٢) الطبري ١٢/ ١٧٣، الثعلبي ٧/ ٦٨ ب، و "زاد المسير" ٤/ ١٩٦ عن ابن عباس، القرطبي ٩/ ١٥٦.
(٣) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٤٠، و"مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبه ص ٢١٧.
(٤) "تهذيب اللغة" (زهد) ٢/ ١٥٦٨.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٩٧، القرطبي ٩/ ١٥٧، البغوي ٤/ ٢٢٥.
(٦) الطبري ١٢/ ١٧٤، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٨ أ، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ١٩، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٧.
57
ويجوز أن تعود الكناية في قوله: ﴿فِيهِ﴾ إلى الثمن (١) والمعنى: أن إخوة يوسف كانوا من الزاهدين في الثمن إما لذاته، وإما لأن قصدهم تبعيد يوسف لا الثمن.
قال الزجاج (٢): وقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ (فيه) ليست من صلة الزاهدين؛ لأنها لو كانت من صلته ما جاز أن تقدم عليه، لا يجوز أن تقول: كانوا زيدًا من الضاربين؛ لأن زيدًا (٣) من صلة الضاربين فلا يتقدم الموصول، وهذا في الظروف جائز؛ لأنها أقوى في حذف العامل من غيرها، والتقدير: كانوا زاهدين فيه من الزاهدين، ثم حذف زاهدين الأول؛ لأن العامل في الظروف كثيراً ما يحذف، هذا معنى قوله وبعض لفظه. وأكثر المفسرين (٤) على ما ذكرنا في الآية أن إخوته باعوه.
وقال قتادة (٥): باع يوسف الذين استخرجوه من البئر بعشرين درهمًا.
وقال محمد بن إسحاق (٦): يقال: إن يوسف باعه إخوته، فربك أعلم إخوته باعوه أو السيارة (٧)، وقيل: شروه هاهنا بمعنى اشتروه، أي: السيارة اشتروه من إخوته، وكانوا فيه من الزاهدين؛ لأنهم قالوا لهم: إنه عبد آبق.
(١) "زاد المسير" ٤/ ١٩٧.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٨.
(٣) في (أ)، (ب): (زبدٌ).
(٤) الطبري ١٢/ ١٧٤، و"الدر المنثور" ٤/ ١٨، والبغوي ٤/ ٢٢٥، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٦.
(٥) عبد الرزاق ٢/ ٣٢٠، والطبري ١٢/ ١٧٣، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٦.
(٦) الرازي ١٨/ ١٠٧.
(٧) في (ب): (والسيارة).
58
قال مجاهد (١): كانوا يقولون شددوه لا يأبق، وعلى هذا الزهادة فيه من صفة السيارة، ويجوز أن يعود الكناية في قوله (فيه) إلى الثمن، والمعنى أن السيارة كانوا من الزاهدين في ذلك الثمن، لقلته ورداءته.
٢١ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ﴾ قال جويبر عن الضحاك (٢): الذي اشتراه من مصر هو العزيز ملك مصر.
وقال محمد بن إسحاق (٣) باعه مالك بن ذعر وهو الذي استخرجه من البئر من العزيز وهو اطفير بن روحيب، وكان على خزائن الملك وأمره، وكان الملك في ذلك الدهر الريان بن الوليد رجلاً من العمالقة.
وقال الكلبي عن ابن عباس (٤): العزيز لم يكن الملك، إنما كان وزير الملك وصاحب أمره.
وقال مقاتل بن سليمان (٥): باع مالك بن ذعر من قطفير بن ميشا بعشرين دينارًا، وزاده حلة ونعلين، ومعنى الاشتراء والشراء هاهنا الاستبدال لا المنعقد بيعًا وشراءً كقوله ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى﴾ (٦) وقد مر، وقوله ﴿لِامْرَأَتِهِ﴾ اللام من صلة القول، أي: قال لامرأته.
(١) الطبري ١٢/ ١٨٦، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٧ ب، وابن أبي شيبة: وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ١٨.
(٢) الطبري ١٢/ ١٧٥، القرطبي ٩/ ١٥٨.
(٣) الطبري ١٢/ ١٧٥، القرطبي ٩/ ١٥٨، الثعلبي ٧/ ٦٨ ب.
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٤٨، الثعلبي ٧/ ٦٨ ب.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٥٢ ب.
(٦) البقرة: ١٦، ١٧٥ وقال هناك: حقيقة الاشتراء الاستبدال، وكل شراء استبدال، وليس كل استبدال اشتراء.
59
قال ابن عباس (١) في رواية الكلبي: اسم امرأة العزيز زليخا، وهو قول مقاتل (٢)، وقال شعيب الجبائي (٣): اسمها زليخة، وقال محمد بن إسحاق (٤): اسمها راعيل.
وقوله تعالى: ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ أي أكرمي منزله ومقامه عندك، من قولك: ثويت بالمكان، إذا أقمت به، ومصدره الثواء، يقال: ثوى يثوي (٥) ثوًا. قال ابن عباس (٦): يريد أكرميه ما كان عندك.
نحو هذا قال الزجاج (٧) المعنى: أحسني إليه في طول مقامه عندنا، فالمثوى على هذا بمنزلة الظرف، كأنه قيل: أحسني إليه مدة مقامه عندنا، والمثوى على هذا مصدر، ومن المفسرين من يجعل المثوى الموضع الذي يقيم فيه، وهو قول قتادة (٨) وابن جريج (٩)، وعلى هذا أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه، دون إكرام نفسه فقط، ومعنى الإكرام، إعطاء المراد على جهة الإعظام.
(١) "تنوير المقباس" ص ١٤٨، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٨، والبغوي ٤/ ٢٢٥.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٥٢ ب، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٨.
(٣) لم أجده في مظانه، وهذا القول هو قول مقاتل، وانظر: "زاد المسير" ٤/ ١٩٨، الرازي ١٨/ ١٠٩، البغوي ٤/ ٢٢٥، القرطبي ٩/ ١٥٨.
(٤) الطبري ١٢/ ١٧٥، ابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٧ ب، وانظر: "الدر المنثور" ٤/ ١٩، والثعلبي ٧/ ٦٩ أ، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٨.
(٥) في (ج): (يثوى ثواء) وهو الصحيح كما في "تهذيب اللغة" ١/ ٥١٠.
(٦) انظر: البغوي ٤/ ٢٢٥، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٨، والقرطبي ٩/ ١٥٩.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٨.
(٨) الطبري ١٢/ ١٧٥، الثعلبي ٧/ ٦٩ أ.
(٩) الطبري ١٢/ ١٧٥، الثعلبي ٧/ ٦٩ أ.
60
وقوله تعالى: ﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾ أي يكفينا -إذا بلغ وفهم الأمور (١) - بعض شؤوننا، ﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ قال ابن عباس (٢): [وكان لا يولد له وكان حَصُورًا.
وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس (٣)] (٤) يريد ملكناه في أرض مصر، قال الزجاج (٥): أي: ومثل الذي وصفنا مكنا ليوسف في الأرض. وعلى هذا وجه التشبيه في ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا﴾ أنه شبه التمكين له في الأرض بالتوفيق للأسباب التي صار بها إلى ما صار بالنجاة من الهلاك، والإخراج من البئر، يعني: وكما أنجيناه من إخوته حين هموا بقتله وإهلاكه، وأخرجناه من ظلمة البئر، مكنا له في الأرض حتى بلغ ما بلغ، قال ابن عباس (٦) والمفسرون (٧): يعني أرض مصر.
وقوله تعالى: ﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ اختلفوا في هذه الواو، فقال أكثرهم (٨): إنها مستأنفة وخبرها مضمر على تقدير: ولنعلمه من تأويل الأحاديث فعلنا ذلك، أو مكنا له في الأرض، كقوله تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ
(١) هذه عبارة الثعلبي ٧/ ٦٩ أ.
(٢) القرطبي ٩/ ١٦٠، ابن عطية ٧/ ٤٦٨.
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٤٨، و "زاد المسير" ٤/ ١٩٨.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٩.
(٦) "تنوير المقباس" ص ١٤٨.
(٧) الطبري ١٢/ ١٧٦، البغوي ٢/ ٤١٧، الرازي ١٨/ ١٠٩، "زاد المسير" ٤/ ١٩٨، الثعلبي ٧/ ٦٩ ب.
(٨) انظر: "زاد المسير" ٤/ ١٩٨.
61
الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (٦) وَحِفْظًا} [الصافات: ٦، ٧] أي: وحفظًا زيناها، وعند الكوفيين يجوز أن يكون الواو مقحمة.
وقال بعضهم: هي عاطفة على معنى الكلام المتقدم بتقدير: دبرنا ذلك لنمكنه في الأرض ولنعلمه. وذكرنا معنى (تأويل الأحاديث) عند قوله ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ [يوسف: ٦].
وقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ قال ابن عباس (١) في رواية عطاء: يريد على ما أراد من قضائه، وعلى هذا الكناية في (أمره) تعود إلى اسم الله تعالى وعز، ونحو هذا قال في رواية الكلبي عن أبي صالح (٢) عنه، فالمعنى: أن الله لا يغلبه على أمره غالب، ولا يبطل إرادته منازع فهو قادر على أمره من غير مانع (٣)، وتفسير مقاتل بن سليمان (٤) يدل على أن الهاء عائدة على يوسف، والمعنى: والله غالب على أمر يوسف، فلا يبسط عليه يد عدو، ولا يوصل إليه كيد كائد، لما يريد من رفعه وتمكينه وتبليغه منازل آبائه.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ قال ابن عباس (٥): يريد لا يعلمون غيبي وما أريد بخلقي، وقال غيره (٦): لا يعلمون ما الله بيوسف صانع، وما إليه يوسف صائر، والأكثر هاهنا عبارة عن جميع الناس، لا أحد يعلم ما يأتي في غد، ويجوز أن يقال: إنما قال: (أكثر الناس)؛
(١) البغوي ٢/ ٢٢٦، و"زاد المسير" ١٤/ ١٩٩.
(٢) "تنوير المقباس" ص ١٤٨.
(٣) في (أ)، (ج): (صانع).
(٤) "تفسير مقاتل" ١٥٢ب، و"زاد المسير" ٤/ ١٩٩.
(٥) القرطبي ٩/ ١٩١.
(٦) الطبري ١٢/ ١٧٦، الثعلبي ٧/ ٧٠ أ، البغوي ٤/ ٢٢٦.
62
لأنه يجوز أن يعلمه من أطلعه الله عليه من نبي أو ولي، والأولى أن يقال: ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن قدر الله غالب، وأن مشيئته نافذة في المرادات.
٢٢ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ قال أبو عبيدة (١): [العرب تقول: بلغ فلانٌ أشُدَّه] (٢) إذا انتهى منتهاه في شبا (٣) وقوته، قبل أن يأخذ في النقصان، ليس له واحد من لفظه، يستغنون بها في الواحد والجميع، قالوا: بلغ أشده وبلغوا أشدهم، وقال يونس (٤): واحدها شُد، مثل قولهم: فلان ودي، والجميع أودي، وأنشد للنابغة (٥):
إني كأني لَدَى النُّعْمَان حَدّثَه بَعْضُ الأوُدِّ حَدِيثاً غَيْرَ مَكْذُوبِ
وقد ذكرنا الكلام في الأشد مستقصى في سورة الأنعام عند قوله: ﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ (٦).
وأما التفسير: فروى ابن جريج، عن مجاهد، عن ابن عباس (٧): ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ قال: ثلاثًا وثلاثين سنة.
(١) "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٥.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج).
(٣) في (ب): (شأنه) قلت لعلها شبابه، وهو كذلك في "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٥.
(٤) "تهذيب اللغة" (شُد) ٢/ ١٨٤٣ عن الفراء.
(٥) "ديوانه" ص ٣٥، و"اللسان" (ودد) ٨/ ٤٧٩٤، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٥٨، و"جمهرة اللغة" (١١٥)، و"تاج العروس" (ودد) ٥/ ٣٠٦، وروى بلفظ (خبره).
(٦) الأنعام (١٥٢) وقد نقل هناك عن جماعة من أهل اللغة في بيان معنى الأشد، خلاصة ما ذكروه أنه بمعنى القوة والجلادة، ومبلغ الرجل الحنكة والمعرفة.
(٧) الطبري ١٢/ ١٧٧ قال: بضعًا وثلاثين. وقد أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٨ أ، وابن الأنباري في كتاب: "الأضداد" والطبراني في "الأوسط" وابن مردويه كما في "الدر" ٤/ ٢٠، والرازي ١٨/ ١١٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢٠٠.
63
وروى عثمان بن خثيم عن مجاهد عن ابن عباس (١) ثلاثين سنة، ومجاهد (٢) يقول في رواية ابن أبي نجيح: ثلاثًا وثلاثين سنة، وقال في رواية عطاء. يريد الحلم (٣).
وقال الضحاك (٤): عشرين سنة، وقال مقاتل (٥): ثمان عشرة سنة، وقال الزجاج (٦): الأشد من نحو سبعة عشر (٧) سنة إلى نحو الأربعين.
وقوله تعالى: ﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ وقال في قصة موسى ﴿وَاسْتَوَى﴾ [القصص: ١٤] قالوا في معناه: بلغ الأربعين، ولم يقل هاهنا استوى؛ لأن موسى بلغ أربعين سنة حين أوحى إليه وهو منتهى الأشد، فأما يوسف فقد أوحى إليه قبل الأربعين، وأما تفسير قوله: ﴿حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ فقال عطاء عن ابن عباس (٨): يريد عقلاً وفهمًا.
وقال الكلبي (٩): والحكم النبوة، والعلم علم الدين، وعلى هذا القول يجب أن يحمل الأشد هاهنا على دون العشرين؛ لأن العلماء على أن
(١) هذه الرواية ذكرها الطبري بلفظ بضعًا وثلاثين سنة ١٢/ ١٧٧.
(٢) الطبري ١٢/ ١٧٧، "زاد المسير" ٤/ ٢٠٠، الثعلبي ٧/ ٧٠ ب، البغوي ٤/ ٢٢٦ ابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٨.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٠٠ ونسبه إلى الشعبي وربيعة وزيد بن أسلم وابنه، وكذا ابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٩ عنهم.
(٤) الطبري ١٢/ ١٧٧، الثعلبي ٧/ ٧٠ ب، "زاد المسير" ٤/ ٢٠٠، البغوي ٤/ ٢٢٦.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٥٢ب، وأخرجه ابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٩ عن سعيد بن جبير.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٩.
(٧) كذا في النسخ والصواب: سبع عشرة.
(٨) أخرجه الطبري وابن أبي حاتم ٧/ ٢١١٩ عن مجاهد بنحوه انظر: "الدر" ٤/ ٢٠، الثعلبي ٧/ ٧٠ ب.
(٩) القرطبي ٩/ ١٦٢، و"زاد المسير" ٤/ ٢٠٠.
64
يوسف أعطى النبوة وأوحي إليه في البئر، ومن فسر الأشد بثلاث وثلاثين سنة قال: معناه أنه لما بلغ هذه السن زدناه علمًا وفهمًا بعد النبوة.
قال ابن الأنباري (١): قال اللغويون الحكم والحكمة أصلها حبس النفس عن هواها ومنعها مما يشينها (٢). فجائز أن يعني بهما النبوة، وممكن أن يعبرا عن العقل والفهم؛ لأن كل واحد من الثلاثة يحبس النفس على رشدها ويبعدها عن غيها.
وقال أبو إسحاق (٣) في قوله ﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾: أي جعلناه حكيمًا عالمًا، وليس كل عالم حكيمًا، الحكيم: العالم المستعمل علمه، الممتنع من استعمال ما يجهل فيه.
وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي مثل ما وصفنا من تعليم يوسف ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ قال ابن عباس (٤): يريد نفعل بالموحدين، وقال أبو روق عن الضحاك (٥): يعني: الصابرين عن النوائب، كما صبر يوسف.
٢٣ - قوله تعالى ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾ يعني: امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها، طلبت منه أن يواقعها، يقال: راود فلان جاريته عن نفسها، وروادته هي عن نفسه، إذا حاول كل واحد من صاحبه الوطء والجماع، ومعنى المراودة في اللغة: المطالبة بأمر للعمل به، قال الزجاج (٦): المعنى أنها راودته عما يريد النساء من الرجال.
(١) الرازي ١٨/ ١١١.
(٢) في (ج): (لا تشتهي).
(٣) "معاني القرن وإعرابه" ٣/ ٩٩.
(٤) أخرج الطبري عن ابن عباس قوله ﴿الْمُهْتَدِينَ﴾ في: "الدر" ٤/ ٢٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢٠١.
(٥) الثعلبي ٧/ ٧٠ ب، القرطبي ٩/ ١٦٢.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٩.
65
وقوله تعالى: ﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾ أي أغلقتها، وأصل (١) هذا من قولهم في كل شيء نَشَبَ في شيء فلزمه: قد غلق، يقال: غلق في الباطل، وغلق في غضبه، ومنه: غلق الذهن، ثم يعدّى ما بالألف فيقال: أغلق الباب، إذا جعله بحيث يعسر فتحه، واغلاق القاتل إسلامه إلى ولي المقتول، وذلك أنه صبر بحيث لا يفك منه بعد ذلك، وقد نشب في حيث لا منجا له (٢)، قال المفسرون (٣): وإنما قال (غَلَّقت) على التكثير؛ لأنها غلقت سبعة أبواب ثم دعته إلى نفسها.
وقوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ هيت: اسم للفعل نحو: رويد، وصه، ومه، وبابه، ومعناه: هلم في قول جميع أهل اللغة (٤)، قال الفراء: ولا مصدر له ولا تصرف، قال الأخفش: هيت لك، مفتوحة الهاء والتاء معناها: هلم، ويجوز كسر التاء ورفعه، وكسر بعضهم الهاء وفتح التاء، كل ذلك بمعنى واحد، قال أبو الفضل المنذري: أفادني ابن اليزيدي (٥) عن أبي زيد قال: هيت لك بالعبرانية هيتا لج (٦) أي: تعاله، أعربه (٧) القرآن.
(١) "تهذيب اللغة" (غلق) ٣/ ٢٦٨٦.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٨٦، و"لسان العرب" ٦/ ٣٢٨٣.
(٣) الثعلبي ٧/ ٧١ أ، الطبري ١٢/ ١٧٩، البغوي ٤/ ٢٢٧.
(٤) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨١٦ (هيت)، و"لسان العرب" ٨/ ٤٧٣٢ (هيت)، و"مجاز القرآن" ١/ ٣٠٥.
(٥) ابن اليزيدي هو: أبو جعفر أحمد بن محمد اليزيدي، كان متقنًا للعلوم، رواية للشعر والأخبار، شاعرًا، توفي قبل سنة ٢٦٠ هـ. انظر: "تاريخ العلماء النحويين" ص ٢٢٥.
(٦) في (أ)، (ب): (هنالخ) والصحيح ما أثبته كما في "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨١٦.
(٧) في (ج): (إعرابه).
66
وقال الفراء (١): إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها (٢).
قال ابن الأنباري (٣): وهذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران، كما اتفقت العرب والروم في القسطاس، [ولغة العرب والفرس في السجيل، ولغة العرب والترك في الغساق] (٤)، ولغة العرب والحبشة في ناشئة الليل، في حروف كثيرة، قال: ولا تثنية في هيت ولا جمع ولا تأنيث، يقال للرجلين: هيت لكما، وللجماعة هيت لكم، وللنسوة هيت لكن، ويقال: قد هيت الرجل، إذا قال لصاحبه: هيت وهلم.
وأنشد لطرفه (٥):
هيت الفِتْيَان في مَجْلِسِنَا جَرَّدُوا منها وِرَادًا وشُقُرْ
وقال أيضاً (٦):
ليس قَوْمِي بالأبْعَدِين إذا ما قَالَ دَاعٍ من العَشِيرَةِ هَيْتا
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٤٠.
(٢) ما سبق من "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨١٦ - ٣٨١٧. بتصرف.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٠٢، الرازي ١٨/ ٩١.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج).
(٥) والبيت روي بـ (أيها) بدل: هيت، انظر: "ديوانه" ٦٣، و"التكملة" ص ٢٥٥، و"الخزانة" ٤/ ١٠٢، و"الخصائص" ٢/ ٣٣٥، و"شرح شواهد الإيضاح" ص ٥٨١، و"شرح المفصل" ٥/ ٦٠، وبلا نسبة في "المحتسب" ١/ ١٦٢، و"اللسان" (غلف) ٦/ ٣٢٨٢.
(٦) البيت من الخفيف وقد نسبه الواحدي إلى طرفة وليس في ديوانه، وقد نسب إلى طرفة بمثل رواية الواحدي في القرطبي ٩/ ١٦٤، و"النكت والعيون" ٣/ ٢٣، ونسب إلى طرفة، ولكن برواية (هَيتُ) بفتح الهاء وضم التاء في الطبري ١٢/ ١٨١ (العلمية)، و"معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ١٠٠، و"المحتسب" ١/ ٣٣٧، و"مجمع البيان" ٥/ ٣٤٠.
67
قال: وللعرب فيها لغات أجودها فتح الهاء والتاء، وهي قراءة العامة (١).
قال الزجاج (٢): لأنها بمنزلة الأصوات، ليس فيها فعل يتصرف، ففتحت التاء لسكونها وسكون الياء، واختير الفتح لأن قبل التاء ياءً، كما قالوا: كيف وأين، ومن كسر التاء (٣)، فلأن أصل التقاء الساكنين حركة الكسر، ومن ضمها (٤)، فلأنها في موضع معنى الغايات كأنما قالت: دعائي لك، فلما حذفت الإضافة وتضمنت هيت معناها، بنيت على الضم، كما بنيت حيث، ومنذ، ومن كسر الهاء (٥) وضم التاء فهو على لغة قوم يؤثرون كسر الهاء على فتحها.
قال أبو علي الفارسي (٦): قال أبو عبيدة: هيت لك، هلم لك، وأنشد لرجل (٧):
أبْلِغْ أمير المؤمنين أخَا العِرَاقِ إذا انْتَهَيْتا
أنَّ العِرَاقَ وأهْلَه عنق إليك فهَيْتَ هَيْتَا
أي: هلم إليها، قال أبو علي: قولهم: هيت فلان بفلان إذا دعاه،
(١) "السبعة" ٣٤٧، و"النشر" ٣/ ١٢٥، و"إتحاف" ص ٢٦٣ وهي قراءة عاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٠.
(٣) قرأ بها ابن محيصن.
(٤) وهي قراءة ابن كثير.
(٥) رواها هشام بن عمار بإسناده عن ابن عامر مع الهمز (هِئتُ) على معنى تهيأتُ لك.
انظر: "السبعة" ٣٤٧، و"إتحاف" ص ٢٦٣.
(٦) "الحجة" ٤/ ٤١٧، بتصرف. "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٥.
(٧) في "مجاز القرآن" ١/ ٢٧٩، و"المفصل" ٤/ ٣٢، و"اللسان" (هيت) ٨/ ٤٧٧٢، و"حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٣٥٧، و"جمهرة اللغة" ٢٥١، ٤٤٠.
68
ينبغي أن يكون مأخوذًا من قولهم: هيت لك، كما أن قولهم: أفف، مأخوذ من أف، وجعلوها بمنزلة الأصوات لموافقتها لها في البناء، فاشتقوا منها كما يشتقون الأصوات نحو: دع دع، وسبح، إذا قال: سبحان الله، ولبَّا إذا قال: لبيك، قال: ومثل هذه الكلمة في أن الأخير قد جازت فيه الحركات لالتقاء الساكنين قولهم: كان في الأمر ذَيْتُ وذْيتَ وذيْتِ، قال: و (لك) في قوله ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ للتبيين بمنزلة (لك) في قولهم: هلم لك، والكاف في قولهم رويدك (١)، ومعاك، وأما (٢) ما روى هشام (٣) عن ابن عامر (هئتُ لك) بكسر الهاء والهمزة وضم التاء، فإنها فعلتُ من الهيئة، والضاء ضمير الفاعل.
قال أبو زيد: هئتُ للأمر هَيئة وتهيأت (٤)، ونظير هذا: فئتُ وتفياتُ، بمعنى رجعت، ويجوز على هذا المعنى تخفيف الهمزة كما يخفف من جئت وشئت. وأنكر (٥) أبو عمر (٦) والكسائي هذه القراءة (٧) وقالا: هئْتُ بمعنى تهيئت باطل، لم يحك عن العرب.
(١) في (ب): (ويدك) من في غير راء.
(٢) في (ج): (وأماها روى). بالهاء.
(٣) هشام بن عمار بن نصير، ابن ميسرة السلمي، أبو الوليد، قاض من القراء المشهورين، من أهل دمشق. قال الذهبي: خطيبها ومقرئها ومحدثها وعالمها، توفي سنة ٢٤٥ هـ انظر: "غاية النهاية" ٢/ ٣٥٤، و"ميزان الاعتدال" ٥/ ٤٢٧، و"الأعلام" ٨/ ٨٧.
(٤) في (أ)، (ب): (وهيأت).
(٥) في (أ)، (ج): (وانكسر).
(٦) في (ج): (وأبو عمروا أو الكسائي).
(٧) "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٥، والطبري ١٢/ ١٨١، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٤١٠، والثعلبي ٧/ ٧١ أ.
69
فأما قول المفسرين في هذا، فروي أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس (١): أخبرني عن قول الله عزّ وجلّ ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ قال: معناه، هلم لك، هو قول الحسن (٢) وابن زيد (٣) وعامة أهل التفسير، وروى وكيع عن النضر ابن عربي عن عكرمة في قوله ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ قال: هلم، وزاد وكيع: وهو بالحورانية (٤).
وقال محمد بن إسحاق (٥): معناه فأنا لك، فقال يوسف عند ذلك: معاذ الله.
قال أبو إسحاق (٦): المعنى: أعوذ بالله أن أفعل هذا، ومعاذ مصدر تقول: عذت عياذًا ومعاذًا ومعاذه، ومعناه: أعتصم بالله من هذا، وتقديره في الكلام: أعوذ معاذًا بالله، فحذف الفعل ونصب المصدر بالفعل المحذوف المراد، وأضيف [المصدر إلى اسم الله تعالى، كما يضاف] (٧) المصدر إلى المفعول، ومثله من الكلام: مررت بعمرو مرور زيد، على أن زيدًا ممرور به، والمعنى: كمروري (٨) يزيد، ومثله:
(١) في مسائل نافع بن الأزرق: تهيأت لك، و"الإتقان" ١/ ١٦٧، وهذا التفسير في صحيفة علي بن أبي طلحة ٢٩١، وهو في الطبري ١٢/ ١٧٩، وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢١، وابن المنذر كما في "الدر" ٤/ ٢١.
(٢) الطبري ١٢/ ١٧٩، القرطبي ٩/ ١٦٤.
(٣) الطبري ١٢/ ١٨٠.
(٤) الطبري ١٢/ ١٧٩.
(٥) في الطبري ١٢/ ١٨٠ عن ابن إسحاق قال: تعال. وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٢ وفيه تعالى فأنا لك.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠١.
(٧) ما بين المعقوفين مكرر في (ب).
(٨) في (ب): (لمروري).
70
ولسْتُ مُسَلِّمًا ما دُمْتُ حيًّا على زَيْدٍ كتَسْلِيم (١) الأمِيرِ (٢)
أي: كتسليمي على الأمير، وقد مر.
وقولى تعالى: ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ يعني زوجها، في قول مجاهد (٣) وابن إسحاق (٤) والكلبي (٥) والسدي (٦) وأكثر المفسرين (٧)، ومعناه: إن الذي اشتراني هو سيدي أنعم علي بإكرامي، فلا أخونه في حرمه، إن فعلت ذلك كنت ظالمًا، ولا يفلح الظالمون.
قال أبو إسحاق (٨): ويجوز أن يكون المعنى: إن الله ربي أحسن مثواي، أي تولاني في طول مقامي، فلا أرتكب ما قد نهى عنه وحرمه، ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ قال ابن عباس: لا يسعد العاصون، وقيل: الزناة، وهو قول الكلبي (٩)، ومضى الكلام في معنى مثواي آنفًا.
٢٤ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا﴾ الآية، الهم مصدر هممت (١٠) بالشيء إذا أردته، وحدثتك نفسك به وقاربته من غير دخول فيه، كل هذا يكون هَمًّا بالشيء، فمعنى قوله: ﴿هَمَّتْ بِهِ﴾ أي أرادته وقصدته،
(١) في (أ)، (ب): (لتسليم).
(٢) لم أجده.
(٣) الطبري ١٢/ ١٨٣، القرطبي ٩/ ١٦٥، ابن عطية ٧/ ٤٧٥.
(٤) الطبري ١٢/ ١٨٣، القرطبي ٩/ ١٦٥، ابن عطية ٧/ ٤٧٥.
(٥) "تنوير المقباس" ص ١٤٨.
(٦) الطبري ١٢/ ٦٨٣، القرطبي ٩/ ١٦٥، ابن عطية ٧/ ٤٧٥.
(٧) الثعلبي ٧/ ٧٢ أ، البغوي ٤/ ٢٢٨، "زاد المسير" ٤/ ٢٠٣.
(٨) في "معاني القرآن" خلاف ذلك ٣/ ١٠١ لأنه قال: (أي إن العزيز ربي).
(٩) "تنوير المقباس" ص ١٤٨، الثعلبي ٧/ ٧٢ أ، "زاد المسير" ٤/ ٢٠٣.
(١٠) في (أ)، (ج): (همت) بميم مشددة.
71
وأما معنى هم يوسف بها، فقال المفسرون الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم: هَمّ (١) يوسف أيضًا بهذه المرأة همًا صحيحًا، وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلما رأى البرهان من ربه زالت عنه كل شهوة، قال الباقر بإسناده عن آبائه (٢) عن علي (٣) - رضي الله عنه - قال: طمعت فيه وطمع فيها، وكان طمعه فيها أنه هم أن يحل التكة.
وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس (٤) قال: حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، ونحو هذا قال في رواية عطاء، وروي عنه أيضًا (٥) أنه سئل: ما بلغ من هم يوسف؟ قال: استلقت له وقعد بين رجليها ينزع ثيابه، ونحو هذا قال سعيد بن جبير (٦) ومجاهد (٧) والضحاك (٨)
(١) (هم) ساقط من (أ)، (ج).
(٢) (عن آبائه): ساقط من (ج)، والباقر هو: أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي الهاشمي، ثقة حافظ، كان يتولى الشيخين، روى له الجماعة، توفي سنة ١١٤هـ. انظر: "التهذيب" ٣/ ٦٥٠ - ٦٥١، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ٤٠١.
(٣) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" ٣/ ١٨١، انظر: "الدر" ٤/ ٢٢.
(٤) الطبري ١/ ١٨٣ وأبو الشيخ وأبو نعيم في "الحلية" كما في "الدر" ٤/ ٢٢، الثعلبي ٧/ ٧٢ أ، البغوي ٤/ ٢٢٨، القرطبي ٩/ ١٦٦.
(٥) عبد الرزاق ٢/ ٣٢١، والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير ١٢/ ١٨٣، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٣ وأبو الشيخ والحاكم وصححه كما في "الدر" ٤/ ٢٢، الثعلبي ٧/ ٧٢ أ، القرطبي ٩/ ١٦٦.
(٦) الطبري ١٢/ ١٨٤ وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٢ وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٣، والثعلبي ٧/ ٧٢ أ، البغوي ٤/ ٢٢٨، "زاد المسير" ٤/ ٢٠٣، القرطبي ٩/ ١٦٦.
(٧) عبد الرزاق ٢/ ٣٢١، والطبري ١٢/ ١٨٤، وابن المنذر انظر: ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٣ بمعناه وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٢ - ٢٣، الثعلبي ٧/ ٧٢ أ، البغوي ٤/ ٢٣٢، القرطبي ٩/ ١٦٦.
(٨) الطبري ١٢/ ١٨٥، الثعلبي ٧/ ٧٢ أ، "زاد المسير" ٤/ ٢٠٣.
72
والسدي (١) ومحمد بن إسحاق (٢).
وقوله تعالى: ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ قال الباقر بإسناده عن علي (٣) -رضي الله عنه- قال: قامت المرأة إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته (٤) بثوب، فقال يوسف: أي شيء تصنعين؟ قال: أستحي من إلهي هرا أن يراني على السوء، فقال: أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع، ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت، فوالله لا تنالينها مني أبداً، قال فهو البرهان الذي رآه.
وقال ابن عباس (٥) وعامة المفسرين: مثل له يعقوب فرأى صورته عاضًّا على أصابعه يقول: أتعمل (٦) عمل الفجار وأني مكتوب في الأنبياء، فأستحي منه، وهذا قول عكرمة (٧) ومجاهد (٨) والحسن (٩) وسعيد بن
(١) الثعلبي ٧/ ٧٢ أ، والبغوي ٤/ ٢٣٢، و"زاد المسير" ٤/ ٢٠٣، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٣.
(٢) الثعلبي ٧/ ٧٢ أ، البغوي ٤/ ٢٢٨، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٣.
(٣) أخرجه أبو نعيم في "الحلية"، انظر "الدر" ٤/ ٢٤.
(٤) في (ج): (فسرته).
(٥) عبد الرزاق ٢/ ٣٢١، والطبري ١٢/ ١٨٧، وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٤، وأبو الشيخ والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٤٦ وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وانظر: "الدر" ٤/ ٢٤.
(٦) في (أ)، (ج): (العمل)، (وأنت) ساقط من (أ)، (ب)، (ج).
(٧) الطبري ١٦/ ٤٢، وابن أبي حاتم ٧/ ١١٢٤، وأبو الشيخ كما "الدر" ٤/ ٢٣، والثعلبي ٧/ ٧٤ أ.
(٨) عبد الرزاق ٢/ ٣٢١، الثعلبي ٧/ ٧٤ أ، الطبري ١٢/ ١٨٨.
(٩) عبد الرزاق ٢/ ٣٢١، والطبري ١٢/ ١٨٩، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٣، والثعلبي ٧/ ٧٤ أ.
73
جبير (١) وقتادة (٢) والضحاك (٣) وابن سيرين (٤) ومقاتل (٥)، قال سعيد بن جبير: مثل له يعقوب فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله.
وقال ابن عباس (٦) في رواية ابن أبي مليكة: إنه لم يزدجر برؤية صورة يعقوب حتى ركضه جبريل في ظهره، فلم يبق فيه شهوة إلا خرجت، فوثب واستبقا الباب، هذا الذي ذكره قول أئمة المفسرين الذي أخذوا التأويل عمن شاهدوا التنزيل، وأما المتأخرون فإنهم ذكروا في الآية أوجهًا قصدوا بها تنزيه يوسف عن الهم الفاسد.
أخبرنا أبو الفضل العروضي (٧) قال أخبرني الأزهري عن المنذري عن ثعلب أنه سئل عن هذه الآية فقال: همت زليخا بالمعصية مصرة على ذلك، وهم يوسف بالمعصية ولم يأتها ولم يصر عليها، فبين الهمين فرق.
وشرحه ابن الأنباري (٨) فقال: همت المرأة عازمة على الزنا قاصدة قصده، ويوسف عارضه ما يعارض البشر من خطرات القلب، وحديث
(١) الطبري ١٢/ ١٨٧، ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٥، أبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٣، الثعلبي ٧/ ٧٤ أ.
(٢) عبد الرزاق ٢/ ٣٢١، الطبري ٢/ ١٠٩، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٥، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٣، الثعلبي ٧/ ٧٤ ب.
(٣) الطبري ١٢/ ١٩٠، و"الدر" ٤/ ٥٢٤، وا لثعلبى ٧/ ٧٤ أ.
(٤) الطبري ١٢/ ١٨٩، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٤، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٣، والثعلبي ٧/ ٧٤ أ.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٥٢ ب.
(٦) انظر ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٤ بمعناه.
(٧) هو أبو الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي، سبقت ترجمته في شيوخ المؤلف. انظر: "تهذيب اللغة" (همم) ٤/ ٣٧٩٨.
(٨) "زاد المسير" ٤/ ٢٠٣.
74
النفس ووسوسة الشيطان، فكان هامًا غير عازم، فلم يلزمه هذا الهم ذنبًا، ولم يلحقه عتبًا، إذ الرجل الصالح يخطر بقلبه وهو صائم شرب الماء البارد، والتلذذ بأكل الطعام الطيب، فإذا لم الهمّ لم يوجب معصية، فبرهان ربه عن أي شيء صرفه؟ قيل: إنه وإن لم يوجب معصية، فالنبيون والصديقون يعاتبون على الخطرة واللمحة والوسوسة، وبرهان ربه صرفه عن الإقامة على (١) الشيء الذي التمادي فيه يؤدي إلى اكتساب ما يوجب عقوبة، فهذه طريقة.
وقال آخرون (٢): الآية محمولة على التقديم والتأخير، وتلخيصها: ولقد همت به لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فقدم جواب لولا عليها، كما يقال: قد كنت من الهالكين لولا أن فلانًا خَلّصك، ومثله قول الشاعر (٣):
فلا يَدْعُنِي قَوْمي صَرِيحًا لحُرَّةٍ لئن كنتُ مقتولًا ويَسْلَمُ عامرُ
فقدم جواب لئن، قال أبو إسحاق (٤): وليس بكثير في الكلام أن تقول: ضربتك لولا زيد، ولا هممت بك لولا زيد، إنما الكلام: لولا زيد لهممت بك، ولولا تجاب باللام، فلو كان في القراءة: ولقد همت به ولهم بها لولا أن رأى برهان ربه، لكان يجوز على بعد.
(١) في (ج): (عن).
(٢) الثعلبي ٧/ ٧٢ ب، البغوي ٤/ ٢٢٩، "زاد المسير" ٤/ ٢٠٥.
(٣) القائل قيس بن زهير، في سيبويه والشنتمري ١/ ٤٢٧، و"الرد على النحاة" (١٥٠)، و"الدر" ٢/ ١٠، وهو الورقاء بن زهير في ابن السيرافي ص ٥٨٦، وبلا نسبة في "معاني القرآن" ١/ ٦٧، و"الهمع" ٢/ ١٦، و"أمالي المرتضي" ١/ ٤٨٠.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠١.
75
وقال أبو بكر (١): تقديم جواب لولا عليها شاذ يستكره، وغير موجود في الفصيح من الكلام، وأما البيت فإنه من اضطرار الشعر، ولا ينبغي أن يحمل كتاب الله تعالى النازل بأفصح اللغات على بيت شعر دعت شاعره ضرورةٌ إلى تقديم ما هو مؤخر في النية، مما لو كان متكلمًا بنثر لم يستجز تقدمته، على أنا نقول: جواب لأن يتقدم عليها لأن مجراه مجرى اليمين، فلما صلح إتيان القسم بعد المقسم عليه في قولهم: يقوم زيد والله، حملت لئن على القسم فأخرت بعد جوابها، و (لولا) ليست قسمًا ولا مشبهة بالأقسام فسبق جوابها بعيد مُسْتَسْمج.
قال أبو إسحاق (٢): والذي عليه المفسرون أنه هم بها، وأنه جلس منها مجلس الرجل من المرأة، إلا أن الله تفضل بأن أراه البرهان، ألا تراه قال: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ الآية، يعني بهذا ما روي أن يوسف لما دخل على الملك، وأقرت المرأة بقولها: ﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ﴾، وقال يوسف: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾، قال له جبريل: ولا حين هممت بها يا يوسف؟، فقال يوسف عند ذلك: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ (٣) الآية.
وقال أبو بكر (٤): والذي نذهب إليه في هذه الآية ما يروى عن الصحابة والتابعين من تثبيت الهم ليوسف غير عائبين له ولا طاعنين، بل نقول: إن انصرافه بعد ثبات الهم وحل السراويل، وجلوسه من المرأة
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٠٦.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠١.
(٣) أخرجه الفريابي والطبري ٤/ ٤٢ - ٤٣، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٥٨، وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب كما في "الدر" ٤/ ٤٢ - ٤٣.
(٤) "الأضداد" ٤١١ - ٤١٤، و"الوقف والابتداء" ٢/ ٧٢٠ - ٧٢١، و"زاد المسير" ٤/ ٢٠٣ - ٢٠٧، والقرطبي ٩/ ١٦٦.
76
مجلس الرجل، تعظيمًا لله ومعرفة لحقه، أدل على محافظته على مذهب آبائه، وعلي وفور الثواب وتكامل الأجر له عند إيثار الطاعة على اللذة؛ لأنه انكشف عن المرأة في الحال التي لا ينكشف فيها إلا بَرٌّ مخلص، فكان انكشافه وصبره ماحيًا عنه سيئة الهم، وموجبًا له حسنات مضاعفات بالحديث الصحيح الذي روي في حديث الغار (١) وهو أن ثلاثة لجأوا إلى غار، فانطبق عليهم، فذكر كلُّ رجل أفضل عمله، فذكر أحدهم أنه قام عن امرأة بعد ما قدر عليها، ففرج الله عنهم، والحديث طويل معروف، فدلَّ أن الهم بالزنا إذا أتبعه الانصراف بعد القدرة عليه، لم يكن من الفواحش ولا من الكبائر، مع أن الذين ثبتوا (٢) الهم ليوسف من علي، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، ووهب، وابن سيرين، والحسن، وقتادة، والكلبي (٣) وغيرهم كانوا أعرف بحقوق الأنبياء وارتفاع منازلهم عند الله من الذين نفوا الهم عنه، وقد قال الحسن (٤): إن الله لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييرًا لهم، ولكنه قصها عليكم لئلا تقنطوا من رحمته وتيأسوا من فضله.
قال أبو عبيد (٥): يذهب الحسن إلى أن الحجة من الله عزّ وجلّ على أنبيائه أوكد وهي لهم ألزم، فإذا كان يقبل التوبة منهم كان إلى قبولها منكم أسرع.
(١) أخرجه البخاري (٣٤٦٥)، كتاب: الأنبياء، باب. حديث الغار، وأخرجه مسلم (٢٧٤٣) في كتاب: الرقاق، باب: قصة أصحاب الغار.
(٢) في (ب): (بينو).
(٣) (الكلبي): ساقط من (ج).
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢٠٧، البغوي ٤/ ٢٣١، القرطبي ٩/ ١٦٧.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٢٠٧.
77
وقوله تعالى: ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ قال أبو إسحاق (١): جوابه محذوف، المعنى لولا أن رأى برهان ربه، لأمضى ما هم به.
وقال أبو بكر (٢) تلخيصه: لولا أن رأى برهان ربه لزنا، وحذف جواب (لولا) كثير في القرآن، ومثله ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ﴾ [التكاثر: ٥]، جوابه: لم تنافسوا وتفاخروا بالدنيا وهو كثير.
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ﴾ قال أبو إسحاق (٣) أي كذلك أريناه البرهان لنصرف عنه السوء والفحشاء.
وقال صاحب النظم: هذا على التقديم والتأخير، التقدير: ولقد همت به وهم بها (كذلك) أي كما همت به، وقوله ﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ معترض بينهما واتصاله بقوله: ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾ أي أريناه البرهان لنصرف عنه ما هَمَّ به من السوء والفحشاء.
قال ابن زيد (٤): السوء القبيح، والفحشاء الزنا. وقال الزجاج (٥): السوء خيانة صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة. وقال عطاء (٦): السوء والفحشاء عبارتان عن الزنا كله باللسان والفرج واليد وجميع الفرج.
عن ابن عباس ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ أي (٧) الذين أخلصوا دينهم لله، ومن فتح اللام أراد الذين أخلصهم الله من الأسواء.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠١.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٠٧.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٢.
(٤) البغوي ٤/ ٢٣٤، القرطبي ٩/ ١٧٠ من غير نسبة.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٢.
(٦) انظر: الرازي ١٨/ ١٢١.
(٧) هذا قول الزجاج انظر "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٢.
78
٢٥ - قوله تعالى: ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾ الاستباق (١) طلب السبق إلى الشيء، ومعناه: تبادر إلى الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه، فإن سبق يوسف المرأة فتح الباب وخرج، وإن سبقت المرأة أمسكت الباب (٢)، [لئلا يخرج، فالاستباق هنا بمعنى المبادرة، قال أبو إسحاق: أي سبق إلى الباب] (٣).
قال المفسرون (٤): إن يوسف لما رأى البرهان قام مبادرًا إلى الباب هاربًا مما أراد به، واتبعته المرأة تبغي حبسه والتشبث به، فلم تصل إلا إلى دبر القميص فقدته، ووجدا قطفير عند الباب، فحضرها في ذلك الوقت كيد لما فاجأت سيدها لدى الباب، فقالت مُبرئةً نفسها من الأمر، وملزمة يوسف الذنب، وموهمة زوجها أن الذي سمع من العَدْو والمبادرة إلى الباب والهرب كان منها لا من يوسف ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا﴾ الآية، فذلك قوله ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ﴾ أي: قطعته طولاً، ومعنى القد في اللغة (٥): قطع الجلد وشق الثوب ونحو ذلك، وشيء حسن النقد، أي: حسن التقطيع.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ دُبُرٍ﴾ أي من جهة الخلف، قال ابن الأنباري: المعنى من دبر القميص، وكان معنى القميص معروفًا، فأوثر التخفيف، قال ابن عباس (٦): وشقت قميصه من خلفه.
(١) "تهذيب اللغة" (سبق) ٢/ ١٦٢٠.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٢.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج).
(٤) الثعلبي ٧/ ٧٦ ب، البغوي ٤/ ٢٣٤، و"زاد المسير" ٤/ ٢١١.
(٥) "تهذيب اللغة" (قدد) ٣/ ٢٨٩٥، و"اللسان" (قدد) ٦/ ٣٥٤٣.
(٦) الثعلبي ٧/ ٧٦ ب.
وقوله تعالى: ﴿وَأَلْفَيَا﴾ أي أدركا وصادفا، قال ذو الرمة (١):
ألْفَى أبَاه بدال الكَسْب يَكْتَسِبُ
وقوله تعالى: ﴿سَيِّدَهَا﴾ قال ابن عباس والكلبي وغيرهما (٢): زوجها، وقالت المرأة سابقة بالقول: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا﴾ قال ابن عباس: يريد الزنا، مثل قوله: ﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ﴾ أي: يحبس في السجن، ﴿أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يعني الضرب بالسياط، وعطف العذاب على قوله: ﴿أَنْ يُسْجَنَ﴾؛ لأنه بمعنى السجن، وقد مر، وهذه الآية بيان عن ما يوجبه مكر النساء من البهت، بطرح الجرم على غير صاحبه لتبرئة النفس من ذلك.
٢٦ - قوله تعالى: ﴿قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ قال نوف: أحْسَبُها الشيباني هكذا في الطبري (٣): ما كان يوسف يريد أن يذكره، فلما سبقت هي بطرح الجرم عليه غضب يوسف، وقال: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا﴾ اختلفوا في هذا الشاهد، فقال ابن عباس (٤)، في رواية عطاء وابن أبي مليكة: كان رجلاً حكيمًا من أقارب المرأة.
(١) انظر: "ديوانه" ٩٩، و"الدر المصون" ١/ ٦٩٧.
(٢) أخرجه الطبري ١٢/ ١٩٢ عن زيد بن ثابت. وأخرجه الطبري ١٢/ ١٩٢ وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٧، وأبو الشيخ عن مجاهد كما في "الدر" ٤/ ٢٥، و"تنوير المقباس" ص ١٤٨.
(٣) الطبري ١٢/ ١٩٣ عن نوف الشيباني، والثعلبي ٧/ ٧٦ ب، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٧، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٥.
(٤) الثعلبي ٧/ ٧٧ أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢١١.
80
وهو قول الحسن (١)، وعكرمة (٢)، وقتادة (٣)، والضحاك (٤)، ومجاهد (٥) برواية منصور، ومحمد بن إسحاق (٦) قال: كان رجلاً يشاوره أطفير ويسمع قوله، وعلى هذا فمعنى قوله: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ﴾ أي أعلم معلم، وبين مبين، وقال قائل، غير أن هذا القول والإعلام لما كان كالبينة استعمل فيه لفظ الشهادة، [قال مجاهد (٧): شهد شاهد: حكم حاكم. وإنما قلنا ذلك؛ لأن الشهادة] (٨) لا يصح تعليقها بالشرط؛ ولأنه لو كانت هذه شهادة معهودة لقيل وشهد مشاهد من أهلها، (أنه إن كان قميصه) كما يقال: إن فلانًا فعل كذا، ولفظ الشهادة يستعمل في التبيين، كقوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨] أي (٩): أعلم وبين، وقال تعالى: ﴿شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧] يريد بينوا؛ ذلك لعنادهم، الحق وإن لم يكن منهم اعتراف بالكفر.
(١) الطبري ١٢/ ١٩٥، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٩ وانظر: "الدر" ٤/ ٢٦، الثعلبي ٧/ ٧٧ أ، البغوي ٤/ ٢٣٥، القرطبي ٩/ ١٧٣، ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٩.
(٢) الطبري ١٢/ ١٩٤، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٦، الثعلبي ٧/ ٧٧ أ، البغوي ٤/ ٢٣٥، القرطبي ٩/ ١٧٣.
(٣) الطبري ١٢/ ١٩٥، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٩ وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٦، الثعلبي ٧/ ٧٧ أ، البغوي ٤/ ٢٣٥، عبد الرزاق ٢/ ٣٢٢، القرطبي ٩/ ١٧٣.
(٤) الثعلبي ٧/ ٧٧ أ، القرطبي ٩/ ١٧٣، الطبري ١٢/ ١٩٤ بلفظ: ذو رأي برأيه.
(٥) الطبري ١٢/ ١٩٤ - ١٩٥، الثعلبي ٧/ ٧٧ أ، البغوي ١٢/ ١٩٤، القرطبي ٩/ ١٧٣.
(٦) الطبرى ١٢/ ١٩٤ - ١٩٥.
(٧) الطبري ١٢/ ١٩٥.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج).
(٩) في (ب) بياض.
81
وقال ابن الأنباري (١):
ويجوز أن يقال: إن الشهادة لم تقع إلا على معلوم عند الشاهد بكلام سمعه من المرأة من وراء الباب، أو لفظة وقعت في أذنه من ألفاظ يوسف في حال هربه، فأوقع في الشهادة شرطًا ليؤكد العلم به للمخاطبين من جهة العقل، وتلخيص الآية: هو الصادف عندي وهي الكاذبة، فإن تدبرتم ما أشرطه (٢) لكم، عقلتم صحة قولي، وصار هذا كقول القائل: إن كان القَدَر حقًا فالحرص باطل، فليس هذا الشارط بشاك، لكنه ألزم مخاطبه صحة ما يقول، فدخلت (إن) على جهة التقدير للمعنى الذي يوجب غيره لا للشك، وكذا يكون مقدرات الاستدلال، والأول هو مذهب المفسرين.
قال الكلبي (٣):
الشاهد ابن عم المرأة، وكان رجلاً حكيمًا، كان مع زوجها، فقال قد سمعنا الاشتداد والجلبة من رواء الباب، وشق القميص، فلا ندري أيكما كان قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة، وإن كان من خلفه، فهو صادق.
ونحو هذا قال السدي (٤) ومقاتل (٥): أن الشاهد كان ابن عمها فحكم بما أخبر الله تعالى.
وروى عطية العوفي عن ابن عباس أن الشاهد كان صبيًّا أنطقه الله،
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢١٢.
(٢) في (ب): (ما اشترطته).
(٣) القرطبي ٩/ ١٧٣ ولم ينسبه. وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٩ عن زيد بن أسلم.
(٤) البغوي ٤/ ٢٣٥، القرطبي ٩/ ١٧٣، والثعلبي ٧/ ٧٧ أ.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٥٢ ب.
82
وهو رواية سالم (١) عن سعيد بن جبير (٢)، وجويبر عن الضحاك (٣)، وقول هلال بن يساف (٤) قال: الشاهد صبي في المهد، ولم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، هذا أحدهم.
قال ابن عباس (٥): تكلم في المهد أربعة صغار: شاهد يوسف، وعيسى ابن مريم، وصاحب جريح، وابن ماشطة بنت فرعون.
قال ابن الأنباري (٦): فمن ذهب إلى هذا القول قال: الشرط الواقع مصحح لبراءة يوسف، وتحقيق الجرم للمرأة؛ لأن كلام مثله أعجوبة، وآية باهرة معجزة، لا يكون معها لبس.
وروى ابن أبي نجيح وابن جريح عن مجاهد (٧) قال: الشاهد قميصه مشقوقًا من دبر.
(١) هو: سالم بن عجلان الأفطس الأموي، مولاهم، أبو محمد الحراني، ثقة رمي بالإرجاء، قتل صبرًا سنة ١٣٢ هـ. "التقريب" (٢١٨٣)، و"الميزان" ٢/ ٣٠٢.
(٢) الطبري ١٢/ ١٩٣، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٦، البغوي ٤/ ٢٣٤.
(٣) الطبري ١٢/ ١٩٤، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٦، البغوي ٤/ ٢٣٤.
(٤) الطبري ١٢/ ١٩٤، و"زاد المسير" ٤/ ٢١١، والثعلبي ٧/ ٧٦ ب، وهو: الأشجعي مولاهم الكوفي، ثقة، روى له الجماعة إلا البخاري، روى له في التاريخ. انظر: ا"لتقريب" ص ٥٧٦ (٧٣٥٢).
(٥) أخرجه البخاري في "صحيحه": (٣٤٣٦) كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا﴾، ومسلم (٢٥٥٠/ ٨) كتاب: البر، باب: تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، وأحمد ٢/ ٣٠٧، ٣٠٨، بلفظ (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة).
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢١٢.
(٧) الطبري ١٢/ ١٩٥، الثعلبي ٧/ ٧٧ أ، "زاد المسير" ٤/ ٢١٢.
83
قال أبو بكر (١): وهذا القول لا يوافق اللغة ولا تصححه العربية من أجل أنه قال: ﴿مِنْ أَهْلِهَا﴾ (٢) والقميص لا يوسف بهذا ولا ينسب إلى الأهل.
٢٧ - وقوله تعالى: ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ﴾ إلي قوله ﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ﴾ من حكم الشاهد وبيانه عما يوجب الاستدلال به على تمييز الكاذب من الصادق.
٢٨ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى﴾ أي زوج المرأة قميص يوسف ﴿قُدَّ مِنْ دُبُرٍ﴾، إخبار عن صفة القميص لا عن الفعل؛ لأنه رأى القميص مقدودًا، ما رآه حين قد، والمعنى: فلما رأى قميصه قد قُدّ من دبر، وهذا مثل قوله: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ [النساء: ٩٠] وقد مر.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ﴾ قال أبو إسحاق (٣): أي أن قولها (٤): ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا﴾ من كيدكن ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾.
٢٩ - قوله تعالى: ﴿يُوسُفُ﴾ معناه يا يوسف، فحذف حرف النداء، لأنه من الإيجاز الذي لا يخل، ولا يجوز حذفه من المبهم، ويجوز من العلم؛ لأنك تستدل يكون العلم مرفوعًا غير منون على أنه منادى، ولا بيان في المبهم على أنه منادى إذا حذفت حرف النداء.
وقال الزجاج (٥): يجوز في المعرفة حذف ياء من النداء، وأنشد (٦):
(١) قال به الطبري ١٢/ ١٩٦.
(٢) في (ج): (من أجلها).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٣.
(٤) في (ب): (قولهما).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٣.
(٦) البيت ينسب لأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللأعشى انظر "الخزانة" ٣/ ٦٢٩، و"شواهد الكشاف"، و"شواهد المغني" (٢٠٤)، و"شرح شذور الذهب" (٢١١)، وبلا نسبة في سيبويه والشنتمري ١/ ٤٠٨، السيوطي (٢٠٤)، و"الدرر" ٢/ ٧١، و"الهمع" ٢/ ٥٦، و"الإنصاف" ٤١٨، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ٣٧٥.
84
مُحَمَّدٌ تَفْدِ نَفْسَك كلُّ نَفسٍ إذا ما خِفْتَ من أَمْرٍ تَبَالَا
وقوله تعال ﴿أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ قال ابن عباس (١): يريد لا يذكر هذا ونحوه. قال الزجاج (٢): اترك هذا الأمر ولا تذكره، وقيل (٣) معناه: أعرض عنه بأن لا تكترث له، فقد بان براءتك.
﴿وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾ قال ابن عباس (٤): قال لامرأته: توبي (٥) من ذنبك إنك من الخاطئين، يريد: أنك كنت قد أثمت.
قال المفسرون: إثمها هو أنها راودت شابًا عن نفسه، وأرادته على الزنا، وخانت زوجها، فلما استعصم كذبت عليه وبهتته (٦).
ومعنى ﴿مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾: من القوم الخاطئين، كما قال: ﴿إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ [النمل: ٤٣] وذلك لتغليب المذكر على المؤنث إذا اختلطا، ومثله ﴿وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ [التحريم: ١٢] وهذا التفسير الذي ذكرنا يدل على أن هذا من كلام زوج المرأة لها وليوسف.
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢١٣.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٤، وفيه: (اكتم هذا الأمر ولا تذكره).
(٣) الثعلبي ٧/ ٧٧ ب، البغوي ٤/ ٢٣٥.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢١٣، ولم ينسبه لابن عباس، بل نسب إليه القول الآخر (استعفي زوجك لئلا يعاقبك).
(٥) في (أ)، (ج): (تولي).
(٦) في (أ)، (ب): (نهته).
85
وذهب الكلبي (١) وغيره إلى أن هذا من كلام الشاهد الذي هو ابن عم المرأة، وقال في قوله: ﴿وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ﴾ أي سلي (٢) زوجك أن إلا يعاقبك على ما صنعت.
٣٠ - وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ﴾ الآية، أراد بالنسوة الجمع لذلك ذَكَّر فعلهن حملًا على المعنى، وإذا أنث حُمل على اللفظ، قال أبو علي: وتأنيث النساء والنسوة تأنيث جمع، كما أن التأنيث في ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ﴾ [الحجرات: ١٤] كذلك، ولو لم يؤنث، كما لم يؤنث (قال نسوة) لكان حسنًا، وسمعت بعض الكبار من النحويين (٣) يقول: لو تأخر الفعل عن النسوة لكان: ونسوة قلن، فكانت النون علامة للجمع (٤) والتأنيث جميعًا، فإذا قدم الفعل وُحِّد؛ لأن فعل الجماعة إذا تقدم كان موحَّدًا، وإذا وُحِّد حذف منه علامة الجمع، فإذا حذفت علامة الجمع فقد حذفت علامة التأنيث؛ [لأن النون علامة لهما جميعًا، على أن تقديم الفعل يدعو إلى إسقاط علامة التأنيث] (٥)؛ على قياس إسقاط علامة التثنية والجمع.
وقوله تعالى: ﴿نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ﴾ قال ابن عباس (٦): يريد نسوة من أشراف النساء. قال الكلبي (٧): هن أربع: امرأة ساقي العزيز، وامرأة
(١) الثعلبي ٧/ ٧٧ ب، و"تنوير المقباس" ص ١٤٨، و"زاد المسير" ٤/ ٢١٣.
(٢) في (ج): (تبتلى).
(٣) انظر: "المقتضب" ٣/ ٣٤٩، و"الدر المصون" ٦/ ٤٧٤.
(٤) في (أ)، (ج): (للجميع).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) البغوي ٤/ ٢٣٦ بدون نسبة لابن عباس، القرطبي ٩/ ١٧٦.
(٧) "زاد المسير" ٤/ ٢١٤، والقرطبي ٩/ ١٧٦، ونسبوه إلى ابن عباس. وانظر: "تنوير المقباس" ص ١٤٨.
86
خبازه، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه، وزاد مقاتل (١): امرأة الحاجب، ونحوه قال مجاهد (٢)، والأشبه ما قاله ابن عباس؛ لأن زليخا إنما اتخذت مأدبة لأشراف النساء، ولو خاض في حديثها هؤلاء النسوة لأشبه أن لا (٣) يؤخذ خوضهن مقالتهن، والمعنى: أن ذلك الذي جرى بينهما شاع وانتشر في مدينة مصر، حتى تحدث بذلك النساء وخضن فيه.
وقوله تعالى: ﴿امْرَأَتُ الْعَزِيزِ﴾ يعنين زليخا، والعزيز (٤) بلغتهم الملك، يعنون أنه منيع بقدرته، والعرب تسمي الملك عزيزًا، وهو في شعر أبي دؤاد (٥):
دُرّةٌ غَاصَ عليها تَاجِرٌ جُلِبَت يَوْمَ عَزِيزٍ يَوْمَ طَل
وقوله تعالى: ﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾ [الفتى: الحدث الشاب، والفتاة الجارية الشابة، قال ابن عباس: يريد تراود غلامها عن نفسه] (٦).
وقوله تعالى: ﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾ قال أبو عبيد (٧): الشغف أن يبلغ الحب شغاف القلب، وهو جلدة دونه.
(١) "تفسير مقاتل" ١٥٣ أ، الثعلبي ٧/ ٧٧ ب.
(٢) لم أجده في مظانه.
(٣) في (أ)، (ج): (أن يؤخذ) بدون لا.
(٤) الطبري ١٢/ ١٩٨ لم أجده في "تفسير الطبري" بنصه.
(٥) هو: أبو دؤاد وقيل أبو داود جارية بن الحجاج، وقيل: جويرية، وقيل: حنظلة، شاعر جاهلي. انظر: "خزانة الأدب" ٩/ ٥٩٠، و"الشعر والشعراء" ص ١٤٠.
والبيت من الرمل ونسبه الواحدي هنا إلى أبي دؤاد، ونسب إليه أيضاً في الطبري ١٢/ ١٩٨، والثعلبي ٧/ ٧٨ أوفيها: (جلبت عند عزيز...) وفي "النكت والعيون" ٣/ ٣٠، و"مجمع البيان" ٥/ ٣٥٠.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) "تهذيب اللغة" (شغف) ٢/ ١٨٩٤.
87
وقال يونس (١): شغفها أصاب شغافها مثل كبدها، وقال ابن السكيت (٢): الشغاف هو الخلبُ، وهو جليدة لاصقة بالقلب، ومنه قيل: خلبه إذا بلغ حبه خلب قلبه، وشغفها إذا بلغ حبه شغاف قلبها، وقال الفراء (٣): (شغفها حبًّا) أي: خرق شغاف قلبها، وقال ابن قتيبة (٤): يقال. شغفت فلانًا، إذا أصبت شغافه، كما تقول: كبدته (٥)، إذا أصابت كبده.
وقال ابن الأنباري (٦): الشغاف غلاف القلب، وأنشد (٧):
يَعْلَمُ اللهُ أنَّ حُبَّكِ مِنِّي في سَوَادِ الفُؤادِ وِسْطَ الشِّغَاف
قال: والمعنى: شغفها حبه، أي: أصاب شغافها، ثم نقل الفعل عن الفاعل [فخرج الفاعل] (٨) مفسرًا نحو قولهم: طاب نفسًا، وقر عينًا، ﴿واشتعل الرأس شيبًا﴾، وهذا من كلامهم للاتساع (٩) في اللغة، والافتنان في اللفظ، وذلك أدل على البلاغة وأحلى في السمع، ولا يتعدى في هذا ما نطقت به العرب، لا يقال: عقل محمد جارية، على معنى عقلت جارية محمد، كما يقال: حسن محمد وجهًا، فعلى هذا (الحب) فاعل نقل عنه الفعل.
(١) "تهذيب اللغة" (شغف) ٢/ ١٨٩٤.
(٢) "تهذيب اللغة" (شغف) ٢/ ١٨٩٤.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٤٢.
(٤) "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢١٨.
(٥) في (أ)، (ج): (لبدته). باللام.
(٦) " الزاهر" ١/ ٥٠٩.
(٧) هو لعبد الله بن قيس الرقيات. انظر: "ديوانه" ص ٣٧، و"الزاهر" ١/ ٥٠٩.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٩) في (ج): (الاتساع).
88
وقال غير أبي بكر: المعنى شغفها الفتى بالحب، فحذف الجار ونصب الحب، كما يقال: قتله ضربًا، فعلى هذا، الفاعل هو الفتى.
وأما المفسرون، فقال ابن عباس (١) في رواية عطاء: قد دخل حبه شغاف قلبها، وهو موضع الدم، وهي الشغاف، وهذا الذي ذكره ابن عباس قول آخر في الشغاف سوى ما ذكرنا عن أهل اللغة، وقد ذكر الزجاج (٢) هذا القول في الشغاف فقال: هو حبَّة القلب وسويداء القلب، وهذا القول أبلغ في وصول الحب إلى القلب، ونحو هذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد (٣): دخل حبه في شغافها.
وقال السدي (٤): الشغاف جلدة رقيقة على القلب، يقول: دخل الحب الجلد حتى أصاب القلب.
وقال الكلبي (٥): الشغاف حجاب القلب، [تقول: حجا حبُه قلبها حتى لا تعقل سواه، وهذه الأقوال كلها تدل على أن الحب] (٦) فاعل، ثم نقل عنه الفعل؛ لأن المفسرين أسندوا الفعل إلى الحب، وقرأ جماعة من الصحابة والتابعين (شعفها) بالعين (٧).
(١) الثعلبي ٧/ ٧٨ أ. وانظر: "الدر" ٤/ ٢٧ بمعناه.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٥، و"زاد المسير" ٤/ ٢١٤.
(٣) الطبري ١٢/ ١٩٨، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٨، والقرطبي ٩/ ١٧٦.
(٤) الثعلبي ٧/ ٧٨ أ، الطبري ١٢/ ١٩٩، البغوي ٤/ ٢٣٦، القرطبي ٩/ ١٧٦.
(٥) الثعلبي ٧/ ٧٨ أ، البغوي ٤/ ٢٣٦.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج).
(٧) ومن هؤلاء عبد الله بن عمرو، وعلي بن الحسين، والحسن البصري، ومجاهد، وابن محيصن وابن أبي عبلة، وأبو رجاء، انظر: الطبري ١٢/ ٢٠٠، و"إتحاف" ٢٦٤، و"زاد المسير" ٤/ ٢١٥.
89
قال ابن السكيت (١): يقال: شعفه الهوى، إذا بلغ منه، وشعف الهناء البعير، إذا بلغ منه ألمه، وقد كشف أبو عبيد (٢) عن هذا المعنى فقال: الشعف بالعين إحراق الحب للقلب مع لذة يجدها (٣)، كما أن البعير إذا هُنئ بالقطران يبلغ منه مثل ذلك، ثم يستروح إليه، ونحو هذا قال أبو سعيد (٤) في قول امرئ القيس (٥):
لتقتلني (٦) وقد شَعفْتُ فؤادَها كما شَعَفَ المهنُوءَةَ الرّجُلُ الطَّالِي
قال يقول: أحرقت فؤادها بحبي كما أحرق الطالي هذا المهنوة.
وقال الفراء (٧) والزجاج (٨): شعفها بالعين معناه [ذهب بها كل مذهب، مشتق من الشعف وهو رؤوس الجبال، وفلان مشعوف بكذا] (٩)
(١) "تهذيب اللغة" (شعف) ٢/ ١٨٨٩.
(٢) "تهذيب اللغة" (شعف) ٢/ ١٨٨٩ - ١٨٩٠.
(٣) في (ج): (يجد) من غير هاء.
(٤) "تهذيب اللغة" (شعف) ٢/ ١٨٩٠. وهو: أبو سعيد الضرير أحمد بن خالد، اعتمده الأزهري في "التهذيب". انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٤٤، و"معجم الأدباء" ١/ ٣٤٦، و"إنباه الرواة" ١/ ٤١.
(٥) البيت في "ديوانه" ص١٤٢، و"اللسان" (شعف) ٤/ ٢٢٨، والطبري ١٢/ ٢٠٠، والثعلبي ٧/ ٧٨ أ، و"تهذيب اللغة" (شعف) ٢/ ١٨٩٠، و"الزاهر" ١/ ٦٢٠، و"شرح أبيات سيبويه" ٢/ ٢٢٢، والقرطبي ٩/ ١٧٧.
(المهنوءة) المطلية بالقطران، وإذا هنئ البعير بالقطران يجد له لذة مع حرقة كحرقة الهوى مع لذته.
(٦) في الطبري ١٢/ ٢٠٠، والثعلبي ٧/ ٧٨ أ: (أتقتلني) وهو أقرب.
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٤٢.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٥.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
90
معناه قد ذهب به الحب أقصى المذاهب، وقال أبو زيد (١): شعفه حبها يشعفه، إذا ذهب بفؤاده، ونحو هذا قال شمر (٢)، قال: والمشعوف الذاهب القلب، وقال الأصمعي (٣) في قوله:
شَعَفَ الكلابُ الضَّارِيات فؤادَه
المشعوف، الذاهب القلب، وبه شعاف أي جنون، الأزهري (٤): وأهل هجر يقولون للمجنون مشعوف، وعلى هذا معنى (شعفها حبًا)، أي شعفت به، وكاد يذهب حبه بلبها، أي بلغ أقصى المبالغ منها وذهب بها كل مذهب.
وقال أبو بكر: الشعف رؤوس الجبال، ومعنى: شعف بفلان، إذا ارتفع حبه إلى أعلى المواضع من قلبه.
وهذا الذي حكينا عنه أئمة اللغة في معنى قوله (شعفها) بالعين غير المعجمة ثلاثة أصول: أحدها: أنه من الإحراق، والثاني: أنه من الإذهاب، والثالث: أنه من الارتفاع.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي ضلال عن طريق الرشد، بحبها إياه (٥)، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يوسف: ٨].
(١) "تهذيب اللغة" (شعف) ٢/ ١٨٩٠.
(٢) "تهذيب اللغة" (شعف) ٢/ ١٨٩٠.
(٣) "تهذيب اللغة" (شعف) ٢/ ١٨٩٠. والبيت لأبي ذؤيب، وعجزه:
فإذا يرى الصبح المصدق يفزع
"ديوان الهذليين" ١/ ١٠، و"المفضليات" ص ٤٢٥، و"اللسان" (شعف) ٤/ ٢٢٨٠، و"تهذيب اللغة" (شعف) ٢/ ١٨٩٠.
(٤) كذا في النسخ ولعله (قال الأزهري) وهو في "تهذيب اللغة" ٢/ ١٨٩٠ (شعف).
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٢١٥، والرازي ١٨/ ١٢٦.
91
٣١ - قوله تعالى ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ﴾ يعني زليخا ﴿بِمَكْرِهِنَّ﴾ قال ابن عباس: يريد مقالتهن (١)، وقال قتادة والسدي (٢): بقولهن وحديثهن، فإن قيل: لم سمي قولهن مكرًا؟ فالجواب عن ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق (٣)، وهو أن قال: إن النسوة قلن ما قلنه استدعاء لرؤية يوسف والنظر إلى وجهه، فعبنها بحبها يوسف لتريهن يوسف، وكان يوصف لهن حسنه وجماله، فلما كان هذا القول منهن طمعًا في أن يكون سببًا لمشاهدة يوسف، سمي مكرًا، لِمَا خالف ظاهرُه باطنه، وذلك أنهن قدرن أن هذا القول إذا اتصل بها أبرزت لهن يوسف ليعذرنها، ويزلن العيب عنها.
وقال الزجاج (٤) وابن الأنباري (٥): إن امرأة العزيز كانت أسَرَّت إليهن وَجْدها بيوسف واستكتمتهن شأنها، فلما غدرن بها وأظهرن سرها كان ذلك منهن مكرًا، فلما سمعت بما فعلن أرادت أن توقعهن فيما وقعت فيه، ﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ﴾، قال وهب (٦): اتخذت مأدبة ودعت أربعين امرأة، منهن هؤلاء اللاتي عيرنها.
وقوله تعالى: ﴿وَأَعْتَدَتْ﴾ أي أعدت، ومضى الكلام فيه مستقصى (٧)
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢١٥.
(٢) الطبري ١٢/ ٢٠١، الثعلبي ٧/ ٧٨ أ، البغوي ٤/ ٢٣٦.
(٣) الطبري ١٢/ ٢٠١، الثعلبي ٧/ ٧٨ أ، "زاد المسير" ٤/ ٢١٥.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٥.
(٥) الرازي ١٨/ ١٢٦.
(٦) الثعلبي ٧/ ٧٨ ب، البغوي ٤/ ٢٣٧، القرطبي ٩/ ١٧٨.
(٧) عند قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [النساء: ١٨]، وقال ما ملخصه: اعتدت الشيء فهو عتيد ومعتد، وقد عتد الشيء عتادة وهو عتيد حاضر، وعتد بتاء أصل على حدة، وقيل: الأصل أعدد من عين ودالين ثم قلبت إحدى الدالين تأء.
92
﴿لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾ معنى المتكأ في اللغة، ما تتكأ عليه من نُمرقة أو وسادة، قال الزجاج (١): هو ما يتكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث، ومتكأ أصله موتكا بالواو، مثل: موتزن أصله من الواو ثم قيل: متزن، واتكيت اتكأ أصله أوتكيت، فأدغمت الواو في التاء وشددت، والتوكؤ التحامل على العصا في المشي، يقال هو يتوكأ على عصاه ومنه قوله تعالى: ﴿هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾ [طه: ١٨] وقولهم: رجل تكأة، إذا كان كثير الاتكاء، هو في الأصل وكأة، هذا الذي ذكرنا معنى المتكأ، وأصله في اللغة (٢).
فأما التفسير، فقال الكلبي عن ابن عباس (٣): المتكأ الوسائد التي يتكأ عليها، وقال أبو عبيدة (٤): المتكأ: النمرق الذي يتكأ عليه، وعلى هذا التفسير لم يذكر الطعام الذي اتخذته لهن؛ لأن الحال وسياق القصة تدلان على أنها اتخذت طعامًا يحتاج إلى قطعه.
وقال ابن عباس (٥) في رواية عطاء ومجاهد في تفسير المتكأ قال: هو الأترج، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد (٦) ﴿وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾ طعامًا، ومثله روى سعيد عن قتادة (٧).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٥.
(٢) (في اللغة) ساقط من (أ، ب)، انظر: "تهذيب اللغة" (تكأ) ١/ ٤٤٥.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢١٦، و"تنوير المقباس" ص ١٤٨، والثعلبي ٧/ ٧٨ ب.
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٩.
(٥) الطبري ١٢/ ٢٠٢ - ٢٠٣، ومسدد وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٣٢، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر" ٤/ ٢٨.
(٦) الطبري ١٢/ ٢٠٣، وأبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٣٣، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٩.
(٧) الطبري ١٢/ ٢٠٣، الثعلبي ٧/ ٧٨ ب. وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٣٣.
93
وقال ابن جريج عن ابن عباس (١): المتكأ الأترج، وكل ما نحر بالسكاكين ونحوه. قال الضحاك (٢) وهو قول سعيد بن جبير (٣) والحسن (٤) وابن إسحاق (٥) قالوا: طعامًا، قال ابن الأنباري وابن قتيبة (٦) وأهل المعنى: سمي الطعام والأترج متكأً؛ لأنهما من سبب الاتكاء، والعرب تقول: اتكأ الرجل، إذا أكل، فالمتكأ الطعام المأكول، والموضع الذي يؤكل فيه، بناءً على تسمية الشيء باسم سببه، ولما كان المضيف يتخذ لأضيافه نمارق يتكئون عليها للجلوس والأكل، سمي الطعام متكأ، كما يسمى المعلف أريًا (٧)، وهو الحبل الذي يحبس الدابة، وأنشد (٨):
فظَلِلْنَا بنِعْمَةٍ واتَّكَأنَا وشَرِبْنَا الحَلالَ من قُلَلِه
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢١٦، البغوي ٤/ ٢٣٧.
(٢) الطبري ١٢/ ٢٠٣، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٩، و"زاد المسير" ٤/ ٢١٦.
(٣) الطبري ١٢/ ٢٠٣، ابن المنذر كما في "الدر" ٤/ ٢٩، الثعلبي ٧/ ٧٨ ب، البغوي ٤/ ٢٣٧.
(٤) الطبري ١٢/ ٢٠٣، الثعلبي ٧/ ٧٨ ب، البغوي ٤/ ٢٣٧.
(٥) الطبري ١٢/ ٢٠٣، الثعلبي ٧/ ٧٨ ب.
(٦) "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢١٨، ٢١٩.
(٧) قال ابن السكيت: في قولهم: (العلف) أري، قال: هذا مما يضعه الناس في غير موضعه، وإنما الآري لحبس الدابة. "تهذيب اللغة" (ورى) ٤/ ٣٨٨١.
(٨) القائل جميل بن معمر، و (القلل) جمع قلة وهي الحب العظيم وقيل الجرة الكبيرة وقيل الكوز الصغير، "ديوانه" ص ٥٣، و"أساس البلاغة" ٢/ ٢٧٣، و"الأغاني" ٧/ ٧٩، و"شرح شواهد المغني" ١٢٦، و"مشكل القرآن وغريبه" ص ٢١٨، والثعلبي ٧/ ٧٨ ب، والقرطبي ٩/ ١٧٨.
94
أراد باتكأنا أكلنا، وقال الأزهري (١): وقيل للطعام متكأ؛ لأن القوم إذا قعدوا على الطعام اتكأوا، وقد نُهيت هذه الأمةُ عن ذلك، قال النبي - ﷺ - "أما أنا فلا آكل متكئًا، آكل كما يأكل العبيد" (٢).
وقرأ جماعة من التابعين (٣) (مُتْكًا) قال ابن عباس (٤) ومجاهد (٥): هو الأترج. وقال الضحاك (٦): الزُّمَاوَرْد.
(١) "تهذيب اللغة" (تكأ) ١/ ٤٤٥.
(٢) اللفظ الأول "أما أنا فلا آكل متكئًا"، أخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة (٥٣٩٨) كتاب: الأطعمة، باب: الأكل متكئًا، وأبو داود (٣٧٦٩)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الآكل متكئا، والترمذي (١٨٩٠) باب ما جاء في كراهية الأكل متكئًا، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والبيهقي في "السنن" ٧/ ٤٦٢ برقم (١٤٦٥١) باب الأكل متكئًا، وأما اللفظ الآخر "آكل كما يأكل العبيد" فقد قال البيهقي بعد أن ساق كلام الخطابي في معنى الاتكاء، قال: (وروي أنه كان يأكل مقعيًا ويقول: "أنا عبد آكل كما يأكل العبد"، ويؤيده حديث عبد الله بن بسر ولفظه: (اهديت للنبي - ﷺ - شاة فجثا على ركبتيه يأكل، فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال: "إن الله جعلني عبدًا كريمًا ولم يجعلني جبارًا عنيدًا" أخرجه أبو داود (٣٧٧٣)، كتاب: الأطعمة، باب: ما جاء في الأكل من أعلى الصحفة وابن ماجه (٣٢٦٣)، كتاب الأطعمة، باب الأكل متكئًا، والضياء المقدسي في "المختارة" ١/ ١١٢، وصححه الألباني في "الإرواء" (١٩٦٦).
(٣) وممن قرأ بها مجاهد وسعيد بن جبير ونسبت إلى ابن عباس، وقرأ بها أبو جعفر، انظر: الطبري ١٢/ ٢٠٢ - ٢٠٣، و"إتحاف" ص ٢٦٤، و"زاد المسير" ٤/ ٢١٦، القرطبي ٩/ ١٧٨.
(٤) الطبري ١٢/ ٢٠٢، و"زاد المسير" ٤/ ٢١٦، وابن أبي حاتم ١٢٣/ ٢٠٢.
(٥) المرجع السابق.
(٦) الثعلبي ٧/ ٧٨ ب، البغوي ٤/ ٢٣٧ بهامش الصفحة، و"زاد المسير" ٤/ ٢١٦، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٣٣ بلفظتي "البزماورد، البرماورد"، وفي "القاموس": الزماورد: بالضم طعام من البيض واللحم معرب.
95
وقال عكرمة (١): هو كل شيء يحز بالسكين.
قال ابن زيد (٢): يحززن (٣) الأترج بالسكين، ويأكلن بالعسل.
قال أبو زيد (٤): كل ما حز بالسكين فهو عند العرب متك، والمتك والبتك القطع، والعرب تعاقب بين الميم والباء.
وأنكر أبو عبيدة (٥) كل هذا، وقال: الذين قالوا المتكأ الأترج، فقد كذبوا، ليس للأترج في كلام العرب اسم إلا الأترج، وإنما لما احتج عليهم بأنه المتكأ من النمارق والوسائد، فروا وقالوا إنما هو المتك، وإنما المتك طرف بصر المرأة.
قال أبو عبيد (٦): والفقهاء الذين رووا هذا وأخذوا به أعلم بتأويل القرآن من أبي عبيدة، فيجوز أن يكون من لغة قوم من العرب درست ومات من يتكلم بها، فقد قال الكسائي إن شيئًا من الكلام سقط لانقراض أهله ومن كان يتكلم به.
قال أبو بكر (٧): وأنشدنا رجل في مجلس أبي العباس حُجةً؛ لأن المتك الأترج:
(١) الثعلبي ٧/ ٧٨ ب، البغوي ٤/ ٢٣٧ ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٣٣.
(٢) الطبري ١٢/ ٢٠٤، والثعلبي ٧/ ٧٨ ب، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٩، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٣٤.
(٣) في (ب): (يحزرن).
(٤) الثعلبي ٧/ ٧٨ ب، "تهذيب اللغة" (متك) ٤/ ٣٣٣٨.
(٥) "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٩.
(٦) الطبري ١٢/ ٢٠٢.
(٧) "الزاهر" ٢/ ٢١.
96
تَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواعِ جِهَارا وتَرَى المُتْكَ بَيْنَنَا مُسْتَعَارا (١)
وأجاز الفراء (٢) والزجاج (٣) أن يكون المتك بمعنى الأترج.
وقوله تعالى: ﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا﴾ قال ابن عباس (٤): وأعطت كل واحدة منهن سكينًا وترنجة، فإن قلنا بهذا وحملنا المتكأ على الطعام الذي يقطع أو الأترج، فلا إشكال، وإن حملناه على الوسادة، والموضع الذي تتكأ عليه، فإنما أعطتهن (٥) السكين لتقطع فاكهة قدمت إليهن، ولم يذكر الفاكهة لدلالة الحال والسكين، ومعنى ﴿وَآتَتْ﴾ هاهنا ناولت، والسكين يذكر ويؤنث، ومتخذه يقال له: السَّكَّان.
وقوله تعالى: ﴿وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾ أي قالت ذلك ليوسف، قال الزجاج (٦): أمرته بالخروج عليهن، ولم يكن تهيأ له (٧) ألا يخرج؛ لأنه بمنزلة العبد لها، ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾ قال ابن عباس (٨)، ومعظم المفسرين:
(١) البيت غير منسوب. وهو في "الزاهر" ٢/ ٢٥، و"البحر المحيط" ٥/ ٢٩٩، و"المحرر الوجيز" ٧/ ٤٩٣، و"الدر المصون" ٦/ ٤٧٩، والقرطبي ٩/ ١٧٨، و"اللسان" (إثم) ١/ ٢٩، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٢٢، و"تاج العروس" (متك) ١٣/ ٦٣٨.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٤٢.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٦.
(٤) الطبري ١٢/ ٢٠٤، وابن مردويه كما في "الدر" ٤/ ٢٨.
(٥) في (أ)، (ج): (أعطهن).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٦.
(٧) ساقط من (أ)، (ب).
(٨) الطبري ١٢/ ٢٠٥، و"زاد المسير" ٤/ ٢١٨، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٣٥ وروى هذا القول أيضًا عن ابن زيد وابن إسحاق قال: وروى عن السدي مثله.
97
أعظمنه وهالهن أمره وبهتن، وهو قول مجاهد (١) في رواية ابن أبي نجيح وقتادة (٢) في رواية سعيد، وروى ليث عن مجاهد (٣) أعظمنه فحضن.
وروى عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده (٤) أكبرنه قال: حضن من الفرح (٥).
قال: وفي ذلك يقول الشاعر (٦):
يأتي النِّساءَ على أطْهَارِهِنَّ ولا يأتي النِّساءَ إذا أكْبَرْنَ إكْبَارا
ونحو هذا القول روى أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس (٧).
(١) الطبري ١٢/ ٢٠٥، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم (لم أجده في النسخة التي بين يدي) وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٢٩، و"زاد المسير" ٤/ ٢١٨.
(٢) الطبري ١٢/ ٢٠٤ - ٢٠٥.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢١٨.
(٤) الطبري ١٢/ ٢٠٥، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٣٥ كما في "الدر" ٤/ ٢٩، والثعلبي ٧/ ٧٩ ب، وعبد الصمد كان أميرًا على مكة، قال الذهبي: ليس بحجة. انظر: "الجرح والتعديل" ٦/ ٥٠، و"الميزان" ٣/ ٣٣٤، وأبوه هو أبو محمد ثقة عابد، مات سنة ١١٨ هـ على الصحيح وأخرج له الجماعة إلا البخاري. انظر: "الكاشف" ٢/ ٤٣، و"التهذيب" ٣/ ١٤٦ والأثر ضعيف.
(٥) في (أ)، (ج): (من الفرج) بالعجمة "زاد المسير" ٤/ ٢١٨، ابن عطية ٧/ ٤٩٤، القرطبي ٩/ ١٨٠.
(٦) البيت غير منسوب وهو في الطبري ١٢/ ٢٠٥، والثعلبي ٧/ ٧٩ ب، والقرطبي ٩/ ١٨٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢١٨، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٠٩١، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٣٥، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٠٣، و"المحرر الوجيز" ٧/ ٤٩٤، و"اللسان" (كبر)، قال الطبري: البيت مصنوع، ط. البابي الحلبي ١٢/ ٢٠٥.
(٧) "تهذيب اللغة" (كبر) ٤/ ٣٠٩١، و"زاد المسير" ٤/ ٢١٨، وفي ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٣٥ عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: أعظمنه، فلعل الرواية هنا نقلها عن الأزهري في "التهذيب" فقد روى بسنده هذا القول إلى ابن عباس.
98
وأنكر هذا أكثر أهل اللغة، قال أبو عبيدة (١): أكبرنه: أعظمنه في جماله وبهائه ونور النبوة، ومن أخذ الإكبار من الحيض فليس بحيض، ولكنه قد يُجْرِ الحيض، وقد تفزع المرأة فتسقط ولدها وتحيض، فإن كان ثم حيض، فعسى أن يكون من فزعهن وما هالهن من هيئته، وهذا الذي ذكره أبو عبيدة هو معنى رواية ليث عن مجاهد.
وقال الزجاج (٢): منكر أيضًا أن يكون أكبر بمعنى حاض، هذه اللفظة ليست بمعروفة في اللغة، والهاء في أكبرنه تمنع هذا، لأنه لا يجوز النساء قد حضنه، لأن حضن لا يتعدَّى إلى مفعول.
وقال الأزهري (٣): إن صحت هذه اللفظة في اللغة فلها مخرج، وذلك أن المرأة إذا حاضت أول ما تحيض فقد خرجت من حد الصغار ودخلت في حد الكبار، فقيل لها: أكبرت، أي حاضت على هذا المعنى.
وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم، قال: سألت رجلاً من طي فقلت: ما لك زوجة؟ قال: لا والله ما تزوجت، وقد وعدت في بنت عم لي، قلت: وما سنها، قال قد أكبرت أو كربت، قلت: وما أكبرت؟ قال: حاضت، قال الأزهري أرى اللغة تصحح: أكبرت المرأة، إذا حاضت، إلا أن الكناية في (أكبرنه) تنفي هذا المعنى، فإن صحت الرواية عن ابن عباس سلم له، وجعلنا الهاء في قوله ﴿أَكْبَرْنَهُ﴾ هاء الوقفة لا هاء الكناية.
وقال ابن الأنباري: من أبطل هذا القول إنما أبطله من أجل الهاء، وقد رأو أن الهاء تنصرف إلى يوسف وليست منصرفة إليه، لكنها كناية عن
(١) "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٩.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٦.
(٣) "تهذيب اللغة" (كبر) ٤/ ٣٠٩١.
99
مصدر الفعل يعنى بها أكبرن إكبارًا، أي حضن حيضًا، فكنى عن المصدر كما يقال: قدم زيد فأحببته، يعنون فأحببت قدومه (١) كما قال الشاعر (٢):
وليسَ المَالُ فاعْلَمْهُ بمَالٍ وإن أغْنَاكَ إلا للدُنِّي
أراد: فاعلم علمًا، قال: وهذا القول مقبول لقول ابن عباس به، وبناء جماعة من التابعين عليه، والقول في الهاء ما قاله أبو بكر، لا ما قاله الأزهري، لأن هاء الوقفة تسقط في الوصل ولا توصل بواو.
وقوله تعالى: ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ قال المفسرون: حززن (٣) أيديهن بالسكاكين، وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترج، قال قتادة (٤): أبن أيديهن حتى ألقينها، وقال مجاهد (٥): لم يحسسن إلا بالدم، ولم يحدث الألم من حز الأيدي لشغل قلوبهم بيوسف.
قال أهل المعاني: قوله ﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ يحتمل ضروبًا من القطع: أحدها: أن يكون كما ذكره قتادة، والثاني: أن يجرحن أيديهن في مواضع، وكذلك ذكر بلفظ التكثير، والثالث: أن كل واحدهَ جرحت يدها جراحة
(١) في (ب): (وكما) بزيادة الواو.
(٢) البيت بلا نسبة في الأزهية ص ٢٩٣، و"الإنصاف" ٢/ ٦٧٥، و"خزانة الأدب" ٥/ ٥٠٤، و"الدرر" ١/ ٢٥٥، و"رصف المباني" ص ٧٦، و"اللسان" (ضمن) ١٣/ ٢٥٩ (لذا) ١٥/ ٢٤٥، و"همع الهوامع" ١/ ٨٢، برواية العجز: (من الأقوام إلا للذي).
(٣) في (ب): جززن.
(٤) الطبري ١٢/ ٢٠٧، والثعلبي ٧/ ٧٩ ب، والبغوي ٤/ ٢٣٨، و"زاد المسير" ٤/ ٢١٨، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٣٦ بنحوه عن غير قتادة.
(٥) الطبري ١٢/ ٢٠٦، الثعلبي ٧/ ٧٩ ب، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٣٦، وفيه حز حزًّا بالسكين، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٣٠، البغوي ٤/ ٢٣٨، و"زاد المسير" ٤/ ٢١٨.
100
واحدة، ولكنهن لما كن عدة حسن فعل التكثير.
وقوله تعالى: ﴿وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ﴾ قال أهل اللغة (١) والنحويون: حاش وحاشا يستعملان في الاستثناء والتبرئة، فالاستثناء أن تقول: أتاني القوم حاشا زيد، ومعناه: إلا زيد، وموضع الجار مع المجرور نصب، وأكثر ما يستعمل معه اللام، نحو: ضربت القوم حاشا لزيد، وحاش لزيد، فإن أسقطت اللام جررت بحاشا ما بعدها، وقد أجاز النصبَ بها جماعةٌ من النحويين، وكالتي في الآية، وتأويلها: معاذ الله، وهو تنزيه ليوسف على حال البشر أو عما قُرف به.
وأما اشتقاق هذه الكلمة، فقال الزجاج (٢): اشتقاقه من الحشا والحاشية بمعنى الناحية، من قولك: كنت في حشا فلان، أي: في ناحيته، ومعنى قولك: حاشا لزيد: قد تنحى زيد عن هذا وتباعد منه، كما تقول: تنحى من الناحية، كذلك تحاشى من هذا الفعل بمعنى تباعد من حاشية الشيء، وهي ناحيته، ونحو هذا قال أحمد بن عبيد: حاشا مأخوذة من قول العرب: لا أدري أي الحشا أخذ فلان، يعنون أي النواحي، واحتج بقول الهذلي (٣):
يَقُولُ الذي أمْسَى إلى الحزْنِ أهْلُه بأيِّ الحَشَا أمْسَى الخَلِيطُ المُبَايِنُ
(١) "تهذيب اللغة" (حشو) ١/ ٨٢٥، و"الزاهر" ٢/ ٢٨٨.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٧.
(٣) لمالك بن خالد الخناعي، ويقال: للمعطل، والحشا: أجواف الأودية، والخليط: الذين يخالطون في الدار، المباين: المفارق المزايل، انظر: "شرح أشعار الهذليين" للسكري ١/ ٤٤٦، و"تهذيب اللغة" (حشا) ١/ ٨٢٦، و"المخصص" ٥/ ١١٨، و"شرح المفصل" ٢/ ٨٥، و"جمهرة اللغة" ٢/ ١٠٤٩.
101
أراد: بأي النواحي، واحتج أيضًا بقول النابغة (١):
وما أُحَاشِي مِنَ الأقْوَامِ مِنْ أَحَدِ
قال: معناه ما أعدل أحدًا من الأقوام في حشا، أي في ناحية، ولهذا احتمل هذه الكلمة معنى الاستثناء والتنزيه، لأن معنى التنزيه التنحيةُ والإبعاد، وكذلك معنى الاستثناء هو الإخراج عن جملة المذكورين.
وقال أبو علي (٢): حاشا فاعل من حاشى يحاشي، ومعنى: حاش لله، أي: صار يوسف في حشًى، أي: ناحية مما قُرِف به، أي لم يلابسه، وصار في عزلة عنه وناحية، وإذا كان حاشا فعلًا فلابد له من فاعل وفاعله يوسف، كأن المعنى بعد عن هذا الذي رُمي به، (لله) أي لخوفه ومراقبته أمره، وأما حذف الألف منه، فلأن الأفعال قد حذف منها، نحو: لم يك، ولا أدر، ولم أبل، وقد حذفوا الألف من الفعل، نحو ما حكي عن العرب سماعًا: أصاب الناس جهد ولو نر (٣) أهل مكة، وإنما هو (نرى) فحذفت الألف المنقلبة عن اللام كما حذفت من حاشا، وقد قال رؤبة (٤):
وصَّاني العَجَّاجُ فيما وَصنِي
(١) عجز بيت للنابغة الذبياني من قصيدة يمدح بها النعمان ويعتذر إليه، وصدره: ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه
انظر: "ديوانه" ص ١٢، و"الإنصاف" ٢٤١، و"الخزانة" ٢/ ٤٤، و"الهمع" ١/ ٢٣٣، و"الدرر" ١/ ٩٨، والقرطبي ٩/ ١٨١، و"الدر المصون" ٦/ ٤٨٤.
(٢) "الحجة" ٤/ ٤٢٣.
(٣) سقط من (أ، ب، ج) وما أثبته في (ي)، وفي "الحجة" ٤/ ٤٢٣: ولو تَرَما أهل مكة.
(٤) من أرجوذة له في "ديوانه" ص ١٨٧، وقبله:
مُسرول في آلة مُربن يمشي العرضى في الحديد المتقن
وبلا نسبة في "الأشباه والنظائر" ٢/ ٤٤٩، و"الخزانة" ١/ ١٣١.
102
ومن أثبث الألف جاء به على التمام والأصل، واختلف النحويون في أن حاشا في الاستثناء حرف جر أم فعل، فهو عند سيبويه (١) حرف، وعند المبرد (٢) يجوز أن يكون فعلًا، وهو اختيار أبي علي، قال: لأن الحرف الجار لا يدخل على مثله، وقد دخل حاشا على اللام الجارة، ولأن الحروف لا تحذف إذا لم يكن فيها تضعيف، واحتج المبرد بقول النابغة (٣):
وما أُحَاشِي مِنَ الأقْوَامِ من أَحَدِ
قال: لما صرف فاستعمل منه أحاشي، علم أنه فعل.
قال أصحاب سيبويه: قول سيبويه أولى، لأنه يتعلق بالحكاية عن العرب فكان أولى، وحجته في أنها لا تكون إلا حرفًا اجتماع النحويين على أنها لا تكون صلة لما، فلا تقول: جاءني القوم ما حاشا زيدًا، كما تقول: ما خلا زيدًا، فلما امتنعت أن تكون صلة لـ (ما)، دل على أنها ليست بفعل، واحتجاج أبي العباس عليه بقول النابغة لا يلزم؛ لأن قوله (وما أحاشى) ليس بتصريف فعل بل هو بناء فعل على حكاية [قول القائل: حاشا فلان، نحو قولهم: حوقل وبسمل، كأنه قال: ما أقول هذا القول. وأما] (٤) قول أبي علي، وقد ذكره أبو العباس أيضًا أن حاشا دخلت على اللام الجارة، فتقدير ذلك أن تكون اللام معلقة بفعل آخر، وتكون زائدة، وأما
(١) "الكتاب" ٢/ ٣٠٩.
(٢) "المقتضب" ٤/ ٣٩١، قال محقق الكتاب: وهذه المسألة من المسائل التي رد فيها المبرد على سيبويه، وقد تعقبه ابن ولاد في الانتصار، وانظر: "الحجة" ٤/ ٤٢٢.
(٣) سبق التعليق على البيت.
(٤) ما بين المعقوفين في (ب) وهو ساقط من (أ)، (ج).
103
قوله: الحروف لا تحذف، قيل: إنها تخفف وتشدد فيجوز أن تحذف أيضا من حاشا لكثرة استعمالهم إياه، ولاتصال اللام بها.
وذكر أبو علي (١) في "الإيضاح" أن حاشا حرف فيه معنى الاستثناء، تقول: أتاني القوم حاشا زيد، فموضع الجار والمجرور النصب، وأكثر أهل العربية على أن معنى قوله ﴿حَاشَ لِلَّهِ﴾ تنزيه ليوسف عما رمته به امرأة العزيز كما ذكرنا، وذهبت طائفة إلى أن المراد تنزيهه من (٢) شبه البشرية، لفرط جماله وروعة بهائه، ويؤكد هذا المعنى سياقُ الآية بعد هذا، ويكون تقدير الآية على هذا المعنى: حاشا يوسف، أي: بعد عن أن يكون بشرًا، ودخلت (لله) تأكيدًا لهذا المعنى.
وقوله تعالى: ﴿مَا هَذَا بَشَرًا﴾ قال الفراء (٣): نصبت بشرًا؛ لأن الباء قد استعملت فيه، ولا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلا بالباء، فلما حذفوها أحبوا أن يكون لها أثر فيما خرجت منه، فنصبوا على ذلك، ألا ترى أن كل ما في القرآن أتى بالياء إلا هذا، وقوله تعالى: ﴿مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾ [المجادلة: ٢].
وقال الزجاج (٤): سيبويه والخليل وجميع النحويين القدماء يزعمون أن بشرًا منصوب لأنه خبر (ما) ويجعلونه بمنزلة (ليس)، و (ما) معناه معنى (ليس) في النفي.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ تأكيد أنه ليس من البشر.
(١) "الإيضاح" ص ٣٣.
(٢) من هنا يبدأ سقط في نسخة (ب) حتى ص ١١١.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٤٢.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٧.
104
٣٢ - قوله تعالى ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ معنى اللوم في اللغة (١) الوصف بالقبيح، ونقيضه الحمد، قال المفسرون (٢): (أرادت امرأة العزيز إظهار عذرها عند النسوة، بما يشاهدن من جمال يوسف) (٣). فلما بهتن بالنظر إليه، وذهب عقولهن، وجعلن يقطعن أيديهن، قالت: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ قال ابن الأنباري (٤): أشارت بذلك إلى يوسف بعد انصرافه من المجلس، يدل على هذا ما روي أن ابن عباس (٥) قال: في قوله ﴿فَذَلِكُنَّ﴾ يريد فهو الذي لمتنني فيه، أي في حبه، والشغف به، ثم أقرتْ عندهنَّ فقالت: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ قال ابن عباس (٦) والمفسرون (٧) وأهل اللغة (٨): فامتنع، ومعنى الاستعصام الامتناع بطلب العصمة، والعصمة سميت عصمة؛ لأنها تمنع من ارتكاب المعصية، قال الأصمعي (٩): العصمة في كلام العرب المنع، وعصمة الله العبد، أن يمنعه مما يوبقه، واعتصم بالله، إذا امتنع به، واعتصم إذا امتنع وأبى،
(١) "تهذيب اللغة" (لام) ٤/ ٣٢٢١، و"اللسان" (لوم) ٧/ ٤١٠١.
(٢) الطبري ١٢/ ٢٠٩، الثعلبي ٧/ ٨٠ ب.
(٣) ما بين المعقوفين مكرر في (أ).
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢١٩، الرازى ١٨/ ١٣٠.
(٥) قال به الطبري ١٢/ ٢٠٩.
(٦) الطبري ١٢/ ٢١٠، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٧، وأبو الشيخ كما في "الدر".
(٧) الثعلبي ٧/ ٨٠ ب، البغوي ٤/ ٢٣٩، ابن عطية ٧/ ٥٠١، "زاد المسير" ٤/ ٢٢٠، وأبو الشيخ كما في "الدر".
(٨) "مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ص ١/ ٢٥٥، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٤٢٣، و"اللسان" (عصم) ٥/ ٢٩٧٦.
(٩) "تهذيب اللغة" (عصم) ٣/ ٢٤٦٦.
وقال قتادة (١): فاستعصى.
وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ﴾ قال ابن عباس (٢): يريد ما أدعوا إليه ﴿لَيُسْجَنَنَّ﴾ توعدته بإيقاع المكروه به، إن لم يطعها فيما تدعوه إليه، و ﴿وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾، ومضى الكلام في النون الشديدة والخفيفة، وأن الوقف عليها بالألف كالتنوين في موضع النصب، والصاغر الذليل، ذكرنا ذلك في قوله ﴿وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: ٢٩] وقوله ﴿صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ﴾ (٣).
٣٣ - وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ (٤) قال أبو بكر: معناه: رب دخول السجن أحب إلى مما يطالبنني به من معصيتك، والتعرض لسخطك، فحذف المضاف، وهذا قول الزجاج (٥)، قال أبو بكر ويجوز أن يكون السِّجن بمعنى السَّجْن إذ الاسم المشتق من الفعل يأتي نائبًا عن المصدر، كما يقال: طلعت الشمس مطلعًا، وغربت مغربًا، جعلوها خلفًا من المصدر وهما اسمان، كذلك السجن، وهذا قول الفراء (٦)، ولابد من أحد التقديرين؛ لأن السِّجن بالكسر اسم للموضع الذي يحبس فيه، وليس يريد أن ذلك الموضع أحب إلى، بل يريد دخوله واللبث فيه، فإن قيل: لم قال: (أحب إلي) ولا واحد من الأمرين محبوب له، لا السجن،
(١) الطبري ١٢/ ٢١٠، وأبو الشيخ كما في "الدر"، والثعلبي ٧/ ٨٠ ب، والقرطبي ٩/ ١٨٤.
(٢) قال به الطبري ١٢/ ٢١٠، والثعلبي ٧/ ٨٠، والبغوي ٤/ ٢٣٩.
(٣) الأنعام: ١٢٤. وقد قال هناك الصغار: الذل الذي يصغر إلى المرء نفسه.
(٤) في (أ)، (ج): (يدنني) بدلا من (يدعونني).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٨.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٤٤.
106
ولا ما دعونه إليه، إذ لا يريده؟ قلنا هو على التقدير أي: لو كانا مما أريده لكانت إرادتي لهذا أشد، كمن خير بين خصلتي شر، فاختار أيسرهما وأقربهما إلى النجاة.
وقوله تعالى: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ﴾ قال أبو إسحاق (١): يعني امرأة العزيز وحدها، إلا أنه أراد كيدها وكيد جميع النساء، وجائز أن يكون أراد كيدها وكيد النسوة اللاتي رأينه حين أرتهن إياه، يؤكد هذا ما قال وهب (٢): أن النسوة أمرنه بمطاوعتها، وقلن له: إنك الظالم وهي المظلومة، فلا تعصها واقض حاجتها.
وقوله تعالى: ﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾ قال ابن عباس (٣): أمِلْ إليهن، وقال قتادة (٤): أتابعهن، يقال: صبا إلى اللهو يصبو صبوًا، إذا مال إليه، وقال أبو الهيثم: صبا فلان إلى فلانة، وصبا لها يصبو، صبى منقوص وصبوة، أي مال إليها.
وقوله تعالى: ﴿وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ قال ابن عباس: يريد المذنبين الآثمين، وقال أهل المعاني: وأكن ممن يستحق صفة الذم بالجهل، في هذه الآية بيان أن يوسف لما أظلته البلية بكيد النساء ومطالبتهن إياه بالفجور فزع إلى الدعاء والرغبة إلى الله تعالى بالدعاء ليكشف ذلك، مع الاعتراف بأنه إن لم يعصمه من المعصية وقع فيها، فدل أنه لا ينصرف واحدٌ عن
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٩.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٢٠، البغوي ٤/ ٢٣٩، القرطبي ٩/ ١٨٥، ابن عطية ٧/ ٥٠٢.
(٣) قال به الطبري ١٢/ ٢١١، و"تنوير المقباس" ص ١٤٩، الثعلبي ٧/ ٢٨١، البغوي ٤/ ٢٣٩، "زاد المسير" ٤/ ٢٢٠، القرطبي ٩/ ١٨٥.
(٤) الطبري ١٢/ ٢١١، الثعلبي ٧/ ٨١ أ، البغوي ٤/ ٢٣٩، القرطبي ٩/ ١٨٥، ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٨، أبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٣١.
107
المعصية (١) إلا بلطف الله عز وجل وعصمته، فاستجاب ليوسف ربه دعاءه،
وذلك أن قوله: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ﴾ تأويله اللهمَّ اصرف، كما أن تأويل قول القائل: إلا تطعني أعاقبك، أطعني، قاله أبو بكر (٢).
٣٤ - وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ قال ابن عباس (٣): يريد لدعائه، العليم بما يخاف من الإثم.
٣٥ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ﴾ يقال: بدا له في هذا الأمر بداة، إذا تغير رأيه عما كان عليه، وظهر له رأي آخر، قال وهب والسدي (٤): إن امرأة العزيز قالت لزوجها: إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس، يخبرهم أني راودته عن نفسه، ولست أطيق أن أعتذر بعذري، فإما أن تأذن لي فأخرج وأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني، فظهر للعزيز وأصحابه من الرأي حبس يوسف.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ﴾ يعني آيات براءته من قدِّ القميص من دبر، وخمش الوجه وإلزام الحكيم إياها، وقوله: ﴿إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾، هذا قول المفسرين، وذكر قتادة (٥) في هذا الآيات حز الأيدي، ولست أدري أي آية فيه على براءة (٦) يوسف، فإن
(١) في (ج): (معصية) من غير آل.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٢٠.
(٣) الطبري ١٢/ ٢١٢، الثعلبي ٧/ ٨١ أ، البغوي ٤/ ٢٣٩.
(٤) الطبري ١٢/ ٢١٣، الثعلبي ٧/ ٨١ أ، "زاد المسير" ٤/ ٢٢١، البغوي ٤/ ٢٣٩، القرطبي ٩/ ١٨٧.
(٥) الطبري ١٢/ ٢١٢، عبد الرزاق ٢/ ٣٢٣.
(٦) قال ابن عطية ٧/ ٥٠٥: (وخمش الوجه وحز النساء أيديهن ليس فيهما تبرئة ليوسف، ولا تتصور تبرئة إلا في خبر القميص).
108
قيل: أين فاعل بدا؟ قيل هو مضمر دل عليه (ليسجننه)، على تقدير: بدا لهم بداء (١) فقالوا والله (لنسجننه)، واللام في لنسجننه جواب ليمين (٢) مضمرة، كقوله ﴿وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ﴾ [البقرة: ١٠٢] وقد مر، ورد السجن إلى الياء تغليبًا للأسماء الغيب، كما تقول: قال القوم والله ليكرمن ولنكرمن محمدًا، بالياء والنون، هذا الذي ذكرنا جواب ابن الأنباري (٣) وغيره من النحويين.
وقال الفراء (٤) وأصحابه: قوله ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ قام مقام فاعل بدا؛ لأن تلخيصه: ظهر لهم سجنه، فناب الفعل الذي فيه لام القسم عن فاعل بدا، وذلك لما كان في الكلام معنى قول؛ لأن تأويل قوله (بدا لهم) أي فيما قالوا ودبروا، فصار كقولك: قلت ليقومن عبد الله، فتسد اللام وما بعدها مسد الكلام حين يقال قلن كلامًا فاللام (٥) في (ليسجننه) هذه قصتها؛ إذ كان الفعل الذي قبلها يرجع إلى القول في المعنى.
وذكر أبو علي الفارسي في "المسائل الحلبية" (٦) هذه الآية، فقال: إن أبا عثمان يقول: إن فاعله مضمر فيه، كأنه عنده: ثم بدا لهم بدو، فأضمر الفاعل لدلالة فعله عليه، وجاز هذا وحسن، وإن لم يحسن أن نقول: ظهر ظهور وعلن علن؛ لأن البدو والبدا قد استعمل على معنى غير المصدر،
(١) هذا القول رجحه ابن عطية ٧/ ٥٠٤، القرطبي ٩/ ١٨٦، والتقدير: ثم بدا لهم رأي.
(٢) في (أ): (ليمن).
(٣) "الزاهر" ٢/ ٦١، و"زاد المسير" ٤/ ٢٢١.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٤٤.
(٥) في (ج): (واللام).
(٦) "المسائل الحلبية" ص ٢٣٩.
109
ألا ترى أن قولهم: بدا لهم بدو، بمنزلة ظهر لهم رأي، كما أن قولهم: قيل فيه قول كذلك، فلهذا أقيم المصدر فيه مقام الفاعل، وأما قوله (ليسجننه) فحمله أبو عثمان على أنه حكاية، تقديره: بدا لهم أمر قالوا ليسجننه، فأضمر القول كما قال ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ﴾ [الزمر: ٣] أي قالوا، ومثله كثير في التنزيل (١).
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى حِينٍ﴾ قال أهل اللغة (٢): الحين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه والطويل.
قال ابن عباس (٣) في رواية عطاء: يريد إلى انقطاع القالة وما شاع في المدينة من الفاحشة، وقال في رواية الكلبي (٤): الحين هاهنا خمس سنين.
وقال سفيان وعكرمة (٥): سبع سنين.
(١) في هذه المسأله ثلاثة أقوال:
١ - مذهب سيبويه أن ليسجننه في موضع الفاعل أي: ظهر لهم أن يسجنوه، وقال محمد بن يزيد: هذا غلط لا يكون من الفاعل جملة ولكن.
٢ - الفاعل ما دل عليه بدا أي بدا لهم بداءٌ، فحذف الفاعل لأن الفعل يدل عليه.
٣ - أن معنى (بدا له) في اللغة ظهر له ما لم يكن يعرفه، فالمعنى ثم بدا لهم أي لم يكونوا يعرفونه، وحذف هذا لأن في الكلام عليه دليلًا، وحذف أيضًا القول أي قالوا: (ليسجننه) انظر: "الكتاب" ١/ ٤٥٦، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٤١.
(٢) "تهذيب اللغة" (حين) ١/ ٧١٤، و"لسان العرب" (حين) ٢/ ١٠٧٣.
(٣) القرطبي ٩/ ١٨٧، وفي البغوي ٤/ ٢٣٩، و"زاد المسير" ٤/ ٢٢٢ ونسبوه إلى عطاء.
(٤) البغوي ٤/ ٢٣٩، "زاد المسير" ٤/ ٢٢٢، القرطبي ٩/ ٨٧، الثعلبي ٧/ ٨١ أ.
(٥) الطبري ١٢/ ٢١٣، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٤١ وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٣٢، والبغوي ٤/ ٢٣٩، وابن عطية ٩/ ٢٩٧، و"زاد المسير" ٤/ ٢٢٢، القرطبي ٩/ ١٨٧، عن عكرمة (تسع سنين).
110
وقال مقاتل بن سليمان (١): حُبس يوسف اثني عشرة سنة (٢)، وفي هذه الآية بيان أن العزيز أطاع زوجته في حبس يوسف، بعد علمه ببراءته، موافقة لها، وذكر المفسرون (٣) أن الله تعالى جعل ذلك الحبس [تطهيرًا] (٤) ليوسف من همه بالمرأة، وتكفيرًا لزلته، وذكر ابن الأنباري أن الله تعالى أبهم الحين هاهنا، إرادةً لتكرمة العلماء ورفعًا لأقدارهم؛ ليفزع الناس إليهم في المشكلات وهم يعرفون ذلك بتطلب التأويل (٥) والبحث عن غامض التفسير.
٣٦ - قوله تعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ﴾ قال السدي (٦) وقتادة (٧) والمفسرون (٨): هما غلامان كانا لملك مصر الأكبر، أحدهما صاحب طعامه، والآخر صاحب شرابه، رفع إليه أن صاحب طعامه يريد أن يسمه، وظن أن الآخر مالأه على ذلك، فأمر بحبسهما.
(١) "تفسير مقاتل" ١٥٤ أ.
(٢) قلت الراجح -والله أعلم- هو أنه قد بدا لهم أن يسجنوه من غير تعيين زمن محدد، الذي ذكره المفسرون هو مقدار ما لبث في السجن لا المدة التي قررها الملك حين أدخله السجن. انظر ابن عطية ٧/ ٥٠٦، و"زاد المسير" ٤/ ٢٢٢.
(٣) الثعلبي ٧/ ٨١ أ، القرطبي ٩/ ١٨٧.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٥) إلى هنا انتهى السقط من نسخة (ب).
(٦) الطبري ١٢/ ٢١٤، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٤٢.
(٧) الطبري ١٢/ ٢١٤، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٤١.
(٨) الطبري ١٢/ ٢١٤، الثعلبي ٧/ ٨١ ب، البغوي ٤/ ٢٤٠، "زاد المسير" ٤/ ٢٢٣، القرطبي ٩/ ١٨٩.
111
والفتى في اللغة (١): الشاب القوي، قال الزجاج (٢): ويجوز أن يكونا حَدَثين أو شيخين، لأنهم كانوا يسمون المملوك فتى، قال: ولم يقل: فحبس يوسف ودخل معه السجن فتيان؛ لأن في قوله ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ﴾ دليلًا على أنه حبس.
قال ابن عباس (٣) في رواية عطاء: في قوله (فتيان) عبدان للملك، وكان أحدهما على شراب الملك، والآخر على طعامه.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ قال المفسرون (٤) كان يوسف لما دخل السجن قال لأهله: إني أعبر الأحلام، فقال أحد الفتيين: هلم فلنجرب هذا العبد العبراني نترايا له، فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئًا.
قال ابن مسعود (٥): ما رأيا شيئًا، إنما كانا تحالما ليجربا علمه.
وقال مجاهد (٦): كانا قد رأيا حين أدخل السجن رؤيا، فأتيا يوسف، فقال له الساقي: أيها العالم إني رأيت كأني في بستان، فإذا بأصل حَبَلَة (٧)
(١) "تهذيب اللغة" (فتى) ٢٧٣١/ ٣، و"اللسان" (فتا) ٦/ ٣٣٤٧.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٩.
(٣) انظر: البغوي ٤/ ٢٤٠، الرازي ١٨/ ١٣٣، "زاد المسير" ٤/ ٢٢٢.
(٤) البغوي ٤/ ٢٤٠، الرازي ١٨/ ١٣٣، "زاد المسير" ٤/ ٢٢٢.
(٥) الطبري ١٢/ ٢١٤، الثعلبي ٧/ ٨١ ب، البغوي ٤/ ٢٤٠، "زاد المسير" ٤/ ٢٢٢، ابن عطية ٧/ ٥٠٧، القرطبي ٩/ ١٨٩.
(٦) الطبري ١٢/ ٢١٥، الثعلبي ٧/ ٨١ ب، البغوي ٤/ ٢٤٠، "زاد المسير" ٤/ ٢٢٢، ابن عطية ٧/ ٥٠٧، القرطبي ٩/ ١٨٩.
(٧) الحبلة: يطلق على شجرة العنب قال الليث: يقال للكرمة حبلة، و"تهذيب اللغة" (حبل) ١/ ٧٣٢، و"لسان العرب" (حبل) ٢/ ٧٦٢.
112
حسنة فيها ثلاثة أغصان، عليها ثلاثة عناقيد من عنب فجنيتها، فكأن كأس الملك بيدي، فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه، فذلك قوله ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ قال أبو إسحاق (١): لم يقل إني أراني في النوم أعصر خمرًا، لأن الحال يدل على أنه ليس يرى نفسه في اليقظة يعصر خمرًا، قال ابن الأنباري: لأنه لو لم يقصد للنوم كان قوله (أعصر) مستغنى به عن ﴿أَرَانِي﴾ وقال غيرهما: قد دل على المنام قولهما ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ وذلك أنه لا يكون لما يرى في اليقظة تأويل.
وقوله تعالى: ﴿أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ قال الليث (٢): يقال: عصرت العنب وعصرته، إذا وليت عصره بنفسك، واعتصرت إذا عُصِرَ لك، والعصارة ما يحلب عن شيء بعصره، وذكر المفسرون (٣) وأهل المعاني في قوله: ﴿أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون المعنى أعصر عنب خمر، أي العنب الذي يكون عصيره خمرًا، فحذف المضاف.
والثاني: أن العرب تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه إذا انكشف المعنى ولم يلتبس، فيقولون: فلان يطبخ الآجُرّ، يعنون اللّبِن، فيوقعون بالفرع ما هو واقع بالأصل، ويقولون: هو يطبخ دبسًا، وهو يطبخ عصيرًا، هذا (٤) الذي ذكرنا قول الزجاج (٥) وابن الأنباري (٦).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٩.
(٢) "تهذيب اللغة" (عصر) ٣/ ٢٤٥٨.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٢٣، البغوي ٤/ ٢٤٠، الرازي ١٨/ ١٣٤.
(٤) في (ج): (هو).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٠٩.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٢٣.
113
والقول الثالث: أن من العرب من يسمي العنب خمرًا، وأن قريشًا نطقت بهذه اللغة وعرفتها، فذكرها الله عز وجل في كتابه، قال الضحاك (١): نزل القرآن بكل لسان، والعنب بلغة بعضهم الخمر.
وقال الكلبي عن أبي صالح (٢): أزد وعمان يسمون العنب الخمر، وحكى الأصمعي (٣) عن المعتمر أنه لقي أعرابيًا معه عنب، فقال: ما معك؟ قال: خمر (٤).
وقال صاحب الطعام (ليوسف: إني رأيت) (٥) كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وألوان الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش (منه، فذلك قوله) (٦) ﴿وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ﴾ والخبز المصدر، والخبازة صنعة الخباز، (وقال الليث (٧): الطير اسم جامع) (٨) مؤنث، والواحد طائر.
وقال أحمد بن يحيى (٩): الناس كلهم يقولون للواحد طائر،
(١) الطبري ١٦/ ٩٧، ابن المنذر وابن أبي حاتم ٤/ ٢١٦ أ، كما في "الدر" ٤/ ٥٣٦، القرطبي ٩/ ١٩٠، "زاد المسير" ٤/ ٢٢٣.
(٢) "تنوير المقباس" ص ١٤٩، و"زاد المسير" ٤/ ٢٢٣، وابن عطية ٧/ ٥٠٧.
(٣) الثعلبي ٧/ ٨٢ أ، ابن عطية ٧/ ٥٠٧، القرطبي ٩/ ١٩٠، "لسان العرب" (خمر) ٢/ ١٢٥٩.
(٤) ما سبق من تفسير قوله: ﴿أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ والاحتمالات الثلاثة ذكرها صاحب اللسان (خمر) ٢/ ١٢٥٩.
(٥) ما بين المعقوفين بياض في (ب).
(٦) ما بين المعقوفين بياض في (ب).
(٧) "تهذيب اللغة" (طير) ٣/ ٢١٤٩، و"لسان العرب" (طير) ٥/ ٢٧٣٥.
(٨) ما بين المعقوفين بياض في (ب).
(٩) المشهور بثعلب، و"تهذيب اللغة" (طير) ٣/ ١٢٤٩، و"اللسان" (طير) ٥/ ٢٧٣٥.
114
وأبو عبيدة (١) معهم، ثم انفرد فأجاز أن يقال طير للواحد، وجمعه على طيور، قال: وهو ثقة.
وقوله تعالى: ﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ قال ابن عباس (٢): أخبرنا بتفسيره، قال أبو عبيد (٣): تأويل الشيء ما يرجع إليه وتصرف من المعنى الذي تحته.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ معناه: إنا نراك تؤثر الإحسان وتأتي مكارم الأخلاق، وجميع (٤) الأفعال، يدل على هذا ما قاله إبراهيم وقتادة (٥): كان يعود مرضاهم، ويعزي حزينهم، ورأوا منه محافظة على طاعة الله عز وجل فأحبوه، قال (٦) الضحاك (٧): كان إذا مرض رجل في السجن قام عليه، وإذا ضاق وَسَّع له، وإن احتاج جَمَعَ له وسأله، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المعنى: إن عبرت لنا هذين المنامين، فإنك من المحسنين إلينا، بقضائك هذه الحاجة لنا، وهذا معنى قول ابن إسحاق (٨): قال: إنا نراك من المحسنين إن فسرت لنا هذين المنامين.
(١) "تهذيب اللغة" (طير) ٣/ ١٢٤٩، "اللسان" (طير) ٥/ ٢٧٣٥.
(٢) الثعلبي ٧/ ٨٢ ب، البغوي ٤/ ٢٣٩، "زاد المسير" ٤/ ٢٢٣.
(٣) الطبري ١٢/ ٢١٥ عن أبي عبيد.
(٤) كذا في جميع النسخ ولعلها (وجميل).
(٥) الطبري ١٢/ ٢١٦، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٣٤، وابن عطية ٧/ ٥٠٩، والثعلبي ٧/ ٨٢ ب، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٤٣.
(٦) في (ج): وقال.
(٧) الطبري ١٢/ ٢١٦، وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٤٣، وأبو الشيخ والبيهقي في "الشعب" كما في "الدر" ٤/ ٣٤، البغوي ٤/ ٢٣٩، والقرطبي ٩/ ١٩٠، والثعلبي ٧/ ٨٢ ب.
(٨) انظر الطبري ١٢/ ٢١٦، ابن عطية ٧/ ٥٠٩، "زاد المسير" ٤/ ٢٢٣، الثعلبي ٧/ ٨٢ ب.
115
وقال الفراء (١): إنا نراك من المحسنين، يقول من العالمين قد أحسنت العلم، قال ابن الأنباري (٢): والتقدير على هذا: من المحسنين العلم، فحذف مفعول الإحسان كما حذف في قوله: ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ [يوسف: ٤٩] أي السمسم والعنب، ونحو هذا قال الزجاج (٣): أي ممن يحسن التأويل (٤)، قال: وهذا دليل أن أمر الرؤيا صحيح، وأنها لم تزل في الأمم الخالية، ومن دفع أمر الرؤيا وأن منها ما يصح فليس بمسلم، لأنه يدفع القرآن والأثر، وهذه الآية بيان عما يوجبه لطف الله تعالى فيما سببه لنجاة يوسف بالعلم والإحسان في جوابه عما سأله الفتيان؛ لأن تعبيره رؤيا هذين كان سبب نجاته.
٣٧ - قوله تعالى: ﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾ الآية، هذا ليس بجواب ما سألا عنه، ولكن يوسف عليه السلام لما علم أن تأويل رؤياهما يوجب قتل أحدهما، بدأ بدعائهما إلى الإسلام ليستعدا به قبل استماع جواب الرؤيا، هذا قول جماعة من المفسرين، قال قتادة (٥): لما علم نبي يوسف أن
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٤٥، الثعلبي ٧/ ٨٢ ب.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٢٤.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٠.
(٤) رجح الطبري ١٢/ ٢١٦ من هذه الأقوال قول قتادة والضحاك، ثم قال: فإن قال قائل: وما وجه الكلام إذا كان الأمر إذاً كما قلت، وقد علمت أن مسألتهما يوسف أن ينبئهما بتأويل رؤياهما، ليست من الخبر عن صفته بأنه يعود المريض، ويقوم عليه ويحسن إلى من احتاج في شيء، وإنما يقال: (نبئنا بتأويل هذا فإنك عالم). وهذا من المواضع التي تحسن منه بالوصف بالعلم لا بغيره؟.
قيل: إن وجه ذلك أنهما قالا له: نبئنا بتأويل رؤيانا محسنًا إلينا في إخبارك إيانا بذلك، كما نراك تحسن في سائر أفعالك ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ اهـ.
(٥) الطبري ١٢/ ٢١٩، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٣٤.
116
أحدهما مقتول دعاهما إلى حظهما من ربهما، وإلى نصيبهما من الآخرة.
وقال آخرون (١): قصد يوسف بهذا الدلالة على أنه عالم بتفسير الرؤيا، فقال: لا يأتيكما طعام ترزقانه في منامكما، قال ابن عباس (٢): يريد تأكلان منه، إلا نبأتكما بتأويله في اليقظة قبل أن يأتيكما التأويل، هذا قول السدي (٣) وابن إسحاق (٤) أن معنى قوله: ﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾ أي في المنام.
وقال أبو إسحاق (٥): أحب يوسف أن يدعوهما إلى الإيمان، وأن يعلمهم أنه نبي، وأن يدلهما على نبوته بآية معجزة، وأعلمهما أنه يخبرهما بكل طعام يؤتيان به من قبل أن يرياه، فعلى هذا معنى قوله ﴿تُرْزَقَانِهِ﴾ في اليقظة، يقول: لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما، أي طعام هو، وأي لون هو، وكم هو، وهذا مذهب ابن جريج (٦)، والأول أوجه، لأن قوله: ﴿نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ يوجب أن يكون ذلك إعلامًا بتأويل ما تريان في النوم، ثم أعلمهما أن ذلك مما عرفه الله إياه، فقال: ﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ أي لم أخبركما على جهة التكهن والتنجم، وإنما أخبركما بوحي من الله وعلم، ثم أعلمهما أن هذا لا يكون إلا لمؤمن بالله نبي، فقال {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ
(١) أخرجه أبو عبيد، والطبري ١٢/ ٢١٧ وابن المنذر، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٤٤، عن ابن جريج كما في "الدر" ٤/ ٣٤.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٢٤، الثعلبي ٧/ ٨٣ أ.
(٣) الطبري ١٢/ ٢١٧، ابن عطية ٧/ ٥٠٩، القرطبي ٩/ ١٩١، ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٤٤.
(٤) الطبري ١٢/ ٢١٧، ابن عطية ٧/ ٥٠٩.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٠.
(٦) الطبري ١٢/ ٢١٧ بمعناه، وأبو عبيد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر" ٤/ ٣٤ وابن عطية ٧/ ٥١٠، وهو مروي عن الحسن كما في "زاد المسير" ٤/ ٢٢٤.
117
لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} قال الفراء (١): كرر (هم) لما فرق بينهما، وكأن الأول مُلغى والاتكاء والخبر عن الثاني، ومثله قوله ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ (٢).
٣٨ - (قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي﴾ إلى قوله: ﴿مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ قال ابن عباس (٣): يريد أن الله عصمنا من أن نشرك به، و (من) زائدة مؤكدة، كقولك: ما جاءني من أحد) (٤).
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا﴾ قال أبو إسحاق (٥): أي اتباعنا الإيمان بتوفيق الله لنا وبفضله علينا.
وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى النَّاسِ﴾ قال الكلبي (٦): يعني وعلى المؤمنين، يريد أن من عصمه الله من الشرك وتفضل عليه بالإيمان فهو ممن لله عليه الفضل، وهذا قول أبي إسحاق (٧)، لأنه قال: ﴿وَعَلَى النَّاسِ﴾ بأن دلهم على دينه المؤدي إلى صلاحهم، وروي عن ابن عباس (٨) أنه قال: معناه ذلك من فضل الله علينا أن جعلنا أنبياء، وعلى الناس أن جعلنا إليهم رسلًا، ودل على هذا التأويل قوله: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾. قال ابن
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٤٥، وهو قول الطبري ١٢/ ٢١٧.
(٢) النمل: ٣، لقمان: ٤.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٢٥.
(٤) ما بين القوسين ساقط من (ب).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٠.
(٦) "تنوير المقباس" ص ١٤٩، و"زاد المسير" ٤/ ٢٢٥.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٠.
(٨) الطبري ١٢/ ٢١٨، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٤٥، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٣٥، و"زاد المسير" ٤/ ٢٢٥.
عباس (١): يريد لا يوحدون الله، يعني أنه كان من شكر الإنعام عليهم ببعث (٢) الرسل أن يؤمنوا ويوحدوا.
٣٩ - قوله تعالى ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ لملازمتهما إياه بالكون فيه، كقوله تعالى لسكان الجنة والنار أصحاب الجنة وأصحاب النار (٣).
وقوله تعالى: ﴿أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ﴾ يعني الأصنام، قال الحسن (٤): متفرقون من صغير وكبير ووسط، مباين كل واحد للآخر، بما يوجب النقص، (خير) أي أعظم في صفة المدح ﴿أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ يعني أن القادر بما يقهر كل شيء أحق بالإلهية من الذليل المقهور، وهذا كقوله: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (٥).
٤٠ - قوله تعالى: ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً﴾ خاطبهما ومن على (٦) مثل حالهما من أصحاب السجن ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ أي من دون الله ﴿إِلَّا أَسْمَاءً﴾ يريد أنه لما كانت الأسماء التي سموها كالأرباب والآلهة لم تصح معانيها، صارت كأنها أسماء فارغة يرجعون في عبادتهم إليها، فكأنهم إنما يعبدون الأسماء؛ لأنه لا معاني تصح لها من إله ورب، بل أنتم وآباؤكم سميتموها آلهة (٧) ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ ما الفصل (٨) بالأمر والنهي
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٢٥.
(٢) في (ب): (بعث) بباء واحدة.
(٣) هذه عبارة الثعلبي ٧/ ٨٣ ب.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢٢٥، القرطبي ٩/ ١٩٢.
(٥) النمل: ٥٩.
(٦) في (أ)، (ب)، (ج): بزيادة (هذا).
(٧) ما سبق قريب من كلام الثعلبي ٧/ ٨٣ ب.
(٨) (ما القضاء والأمر والنهي) انظر الثعلبي ٧/ ٨٣ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٢٦.
إلا بالله ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ أي الذي أمر به من أن لا تعبدوا إلا إياه هو الدين المستقيم.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ قال ابن عباس (١): يريد لا يعلمون ما للمطيعين لله من الثواب، وما للعاصين من العقاب، ومضى الكلام في معنى القيم عند قوله ﴿دِينًا قِيَمًا﴾ (٢).
٤١ - قوله تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا﴾ الآية، قال الكلبي عن ابن عباس (٣): لما قص الساقي رؤياه على يوسف وقد ذكرنا كيف قص عليه في موضعه، قال له يوسف: ما أحسن ما رأيت، أما حسن الحبلة فهو حسن حالك، وأما الأغصان الثلاثة، فثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن، فيردك إلى عملك، فتعود كأحسن ما كنت فيه، وقال للخباز لما قص عليه: بئس ما رأيت، السلال الثلاث، ثلاثة أيام يوجه إليك الملك عند انقضائهن فيقتلك ويصلبك وتأكل الطير من رأسك، فقالا: ما رأينا شيئًا، فقال: ﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ يعني سيقع بكما ما عبرت لكما، صدقتما أم كذبتما، فإن قيل كيف حكم يوسف بوقوع تأويل المنامين وربما صدق تأويل المنام وكذب؟
والجواب عن هذا: أن حكم (٤) يوسف حتم بوقوع الأمر بهما من قبل وحي أتاه بذلك من الله تعالى، الذي يدل على هذا أن حكم المنام
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٢٦.
(٢) الأنعام: ١٦١. وقال هناك: (قال ابن عباس: يريد مستقيمًا، ونحو ذلك قال الأخفش والزجاج في "القيم"، وهو من باب الميت والصبيب) اهـ.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٢٦، "تنوير المقباس" ص ١٥٠، البغوي ٤/ ٢٤٣ بنحوه، الرازي ١٨/ ١٤٢، الثعلبي ٧/ ٨٤ أ.
(٤) في (أ)، (ب)، (ج): بزيادة (حكم).
المكذوب فيه أن يبطل تأويله، فلما وقع ما تؤل لهذين المنامين وكلاهما مكذوب فيه، دل ذلك على أن الجواب وقع بوحي، لا يبطل ولا يزول، على هذا دل كلام المفسرين.
قال ابن عباس (١) وابن مسعود (٢) وقتادة (٣) وغيرهم (٤)، قالوا: لما عبر رؤياهما، قالا ما رأينا شيئًا، فقال قضى الأمر الذي فيه تستفتيان، قطع الجواب الذي التمساه من جهته، فكأنه قال: هذا عبارة ما سألتما، وتأويل ما قصصتما عندي، ولم يعن أن الذي تأوله واقع لا محالة، فلم يحتم بصحة هذا التأويل، الدليل على ذلك قوله ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ﴾ والظان شاك غير عالم، والصحيح هو الأول؛ لأنه أشبه بحال الأنبياء (٥)، وذكرنا معنى الاستفتاء في سورة النساء (٦).
٤٢ - قوله تعالى ﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا﴾ قال ابن عباس (٧)
(١) "تنوير المقباس" ص ١٥٠.
(٢) الطبري ١٢/ ٢٢١، وابن أبي شيبة، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٤٨، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٣٦، الثعلبي ٧/ ٨٤ أ.
(٣) أخرجه أبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٣٦.
(٤) وهو قول مجاهد والسدي والطبري وغير واحد، انظر: الطبري ١٢/ ٢٢١، وابن أبي حاتم، و"البحر المحيط" ٥/ ٣١١.
(٥) هذا الذي رجحه ابن جرير الطبري ١٢/ ٢٢٢ - ٢٢٣، وابن عطية ٧/ ٥١٥، والقرطبي ٩/ ١٩٤.
(٦) عند قوله تعالى ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ [آية: ١٢٧]. قال هناك: (الاستفتاء طلب الفتوى، يقال: أفتى الرجل في المسألة واستفتيته فأفتاني إفتاء، ويقال: أفتيت فلانا في رؤياه إذا عبرتها له. اهـ.
(٧) "تنوير المقباس" ص١٥٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢٢٧.
121
ومقاتل (١) وأكثر المفسرين (٢): ظن: أيقن، وهذا التفسير موافق (٣) لقول من يقول: إنه حكم في عبارة الرؤيا بالقطع واليقين، فقال للذي (٤) علم أنه ناج من الرجلين ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ وقال قتادة (٥): إنما عبارة الرؤيا على الظن، فيبطل الله ما يشاء ويحق ما يشاء، وفسر الظن هاهنا على الشك والحسبان، وهذا موافق (٦) مذهب من يقول لم يحتم يوسف بتأويل الرؤيا، والقول هو الذي عليه العامة.
وقوله تعالى: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ أي عند الملك (٧) صاحبك، والرب هاهنا بمعنى السيد، قال المفسرون (٨): قال له يوسف إذا خرجت من السجن، فقل للملك إن في السجن غلامًا محبوسًا ظلمًا، ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ الكناية في قوله: ﴿فَأَنْسَاهُ﴾ راجعة على يوسف في قول الأكثرين، قال مجاهد (٩): أنسى الشيطان يوسف الاستغاثة بربه، وأوقع في قلبه الاستغاثة بالملك، فعوقب بأن لبث في السجن بضع سنين.
(١) "تفسير مقاتل" ١٥٤ أ.
(٢) "الكشاف" ٢/ ٣٢٢، والرازي ١٨/ ١٤٣، و"الدر المصون" ٦/ ٤٩٩، ٥٠٠.
(٣) في (أ): (موافق القول)، وفي (ج): (موافقًا لقول).
(٤) في (أ)، (ب)، (ج): (الذي).
(٥) القرطبي ١٦/ ١١٠، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٣٧، و"زاد المسير" ٤/ ٢٢٧، والقرطبي ٩/ ١٩٤، وابن عطية ٧/ ٥١٥.
(٦) في (أ)، (ب)، (ج): بزيادة (من).
(٧) رواه الطبري ١٢/ ٢٢٢ - ٢٢٣، عن ابن إسحاق ومجاهد وأسباط وقتادة.
(٨) الثعلبي ٧/ ٨٤ ب، الطبري ١٢/ ٢٢٢.
(٩) الطبري ٢٢٢ - ٢٢٤، والثعلبي ٧/ ٨٤ ب، وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٤٩، وابن المنذر كما في "الدر" ٤/ ٣٩، و"زاد المسير" ٤/ ٢٢٧.
122
وهذا قول ابن عباس (١)، واختيار الزجاج (٢)، قال: أنسى يوسفَ الشيطانُ أن يذكر ربه. وذهب بعض المفسرين إلى أن الكناية راجعة إلى إنساء الشيطان الساقي أن يذكر يوسف لربه، وهذا قول الحسن (٣)، والكلبي (٤) وابن إسحاق (٥)، وذكر الفراء (٦) القولين جميعًا.
قال ابن الأنباري: فمن أعاد الهاء على يوسف احتج بأنها لو عادت على الساقي دخل الكلام حذف وإضمار، لأنه يكون التقدير: فأنساه الشيطان ذكره لربه، ويكون كقوله ﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ (٧) أي يخوفكم بأوليائه، وإذا صح المعنى من غير إضمار وحذف، لم يعدل عنه إلى غيره (٨)، ومن جعل الهاء عائدة على الساقي، قال: لو رجعت على يوسف ما استحق عقوبة من قبل أن الناسي غير مؤاخذ، والجواب عن هذا أن معنى النسيان هاهنا الترك، ومعنى قوله ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ عامدًا لا ناسيًا.
(١) البغوي ٤ - ٢٤٤، و"تنوير المقباس" ص١٥٠، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٤٩ بنحوه بدون سند لابن عباس.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٢.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد وقال ابن كثير ٢/ ٥٢٦: (قوله: ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ الضمير عائد إلى الناجي كما قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد).
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٥٠.
(٥) الطبري ١٢/ ٢٢٤، الثعلبي ٧/ ٨٤ ب، "زاد المسير" ٤/ ٢٢٧، ابن عطية ٧/ ٥١٦.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٤٦.
(٧) آل عمران: ١٧٥.
(٨) وقد ذهب إلى هذا القول عامة المفسرين ومنهم الطبري ١٢/ ٢٢٢ وابن عطية ٧/ ٥١٦، والقرطبي ٩/ ١٩٦، والبغوي ٤ - ٢٤٤، والرازي ١٨/ ١٤٥، وأما القول الثاني على أن الناسي هو الساقي فرجحه ابن كثير ٢/ ٥٢٦، وأبو حيان ٥/ ٣١١.
123
وقوله تعالى: ﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ قال أبو عبيدة (١): البضع ما لم يبلغ العقد ولا نصفه، يريد ما بين الواحد إلى الأربعة، وقال الأصمعي (٢): ما بين الثلاث إلى التسع، قال الزجاج (٣): وهو القول الصحيح، واشتقاقه من بضعت بمعنى قطعت، ومعناه القطعة من العدد، فجعل لما دون العشرة من الثلاث إلى التسع، وهذا قول قتادة (٤).
وقال الفراء (٥) نحو هذا، وزاد فقال: لا يذكر البضع إلا مع عشر أو عشرين إلى التسعين، وهو نيف ما بين الثلاثة إلى التسعة، وقال: كذلك رأيت العرب يقولون، وما رأيتهم يقولون: بضع ومائة، وإذا كان بضع للذُّكران قيل بضعة، فعلى هذا الواحد والاثنان يقال لهما: نيف، والثلاثة إلى التسعة: بضع.
وقال المبرد (٦): هو ما بين العقدين، وهذا قول جماعة (٧)، قالوا: البضع ما دون العشر، وهو قول الأخفش (٨)، قال: هو من واحد إلى عشرة.
(١) "تهذيب اللغة" (بضع) ١/ ٣٤٦، و"اللسان" (بضع) ١/ ٢٩٨.
(٢) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ١١٢، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٤٣٠.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٢.
(٤) الطبري ١٢/ ٢٢٤، الئعلبي ٧/ ٨٤ ب. "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٤٢٩، "الدر المصون" ٤/ ١٨٥.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٤٦، و"التهذيب" (بضع) ١/ ٣٤٦، و"اللسان" (بضع) ١/ ٢٩٨، والثعلبي ٧/ ٨٤ ب، وا لطبري ١٢/ ٢٢٥.
(٦) "تاج العروس" ١١/ ١٩.
(٧) "معاني القرآن للفراء" ٢/ ٤٦، و"زاد المسير" ٤/ ٢٢٨.
(٨) "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٤٣٠، و"الزاهر" ٢/ ٣٤٢، ٣٤٣، و"زاد المسير" ٤/ ٢٢٨.
124
وروى الشعبي (١) أن النبي - ﷺ - قال لأصحابة: "كم البضع؟ " فقالوا: من واحد إلى عشرة، وهذا قول ابن عباس (٢)، وقال مجاهد (٣): هو ما بين الثلاث إلى التسع، وهو قول قطرب (٤)، وعامة المفسرين (٥) على أن المراد بالبضع هاهنا سبع، وقالوا: عاقب الله عز وجل يوسف بأن حبس سبع سنين، بعد الخمس التي حبسها إلى وقت قوله ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ وذهب مقاتل (٦) إلى العكس من هذا، فقال: الأول سبع، والآخر خمس.
قال ابن عباس (٧) في رواية عطاء: لما تضرع يوسف إلى مخلوق وقد كان اقترب خروجه، أنساه الشيطان ذكر ربه، حيث مال إلى مخلوق وترك الخالق، فلبث في السجن سنين.
وروى الحسن (٨) أن النبي - ﷺ - قال: "رحم الله يوسف، لولا الكلمة التي قالها: ﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ ما لبث في السجن طول ما لبث"، ثم
(١) الحديث أخرجه أحمد ٤/ ١٦٨، والطبري ٢١/ ١٧، والترمذي ٢/ ١٥٠، وحسنه من حديث ابن عباس، وصححه الألباني في "صحيح الجامع".
(٢) الثعلبي ٧/ ٨٤ ب، الطبري ١٢/ ٢٢٥.
(٣) الطبري ١٢/ ٢٢٤، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٥٠.
(٤) "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٤٣٠، وفي "الماوردي" ٣/ ٤٠ أنه قال: من ثلاث إلى سبع.
(٥) روى ذلك الطبري ١٢/ ٢٢٥ عن قتادة ووهب وابن جريج، وذكره الثعلبي ٧/ ٨٤ ب ونسبه إلى أكثر المفسرين.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٥٤ أ.
(٧) روي عن ابن عباس مرفوعًا نحوه انظر: ابن أبي الدنيا كتاب العقوبات، والطبري ١٢/ ٢٢٣، والطبراني وابن مردويه كما في "الدر" ٤/ ٣٧.
(٨) الطبري ١٢/ ٢٢٣، وأحمد في "الزهد" وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٤٨، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٣٧، الثعلبي ٧/ ٨٤ ب، الرازي في ١٨/ ١٥٠.
125
بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس (١).
٤٣ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ﴾ الآية، قال المفسرون (٢): لما ذكرنا فرج يوسف، رأى ملك مصر الأكبر رؤيا عجيبة هالته، وذلك أنه رأى سبع بقرات سمان، وسبعًا عجافًا (٣) فابتلعت العجاف السمان، فدخلن في بطونهن فلم ير منهن شيئًا، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعًا آخر يابسات قد استحصدت، والتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فجمع الكهنة وقصها عليهم، فذلك قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي﴾ الآية، فقوله: ﴿عِجَافٌ﴾ قال الليث (٤): العجف ذهاب السمن، والفعل عجف يعجف، والذكر أعجف، والأنثى عجفاء والجميع عجاف في الذكران والإناث، وليس في كلام العرب أفْعَل وفعلاء، وجُمعا على فعال غير أعجف وعجفاء، وهي شاذة حملوها على لفظ سمان فقالوا: سمان وعجاف، وجاء أفعل وفعلاء على فعل يفعل في أحرف معدودة، منها: الأعجف والآدم والأسمر والأحمق والأخرق والأرعن، على أن ابن السكيت (٥) قد حكى عن الفراء: عجف وحمق ورعن وخرق، بالكسر في هذه الأربعة، فمعنى العجاف الهزلى التي لا لحم عليها ولا شحم، وقال
(١) اختلف العلماء في مسألة البضع، معناها والمراد بهاهنا. والأظهر والله أعلم أن المراد بها هنا سبع سنين.
انظر: "معاني النحاس" ٣/ ٤٢٩ - ٤٣١، الماوردي ٤٠/ ٣، أبو حبان ٥/ ٣١١، "تاج العروس" (بضع) ١١/ ١٩.
(٢) الثعلبي ٧/ ٨٥ أ، وفيه: (لما دنا فرج يوسف) وهو الصحيح.
(٣) (عجافًا): ساقط من (أ)، (ب)، (ج).
(٤) "تهذيب اللغة" (عجف) ٣/ ٢٣٤٠.
(٥) "تهذيب اللغة" (عجف) ٣/ ٢٣٤٠.
126
ابن دريد (١): العجف غلظ العظام وعراؤها من اللحم.
وقوله تعالى: ﴿أَفْتُونِي﴾ ذكرنا معنى الإفتاء والاستفتاء في سورة النساء (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾، يقال: عبرت الرؤيا أعبرها عبرًا وعبارة، وعبرتها تعبيرًا إذا فسرتها، وحكى الأزهري (٣): أن هذا مأخوذ من العبر وهو جانب النهر، ومعنى عبرت النهر والطريق، قطعته إلى الجانب الآخر، فقيل لعابر الرؤيا عابر؛ لأنه يتأمل ناحيتي الرؤيا فيتفكر في أطرافها، ويمضي تفكره فيها من أول ما يرى النائم إلى آخر ما رأى، حتى يقع فهمه على الصحيح منها فيجيب، فأما اللام في قوله ﴿لِلرُّؤْيَا﴾ فقال أحمد بن يحيى (٤): أراد إن كنتم للرؤيا عابرين، وإن كنتم عابرين للرؤيا، تسمّى هذه اللام لام التعقيب، لأنها عقبت الإضافة، لأن المعنى: إن كنتم عابري الرؤيا.
وقال ابن الأنباري (٥): دخلت اللام مؤكدة مفيدة معنى التأكيد، وقيل: إنها أفادت معنى إلى، وكأن تلخيصها: إن كنتم توجهون العبارة إلى الرؤيا، والعرب تقول: هو لزيد ضارب، يعنون: هو يوجه ضربه إلى زيد،
(١) "تهذيب اللغة" (عجف) ٣/ ٢٣٤٠، وابن دريد هو: محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية، من الأزد، انتهى إليه علم لغة البصريين، كان من أحفظ الناس، توفي سنة ٣٢١ هـ. انظر: "معجم الأدباء" ١٨/ ١٢٩، و"طبقات النحويين" للزبيدي (ص ٢٠٢)، و"نزهة الألباء" (٣٢٣).
(٢) عند قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ﴾ [آية: ١٢٧].
(٣) "تهذيب اللغة" (عبر) ٣/ ٢٣٠٥.
(٤) "تهذيب اللغة" (عبر) ٣/ ٢٣٠٤.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٠.
127
وأجاز النحويون: ضربت لك، بمعنى وجهت ضربي إليك. هذا كلامه.
وقال الزجاج (١): هذه اللام أدخلت على المفعول للتبيين، لمعنى إن كنتم تعبرون وعابرين، ثم جاء باللام فقال للرؤيا.
وقال صاحب النظم: وضع الفعل هاهنا موضع النعت كقوله ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ﴾ [النساء: ٩٠] بمعنى حصرة، وقوله تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ﴾ [آل عمران: ٧] أي قائلين، كذلك المعنى هاهنا إن كنتم للرؤيا عابرين، وكما وضعوا الفعل موضع النعت، وضعوا النعت أيضًا موضع الفعل، كقوله تعالى ﴿أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٣] بمعنى أم صمتم، ومضى الكلام في مثل هذا مستقصى في قوله ﴿لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ﴾ (٢).
٤٤ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾، قال الفراء (٣): أضغاث رفع؛ لأنهم أرادوا: ليس هذه بشيء (٤)، إنما هي أضغاث أحلام، كقوله ﴿قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [النحل: ٢٤].
وأما الأضغاث، فقال النضر (٥): الضغث كالحزمة من أنواع النبت والحشيش.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٢.
(٢) الأعراف: ١٥٤. قال هنالك بعد أن ذكر أقوال النحاة في هذه اللام: "فعلى هذا قوله (لربهم) اللام صلة وتأكيد كقوله: ﴿رَدِفَ لَكُمْ﴾ النمل: ٧٢، وقال بعضهم: إنها لام أجل، والمعنى: هم لأجل ربهم يرهبون، لا رياء ولا سمعة.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٤٦.
(٤) في (أ)، (ب)، (ج): (ليس هذا شيء) والعبارة غير مستقيمة، فإما أن تكون كما ذكرته كما هو في (ي) وفي معاني القراء أو تكون (ليس هذا شيئًا)، والله أعلم.
(٥) "تهذيب اللغة" (ضغث) ٣/ ٢١٢١.
128
وقال الأخفش (١): هو ملء الكف من الحشيش.
وقال الفراء (٢): الضغث ما جمعته مما قام على ساق واستطال، وقال أبو الهيثم (٣): كل مقبوض عليه بجمع الكف فهو ضغث، هذا معنى الضغث في اللغة (٤)، قال ابن مقبل (٥):
خَوْدٌ كأنّ فراشَهَا وضِعَتْ به أضْغَاث رَيْحَان غَدَاةَ شَمَال
فأما أضغاث الأحلام، فالأكثرون على أنها الأحلام المختلطة، قال أبو عبيدة (٦): الأضغاث ما لا تأويل له من الرؤيا، قال: ونراه مأخوذًا من الخيلا (٧) وهو جماعات يضم بعضها إلى بعض من الرؤيا، كالحشيش الذي يجمع، فيقال له: ضغث قدر ملء الكف، فالأضغاث من الرؤيا هي حلم لا تأويل له وأنشد (٨):
كضِغْثِ حِلْمٍ غُرِّمنه حَالِمَة
(١) "اللسان" (ضغث) ٥/ ٢٥٩٠ - ٢٥٩١ عن أبي حنيفة.
(٢) "تهذيب اللغة" (ضغث) ٣/ ٢١٢٠، و"اللسان" (ضغث) ٥/ ٢٥٩١.
(٣) "تهذيب اللغة" (ضعث) ٣/ ٢١٢٠، و"اللسان" (ضعث) ٥/ ٢٥٩١.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (ضغث) ٣/ ٢١٢٠ - ٢١٢١، و"اللسان" (ضعث) ٥/ ٢٥٩٠ - ٢٥٩١.
(٥) الخود: الفتاة الناعمة الشابة، الشمال: الريح المعروفة وهي باردة.
انظر: الطبري ١٢/ ٢٢٦، و"البحر" ٥/ ٣٠٠، و"المحرر" ٩/ ٣٠٩، و"الدر المصون" ٦/ ٥٠٦.
(٦) "مجاز القرآن" ١/ ٣١٢.
(٧) في (ج): (الخلا).
(٨) البيت من الرجز، وهو بلا نسبة في "مجاز القرآن" ٢/ ٣٥، والقرطبي ٩/ ٢٠٠، ١١/ ٢٧٠.
129
وقال الكسائي (١) وغيره: أضغاث الأحلام ما لا يستقيم تأويله لدخول بعضه في بعض، كأضغاث من نُبُوت (٢) مختلفة يُخْلط بعضها ببعض، قال مجاهد (٣): أهاويل أحلام، وقال الكلبي (٤): أباطيل أحلام، وقال قتادة (٥): أخلاط أحلام.
قال ابن الأنباري: ومعنى الآية: أنهم نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له من الرؤيا، ولم ينفوا عن أنفسهم علم تأويل ما يصح منها، فعنوا بقولهم ﴿أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ هذه منامات كاذبة لا يصح تأويلها، وما نحن بتأويل الأحلام التي هذا وصفها بعالمين، إذ كنا نعلم تأويل ما يصح، هذا معنى قول أكثر المفسرين (٦): الكلبي (٧) وغيره، ونحوه قال ابن عباس في رواية عطاء، وهو اختيار الزجاج (٨)؛ لأنه قال: إنهم قالوا له رؤياك أخلاط، وليس للرؤيا المختلطة عندنا تأويل، فعلى هذا لم يقرّوا بالجهل والعجز عن تأويل الأحلام، وإنما قالوا: إن رؤياك فاسدة ولا تأويل
(١) "اللسان" (ضغث) ٥/ ٢٥٩٠، و"تهذيب اللغة" (ضغث) ٣/ ٢١٢٠.
(٢) في (ج): (نبوة).
(٣) القرطبي ٩/ ١٩٩، و"تهذيب اللغة" (ضغث) ٣/ ٢١٢١، و"اللسان" (ضغث) ٥/ ٢٥٩٠.
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٥٠.
(٥) الطبري ١٢/ ٢٢٦، عبد الرزاق ٢/ ٣٢٤. وأخرجه أبو عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد كما في "الدر" ٤/ ٣٩.
(٦) الطبري ١٢/ ٢٢٧، الثعلبي ٧/ ٥٨ ب، ابن عطية ٧/ ٥٢١، "زاد المسير" ٤/ ٢٣٠.
(٧) "تنوير المقباس" ص ١٥٠. وقد روى عن ابن عباس: الأحلام الكاذبة، قال الهيثمي ٧/ ٣٩ رواه أبو يعلى وفيه محمد بن السائب وهو متروك.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٣.
130
للفاسدة عندنا، وذهب آخرون إلى أنهم قالوا: هذه منامات مختلطة لا نعلمها نحن؛ إذ لم نكن من أهل العبارة، إنما يعلمها من خص بالنفاذ في البصر، وحسن استخراج ما يغمض من تأويلها، ذهب إلى هذا المعنى مقاتل بن سليمان (١) ونفر معه.
وقالوا معنى قوله ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ﴾ لها تأويل يعلمه غيرنا، فالأضغاث على هذا المذهب [الجماعات من الرؤيا التي يجوز أن تصح وأن تبطل، واحتجوا على هذا المذهب] (٢) بقول الساقي: ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾ قالوا: ففي هذا دليل على أن الملأ اعترفوا بالعجز عن الجواب، لأنهم لو كانوا بغير هذا الوصف لم يقل الساقي ما قاله، وعلى هذا؛ الملأ قالوا للملك: ما رأيته جماعات أحلام كثيرة لا علم لنا بتأويلها، واعترفوا بالعجز عنها (٣).
٤٥ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا﴾ الآية، قال الكلبي (٤): لما سأل الملك عن رؤياه، جثا الساقي بين يديه بعد انقضاء جواب الملأ، فقال للملك: إني قصصت أنا والخباز على رجل في السجن منامين فخبّرنا
(١) "تصير مقاتل" ١٥٤أ.
(٢) ما بين المعقوفين في (ب) وهو ساقط من (أ) و (ج).
(٣) قلت: القول الأول أرجح لعدة اعتبارات، الأول: أنه قول عامة المفسرين من السلف ومن بعدهم، الثاني: أنهم وصفوا رؤيا الملك بكونها أضغاث أحلام أي لا تأويل لها، الثالث: أنه لا يتصور في هؤلاء الملأ الذين هم أهل مشورته أنهم لا يعرفونها، وأيضًا أنهم سيعترفون بعجزهم عن تأويلها، والذي يظهر أنهم علموا من تأويلها ما يسوء الملك فأرادوا أن يصرفوه عن تطلب تأويلها فقالوا "أضغاث أحلام.. ".
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٥٠.
131
بتأويلها فصدق في جميع ما وصف، ولم يسقط من تأويله شيء، إن أذنت مضيت إليه وأتيتك من قبله بتفسير هذه الرؤيا، فإنه رجل صالح فاضل عالم ظاهر المحاسن، فأذن له الملك في قصده، فذلك قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا﴾ قال ابن عباس (١): يريد أحد العبدين، وهو الذي رأى أنه يعصر خمرًا.
وقوله تعالى: ﴿وَادَّكَرَ﴾ ذكرنا الكلام في هذا الحرف عند قوله: ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ في سورة القمر (٢).
وقوله تعالى: ﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ قال ابن عباس (٣) والحسن (٤) ومجاهد (٥) وعامة أهل التفسير والمعاني (٦): بعد حين. قال بعض أهل المعاني: هي الجملة من الحين، والجماعة من الحين؛ لأن الجماعة الكثيرة من الناس
(١) الطبري ١٢/ ٢٢٧، الثعلبي ٧/ ٨٥ ب، البغوي ٤/ ٢٤٦، "زاد المسير" ٤/ ٢٣١، كلهم من غير نسبة.
(٢) الآيات: ١٥، ١٧، ٢٢، ٣٢، ٤٠، ٥١، قال هنالك في أول موضع: "قال مقاتل: فهل من مدتكر، وقال أبو إسحاق: وأصله مدتكر، ولكن التاء أبدل منها الذال، والذال في موضع التاء هي أشبه بالدال من التاء، وأدغمت الذال في الدال".
(٣) الطبري ١٢/ ٢٢٧، عبد الرزاق ٢/ ٣٢٤، والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٥١، وأبو الشيخ من طرق كما في الدر ٤/ ٣٩، القرطبي ٩/ ٢٠١.
(٤) الطبري ١٢/ ٢٢٨.
(٥) الطبري ١٢/ ٢٢٨.
(٦) الطبري ١٢/ ٢٢٧، الثعلبي ٧/ ٨٥ ب، البغوي ٤/ ٢٤٦، "زاد المسير" ٤/ ٢٣١، ابن عطية ٧/ ٥٢٢، "معاني الفراء" ٢/ ٤٧، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ١/ ٣١٣، و"مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ص ٢٢٥، "معاني النحاس" ٣/ ٤٣٢، و"معاني الزجاج" ٣/ ١١٣.
132
أمة يدل على صحة هذا ما روى عطاء عن ابن عباس (١) "بعد أمة" بعد سنين. فإن قيل أكثر المفسرين على أن معنى قوله: "وادكر" دليل على أن الناسي هو الساقي.
قال ابن الأنباري (٢): يقال إذ ادكر بمعنى: ذكر وأخبر الملك، وصلح أن يكون ادكر بمعنى ذكر، كما تقول احتلب بمعنى حَلبَ، واعتدى بمعنى عدى في قوله تعالى: ﴿فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤]. وذكر لا يدل على نسيان سبقه.
وقد قال الكلبي فيما روى عن ابن عباس (٣): إنما لم يذكر الساقي خبر يوسف للملك حتى احتاج الملك إلى تعبير رؤياه، خوفًا من أن يكون ذلك إذكارًا لذنبه الذي من أجله حبسه الملك مع الخباز، فكتم أمره ولم يبده للملك لهذه العلة، فهذا يدل على أن الساقي قد نسي ذلك لقضاء الله تعالى في كون يوسف مدة في السجن، أنساه ذلك من غير أن ينسب النسيان إلى الساقي [في قوله ﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ﴾ ويكون نسيان الساقي غير مذكور، ويستدل عليه بقوله ﴿وَادَّكَرَ﴾. ومن نسب النسيان إلى الساقي] (٤) فَسّر الادّكار على ظاهره ولم ينقله إلى معنى الذكر.
وقوله تعالى ﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ﴾ وقرأ الحسن (٥) (أنا آتيكم بتأويله) وقال: أراد العلج ينبئهم بتأويله حتى لا يأتي به من عند يوسف عليه السلام.
(١) الطبري ١٢/ ٢٢٩، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٥١ عن سعيد بن جبير.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٣١.
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٥٠، "زاد المسير" ٢٣١/ ٤، القرطبي ٩/ ٢٠٢.
(٤) ساقط من (ج).
(٥) ابن عطية ٧/ ٥٢٣ قال: "وكذلك في مصحف أبي"، و"البحر المحيط" ٥/ ٣١٤، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٤٣٢، وقال الحسن: (كيف ينبئهم العلج؟).
133
قال الزجاج (١): وأكرهها لمخالفة المصحف.
وقوله تعالى: ﴿فَأَرْسِلُونِ﴾ قال أبو بكر: هو خطاب للملك وملئه، لذلك خاطب بالجمع. ويجوز أن يخاطب الملك بخطاب الجمع؛ لأن أصحابه على مثل رأيه وأمره.
٤٦ - قوله تعالى ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾ قال أهل المعاني (٢): في الكلام محذوف يدل عليه الباقي، وهو أن المعنى فأرسل فأتاه فقال: يا يوسف، وذكرنا أنه يجوز حذف "يا" من النداء عند قوله: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾ والصديق قال أبو إسحاق (٣): المبالغ في الصدق. قال المفسرون (٤) وصفه بهذه الصفة؛ لأنه لم يجرب عليه كذبًا، وقيل (٥): لأنه صدق في تعبير رؤياه.
وقوله تعالى: ﴿لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ﴾ قال ابن عباس (٦) والكلبي: يريد أهل مصر. وقال مقاتل (٧): يريد الملك وأصحابه. وقال غيره (٨): يريد الملك والعلماء الذين جمعهم الملك ليعبروا رؤياه.
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد كي يعقلوا. قال ابن الأنباري (٩): وأما إعادة (لعل) فلاختلاف معنييهما، إذ الأولى متعلقة
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٣.
(٢) الطبري ١٢/ ٢٢٩، و"زاد المسير" ٤/ ٢٣١.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٣.
(٤) ابن عطية ٧/ ٥٢٤.
(٥) الثعلبي ٧/ ٢٨٦.
(٦) الثعلبي ٧/ ٨٦ أ، البغوي ٤/ ٢٣٥.
(٧) في "تفسير مقاتل" ١٥٤ ب (يعني أهل مصر)، القرطبي ٩/ ٢٠٢.
(٨) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٢.
(٩) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٢.
بالإفتاء، والثانية مبنية إلى الرجوع، وكلتاهما بمعنى كي فساغ التكرير لاختلاف متعلقيهما كأنه قال: أفتنا كي أرجع إلى الناس كي يعقلوا؛ فالإفتاء سبب الرجوع والرجوع سبب العلم.
٤٧ - قوله تعالى: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا﴾ الآية، قال المفسرون (١): قال له يوسف: أما السبع البقرات السمان فإنهن سبع سنين مخصبات ذوات نعمة وأنتم تزرعون، أي: فازرعوا. قال صاحب النظم: قوله (تزرعون) جواب لقوله (أفتنا) جاء مجيء المضارع وتأويله أمر، وفيه إيماء إلى تعبير الرؤيا، ودل على ذلك قوله (فما حصدتم فذروه)، وهذا لفظ أمر، معطوف على قوله (تزرعون)، فدل أن قوله (تزرعون) أيضًا أمر وهذا كقوله ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ وهذا اللفظ مضارع وتأويله دعاء والدعاء مثل الأمر كقوله ﴿وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ﴾ [المؤمنون: ١١٨].
وقوله تعالى ﴿دَأَبًا﴾ قال الزجاج (٢): الدأب الملازمة للشيء والعادة. وذكرنا الكلام في الدأب في سورة آل عمران ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ (٣) قال ابن عباس (٤): يريد سبع سنين متوالية. وقال أهل المعاني واللغة (٥): الدأب استمرار الشيء على عادة، وهو دائب يفعل كذا، إذا استمر في فعله، وقد دأب يدأب دأبًا ودابًا، أي: زراعة متوالية في هذه السنين. وقيل على عادتكم في الزراعة.
(١) الطبري ١٢/ ٢٣٠، الثعلبي ٧/ ٨٦ أ.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٤.
(٣) آل عمران: ١١. قال هنالك: "يقال: دأبت أدأب دأبًا ودأبًا ودؤوبًا: إذا اجتهدت في الشيء وتعبت فيه" اهـ.
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٥٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢٣٢، والقرطبي ٩/ ٢٠٣.
(٥) "تهذيب اللغة" (دأب) ٢/ ١١٢٧، و"اللسان" (دأب) ٣/ ١٣١١.
135
قال أبو علي الفارسي (١): الأكثر في دأب الإسكان، فلعل الفتح لغة فيكون كشَمْع وشَمَع ونَهْر ونَهَر.
قال الفراء (٢): وكل حرف فتح أوله وسكن ثانية فتثقيله جائز إذا كان أحد حروف الحلق.
قال الزجاج (٣): ذكر جميع الكوفيين أن كل ما كان ثانيه حرفًا من حروف الحلق وكان مِسكنا مفتوح الأول، جاز فيه فتح المسكن نحو: نَعْل ونَعَل، وشَعْر وشَعَر، ونَهْر ونَهَر، وأما البصريون فيزعمون أنه ما جاء من هذا فيه اللغتان تُكُلِّم على ما جاء، وما كان لم يسمع لم يجز فيه التحريك نحو: وعْد لا نقول فيه وعَد، ولا في هذا الأمر وَهًا في معنى وهي، وهذا في بابه مثْلَ دَلَّ ودَلْ، وقَدَّرَ وقَدَرْ، فلا فرق في هذا بين حروف الحلق وغيرها.
قال (٤): وانتصب (دأبا) على معنى تدأبون دأبًا، ودل على تدأبون تزرعون وفي الزرع علاج ودؤوب، فقد قال تدأبون فانتصب دأبًا به لا بالمضمر، ونحو هذا القول حكاه ابن الأنباري عن الكوفيين قال: وقال غير الكوفيين: دأبًا مِصدر وضع في موضع الحال، تقديره: تزرعون دائبين، فناب دأب عن دائبين.
وقوله تعالى: ﴿فَمَا حَصَدْتُمْ﴾ إلى آخره. قال ابن عباس (٥): يريد كل ما
(١) الحجة: ٤/ ٤٢٥.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٤٧.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٤.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٤.
(٥) "تنوير المقباس" ص ١٥٠.
136
أردتم أكله فدوسوه، ودعوا الباقي في سنبله لا يتسوّس. وقال المفسرون (١): إنما قال (فذروه في سنبله)؛ لأنه أبقى له وأبعد من الفساد، وذلك لأنه إذا ديس ثم طال مكثه فسد، فأشار عليهم بما فيه الصلاح.
واختلفوا في أن جواب يوسف كان من علمه أو بوحي من الله تعالى؟ فذهب بعض المفسرين إلى أنه بنى على ما علّمه الله من تأويل الرؤيا، وذهب بعضهم إلى أنه كان بوحي الله، واحتجوا على هذه بقوله: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾ وهذا العام لم يعلمه إلا بالوحي من أجل أنه لم يدخل في سؤال السائل (٢).
٤٨ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ﴾.
قال المفسرون: يعني سبع سنين مجدبات، والشداد الصعاب التي يشتد على الناس.
وقوله تعالى: ﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾ قال ابن الأنباري (٣): هذا من المجاز الذي يعني به: يفنين ما قدمتم فيه لهن، فشَبّه الإفناء بالأكل، كما تقول العرب: قد أكل السيرُ لحمَ الناقة، وهم يعنون ذهب به وأفناه. وأنشد
(١) الطبري ١٢/ ٢٣٠، الثعلبي ٧/ ٨٦ ب، البغوي ٤/ ٢٤٧، ابن عطية ٧/ ٥٢٥، ابن كثير ٢/ ٥٢٧.
(٢) قلت: الراجح والله أعلم أن الإخبار عن سني الجدب بعد سني الخصب هو من قبيل التعبير لرؤيا الملك، وأما قوله ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ فهو من الوحي الذي آتاه الله دلالة على نبوته وحجة على صدقه، انظر: الطبري ١٢/ ٢٣٢ ابن عطية ٧/ ٥٢٥، الرازي ١٨/ ١٥٠، القرطبي ٩/ ٢٠٤، الثعلبي ٧/ ٨٦ ب.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٣، الرازي ١٨/ ١٥٠.
لذي الرمة (١):
وقد أَكَلَ الوجِيفُ بكلّ خَرْق عرائِكَهَا وهُلِّلَت الحُرُومُ
وقال غيره (٢): إنما قال للسنين (يأكلن) لوقوع الأكل فيها، كما يقال: ليل نائم. وكقوله:
فنام لَيْلِي تَجَلّى هَمِّي (٣)
ومثله كثير.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾ الإحصان (٤) الإحراز وهو إلقاء الشيء فيما هو كالحصن، يقال: أحصنه إحصانًا، إذا جعله في حرز. قال ابن عباس (٥): يريد تخزنون، وعنه (٦) أيضًا تحرزون.
٤٩ - قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ﴾ الآية، قال المفسرون (٧): هذا العام لم يعلمه إلا بالوحي من أجل أنه لم يدخل في سؤال السائل؛ قال
(١) "ديوانه" ص ٢/ ٦٧٨.
(٢) "تفسير الطبري" ١٢/ ٢٣١، و"الثعلبي" ٧/ ٨٦ ب، و"ابن عطية" ٧/ ٥٢٨، و"القرطبي" ٩/ ٢٠٤، و"ابن كثير" ٢/ ٥٢٧.
(٣) الرجز لرؤبة في "ديوانه" ص ١٤٢، و"المحتسب" ٢/ ١٦٤ وبلا نسبة في "خزانة الأدب" ٨/ ٢٠٢ و"المقتضب" ٣/ ٥٠.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (حصن) ١/ ٨٤٣، و"اللسان" (حصن)، و"تاج العروس" ١٨/ ١٤٩.
(٥) الطبري ١٢/ ٢٣١، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٥٤، وانظر: "الدر" ٤/ ٤١، وابن عطية ٧/ ٥٢٨.
(٦) الطبري ١٢/ ٢٣١، وابن عطية ٧/ ٥٢٨، وانظر: الثعلبي ٧/ ٨٦ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٣٣.
(٧) الطبري ١٢/ ٢٣٢، الثعلبي ٧/ ٨٦ أ، ابن عطية ٧/ ٥٢٥.
138
قتادة (١): زاده الله علم عام لم يسألوه عنه.
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى السبع في قوله: ﴿سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ والسبع (٢) أشبهت المذكر من قبل أنها لا علامة للتأنيث في لفظها، كقوله ﴿السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ﴾ [المزمل: ١٨] هذا مذهب الكلبي (٣)، ومذهب مقاتل (٤) أن (ذلك) إشارة إلى الجدب.
وقوله تعالى: ﴿فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾ قال ابن السكيت (٥): يقال: غاث الله البلاد يغيثها غيثًا، وهي إذا نزل بها الغيث. وقد غيثت الأرض تغاث غيثًا، وهي أرض مغيثة ومغيوثة، فعلى هذا (يغاث الناس) معناه يمطرون، ويجوز أن يكون من قولهم: أغاثه الله، إذا أنقذه من كرب أو غم. ومعناه ينقذ الناس فيه من كرب الجدب.
وقوله تعالى: ﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ أي يعصرون السمسم دهنًا، والعنب خمرًا، والزيتون زيتًا، وهذا قول ابن عباس (٦) ومجاهد (٧) وقتادة (٨) وأكثر المفسرين (٩) وهذا يدل على ذهاب الجدب وحضور الخصب والخير. وذكرنا معنى العصر في قوله: ﴿أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ [يوسف: ٣٦].
(١) الطبري ١٢/ ٢٣٢، الثعلبي ٧/ ٨٦ أ، ابن عطية ٧/ ٥٢٥، عبد الرزاق ٢/ ٣٢٤، ابن المنذر كما في "الدر" ٤/ ٤١.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٣، عن ابن القاسم الأنباري.
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٥٠.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٥٤ ب.
(٥) "تهذيب اللغة" (غاث) ٣/ ٢٦١٦.
(٦) الطبري ١٢/ ٢٣٢، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٤١، و"زاد المسير" ٤/ ٢٣٤، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٥٤.
(٧) الطبري ١٢/ ٢٣٢.
(٨) الطبري ١٢/ ٢٣٣، و"زاد المسير" ٤/ ٢٣٤، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٥٤.
(٩) الثعلبي ٧/ ٢٨٧، و"زاد المسير" ٤/ ٢٣٤، وابن عطية ٧/ ٥٢٩.
139
وقال أبو عبيدة (١): يعصرون تفسيره ينجون من العصر وهو المنحاة، ومثله العصرة والمعتصر. [والمعصر] (٢) ومنه قول أبي زبيد (٣):
ولقد كان عُصْرة المَنْجُودِ
أي: ملجأ الكروب.
وقال عدي بن زيد:
لو بغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقْ كُنْتُ كالغَصَّانِ بالماءِ اعْتِصَارِي (٤)
أي: التجائي، وأنشد أيضًا للبيد (٥):
(١) "مجاز القرآن" ١/ ٣١٣.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٣) لأبي زبيد الطائي عجز بيت، وصدره:
صاديًا يستغيث غير مغاث
من قصيدة له يرثي بها اللجاج ابن أخته، وكان من أحب الناس إليه، انظر "ديوانه" ص ٤٤، و"جمهرة أشعار العرب" ص ٢٦٠، و"الاقتضاب" ص ٣٩٠، و"اللسان" (عصر) ٥/ ٢٩٦٩، و"أمالي اليزيدي" ص ٨، و"المحتسب" ١/ ٣٤٥، والطبري ١٢/ ٢٣٣، والقرطبي ٩/ ٢٠٥، و"تهذيب اللغة" (عصر) ٣/ ٢٤٥٨.
(٤) البيت لعدي بن زيد في "ديوانه" ص ٩٣، و"الأغاني" ٢/ ٩٤، و"الحيوان" ٥/ ١٣٨، ٥٩٣.
انظر: "الكتاب" ١/ ٤٦٢، و"مجاز القرآن" ١/ ٣١٤، و"الجمهرة" ٢/ ١٥٤، و"اللسان" (عصر) ٥/ ٢٩٧١، والعيني ٤/ ٤٥٤، و"شواهد المغني" ٢٥٥، و"الخزانة" ٣/ ٥٩٤، ٤/ ٤٦٠، ٥٢٤، و"البحر المحيط" ٥/ ٣١٦، و"تهذيب اللغة" (عصر) ٣/ ٢٤٥٩، و"الشعر والشعراء" ص ١٣٣، وكتاب "العين" ٤/ ٣٤٢.
(٥) البيت للبيد، ويروى: (بغير معصَّر) "ديوانه" ص ٦٨.
انظر: "الكتاب" ١/ ٤١٠، و"الأغاني" ٢/ ٢٦، والشنتمري ١/ ٤٦٢، والجمهرة ٢/ ١٥٤، و"اللسان" (عصر) ٥/ ٢٩٦٩، العيني ٤/ ٤٥٤، و"شواهد المغني" / ٢٥٥، و"الخزانة" ٣/ ٣٩٤، و"مجاز القرآن" ١/ ٢٩٥، ٣١٤، والطبري ١٢/ ٢٣٤، و"تهذيب اللغة" ٣/ ٢٤٥٨.
140
فَباتَ وَأَسْرَى القَومُ آخِرَ لَيلِهِم وَما كانَ وَقّافًا بِدَارِ مُعَصَّرِ
وذكر أبو إسحاق (١) أيضًا هذا القول فقال: وإن شئت كان على تأويل ينجون من البلاء ويعتصمون بالخصب، وأنشد بيت عدي (٢).
وقال أبو عبيد (٣): يعصرون يعني به يصيبون ما يحبون، ويأخذون ما يشتهون. وأنشد قول ابن أحمر (٤):
وإنما العَيْشُ بربَّانه (٥) وأنْتَ من أفْنَانِه مُعْتَصِرْ
أي آخذ منها ما شئت.
وروي عن ابن عباس (٦) في رواية الوالبي:
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٤.
(٢) ذكر هذا القول الطبري ١٢/ ٢٣٣، وتعقبه فقال: "وكان بعض من لا علم له بأقوال السلف من أهل التأويل، ممن يفسِّر القرآن على مذهب كلام العرب، يوجه معنى قوله: "وفيه يعصرون" إلى: وفيه ينجون من الجدب والقحط بالغيث ويزعم أنه من العصر والعُصْرَة التي بمعنى المنجاة... إلى أن قال: وذلك تأويل يكفي من الشهادة على خطئه، خلافه قول جميع أهل العلم من الصحابة والتابعين. اهـ.
وتعقب ابن عطية ٧/ ٥٣١، الطبري فقال: "ورد الطبري على من جعل اللفظة من العصرة ردًّا كثيرًا بغير حجة".
(٣) "تهذيب اللغة" (عصر) ٣/ ٢٤٦١، و"اللسان" (عصر) ٥/ ٢٩٧٠.
(٤) "ديوانه" ص ٦١، وفيه "مقتفر" بدل "معتصر"، وأمالي القالي ١/ ٢٤٥، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٤٨٣، ٤/ ٣٤٤، و"مجمل اللغة" ٢/ ٤٥٧، و"تهذيب اللغة" (عصر) ٣/ ٢٤٦١، و"اللسان" (عصر) ٥/ ٢٩٧٠. وبلا نسبة في "المخصص" ١٢/ ٢٣٢.
(٥) في (ج): (ريانة).
(٦) الطبري ١٢/ ٢٣٣، الثعلبي ٧/ ٨٧ أ، من رواية علي بن طلحة، وتعقب هذا القول الطبري بقوله "قول لا معنى له، لأنه خلاف المعروف من كلام العرب، وخلاف ما يعرف من قول ابن عباس" ١٦/ ١٣٢.
141
يعصرون يحلبون. وإلى هذا ذهب أحمد بن عبيد (١) قال: تفسير يعصرون يحلبون الألبان، لسعة خيرهم واتساع خصبهم. واحتج بقول الشاعر (٢):
فما عصمت الأعراب إن لم يكن لهم طعامٌ ولا درٌّ من الماء يُعْصَرُ
أي: يحلب.
وروى ابن الأنباري (٣) عن بعض أصحاب المعاني قال: تفسير يعصرون: يفضلون ويعطون ويحسنون. واحتج بقول طرفة:
لو كان في أمْلاكِنَا واحِدٌ يَعْصرُ فينا كالذي يُعْصَرُ (٤)
أي: يعطينا كالذي يعطى ويفضل ويحسن.
وذكر الأزهري (٥) هذا المعنى في يعصر عن أبي عبيد وأبي عبيدة.
واختار أبو علي الفارسي (٦) القولين الأولين فقال: قوله: ﴿يَعْصِرُونَ﴾ يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون من العصر الذي يراد به الضغط الذي لحق ما فيه دهن أو ماء نحو الزيتون والسمسم والعنب والتمر، ليخرج ذلك منه. الذي يدل على صحة هذا التأويل ما روي أنهم لم يعصروا في السنين الشداد زيتًا
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٤.
(٢) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في "زاد المسير" ٤/ ٢٣٤ برواية: (من المال).
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٥.
(٤) "ديوانه" ص ١٥٤، و"تاج العروس" (عصر) ٧/ ٢٣٠، و"مقاييس اللغة" ٤/ ٣٤٤، و"اللسان" (عصر) ٥/ ٢٩٧٠، و"كتاب العين" ١/ ٢٩٧، و"مجمل اللغة" ٦٧٢/ ٣.
(٥) "تهذيب اللغة" (عصر) ٣/ ٢٤٦١.
(٦) "الحجة" ٤/ ٤٢٥.
142
ولا عنبًا، فيكون المعنى: تعصرون للخصب الذي أتاكم كما كنتم تعصرون أيام الخصب، وقبل الجدب الذي دفعتم إليه.
قال: ويكون يعصرون من العصر الذي هو الالتجاء (١) إلى ما يُقْدَر النجاة به وأنشد لابن مقبل (٢):
وصاحبي وَهْوه مُسْتَوْ [هِلٌ] (٣) زَعِلٌ يَحُولُ بين حِمَارِ الوَحْشِ والعصر
فلقوله: "يغاث الناس" جعل الفاعلين الناس لتقدم ذكرهم. ومن قرأ بالتاء (٤) وجه الخطاب إلى المستفتين كقوله: ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾ ويؤيد القراءة الأولى قرب الناس من الفعل، ويؤيد الثانية أن المخاطبة يجوز أن تكون للمستفتين وغيرهم، إلا أن الخطاب والغيبة إذا اجتمعا غلب الخطاب على الغيبة كما يغلب التذكير على التأنيث.
قال أبو عبيد: في هذه الآيات دليل على أن الرؤيا إنما تكون على ما عبرت عليه إذا أصيب بها وجه العبارة، فإذا عدل عن الصواب في عبارتها
(١) في (ج): (التجاء).
(٢) من قصيدة له قال عنها ابن قتيبة في الشعراء / ٤٢٦: هي أجود شعره. قوله (صاحبي) يريد فرسه، (الوهوه) من الخيل النشيط سريع الجري، (المستوهل): الفزع النشيط، الزعل: النشيط الأشر (العصر): الملجأ. انظر: "ديوانه" ص ٩٦، و"المعاني" ص ٢٦، و"الجمهرة" ٢/ ٣٥٤، و"اللسان" (وهي) ١٣/ ٥٦٣، و"تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٦٧، و"كتاب العين" ٤/ ٨٨، و"تاج العروس" (وهي) ١١٩/ ١٩.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٤) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر (يعصرون) بالياء وقرأ حمزة والكسائي تعصرون) بالتاء.
انظر: "السبعة" ص ٣٤٩، و"إتحاف" ص ٢٦٥، والطبري ١٢/ ٢٣٣.
143
لم يكن على ما عبرت. ألا ترى أن الملك لما اقتص رؤياه على الملأ قالوا: أضغاث أحلام، فلم يكن على ما قالوا، ففسرها يوسف بعدهم، فأبان الصواب فيها، وشوهد تأويلها بتفسيره.
٥٠ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ﴾ الآية، قال المفسرون (١): لما رجع الذي أرسل إلى يوسف للاستفتاء عن تأويل الرؤيا إلى الملك وأخبره بما أفتاه به، عرف الملك أن ذلك التأويل صحيح، وأن الذي قاله كائن فقال: ائتوني بالذي عبر رؤياي هذه، فجاء الرسول يوسف وقال له: أجب الملك، فأبى أن يخرج مع الرسول حتى يتبين براءته مما قذف به، وقال للرسول: ارجع إلى ربك يعني الملك ﴿فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي﴾ أي ما حالتهن (٢) وشأنهن، والبال: الحال والشأن، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ [محمد: ٢] وقال أبو عبيد (٣):
فبِتْنا على ما خَيّلتْ نَاعِمِي بَالِ
ومعنى الآية فأسأل الملك أن يتعرف ويسأل ما شأن تلك النسوة وحالهن ليعلم صحة براءتي.
(١) هذه عبارة الثعلبي ٧/ ٨٧ أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢٣٦.
(٢) في (ج): (ماحالهن).
(٣) في "التهذيب" (بال) ١/ ٢٦٣ قال: قال عبيد وذكر البيت، وانظر: "اللسان" (بول) ١/ ٣٩٠ من غير نسبه. والبيت لعدي بن زيد، وصدره:
فليت رفعت الهم عني ساعة
انظر: "ديوانه" ص ١٦٢، و"الإيضاح" / ١٠٦، و"نوادر أبي زيد" / ٢٥ وبلا نسبة في "شواهد التوضيح" ص١٤٨ و"الدر" ١/ ١١٤، ١٢٣، و"الهمع" ٢/ ١٦٣، والسيوطي ص ٢٣٨، و"الإنصاف" ص١٥٧، و"أمالي ابن الشجري" ١/ ١٨٣، ٢٩٥.
144
قال أبو إسحاق (١): أي سله أن يستعلم صحة براءتي مما قذفت به، فمعنى ردِّه الرسول هو أن يتبين براءته وأنه حبس بظلم من غير اقتراف ذنب، كما قال قتادة (٢): طلب العُذر، وعلى هذا يكون في الآية محذوف على تقدير: فسله أن يسأل أو يتعرف ما بال النسوة، ولكن لما كان قوله: (ما بال النسوة) يتضمن معنى السؤال والاستعلام والتعرف حذف ذلك.
قال عامة المفسرين (٣): إن يوسف عليه السلام أشفق من أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره، مقروف بفاحشة، فأحب أن يراه بعد أن زال عن قلبه ما كان خامره من الباطل. وقد استحسن النبي - ﷺ - حزم يوسف وصبره حين دعاه الملك فلم يبادر حتى يعلم أنه قد استقر عند الملك صحة براءته فقال النبي - ﷺ -: "رحم الله يوسف، لقد كان ذا أناة ولو كنت أنا المحبوس ثم جاءني الرسول لخرجت (٤) مسرعًا" (٥).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٥.
(٢) الطبري ١٢/ ٢٣٦.
(٣) الطبري ١٢/ ٢٣٤٠، الثعلبي ٧/ ٨٧ ب، البغوي ٤/ ٢٤٨، ابن عطية ٧/ ٥٣٢، "زاد المسير" ٤/ ٢٣٦، القرطبي ٩/ ٢٠٧.
(٤) في (ج): (لخرجت إليه) بزيادة إليه.
(٥) أخرجه البخاري (٣٣٨٧) كتاب أحاديث الأنبياء باب قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ بلفظ: "ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته" ومسلم بنحوه (١٥١) كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة.
وأخرجه الترمذي (٣١١٦)، كتاب تفسير القرآن، باب من سورة يوسف بلفظ "إن الكريم ابن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال: ولو لبثت في السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبتُ.. الحديث".
وأخرجه ابن جرير ١٢/ ٢٣٥ من طريق ابن إسحاق عن رجل عن أبي الزناد =
145
قال أبو إسحاق (١): ولم يفرد يوسف امرأة العزيز حُسْنَ عشرة منه وأدب، فخلطها بالنسوة.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ يعني: أن الله عالم بكيدهن وقادر على إظهار براءتي لهذا المخلوق الذي استحضرني، وذكرنا معنى كيدهن عند قوله ﴿فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ﴾.
٥١ - قوله تعالى: ﴿قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ﴾، قال المفسرون (٢): لما رجع الرسول إلى الملك برسالة يوسف دعا الملك النسوة وفيهن امرأة العزيز، فقال لهن: ما خطبكن، قال ابن عباس (٣): يريد ما قصتكن، وقال آخرون (٤): ما شأنكن وأمركن.
وقوله تعالى: ﴿إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾ وقال ابن الأنباري (٥): إنما جمعهن في المراودة؛ لأن الملك اتصل به أن بعض النسوة راود، فجمعهن ليستعلم عين المراودة. ويحتمل أن يقال (٦): إنهن كلهن راودن، فامرأة العزيز راودته عن نفسه، وسائر النسوة راودنه في طاعتها والانقياد لما تلتمسه منه.
= بلفظ: "يرحم الله يوسف إن كان ذا أناة لو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إلى لخرجت سريعًا، إن كان لحليمًا ذا أناة" ضعفه الألباني في السلسلة الصحيحة ٤/ ٤٨٥، وضعفه أحمد شاكر في تخريجه للطبري ١٢/ ٢٣٥.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٥.
(٢) الثعلبي ٧/ ٨٧ ب، والطبري ١٢/ ٢٣٦.
(٣) ابن عطية ٧/ ٥٣٤، و"زاد المسير" ٤/ ٢٣٧.
(٤) الطبري ١٢/ ٢٣٦، الثعلبي ٧/ ٨٧ ب، البغوي ٤/ ٢٤٨.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٧.
(٦) في (ج): (أن يقول كلهن)، وسقطت: (أنهن).
146
قوله تعالى: ﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ﴾ مضى الكلام فيه، ﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾، قال ابن عباس (١): يريد من زنا.
قال الزجاج (٢): أعلم النسوة الملك براءة يوسف، فقالت امرأة العزيز: "الآن حصحص الحق" تريد برز وتبين، وهو قول ابن عباس (٣) ومجاهد (٤) وقتادة (٥).
وقال الفراء (٦): لما دُعي النسوة فبرأنه قالت: لم يبق إلا أن يعلن علي بالتقرير فأقرت، فذلك قولها: الآن حصحص الحق، تقول: ضاق الكذب وتبين الحق، وعلى هذا إنما أقرت؛ لأنها خافت أنها إن كذبت شهدت عليها النسوة ببعض ما تقرر عندهن. فلم تجد بدًّا من الإقرار.
قال ابن الأنباري (٧): قال اللغويون: (حصحص الحق) معناه: وضح وانكشف وتمكن في القلوب والنفوس، من قول العرب: حصحص البعير بروكه، إذا تمكن فاستقر في الأرض وفرق الحصى.
قال حميد بن ثور (٨):
(١) "تنوير المقباس" ص ١٥١، القرطبي ٩/ ٢٠٧، البغوي ٤/ ٢٤٨.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٥.
(٣) الطبري ١٢/ ٢٣٦ وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر" ٤/ ٤٢.
(٤) الطبري ١٢/ ٢٣٦.
(٥) الطبري ١٢/ ٢٣٧.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٤٨، وفيه "لما دعا النسوة فبرأنه، قالت: لم يبق إلا أن يُقبل عليَّ بالتقرير فأقرت... ".
(٧) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٨، وانظر: "تهذيب اللغة" (حصص) ١/ ٨٣٥، و"اللسان" (حصص) ٢/ ٩٠٠.
(٨) هو حميد بن ثور الهلالي من بني عامر، إسلامي مخضرم، انظر: "طبقات الشعراء" لابن قتيبة ص ٢٤٧، "ديوانه" ص ٩، و"الزاهر" ٢/ ٣٤، و"الدر المصون" =
147
وحَصْحَصَ في صُمّ الحَصَا ثَفِنَاتِه ودَامَ القِيَامُ ساعةً ثم صَمَّمَا
يصف بعيرًا.
وقال الزجاج (١): اشتقاقه في اللغة من الحصّة، أي: بانت حصّة الحق من حصة الباطل.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ هو يعني في قوله: (هي راودتني عن نفسي).
٥٢ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ﴾ الآية، قال ابن عباس (٢) والحسن (٣) ومجاهد (٤) وقتادة (٥) والضحاك (٦) وعامة المفسرين: هذا من كلام يوسف وقوله.
قال الفراء (٧): ربما وصل الكلام بالكلام حتى كأنه قول واحد، وهو كلام الاثنين كقوله تعالى: ﴿مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ﴾ (٨)
= ٦/ ٥١٣، و"الكشاف" ٢/ ٣٢٦، و"اللسان" (حصص) ٢/ ٨٩٩، و"تهذيب اللغة" ١/ ٨٣٥، و"ديوان الأدب" ٣/ ١٧٣، و"تاج العروس" ٩/ ٢٥٧، حصحص: أثبت ركبتيه للنهوض بالثقل، والثفنات: جمع ثفنة وهي من البعير ما يقع على الأرض إذا استناخ.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٥.
(٢) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٥٧ كما في "الدر" ٤/ ٤٣، ومن طريق آخر أخرج الطبري ١٢/ ٢٨٣، والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في "الشعب" كما في "الدر" ٤/ ٤٣.
(٣) "زاد المسير" ١٦/ ١٤١، القرطبي ٩/ ٢٠٩، الطبري ١٣/ ٣.
(٤) الطبري ١٢/ ٢٣٨، و"زاد المسير" ٤/ ٢٣٩.
(٥) الطبري ١٢/ ٢٣٨، و"زاد المسير" ٤/ ٢٣٩، والقرطبى ٩/ ٢٥٩.
(٦) الطبري ١٢/ ٢٣٨.
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٤٧.
(٨) الشعراء: ٣٥.
148
اتصل قول فرعون بقول الملأ، وكذلك قوله ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً﴾ إلى قوله ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ (١) انقطع كلامها عند قوله ﴿أَذِلَّةً﴾ ثم قال الله: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾.
ومعنى قوله ﴿ذَلِكَ﴾ قال مقاتل (٢): معناه هذا. قال أبو بكر (٣): قال اللغويون: "هذا" و ﴿ذَلِكَ﴾ يصلحان في هذا الموضع وأشباهه، ونظيره قوله تعالى ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] وقد مر. وقال آخرون (٤): "ذلك" إشارة إلى ما فعله من رد الرسول يقول: ذلك الذي فعلت من رد رسول الملك إليه في شأن النسوة ليعلم.
قال الزجاج (٥): و (ذلك) مرفوع بالابتداء، وإن شئت على خبر الابتداء، كأنه قال: أمري ذلك.
واختلفوا متى قال هذا يوسف، فروى عطاء عن ابن عباس (٦) قال: لما صار يوسف عند الملك قال (ذلك ليعلم)، ونحو هذا روى الضحاك (٧) عنه، فعلى هذا معنى قوله ﴿لِيَعْلَمَ﴾ أي الملك.
قال أبو بكر (٨): وإنما آثر الياء على التاء توقيرًا للملك، ورفعًا له عن المخاطبة.
(١) النمل: ٣٤.
(٢) "تفسير مقاتل" ص ١٥٥، و"زاد المسير" ٤/ ٢٣٨.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٨.
(٤) الطبري ١٢/ ٢٣٨، الثعلبي ٧/ ٨٨ أ.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٥.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٩، الطبري ١٢/ ٢٣٨ عكرمه عن ابن عباس.
(٧) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٩.
(٨) "زاد المسير" ٤/ ٢٤٠.
149
وقوله تعالى: ﴿لَمْ أَخُنْهُ﴾ أي في امرأة (١) وزيره. وقال ابن جريج (٢): لم أخن زوج المرأة، والأكثرون على أن قوله (ليعلم) معناه ليعلم العزيز وهو وزير الملك أني لم أخنه في زوجته بالغيب، وهو قول ابن عباس (٣). واختيار الفراء (٤): ليعلم الملك، هذا على قول من يقول: إن يوسف قال هذا بعد حضوره مجلس الملك.
وقال الكلبي فيما رواه عن ابن عباس (٥): لما رجع الساقي إلى يوسف فأخبره وهو في السجن بجواب امرأة العزيز والنسوة، قال -عليه السلام- وهو في السجن: "ذلك ليعلم" أي العزيز "أني لم أخنه" في امرأته بالغيب.
وقال ابن جريج (٦): قاله يوسف في السجن قبل أن يخرج (٧) منه. وقبل أن يسأل الملك النسوة عما سألهن عنه؛ وذلك أنه أحب أن يصح عذره قبل خروجه من السجن، قال: وهو من تقديم القرآن وتأخيره، وتأويله ﴿ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ﴾ إلى قوله ﴿عَلِيمٌ﴾ ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ فرق بينهما.
(١) في (ج): (أمره) وهو قول ابن الأنباري كما في "زاد المسير" ٤/ ٢٣٩.
(٢) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (تفسير سورة يوسف المحققة) ٢١٤، الثعلبي ٧/ ٨٨ أ.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٩ وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة والجمهور، وذكره الثعلبي ٧/ ٨٨ أ.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٤٧.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٩، القرطبي ٩/ ٢٠٩.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٣٩.
(٧) في (ب) بياض في موضع قوله (قبل أن).
150
قال أبو بكر بن الأنباري: فمن أخذ بهذا التفسير قال: العليم: الملك أو العزيز.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ أي: لا يرشد كيد من خان أمانته، يريد أنه في العاقبة بحرمان الهداية من الله -عز وجل-، والكلام خرج على الكيد ومعناه: الكائد، أي: لا يهدي الكائد الخائن، قال عامة المفسرين (١): لما قال يوسف ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ﴾ الآية، قال له جبريل: ولا حين هممت بها يا يوسف؟، فقال يوسف:
٥٣ - ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ قال أهل المعاني (٢): خاف على نفسه التزكية، وتزكية النفس مما يذم وينهى عنه، قال الله تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النجم: ٣٢] فاستدرك ذلك بقوله ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ قال ابن عباس: يريد: وما أزكي نفسي، ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ قال: يريد (٣): بالقبيح وما لا يحب الله، وذلك لكثرة ما تشتهيه وتنازع إليه.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ قالوا (٤): "ما" بمعنى "من" أي: إلا من رحم ربي فعصم مما تدعوه إليه نفسه من القبيح، و"ما" بمعنى "من" بمعنى "ما" قد يقعان في مواضع كقوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣]، وقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ [النور: ٤٥]، قال الفراء (٥): وهذا استثناء منقطع مما قبله؛ لأن المرحوم بالعصمة استثني من
(١) الطبري ١٣/ ١ - ٣، عن ابن عباس بن سعيد بن جبير وابن أبي الهذيل والحسن وأبي صالح وقتادة وعكرمة، الثعلبي ٧/ ٨٨ ب، البغوي ٤/ ٢٤٩، ابن عطية ٧/ ٥٣٦.
(٢) روى عن الحسن "زاد المسير" ٤/ ٢٤١، وانظر الطبري ١٣/ ٢، الثعلبي ٧/ ٨٨ ب.
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٥١.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" (ما) ٤/ ٣٣١٩.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٤٨.
النفس الأمارة، وقال ابن الأنباري (١): والترجمة عن معناها أن النفس لأمارة بالسوء إلا أن رحمة ربي عليها المعتمد وإليها المنتهى.
٥٤ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ﴾ الآية، قال أبو بكر بن الأنباري (٢): من قال إن يوسف قال في مجلس الملك (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) قال: إن الملك أمر بإحضاره لتقليد الأعمال في غير ذلك المجلس الذي قال فيه "ذلك ليعلم". ومن قال: إن يوسف قال (ذلك) في السجن فالأمر فيه ظاهر.
وقوله تعالى ﴿أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ قال أبو إسحاق (٣): أي أجعله خالصًا لي لا يشركني فيه أحد.
وقال غيره (٤): الاستخلاص طلب خُلوص الشيء من شائب الإشراك، وهذا المطلب طلب أن يكون يوسف له وحده دون شريك فيه.
قوله تعالى ﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ﴾ قال عطاء: عن ابن عباس (٥): يريد الملك، فجعل الكلام للملك وهو أنه قال له: (إنك اليوم لدينا مكين أمين) والمفسرون على أن ﴿كَلَّمَهُ﴾ أي كلم يوسف الملك، قال الكلبي (٦): لما صار إلى الملك وكان في ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة، فلما رآه الملك حدثًا شابًا قال للساقي: أهذا يعلم من تأويل رؤياي ما لم يعلمه
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٤٢.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٤٢.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٦.
(٤) الرازي ١٨/ ١٥٩.
(٥) قال به الطبري ١٣/ ٤، وذكره الرازي ١٨/ ١٥٩، والثعلبي ٧/ ٨٨ ب.
(٦) "تنوير المقباس" ص ١٥١.
السحرة والكهنة؟! قال: نعم، فأقبل على يوسف وقال: إني (١) أحب أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهًا، فأجابه يوسف بما شفاه وشهد قلبه بصحته، فعند ذلك قال له الملك: ﴿قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ يقال: فلان مكين عند فلان بين المكانة، أي: المنزلة، وهي حال يتمكن بها مما يريد (٢).
وقوله تعالى "أمين" قال الزجاج (٣): أي قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما قرفت به.
وقال مقاتل (٤): المكين تفسيره: الوجيه، والأمين الحافظ. وقال عطاء عن ابن عباس (٥): يريد مكنتك ملكي، وجعلت سلطانك فيه كسلطاني وائتمنتك فيه.
٥٥ - قوله تعالى ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ﴾ قال المفسرون (٦): لما عبّر يوسف رؤيا الملك بين يديه قال له الملك: فما ترى أيها الصديق؟ قال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعًا كثيرا وتبني الأهرا (٧) والخزائن وتجمع الطعام فيها؛ ليأتيك الخلق من النواحي، فيمتارون منك بحكمك (٨)، ويجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك، فقال
(١) (إني) ساقط من (ج).
(٢) ما سبق في الرازي ١٨/ ١٥٩.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٦.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٥٥ أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢٤٣.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٢٤٣.
(٦) الثعلبي ٧/ ٨٩ ب.
(٧) كذا في جميع النسخ والصحيح "الأهرام" كما في الوسيط ٢/ ٦١٨.
(٨) في (ج): (بحكمتك).
153
الملك: ومن لي بهذا (١)، ومن يجمعه ويكفي الشغل فيه؟، فقال يوسف: اجعلني على خزائن الأرض إني على حفظها، ثم حذف المضاف.
وقوله: ﴿الْأَرْضِ﴾ قال المفسرون (٢): يعني أرض مصر.
وقال أهل العربية (٣): يعني خزائن أرضك، فجعلت الألف واللام بدلاً من تعريف الإضافة كقول النابغة (٤):
والأحْلامُ غَيْرُ عَوَازِبِ
يريد: وأحلامهم.
روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال: قال رسول الله - ﷺ -: "رحم الله يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، ولكنه أخر ذلك سنة" (٥).
فإن قيل: لِمَ طلب يوسف الإمارة، والنبي - ﷺ - قال لعبد الرحمن بن سمرة "يا عبد الرحمن لا تسل الإمارة" (٦)؟.
(١) في (ب): (هذا) من غير باء.
(٢) الرازي ١٨/ ١٦٠، البغوي ٤/ ٢٥١، ابن عطية ٨/ ٧.
(٣) الطبري ١٣/ ٥، الثعلبي ٧/ ٩٠ أ.
(٤) جزء من عجز بيت، وتمامه:
لهم شيمة لم يعطها الدهر غيرهم من الناس، والأحلام غير عوازب
للنابغة الذبياني. انظر "ديوانه" ص ٥٦، والطبري ١٣/ ٥، وفي القرطبي ٩/ ٢١٢ عجزه:
من الجود والأحلام غير كواذب
(٥) الثعلبي ٧/ ٩٠ أ، و"زاد المسير" ٢٤٣/ ٤، والقرطبي ٢١٣/ ٩ قال الحافظ ابن جر في "الكاف الشاف" ص ٩٠ "أخرجه الثعلبي عن ابن عباس من رواية إسحاق ابن بشر عن جويبر عن الضحاك عنه وهذا إسناد ساقط، وقال الألباني. موضوع، انظر: "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (٣٢٩).
(٦) الحديث أخرجه البخاري (٦٦٢٢) كتاب الإيمان والنذور، باب قول الله تعالى =
154
والجواب من هذا ما ذكره أبو إسحاق (١) قال: إن الأنبياء بعثوا لإقامة الحق والعدل ووضع الأشياء مواضعها، وعلم يوسف - ﷺ - أنه لا أحد أقوم بذلك ولا أوضع له في مواضعه منه، فسأل ذلك إرادة للصلاح.
وقوله تعالى: ﴿إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد لا يضيع من ذلك عندي شيء، عليم بما أفعل ويصلح ملكك.
وقال قتادة (٢): حفيظ لما وليت، عليم بأمره ونحوه.
قال ابن إسحاق (٣) وأبو إسحاق (٤): وقال جماعة: يريد أني كاتب حاسب.
فإن قيل (٥): لِمَ ترك الاستثناء في هذا بأن يقول: إن شاء الله، وإدخال الاستثناء في مثل هذا أوجب في كلام مثله؟. ولِمَ مدح نفسه بالحفظ والعلم؟
والجواب أن يقال: أما تركه الاستثناء فإن ذلك كان منه خطيئة أوجبت عليه من الله العقوبة، بأن أخر تمليكه عن ذلك الوقت، ذكر مقاتل ابن سليمان (٦): أن النبي - ﷺ - قال: "إن يوسف قال: إني حفيظ عليم، لو قال: إن شاء الله، لملك من وقته ذلك"، ويمكن أن يقال: إنه أضمر في
= ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ﴾ وفي (٦٧٢٢) كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده وفي مواضع أخرى (٧١٤٦)، (٧١٤٧).
وأخرجه مسلم (١٨٢٤) في الإمارة، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٦.
(٢) و (٣) الطبري ١٣/ ٥، الثعلبي ٧/ ٩٠ أ.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٦.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٢٤٤، والرازي ١٨/ ١٦٠.
(٦) "تفسيرمقاتل" ١٥٥ أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢٤٣.
155
نفسه الاستثناء دان لم يتلفظ به. أو يقال: أراد أن حفظي يزيد على حفظ غيري، وكذلك علمي، وكان هذا مما لا يدخل فيه شك حتى يحتاج إلى الاستثناء، وأما مدحه نفسه فإن مثل هذا إذا خلا من البغي والاستطالة، وكان المراد فيه الوصول إلى حق يقيمه، وعدل يحييه، وجور يبطله، كان ذلك جائزًا جميلًا. كقول القائل: إني لحافظ كتاب الله، عالم بتفسيره، عارف بشرائع الإسلام، يقصد بهذا القول قصد أن يتعلم منه إنسان فيفيده مما علمه الله حسن ذلك منه، ولم يحمل ذلك على تزكية النفس إذا عري قوله من الخيلاء والكبر، ذكر هذا كله أبو بكر (١).
وقال الكلبي فيما رواه عن ابن عباس (٢) في قوله: إنه حفيظ أي: لتقدير الأقوات، عليم بسني المجاعة، وقال الكلبي (٣): ويقال معناه: عليم بلغات الناس كلهم، وذلك أن الناس كانوا يفدون على الملك من كل ناحية ويتكلمون بلغات مختلفة.
٥٦ - قوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾ الآية، قال أصحاب المعاني: جواب الملك ليوسف حين قال له: (اجعلني على خزائن الأرض) محذوف لبيان معناه، ولدلالة قوله: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾ عليه.
قال ابن الأنباري (٤): وتلخيصه، فقال الملك: قد فعلت. فدل تمكين الله له في الأرض على إجابة الملك إياه إلى ما سأل.
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٤٤، ٢٤٥.
(٢) "تنوير المقباس" ص ١٥١، الثعلبي ٧/ ٩٠ أ.
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٥١، الثعلبي ٧/ ٩٠ أ.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢٤٥، الرازي ١٨/ ١٦٢.
156
وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ تحتمل وجهين:
أحدهما (١): أن تكون الكاف منصوبة بالتمكين، وذلك إشارة إلى ما تقدم. يعني به: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك، وإنجائنا إياه من غم الحبس مكنا له في الأرض.
الوجه الثاني: أن (كذلك) بجملته في موضع نصب بالتمكين، وتأويله:
وهكذا، وهو إشارة إلى ما بعده، تقديره: وفي هذا الوقت مكنا له في الأرض. وعلى هذا الآية مستأنفة، وعلى الوجه الأول: الآية موصولة بما قبلها.
وقوله تعالى (٢): ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾ أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع، هذا معنى التمكين من الشيء، ومضى الكلام في هذه اللام التي في قوله "ليوسف" عند قوله ﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ (٣) وقوله ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس (٤): يريد أرض مصر.
وقوله تعالى: ﴿يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ﴾ هذا تفسير لقوله ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾ لأن معنى التمكين في الأرض: أن يكون هذه الصفة يتبوأ حيث يشاء، و (يتبوأ) في موضع نصب على الحال تقديره: مكناه متبوئًا (٥).
(١) انظر: "زاد المسير" ٤/ ٢٤٥، الرازي ١٨/ ١٦٣.
(٢) (تعالى) ساقط من (ب).
(٣) الأنعام: ٦. وقال هناك: لم قال (ما لم نمكن لكم) ولم يقل نمكنكم، وهما لغتان تقول العرب: مكنته ومكنت له، كما تقول: نصحته ونصحت له، اهـ.
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٥١.
(٥) الرازي ١٨/ ١٦٣.
157
وقوله تعالى: ﴿حَيْثُ يَشَاءُ﴾ يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون في موضع نصب بأنه ظرف، والآخر: في موضع نصب بأنه مفعول به، ودل على هذا الوجه قول الشماخ (١):
يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّواحِزُ (٢)
وقد مرّ. واختلف القراء (٣) في قوله ﴿حَيْثُ يَشَاءُ﴾ فعامة القراء قرأوا بالياء كقوله: ﴿يَتَبَوَّأُ﴾، كقوله: ﴿وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾ وكما أن قوله (نشاء) في هذه الآية وفق فعل المتبؤ كذلك قوله: ﴿حَيْثُ يَشَاءُ﴾ وفق لقوله: "يتبوأ" في إسناده إلى الغيبة. وقرأ ابن كثير (نشاء) بالنون وذلك أن مشيئة يوسف لما كانت (٤) بمشيئة الله تعالى وإقداره عليها، جاز أن تنسب إلى الله تعالى وإن كان في المعنى ليوسف، وعلى هذا معنى هذه القراءة كمعنى قراءة العامة، ويقوي هذه القراءة أن الفعل
(١) جزء من عجز بيت، وتمامه:
وحلأها عن ذي الأراكة عامر أخو الخُضْر يرمي حيث تكوى النواحر
حلأها: منعها الماء، والضمير للحمر، وعامر أخو الخضر: قانص مشهور، ذو الأراكة: نخل بموضع من اليمامة لبني عجل، النواحز: التي بها نحاز فتكوى في جنوبها وأصول أعناقها فتشفى، ويروى: حزاحز، والجزائز. و"ديوانه" ١٨٢، و"جمهرة أشعار العرب" ص ٢٩٧، و"المعاني الكبير" ٧٨٣، و"الأزمنة" ١/ ١٠٦، و"تاج العروس" (خفر) ٦/ ٣٥٤، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٠٤٤ (خضر) "اللسان" ٢/ ١١٨٢.
(٢) ما سبق في ابن عطية ٨/ ٩.
(٣) قرأ ابن كثير وحده: ﴿يتبوأ منها حيث نشاء﴾ بالنون، وقرأ الباقون بالياء، انظر: "السبعة" ص ٣٤٩، و"إتحاف" ص ٢٦٦، وابن عطية ٨/ ٨، والثعلبي ٧/ ٩١ أ، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٢٠.
(٤) في (ج): (كان).
158
المعطوف عليه بالنون وهو قوله: ﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ﴾ قال ابن عباس: يريد أتفضل على من أشاء برحمتي.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ قال عطاء: يريد ثواب الموحدين وقال ابن عباس (١) ووهب: يعني الصابرين، وذلك لحسن صبر يوسف فيما عانى من أنواع المكاره.
٥٧ - قوله تعالى: ﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ ذكر العلماء في هذه الآية قولين أحدهما: أن المعنى ما يعطي الله تعالى من ثواب الآخرة، خير للمؤمنين الذين يعدلون ويؤثرون الصواب في تقوى الله تعالى، من التمكين في الدنيا (والملك، والمعنى أن ما يعطي الله يوسف في الآخرة خير مما أعطاه في الدنيا) (٢)، هذا الوجه هو الموافق (٣) للظاهر وهو الذي عليه العامة (٤).
الوجه الثاني (٥): أن أجر الآخرة خير من التشاغل في الدنيا الفانية الزائلة. وعلى هذا قيل: (ولأجر الآخرة خير) وإن لم يكن في التشاغل بالدنيا خير، على مذهب العرب من قولهم: زيد أعقل الرجلين، وإن لم يكن للثاني عقل، والشاهد بهذا قوله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان: ٢٤]، وأصحاب النار لا خير في مستقرهم البتة.
(١) الثعلبي ٧/ ٩١ أ، القرطبي ٩/ ٢١٩.
(٢) ما بين المعقوفين مكرر في (أ)، (ج).
(٣) هنا زائد (في) في (أ)، (ب).
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢٤، والرازي ١٨/ ١٦٤، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٢٠، وابن عطية ٨/ ١٠، والطبري ١٣/ ٧.
(٥) ذكره الرازي ١٨/ ١٦٤.
وهذا بيان عما يوجب طلب أجر الآخرة والحرص عليه بلزوم طاعة الله واجتناب معصيته.
٥٨ - قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ﴾ الآية، قال الكلبي (١) والسدي (٢) وابن إسحاق (٣): إن يعقوب -عليه السلام- لَحِقَه في سني الجدب والمجاعة ما لحق الناس، فقال لأولاده: يا بني قد بلغني بأن بأرض مصر ملكًا عادلًا منصفًا، فأشخصوا إليه فامتاروا منه، فقالوا: كيف يكون الملك على ما تصف منه وهو كافر يعبد الأوثان؟ فقال لهم: يا بني إنما تعطون دراهم وتأخذون طعامًا فما عليكم مما يغيب عنكم من حالاته، فذلك قوله: ﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ واختلفوا في سبب معرفته وإنكارهم، فقال ابن الأنباري (٤): لأنهم استشعروا قبل ملاقاته أنه كافر يعبد الأوثان، فلما شاهدوه مقدرين أنه ملك كافر على ما شاهدوا عليه ملوك دهرهم لم يظنوا أنه أخوهم، ولم يتأملوا منه (٥) ما يزول به عنهم الشك فيه والجهل بأمره.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (٦): أن إخوة يوسف رأوا يوسف وقت دخولهم عليه لابسًا ثياب حرير، وفي عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج (٧)، وكان قد تزيا بزيّ فرعون مصر، فيحتمل أن يكون ما
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٤٦، الضحاك عن ابن عباس، وأبو صالح عن ابن عباس.
(٢) الطبري ٧/ ١٣، ابن كثير ٢/ ٥٢٩، ابن عطية ٨/ ١٠.
(٣) الطبري ١٣/ ٧، ابن كثير ٢/ ٥٢٩.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢٤٧.
(٥) (منه) ساقط من (أ)، (ب).
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٤٧، الثعلبي ٧/ ٩٢ ب.
(٧) (تاج) ساقط من (ج).
رأوا من زيّه في ملبسه سببًا لنكيرهم له، وألقاهم يوسف على ما كان عهدهم في الملبس والمركب والحلية فعرفهم. وروى عطاء عن ابن عباس (١) في قوله: ﴿فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ (٢) لم يثبتوه وعليه تاج الملك وحجاب الملك، وعلى هذا يحتمل أنهم رأوه من وراء ستر فلم يعرفوه.
٥٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾ قال الليث (٣): جهزت القوم تجهيزًا، إذا تكلفت لهم جهازهم للسفر، وكذلك جهاز العروس والميت وهو ما يحتاج إليه في وجهه، وقد تجهز ذا جهاز، قال: وسمعت أهل البصرة يخطئون الجهاز بالكسر، قال الأزهري (٤): والقراء كلهم على فتح الجيم، والكسر لغة ليست بجيدة، قال المفسرون: حمل لكل رجل منهم بعيرًا، فهو قوله: ﴿جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ﴾ قال الكلبي فيما رواه عن ابن عباس (٥): لما نظر إليهم يوسف وكلموه بالعبرانية، قال لترجمانه قل لهم: لغتكم مخالفة لغتنا، وزيكم يغاير زينا، وأمركم مشكل علينا، فمن أنتم؟ وما أمركم؟ ولعلكم جواسيس، تخرجون أخبارنا إلى أعدائنا؟ قالوا لا والله ما نحن بجواسيس إنما نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق. فقال لهم: فكم عدتكم؟ قالوا: كنا اثني عشر فذهب أخ لنا معنا إلى البرية فهلك فيها، قال فأين الآخر؟ قالوا: عند أبينا، قال: فمن يعلم أن الذي
(١) البغوي ٤/ ٢٥٤.
(٢) في (ج) بزيادة "يريد".
(٣) "تهذيب اللغة" (جهز) ١/ ٦٧٩.
(٤) "تهذيب اللغة" (جهز) ١/ ٦٧٩.
(٥) الثعلبي ٧/ ٩٢ ب، البغوي ٤/ ٢٥٤، و"زاد المسير" ٤/ ٢٤٦.
تقولون حق؟ قالوا: إنا ببلاد لا يعرفنا أحد وقد عرّفنا أنسابنا فبأي شيء تسكن نفسك إلينا؟ وقال يوسف: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين فأنا أرضى بذلك.
وقوله تعالى: ﴿أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ﴾ أتمه ولا أبخسه، وأزيدكم حمل بعير آخر لأجل أخيكم.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ قال مجاهد (١): خير المضيفين، قال أبو إسحاق (٢): لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم.
٦٠ - قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ﴾ الآية، أوعدهم على ترك الإتيان بالأخ بأن لا يبيعهم الطعام، ولا يقربوا بابه وبلاده.
٦١ - فلما قال لهم يوسف هذا قالوا (٣): ﴿سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ﴾ أي نطلب منه ونسأله أن يرسله معنا ﴿وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾ قال الكلبي (٤): وإنا لضامنون لك المجيء به.
وقال ابن إسحاق (٥): وإنا لمجتهدون في المصير به إليك، وذلك أنهم جَوَّزوا أن لا يجيبهم أبوهم إلى الإرسال به معهم. وقال أبو إسحاق (٦): قوله ﴿وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾ معناه التوكيد لما قبله، يعني من المراودة، كأنهم قالوا: نراوده عنه ونفعل ذلك.
(١) الطبري ١٣/ ٨، وأخرجه ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٦٤، وأبو الشيخ عن ابن عباس كما في "الدر" ٤/ ٤٨.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٧.
(٣) (قالوا) ساقط من (أ)، (ج).
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٥١، و"زاد المسير" ٤/ ٢٤٨.
(٥) الطبري ١٣/ ٩.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٧.
٦٢ - قوله تعالى ﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ﴾ قال ابن عباس (١): يريد لغلمانه. وقرى (٢) ﴿لفتيته﴾ والفتية في هذا الموضع المماليك. وقال أبو علي (٣): الفتية جمع فتى في العدد القليل، والفتيان الكثير. فمثل: فتى وفتية، أخ وأخوة، وولد وولدة، ونار ونيرة، وقاع وقيعة، ومثل: الفتيان، برق وبرقان، وخرب وخربان، وجار وجيران، وتاج وتيجان. فوجه البناء الذي للعدد القليل أن الذين يحيطون بما يجعلون بضاعتهم فيه من رحالهم يكفون من الكثير. ووجه (٤) الجمع الكثير أنه يجوز أن يقول ذلك للكثير، ويتولى الفعل منهم القليل. ويقوي البناء الكثير قوله: ﴿فِي رِحَالِهِمْ﴾ فكما أن الرحال للعدد الكثير (٥)؛ لأن جمع القليل (أرحلٌ) فكذلك المتولون ذلك يكونون كثرة.
قال أبو الحسن: كلام العرب: قل لفتيانك، وما (٦) فعل فتيانك، وإن كانوا في أدنى العدد إلا أن يقولوا ثلاثة وأربعة. وقد يقوم البناء الذي للقليل مقام البناء الذي للكثير، وكذلك الكثير يقوم مقام القليل (٧).
(١) أخرجه الطبري ١٣/ ٩ عن قتادة، وأخرجه سعيد بن منصور عن إبراهيم كما في "الدر" ٤/ ٢٥٥، وذكره الثعلبي ٧/ ٩٣ أ، والبغوي ٢/ ٤٣٥، و"وزاد المسير" ٤/ ٢٤٩.
(٢) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وابن عامر (لفتيانه) بالتاء، وقرأ حمزة والكسائي (لفتيانه) بالنون، واختلف عن عاصم فروى أبو بكر عنه بالتاء (لفتيته) وروى حفص عنه (لفتيانه) بالنون.
انظر: "السبعة" ص ٣٤٩، "إتحاف" ص ٢٦٦، الثعلبي ٧/ ٩٣ أ، ابن عطية ٨/ ١٤.
(٣) "الحجة" ٤/ ٤٣٠ - ٤٣١ بتصرف.
(٤) في (ج): (ووجع).
(٥) (الكثير): ساقط من (ج).
(٦) في (ج): (الواو) ساقط.
(٧) إلى هنا انتهى النقل عن أبي علي في "الحجة" ٤/ ٤٣١ بتصرف.
163
وقوله تعالى: ﴿اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء (١): يريد الدراهم والدنانير التي جاءوا بها في أوعيتهم، وروى الضحاك عنه (٢) قال: كانت بضاعتهم النعال والأدم.
وقال قتادة (٣): "بضاعتهم" يريد أوراقهم. وأما الرحال فقد فسرها ابن عباس بالأوعية، قال أبو عبيد (٤): الرحل بجميع ربضه وحقبه وحلسه وجميع أغراضه، وعلى هذا الرحل كل شيء معد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير وحلس ورسن كما ذكر أبو عبيد، والرحل أيضًا مسكن الرجل، ويقال: فلان خصيب الرحل (٥).
وقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ قال ابن الأنباري: "لعل" كلتاهما بمعنى "كي" الأولى متعلقة "باجعلوا" والثانية محمولة على "يعرفونها" فالجَعْل سبب المعرفة، والمعرفة سبب الرجوع، وذكرنا مثل هذا في قوله: ﴿لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: ٤٦]. ويجوز أن يكون "لعل" كلتاهما بمعنى "عسى" والمراد: عساهم يعرفون أنها بضاعتهم بعينها، وعساهم يرجعون إذا عرفوا ذلك، وجاز أن يكون بمعنى "عسى"؛ لأنه يحتمل أنهم لا يعرفون أنها بضاعتهم بعينها بل يظنون أن تلك هدية وتكرمة فلا يرجعون. واختلفوا لم أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم؟ فقيل: لأنهم متى ما فتحوا المتاع وجدوا (٦)
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٤٩.
(٢) الثعلبي ٧/ ٩٣ ب، البغوي ٤/ ٢٥٥، القرطبي ٩/ ٢٢٣.
(٣) الطبري ١٣/ ٩، الثعلبى ٧/ ٩٣ ب.
(٤) "تهذيب اللغة" (رحل) ٢/ ١٣٨ وفيه، قال أبو عبيدة.
(٥) نقله في التهذيب عن الليث (رحل) ٢/ ١٣٨١.
(٦) في (ج): (فوجدوا) وهو الصحيح.
164
بضاعتهم فيه، علموا أن ذلك كرم من يوسف وسخاء، فيبعثهم (١) على العود إليه والحرص على معاملته، وقال الكلبي (٢): لخوف أن لا يكون عند أبيه من الورق ما يرجعون به مرة أخرى
وقيل: أراد بذلك التوسعة على أبيه إذ كان الزمان زمان قحط. وقيل: رأى لؤمًا أخذ الثمن من أبيه وإخوته مع حاجتهم إلى الطعام، وقال الفراء (٣): لأنهم إذا رأوا بضاعتهم في رحالهم ردوها على يوسف ولم يستحلوا إمساكها فيرجعون، ونحو هذا قال الزجاج (٤)، ويجوز أن يكون ليرجعوا إليه متعرفين سبب ردّها.
وكل ذلك أدعى لهم إلى الرجوع من ترك رد البضاعة عليهم (٥).
٦٣ - قوله تعالى ﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ﴾ أي فيما نستقبل إن لم نأت بأخينا، لقوله ﴿فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي﴾ قال ابن الأنباري (٦): وتأويله: حكم علينا بمنع الكيل بعد هذا الوقت فأدى (مُنِعَ) عن هذا المعنى، كما تقول لمن رأيته على كبيرة: دخلت والله النار، تعني حكمت عليك بدخول النار.
(١) كذا في (أ)، (ب)، (ج) وفي (ي): (فيبعثهم) كما في الرازي ١٨/ ١٦٨.
(٢) الثعلبي ٧/ ٩٣ ب، البغوي ٤/ ٢٥٦.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٤٨.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١١٧.
(٥) قلت: أرجح الأقوال السابقة هي الأقوال التي فيها ما يدعوهم إلى الرجوع إليه سواء لكرمه أو لرد البضاعة؛ لأنها ليست ملكهم أو الاستفار عنها لأن هذا هو المناسب للسياق والله أعلم.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٥٠.
وقوله تعالى: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ﴾ قال أبو إسحاق (١): أيَ إن أرسلته (٢) اكتلنا وإلا فمنعنا الكيل. وقرئ (٣) "يكتل" بالياء والنون، ويدل على النون قوله "ونمير أهلنا" ألا ترى أنهم إنما يميرون أهلهم مما يكتالونه، فيكون نكتل مثل "نمير"، وأيضاً فإن في قوله "نكتل" بالنون يجوز أن يكون أخوهم داخلًا معهم، وإذا كان بالياء لم يدخلوا هم في هذه الجملة، ووجه الياء كأنه يكتل هو حمله، كما نكتال نحن أحمالنا.
٦٤ - قوله تعالى: ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ﴾ قال عطاء عن ابن عباس (٤): يريد قد صنعتم بي هذا من قبل في يوسف فكيف آمنكم علي بنيامين. وقال الكلبي (٥): (هل آمنكم عليه) يعني علي بنيامين إلا كما آمنتكم على أخيه من قبل، يعني إني أخاف على الثاني مثل الذي وقع بالأول، وان كنتم تعدونني حفظه. وقال أبو إسحاق (٦): أي كذلك قلتم لي في يوسف وضمنتم لي حفظه في قولكم: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ فكذلك ضمانكم هذا عندي، وتأويل هذا أنه يقول: لا آمنكم علي بنيامين إلا كأمني على يوسف، يريد أنه لم ينفعه ذلك الأمن وأنهم خانوه، فهو وإن أمنهم في هذا خاف خيانتهم أيضاً. ثم قال: ﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا﴾.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٧.
(٢) في معاني الزجاج (معنا) (وإلا فقد منعنا).
(٣) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وعاصم وابن عامر (نكتل) بالنون، وقرأ حمزة والكسائي (يكتل) بالياء.
انظر: "السبعة" ص ٣٥٥، "إتحاف" ص ٢٦٦، الطبري ١٣/ ١٥، ابن عطية ٨/ ١٥.
(٤) انظر: الرازي ١٨/ ١٦٩، القرطبي ٩/ ٢٢٤، البغوي ٤/ ٢٥٦.
(٥) "تنوير المقباس" ص ١٥١.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٨.
166
قال الزجاج (١): ﴿حَافِظًا﴾ منصوب على التمييز. قال أبو علي (٢): قد تبين من قولهم: ﴿وَنَحْفَظُ أَخَانَا﴾ وقولهم: ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ أنهم قد أضافوا إلى أنفسهم حفظًا، وإذا كان كذلك فالمعنى: أنه خير حفظًا من خفظكم الذي نسبتموه إلى أنفسكم، أي حفظ الله خير من حفظكم، ومن قرأ (٣): "حافظًا"، قال أبو إسحاق (٤) حافظًا منصوب على الحال ويجوز أن يكون (٥) على التمييز، قال ابن الأنباري: "حافظًا" منصوب على الحال من اسم الله تعالى، وتلخيصه (٦): فالله خير الأرباب والسادات في حال حفظه. وقال أبو علي (٧): ينبغي أن يكون حافظًا منتصبًا على التمييز دون الحال كما كان حفظًا كذلك، والمعنى: حافظ الله غير من حافظكم، كما قلت: حفظ الله خير من حفظكم؛ لأن الله سبحانه له حفظة كما أنه له حفظًا، فحافظه خير من حافظكم، كما أن حفظه خير من حفظكم، ولا يكون حافظًا في الآية منتصبًا على الحال.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٨.
(٢) "الحجة" ٤/ ٤٣٩.
(٣) اختلفوا في إدخال الألف وإسقاطها، وفتح الحاء وكسرها من قوله (خيرٌ حفظًا) فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر (حِفظًا) بكسر الحاء من غير ألف، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم (خيرٌ حَافظًا) بفتح الحاء وألف بعدها، انظر: "السبعة" ص ٣٥٠، "إتحاف" ص ٢٦٦، الطبري ١٣/ ١١، ابن عطية ٨/ ١٦.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٨.
(٥) في (ج) بزيادة (منصوب).
(٦) (وتلخيصه) ساقط من (ج).
(٧) "الحجة" ٤/ ٤٣٩، ٤٤٠.
167
٦٥ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ﴾ الآية. المتاع ما يصلح للاستمتاع عامًّا في كل شيء وهاهنا يجوز أن يراد به ذلك الطعام الذي حملوه، ويجوز أن يراد به أوعية الطعام.
وقوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي﴾ ذكر الفراء (١) والزجاج (٢) وابن الأنباري (٣) في هذا وجهين أحدهما: أن يكون "ما" استفهامًا ويكون في موضع نصب، المعنى: أي شيء نريد وقد ردت علينا بضاعتنا. قال الفراء: وهو كقولك في الكلام: ماذا نبغي بعد الوصول إلى ما لم نكن نقدره ولا نطمع في مثله. أي لا نبغي وراء هذا شيئًا. وهذا معنى قول قتادة (٤). قال: وما نبتغي وراء هذا الذي وصلنا إليه.
الوجه الثاني: أن يكون "ما" نفيًا، كأنهم قالوا: ما نبغي شيئًا هذه بضاعتنا. وقال الفراء (٥) وأبو بكر (٦): كأنهم قالوا: لسنا نطلب منك دراهم وما نبغي منك بضاعة نرجع بها إليه، بل يكفينا بضاعتنا هذه التي ردّت إلينا، وهو قوله ﴿هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾ والإشارة إلى البضاعة تحتمل معنيين أحدهما: أنهم لم يثقوا بمعرفة أبيهم لها، فعرفوها بإشارتهم إليها، والآخر: أن معنى الإشارة هاهنا التقريب (٧) للرد والتحقيق له، كقول القائل: هذه الشمس قد طلعت، فتقرب بهذه طلوع الشمس وتحققه،
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٤٩.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٨.
(٣) "الوقف والابتداء" ٢/ ٧٢٥، ٧٢٦، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٢.
(٤) الطبري ١٣/ ١١، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٦٦ وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٤٨.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٤٩.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٥٢.
(٧) في (أ)، (ب): (للتقريب).
168
ولا يعرف بها عين الشمس، فمن جعل (هذه) إشارة أجاز أن يكون رُدّتْ خبرًا مستأنفًا، ويمكن أن يكون حالاً من البضاعة بإضمار "قد" معه؛ لأن "قد" تقرب الماضي من الحال، والتقدير: هذه بضاعتنا مردودة إلينا. ومن جعل هذه للتقريب لا يجيز استئناف "ردت"؛ لأن خبر التقريب يُفتقر إليه، كما يُفتقر إلى خبر "إن" و"كان"، فلا يجوز الاقتصار على "هذه بضاعتنا" دون ذكر "ردت" في هذا الوجه، وفي الوجه الأول يجوز، قال المفسرون (١): إنهم أرادوا بهذا الكلام أن يطيبوا نفس أبيهم على الإذن لهم بالمعاودة وإرسال (٢) بنيامين معهم.
وقوله تعالى ﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾ عطف على قوله ﴿مَا نَبْغِي﴾ كأنهم قالوا: ما نبغي منك في هذا الوجه شيئًا تصرفنا به، ومع ذلك نمير أهلنا أي نجلب إليهم الطعام، قال الأصمعي (٣): ماره يميره ميرًا، إذا أتاه بميرة أي بطعام. ومنه يقال: "ما عنده خير ولا مير" (٤).
وقوله تعالى: ﴿وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ﴾ أي نزيد حمل بعير من الطعام. قال الزجاج (٥): لأنه كان يكال لكل رجل وقر بعير.
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ قال الحسن (٦): أي يأتي ذلك متيسرًا (٧) على من يكيل لنا.
(١) الثعلبي ٧/ ٩٤ أ، البغوي ٤/ ٢٥٧، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٢.
(٢) في (أ)، (ج): وإن سأل).
(٣) "تهذيب اللغة" (مار) ٤/ ٣٣٢٥، الرازي ٨/ ١٧١.
(٤) مثل يضرب لمن ليس عنده خير عاجل، ولا يرجى مه أن يأتي بخير. مجمع الأمثال للميداني ٣/ ٢٨٢، كتاب الأمثال لأبي عبيد ٣٠٦.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٨.
(٦) "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٢٧٦.
(٧) في (ب). (مبشر).
169
ونحو هذا قال مقاتل (١) قال: معناه ذلك كيل يسير على هذا الرجل المحسن لسخائه وحرصه على البذل، وهو اختيار الزجاج (٢): أي سهل على الذي نمضي إليه. وقال آخرون (٣): ذلك كيل سهل قصير الوقت والمدة، ليس سبيل مثله أن نشتغل ولا نضطر إلى الاحتباس والتأخير عن الأوبة إليك.
٦٦ - قوله تعالى ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ﴾ الموثق (٤): مصدر بمعنى الثقة، ومعناه: العهد الذي يوثق به، فهو مصدر بمعنى المفعول، يقول: لن أرسله معكم حتى تعطوني عهدًا موثوقًا به.
وقوله تعالى: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ أي: عهدًا يوثق به من جهة إشهاد الله. أو القسم بالله، فالموثق من أنفسهم، وكلهم يؤكدون ذلك بإشهاد الله عليه، وبالقسم بالله عليه، فيوثق بذلك العهد من هذه الجهة.
وقوله تعالى ﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ﴾ دخلت اللام هاهنا لأن قوله ﴿تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ﴾ موثقًا من الله معناه اليمين أي: حتى تحلفوا بالله لتأتنني به.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ قال عطاء عن ابن عباس (٥): يريد إلا أن يأتيكم من الله أمر غالب لا طاقة لكم به. وذكر المفسرون وأهل المعاني (٦) في هذا قولين أحدهما: أن قوله ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ معناه
(١) "تفسير مقاتل" ١٥٥ ب، قال: سريع لا حبس فيه، الرازي ١٨/ ١٧١.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٩.
(٣) هذا القول نسبه في "زاد المسير" ٤/ ٢٥٣ إلى مقاتل.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ٩/ ٢٦٦.
(٥) ذكره الثعلبي ٧/ ٩٤ ب عن مقاتل، و"تنوير المقباس" ص ١٥١ بنحوه.
(٦) الطبري ١٦/ ١٦٣، الثعلبي ٧/ ٩٤ ب، البغوي ٢/ ٤٣٧، ابن عطية ٩/ ٣٣٦، "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٤٤١، "معاني الفراء" ٢/ ٥٠.
170
الهلاك. قال مجاهد (١): إلا أن تموتوا كلكم. وقال ابن إسحاق (٢): إلا أن يصبكم أمر يذهب بكم جميعًا فيكون ذلك عذرًا لكم عندي، والعرب تقول: أحيط بفلان: إذا دنا هلاكه، قال الله تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ [الكهف: ٤٢] أي أصابه ما أهلكه، وأصله أن ما أحاط به العدو أو ما يخافه انسدت عليه مسالك النجاة ودنا هلاكه، فقيل لكل ما هلك: قد أحيط به، القول الثاني: ما ذكره معمر عن قتادة (٣) ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ قال: إلا أن تغلبوا ولا تطيقوا الرجوع، وهذا اختيار الزجاج (٤) قال: معنى الإحاطة أن يحال بينهم وبينه فلا يقدرون على الإتيان به. وذكر ابن قتيبة (٥) الوجهين جميعًا فقال: إلا أن تشرفوا على الهلكة، وتغلبوا، والذي ذكرنا عن ابن عباس يحتمل الوجهين جميعًا، والإحاطة بالشيء يتضمن الغلبة، وذكرنا بعض هذا في قوله: ﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١]، وقوله تعالى: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ (٦) قال أبو إسحاق (٧): وموضع "أن" في قوله ﴿أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ نصب، والمعنى لتأتونني به إلا للإحاطة بكم، وهذا يسمى
(١) الطبري ١٦/ ١٦٣، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ٤/ ٢٢٧ أ، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٥٥٦، الثعلبي ٧/ ٩٤ ب، البغوي ٢/ ٤٣٧، ابن عطية ٩/ ٣٣٦، "زاد المسير" ٤/ ٢٥٣.
(٢) الطبري ١٦/ ١٦٤.
(٣) الطبري ١٣/ ١٢، عبد الرزاق ٢/ ٣٢٥، البغوي ٤/ ٢٥٧، ابن عطية ٨/ ٢١، القرطبي ٩/ ٢٢٥.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٩.
(٥) "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢٢٧.
(٦) يونس: ٢٢، وقال هنالك: "قال أبو عبيدة والقتيبي "أي دنوا من الهلاك" وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من الهلاك".
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٩.
171
مفعولاً، وتقول: ما تأتيني إلا لأخذ الدراهم، وإلا أن يأخذوا الدراهم.
وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ﴾ قال ابن عباس (١): يريد العهد. قال يعقوب: ﴿اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ﴾: يريد شهيد، وإنما جعل الوكيل بمعنى الشهيد؛ لأن الشهيد وكيل في معنى أنه موكول إليه القيام بما أشهد عليه. وقال ابن قتيبة (٢): كفيل.
٦٧ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ﴾ لما أراد بنوه الخروج من عنده قال لهم: لا تدخلوا من باب واحد يعني مصر (٣) ﴿وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾. أمرهم بالتفرق حذرًا من العين عليهم، إذ كانت العين حقًّا، وكانوا أولي جمال وكمال، وأبناء رجل واحد يجتمعون في الحسن الظاهر والجمال البارع.
وهذا قول ابن عباس (٤) وقتادة (٥) والضحاك (٦) والسدي (٧) والحسن (٨).
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٥٣، و"تنوير المقباس" ص ١٥٢، وقال به الطبري ١٣/ ١٣، والثعلبي ٧/ ٩٤ ب.
(٢) "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢٢٧.
(٣) في (أ)، (ب)، (ج) تكرار (يعني مصر وادخلوا).
(٤) الطبري ١٣/ ١٣، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٦٨ كما في الدر ٤/ ٤٩، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٤، والقرطبى ٩/ ٢٢٦.
(٥) الطبري ١٣/ ١٣، عبد الرزاق ٢/ ٣٢٥، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٦٩ وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٤٩، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٤، والقرطبي ٩/ ٢٢٦.
(٦) الطبري ١٣/ ١٣، والقرطبي ٩/ ٢٢٦.
(٧) الطبري ١٣/ ١٣ وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٦٨.
(٨) الرازي ١٨/ ١٧٤.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ قال ابن الأنباري (١): يعني: أن الله إن شاء يهلكهم متفرقين هلكوا وهم متفرقون كما يهلكون وهم مجتمعون، وقال أهل المعاني: أفاد قوله (لا تدخلوا من باب واحد) النصيحة لهم والمنع من الأمر الذي يغلب على من أتاه واستعمله سبق العين إليه، وأفاد قوله: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ تفويض الأمر إلى الله تعالى وأنّ الحذر لا ينفع من القدر، وأمر العين حق قد رويت فيه أخبار كثيرة، وكان رسول الله - ﷺ - يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما فيقول: "أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة" ويقول: هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحق، صلوات الله عليهم أجمعين (٢).
٦٨ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ﴾، قال المفسرون (٣): كان لمصر أربعة أبواب فدخلوها من أبوابها كلها.
وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾، قال ابن عباس (٤): يريد ما كان ذلك ليرد قضاء قضاه الله ولا أمرًا قدره الله، وقال أبو إسحاق (٥) فتأويل ﴿مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ أن العين
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٥٤، البغوي ٤/ ٢٥٨.
(٢) (أجمعين) زيادة من (ج).
والحديث أخرجه البخاري (٣٣٧١) كتاب أحاديث الأنبياء، ١٠ - باب، وأخرجه أبو داود في "سننه" (٤٧٣٧) كتاب السنن باب في القرآن من حديث ابن عباس والترمذي (٢٠٦١) كتاب الطب، باب ما جاء أن العين حق والغسل لها.
وابن ماجه في "سننه" (٣٥٢٥) كتاب الطب، باب ما عوذ بالنبي - ﷺ - وما عوذ به.
(٣) الثعلبي ٧/ ٩٥ أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٣.
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٥٢ بنحوه.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٩.
173
لو قدر أن تصيبهم لأصابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين، وقال ابن الأنباري: معناه لم يسبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع، فكان تفرقهم كاجتماعهم. وعلى ما ذكر من التأويل يكون التقدير: ما كان يغني عنهم ذلك الدخول من الأبواب المتفرقة من الله شيئًا لو قَضَى وقدر فـ"من" في قوله ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ دخلت على المفعول كقولك: ما رأيت من أحد. وفي الآية محذوف وهو (لو قَضَى) على ما ذكرنا، وذكر أبو إسحاق (١) وجهًا آخر فقال: وجائز أن يكون لا يغني عنهم مع قضاء الله شيء، وعلى هذا: "من" دخلت على الفاعل نحو: ما جاءني من أحد، والتقدير: ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه، والمحذوف على هذا التقدير (مع قضائه)، قال المفسرون (٢): وهذا تصديق من الله تعالى ليعقوب في قوله: ﴿مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا﴾ قال الزجاج (٣): "حاجة" استثناء ليس من الأول. المعنى: لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، يعني أن ذلك الدخول: قضاء حاجة في نفس يعقوب، وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبواب متفرقة شفقة عليهم وخوفًا من العين. والمفسرون (٤) فسروا الحاجة هاهنا الحزازة والهمة. قال ابن الأنباري: وقد يقال للحاجة: حزازة لأنها تؤثِّر في القلب، ويلزم همها النفس. المعنى أن ذلك الدخول شفى حزازة قلبه، ولما سميت الحزازة حاجة، جعل إزالتها قضاء.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٩.
(٢) الثعلبي ٩٥/ ٧ أ.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١١٩.
(٤) الثعلبي ٧/ ٩٥ أ.
174
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ﴾ قال ابن عباس (١): لذو يقين ومعرفة بالله. وقال الكلبي (٢): لذو عمل، ونحو هذا روى سعيد عن قتادة (٣): قال: إنه لعامل بما علم. قال سفيان (٤): من لا يعمل لا يكون عالمًا، قال ابن الأنباري (٥): والذي قاله الكلبي جائز تحتمله اللغة، من قبل أن العلم أول أسباب العمل، فسمي بما هو من سببه وبما يقع متولدًا منه ومبنيًا عليه. كما قيل لعيسى: كلمة الله؛ لأنه بالكلمة وجد وخلق.
وقوله تعالى: ﴿لِمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ يمكن أن يكون "ما" مصدرًا والهاء عائدة على يعقوب، ويكون التقدير: لأنه لذو علم من أجل تعليمنا إياه. ويكون اللام على هذا كهي في قوله ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: ٨] يعني به من أجل حب المال لبخيل. وهذا معنى قول قتادة (٦). ويمكن أن تكون "ما" بمعنى "الذي" والهاء عائدة عليها، ويكون التأويل: وإنه لذو علم لأجل الذي علمناه، وللخير الذي علمناه، وللعلم الذي بيناه له. وقيل في التفسير: وإنه لذو فهم لما علمناه أي ذو حفظ (٧) ومراقبة لما علمناه. وقال أهل المعاني: مدحه الله تعالى بالعلم لقوله: ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ علم أن الحذر لا ينفع من القدر وأن المقدور كائن.
(١) انظر: "زاد المسير" ٤/ ٢٥٤.
(٢) انظر: "زاد المسير" ٤/ ٢٥٤، القرطبي ٩/ ٢٢٩، ابن كثير ٢/ ٥٣١.
(٣) الطبري ١٣/ ١٤، الثعلبي ٧/ ٩٥ أ، "زاد المسير" ٤/ ٢٥٤، ابن عطية ٨/ ٢٤، ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٦٩، أبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٤٩.
(٤) الطبري ١٣/ ١٥، الثعلبي ٧/ ٩٥ أ، البغوي ٤/ ٢٥٩، ابن عطية ٨/ ٢٤.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٣٥٤ مختصرًا.
(٦) وهو قول الزجاج في "معانيه" ٣/ ١١٩، والفراء ٢/ ٥٠.
(٧) هذا القول ذكره الفراء في "معانيه" ٢/ ٥٠.
175
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ذكر في هذا قولين: أحدهما (١): ولكن أكثر الناس لا يعلمون علم (٢) يعقوب. والثاني (٣): لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة في العلم. قال ابن عباس في قوله (٤): ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يريد المشركين لا يعلمون ما قد ألهم أولياءه.
٦٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ قال محمد بن إسحاق (٥) وغيره من المفسرين (٦): إن إخوة يوسف لما أقدموا أخاه عليه، قالوا له: قد امتثلنا أمرك وأقدمنا أخانا الذي أحببت حضوره، فقال لهم: قد أحسنتم في ذلك، وأمر صاحب ضيافته أن ينزلهم ويزيد في تكرمتهم وإثرتهم، وأن ينزل كل اثنين منهم في منزل. فبقي أخوه منفردًا فقال: قد أشفقت على هذا من الوحدة والتفرد فأحببت أن أضمه إلى ليأنس ويزل عنه الاستيحاش والذعر. فذلك قوله: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ أي ضمه إليه وأنزله معه. قاله الحسن (٧) وقتادة (٨).
وقوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ﴾ قال ابن عباس (٩): قال له يوسف:
(١) ذكره الثعلبي ٧/ ٩٥ أ، الطبري ١٣/ ١٤.
(٢) في (أ)، (ج): (علمه).
(٣) الرازي ١٨/ ١٧٧.
(٤) الرازي ١٨/ ١٧٧.
(٥) الطبري ١٣/ ١٥، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٧٠.
(٦) الطبري ١٣/ ١٥ عن السدي، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٧٠ عن قتادة، والثعلبي ٧/ ٩٥ أ.
(٧) انظر: "زاد المسير" ٤/ ٢٥٥، القرطبي ٩/ ٢٢٩، الرازي ١٨/ ١٧٧.
(٨) الطبري ١٣/ ١٥، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٧٠ وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٥٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٥.
(٩) "زاد المسير" ٤/ ٢٥٥.
176
أنا يوسف بن راحيل. ونحو هذا قال ابن إسحاق (١) وجماعة من المفسرين (٢)، قالوا: اعترف له بالنسب، وقال: لا تخبر أحدًا منهم بما ألقيت إليك. وقال وهب (٣) والشعبي (٤): لم يعترف له بالنسبة، ولكنه قال تطييبًا لنفسه: أنا أخوك بدل أخيك المفقود، وذلك أنه لما ضمه إليه خلا به وسأله عن حاله، فذكر وجده بأخ له من أبيه وأمه فُقِد، قال له يوسف: أنا أخوك بدل أخيك الهالك.
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَبْتَئِسْ﴾ قال ابن عباس (٥): يريد فلا تغتم ولا تحزن. ونحوه قال قتادة (٦) وغيره، ﴿تَبْتَئِسْ﴾ تفعيل من البؤس وهو الضر والشدة، أي لا يلحقنك بؤس. هذا قول أهل اللغة (٧). وقال أهل المعاني (لا تبتئس): اجتلاب البؤس بالحزن.
وقوله تعالى: ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ قال ابن الأنباري (٨): ندبه إلى أن لا يحزن على ما يقع به من إخوته في المستقبل حين يسرقونه ويشبهونه بأخيه في السرقة، و (كانوا) بمعنى يكونون، وتقديره: لا تبتئس بما يكونون
(١) الطبري ١٣/ ١٥، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٧٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٥، وابن عطية ٨/ ٢٤.
(٢) الثعلبي ٧/ ٩٦ أ، القرطبي ٩/ ٢٢٩، البغوي ٤/ ٢٥٩، الرازي ١٨/ ١٧٨.
(٣) الطبري ١٣/ ١٥، الثعلبي ٧/ ٩٦ أ، "زاد المسير" ٤/ ٢٥٥، ابن عطية ٨/ ٢٥.
(٤) الثعلبي ٧/ ٩٦ أ.
(٥) "تنوير المقباس" ص ١٥٢.
(٦) الطبري ١٣/ ١٦، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٧٠، والثعلبي ٧/ ٩٦ أ، وأبو الشيخ كما في الدر ٤/ ٥٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٦.
(٧) "زاد المسير" ٤/ ٢٥٦، وعزاه لابن الأنباري وانظر: "تهذيب اللغة" (بئس) ١/ ٤١١، و"اللسان" (بئس) ١/ ٢٠٠.
(٨) "زاد المسير" ٤/ ٢٥٦.
177
يعملون بعد هذا الوقت، إلى هذا المعنى ذهب مقاتل بن سليمان (١)، والعرب تجعل (كان) في موضع يكون، و (يكون) في موضع (كان) إذا انكشف المعنى، قال الشاعر (٢):
فأدْرَكْتُ مَنْ قد كان قَبْلِي ولَمْ أدَعْ لمن كان بَعْدِي في القَصَائِد مَصْنَعا
أراد: لمن يكون، وقال زياد (٣):
وانْضَحْ جَوَانِبَ قَبْرِه بدِمَائِها فلَقَد يَكُونُ أخا دَمٍ وذَبَائح
أراد: فلقد كان، وروى الكلبي عن ابن عباس (٤): أن إخوة يوسف كانوا يعيرون يوسف وأخاه لعبادة جدهما أبي أمِّهما الأصنام، وبأن راحيل أمُّهما أمرت يوسف فسرق جونةً كانت لأبيها فيها أصنام، رجاء أن يترك عبادتها إذا فقدها، فقال له: ﴿فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي: من التعيير لنا بما كان عليه جدُّنا.
(١) "تفسير مقاتل" ١٥٦ أ.
(٢) البيت لجرير بن عطية، وهو في "ديوانه" ص ٢٦٣، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٦.
(٣) البيت لزياد الأعجم وهو زياد بن سُلْمى، وقيل زياد بن جابر بن عمرو بن عامر، من عبد القيس، وقيل له الأعجم، للكنة كانت فيه، شاعر إسلامي، شهد فتح اصطخر، وتوفي في حدود المائة للهجرة، انظر: "الشعر والشعراء" ص ٢٧٩، و"معجم الأدباء" ٣/ ٣٥٢.
وهو في "ديوانه" ص ٥٤، و"الخزانة" ٣/ ١٩٢، و"أمالي المرتضى" ٢/ ١٩٩، ٣٠١، و"الشعر والشعراء" ص ٢٨٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٦، و"اللسان" (كون) ٧/ ٣٩٦٢، ونسب للصلتان العبدي في أمالي المرتضى ٢/ ١٩٩، وبلا نسبه في "تلخيص الشواهد" ٥١٢.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢٥٦، الرازي ١٨/ ١٧٨.
178
وقال آخرون (١): ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من إقامتهم على حسدنا الحرص على انصراف وجه أبينا عنا، وعلى ما ألزموك من الأسف بما فعلوا بي، فقد جمع الله بيني وبينك، وأرجو أن يجمع الله بيننا وبين يعقوب.
٧٠ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ الآية، مضى الكلام في الجهاز والرحل (٢). وأما السقاية فقال الليث (٣): السقاية: الصواع الذي كان يشرب فيها الملك.
وقال غيره: السقاية (٤): الإناء الذي يُسْقى فيه، وهو هاهنا صواع الملك الذي كان يشرب منه.
قال ابن عباس (٥) في رواية عطاء: وكان قدحًا من زبرجد، وكان يشرب فيه الماء، وكان موضوعًا بين يدي يوسف. وقال ابن زيد (٦): كان كأسًا من ذهب. وقال ابن إسحاق (٧) وعكرمة (٨): كانت مشربة من فضة مرصعة بالجوهر.
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٥٦، الرازي ١٨/ ١٧٨.
(٢) عند قوله تعالى ﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾ [يوسف: ٦٠]. وقوله تعالى ﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ﴾ [يوسف: ٦٢].
(٣) "تهذيب اللغة" (سقى) ٢/ ١٧١٥، و"اللسان" (سقى) ٤/ ٢٠٤٣.
(٤) "تهذيب اللغة" (سقى) ٢/ ١٧١٥، و"اللسان" (سقى) ٤/ ٢٠٤٣.
(٥) الطبري ١٣/ ١٧ بنحوه، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٨.
(٦) الطبري ١٣/ ١٧، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٩، والثعلبي ٧/ ٩٦ ب.
(٧) الثعلبي ٧/ ٩٦ ب.
(٨) أخرج ابن أبي حاتم عنه كما في "الدر" ٤/ ٥٠ قوله "كان كأسًا من ذهب على ما يذكرون" قلت في ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٧١ هذا القول عن ابن زيد وأخرج الطبري ١٣/ ١٩، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٥٠ قال: كان فضة، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٨، والثعلبي ٧/ ٩٦ ب.
179
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ قال المفسرون وأهل اللغة (١): نادى مُناد وأعلم مُعلم. قال ابن الأنباري (٢): (أذَّن) معناه أعلم إعلامًا بعد إعلام؛ لأن (فعَّل) يوجب تكرير الفعل، ويجوز أن يكون إعلامًا واحداً من قبل أن العرب تجعل فعّل بمعنى أفعل في كثير من المواضع، وقال سيبويه (٣): الفرق بين أذّنت وآذنت، معناه أعلمت، لا فرق بينهما، والتأذين معناه النداء والتصويت بالإعلام، ومضى الكلام في هذا الحرف مستقصًى في مواضع منها قوله: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٧٩] وقوله: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ﴾ (٤) وقوله ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣].
وقوله تعالى: ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ﴾ قال أبو الهيثم (٥): كل ما امتير عليه من الإبل والحمير والبغال فهي عير. قال: وقول من قال العير: الإبل خاصة باطل، قال: وقال (٦) نُصير (٧): الإبل لا تكون عيرًا حتى يمتار عليها.
وقال أبو عبيدة (٨): العير الإبل الرحولة المركوبة، والصحيح في العير أنها القافلة التي فيها الأحمال، والأصل للحمير إلا أنه كثر حتى سمي كل قافلة محملة عيرًا تشبيهًا بتلك.
(١) الطبري ١٣/ ١٧، والثعلبي ٧/ ٩٦ ب، والبغوي ٤/ ٢٦٥، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٧، و"تهذيب اللغة" (أذن) ١/ ١٤٠، و"اللسان" (أذن) ١/ ٥٣.
(٢) "الزاهر" ١/ ٢٩.
(٣) "الكتاب" ٤/ ٦٢.
(٤) الأعراف: ٤٤. وقال هنالك ما ملخصه: "معنى التأذين في اللغة: النداء والتصويت بالإعلام، والأذان للصلاة إعلام بها وبوقتها.. ".
(٥) "تهذيب اللغة" (عير) ٣/ ٢٢٧٤.
(٦) في (ج): (وقتال).
(٧) "تهذيب اللغة" (عير) ٣/ ٢٢٧٥.
(٨) "زاد المسير" ٤/ ٢٥٧، القرطبي ٩/ ٢٣٠.
180
قال مجاهد (١): كانت العير حميرًا.
وقال مقاتل (٢) بن سليمان: العير الرفقة.
(قال ابن الأنباري: ولا تكون العير رفقة أبدًا إلا على قيام مقام الرفقة وتأديتها عنها) (٣).
قال أبو إسحاق (٤): معناه يا أصحاب العير، ولكن قال: (أيتها العير)، وهو يريد أهلها، كقوله: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾، ويا خيل الله اركبي.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ قال أبو علي: التقدير فقال: إنكم لسارقون. فإن قيل: لم سَرَّق يوسفُ من لم يَسْرِق وهم لم يسرقوا شيئًا؟ قيل (٥) معناه: إنكم لسارقون يوسف من أبيه، حين طرحتموه في الجب.
وقيل (٦): إن المنادي نادى وعنده أنهم قد سرقوا السقاية، ولم يعلم أن يوسف أمر بوضعها في رحل أخيه، وإنما كان أمر بذلك على ما أمره الله -عز وجل- فلما فقدها الموكلون بها اتهموهم بسرقتها، على أن النداء بالتسريق كان بغير أمر يوسف ولا علمه، فكان الكذب زائلًا عن نبي الله في الحالات كلها.
(١) الطبري ١٣/ ١٨ وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٧٢، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٥٠، وأبو عبيد كما في "الدر" ٤/ ٤٨.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٥٦ أ.
(٣) ما بين القوسين ساقط من (أ)، (ب)، (ج) وهو في (ي).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٠.
(٥) قال به الزجاج انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٣.
(٦) وهو قول ابن جرير الطبري انظر: الطبري ١٣/ ٢٨.
181
٧١ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا﴾ هو يعني أصحاب العير وهم إخوة يوسف ﴿وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ﴾ قال ابن عباس (١): يريد أقبل هذه الرفقة على غلمان يوسف. فعلى هذا المعنى قال إخوة يوسف، وقد أقبلوا على المؤذن ومن معه، والمؤذن كان معه قوم يقولون بقوله ويصححون دعواه. قاله أبو بكر (٢) قال: ويجوز أن يكون المعنى: قال إخوة يوسف وقد أقبل المنادي ومن معه بالدعوى والمطالبة؛ لأنه قد تقدم ذكر الفريقين، وصلح صَرْف الإقبال إلى كل فريق منهما.
٧٢ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ﴾ قال أبو إسحاق (٣): الصواع هو الصاع بعينه، وهو يذكر ويؤنث وهو السقاية وكذلك الصاع أيضًا يذكر ويؤنث والدليل على أنهما بمعنًى، قراءة (٤) أبي هريرة ﴿قالوا نفقد صاع الملك﴾ وزاد الفراء (٥) فمن أنثه قال: ثلاث أصوع، مثل ثلاث أدؤر [ومن ذكّره] (٦) قال: أصواع، مثل أثواب. وقال الحسن (٧): الصواع والسقاية شيء واحد، ويجمع الصاع أيضاً صيعانًا.
(١) "تنوير المقباس" ص ١٥٢، بنحوه وانظر: البغوي ٤/ ٢٦٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٨.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٥٨.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٠.
(٤) ذكر القراءة الزجاج ٣/ ١٢٠، والثعلبي ٧/ ٩٧ أ، والطبري ١٣/ ١٨، وابن عطية ٨/ ٢٨، وأخرج هذه القراءة عن أبي هريرة سعيد بن منصور وابن الأنباري كما في "الدر" ٤/ ٥٥، المذكر والمؤنث لابن الأنباري ١/ ٤٤١.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٥١.
(٦) ما بين المعقوفين مكرر في (أ).
(٧) الطبري ١٣/ ١٦، وقد ذكر هذا القول الثعلبي ٧/ ٩٦ ب، والبغوي ٤/ ٢٦٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٧، والقرطبي ٩/ ٢٢٩.
182
وقال بعض أهل التأويل (١): الاسم الحقيقي لهذا الإناء: الصواع، والسقاية وصف، قال: وهذا نحو قولهم: كوز وإناء وسقاء، فالاسم المختص هو الكوز، والوصف هو السقاء إذ كان مشتركًا، وقال جماعة من المفسرين: الصواع كان على [صيغة المكوك أو القفيز يشربون فيه، ويسقون دوابهم] (٢)، ويكيلون به إذا احتاجوا إلى ذلك.
وقوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ﴾ أي من الطعام ﴿وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ قال مجاهد (٣): الزعيم: هو المؤذن الذي أذن، وتفسير زعيم كفيل.
وقال الكلبي: الزعيم: الكفيل بلسان أهل اليمن. نحو هذا قال المفسرون وأهل اللغة (٤) في الزعيم أنه الكفيل.
أبو عبيدة (٥) عن الكسائي: زعمت به أزعم زعمًا وزعامة، أي: كفلت به، وهذه الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شريعتهم، وقد حكم بها رسول الله - ﷺ - في قوله: "الزعيم غارم" (٦).
(١) ذكر هذا القول في "زاد المسير" ٤/ ٢٥٧، الرازي ١٨/ ١٧٩.
(٢) ما بين المعقوفين من (ي).
(٣) الطبري ١٣/ ٢٠، وابن أبي حاتم ٢١٧٤.
(٤) روى هذا القول الطبري ١٣/ ٢٠ - ٢١، عن ابن عباس: ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وابن إسحاق، وذكره الثعلبي ٧/ ٩٧ أ، والبغوي ٤/ ٢٦٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢٥٩، وابن عطية ٨/ ٢٩، وغيرهم.
وانظر: "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ١/ ٣١٥، و"مشكل القرآن وغريبه" لابن قتيبة ص ٢٢٧، "معاني الزجاج" ٣/ ١٢٠، و"معاني الفراء" ٢/ ٥١.
(٥) "تهذيب اللغة" (زعم) ٢/ ١٥٣٣ وفيه أبو عبيد بدل أبي عبيدة، الرازي ١٨/ ١٧٩، و"الزاهر" ٢/ ١٣٠.
(٦) الحديث أخرجه الترمذي (١٢٦٥) كتاب البيوع، باب ما جاء في أن العارية مؤداه من حديث أبي أمامه وقال عنه: حديثَ حسن، وأبو داود (٣٥٦٥) كتاب البيوع، =
183
فإن قيل: (١) هذه كفالة بشيء مجهول، قلنا: حمل (٢) بعير من الطعام كان معلومًا عندهم فصحت الكفالة به، غير أن هذا كفالة مال لرد سرقة، وهو كفالة ما لم يجب؛ لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئًا على رد السرقة، ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم.
٧٣ - وقوله تعالى: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ﴾ قال الفراء (٣): العرب لا تقول: تالرحمن، ولا يجعلون مكان الواو تاء إلا في الله، وذلك أنها أكثر الأيمان مجرى في الكلام، فتوهموا أن الواو منها لكثرتها في الكلام وأبدلوها تاء، كما قالوا: التراث وتترى، وهو من المواترة والتُّخمة والتُّجاه، وقال البصريون (٤): الواو في (والله) بدل من التاء، والتاء بدل من الواو، فضعفت عن التصريف في سائر الأسماء، وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله جل وعز. وإنما جاز إبدال التاء من الواو؛ لأنهما من حروف الزوائد والبدل، والتاء أقرب حروف البدل إلى الواو.
وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ﴾ قال المفسرون وجميع أهل المعاني (٥): حلفوا على علمهم بذلك؛ لأنهم كانوا معروفين
= باب تضمين العارية، وابن ماجه (٢٤٠٥) كتاب الصدقات باب الكفالة. وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (١٤١٢)، وقال: أخرجه الطيالسي (١١٢٨) وعنه البيهقي ٦/ ٨٨، وأحمد ٥/ ٢٦٧، وأبو داود (٣٥٦٥) وابن عدي ١/ ١٠..).
(١) القرطبي ٩/ ٢٣٢، الرازي ١٨/ ١٨٠.
(٢) (حمل) مكرر في (ج).
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٥١ والتُّجاه من واجهك.
(٤) "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٥٥، الرازي ١٨/ ١٨٠، "زاد المسير" ٤/ ٢٥٩.
(٥) الطبري ١٣/ ٢١، الثعلبي ٧/ ٩٧ ب، البغوي ٤/ ٢٦١، ابن عطية ٨/ ٢٩، "زاد المسير" ٤/ ٢٦٠، الرازي ١٨/ ١٨٠، القرطبي ٩/ ٢٣٤، "معاني الفراء" =
بأنهم لا يظلمون أحدًا ولا يرزأون شيئًا لأحد في سفرهم، ولا يعيثون في بستان أحد ولا زرعه، حتى يُرْوَى أنهم قد كمَّموا (١) أفواه إبلهم لئلا تعيث (٢) في زرع، ومن كانت هذه صفته فهو غير قاصد لفساد.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾ وذلك أنهم لما وجدوا بضاعتهم (في رحالهم لم يستحلوا أخذها وبادروا بردها، قالوا: فلو كنا سارقين لم نردد بضاعتكم) (٣) حين أصبناها مع أمتعتنا، ومن رد ما وجده كيف يكون سارقًا.
٧٤ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ﴾ أي ما جزاء السرق إن كنتم كاذبين في قولكم: (ما كنا سارقين)، وقد سبق من الكلام ما يدل على السرق.
٧٥ - وقوله تعالى: ﴿قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ﴾ قال ابن عباس (٤) والمفسرون (٥): كانوا في ذلك الزمان يستعبدون كل سارق بسرقته، وكان استعباد السراق لهم يجري مجرى القطع لنا، فلذلك قالوا: جزاؤه في وُجد في رحله، أي: جزاء السَّرَق من وجد السرق في رحله ﴿فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ أي فالسارق جزاء السرق.
= ٢/ ٥١، و"معاني الزجاج" ٣/ ١٢١، و"معاني النحاس" ٣/ ٤٤٧.
(١) في (أ)، (ج): (كعموا).
(٢) في (ب): (تعبث).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج) وهو في (ب).
(٤) أخرجه عبد الرزاق ٢/ ٣٢٦، والطبري ١٣/ ٢٢، وابن المنذر عن الكلبي كما في "الدر" ٤/ ٥١، و"تنوير المقباس" ص ١٥٢، و"زاد المسير" ٤/ ٢٦٠.
(٥) الطبري ١٣/ ٢٢، الثعلبي ٧/ ٩٧ ب، البغوي ٤/ ٢٦١، ابن عطية ٨/ ٣٠، و"زاد المسير" ٤/ ٥١، القرطبي ٩/ ٢٣٤، ابن كثير ٢/ ٥٣٢.
185
قال أبو إسحاق (١): جزاؤه ابتداء، و (من وجد في رحله) الخبر والمعنى: حزاء السارق الإنسان الموجود في رحله المسروق، ويكون قوله ﴿فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ زيادة في الإبانة [كما تقول: جزاء السارق القطع فهو جزاؤه، فتذكر (فهو جزاؤه) زيادة في الإبانة] (٢).
قال: ويجوز أن يكون قوله: ﴿مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ جملة في موضع خبر الابتداء والعائد منها إلى الابتداء جزاؤه التي بعد، فهو كأنه قيل: قالوا جزاؤه من وجد في رحله، فهو هو، أي: فهو الجزاء، وهو كناية عن السارق، أي فالسارق جزاؤه، ولكن الإظهار كان أحسن هاهنا لئلا (٣) يقع في الكلام لبس، ولئلا يتوهم أن (هو) إذا (٤) عادت ثانية فليست براجعة على الجزاء، والعرب إذا فَخَّمتْ (٥) أمرًا جعلت العائد عليه إعادة لفظه بعينه.
أنشد النحويون (٦):
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢١، وانظر: "معاني الفراء" ٢/ ٥١، و"إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٥٠، والطبري ١٣/ ٢٢.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) في (أ)، (ب)، (ج): (لئن لا)، وما ذكرته في (ي) وهو في "معاني القرآن للزجاج" ٣/ ١٢١.
(٤) في (ج) "ذا" من غير ألف.
(٥) في الزجاج: "إذا أقحمت أمر الشيء".
(٦) البيت ينسب لعدي بن زيد وهو في "ديوانه" ص ٦٥، و"الأشباه والنظائر" ٨/ ٣٠، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي / ٣٦، ولسوادة ابنه، ولأمية بن أبي الصلت انظر: "الخزانة" ١/ ١٨٣، و"شواهد المغني" /٢٩٦، و"اللسان" (نغص) ٨/ ٤٤٨٨، وسيبويه ١/ ١٨٣، و"معاني الزجاج" ١/ ٤٥٦، و"شرح شواهد المغني" ص ١٨٦.
186
لا أَرى المَوْتَ يَسْبِقُ الموتَ شِيْءٌ نَغّصَ المَوْتُ ذا الغِنَى والفَقِيرَا
ولم يقل: يسبقه شيء.
وأنشد ابن الأنباري:
ليْتَ الغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِبًا كان الغُرَابُ مُقَطّعَ الأوْدَاجِ (١)
فأظهر الغراب لعظيم شره عندهم.
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ قال أبو إسحاق (٢): أي مثل هذا الجزاء نجزي الظالمين، قِالِ ابن عباس (٣): يريد إذا سرق واستُرق.
٧٦ - قوله تعالى: ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ﴾ قال المفسرون: لما قال إخوة يوسف: ﴿مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية. وأقروا بأن من وجد المسروق في رحله فجزاؤه أن يسترق، قال لهم المؤذن: إنه لابد من (تفتيش أمتعتكم (٤) وانصرف بهم إلى) (٥) يوسف فبدأ يوسف بأوعيتهم قبل وعاء أخيه؛ لإزالة التهمة، والأوعية (٦) جمع الوعاء وهو كل (ما استودع شيئًا) فأحاط به، يقال: أوعيت الشيء في الوعاء أوعيه إيعاء.
(١) البيت لجرير. انظر: "ديوانه" ص ٧٣، وفيه (ينعب بالنوى) أمالي ابن الشجري ١/ ٢٤٣، الطبري ١/ ٤٤٠.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢١.
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٥٢، و"زاد المسير" ٤/ ٢٦٠.
(٤) في (ج): (أوعيتكم).
(٥) ما بين القوسين بياض في (ب).
(٦) "اللسان" (وعى) ٨/ ٤٨٧٦.
187
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾ إن شئت رددت الكناية إلى السقاية، وإن شئت إلى الصواع، على لغة من يؤنث. وإن شئت على السرقة؛ لأن فيما تقدم دليلاً عليها، قاله الفراء (١) والزجاج (٢) وابن الأنباري (٣).
وقوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾ قال الزجاج (٤): موضع الكاف نصب، المعنى: مثل ذلك الكيد كدنا ليوسف.
قال عطاء عن ابن عباس (٥): يريد ألهمنا يوسف هذا الكيد، ونحوه قال الربيع (٦).
وقال قتادة (٧): صنعنا ليوسف.
وقال ابن إسحاق (٨): كذلك كدنا له إخوته حتى ضممنا أخاه إليه.
وقال مجاهد (٩): كاد (١٠) الله له حتى فعل بأخيه ما فعل.
هذا قول المفسرين في معنى قوله ﴿كِدْنَا﴾، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي (١١): الكيد التدبير بباطل أو حق، وعلى هذا معنى قوله {كِدْنَا
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٥٢.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٢.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٦١.
(٤) "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٥١، ولم أجده في "معاني الزجاج" ٣/ ١٢٢.
(٥) الثعلبي ٧/ ٩٨ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٦١، القرطبي ٩/ ٢٣٦.
(٦) الثعلبي ٧/ ٩٨ ب.
(٧) هذا القول أخرجه الطبري ١٣/ ٢٥، عن ابن جريح والسدي والضحاك، وابن أبي حاتم ٤/ ٢٣٠ ب عن الضحاك.
(٨) الطبري ١٣/ ٢٥.
(٩) الطبري ١٣/ ٢٤.
(١٠) (كاد) ساقط من (ج).
(١١) "تهذيب اللغة" (كاد) ٤/ ٣٠٧٦.
188
لِيُوسُفَ} أي دبرنا له بأن ألهمناه أن يجعل السقاية في رحل أخيه ليتوصل به إلى حبسه، وهذا معنى ما حكينا عن المفسرين.
وقال أبو بكر (١): ﴿كِدْنَا﴾ وقع خبرًا عن الله تعالى، على خلاف معناه في أوصاف المخلوقين، فإنه إذا أخبر به عن مخلوق كان تحته احتيال. وهو في وصف فعل الله يُعرّى من المعاني المذمومة، ويخلص أنه وقع بمن يكيده ما يريد من حيث لا يشعر به، ولا يقدر على دفعه، فهو من الله مشبه بالذي يكون من المخلوقين، من أجل أن المخلوق إذا كاد المخلوق ستر عنه ما ينويه ويضمر له، والذي يقع به الكيد من الله تعالى يتستر عنه ما كتم الله عاقبته، والذي وقع بإخوة يوسف من كيد الله تعالى ما انتهى إليه شأن يوسف من ارتفاع المنزلة، وتمام النعمة، فحيث جرى الأمر على غير ما قدروا من إهلاكه، وخلوص أبيهم لهم بعده، بتدبير الله وخفي لطفه، جعل ذلك كيدًا لمَّا أشبه كيد المخلوقين (٢) وعلى ما ذكر أبو بكر: كيد الله ليوسف عائد إلى جميع ما أعطاه على خلاف تقدير إخوته من غير أن علموا بذلك. وعلى ما ذكره المفسرون: كيد الله له في هذه الآية خاص بإلهامه الحيلة في حبس أخيه.
وقولى تعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ قال ابن عباس (٣) في رواية عطاء: في حكم الملك وقضائه. وهو قول قتادة (٤)، وروى
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٦١ مختصرًا.
(٢) يراجع مبحث منهجه في تفسير آيات العقيدة، في المقدمة.
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٥٢، و"زاد المسير" ٤/ ٢٦١.
(٤) الطبري ١٣/ ٢٥، وعبد الرزاق ٢/ ٣٢٦، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٧٦، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٥٢، والثعلبي ٧/ ٩٨ ب، وابن عطية ٨/ ٣٢، والبغوي ٤/ ٢٦٢.
189
عنه (١) أيضًا: في سلطان الملك، وهو اختيار ابن قتيبة (٢).
قال أبو بكر: والدين معناه في اللغة: السلطان.
وأنشد قول زهير (٣):
في دِينِ عَمْرو وحَالَتْ بَيْنَنَا فَدَكُ
وقال الزجاج (٤): في سيرة الملك، وقال غيره (٥): في عادة الملك.
وأنشد (٦):
(١) الطبري ١٣/ ٢٥، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٧٦، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٥١، والثعلبي ٧/ ٩٨ ب، والبغوي ٤/ ٢٦٢، وابن عطية ٨/ ٣٢، والقرطبي ٩/ ٢٣٨.
(٢) "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢٢٧.
(٣) عجز بيت لزهير، وصدره:
لئن حللت بجوفي بني أسد
من قصيدة له يخاطب بها الحارث بن ورقاء الصيداوي من بني أسد، وكان قد أغار على بني عبد الله بن غطفان فغنم واستاق إبل زهير وراعيه يسارًا، وجو: موضع في ديار بني أسد، وعمرو: هو عمرو بن هند بن المنذر بن ماء السماء، وفدك: قرية بالحجاز وقد روي: (وحالت دوننا). انظر: "ديوانه" ص ٨٣، الكامل ٣/ ٣٢٨، الأمالي ٢/ ٢٩٥، "تأويل مشكل القرآن" ص ٤٥٣، اللسان (فدك) ٦/ ٣٣٦٤، و"جمهرة الأمثال" ١/ ١١٦، و"تاج العروس" (فدك)، وبلا نسبة في "جمهرة اللغة" ص ٦٨٨.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٢.
(٥) ذكره القرطبي ٩/ ٢٣٨ ونسبه إلى ابن عيسى، وانظر "تهذيب اللغة" (دين) ٢/ ١١٣٦، اللسان (دين).
(٦) عجز بيت للمُثَقِّب العبدي، وصدره:
تقول إذ درأت لها وضيني
من قصيدة له في "المفضليات" ص ٢٩٢، "ديوانه" ص ١٩٥، والبيت كما يلي:
تقول إذا درأت لها وضيني أهذا دأبه أبدًا وديني
الكامل ١/ ٣٢٩، الصناعتين ص ٨٦ "اللسان" (درأ) ١٣٤٩، الطبري ١/ ٥١١، "تأويل مختلف الحديث" ٨٢، "تهذيب اللغة" ٢/ ١١٦٦، "تاج العروس" (درأ) ١/ ١٥٠.
190
أهَذَا دِينُه أَبَدًا ودَينِي
قال أهل التفسير (١): كان حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق، فلم يكن يتمكن يوسف من حبس أخيه عنده في حكم الملك لولا ما كاد الله له تلطفًا حتى وجد السبيل إلى ذلك، وهو ما أجرى على ألسنة إخوته أن جزاء السارق الاسترقاق، فأقروا به وكان ذلك مراده، وهو معنى قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ فكان ذلك بمشيئة الله.
قال أبو إسحاق (٢): موضع "أن" نصب، لما سقط الباء أفضى الفعل فنصب، المعنى: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا بمشيئة الله.
وقال أبو بكر: تأويله: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك ويستوجب ضمّه إلا بمشيئة الله ذلك، وتقريبه منه ما لا يوصل إليه إلا بتسهيله وتيسيره. وروي عن الحسن (٣) في قوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ أي أنه الآمر له بذلك، والمفسرون على أن ذلك كان إلهامًا.
وقوله تعالى: ﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ قال أهل المعاني أي (٤) بما نريه من وجوه الصواب في بلوغ المراد، وفي هذا إشارة إلى رفع درجة يوسف.
وقال أبو بكر (٥): نرفع درجات من نشاء، بضروب عطايانا وكراماتنا وأبواب علومنا، كما رفعنا درجة يوسف على إخوته في كل شيء.
(١) انظر: الطبري ١٣/ ٢٢، ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٧٤، الثعلبي ٧/ ٩٨ ب، القرطبي ٩/ ٢٣٨، "زاد المسير" ٤/ ٢٦١.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٢، وفيه: (لما سقطت) بدل: (سقط).
(٣) "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٢٨٠.
(٤) (أي) ساقط من (ج).
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٢٦٢.
191
وقوله تعالى: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ ذكر المفسرون في هذا قولين أحدهما: أن المراد بقوله (عليم) الله تعالى، والمعنى: وفوق كل ذي علم معلّم عليم، وهو الله تعالى الغني بعلمه عن التعليم، وهذا قول ابن عباس (١) والحسن (٢) وسعيد بن جبير (٣).
وروي عن سعيد أنه قال: "ذكر ابن عباس آية فقال رجل من القوم: الحمد لله وفوق كل ذي علم عليم، قال ابن عباس: بئسما قلت: الله هو العلم وهو فوق كل شيء (٤).
قال أبو بكر: وتأويل الآية على هذا: وفوق كل ذي علم اختص به وانكشف له رب العالمين الذي المِنّة له وكل العلوم منه بدأت وإليه تعود.
والقول الثاني: والذي عليه أكثر المفسرين: وفوق كل ذي علم ممن رفعه الله عليم قد رفعه الله بالعلم فهو أعلم منه، وهذا قول ابن عباس (٥) في رواية عكرمة. قال: يكون هذا أعلم من هذا حتى ينتهي العلم إلى الله تعالى، وفي هذا إشارة إلى أن علم يوسف في ذلك الأمر كان ألطف من علم إخوته.
(١) الطبري ١٣/ ٢٧.
(٢) الطبري ١٣/ ٢٧، العلبي ٧/ ٩٩ أ، ابن عطية ٨/ ٣٥.
(٣) الطبري ١٣/ ٢٧.
(٤) الطبري ١٣/ ٢٦، وعبد الرزاق ٢/ ٣٢٦ وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي هاشم ٧/ ٢١٧٧، وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات كما في "الدر" ٤/ ٥٢، وابن عطية ٨/ ٣٥، والقرطبي ٩/ ٢٣٨.
(٥) الطبري ١٣/ ٢٧، والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٧٧، وأبو الشيخ والبيهقي في الأسماء والصفات كما في "الدر" ٤/ ٥٢، الثعلبي ٧/ ٩٩ أ، البغوي ٤/ ٢٦٣، القرطبي ٩/ ٢٣٨.
192
قال أبو بكر: قال جماعة من أهل التفسير: إن العالم واجب عليه أن يتهم نفسه ويستشعر التواضع لربه، ولا يطمع نفسه بالغلبة على العلوم؛ لأنه لا يخلو عالم من عالم يفوقه.
٧٧ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ﴾ الآية، قال الكلبي وغيره من المفسرين (١): لما خُرِّج الصواع من رحل أخي يوسف نكس إخوته رؤوسهم، وقالوا: ما رأينا كاليوم قط ولدت راحيل أخوين لصّين، فقال لهم أخوهم: والله ما سرقته ولا علم لي بمن وضعه في متاعي، وقيل إنه قال لهم: إن الذي وضع بضاعتكم في رحالكم هو الذي وضع السرقة في رحلي. والمفسرون مختلفون في أن يوسف هل كان أخبر أخاه بالكيد الذي يريد أن يكيده في حبسه عنده، فمنهم من يقول: كان قد أخبره بذلك، ومنهم من يقول: لم يخبره، وهذا معنى قوله ﴿قَالُوا﴾ أي: الإخوة ليوسف إن يسرق أي الصواع فقد سرق أخ له من قبل. قال عطاء عن ابن عباس (٢): يريدون يوسف، وكان يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرًّا منهم فيتصدق به في المجاعة حتى فطن به إخوته، ونحو هذا قال وهب (٣) في معنى السرق الذي وصفوا به يوسف، ومقاتل: عن الضحاك (٤) عن ابن عباس، وقال سعيد بن جبير (٥) وقتادة (٦) سرق صنمًا كان لجده أبي أمه
(١) الثعلبي ٧/ ٩٩ أ، الرازي ١٨/ ١٨٣.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٦٣.
(٣) الثعلبي ٧/ ٩٩ ب، البغوي ٤/ ٢٦٣.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٥٦ ب.
(٥) و (٦) الطبري ١٣/ ٢٩، الثعلبي ٧/ ٩٩ أ، البغوي ٤/ ٢٦٣، ابن عطية ٨/ ٣٧، "زاد المسير" ٤/ ٢٦٣، القرطبي ٩/ ٢٣٩.
193
وكسره وألقاه على الطريق. وقال محمد بن إسحاق (١) ومجاهد (٢): إن جدته خبأت في ثيابه منطقة كانت لإسحاق يتوارثونها بالكبر لتملكه بالسرق محبة لمقامه عندها.
قال ابن الأنباري (٣): وهو في هذه (كلها غير سارق في الحقيقة لكنه أتى) (٤) ما يشبه السرق، فوصفه إخوته بذلك عند الغضب على جهة التشبيه والتمثيل، [وقد يوصف بالشيء على جهة التمثيل] (٥)، ولا يراد به الحقيقة، كما روي عن النبي - ﷺ - قال: "كذب إبراهيم ثلاث كذبات" (٦). تأويله: قال قولًا يشبه الكذب في الظاهر، وهو صدق عند البحث.
وقوله تعالى: ﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾ قال الفراء (٧): أسر الكلمة أي: أضمرها في نفسه ولم يظهرها.
قال ابن الأنباري (٨): والكلمة التي أسرها في نفسه: أنتم شرٌّ مكانًا، وزاد من عنده: فأسرّ جوابَ الكلمة التي تكلّموا بها، وتلخيصه وأمرّ جوابها في نفسه فحذف المضاف.
(١) أخرجه ابن إسحاق عن مجاهد كما في "الدر" ٤/ ٥٣، وانظر: البغوي ٤/ ٢٦٣.
(٢) الطبري ١٣/ ٢٩، وابن أبي حاتم كما في "الدر" ٤/ ٥٣، الثعلبي ٧/ ٩٩ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٦٣، القرطبي ٩/ ٢٣٩.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٦٣.
(٤) ما بين المعقوفين بياض في (ب).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٦) أخرجه البخاري (٣٢٥٧)، (٣٣٥٨) كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، أخرجه مسلم (٣٢٦٩) في: كتاب الفضائل، باب: فضائل إبراهيم الخليل عليه السلام.
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٥٢.
(٨) "زاد المسير" ٤/ ٢٦٤.
194
وقال أبو إسحاق (١): الكناية في "فأسرها" إضمار على شريطة التفسير لأن [قوله] (٢) (قال أنتم شر مكانًا) [بدل من الكناية في (فأسرها) المعنى: فأسر يوسف في نفسه قوله أنتم شرٌّ مكانًا] (٣).
قال أبو علي (٤) فيما استدرك عليه: اعلم أن الإضمار على شريطة التفسير يكون على ضربين:
أحدهما: أن يفسر بمفرد كقولنا: نعم رجلاً زيد، ففي نعم ضمير فاعلها ورجلًا المنصوب تفسير لذلك الفاعل المضمر، وأضمر الفاعل لتفسير هذا المذكور له ودلالته عليه، ومثل هذا قولهم: ربه رجلاً، فرجل تفسير المضمر في رب كما كان تفسير المضمر في نعم، فهذان مفردان مضمران على شريطة التفسير، مفسران بمظهرين منكورين ولم يعلم غيرهما، هذا كلامه هاهنا، وقد قال في "الإيضاح": وقالوا: ربه رجلاً، فأضمروا معه قبل الذكر على شريطة التفسير، كما فعلوا ذلك في: نعم رجلاً، وإنما أدخلت رُبَّ على هذا الضمير، وهي إنما تدخل على النكرات من أجل أن هذا الضمير ليس بمقصود قصده، فلما كان غير معين أشبه النكرة، وهذه الهاء على لفظ واحد، وان وليها المذكر أو الاثنان أو الجماعة فهي موحدة، على كل حال رجعنا في كلامه إلى هذه المسألة.
قال: والآخر أن يفسر بجملة، وأصل هذا يقع بالابتداء كقوله: ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنبياء: ٩٧]، و ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٣.
(٢) ما بين المعقوفين بياض في (ب).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (خ) وهو في (ب).
(٤) "الإغفال" ٢/ ٨٩٧.
195
[لإخلاص: ١] المعنى القصة (١) الذين كفروا شاخصة، والأمر الله أحد، ثم تدخل عوامل المبتدأ عليه نحو كان وأن، فينتقل هذا المضمر من الابتداء به كما ينتقل سائر المتبدآت كقوله: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا﴾ [طه: ٧٤]، ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ﴾ [الحج: ٤٦] وتفسير المضمر على شريطة التفسير في كلا الموضعين [متصل بالجملة التي فيها الإضمار المشروط تفسيره متعلق بها، وليس يكون في أحد الموضعين] (٢) خارجًا عن الجملة المتضمنة للمضمر الذي يشرط تفسيره، أما في المبتدأ وما دخل عليه فهو في موضع الخبر كما أريتك، وأما في الضرب الذي هو المفرد فمتعلق بما عمل في الاسم المضمر المفرد، ألا ترى أن (رجلا) في قولك: نعم رجلاً منتصب عن الفعل والفاعل، وإذا كان كذلك قد تبين لك أن المضمر على شريطة التفسير لا يكون إلا متعلقًا بالجملة الذي تتضمن (٣)، ولا يكون منقطعًا عنها ولا متعلقًا بجملة غيرها.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا فالذي ذكره أبو إسحاق (٤) في الآية: أنه إضمار على [شريطة التفسير] (٥)، لا يستقيم لانفصال التفسير عن الجملة التي فيها الضمير الذي زعم أنه إضمار على شريطة التفسير، ووقوعها بعد جمل بعدها وانقطاعها منه، وهذا بين الفساد؛ لأنه لا نظير له ولا نجد شاهدًا عليه إلا دعوى لا دلالة معها، ألا ترى أن تفسير المضمر على
(١) كذا في جميع النسخ وفي "الإغفال": "القصة أبصار الذين كفروا" ٢/ ٨٩٧.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ب)، (ج) وهو في (ي).
(٣) في "الإغفال": "التي تتضمن المضمر" ٢/ ٨٩٩.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٣.
(٥) ما بين المعقوفين من (ي).
196
شريطة التفسير ضربان: إما جملة تفسر مفردًا نحو: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ﴾ وإما مفرد يفسر مفردًا من جملة [نحو: نعم رجلاً، وأما جملة تفسر مفردًا من جملة] (١)، فليس في القسمة ولا في الوجود، وإذا كان كذلك فلا اتجاه لهذا التأويل في الآية، فإن قلت: فعلام يحمل هذا الضمير في أسرها؟ قلنا يحتمل أن يكون إضمارًا للإجابة، كأنهم لما قالوا: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ أسر يوسف إجابتهم في نفسه في الوقت ﴿وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾ في الحال إلى وقت ثان، وجاز إضمار ذلك؛ لأنه قد دل على إضمارها ما تقدم من مقالتهم، ويجوز أيضًا أن يكون إضمارًا للمقالة كأنه أسر يوسف مقالتهم، والمقالة والقول واحد في المعنى.
فإن قلت: كيف يسر هو مقالتهم؟ قيل: ليس معنى المقالة اللفظ، ولكن المعنى المقول، فيكون المصدر عبارة عن المقول، كما يقول (٢) في الخلق، وضَرْب الأمير، ونَسْج اليمن، ومعنى أسرها: أوعاها ولم يطرحها وأكنها في نفسه، إرادة للتوبيخ عليها والمجازاة بها ونحو ذلك، فعلى هذا توجيه هذا الضمير لفساد ما ذكره أبو إسحاق عندنا (٣)، انتهى كلامه.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا﴾ هذا يدل على صحة ما ذكره أبو علي؛ لأنه كيف يصح أن يقول أسَرّ يوسف هذه الكلمة، وقد أخبر الله تعالى أنه قد قال ذلك، إلا أن يحمل على أنه قال ذلك في نفسه من غير إظهار، وفي ذلك عدول عن الظاهر. قال عطاء عن ابن عباس (٤): يريد:
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (أ)، (ج)، وهو في (ب).
(٢) في "الإغفال" ٢/ ٩٠٤، "يكون الخلق عبارة عن المخلوق".
(٣) إلى هنا انتهى النقل عن "الإغفال" ٢/ ٩٠٤ بتصرف واختصار.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢٦٤، القرطبي ٩/ ٢٤٠.
197
"أنتم شر" فعلاً، طرحتم أخاكم في الجب (١) وزعمتم (٢) لأبيكم أن الذئب قتله وأنتم كاذبون، ثم بعتموه بعشرين درهما، وهذا الذي ذكره ابن عباس يتضمنه قوله: (أنتم شر مكانا) لا أنه واجه إخوته بكل هذا، وروى الضحاك عنه (٣) في قوله (أنتم شر مكانا) قال: شر صنيعا لما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم.
وقال أهل المعاني (٤): أنتم شر منزلًا عند الله ممن رميتموه بالسرقة لأنكم سرقتم من أبيكم أخاكم.
قوله تعالى: ﴿وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ قال ابن عباس في رواية عطاء (٥): أراد أن سرقة يوسف كانت لله رضا، ويروى عنه (٦)، وهو قول الحسن (٧) وقتادة (٨): (والله أعلم بما تصفون) أنه كذب. وقال أبو إسحاق (٩): أي الله يعلم أسرق أخ له أم لا.
٧٨ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا﴾ أي في السنن ويجوز أن يكون بمعنى: كبير القدر، ﴿فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ﴾ قال
(١) (الجب): زيادة من (ي).
(٢) في (ج): (وزعمكم).
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٦٠.
(٤) ذكر هذا القول الثعلبي ٧/ ١٠٠ أ، والطبري ١٦/ ٢٠٠.
(٥) القرطبي ٩/ ٢٤٠، وانظر: الرازى ١٨/ ١٨٥.
(٦) القرطبي ٩/ ٢٤٠، وانظر: الرازى ٤/ ٢٦٤.
(٧) "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٢٨٠.
(٨) الطبري ١٦/ ٢٠٠ الثعلبي ٧/ ١٠٠، "زاد المسير" ٤/ ٢٦٤.
(٩) "معانىِ القرآن وإعرابه " ٣/ ١٢٣.
ابن عباس (١) والحسن (٢): خذ واحداً منا تستعبده بدله.
﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ قال ابن عباس (٣) وابن إسحاق (٤): إنك إذا فعلت ذلك فقد أحسنت إلينا وفعلت بنا كل خير، قال أبو بكر: تلخيصه: ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ إلينا إن رددت أخانا علينا، وقبلت منا واحداً مكانه، وقال أبو إسحاق (٥): طالبوه بأن يحسن؛ لأنه كان أعطاهم الطعام ورد إليهم بضاعتهم، قال أبو بكر: والتأويل على هذا القول ﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ إلينا في توفيرك علينا الطعام ومسامحتك إيانا في الأثمان.
٧٩ - قوله تعالى: ﴿قَالَ مَعَاذَ اللهِ﴾ أي اعتصامًا بالله، وقال الزجاج (٦): المعنى أعوذ بالله معاذًا، وذكرنا الكلام في هذا مستقصى في أول السورة.
وقوله تعالى: ﴿أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ﴾ أي: أستجير بالله من أن آخذ برئيًا بسقيم، وموضع (أن) نصب، والمعنى (٧): أعوذ بالله من أخذ أحدٍ، فلما سقطت (من) أفضى الفعل إلى المفعول فنصب. قاله: أبو إسحاق (٨).
(١) و (٢) انظر: الطبري ١٣/ ٣١، و"زاد المسير"٤/ ٢٦٥، القرطبي ٩/ ٢٤٠، ابن كثير ٢/ ٥٣٣.
(٣) "تنوير المقباس" ١٥٢.
(٤) الطبري ١٣/ ٣١، الثعلبي ٧/ ١٠١ أ.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٤.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٣.
(٧) في (ج): "المعنى" من غير واو.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٤.
وقوله تعالىِ: ﴿إنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾ قال ابن عباس: يريد لقد تعديتُ وظلمتُ إن استعبدت غير الذي سرقني.
٨٠ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ﴾ وروي عن ابن كثير: استايسوا (١)، و (حتى إذا استايس (٢) الرسل) بغير همز (٣)، ويئس واستايس (٤) واحد، مثل: عجيب واستعجب، وسخر واستسخر، وفي يئس لغتان: يئس وييئس مثل حسب يحسب ويحسب، ومن قال: استايس، قلب العين إلى موضع الفاء فصار استفعل، ولفظه: استأئس، ثم خفف الهمزة وأبدلها الفاء مثل: راس وفاس، وقد قلب هذا الحرف في غير هذا الموضع فقالوا: يئس يائس، وهو مقلوب من: يئس ييئس، وهو الأصل بذلك على ذلك، أن المصدر لا نعلمه جاء إلا على تقديم الياء، فأما قولهم: لا يأس، فليس مصدر آس، ولو كان كذلك لكان من باب جذب وجبذ، في أن كل واحد منهما أصل على حدة، وليس أحدهما مقلوبًا عن صاحبه، ولكن: أياسًا مصدر أُسُّهُ آوُسَهُ أوسًا وإياسًا إذا أعطيتهُ، والإياس مثل القيام والعياذ (٥)، وإنما سمي الرجل باياس وَآوس، كما يُسَمى بعطاء وعطية، ومن ذلك قول الجعدي (٦):
وكانَ الإله هو المستآسا
(١) في (ج): (استياسوا).
(٢) في (ج): (استياس).
(٣) روى خلف والهيثم عن عُبيدة عن شبل عن ابن كثير بغير همز، والباقون بالهمز بين الباء والسين، انظر: السبعة ص٣٥٠، "إتحاف" ص ٢٦٦.
(٤) في (ج): (واستياس).
(٥) في "الحجة" ٤/ ٤٣٤: "مثل القياس والقياد".
(٦) عجز بيت للجعدي، وصدره:
ثلاثة أهلية أفنيتهم
والمستآس: المستعاض. انظر: شعره: ٧٨، و"اللسان" (أوس) ١/ ١٧٠، و"التنبيه =
200
وهو مستفعل من العطاء، أي: يُسأل أن يعطى، هذا قول أبي علي الفارسي (١). وقال غيره: آيس لغة في: يئس وآيسته، أي: أيأسته، وهو اليأس والإياس.
قال ابن عباس (٢): يريد يئسوا أن يخلى سبيله معهم.
وقوله تعالى: ﴿خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ يقال: خلص الشيء خلوصًا، إذا ذهب عنه الشائب من غيره، ومعنى خلصوا هاهنا: انفردوا من غير أن يكون معهم من ليس منهم، والنجي صفة فعيل بمعنى المناجي، يقع على الكثير كالصديق والرفيق والحميم، ومثله: العري والنجوى مصدر ثم يوصف بهما، فيستوي فيهما الواحد والجمع والمؤنث والمذكر، قال الله تعالى: ﴿وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: ٥٢] فوصف به الواحد، وقال في الجمع: ﴿خَلَصُوا نَجِيًّا﴾، وقال ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ [الإسراء: ٥٢] فجعله جمعًا، وقال: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾ [المجادلة: ٧].
والنجوى: الرجال المتناجون هاهنا، وقال في المصدر: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ﴾ [المجادلة: ١٠] يقال: نجوت فلانًا أنجوه نجوى، إذا ناجيته، هذا الذي ذكرنا قول جميع أهل اللغة (٣) وأنشدوا (٤):
- والإيضاح" ٢/ ٢٥٩، كتاب العين ٧/ ٣٣٠ و"مقاييس اللغة" ١/ ١٥٠، ١٥٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ٢٣٠، و"مجمل اللغة" ١/ ١٠٧، و"أساس البلاغة" (أوس)، و"تاج العروس" (أوس) ٨/ ١٩٤، و"الشعر والشعراء" ص ١٨٠.
(١) "الحجة" ٤/ ٤٣٣ - ٤٣٥ بتصرف.
(٢) انظر: "زاد المسير" ٤/ ٢٦٦، القرطبي ٩/ ٢٤١.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" (نجا) ٤/ ٣٥١٠، و"اللسان" (نجا) ٧/ ٤٣٦١.
(٤) للصلتان العبدي، من وصيته المشهورة لابنه. =
201
بُنَيّ بدا خَبُّ نَجْوى الرجالِ فكُنْ عند سِرّك خَبَّ النَّجِي
والبيت للصلتان العبدي (١)، والنجوى فيه مصدر، والنجي صفة، يقول: بدا غش مناجاة الرجال فكن غاشًّا بنجيك الذي تناجيه، أي: لا تطلعه على سرك، ويجمع على أنجية، ومنه قول لبيد (٢):
وشَهِدْتُ أنْجِيةَ الأفاقةِ عاليًا كَعْبي وأرْدَافُ الملوك شُهُودُ
ويجمع النبي أيضًا أنجيا، وأما تفسير ﴿خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ فقال أبو إسحاق (٣): انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يعملون في ذهابهم إلى أبيهم من غير أن يرجعوا بأخيهم إليه، وقال ابن قتيبة (٤): اعتزلوا الناس ليس معهم غيرهم يتناجون ويتناظرون، وقال الأزهري (٥): تميزوا عن (٦)
= انظر: "الحماسة" ٣/ ١١٢، و"الشعر والشعراء" ص ٣٣٣، "الخزانة" ١/ ٣٠٨، والطبري ١٣/ ٣٣، والخب (بكسر الخاء): المكر، والخب (بفتحها): المكار.
(١) وهو قثم بن خبية العبدي من بني محارب بن عمرو، من بني عبد القبس، شاعر حكيم، وله قصيدة في الحكم بين جرير والفرزدق، فضل فيها شعر جرير وقوم الفرزدق، توفي سنة ٨٠ هـ، انظر: "الشعر والشعراء" ص ٣٣١، و"الأعلام" ٥/ ١٩٠.
(٢) انظر: "ديوانه" ص ٤٧، وابن عطية ٨/ ٤٣، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٣٥، و"الدر المصون" ٦/ ٥٣٩، و"مجاز القرآن" ١/ ٣١٥، والطبري ١٣/ ٣٣، و"اللسان" (ردف) ٣/ ١٦٢٦، و"تهذيب اللغة" ١/ ١٧٣، و"تاج العروس" (أفق) ١٣/ ٨.
من أبيات يقولها لابنته بسرة يذكر طول عمره، والأفاقة: اسم موضع حيث كان اليوم المشهود بين لبيد، والربيع بن زياد العبسي، وأرداف الملوك: من الردف وهو الذي يكون مع الملك وينوب عنه إذا قام من مجلسه.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٤.
(٤) "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢٢٧.
(٥) "تهذيب اللغة" (خلص) ١/ ١٠٨٢.
(٦) في (ج): (على).
202
الناس يتناجون فيما أهمهم، فأبو إسحاق حمل الخلوص على أنهم خلصوا وانفردوا من أخيهم في المناجاة، ونحوه قال ابن الأنباري، وغيرهما: يحمله على اعتزالهم عن غيرهم من الناس وهو الظاهر.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ﴾ قال عطاء عن ابن عباس (١): يعني يهوذا وكان أعقلهم، وهو قول وهب (٢) والكلبي (٣) ومقاتل بن سليمان (٤): لم يكن أكبرهم في السن لكنه كان أكبرهم في صحة الرأي.
وقال مجاهد (٥): شمعون، وكان أكبرهم في العلم والعقل لا في السن.
وقال قتادة (٦) والسدي (٧) والضحاك (٨) وكعب (٩): هو روبيل وكان أكبرهم سنًّا، وهذا هو الظاهر (١٠).
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٦٦، البغوي ٤/ ٢٦٥.
(٢) الثعلبي ٧/ ١٠١ ب.
(٣) البغوي ٤/ ٢٦٥، الثعلبي ٧/ ١٠١ ب، القرطبي ٩/ ٢٤١.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٥٦ ب.
(٥) الطبري ١٣/ ٣٤، البغوي ٤/ ٢٦٥، الثعلبي ٧/ ١٠١ ب، القرطبي ٩/ ٢٤١.
(٦) الطبري ١٣/ ٣٤، البغوي ٤/ ٢٦٥، الثعلبي ٧/ ١٠١ ب.
(٧) الطبري ١٣/ ٣٤، البغوي ٤/ ٢٦٥، الثعلبي ٧/ ١٠١ ب.
(٨) البغوي ٤/ ٢٦٥، الثعلبي ٧/ ١٠١ ب.
(٩) الثعلبى ٧/ ١٠١ ب.
(١٠) قلت: وقد رجح هذا القول الطبري ١٣/ ٣٤، فقال: "وأولى الأقوال في ذلك بالصحة قول من قال: عني بقوله ﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ﴾ روبيل، لإجماع جميعهم على أنه كان أكبرهم سنًا، ولا تفهم العرب في المخاطبة إذا قيل لهم: "فلان كبير القوم" مطلقًا بغير وصل، إلا أحد معنيين، إما في الرئاسة عليهم والسؤدد وإما في السنن وإما في العقل، فإنهم إذا أرادوا ذلك وصلوه فقالوا: "وهو كبيرهم في العاقل" =
203
[وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ] (١) مَوْثِقًا مِنَ اللهِ﴾ أي في حفظكم الأخ ورده إلى أبيه، وذكرنا الكلام في قوله: ﴿مَوْثِقًا مِنَ اللهِ﴾ (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ في يُوسُفَ﴾ وذكر الفراء (٣) والزجاج (٤) وابن الأنباري في "ما" ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون المعنى ومن قبل تفريطكم في يوسف أي: وقع وظهر تفريطكم، فـ"ما" يكون موضعها رفعًا، وتكون مع الفعل بمنزلة المصدر.
الثاني: أن يكون "ما" في موضع نصب نسق على المعنى: ﴿أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ﴾، ومن قبل تفريطكم في يوسف.
الثالث: أن تكون لغوًا لا موضع لها من الإعراب، وتلخيصها: ومن قبل فرطتم في يوسف (٥)، وذكرنا معنى التفريط في قوله: ﴿وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ (٦).
= فأما إذا أطلق بغير صلته بذلك فلا يفهم إلا ما ذكرت، وقد قال أهل التأويل: لم يكن لشمعون على إخوته رياسة وسؤدد، فيعلم بذلك أنه عني بقوله ﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ﴾ فإذا كان ذلك كذلك، فلم يبق إلا الوجه الآخر وهو الكبر في السن، وقد قال الذين ذكرنا جميعًا: "روبيل كان أكبر القوم سنًا" فصح بذلك القول الذي اخترناه. اهـ" واستظهر هذا القول ابن عطية ٨/ ٤٣.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من ب.
(٢) عند قوله تعالى: ﴿حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ﴾ ٦٧.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٥٣.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٤.
(٥) قال الزجاج وهو أجود الأوجه. "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٤.
(٦) الأنعام: ٦١، وقد قال هنالك: (ومعني التفريط: تقدمة العجز) تفسير البسيط، تحقيق: د. الفايز ص ٢٦٠.
204
وقوله تعالى: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ﴾ يقال: برح الرجل براحًا وبروحًا، إذا رام من موضعه، ذكره الفراء (١) في المصادر، وأراد الأرض (٢) موضعه ذلك في قول ابن عباس (٣)، وقال الزجاج (٤): يريد أرض مصر، وإلا فالناس كلهم على الأرض.
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي﴾ قال ابن عباس (٥): حتى يبعث إلى أبى أن آتيه.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ يَحْكُمَ الله لِي﴾ قال: يريد أو يقضي في أمري شيئًا، وقال غيره: أو يحكم الله لي لمحاربة (٦) أو غيرها مما أراد به أخي على أبيه فاحارب مَن حبسه، ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾: أعدلهم وأفضلهم.
٨١ - قوله تعالى: ﴿ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ﴾ يقوله الأخ المحتبس بمصر لأخوته: ﴿فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ﴾ ذكر ابن الأنباري في هذا وجهين:
أحدهما: أن معناه سرق عند الملك، وفيما يقدره الملك وحاضروه، فأما في تقديرنا وما نعلمه من أمره فلا، ومثل هذا كثير كقوله: ﴿إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ [هود: ٨٧] أي: عند نفسك، و ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩] أي: عند نفسك، فأما عندنا فلا، قال: وقد قال بعض الناس: تأويله أن ابنك فعل فعلًا يشبه السرق، فسُمي بما يشبه فعله
(١) كتاب المصادر مفقود.
(٢) في (ب): (بالأرض).
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٥٣
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٥.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٢٦٧.
(٦) في (ج): (كمحاربة).
205
على المجاز، قال: والأول هو الأثبت، لموافقته مذاهب العرب، ومشاكلته ألفاظًا من القرآن، وأكثر المفسرين على أنهم ما عرفوا حقيقة الحال فنسبوا إليه السرق، على ما رأوه من ظاهر الأمر، ولهذا قالوا: ﴿وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا﴾، قال ابن عباس (١): يريد بما ظهر.
قال ابن إسحاق (٢): معناه: ما قلنا أنه سرق إلا بما علمنا؛ لأنه وجدت السرقة في رحله ونحن ننظر.
قال أبو علي الفارسي (٣): شهد الذي يراد به علم هو ضرب من العلم مخصوص، وكل شهادة علم، وليس كل علم شهادة، ومما يدل على اختصاصه أنه لو قال عند الحاكم: أعلم أن لزيد على عمرو عشرة، لم يحكم به حتى يقول: أشهد، فالشهادة مثل التيقن في أنه ضرب من العلم مخصوص، فليس كل علم تيقنًا، وإن كان كل تيقن علمًا.
وذكرنا حقيقة التيقن عند قوله: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾ (٤) فمعنى أشهد على كذا: أعلمه علمًا بحصري، وقد تذلل لي التوقف عنه ولا أثبت لوضوحه عندي، ويدل على أن الشهادة يراد بها المعنى الزائد على العلم قوله: ﴿وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا﴾ وليس يتجه حمله على هذا، فعلم أن معناه ما ذكرناه، وشهد في هذا الوجه يتعدَّى بحرف جر، فتارةً يكون بالباء
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٦٧.
(٢) الطبري ١٣/ ٣٦، الثعلبي ٧/ ١٠٢ أ.
(٣) "الحجة" ٦/ ١٤٣، ١٤٤، وانظر: ١/ ٢٥٦ - ٢٦٤.
(٤) الأنعام: ٧٥ وخلاصة ما ذكره هنالك ما نقله عن أبي علي الفارسي "أن التيقن: ضرب من العلم مخصوص فكل علم ليس تيقنًا، وإن كل تيقن علمًا. لأن التيقن هو العلم الذي قد كان عرضر لعالمه إشكال فيه" تفسير البسيط، تحقيق: د. الفايز، ص ٢٩٢.
206
كهذه الآية، وكقوله: ﴿إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ﴾ [الزخرف: ٨٦]، ، وأخرى يكون بعلى كقوله: ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾ [فصلت: ٢١]. وقوله تعالى: ﴿شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ﴾ [فصلت: ٢٠].
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ قال ابن عباس (١): لم نعلم ما كان يصنع في ليله ونهاره ومجيئه وذهابه، وتلخيص هذا القول (٢) أنهم قالوا: ما كنا لغيب ابنك حافظين، أي: كنا نحفظه في محضره، فإذا غاب عنا في الأحوال التي ينفرد فيها، استترت عنا أموره وخفيت علينا حالاته.
وقال مجاهد (٣) وقتادة (٤) والحسن (٥): ما كنا نشعر أن ابنك سيسرق ويصير أمرنا إلى هذا، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به، وإنما ضمنا حفظه مما لنا إلى حفظه منه سبيل.
وقال ابن كيسان (٦): لم نعلم أنك تُصاب به كما أصبت بيوسف، ولو علمنا ذلك لم نحرق قلبك ولم نذهب به.
وقال عطاء فيما رواه عن ابن عباس: ﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ أي: لعله قد غاب عنا أمر ليس هو كما ظهر، وشرح هذا ما ذكره عكرمة (٧)
(١) الثعلبي ٧/ ١٠٢ أ، البغوي ٤/ ٢٦٦، القرطبي ٩/ ٢٤٥.
(٢) ذكره في "زاد المسير" ٤/ ٢٦٨ عن ابن الأنباري.
(٣) الطبري ١٣/ ٣٦، وابن أبي شيبة وابن المنذر كما في "الدر" ٤/ ٥٥.
(٤) الطبري ١٣/ ٣٦، وعبد الرزاق ٢/ ٣٢٧، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٢٣ وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٥٥.
(٥) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٢٨٢.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٦٨، الثعلبي ٧/ ١٠٢ ب.
(٧) الثعلبي ٧/ ١٠٢ ب.
207
وابن إسحاق (١).
قال عكرمة: لعلها دُسّت بالليل في رحله.
قال ابن إسحاق: معناه قد أخذت السرقة من رحله ونحن ننظر ولا علم لنا بالغيب فلعلهم سرقوه.
وقال أهل المعاني: معنى الآية: أنه يقول لإخوته ﴿ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ﴾ واشرحوا له كيف كانت الحال.
٨٢ - وقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾ قال ابن عباس (٢): يريد أهل مصر، وهذا قول عامة المفسرين وأهل التأويل (٣) أن المراد: واسأل أهل القرية، فحذف المضاف للإيجاز من غير إخلال، وقد تقدم لهذا شواهد كثيرة ونظائر عدة من الكتاب.
قال أبو علي (٤): ودافع جواز هذا في اللغة كدافع الضرورات، وجاحد المحسوسات في غير اللغة، وإثبات الكتاب في هذا المعنى لاشتهارها يستغنى عن ذكرها، وأنشد أبو زيد والكوفيون (٥):
(١) الثعلبي ٧/ ١٠٢ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٦٨، والطبري ١٣/ ٣٦.
(٢) الطبري ١٣/ ٣٧.
(٣) انظر: الطبري ١٣/ ٣٧، البغوي ٤/ ٢٦٧، القرطبي ٩/ ٢٤٦، "الدر المصون" ٦/ ٥٤٤، الزاهر ١/ ٢٨٤، الرازي ١٨/ ١٩٠.
(٤) "الإغفال" ٢/ ٨١٠، وانظر: "سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٤، الرازي ١٨/ ١٩٠.
(٥) الشاهد لذي الخرق الطهوي.
انظر: "نوادر أبي زيد" ١١٦، و"مجالس ثعلب" ٧٦، و"اللسان" (بغم) ١/ ٣٢٠، و"تذكرة النحاة" ١٨، و"تاج العروس" (بغم)، وبلا نسبة في "الإنصاف" ص ٣١٦، و"معاني القرآن" ١/ ٦٢، ٢/ ١٢٤، و"اللسان" (ويب) ٨/ ٤٩٣٧، و"الإغفال" ٢/ ٨١٠.
208
حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا وما هِيَ وْيبَ غَيْركِ بالعَنَاقِ
أي: بغام عناق.
وقد اتسع هذا في كلام، حتى إن الشعراء قد أقاموا المضاف في بعض ما يدخله الناس، من ذلك أنشده النحويون:
يَحْمِلْنَ عَبَّاسَ بنَ عَبْدَ المُطَّلِبْ (١)
يريد ابن عباس، وقول آخر (٢):
أرَى الخُطَفيَّ بزَّ الفَرَزْدَقَ شِعْرَه ولَكِن خَيْرًا من كُليبٍ مُجَاشِعُ
أراد جرير بن الخطفي. ومثله كثير، فإذا جاز إقامة المضاف مقام المضاف إليه في هذا النحو مع أن (٣) الإشكال قد يدخل في بعض الأحوال على كثير من السامعين، كان في غير هذا أجدر وأجود.
وذكر أبو بكر (٤) في هذا وجهًا آخر وهو: أن يكون المعنى واسأل القرية والعير فإنها تعقل عنك، وتجيبك الجدران والبعران والأبنية والأخبية والعروش والسقوف، إذ كنت نبيًّا يخصك إلهك بالآيات المعجزات، وعلى هذا الآية سليمة من الإضمار والمجاز.
(١) الرجز بلا نسبة في اللسان (نفس) ٧/ ٤٤٦، (وصى) ٨/ ٤٨٥٤، و"جمهرة اللغة" ١٣٢٨ وقبله:
صبّحن من كاظمة الحصين الخرب
(٢) البيت للصلتان العبدي من قصيدة يحكم فيها بين جرير والفرزدق، و"خزانة الأدب" ٤/ ٣٧٢، وفيه (كلاب) بدل (كليب)، و (بذّ) بدل (بزّ).
(٣) في (أ): (مع الإشكال من غير أن).
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢٦٨ و"الدر المصون" ٦/ ٥٤٤.
209
وابن عباس (١) والحسن (٢) وقتادة (٣): على أن المراد بالقرية مصر، وروى الكلبي عنه (٤) قال: هي قرية من قرى مصر.
وقوله تعالى: ﴿وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾، قال ابن عباس (٥): يريد أهل الرفقة التي كنا فيها: أي التي امتاروا معنا، قال المفسرون (٦): وكان قد صحبهم قوم من الكنعانيين.
قال ابن إسحاق (٧): عرف الأخ المحتبس أن إخوته أهل تهمة عند أبيهم لما كان من صنيعهم في أمر يوسف، فأمرهم أن يقولوا لأبيهم هذا نفيًا للظنة (٨) عنهم.
٨٣ - قوله تعالى: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ مضى الكلام في هذا أول السورة (٩)، قال ابن عباس في هذه الآية: لما قدموا على أبيهم وأخبروه اشتد حزنه فقال: يا بني تذهبون وأنتم اثنا عشر وترجعون وأنتم أحد عشر، ثم تذهبون أحد عشر وترجعون عشرة، ثم تذهبون عشرة وترجعون تسعة، سبحان الله كيف هذا؟
(١) الطبري ١٣/ ٣٧، ابن عطية ٨/ ٤٦.
(٢) البغوي ٤/ ٢٦٧، الرازي ١٨/ ١٩٠، القرطبي ٩/ ٢٤٦ من غير نسبة.
(٣) الطبري١٣/ ٣٧، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٨٣، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٥٥.
(٤) الثعلبي ٧/ ١٠٢ ب، البغوي ٤/ ٢٦٧.
(٥) قال به الطبري ١٣/ ٣٧، والثعلبي ٧/ ١٠٢ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٦٨.
(٦) الثعلبي ٧/ ١٠٢ ب.
(٧) الطبري ٣/ ٣٧، الثعلبي ٧/ ١٠٢ ب، البغوي ٤/ ٢٦٧.
(٨) في (ب): (اللظعنة).
(٩) (السورة) ساقط من (أ)، (ب)، (ج)، وقد سبق الحديث عنها عند قوله تعالى: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ ١٨.
210
ثم قال: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾، قال المفسرون (١) وأهل المعاني: هاهنا إيجاز وإضمار، والمعنى: فرجعوا فقالوا ليعقوب ما لَقَّنهم يهوذا، فقال يعقوب: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾، قال ابن الأنباري (٢): لم ينسبهم يعقوب في هذا إلى الكذب والاحتيال كما نسبهم في أمر يوسف حين قال: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ﴾ في ابتداء السورة لكنه عني ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ﴾ إخراج بنيامين عني والمصير به إلى مصر، تقديرًا لمنفعة، فعاد من ذلك شر وضرر، وألححتم عليّ في إرساله معكم، ولم تعلموا أن قضاء الله ربما يأتي من فوقكم ويقبض على يدكم.
وقال غيره (٣): معنى قوله هاهنا ﴿سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ خيلت لكم أنه سرق وما سرق، ومعنى قول ابن عباس: تذهبون وأنتم اثنا (٤) عشر، يعني حين ذهبوا بيوسف معهم وألقوه في الجب، ورجعوا أحد عشر، ثم ذهبوا أحد عشر حين أرسل معهم بنيامين إلى مصر، فعادوا تسعة؛ لأن بنيامين حبسه يوسف عنده، واحتبس بمصر الذي قال: ﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي﴾ فعادوا تسعة.
وقوله تعالى: ﴿عَسَى الله أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا﴾ يعني يوسف وبنيامين، والذي قال: فلن أبرح الأرض.
(١) الطبري ١٣/ ٣٧ - ٣٨، الثعلبي ٧/ ١٠٢ ب، البغوي ٤/ ٢٦٧، "زاد المسير" ٤/ ٢٦٩، الرازي ١٨/ ١٩٠.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٦٩.
(٣) ذكره في "زاد المسير" ٤/ ٢٦٩.
(٤) في (ج): (اثنى عشر).
211
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ﴾ قال ابن عباس (١): بشدة حزني ﴿الْحَكِيمُ﴾ فيما حكم عليّ بهذا الحزن وعظم المصيبة بابن بعد ابن.
وقال غيره: ﴿الْعَلِيمُ﴾ بصدق ما يقولونه من كذبه، ﴿الْحَكِيمُ﴾ في تدبيره لخلقه.
٨٤ - قوله تعالى: ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾ قال المفسرون (٢): لما بلغ يعقوب خبر حبس بنيامين، تتام حزنه، وبلغ الجهد، وهاج ذلك وجده بيوسف؛ لأنه كان يتسلى بأخيه منه، فعند ذلك تولى عنهم.
قال ابن عباس (٣) وغيره: أعرض عنهم.
﴿وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾، الأسف: الحزن على ما فات، قال الليث (٤): إذا جاءك أمر فحزنت له ولم تطقه فأنت آسف، أي: حزين ومتأسف أيضاً، قال الزجاج (٥): والأصل يا أسفي، إلا أن ياء الإضافة يجوز أن تبدل ألفاً، لخفة الألف والفتحة، ومضى الكلام في هذا وفي نداء غير ما يعقل، ومعنى ذلك في مواضع.
وقوله تعالى: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ مما يدل على تجدد وجده بيوسف لفقد بنيامين (٦)، وكذلك الحزن يجر الحزن ونكاء القرح بالقرح أوجع، وقد قال متمم بن نويرة (٧):
(١) ذكره في "زاد المسير" ٤/ ٢٦٩ من غير نسبة.
(٢) الثعلبي ٧/ ١٠٢ ب، القرطبي ٩/ ٢٤٧، البغوي ٤/ ٢٦٧.
(٣) ذكره الثعلبي ٧/ ١٠٢ ب، البغوي ٢٦٧، "زاد المسير" ٤/ ٢٦٩.
(٤) "تهذيب اللغة" (أسف) ١/ ١٦١، و"اللسان" (أسف) ١/ ٧٩.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٥.
(٦) في (ب): (ابن يامين).
(٧) هو متمم بن نويرة بن جمرة بن ثعلبة بن يربوع أبو نهشل، صحابي، شاعر فحل، اشتهر في الجاهلية والإسلام، أشهر شعره رثاؤه لأخيه مالك، توفي سنة ٣٠هـ، =
212
فقال أتبكى كلَّ قَبْرٍ رَأيْتَه لقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللّوَى والدَّكَادِك
فقلتُ له إنَّ الأسَى يَبْعَثُ الأسَى.... فَدَعْني (١) فهذا كله قَبْرُ مَالِكِ
وذلك أنه رأى قبرًا فتجدد حزنه على أخيه مالك، وليم على ذلك، فأجاب بأن الأسى يبعث الأسى، عامة أهل العلم (٢): على أن قول يعقوب عليه السلام: ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ ليس منه جزعًا مذمومًا يوجب الإثم؛ لأن الحزن مع حفظ اللسان من الشكوى من الله تعالى كاسب أجرًا وموجب مثوبة، يدل على هذا ما روي (٣): أن يوسف قال لجبريل: هل لك علم بيعقوب، قال: نعم، قال: فكيف حزنه، قال: حزن سبعين ثكلى، قال: فهل له في ذلك من أجر؟ قال: نعم أجر مائة شهيد.
قال ابن عباس (٤) في قوله: ﴿يَا أَسَفَى﴾: يا طول حزني على يوسف.
قال الحسن (٥): كان بين خروج يوسف من حجر يعقوب إلى يوم التقى معه ثمانون عامًا، لا تجف عينا يعقوب، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
= انظر: "الشعر والشعراء" ص ٢٠٩، والبيتان في "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي ٢/ ٧٩٧، الحماسية (٢٦٥) وفيها: (وقالوا أتبكي..).
(١)) (فدعني) ساقط من (ج).
(٢) القرطبي ٩/ ٢٤٩، و"زاد المسير" ٤/ ٢٧٠، ابن عطية ٨/ ٥٠، الرازي ١٨/ ١٩٣.
(٣) أخرجه ابن جرير الطبري ١٣/ ٤٦ بسنده إلى ليث بن أبي سليم في هذه وغيره بأسانيد مختلفة، الطبري ١٣/ ٤٦ - ٤٨.
وأخرجه ابن أبي شيبة عن خلف بن حوشب، وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٨٦، وأبو الشيخ عن وهب بن منبه كما في "الدر" ٤/ ٥٦.
(٤) الطبري ٣٨٨٣، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٨٥، وانظر. "الدر" ٤/ ٥٦.
(٥) الطبري ١٣/ ٤٨ وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٥٦.
213
وقال قتادة (١): يا حزني على يوسف، وقال مجاهد (٢): يا جزعى على يوسف، قال أبو بكر: فمن بني على هذا المذهب، وجعل الأسف جزعًا وضدًا للصبر، زعم أن هذا خطيئة من يعقوب، كما روي أنه كان يرفع حاجبيه بخرقة من الكبر، فقال له رجل: ما هذا الذي أراه بك، قال: طول الزمان وكثرة الأحزان، فأوحى الله إليه: أتشكوني يا يعقوب، فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي (٣).
وقوله تعالى: (﴿وَابْيَضَّتْ) (٤) عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ﴾ أي انقلبت إلى حال البياض، قال مقاتل (٥): لم يبصر بهما ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف.
وفسر ابن عباس (٦) الحزن هاهنا: بالبكاء يريد: أن عيناه ابيضتا لكثرة بكائه، والحزن لما كان سببًا للبكاء جاز أن يسمى به، وذلك أن العين لا تبيض وإن اشتد الحزن حتى يكثر البكاء، واختلفوا في: الحُزْن وَالحَزَن، فقال قوم: الحُزْن: البكاء، والحَزَن: ضد الفَرَح.
(١) الطبري ١٣/ ٣٩، وابن أبي شيبة وابن المنذر كما في "الدر" ٤/ ٥٦، عبد الرزاق ٢/ ٣٢٧.
(٢) الطبري ١٣/ ٣٨ - ٣٩، وابن أبي شيبة وابن المنذر كما في "الدر" ٤/ ٥٦، الثعلبي ٧/ ١٠٢ ب.
(٣) الطبري ١٣/ ٤٦، وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٨٦، وأبو الشيخ عن حبيب بن ثابت كما في "الدر" ٤/ ٥٧.
(٤) ما بين القوسين بياض في (أ).
(٥) "تفسير مقاتل" ١٥٦ أ، الثعلبي ٧/ ١٠٣ أ، "زاد المسير" ٤/ ٢٧٠.
(٦) القرطبي ٩/ ٢٤٨، و"زاد المسير" ٤/ ٢٧١.
214
فإنْ أكُ كَاظِمًا لمُصَابِ شَاس فإني اليَوْمَ منْطَلِقٌ لِسَاني
ويجوز أن يكون بمعنى المكظوم، وهو المسدود عليه طريق حزنه فلا، يتكلم بنفثة مصدور، يدل عليه قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ (١) [القلم: ٤٨]، قال ابن عباس (٢) في هذه الآية: فهو مغموم مكروب، وقال الزجاج (٣): محزون.
٨٥ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ الآية يقال: لمَ أقسموا على هذا وهم على غير يقين منه أن ينقلب فيترك ذكره؟
قال أبو بكر (٤): لم يقسموا إلا على ما كان صحيحًا في نفوسهم، وتلخيصه: تالله تفعل ذلك عندنا، وفي تقديرنا: فحلفوا على ما تقرر عندهم بالاستدلال، على ما يجوز في معلوم الله أن يتغير.
وقوله تعالى: ﴿تَفْتَؤُاْ﴾ قال ابن السكيت (٥): يقال: ما زلت أفعله، وما برحت أفعله، وما فتئت أفعله، ولا يتكلم بهن إلا مع الجحد، وقال أبو زيد: يقال: ما فتأت أذكره، أي: ما زلت، وهما لغتان: ما فتئت وما فتأت، يقال: فتئت عن الأمر فَتَأ، إذا نسيته وانْقَدَعْت عنه.
وروى (٦) ابن هاني عن أبي زيد: ما أفتأت أذكره إفتاءً، وما فتئت
(١) في النسخ بزيادة "ربه" خلاف ما عليه الآية.
(٢) "الوقف والابتداء" لابن الأنباري ١/ ٨٧.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٥.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢٧٣.
(٥) من هنا يبدأ النقل عن الأزهري في التهذيب (فتأ) ٣/ ٢٧٣١.
(٦) في (ب): (روى) من غير واو. وابن هانئ هو: أبو عبد الرحمن بن محمد بن هانئ النيسابوري، ويعرف بصاحب الأخفش، توفي سنة ٢٣٦ هـ. انظر: "تاريخ بغداد" ١٠/ ٧٢، و"تهذيب اللغة" ١/ ٤٤، و"إنباه الرواة" ٢/ ١٣١.
216
أذكره أفتأ فتأ (١).
وذكر ذلك أبو إسحاق في باب الوفاق (٢) (٣) وحكى الكسائي (٤): فتئت، وفتأت، فتأ، وفتوءًا، وأنشدوا لأوس بن حجر:
فما فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وتَدَّعِي ويَلحقُ منها لاحِقٌ وتَقَطَّعُ (٥)
وقال القاسم بن معن (٦): هي بلغة أهل اليمن، وأنشد قول الأعرج المَعْنى (٧):
فما فِتَئَتْ منها رِعَالٌ كأنها رِعَالُ القطا حتى احْتَوَيْنَ بني صَخْرِ
قال النحويون (٨): حرف النفي هاهنا مضمر على معنى: ما تفتؤ ولا تفتؤ، وجاز حذفه لأنه لو أريد الإثبات لكان باللام والنون نحو:
(١) إلى هنا انتهى النقل من الأزهري في التهذيب (فتأ) ٣/ ٢٧٣٢، و"اللسان" (فتأ) ٦/ ٣٣٣٧.
(٢) في (ج): (الوفات).
(٣) كتاب "فعلت أفعلت" / ٣٢.
(٤) "إعراب القرآن للنحاس" ٢/ ١٥٦.
(٥) البيت في: "ديوان أوس بن حجر" ص ٥٨، و"مجاز القرآن" ١/ ٣١٦، والطبري ١٣/ ٤١، و"شواهد الكشاف" ص ١٦٨، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٢٦، و"الدر المصون" ٦/ ٥٤٦، و"زاد المسير" ٤/ ٢٧٢، و"الكشاف" ٢/ ٣٣٩، و"المعاني الكبير" / ١٠٠٢، وأساس البلاغة (فتأ).
(٦) هو القاسم بن معن بن عبد الرحمن النحوي القاضي توفي سنة ١٧٥ هـ تقريبًا، انظر "إنباه الرواة" ٣/ ٣٠.
(٧) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة في "زاد المسير" ٤/ ٢٧٢ برواية (منا).
(٨) "معاني الفراء" ٢/ ٥٤، "إعراب النحاس" ٢/ ١٥٦، و"الدر المصون" ٦/ ٥٤٦.
217
والله ليفعلن، فلما كان بغير اللام والنون، عرف أن لا مضمر، وأنشدوا قول امرئ القيس (١):
فقلتُ يَمِينُ اللهِ أبْرَحُ قَاعِدًا
وقول الخنساء (٢):
فأقْسَمْتُ آسَى على هَالِكٍ... أو أسأل نَائِحَةً مَالهَا
ومثله كثير، وهذا قول الفراء (٣) والزجاج (٤) وابن الأنباري وجميع النحويين.
وأما المفسرون فقال ابن عباس (٥) والحسن (٦) ومجاهد (٧) وقتادة (٨)
(١) صدر بيت، وعجزه:
ولو قطعوا رأسى لديك وأوصالى
انظر: "ديوانه" ص ١٠٨، و"اللسان" (يمن)، والصناعتين ص ١٣٨، و"معاني القرآن" ٢/ ٥٤٠، و"الخصائص" ٢/ ٢٨٤، و"الخزانة" ٤/ ٢٠٩، ٢٣١، و"شرح المفصل" ٩/ ١٠٤، والطبري ١٣/ ٤٢، والقرطبي ٩/ ٢٤٩، و"تأويل مشكل القرآن" ص ٢٢٥، و"الدرر" ٢/ ٤٣، و"الكتاب" ٣/ ٥٠٤، و"الأضداد" لابن الأنباري ١٤٢.
(٢) "ديوانها" ١٢٥، وفيه:
فآليت آسي على هالك... وأسأل باكية ما لها
"تهذيب اللغة" (لا) ٤/ ٣٢١١، وانظر: "زاد المسير" ٤/ ٢٧٢، و"اللسان" (لا) ٧/ ٣٩٧٣، و"تاج العروس" (لا) "كتاب العين" ٨/ ٣٤٩.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٥٤.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٦.
(٥) الطبري ١٣/ ٤١، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٨٧، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٥٩.
(٦) انظر: "تفسر كتاب الله العزيز" ٢/ ٢٨٣.
(٧) الطبري ١٣/ ٤١، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر" ٤/ ٥٩.
(٨) الطبري ١٣/ ٤١.
218
والسدي (١) والكلبي (٢): لا تزال تذكر، وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد (٣) قال: لا يفتر من ذكره.
وقوله تعالى: ﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ قال الفراء (٤): يقال: رجل حرض وحارض، وهو: الفاسد في جسمه وعقله، فمن قال: حرض، لم يثن ولم يجمع ولم يؤنث؛ لأنه بمنزلة: دفن وضنى، في أنه مصدر، قال: ولو ثنى وجمع لكان صوابًا، كما قالوا: ضيف وأضياف، ومن قال: حارض، ثنى وجمع.
وقال أبو زيد: الحرض المدنف، ومثله المحرض، وقال الأصمعي: الحرض الهالك، والمحرض المهلك (٥).
وقال أبو الهيثم: الحرض والمحرض: الهالك من ضنى (٦)، الذي لا حي فيرجى ولا ميت فيوئس منه، وقال الليث: رجل حرض، لا خير فيه، وجمعه أحراض، والفعل حرُض يحْرُض حُرُوضًا (٧).
وحكى الكسائي: حَرض بالفتح وحُرض بالضم حراضة وحروضًا، وهو حارض، وهم حارضون، وحرضة، وحرض.
(١) ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٨٨.
(٢) "تنوير المقباس" ص ١٥٣.
(٣) الطبري ١٣/ ٤١.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٥٤، ومن هنا يبدأ النقل عن تهذيب الأزهري (حرض) ١/ ٧٨٧.
(٥) في (أ) بياض في هذه الكلمة.
(٦) في "التهذيب" ٤/ ٢٠٤: "الهالك مرضًا".
(٧) إلى هنا انتهى النقل عن تهذيب الأزهري (حرض) ١/ ٧٨٧. وانظر: "اللسان" (حرض) ٢/ ٨٣٦.
219
قال أهل المعاني (١): أصل الحرض فساد الجسم والعقل للحزن والحب، وأنشدوا للعرجي (٢):
إني امْرُؤ لَجَّ بي حُبٌّ فأحَرَضَنِي حَتَّى بَلِيت (٣) وحَتَّى شَفَّنِي السَّقَمُ
وقال الزجاج (٤): الحرض الفاسد في جسمه، والحرض الفاسد في أخلاقه، وقولهم: حرَّضت فلانًا على فلان، تأويله: أفسدته.
وقال أبو عبيدة (٥): الحرض الذي قد أذابه الحزن، هذا كلام أهل اللغة في الحرض.
وأما المفسرون فقال ابن عباس في رواية عطاء: حتى تكون كالشيخ الفاني الذي تغير، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن الحرض فقال (٦): الفاسد الدنف.
(١) "مجاز القرآن" ١/ ٣١٦.
(٢) البيت لعبد الله بن عمر بن عبد الله العرجي، كان ينزل بموضع قبل الطائف يقال له العرج فنسب إليه.
انظر: "الشعر والشعراء" ص ٣٨١، "ديوانه" ص ٥، الطبري ١٣/ ٤٢، القرطبي ٩/ ٢٥٠، "زاد المسير" ٤/ ٢٧٣، "اللسان" (حرض) ٢/ ٨٣٦، "مجاز القرآن" ١/ ٣١٧، "الاشتقاق" ٤٨، "السمط" ص ٤٢٢، "الدر المصون" ٦/ ٥٤٧، "المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ١/ ٤٠٣.
(٣) في (ج): (مليت).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٦.
(٥) "مجاز القرآن" ١/ ٣١٦.
(٦) أخرج ابن الأنباري، الطستي كما في "الدر" ٤/ ٥٩، وأخرجه الطبري ١٣/ ٤٣، البغوي ٤/ ٢٦٨ وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٨٧ وأبو الشيخ نحوه كما في "الدر" ٤/ ٥٩، والثعلبي ٧/ ٢٠٣ ب، و"الإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق" لبنت الشاطئ ص ٥٠٢.
220
وقال مجاهد (١): ﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ قال: مرضًا دون الموت، وقال جويبر عن الضحاك (٢): كالشيء البالي، وقال قتادة (٣): هرمًا، وقال مقاتل (٤): مدنفًا، وذكر أبو روق أن أنس بن مالك قرأ: ﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ بضم الحاء وتسكين الراء، قال: يعني مثل عود الأشنان، ذكره ابن الأنباري بإسناده عن أبي روق (٥).
وقوله تعالى: ﴿أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ أي: من الميتين، قاله قتادة (٦)، ومعنى الآية: أنهم قالوا لأبيهم: لا تزال تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه، حتى تصير بذلك إلى مرض لا ينتفع بنفسك معه، أو تموت بالغم، وأرادوا بهذا القول كفه عن البكاء والحزن إشفاقًا عليه.
قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾ قال المفسرون (٧): لما رأى غلظتهم وعنفهم به في قولهم ﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ قال لهم: إنما أشكو ما بي إلى الله تعالى لا إليكم.
(١) الطبري ١٣/ ٤٣، الثعلبي ٧/ ١٠٣ ب، ابن عطية ٨/ ٥٥، البغوي ٤/ ٢٦٨، ابن أبي حاتم ٤/ ٢٣٦ ب.
(٢) الطبري ١٣/ ٤٣، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ٤/ ٢٣٦ ب، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٥٩، والثعلبي ٧/ ١٠٣ ب، وابن عطية ٨/ ٥٥ وجويبر ضعيف.
(٣) الطبري ١٣/ ٤٣، الثعلبى ٧/ ١٠٣ ب، ابن عطية ٨/ ٥٤.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٥٧ أ.
(٥) انظر: ابن عطية ٨/ ٥٤، القرطبي ٩/ ٢٥١، "الدر المصون" ٦/ ٥٤٨.
(٦) الطبري ١٣/ ٤٤، الثعلبي ٧/ ١٠٤ أ، البغوي ٤/ ٢٦٨، "زاد المسير" ٤/ ٢٧٣، القرطبي ٩/ ٢٥١، عبد الرزاق ٢/ ٣٢٧.
(٧) الثعلبي ٧/ ١٠٤ أ، الطبري ١٣/ ٤٥.
221
قال أهل اللغة (١): البث: الهم الذي تفضي به إلى صاحبك. وأصله من البث وهو النشر والتفريق، يقال: بثوا الخيل في الغارة، وبث الله الخلق، وأبثثتُ فلانًا بسري إبثاثًا، أي: أطلعته عليه.
وقال أبو عبيدة (٢): البث: أشد الحزن، والحزن أشد الهم، وقال غيره: الهم ما يستره الإنسان ويكتمه، والبث ما يبديه ويظهره؛ لأنه إذا اشتد لم يصبر على كتمانه حتى يبثه، يقال: قد أبثثتك ما في قلبي، وبثتك، إذا أطلعتك عليه، قال الشاعر (٣):
أبثّكَ ما ألْقَى وفي النَّفْسِ حَاجَةٌ لها بَيْنَ لَحْمِي والعِظَامِ دَبِيبُ
وقوله تعالى: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ أي أعلم من خبر سلامة يوسف ما لا تعلمون أنتم، قال الكلبي عن ابن عباس (٤): وذلك أن ملك الموت أتاه فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف فيما قبضت من الأرواح؟ قال لا يا نبي الله، وقال ابن عباس (٥): وأعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني (٦) وأنتم سنسجد له.
(١) انظر: "تهذيب اللغة" (بثث) ١/ ٢٧٣، و"اللسان" (بثث) ١/ ٢٠٨.
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ٣١٧.
(٣) البيت لكُثَيِّر من قصيدة يمدح فيها عمر بن عبد العزيز وهي في "ديوانه" ص ٣٦ كما يلي:
أبثك ما ألقى وفي النفس حاجة لها بين جلدي والعظام دبيب
وذكره في "الشعر والشعراء" ص ٤١٣ ونسبه لعروة بن حزام، والبيت مختلف عن هذا وهو:
وإني لتعروني لذكراك روعة لها بين جلدي والعظام دبيب
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢٧٥، و"تنوير المقباس" ١٥٣، وأخرجه ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٨٩، عن النصر بن عربي كما في "الدر" ٤/ ٦٠.
(٥) الطبري ١٣/ ٤٥، و"زاد المسير" ٤/ ٢٧٥، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٨٩، كما في "الدر" ٤/ ٦٠، الثعلبى ٧/ ١٠٥ أ.
(٦) في (ج): (وأنا).
222
وقال قوم: هما لغتان، يقال: أصابه حُزْنٌ شديد وحَزَنٌ شديد، وهذا مذهب أكثر أهل اللغة (١)، وروى يونس عن أبي عمرو (٢) قال: إذا كان في موضع النصب فتحوا الحاء والزاء كقوله: ﴿تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا﴾ [التربة: ٩٢]، وإذا كان في موضع الخفض أو الرفع فهو بضم الحاء كقوله ﴿مِنَ الْحُزْنِ﴾.
٨٦ - وقوله تعالى (٣): ﴿أَشْكُو (٤) بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ﴾ قال: هو في موضع رفع بالابتداء.
وقوله تعالى: ﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ ذكرنا الكلام في الكظم عند قوله ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ [آل عمران: ١٣٤] مستقصى، والكظم هاهنا يجوز أن يكون بمعنى الكاظم، وهو الممسك على حزنه فلا يظهره ولا يشكوه.
قال ابن قتيبة (٥): يدل عليه قول قتادة (٦) قال: كظيم على الحزن، لا يقول بأسًا، قد شد فاه على الحزن في قلبه، فليس يتكلم بسوء، وفي ذلك يقول الشاعر (٧):
(١) "تهذيب اللغة" ١/ ٨٠٧، و"اللسان" (حزن) ١/ ٨٦١، و"الاشتقاق" لابن دريد ١٠٠.
(٢) "تهذيب اللغة" (حزن) ٤/ ٣٦٤.
(٣) (تعالى) ساقط من (ب).
(٤) في (ب): (وأشكو) بزيادة واو خلاف ما عليه الآية.
(٥) "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢٢٨.
(٦) الطبري ١٣/ ٤٠، وعبد الرزاق ٢/ ٣٢٧، وابن المبارك وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٨٧، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٥٧، والثعلبي ٧/ ١٠٣ أ.
(٧) هو قيس بن زهير، والبيت من الوافر، وابن الأنباري في "الوقف والابتداء" ١/ ٨٧، وانظر: "الدر" ٤/ ٥٧، القرطبي ٩/ ٢٤٩، و"النكت والعيون" ٣/ ٧٠.
قال ابن الأنباري: وهذا يدل على أن يعقوب كان يزيد عليهم في علم العبارة ويصل من حقائقها إلى حيث لا يبلغون ولا يصلون، هذا قول مقاتل ابن سليمان (١).
وقال عطاء عن ابن عباس (٢): وأعلم من رحمة الله وقدرته ورأفته على أوليائه ما لا تعلمون.
وقال قتادة (٣): أعلم من اختيار الله عَزَّ وَجَلَّ لي ما يوجب حسن ظني.
٨٧ - قوله تعالى: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ الآية، قال السدي (٤): لما أخبره بنوه بسيرة الملك وقوله، طمع يعقوب أن يكون يوسف، فلذلك قال لبنيه: ﴿اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾، (وقيل: (٥) إنه رأى ملك الموت في المنام، فأقسم والله ما قبضت روح يوسف) (٦)، فاطلبه من هاهنا، وأشار إلى ناحية مصر، فلذلك قال: تحسسوا من يوسف، والتحسس: تطلب الشيء بالحاسة.
قال أبو معاذ (٧): التحسس: شبه التسمع والتبصر.
(١) "تفسير مقاتل" ١٥٧ أبنحوه.
(٢)) "زاد المسير" ٤/ ٢٧٥ ونسبه إلى عطاء.
(٣) الطبري ١٣/ ٤٦، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٨٧، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٦٠، والقرطبي ٩/ ٢٥١.
(٤) الثعلبي ٧/ ١٠٥ ب، "زاد المسير" ٤/ ٢٧٥، البغوي ٤/ ٢٧٠، القرطبي ٩/ ٢٥١.
(٥) الثعلبي ٧/ ١٠٥، القرطبي ٩/ ٢٥٢.
(٦) ما بين القوسين مكرر في (أ)، (ج).
(٧) "اللسان" (حسس) ١/ ٨٧٢، تهذيب ١/ ٨١٨، وأبو معاذ هو الفضل بن خالد المروزي الباهلي مولاهم إمام نحوي لغوي مقرئ، توفي سنة ٢١١ هـ، انظر: "معجم الأدباء" ١٦/ ٢١٤، و"غاية النهاية" ٢/ ٩، و"طبقات المفسرين" للداودى ٢/ ٣٢.
223
وقال أبو عبيد (١): تحسست الخبر: بحثته وطلبته لأخذه، ومن هذا يقال: أحس الخبر أي: علمه ووجده، قال ابن عباس (٢): يريد يبحثوا عن يوسف.
قال أبو بكر (٣): يقال: تحسست عن فلان، ولا يقال: من فلان، وقيل هاهنا "من يوسف" لأنه أقيم مقام "عن"، كما قال العرب: حدثني فلان من فلان، يعنون: عن فلان، ويجوز أن "من" أوثرت للتبعيض، والمعنى: تحسسوا خبرًا من أخبار يوسف، واستعملوا بعض أخبار يوسف فأوثرت "من" لما فيها من الدلالة على التبعيض.
وقوله تعالى: ﴿لَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ﴾ قال الأصمعي (٤): الروح الاستراحة من غم القلب، وقال أبو عمرو (٥): الروح الفرج، والروح ما يجده الإنسان من نسيم الهوى فيسكن إليه.
وقيل في قوله تعالى: ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾ الواقعة: ٨٩، الروح: الرحمة، وقال أهل اللغة (٦) ما يتركب (٧) من الراء، والواو والحاء كثير، والأصل في ذلك كله الحركة والاهتزاز، فكل ما يهتز الإنسان له ويلتذ بوجوده فهو روح.
(١) انظر: "غريب الحديث" ٢/ ٣٩٢.
(٢) الثعلبي ٧/ ١٠٥ب، و"تنوير المقباس" ص ١٥٣.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٧٦.
(٤) "تهذيب اللغة" (روح) ٢/ ١٣١٣.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٢٧٦.
(٦) انظر: "مقاييس اللغة" ٢/ ٤٥٤، و"اللسان" (روح) ٣/ ١٧٦٦، و"تهذيب اللغة" (راح) ٢/ ١٣١٣.
(٧) في (ب): (ما تركب).
224
قال ابن عباس في رواية عطاء (١): ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ﴾ يريد من رحمة الله، وهو قول قتادة (٢) والضحاك (٣) والكلبي (٤).
وروى معمر عن قتادة (٥): من فضل الله.
وقال ابن زيد (٦): من فرج الله، ولا تيأسوا من الروح الذي يأتي به الله.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ قال ابن عباس (٧): يريد أن المؤمن من الله على خير يرجوه في الشدائد، ويشكره ويحمده في الرخاء، وأن الكافر ليس كذلك.
٨٨ - وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ﴾ قال أهل اللغة (٨): التأويل في الكلام متروك يستدل عليه، والتقدير: فخرجوا إلى مصر فلما دخلوا عليه، أي: على يوسف ﴿قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرّ﴾ أي: أصابنا ومن يختص بنا الجوع والحاجة، {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٧٦.
(٢) الطبري ١٣/ ٤٩، عبد الرزاق ٢/ ٣٢٨، ابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩٥، أبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٦٢، الثعلبي ٧/ ١٠٥ ب، القرطبي ٩/ ٢٥٢.
(٣) الطبري ١٣/ ٤٩، الثعلبي ٧/ ١٠٥ ب، "زاد المسير" ٤/ ٢٧٦، القرطبي ٩/ ٢٥٢.
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٥٣، ويشهد لهذا المعنى قراءة أبي "من رحمة الله" البحر ٥/ ٣٣٩.
(٥) الرازي ١٨/ ١٩٩، عبد الرازق ٢/ ٣٢٨.
(٦) الطبري ١٣/ ٤٩، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٦٢، والثعلبي ٧/ ١٠٥ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٧٦، والقرطبي ٩/ ٢٥٢، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩٠ عن ابن إسحاق.
(٧) الرازي ١٨/ ١٩٩.
(٨) انظر: الطبري ١٣/ ٤٩، الثعلبي ٧/ ١٠٦ أ، البغوي ٤/ ٢٧١، ابن عطية ٨/ ٦٠، "زاد المسير" ٤/ ٢٧٧، القرطبي ٩/ ٢٥٢.
225
مُزجَنةٍ} معني الإزجاء في اللغة (١): السَّوْق (٢) والدفع قليلاً قليلا، ومثله: التزجية، يقال: الريح يزجي السحاب، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا﴾ [النور: ٤٣]، والبقرة تُزَجّى ولدها: اى تسوقه، قال
وأمّ عَيْنَاء تُزَجِّي معها إِزْجَاء (٣)
وزجيت فلانًا، بالقول أي (٤): دافعته.
وقال (٥):
وصَاحِبٍ ذِي غِمْرةٍ زاجَيْتُه زَجَّيْتُه بالقَوْلِ وازدَجَيْته
وفلان يزجِّي العيش، أي: يدفع بالقليل ويكتفي به، يقال (٦): زاجيت أيامي وزجّيتها أي: دافعتها بقوت قليل، وفلان يتزَجَّى باليسير، أي: يقنع، وأنشد الليث (٧):
تَزَجَّ من دُنْيَاكَ بالبَلَاغِ
(١) "تهذيب اللغة" (زاج) ٢/ ١٥١١، و"اللسان" (زجا) ٣/ ١٨١٥.
(٢) في (ب): (السرق).
(٣) من الرجز، ولم أقف عليه.
(٤) (أي) ساقط من (ب).
(٥) البيان من الرجز، وهما بلا نسبة في تهذيب (زاج) ٢/ ١٥١١، "واللسان" (زجا) ٣/ ١٨١٥ برواية (داجيته).
(٦) "تهذيب اللغة" (زاج) ٢/ ١٥١١.
(٧) الرجز بلا نسبة وهو كما يلي:
تزج من دنياك بالبلاغ
وباكر المعدة بالدِّباغ
بكسرة جيِّدة المضاغ
بالملح أو ما خف من صباغ
وهو في "اللسان" (زجا) ٣/ ١٨١٥، (بلغ) ١/ ٣٤٦، (صبغ) ٤/ ٢٣٩٥، و"تاج العروس" (بلغ) ١٢/ ٨، (صبغ) ١٢/ ٤٠، (وضع) ١١/ ٥١٦، وأساس البلاغة (زجى).
226
بكسْرَةٍ لينةِ المِضَاغِ
بالمِلْحِ أو ما جَفَّ في الصِّبَاغِ
هذا معنى الإزجاء في اللغة، قال ابن عباس (١): كانت دراهم رديئة زيوفًا لا تنفق في ثمن الطعام، هذا قوله في رواية عكرمة وباذان، وفسر في رواية عطاء كيف كانت الدراهم فقال (٢): وذلك أن دراهم مصر كانت يضرب فيها صورة يوسف، والتي جاءوا بها ليست فيها صورة يوسف، فهي أدنى لا تجوز مجاز تلك، وهذا قول سعيد بن جبير (٣): أنها كانت دراهم فُسُولا، واختيار الفراء (٤): قال قدموا مصر ببضاعة فباعوها بدراهم لا تنفق في الطعام بسعر الجياد.
وروى سعيد عن قتادة (٥): ﴿بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاة﴾ قال يسيرة، وقال عبد الله بن الحارث (٦): قليلة، وهو قول الحسن (٧) والكلبي (٨)
(١) الطبري ١٣/ ٥٠، وأبو عبيد وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٦٢، الثعلبي ٧/ ١٠٦ أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢٧٨، والقرطبي ٩/ ٢٥٣.
(٢) القرطبي ٩/ ٢٥٣، الرازى ١٨/ ٢٠١.
(٣) ذكره الطبري ١٣/ ٥١ بسنده عن سعيد بن جبير وعكرمة ﴿وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ﴾ قال سعيد ناقصة، وقال عكرمة: دراهم فسول، وانظر الطبري ١٣/ ٥١، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩٢.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٥٥.
(٥) الطبري ١٣/ ٥٢، عبد الرزاق ٢/ ٣٢٨.
(٦) الطبري ١٣/ ٥٢.
(٧) الطبري ١٣/ ٥٢، وابن عطية ٨/ ٦٢، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩٢، و"البحر" ٥/ ٣٤٠، الرازى ١٨/ ٢٠١.
(٨) البغوي ٤/ ٢٧٢ من غير عزو.
227
ومجاهد (١) في رواية عبد الوهاب، وابن عباس (٢) في رواية ابن جريج، عن محمد بن المرتفع قال: قليلة خلف الغرارة (٣) والحبل، ونحو هذا قال إبراهيم (٤) وابن زيد (٥).
ثم اختلفوا في هذه البضاعة الرديئة القليلة أيش كانت، وذكرنا قول ابن عباس فيها في رواية ابن جريج ومثله روى عنه ابن أبي مليكة (٦) وهو قول ابن زيد.
وقال الحسن (٧): كانت إقطًا، وقال عبد الله بن الحارث (٨): السمن والصوف كمتاع الأعراب، وقال جويبر عن الضحاك (٩): النعال والأدم.
وقال مقاتل بن حيان (١٠): حبة الخضراء (١١)، والضوبر، وهو قول الكلبي (١٢).
(١) الطبري ١٣/ ٥٢، و"زاد المسير" ٤/ ٢٧٧.
(٢) البخاري "فتح" ٨/ ٢٠٨.
(٣) الغرارة: الجُوَالق، واحدة الغرائر. "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٦٥١، و"اللسان" ٦/ ٣٢٣٦.
(٤) الطبري ١٣/ ٥٣.
(٥) الطبري ١٣/ ٥٣.
(٦) الطبري ١٣/ ٥٠، وعبد الرزاق ٢/ ٣٢٨، وسعيد بن منصور وابن أي حاتم ٧/ ٢١٩١، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٦٤، والثعلبي ٧/ ١٠٦ أ.
(٧) الثعلبي ٧/ ١٠٦ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٧٧.
(٨) الطبرى ١٣/ ٥١، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩١، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٦٢، والثعلبي ٧/ ١٠٦ أ، وابن عطية ٨/ ٦٢، و"زاد المسير" ٤/ ٢٧٧.
(٩) الثعلبي ٧/ ١٠٦ ب، البغوي ٤/ ٢٧٢، "زاد المسير" ٤/ ٢٧٧، القرطبي ٩/ ٢٥٣.
(١٠) الثعلبى ٧/ ١٠٦ ب، البغوي ٤/ ٢٧٢.
(١١) الحبة الخضراء هي الفستق، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٤٠.
(١٢) الطبري ١٣/ ٥١ عن أبي صالح، ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩١، وأبو الشيخ عنه أيضًا كما في "الدر" ٤/ ٦٢، الثعلبي ٧/ ١٠٦ ب، البغوي ٤/ ٢٧٢، "تنوير المقباس" ص ١٥٣.
228
واختلف أهل المعاني: لِمَ سميت البضاعة القليلة الرديئة مزجاة؟ فقال أبو إسحاق (١): من قولهم: فلان يزجي العيش، أي: يدفع بالقليل ويكتفى به، والمعنى على هذا: أنا جئنا ببضاعة إنما يُدافع بها ويتقوت ليست مما يتسع به، وعلى ما ذكر يجب أن يكون التقدير ببضاعة مزجاة بها الأيام.
وقال أبو عبيد (٢): إنما قيل للدراهم الرديئة مزجاة؛ لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممن ينفقها، قال: وهي من الإزجاء، والإزجاء عند العرب: السَّوْق والدَّفْع، وأنشد (٣):
ليَبْكِ على مِلْحَانَ ضَيْفٌ مُدَفَعٌ وأرْمَلة تُزْجِي مع اللَّيلِ أرْمَلا
أي: تدفع وتسوق، وقال غيره (٤) (بضاعة مزجاة) مؤخرة مدفوعة عن الإنفاق، لا ينفق (٥) مثلها إلا من اضطر واحتاج إليها، لفقد غيرها مما هو أجود منها.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٧.
(٢) الرازي ١٨/ ٢٠١، و"زاد المسير" ٤/ ٢٧٨، ونسبه إلى أبي عبيدة، ولم أجده في "مجاز القرآن".
(٣) نسبه الطبري ١٣/ ٥٠ إلى حاتم، وعلق محمود شاكر بقوله: ليس في ديوانه، وأنشده ابن بري غير منسوب "اللسان" (رمل) ٣/ ١٧٣٥، والظاهر أن الشعر لحاتم؛ لأن (ملحان) هوابن عمه -ملحان بن حارثة بن سعد بن الحشرج الطائي- وكنت وقفت على أبيات من هذا الشعر، ثم أضعتها اليوم.
انظر: "ديوانه" ٨٦، و"الزاهر" ٢/ ٩٧، و"السان" (رمل) ٣/ ١٧٣٥، وابن عطية ٨/ ٦١، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٤٠، و"الدر المصون" ٦/ ٥٥٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢٧٨.
(٤) الرازي ١٨/ ٢٠٢، و"معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٤٥٦.
(٥) (لا ينفق) ساقط من (أ)، (ج).
229
وقال الكلبي (١): مزجاة لغة العجم.
قال الهيثم بن عدي (٢): هي من لغة القبط.
قال الأنباري (٣): لا ينبغي أن يجعل حرف عربي معروف المباني والاشتقاق والتصرف منسوبًا إلى القبط ودونهم؛ إذ كلام أولئك يدور (٤) على ألسنة العرب، ولا يتصرف على مباني كلامهم.
وقوله تعالى: ﴿فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ﴾ قال المفسرون (٥): سألوه مساهلتهم في النقد وإعطائهم بدراهمهم مثل ما يعطى بغيرها من الجياد، إذ كانوا قد باعوا بها متاعهم في مدينته، فسألوه أن يأخذها منهم ولا ينقصهم.
وقوله تعالى: ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا﴾ أكثر المفسرين (٦) على أن هذا التصدق معناه: المسامحة بما بين الثمنين، وأن يسعر لهم بالرديء كما يسعر بالجيد، وعلى هذا سمي ذلك تصدقًا؛ لأن الذي سألوه كان مُشْبهًا للتصدق، وليس هو تصدقًا على ما يسبق إليه الظن، قاله أبو بكر (٧)، وعلى هذا لا تدل الآية على أن الصدقة كانت تحل لهم، واستدل سفيان بن عيينة (٨) على أن الصدقة كانت حلًّا للأنبياء قبل نبينا محمد عليه السلام بهذه الآية، وعلى قول سفيان: سألوه أن يتصدق عليهم بشيء زيادة على ما يستحقونه ببضاعتهم المزجاة، وقول العامة: أشبه بحال الأنبياء وأولاد الأنبياء؛
(١) و (٢) و (٣) الرازى ١٨/ ٢٠٢.
(٤) في (أ)، (ج): (لا يدرون).
(٥) الطبري ١٣/ ٥٣، الثعلبي ٧/ ١٠٦ ب، الرازي ١٨/ ٢٠٢.
(٦) الطبري ١٣/ ٥٣، الثعلبي ٧/ ١٠٦ ب، البغوي ٤/ ٢٧٢، ابن عطية ٨/ ٦٣.
(٧) "زاد المسير" ٤/ ٢٧٨.
(٨) الطبرى ١٣/ ٥٣، الثعلبي ٧/ ١٠٦ ب، ابن عطية ٨/ ٦٣، البغوي ٤/ ٢٧٢، "زاد المسير" ٤/ ٢٧٩، القرطبي ٩/ ٢٥٤.
230
إذ هم يأنفون عن الخضوع للمخلوقين، ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله تعالى والاستغناء بأقسامه (١)، وروي عن الحسن (٢) ومجاهد (٣): أنهما كرها أن يقول الرجل في دعائه: اللهم تصدق عليّ؛ لأن الصدقة ممن يبتغي الثواب. والتصدق إعطاء الصدقة، فالمتصدق المعطي، وأجاز الليث (٤) أن يقال: للسائل متصدق، وأبى ذلك أهل اللغة (٥).
٨٩ - قوله تعالى: ﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ﴾ قال ابن عباس (٦): كان يعقوب قد كتب إلى يوسف كتابًا برد ابنه عليه لما حبسه عنده بعلة السَّرق، وذكر فيه قصته ومحبتهن، فلما قرأ الكتاب ارتعدت مفاصله، واقشعر جلده، ولسان قلبه، وأرخى عينيه بالبكاء، وعيل صبره، ولم يتمالك نفسه فباح بما كان يكتم.
وقال السدي (٧) وابن إسحاق (٨): لما قالوا له ما قالوا في الآية الأولى، رحمهم وأدركته الرقة فدمعت عينه فقال لهم: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا
(١) قلت: وهذا هو الراجح أنهم لم يقصدوا الصدقة التي حُرمت على الأنبياء قال ابن عطية ٨/ ٦٣ عن قول سفيان: وهذا ضعيف يرده حديث النبي - ﷺ - في قوله: "نحن معاشر الأنبياء لا تحل لنا الصدقة". وانظر: الرازي ١٨/ ٢٠٢.
(٢) الثعلبي ٧/ ١٠٦ ب، البغوي ٤/ ٢٧٢، القرطبي ٩/ ٢٥٥، الرازي ١٨/ ٢٠٢.
(٣) الطبري ١٣/ ٥٤، وأبو عبيد وابن المنذر كما في "الدر" ٤/ ٦٢، الرازي ١٨/ ٢٠٢.
(٤) الرازي ١٨/ ٢٠٢، وانظر: "تهذيب اللغة" (صدق) ٢/ ١٩٩١.
(٥) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٩١ (صدق).
(٦) الثعلبي ٧/ ١٠٧ أ، البغوي ٤/ ٢٧١ عن عبد الله بن زيد بن أبي فروة، "زاد المسير" ٤/ ٢٧٩.
(٧) الطبري ١٣/ ٥٤.
(٨) الطبري ١٣/ ٥٤، الثعلبي ٧/ ١٠٦ ب، البغوي ٤/ ٢٧٢، ابن عطية ٧/ ٦٥، "زاد المسير" ٤/ ٢٧٩.
231
فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ} وهذا استفهام يتضمن التذكير بحال يقتضي توبيخهم عليه، قال ابن الأنباري (١): هذا الاستفهام يعني به تعظيم القصة، وتلخيصه: ما أعظم ما ارتكبتم من يوسف، وما أسمج ما أتيتم من قطيعة رحمه وتضييع حقه، كما تقول: هل تدري من عصيت؟ هل تعرف من عاديت؟ قال صاحب النظم: هذه الآية تصديق قوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ في غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [يوسف: ١٥].
وقوله تعالى: ﴿وَأَخِيهِ﴾ يعني: ما فعلوا به من تعريضه للغم وإدخالهم الجزع والحزن عليه بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه، ولم يذكر أباه يعقوب مع عظيم ما دخل عليه من الهم بفراقه، كما ذكر أخاه، تعظيمًا للأب ورفعًا من قدره، وعلمًا بأن ذلك كان بلاءً من الله له ليزيد في درجته عنده.
وقوله تعالى: ﴿إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾ قال ابن عباس: آثمون، قال أبو بكر (٢): أراد أنتم تعقون أباكم، وتقطعون رحم أخيكم، جهلًا منكم، وروي عنه (٣): إذ أنتم صبيان، وعن الحسن (٤): شبان، وعلى هذا يعني جهالة الصِّبا والشباب (٥).
وقال أهل المعاني: هذا يقتضي أنهم الآن على خلاف تلك الحال، لأنه أخبر عما كانوا عليه في ذلك الوقت من الجهالة.
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٧٩، و"الدر المصون" ٦/ ٥٥١.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٠.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٠، القرطبي ٩/ ٢٥٦، الثعلبي ٧/ ١٠٧ ب.
(٤) القرطبي ٩/ ٢٥٦، الثعلبي ٧/ ١٠٧ ب.
(٥) في (أ)، (ج): (والشباب).
232
٩٠ - قول تعالى: ﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ﴾ قرأه أكثر (١) القراء بالاستفهام، في قراءة (٢) أبي: أو أنت يوسف، وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس (٣): أن يوسف قال لهم: (هل علمتم) الآية، ثم تبسم فلما أبصروا ثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم شبهوه بيوسف فقالوا له استفهامًا: ﴿أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ﴾ ويدل على صحة الاستفهام قوله تعالى: ﴿أَنَا يُوسُفُ﴾ وإنما أجابهم عما استفهموا عنه، وقرأ ابن كثير: إنك على الخبر، وحجته ما روى عطاء عن ابن عباس (٣): أن إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه، وكان له في قرنه علامة، وكان ليعقوب وإسحاق مثلها شبه الشامة، فلما رفع التاج عرفوه بتلك العلامة، فقالوا: إنك لأنت يوسف، (وقال ابن إسحاق (٤): رفع الحجاب فعرفوه فقالوا: إنك لأنت يوسف) (٥)، ويجوز (٦) أن يكون ابن كثير أراد: الاستفهام ثم حذفه، كما قال أبو الحسن في قوله: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ﴾ (٧) أنه على الاستفهام كأنه أو تلك؛ لأن حرف الاستفهام قلَّ ما يحذف (٨) في غير الشعر.
(١) قرأ جميع القراء بالاستفهام، غير ابن كثير فقرأ: (إنك لأنت يوسف) على الخير، واختلفوا في الهمز، فكان حمزة والكسائي وعاصم وابن عامر يهمزون همزتين (أئنك) والباقون يهمزون همزة واحدة.
انظر: "السبعة" ص ٣٥١، "إتحاف" ص ٢٦٧، الطبري ١٣/ ٥٥، ابن عطية ٨/ ٦٦.
(٢) الطبري ١٣/ ٥٥، ابن عطية ٨/ ٦٦، و"البحر" ٥/ ٣٤٢، و"المحتسب" ١/ ٣٤٩.
(٣) الثعلبي ٧/ ١٠٨ أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢٨١، البغوي ٤/ ٢٧٣، القرطبي ٩/ ٢٥٦.
(٤) الطبري ١٣/ ٥٥، و"زاد المسير" ٤/ ٢٨١.
(٥) ما بين القوسين مكرر في (أ).
(٦) من هنا يبدأ النقل عن كتاب "الحجة" ٤/ ٤٤٧.
(٧) "الشعراء" ٢٢.
(٨) إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" ٤/ ٤٤٧.
233
قوله تعالى: ﴿قَالَ أَنَا يُوسُفُ﴾ قال ابن الأنباري (١): أظهر الاسم وترك الكناية، فلم يقل: أنا هو، تعظيمًا لما وقع به من ظلم إخوته وما عوضه الله من الظفر وبلوغ المحبّة، فكان بمعنى: أنا المظلوم المستحل منه المحرم المراد قتله، فكفى ظهور الاسم من (٢) هذه المعاني ولهذا قال: وهذا أخي، وهم يعرفونه؛ لأن قصده وهذا المظلوم كظلمي، والمنعم عليه كإنعامي، وقد ذكرنا قبل هذا أن العرب إذا عظمت الشيء أعادته ولم تُكَنَّ عنه كقوله (٣):
لا أَرَى المَوْتَ يسبق المَوْت شَيء
وقوله تعالى: ﴿قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا﴾ قال ابن عباس (٤): يريد بكل خير في الدنيا والآخرة، وقال آخرون (٥): بالجمع بيننا بعد التفرقة، وذكرنا معنى المن عند قوله: ﴿مَنًّا وَلَا أَذًى﴾ [البقرة: ٢٦٢].
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ﴾ قال ابن عباس (٦): يريد: من يتق الله ويصبر على المصائب وعن المعاصي، قال ابن الأنباري: تلخيصه: من يراقب الله ويصبر على الأذى في ذاته، وقال مقاتل بن سليمان (٧): من يَتَّقِ الزنا ويصبر على الأذى، وقال إبراهيم (٨): من يتق الزنا ويصبر على
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٨١.
(٢) في (أ)، (ج): (وهذه).
(٣) سبق تخريجه.
(٤) الرازي ١٨/ ٢٠٤، و"زاد المسير" ٤/ ٢٨٠.
(٥) الثعلبي ٧/ ١٠٨ أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢٨١.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٢، القرطبي ٩/ ٢٥٦.
(٧) "تفسير مقاتل" ١٥٧ أ.
(٨) الثعلبي ٧/ ١٠٨أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢٨١.
234
العزوبة فإن الله لا يضيع أجر المحسنين.
قال ابن عباس (١): يريد أجر من كان هذا حاله، وتأويله: فإن الله لا يضيع أجره وأجور الفاعلين مثل فعله، وروي عن ابن كثير في طريق قنبل (٢): أن (من يتقي) بإثبات الياء.
قال أبو علي (٣): وله وجهان أحدهما: أن تقدر الحركة في الياء، ثم تحذفها، فتبقى ساكنة للجزم كقوله (٤):
ألَمْ يَأتِك والأنْبَاءُ تَنْمِي
ولا يحمل على هذا لأنه مما يجيء في الشعر دون الكلام، والآخر: أن يجعل بمنزلة الذي لا يوجب الجزم، ويحمل المعطوف على المعنى؛ لأن الذي يتقي بمعنى الجزاء الجازم كأنه من يتق، والحمل على المعنى كثير، وقد ذكرنا نظائره، ويجوز على هذا الوجه أن يكون: (ويصبر) في موضع الرفع إلا أنه حذفت الضمة للاستحقاق كما حذف نحو: عَضُد وسجُع، وجاز هذا في حركة الإعراب جوازه في حركة البناء، كما زعم أبو الحسن أنه سمع: ﴿وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ﴾ (٥) [الزخرف: ٨٥]، وكقراءة من قرأ: ﴿وَيَتَّقْهِ﴾ (٦) [النور: ٥٢] بجزم القاف (٧)، وذكر ابن الأنباري وجهًا آخر
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٢.
(٢) انظر: "السبعة" ص ٣٥١، و"إتحاف" ٢٦٧، وابن عطية ٨/ ٦٧.
(٣) "الحجة" ٤/ ٤٤٨ - ٤٤٩ بتصرف.
(٤) سبق تخريجه.
(٥) بإسكان اللام من (رسلنا) وقرأ بها حمزة ويعقوب، و"إتحاف" ص ٣٨٧، و"البدور الزاهرة" ٣٥١.
(٦) قرأ حفص بإسكان القاف وكسر الهاء، انظر: "حجة القراءات" لابن زنجلة ص ٥٠٣.
(٧) إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" ٤/ ٤٤٨ - ٤٤٩ بتصرف.
235
وهو: أن الياء في (يتقي) ليست لام الفعل، بل هي ياء مزيدة مختلسة تدغم بها كسرة القاف، ونظير هذه القراءة قراءة حمزة (١) ﴿لا تَخَفْ دركا﴾ بالجزم و ﴿وَلَا تَخْشَى﴾ [طه: ٧٧] بالرفع، وهناك تشرح المسألة إن شاء الله.
٩١ - وقوله تعالى: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ الأصمعي (٢): آثرتك إيثارًا، أي: فضلتك، وفلان أثير عند (٣) فلان وذو أثره، إذا كان خاصًا به، قال الليث: وهو الذي يؤثره بفضله وصلته.
قال ابن عباس (٤): لقد فضلك الله علينا.
قال المفسرون (٥): أي بالعلم والحلم والعقل والفضل والحسن والملك، ﴿وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ قال ابن عباس (٦): لمذنبين، وقال غيره: لآثمين في أمرك، والمعنى: وما كنا إلا خاطئين.
وقال ابن الأنباري (٧): ويجوز أن يكون (خاطئين) بمعنى: مخطئين، وهو اختيار الزجاج (٨)، وأنشد (٩):
يالَهْفَ هند إذْ خَطِئْنَ كاهِلا
بمعنى: أخطأن، وذكرنا الكلام في: خطئ وأخطأ، عند قوله:
(١) انظر: "الغاية" لابن مهران ٢٥٨، و"السبعة" ص ٤٢١، و"التيسير" / ١٥٢، و"النشر" ٣/ ١٨٤، و"إتحاف" ص ٣٠٦.
(٢) كذا في جميع النسخ ولعل (قال) ساقطة. انظر: "تهذيب اللغة" (أثر) ١/ ١٢٠.
(٣) في (أ)، (ب)، (ج): (عندنا) بزيادة (نا)، وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ١٢٠.
(٤) القرطبي ٩/ ٢٥٧، "زاد المسير" ٤/ ٢٨٤، بدون نسبة كما في البغوي ٤/ ٢٧٤.
(٥) الثعلبي ٧/ ١٠٨ أ، الرازي ١٨/ ٢٠٤.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٢، القرطبي ٩/ ٢٥٧، الثعلبى ٧/ ١٠٨ أ.
(٧) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٢.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٨.
(٩) صدر بيت لامرئ القيس، وعجزه:
القاتلين الملك الحلاحلا
والحلاحل: القوي الشديد، و"الديوان" / ١٣٦، و"مجاز القرآن" ١/ ٣١٨، وفي "الشعر والشعراء" ص ٥١، و"اللسان" (حلل) ٢/ ٩٧٩، و"تهذيب اللغة" (حلل) ١/ ٩٠٦ نفسي بدل هند.
﴿وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ﴾ [البقرة: ٨١]، وقوله: ﴿إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقر ة: ٢٨٦].
٩٢ - قوله تعالى: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ الآية، روى ثعلب عن ابن الأعرابي (١): الثارب الموبخ، يقال: ثرب، وثرّب، وأثرب إذا وبخ.
ومنه الحديث (٢): "إذا زنت أمة أحدكم فليضربها الحد ولا يثربها" أي: ولا يعيرها بالزنا، وقال الزجاج (٣): معناه: لا إفساد عليكم، وقال أبو عبيدة (٤): معناه: لا شغب ولا معاقبة ولا إفساد، وأنشد (٥):
(١) "تهذيب اللغة" (ثرب) ١/ ٤٧٦، و"اللسان" (ثرب) ١/ ٤٧٥.
(٢) الحديث أخرجه البخاري (٢١٥٢) كتاب البيوع، باب بيع العبد الزاني، عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "إذا زنت الأمة فتبين زناها، فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت فليجلدها ولا يثرب، ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحبل من شعر" وبلفظ "ولا يثرب عليها" (ح ٢٢٣٣) كتاب البيوع، باب: بيع الرقيق، وأطرافه في (ح ٢٢٣٤، ٢٥٥٥، ٦٨٣٧، ٦٨٣٩)، وأخرجه مسلم (ح ١٧٠٣) كتاب الحدود، باب رجم اليهود، وأهل الذمة، في الزَّنا، وأحمد في "مسنده" ٢/ ٢٤٩.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٨.
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ٣١٨. والسياق يوهم أن البيت أورده أبو عبيدة، ولم أجده في "مجاز القرآن".
(٥) القائل بشر بن أبي خازم وهو في ملحق "ديوانه" ص ٢٢٩ برواية عجزه:
أولى لهم بعقاب يوم سرمد
أوله في "اللسان" (ثرب) ١/ ٤٧٥، ونسب لتبع في "اللسان" (ولى) ٨/ ٤٩٢٤، وكتاب "العين" ٧/ ٢١٩، و"أساس البلاغة" (ثرب) / ٤٤، وقيل هو لتبع.
فَعَفَوْتُ عنهم عَفْوَ غَيْرِ مُثَرَّبِ وتركْتُهُم لعِقَابِ يومٍ سَرْمدِ
وروى ابن الأنباري عن أبي العباس (١): ثرب فلان على فلان، إذا عَدَّد عليه ذنوبه.
قال ابن عباس: يريد لا لوم عليكم، وقال محمد بن إسحاق (٢): لا (٣) تأنيبَ عليكم، وقال سفيان (٤): لا تعيير عليكم.
وقال الكلبي (٥): يقول لا أعيركم بعد اليوم بهذا أبدًا.
فإن قيل: لِمَ خص اليوم ونيته العفو وترك التوبيخ أبدًا؟.
قال أبو بكر (٦): إن يوسف لما قدم توبيخهم، وعدَّدَ عليهم قبيح ما فعلوا، وهو يستر عنهم نفسه، قال لهم عند تبين أمره لهم: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ أي: قد إنقطع عنكم توبيخي عند اعترافكم بالذنب، فكان ذكر اليوم دلالة على انقطاع التأنيب، وعلى أن ما بعده من الأيام يجري مجراه، واليوم قد يذكر ويراد به: الحين والزمان، كقول امرئ القيس:
فاليوم أشربْ غيرَ مُسْتَحْقِب إثمًا مِنَ اللهِ ولا واغِلِ
ليس يريد يومًا بعينه، قال (٧): ويجوز أن يكون المعنى: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ﴾ ألبتة ﴿الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ فتعلق اليوم بالغفران وتناول: غفر الله لكم اليوم، قال: وفيه ضعف، إذ الدعاء لا ينصب قبله، وهو على ما فيه
(١) "تهذيب اللغة" (ثرب) ١/ ٤٧٦.
(٢) الطبري ١٣/ ٥٦.
(٣) (لا): ساقط من (ب).
(٤) الطبري ١٣/ ٥٦.
(٥) "تنوير المقباس" ص ١٥٣، و"زاد المسير" ٤/ ٢٨٢.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٢ بنحوه.
(٧) أي أبو بكر.
238
محتمل، من قبل أن لفظ (يغفر) لفظ الخبر إذ عرى من الجزم وعوامله فينصرف منصوبه عليه كما ينصرف على الأفعال المرفوعة في الأخبار، وهذا الذي ذكره أبو بكر مذهب الأخفش (١)، فإن عنده يجوز الوقف على قوله: ﴿عَلَيْكُمُ﴾.
وقوله تعالى: ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ قال ابن عباس (٢): جعلهم في كل حل، وسأل الله لهم المغفرة، وأخبر أن الله أرحم بأوليائه من الوالدين بولدهما.
٩٣ - قوله تعالى: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي﴾ الآية، قال المفسرون (٣): لما عرفهم يوسف نفسه، سألهم عن أبيه فقال: ما فعل أبي بعدي؟ فقالوا: ذهبت عيناه، فأعطاهم قميصه، فقال لهم: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا﴾.
وكان من شأن ذلك القميص ما أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن بن أبي حامد العدل (٤) رحمه الله، أخبرنا أبو علي بن أبي بكر الفقيه (٥)، أخبرنا أبو
(١) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٥٩٣.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٣.
(٣) الطبري ١٣/ ٥٧، الثعلبي ٧/ ١٠٨ ب، البغوي ٤/ ٢٧٤، "زاد المسير" ٤/ ٢٨٣.
(٤) لم أجده بهذه الكنية وفي "الوسيط" ٢/ ٣٦١، ذكره باسمه أبو عبد الرحمن محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر، فلعل المراد به محمد بن أحمد بن جعفر، أبو حسان الزكي، شيخ التزكية والحشمة بنيسابور، ثقة مشهور بالفضل كان فقيهًا صالحاً خيرًا، حدث عن محمد بن إسحاق المنبعي، وابن نجيد، والطبقة مات سنة ٤٢٣ هـ، وسبق من شيوخه "السير" ١٧/ ٥٩٦، انظر: "شذرات الذهب" ٣/ ٢٥٠، و"المنتخب" / ٣٤.
(٥) هو زاهر بن أحمد بن محمد بن عيسى، أبو علي السرخسي، الفقيه المقرئ، المحدث، إمام من الأئمة، قال الحاكم: شيخ عمر بخرسان، توفي سنة ٣٨٩ هـ، انظر: "وفيات الأعيان" ٣/ ٢٩٣، و"العبر" ٣/ ٤٣، و"اللباب" ٣/ ٢٨٥.
239
لبابة محمد بن المهدي (١)، حدثنا عمار بن الحسن (٢)، حدثنا شجاع بن أبي نصر (٣)، عن عباد بن كثير (٤) عن إسحاق (٥) بن عبد الله بن أبي طحة، عن أنس بن مالك عن رسول الله - ﷺ - قال: "أما قوله ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي﴾، فإن نمرود الجبار لما ألقى إبراهيم في النار، نزل إليه جبريل بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة فألبسه القميص وأقعده علي الطنفسة وقعد معه يحدثه، فكسا إبراهيم ذلك القميص إسحاق، وكساه
(١) هو أبو لبابة محمد بن المهدي بن عد الرحيم الميهني الأبيوردي، روى عن عمار بن الحسن كتاب المغازي، انظر: "تهذيب الكمال" ٢١/ ١٨٦.
(٢) هو عمار بن الحسن بن بشير الهمداني، أبو الحسن الرازي، نزيل نسأ، ثقة وثقه النسائي وغيره مولده ١٥٩ هـ، وتوفي ٢٤٢ هـ؛ انظر: "تهذيب الكمال" ٢١/ ١٨٦، و"الثقات" لابن حبان ٨/ ٥١٧.
(٣) شجاع بن أبي نصر البلخي، أبو نعيم المقرئ، قال أبو عبيد القاسم بن سلام، ثنا شجاع بن أبي نصر، وكان صدوقًا مأمونًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، انظر: "التهذيب" ٢/ ١٥٣.
(٤) عباد بن كثير الثقفي، البصري العابد، نزيل مكة، وروى عن يحيى بن أبي كثير، وثابت وأبي عمران الجوني وعنه إبراهيم بن أدهم وأبو نعيم، قال البخاري تركوه، وقال ابن معين: ليس بشيء.
انظر: "التهذيب" ٢/ ٢٨٠ - ٢٨١، و"ميزان الاعتدال" ٣/ ٨٥ - ٨٩، و"السير" ٧/ ١٠٦.
(٥) إسحاق بن عبد الله بن صاحب رسول الله - ﷺ - أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري الخزرجي، البخاري المدني الفقيه، أحد الثقات، سمع من عمه أنس بن مالك وغيره. كان مالك يثني عليه، ولا يقدم عليه أحدًا، توفي سنة ١٣٢ هـ، وقيل ١٣٤ هـ روى له الجماعة.
انظر: "التهذيب" ١/ ١٢٢ - ١٢٣، وثقات ابن حبان ٤/ ٢٣، و"السير" ٦/ ٣٣٦ فالحديث منكر لوجود عباد بن كثير في إسناده.
240
إسحاق يعقوب، وكساه يعقوب يوسف، فجعله في قصبة من فضة وعلقها في عنقه، وألقي في الجب والقميص في عنقه"، فذلك قوله: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا﴾ الآية (١).
ونحو هذا قال عامة المفسرين، قال ابن عباس (٢): أخرجه لهم قصبة من فضة كانت في عنقه لم يعلم بها إخوته فيها قميص، وهو الذي نزل به جبريل من الجنة على إبراهيم، وذكر القصة، وقال مجاهد (٣): أمره جبريل أن أرسل إليه بقميصك، فإن ريح الجنة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا صح وعوفي، وقال الحسن (٤): لولا أن الله أعلمه لم يدر أنه يرجع إليه بصره.
قال أهل المعاني (٥): ويجوز أن يكون قد أوحي إليه أن إلقاء قميصه على وجه أبيه يكون سببًا لإبصاره، وزوال العمى عن عينه، فأرسل إليه بقميص له، وقال: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا﴾ قال ابن عباس (٦): يريد بصيرًا ويذهب البياض الذي على عينيه، وقال السدي (٧): يعد بصيرًا، وقال الفراء (٨): يرجع بصيرًا، وقيل (٩): أراد يأتني
(١) قال القرطبي ٩/ ٢٥٩: ذكره القشيري.
(٢) أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس نحوه كما في "الدر" ٤/ ٦٥، وأخرج ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩٦، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب نحوه كما في "الدر" ٤/ ٦٥، وفي إسناده الحسن بن يحيى الخشني وهو ضعيف.
(٣) الثعلبي ٧/ ١٠٩ أ، البغوي ٤/ ٢٧٥، القرطبي ٩/ ٢٥٨.
(٤) القرطبي ٩/ ٢٥٩.
(٥) نسبه الرازي ١٨/ ٢٠٦ للمحققين، ولم أعثر عليه في كتب المعاني المتداولة.
(٦) انظر: الرازي ١٨/ ٢٠٦، ذكره بدون نسبه كما في البغوي ٤/ ٢٧٤.
(٧) الطبري ١٣/ ٥٧.
(٨) "معاني القرآن" ٢/ ٥٥.
(٩) الثعلبي ٧/ ١٠٩أ.
241
بصيرًا، وكان قد دعاه: ﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ قال الكلبي (١): وكان أهله نحوًا من سبعين إنسانًا، وقال مسروق (٢): دخل أهل يوسف مصر وهم ثلاثة وتسعون بين رجل وامرأة.
٩٤ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾ قال الأزهري (٣): يقال. فصل فلان من عند فلان فصولاً، إذا خرج من عنده، وفصل مني إليه كتاب، إذا نفذ، وفصل يكون لازمًا وواقعًا، فإذا كان واقعًا فمصدره الفصل، وإذا كان لازمًا فمصدره الفصول، قال المفسرون (٤): لما خرجت العير من مصر متوجهة إلى كنعان قال أبوهم لمن حضره من أهله وقرابته وولد ولده؛ لأن ولده كانوا غيبًا عنه: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾، قال ابن عباس (٥) في رواية بن أبي الهذيل (٦): هاجت ريح فحملت ريح قميص يوسف إلى يعقوب، وبينهما مسيرة ثمان ليال.
وعن الحسن (٧) قال: وجد يعقوب ريح يوسف من مسيرة عشرة أيام،
(١) الرازي ١٨/ ٢٠٧، و"زاد المسير" ٤/ ٢٨٣.
(٢) الرازي ١٨/ ٢٠٧، القرطبي ٩/ ٢٥٩.
(٣) "تهذيب اللغة" (فصل) ٣/ ٢٧٩٥.
(٤) الثعلبي ٧/ ١٠٩ أ، "زاد المسير" ٤/ ٢٨٤، القرطبي ٩/ ٢٥٩، الرازي ١٨/ ٢٠٧.
(٥) الطبري ١٣/ ٥٧، عبد الرزاق ٢/ ٣٢٩، والفريابي، وأحمد في "الزهد"، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩٧، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر" ٤/ ٦٦، الثعلبي ٧/ ١٠٩ ب، القرطبي ٩/ ٢٥٩.
(٦) هو: عبد الله بن أبي الهذيل الكوفي أبو المغيرة، مات في ولاية خالد القسري على العراق.
انظر: "تقريب التهذيب" ص ٣٢٧ (٣٦٧٩)، و"سير أعلام النبلاء" ٤/ ١٧٠.
(٧) أخرج ابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩٧، وأبو الشيخ عن ابن عباس كما في "الدر" ٤/ ٦٦، القرطبي ٩/ ٢٥٩ عن الحسن.
242
وقال قتادة (١): ذكر لنا أنه كان بينهما ثمانون فرسخًا.
وذكر مجاهد (٢) السبب في ذلك فقال: هبت ريح فصفقت القميص، ففاحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص فمن ثم قال: ﴿إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ وقال أهل المعاني: إن الله تعالى أوجده ريح يوسف عند تقضّي الامتحان، ومجيء الروح والفرج من المكان النازح، ومنعه ذلك على القرب منه حين ألقي في الجب، وبيع من مالك بن ذعر، للمحنة والبلية التي جعلت سببًا لكمال أجره، ومعنى: (أجد ريح يوسف): أشم، وعبر عنه بالوجود؛ لأنه وجود بحاسة الأنف.
وقوله تعالى: ﴿لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ قال أبو بكر بن الأنباري (٣): أفند الرجل إذا خرّف وتغير عقله، وأفند (٤) إذا جهل، ونسب إلى ذلك، الليث (٥): الفند إنكار العقل من الهرم، يقال: شيخ مفند.
وروى أبو عبيد عن الأصمعي (٦): إذا كثر كلام الرجل من خرف فهو المفْنِدُ، والمُفَنَّد، ابن الأعرابي (٥): فنَّد رأيه إذا ضعَّفه، وقال الفراء (٧) في هذه الآية: لولا أن تكذبوني وتعجزوني وتضعفوني.
(١) الطبري ١٣/ ٥٨، وأخرجه ابن أي حاتم ٧/ ٢١٩٧ عن ابن عباس.
(٢) الثعلبي ٧/ ١٠٩ أ، "زاد المسير" ٤/ ٢٨٤، البغوي ٤/ ٢٧٥.
(٣) انظر: "الزاهر" ١/ ٥١٤، الرازي ١٨/ ١٦٦.
(٤) في (ب): (أنفد).
(٥) "تهذيب اللغة" (فند): ٣/ ٢٨٣٧، وهو هكذا في جميع النسخ من غير (قال) فلعلها ساقطة.
(٦) "تهذيب اللغة" (فند) ٣/ ٢٨٣٧، و"الغريب المصنف" /٣٧٨.
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٥٥.
243
وقال أبو عبيد (١): لولا أن تسفهوني، وقال الزجاج (٢): لولا أن تجهلوني، قال ابن عباس (٣): لولا أن تكذبون.
وقال مجاهد (٤): لولا أن تسفهوني، وتقولوا: ذهب عقلك.
وقال محمد بن إسحاق (٥): لولا أن تضعفوني، وأصل هذا (٦) كله من الفند وهو: السفه والجهل ومنه قول النابغة (٧):
إلا سليمانَ إذ قَالَ المَلِيكُ له قم في البرية فاحْدُدها عن الفَنَدِ
ولي في نظم هذه الآية نظر بعد.
٩٥ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾ قال الكلبي (٨) والسدي (٩) والمفسرون (١٠): هذا من قول بني بنيه له، قال مقاتل (١١) بن سليمان وغيره: معنى الضلال هاهنا الشقاء، يعنون شقاء
(١) "مجاز القرآن" ١/ ٣١٨.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٨.
(٣) الطبري ١٣/ ٦١، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩٨.
(٤) الطبري ١٣/ ٥٩، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩٨.
(٥) الطبري ١٣/ ٦٠.
(٦) (هذا) ساقط من (ج).
(٧) انظر: "ديوانه" ص ١٢، والقرطبي ٩/ ٢٦٠، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٤٠، و"الدر المصون" ٦/ ٥٥٧، و"اللسان" (حدد) ٢/ ٨٠١، وكتاب "العين" ٨/ ٤٩، و"مقاييس اللغة" ٢/ ٣، و"مجمل اللغة" ٢/ ٢١٠، و"تهذيب اللغة" ١/ ٧٥٩، و"تاج العروس" (حدد) ٤/ ٤١١.
وقد شبه الشاعر النعمان بسليمان -عليه السلام-، واحددها: احبسها.
(٨) "تنوير المقباس" ص ١٥٣.
(٩) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٥، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩٩.
(١٠) الثعلبي ٧/ ١١٠ أ، البغوي ٤/ ٢٧٦.
(١١) "تفسير مقاتل" ١٥٧ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٨٦.
الدنيا، وتلخيصه: إنك لفي شقائك القديم بما تكابد من الأحزان على يوسف، واحتج مقاتل بقوله: ﴿إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: ٢٤]: يعنون لفي شقاء في دنيانا، وقال قتادة (١) وابن إسحاق (٢): في حبك ليوسف ما تنساه ولا تسلاه، وهذا كقول بنيه: ﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [يوسف: ٨]، وقد مضى الكلام فيه.
وقال الحسن (٣): إنما قالوا له هذا لأنه كان عندهم أن يوسف قد مات، وكان في ولوعه بذكره ذاهبًا عن الصواب في أمره عندهم.
وروي عن قتادة (٤) أنه قال: قالوا كلمة غليظة لم يكن يجوز أن يقولوها لنبي الله -عليه السلام-.
٩٦ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ﴾: (أن) هاهنا لا موضع لها من الإعراب، وهي تزاد مع لمَّا توكيدًا على جهة الصلة (٥)، قال أبو بكر (٦): دخولها لتوكيد مضي الفعل ولا موضع لها، وسقوطها للاستغناء عنها كقوله: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ﴾ [هود: ٧٤]، والمذهبان جميعًا موجودان في أشعار العرب.
وقال البصريون: موضع (أن) رفع بفعل مضمر تلخيصه: فلما ظهر أن جاء البشير، أي: ظهر مجيء البشير فأضمر الرافع.
(١) الطبري ١٣/ ٦٢، الرازي ١٨/ ٢٠٨.
(٢) الطبري ١٣/ ٦٢، وابن أبي حاتم ٤/ ٢٤١ ب.
(٣) البغوي ٤/ ٢٧٦، القرطبي ٩/ ٢٦١، الرازي ١٨/ ٢٠٨.
(٤) الطبري ١٣/ ٦٢، ابن عطية ٩/ ٣٧٤، ابن أبي هاشم ٧/ ٢١٩٩.
(٥) "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٤٥.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٦.
قال ابن عباس (١) ومجاهد (٢) والضحاك (٣) والسدي (٤) ومقاتل (٥): البشير هو يهوذا قال: أنا ذهبت بالقميص ملطخًا بالدم فأخبرته أن يوسف أكله الذئب، وأنا أذهب اليوم بالقميص فأخبره أنه حي فأفرحه كما أحزنته، فألقاه على وجهه.
قال ابن عباس: ألقي القميص على وجه يعقوب فارتد بصيرًا، يريد: انجلى البياض وذهبت الظلمة.
وقال المفسرون (٦): فعاد ورجع بصيرًا، ومعنى الارتداد: انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها.
قال ابن الأنباري (٧): وهذا من الأفعال المنسوبة إلى المفعولين كقولهم: طالت النخلة، والله أطالها.
٩٧ - وقوله تعالى: ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذكرنا معناه فيما تقدم.
(١) الطبري ١٣/ ٦٢، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩٩، كما في "الدر" ٤/ ٦٨، الثعلبي ٧/ ١١٠ أ، البغوي ٤/ ٢٧٦، "زاد المسير" ٤/ ٢٨٦، ابن عطية ٨/ ٧٦، القرطبي ٩/ ٢٦١.
(٢) الطبري ١٣/ ٦٣، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩٩، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٦٨.
(٣) الطبري ١٣/ ٦٣، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٦٨.
(٤) الطبري ١٣/ ٦٣، والثعلبي ٧/ ١١٠ أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢٨٦، وابن عطية ٨/ ٧٦، وا لقرطبي ٩/ ٢٦١، وابن أبي حاتم ٧/ ٢١٩٩ - ٢٢٠٠.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٥٧ ب.
(٦) الثعلبي ٧/ ١١٠ أ، "زاد المسير" ٤/ ٢٨٦، الرازي ١٨/ ٢٠٩
(٧) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٦.
٩٨ - قوله تعالى: ﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ قال ابن عباس (١) في رواية عطاء: أخر دعاءه إلى السَّحَر (٢)، وهو قول ابن مسعود (٣) وقتادة (٤) والسدي (٥)، وقال (٦) في رواية الكلبي وعكرمة يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة.
قال (٧) أبو إسحاق (٨): أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وجه السَّحَر في الوقت الذي هو أخلق لإجابة (٩) الدعاء، لا أنه ضنَّ عليهم بالاستغفار.
٩٩ - وقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾ [قال المفسرون (١٠): إن يوسف] (١١) بعث مع البشير إلى يعقوب جهازًا ومائتي راحلة، وسأل يعقوب أن يأتيه وولده أجمعين، فتهيأ يعقوب وخرج مع أهله وولده إلى مصر فذلك قوله: ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾ قال
(١) أخرجه ابن المنذر وابن مردويه وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٦٨، و"زاد المسير" ٤/ ٢٨٧، والقرطبي ٩/ ٢٦٢.
(٢) قال في الحاشية (في الأصل إلى السفر) في النسختين (أ)، (ب).
(٣) الطبري ١٣/ ٦٤، الثعلبي ٧/ ١١١ أ، القرطبي ٩/ ٢٦٣، ابن عطية ٨/ ٧٨، ابن أبي حاتم ٧/ ٢٢٠٠.
(٤) و (٥) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٧.
(٦) الطبري ١٣/ ٦٥، أبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٦٤، "زاد المسير" ٤/ ٢٨٧، الثعلبي ٧/ ١١١أ، ابن عطية ٨/ ٧٨.
(٧) في (ب): (وقال).
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٩.
(٩) في (أ)، (ج): (الإجابة).
(١٠) الثعلبي ٧/ ١١١ ب، القرطبي ٩/ ٢٦٣، البغوي ٤/ ٢٧٨.
(١١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
247
ابن عباس وعامة المفسرين (١): يعني: أباه وخالته، وذلك أن أمه كانت قد ماتت في نفاسها بنيامين (٢).
قال ابن إسحاق (٣): يعني أباه وأمه، وهو قول الحسن (٤): قال أنشر الله راحيل أم يوسف تحقيقًا للرؤيا حتى سجدت له.
وقوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ قال لهم هذا القول قبل دخولهم إلى مصر؛ لأنه كان قد استقبلهم، هذا قول السدي (٥) وفرقد السبخي (٦)، وقال عطاء عن ابن عباس (٧): يريد انزلوها آمنين، وعلى هذا سمى النزول دخولاً؛ لاقتران أحدهما بالاخر.
وأما معنى الاستثناء في قوله: ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ فإنه يقول إلى الأمن لا إلى الدخول، والمعنى: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله؛ لأنه (٨) لا
(١) روى الطبري ١٣/ ٦٦ ذلك عن السدي وأخرجه أبي حاتم ٧/ ٢٢٠١ عن السدي، وأبو الشيخ عن وهب كما في "الدر" ٤/ ٧١، وأخرجه أبو الشيخ عن سفيان كما في "الدر" ٤/ ٧١، والبغوي ٤/ ٢٧٨، والثعلبي ٧/ ١١٢ أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢٨٨، والقرطبي ٩/ ٢٦٣.
(٢) كذا في جميع النسخ، والصواب والله أعلم: ببنيامين.
(٣) الطبري ١٣/ ٦٧، وأخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة كما في "الدر" ٤/ ٧١، و"زاد المسير" ٤/ ٢٨٨، والثعلبي ٧/ ١١٢ أ، وابن عطية ٨/ ٧٩.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٨، والبغوي ٤/ ٢٧٨، والثعلبي ٧/ ١١٢ ب، والقرطبي ٩/ ٢٦٣، وابن عطية ٨/ ٧٩.
(٥) الطبري ١٣/ ٦٦، والرازي ١٨/ ٢١١، ورجحه الطبري ١٣/ ٦٦.
(٦) الطبري ١٣/ ٦٦، هو أبو يعقوب أحد الصالحين، روى عن أنس، غير محتج بحديثه، انظر: "حلية الأولياء" ٣/ ٤٤.
(٧) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٨ من غير نسبة، والرازي ١٨/ ٢١١ عن ابن عباس.
(٨) (لأنه) ساقط من (ب).
248
يتقن الأمن، فتقدم الاستثناء وهو منوي به التأخير (١)، ذكره أبو بكر (٢) وغيره، قال ابن عباس (٣): وإنما قال آمنين؛ لأنهم كانوا فيما خلا يخافون ملوك مصر، ولا يدخلونها إلا بجوارهم، ويجوز أن يعود الاستثناء إلى الدخول على القول الذي يقول إنه قال لهم: ﴿ادْخُلُوا مِصْر﴾، قيل: أن ادخلوها، وقال ابن جريج (٤): ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ مقدم إلى قوله: سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله، قال: وهذا من التقديم والتأخير في القرآن وهو كثير.
١٠٠ - قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ﴾ قال ابن عباس (٥) والمفسرون (٦): على السرير، قال أهل اللغة (٧): العرش السرير الرفيع: وهو سرير الملك، قال الله تعالى: ﴿وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾ [النمل: ٢٣]. قال أهل التفسير (٨): أجلسهما عليه.
وقوله تعالى: ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ وقال ابن عباس (٩) في رواية عطاء: يريد خروا لله عند ذلك سجودًا، ونحو هذا روى الضحاك عنه.
(١) في (ب): (التأخر).
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٨٩.
(٣) الثعلبي ٧/ ١١٢ أ، والبغوي بدون نسبة ٤/ ٤٧٩.
(٤) الطبري ١٣/ ٦٦، والثعلبي ٧/ ١١٢ أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢٨٩.
(٥) الطبري ١٣/ ٦٧.
(٦) أخرجه الطبري ١٣/ ٦٦ عن أسباط والضحاك ومجاهد وقتادة وسفيان، والثعلبي ٧/ ١١٢ ب، والبغوي ٤/ ٤٧٩، والقرطبي ٩/ ٢٦٤.
(٧) "تهذيب اللغة" (عرش) ٣/ ٢٣٩١، و"اللسان" (عرش) ٥/ ٢٨٨٠.
(٨) الثعلبي ٧/ ١١٢ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٠، والبغوي ٤/ ٢٧٩.
(٩) الثعلبي ٧/ ١١٢ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٠.
249
وقال عامة المفسرين (١): وخروا ليوسف سجدًا على جهة التحية، لا على معنى العبادة، وكان أهل ذلك الدهر يحييَّ بعضهم بعضًا بالسجود والانحناء، فحظر رسول الله - ﷺ - هذا ونهى عنه (٢)، والسجود معناه في اللغة (٣): الانحناء مع الخضوع والتذلل، ذكرنا ذلك فيما تقدم، وعلى هذا كان ذلك سجودًا من غير سقوط على الأرض كما يقال: قد سجد القف (٤) من الأرض للحوافر، إذا خضع لها فذل ومنه (٥):
تَرَى الأُكْمَ منه سُجَّدًا للحَوَافِرِ
قال ابن الأنباري (٦): والخرور في هذا القول لا يُعْنى به السقوط والوقوع، لكن المراد به: المرور، سمعت أبا العباس يحكي هذا، واحتج
(١) الطبري ١٣/ ٦٨، والثعلبي ٧/ ١١٢ ب، والبغوي ٤/ ٢٨٠، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٠، وابن عطية ٨/ ٨٠، والقرطبي ٩/ ٢٦٥، وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢٠٢.
(٢) أخرجه الترمذي في "جامعه" (٢٧٢٨) كتاب الاستئذان والآداب، باب: ما جاء في المصافحة، وابن ماجه في "سننه" (٣٧٠٢) كتاب الأدب، باب: المصافحة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول الله، الرجل منا يلقى أخاه أو صديقه، أينحني له؟ قال: "لا" قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: "لا" قال: فيأخذه بيده ويصافحه؟ قال: "نعم". قال الترمذي: هذا حديث حسن، وحسنه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (ح ٢١٩٥).
(٣) "تهذيب اللغة" (سجد) ٢/ ١٦٣٠، و"اللسان" (سجد) ٤/ ١٩٤١.
(٤) قال الليث: القف: ما ارتفع من متون الأرض وصلبت حجارته، وقال شمر: القف ما ارتفع من الأرض وغلظ ولم يبلغ أن يكون جبلاً، انظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٠٢١ - ٣٠٢٢، و"اللسان" (قفف) ٦/ ٣٧٠٥.
(٥) القائل زيد الخيل "ديوانه" / ٦٦، و"الزاهر" ١/ ١٤١، و"اللسان" (سجد) ٤/ ١٩٤١.
(٦) "الزاهر" ١/ ٤٧، ٤٨، والرازي ١٨/ ٢١٢.
250
بقوله: ﴿لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾ [الفرقان: ٧٣] يعني: لم يمروا، قال ابن عباس (١) في رواية الكلبي: السجود هاهنا مما كانت الأعاجم تستعمله في تعظيمها رؤساءها، ليس سقوط على الأرض، لكنه كالركوع.
قال الأزهري (٢): والأشبه بظاهر الكتاب أنهم سجدوا ليوسف دل عليه رؤياه الأولى حين قال: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤] فظاهر التلاوة أنهم سجدوا ليوسف تعظيمًا له، من غير أن أشركوا بالله، وكأنهم لم يكونوا نهوا عن السجود لغير الله في شريعتهم، قال (٣): وفيه وجه آخر لأهل العربية وهو: أن يجعل اللام لام أجل، المعنى: وخروا من أجله سجدًا، شكرًا للذي أنعم عليهم فجمع شملهم.
وقوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي﴾ أي إليَّ، (يقال) (٤): أحسن به وإليه، قال كثير (٥):
أسِيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا مَلُومةً لدَيْنَا ولا مَقْلِيَّةً إنْ تَقَلَّتِ
﴿إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ قال أهل المعاني (٦): ذكر إخراجه من السجن ولم يذكر إخراجه من البئر كرمًا، لئلا يذكر إخوته صنيعهم به، ولأن
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٩٠، و"تنوير المقباس" ص ١٥٤.
(٢) و (٣) "تهذيب اللغة" (سجد) ٢/ ١٦٣١ بتصرف.
(٤) ما بين القوسين من (ب)، وانظر: "الدر المصون" ٦/ ٥٥٨.
(٥) البيت في: "ديوانه" ص ٥٣، و"الشعر والشعراء" ص ٣٤٣، و"أمالي الشجري" ١/ ٤٨، و"الدر المصون" / ٥٥٨، و"الكشاف" ٢/ ١٩٥، و"الخزانة" ٢/ ٣٨١، وقوله (مقلية) من القلي بكسر القاف وهو البغض، تقلت: تبغضت: "اللسان" (سوأ) ٤/ ٢١٣٨، و"التنبيه والإيضاح" ١/ ٢١، و"تهذيب اللغة" ١/ ٨٢٣ (حسن)، و"الأغاني" ٩/ ٣٨، و"أمالي القالي" ٢/ ١٠٩، و"تاج العروس" (سوأ) ١/ ١٧٦.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٩١، والبغوي ٤/ ٢٨٠، والثعلبي ٧/ ١١٣ أ.
251
النعمة في إخراجه من السجن كانت أعظم، إذ كان دخوله السجن سبب ذنب هم به.
وقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ﴾ والبدو (١): بسيط الأرض يظهر فيه الشخص من بعيد، وأصله من بدا يبدو بدوًا، إذا خرج إلى المراعي في الصحاري، ثم سمي المكان باسم المصدر فيقال: بدو وحضر، قال قتادة (٢): كان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مَوَاشٍ وبريَّة.
وقال ابن عباس (٣) في رواية عطاء والضحاك: كان يعقوب قد تحول إلى بدا وسكنها، ومنها قدم على يوسف، وله بها مسجد تحت جبلها.
قال ابن الأنباري (٤): بدا اسم موضع معروف يقال: هو بين شعب وبدا، وهما موضعان ذكرهما جميل أوكثير فقال (٥):
وأنتِ التي حَبّبْتِ شَغْبًا إلى بدا إليَّ وأوْطَانِي بلادٌ سِواهُمَا
والبدو على هذا القول معناه قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا،
(١) "تهذيب اللغة" (بدا) ١/ ٢٨٧، و"اللسان" (بدا) ١/ ٢٣٥.
(٢) الطبري ١٣/ ٧١، وأخرجه ابن أبي حاتم ٧/ ٢٢٠٣ عن قتادة وأبو الشيخ عن علي ابن أبي طلحة كما في "الدر" ٤/ ٧٢.
(٣) الرازي ١٨/ ٢١٥، والقرطبي ٩/ ٢٦٧.
(٤) الرازي ١٨/ ٢١٥.
(٥) البيت لكثير وهو في "ديوانه" ص ٣٦٣، و"خزانة الأدب" ٩/ ٤٦٢، و"الدر" ٦/ ٨٣، و"شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي ص ١٢٨٨، و"اللسان" (بدا) ١/ ٢٣٦، و"معجم ما استعجم" ص٢٣٠، ونسب لجميل بثينه في "ملحق ديوانه" ص ٢٤٥، و"ديوان المعاني" ١/ ٢٦٠، ولكثير ولجميل في "شرح شو اهد المغني" ١/ ٤٦٤، و"معجم البلدان" ٣/ ٣٥١، وفيه (التي) بدل الذي، وشغبي: يوضع في بلاد بني عُذرة به منبر وسوق، وبدا: واد قرب إيلة من ساحل البحر، وقيل بواد القرى وقيل بوادي عُذرة قرب الشام. انظر: "معجم البلدان" ١/ ٣٥٦ - ٣٥٧.
252
يقال بدا القوم يبدون بدوًا، إذا أتوا بدًا، كما يقال: غار القوم غورًا، إذا أتوا الغور، فكان تلخيص الحرف: ﴿وَجَاءَ بِكُمْ﴾ من قصد بدا، وعلى هذا القول كان يعقوب وولده (١) حضريين؛ لأن البدو لم يرد به البادية، لكنه عني به قَصْدُ بدا.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ قال أبو عبيدة (٢) معناه: أفسد وحمل بعضنا على بعض، قال ابن عباس (٣): دخل بيننا بالحسد، ومضى الكلام في نزغ الشيطان في آخر سورة الأعراف (٤).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ قال الأزهري (٥): اللطيف من أسماء الله عز وجل معناه: الرفيق بعباده، عمرو بن أبي عمرو: اللطيف الذي يوصَّلُ إليك أربك في رفق.
ثعلب عن ابن الأعرابي (٦): يقال: لطف فلان لفلان يلطف، إذا رفق لطفًا.
قال أهل التفسير (٧): إن ربي عالم بدقائق الأمور وحقائقها، إنه هو العليم بخلقه الحكيم فيهم بما يشاء.
(١) في (أ)، (ج): (وولد)، من غير هاء.
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ٣١٩.
(٣) القرطبي ٩/ ٢٦٧.
(٤) عند قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [آية: ٢٠٠]، وقال هنالك ما ملخصه: نزغ الشيطان وساوسه وتحسه في القلب بما يسول للإنسان من المعاصي، وروى أبو عبيد عن أبي زيد: نزعت بين القوم إذا أفسدت.
(٥) "تهذيب اللغة" (لطف) ٤/ ٣٢٦٧ وفيه عمرو عن أبيه أن قال.. ، وانظر: "اللسان" (لطف) ٧/ ٤٥٣٦.
(٦) "اللسان" (لطف) ٧/ ٤٠٣٦، و"تهذيب اللغة" (لطف) ٤/ ٣٢٦٧.
(٧) الثعلبي ٧/ ١١٣ أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩١.
253
١٠١ - قوله تعالى: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ الآية، قال ابن عباس (١): ثم دعا ربه وحمده وشكره فقال: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾، وذكر أبو إسحاق (٢) وأبو بكر في (من) هاهنا قولين:
أحدهما: أنها للتبعيض، وكذلك هي في قوله: ﴿وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾؛ لأنه كان قد ملك مصر ومُلْك مصر قطعة من الملك، وعبارة الرؤيا جزء من علم تأويل الأحاديث.
الثاني: أن (من) دخلت للتجنيس، وتلخيصها: آتيتني من جنصر الملك ومن جنس تأويل الأحاديث كقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ [الحج: ٣٠] أي: اجتنبوا الرجس الذي هو وثن، ولم يؤمروا باجتناب بعض الأوثان.
قال أبو بكر: والقول هو الأول؛ لأن (٣) (من) تأتي مجنسة عند تمام الكلام نحو قولهم: قطعت ثوبًا من الخز، وعليه جبة من الوشي، ولا يكاد يقال: قطعت من الوشي، ولبست من الخز، إلا والمفعول مقدر في النية، و (ءاتيتني) في الآية غير مستغنى عما بعده، فيكون (من) مفسرة في موضع النقص بفتح، وقوله: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ﴾ أتت فيه من مفسرة مجنسة بعد كلام لو اقتصرت عليه عقل، قال: ويجوز أن يكون المعنى: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ الملك، وعلمتني تأويل الأحاديث، فأكد الكلام بمن كما أُكِّد بها في قوله: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ [محمد: ١٥].
(١) انظر: ابن كثير ٢/ ٥٢٩.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٢٩.
(٣) لأن: زيادة من (ب).
254
وقوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ قال ابن عباس (١): يريد تفسير الأحلام وقد مر.
وقوله تعالى: ﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس (٢): كنت بما أدري ما (فاطر السموات والأرض)، حتى احتكم إليَّ أعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، وأنا ابتدأت حفرها، وقال ابن الأعرابي (٣): يقول أنا أول من فطر هذا، أي: ابتدأه، ثم فسر ابن عباس ﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ﴾ يريد: خالق السموات، ومن هذا قوله: ﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [هود: ٥١] أي: خلقني.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [يس: ٢٢] و"كل مولد يولد على الفطرة" (٤) أي: الخلقة التي فطر عليها في الرحم من سعادة أو شقاوة. وقال أهل المعاني (٥): أجل الفطر في اللغة: الشق، يقال: فطر ناب البعير، أي: بزل، وفطرت الشيء فانفطر، أي: شققته فانشق، وتفطرت الأرض بالنبات، والشجر بالورق، إذا تصدعت، هذا أصله ثم صار عبارة عن الشق عن الأمر باختراعه، فكل من أظهر أمرًا اخترعه على
(١) "تنوير المقباس" ص ١٥٤.
(٢) الرازي ١٨/ ٢١٧، و"تهذيب اللغة" (فطر) ٣/ ٢٨٠٣، و "اللسان" (فطر) ٦/ ٣٤٣٣.
(٣) "تهذيب اللغة" (فطر) ٣/ ٢٨٠٣، و"اللسان" (فطر) ٦/ ٣٤٣٣.
(٤) أخرجه البخاري بنحوه عن أبي هريرة (١٣٥٨) كتاب الجنائز، باب: إذا أسلم الصبي فمات هل يُصَلّى عليه، وهل يعرض على الصبي الإسلام؟ وأطرافه في ١٣٥٩، ١٣٨٥، ٤٧٧٥، ٩٥٩٩، وأخرجه مسلم بنحوه أيضًا (٢٦٥٨) كتاب القدر باب معنى (كل مولود يولد على الفطرة..).
(٥) "تهذيب اللغة" (فطر) ٣/ ٢٨٠٣ - ٢٨٠٥، و"اللسان" (فطر) ٦/ ٣٤٣٢ - ٣٤٣٣، والرازي ١٨/ ٢١٧.
255
غير مثال، يقال: قد فطره، وفطر السموات والأرض اختراعهما بما هو كالشق عما يظهر به، قال الزجاج (١): ويكون نصبه من وجهين: أحدهما: على الصفة لقوله: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي﴾ وهو نداء مضاف في موضع نصب، ويجوز أن ينصب على نداء ثان.
وقوله تعالى: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِمًا﴾ قال قتادة (٢): سأل ربه اللحوق به قال: ولم يتمن نبي قط الموت قبله، وكثير من المفسرين (٣) على هذا، وقال ابن عباس (٤) في رواية عطاء: يريد لا تسلبني الإسلام حتى تتوفاني عليه، وهذا لا دليل فيه على تمني الموت، بل هو دليل على سؤال أن يكون موته على الإسلام إذا كان.
وقوله تعالى: ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ قال ابن عباس (٥) وغيره من المفسرين (٦) يعني: بآبائه إبراهيم وإسما عيل وإسحاق، والمعنى: ألحقني بهم في ثوابهم ومراتبهم (٧) ودرجاتهم.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٣٠.
(٢) الطبري ١٣/ ٧٣، وأحمد في "الزهد"، وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢٠٤ كما في "الدر".
(٣) أخرجه الطبري ١٣/ ٧٣، ٧٤، عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وابن إسحاق، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٢، وابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جريج عن ابن عباس كما في "الدر" ٤/ ٧٣.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٢٩٢.
(٥) الطبري ١٣/ ٧٣، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٨/ ٢٧٨١، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٧٣.
(٦) الثعلبي ٧/ ١١٤ أ، وأخرجه أبو الشيخ، عن الضحاك وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢٠٥، عن وهب، وأحمد وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢٠٤ - ٢٢٠٥، وابن جرير عن قتادة كما في "الدر" ٤/ ٧٣.
(٧) (ومراتبهم): زيادة من (ب).
256
١٠٢ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ قال أبو إسحاق (١) المعنى: قصصنا عليك من أمر يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عنك، فأنزلته عليك دلالة على إثبات نبوتك، قال: وموضع "ذلك" رفع بالابتداء ويكون خبره ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾ ويكون ﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ خبرًا ثانيًا ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ﴾ قال ابن عباس (٢): يريد عند إخوة يوسف، (إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) بيوسف، وهذا دليل على صدق محمد - ﷺ - وصحة نبوته؛ إذ أخبر عن قوم لم يحضرهم ولم يشاهدهم.
١٠٣ - قوله تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ قال ابن الأنباري (٣): وجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن قريشًا واليهود سألت رسول الله - ﷺ - عن قصة يوسف وإخوته مُعنَتين، فشرحها شرحًا شافيًا، وهو يؤمل أن يكون سببًا لإيمانهم، فخالفوا ظنه وحزن رسول الله - ﷺ - لذلك فعزاه الله بقوله: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ أي: لا يدخل في الإيمان كل من يكشف له دلائل الحق، ويقيم عنده أعلام الصدق، حتى يشاء الله ذلك، وقال أبو إسحاق معناه (٤): وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على (٥) أن تهديهم؛ لأنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٣٠.
(٢) الطبري ١٣/ ٧٦، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢٠٦ عن قتادة وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٧٤، وانظر: البغوي ٤/ ٢٨٢، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٣، والقرطبي ٩/ ٢٧١، و"تفسير عطاء" ص ٧٨.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٦٣، والرازي ١٨/ ٢٢٣، و"البحر" ٦/ ٣٣٠.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٣٠.
(٥) في (ب): زيادة (آمنوا) بعد على.
يهدي من يشاء.
قال أبو بكر (١): وجواب (لو) محذوف على تقدير وما أكثر الناس بمؤمنين، ولو حرصت على إيمانهم ما آمنوا، ولا يجوز أن يكون جواب (لو) مقدمًا عليها، من قال: لو قمت قمت، لا يقول: قمت لو قمت؛ لأن جواب لو مبني على التأخير. وقال الفراء في المصادر (٢): يقال حرص يحرَص حرصًا، ولغة أخرى قليلة: حرِص يحرِص حرصًا، ومعنى الحرص: طلب الشيء باجتهاد.
١٠٤ - قوله تعالى: ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ قال أبو إسحاق (٣): وما تسألهم على القرآن وتلاوته وهدايتك إياهم من أجر.
قال ابن عباس (٤): من مال يعطونك، ﴿إِنْ هُوَ﴾ أي: ما هو ﴿إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾، إلا تذكرة لهم بما هو صلاحهم ونجاتهم من النار، والمعنى: إنا أنزلنا القرآن تذكرة للعالمين، وبعثناك مبلغًا بلا أجر؛ لئلا يمتنعوا من الإجابة لما يلزمهم من الأجر، فيكون أقرب إلى تصديقهم، وهذه الآية تأكيد للأولى؛ لأنه لما ذكر في الأولى أنه لا يؤمن إلا من شاء الله، وإن حرص النبي على ذلك، ذكر في هذه الثانية أنه أزاح العلة في التكذيب برفع الأجر، وانزال القرآن تذكرة وعظة، غير أنه مع هذا كله لا يؤمن إلا من يهديه الله وأراد إيمانه.
(١) "الدر المصون" ٦/ ٥٦٠.
(٢) انظر: "تهذيب اللغة" (حرص) ١/ ٧٨٦، و"اللسان" (حرص) ٢/ ٨٣٥.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٣٠.
(٤) "تنوير المقباس" ص ١٥٤ بنحوه، وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢٠٧ بلفظ: عرضًا من عرض الدنيا.
١٠٥ - قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مضى الكلام في ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ في سورة آل عمران (١)، قال المفسرون (٢): آيات السموات: الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح والأمطار، وكلها تجري بالمشاهدة مجرى القريب غير (٣) القاصي، وآيات الأرض: البحار والجبال والشجر والثمر، ومعنى ﴿يَمُرُّونَ عَلَيْهَا﴾: يتجاوزونها غير مفكرين ولا معتبرين.
قال أبو إسحاق (٤): معناه: وكم من آية في السموات والأرض، تدلهم على توحيد الله، من أمر السماء وأنها بغير عمد لا تقع على الأرض، وفيها أعظم البرهان على أن لها (٥) خالقًا، وكذلك فيما يشاهد في الأرض من نباتها وبحارها وجبالها.
وقال عطاء عن ابن عباس (٦) والكلبي (٧): آيات الأرض آثار عقوبات (٨) الأمم السالفة يمر أهل مكة على آثارهم إذا سافروا، ولا تتحرك أفئدتهم ولا يتعظون (٩)، هذا معنى قوله: ﴿وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾.
(١) عند قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [آية: ١٤٦].
(٢) الطبري ١٣/ ٧٦.
(٣) في (ج): (عن).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٣١.
(٥) في (أ)، (ج): (الهًا). في "معاني الزجاج": وفيها أعظم البرهان والدليل على أن الذي خلقها واحد. وأن خالقًا، وكذلك فيما يشاهد.
(٦) القرطبي ٩/ ٢٧٢.
(٧) انظر: "البحر المحيط" ٥/ ٣٥١.
(٨) في (ج): زيادة (في).
(٩) في (ج): (ولا يعظو) من غير نون.
وقال أبو إسحاق (١): أي لا يفكرون فيما يدلهم على توحيد الله.
١٠٦ - قوله تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ قال المفسرون: لما سمع المشركون ما قبل هذه الآية قالوا: فإنا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء، فأنزل الله هذه الآية. قال ابن عباس (٢) ومجاهد (٣) وقتادة (٤): وما يؤمن أكثرهم في إقراره بأن الله -عز وجل- خلقه وخلق السموات والأرض، إلا وهو مشرك بعبادة الوثن، ونحو هذا قال عكرمة (٥) والشعبي (٦)، وعلى هذا المعنى: أنهم كانوا يعترفون بأن الله خالقهم ورازقهم، ويجعلون له شركاء من الأصنام، قال الله: ﴿إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ يعني: إلا وهم جاعلون (٧) له شركاء في حال إيمانهم به، وهذا القول اختيار الفراء (٨) والزجاج (٩).
وقال ابن عباس (١٠) في رواية الضحاك: نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب، وذلك أنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك، فبين الله -عز وجل- أنهم كانوا يجعلون له شريكًا وقت تعبدهم وتقربهم إليه.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٣١.
(٢) الطبري ١٣/ ٧٧، وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢٠٧، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٧٥، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٤.
(٣) الطبري ١٣/ ٧٧، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢٠٧.
(٤) الطبري ١٣/ ٧٨، وعبد الرزاق ٢/ ٣٢٨، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٣.
(٥) الطبري ١٣/ ٧٧، ٧٨، والثعلبي ٧/ ١١٥ أ، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٣.
(٦) الطبري ١٣/ ٧٧، ٧٨، والثعلبي ٧/ ١١٥ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٣.
(٧) في (ج): (عاجلون).
(٨) "معاني القرآن" ٢/ ٥٥.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٣١.
(١٠) الثعلبي ٧/ ١١٥ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٤، والبغوي ٤/ ٢٨٣.
وشرح ابن عباس (١) في رواية عطاء شرحًا شافيًا فقال: قال أهل مكة: ربنا وحده لا شريك له، والملائكة بناته فلم يؤمنوا، وقال عبدة الأصنام: ربنا الله وحده والأصأم شفعاؤنا عنده، فلم يؤمنوا. وقالت اليهود: ربنا الله وحده وعزير ابنه، فلم يؤمنوا، وقالت النصارى: ربنا الله وحده والمسيح ابنه، فلم يؤمنوا، وقال عبدة الشمس والقمر: ربنا الله وحده وهؤلاء يشفعون، فلم يؤمنوا، وقال المهاجرون والأنصار: ربنا الله وحده لا شريك له، فآمنوا وصدقوا.
قال أبو علي الفارسي (٢) في هذه الآية: ليس المؤمن هاهنا الذي آمن حقيقة، ولكن المعنى: أن أكثرهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم مشركون، وقد يطلق على المُظْهر الإيمانَ بلسانه اسم مؤمن، ولا يجوز أن يراد بذلك المدح، وكان الاسم البخاري على الفعل.
١٠٧ - قوله تعالى (٣): ﴿أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ﴾ قال ابن عباس (٤): يريد المشركين ﴿غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ﴾ عقوبة مجللة تغشاهم وتنبسط عليهم، قال الزجاج (٥): أن يأتيهم ما يغمرهم من العذاب، ﴿أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً﴾ أي: فجأة وبغتة مصدر منصوب على الحال، يقال: بغتهم الأمر بغتًا، إذا فاجأهم من حيث لم يتوقعوا، قال ابن عباس (٦): وذلك لا يكون إلا بغتة، وقد جاء أشراطها مع النبي - ﷺ -.
(١) الرازي ١٨/ ٢٢٤.
(٢) "الحجة" ١/ ٢٢٥.
(٣) (قوله تعالى) ساقط من (ج).
(٤) الثعلبي ٧/ ١١٦ أ، القرطبي ٩/ ٢٧٣.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٣١، وفيه أن يأتيهم ما يعجزهم من العذاب، وانظر: "الدر المصون" ٦/ ٥٦٠.
(٦) الثعلبي ٧/ ١١٦ أ، والقرطبي ٩/ ٢٧٣ بنحوه.
وقوله تعالى: ﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون هذا تأكيدًا لقوله (بغتة) وتشديدًا لتأويلها، ويجوز أن يكون على التقديم بمعنى: أن تأتيهم غاشية من عذاب الله، وهم لا يشعرون وقوعها بهم.
١٠٨ - قوله تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ قال المفسرون (١): قل لهم يا محمد هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها سبيلي، قال ابن زيد (٢): سُنَّتي ومنهاجي.
وقال مقاتل (٣): ديني، وسمى الدين سبيلًا لأنه الطريق الذي يؤدي إلى الثواب، ومثله قوله: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ [النحل: ١٢٥] أي: إلى دينه
قال أبو علي (٤): معنى السبيل في اللغة المدرجة والممر، ثم أشيع فيه حتى استعمل في المعتقدات والآراء في الديانات وغيرهما، كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا﴾ [الأعراف: ١٤٦] الآية.
وقولى تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ أي: معتقدي، وفسر السبيل بقوله: ﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا﴾ قال ابن عباس (٥): يريد على دين ويقين، والبصيرة: المعرفة التي يميز بها الحق من الباطل، ومضى الكلام في هذا عند قوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الأنعام: ١٠٤].
(١) الطبري ١٣/ ٧٩، والثعلبي ٧/ ١١٦أ، والبغوي ٤/ ٢٨٤، و"زاد المسير" ٤/ ٣٩٥.
(٢) الطبري ١٣/ ٨٠، وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢٠٩، وانظر: "الدر" ٤/ ٧٦، والثعلبي ٧/ ١١٦ أ، والقرطبي ٩/ ٢٧٤، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٥٣.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٥٨ أ، والثعلبي ٧/ ١١٦ ب.
(٤) "المسائل الحلبيات" ص. ٢٠.
(٥) البغوي ٤/ ٢٨٤، وابن عطية ٨/ ٩٥.
262
وقوله تعالى: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ يجوز أن يكون (من) عطفًا على المضاف إليه في: ﴿سَبِيلِي﴾ فيكون في [محل الخفض، ويجوز أن يكون عطفًا على الضمير في: ﴿أَدْعُو﴾ فيكون في] (١) موضع الرفع، ويكون المعنى: أدعو إلى الله أنا ومن اتبعني يدعو إلى الله، وهذا معنى قول الكلبي (٢) وابن زيد (٣)، فالأحق على من اتبعه أن يدكو إلى ما دعا إليه ويذكر بالقرآن والموعظة، وينهى عن معاصي الله، وهذا الوجه اختيار الفراء (٤) قال: ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو (٥).
قال ابن الأنباري (٦): وليس من مؤمن إلا وهو يدعو إلى الله جل وعلا، من قبل أنه لا يخلو من تلاوة القرآن، وكل آية من القرآن تدعو إلى الله -عز وجل- وبينة على صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم-، قال: ويجوز أن ينقطع الكلام عند قوله (الله) ثم ابتدأ فقال: ﴿عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ فيرتفع من بالنسق على (أنا) وترتفع (أنا) بعلى لأنهما ابتداء وخبر، وهذا معنى قول ابن عباس (٧): قال يعني أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين آمنوا معه، كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) "تنوير المقباس" ص ١٥٤، والثعلبي ٧/ ١١٦ ب.
(٣) الثعلبي ٧/ ١١٦ب.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٥٥.
(٥) في (أ)، (ج) تكرار: قال ابن الأنباري: وليس من مؤمن إلا وهو يدعو إلى الله كما أدعو.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٩٥.
(٧) الثعلبي ٧/ ١١٦ ب، وابن أبي حاتم ٤/ ٢٤٧ أ.
263
وقوله تعالى: ﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ عطف على قوله: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ أيَ: قل هذه سبيلي، وقك سبحان الله تنزيهًا لله عما أشركوا، ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ الذين اتخذوا مع الله ضدًا أو ندًا أو كفوًا أو ولدًا.
١٠٩ - قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا﴾ قال ابن عباس (١): يريد ليس فيهم امرأة ﴿نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ قال: يريد أهل المدائن؛ لأن الله تعالى لم يبعث نبيًا من بادية، وقال الحسن (٢): لم يبعث الله نبيًا من أهل البادية قط ولا من الجن ولا من النساء.
وقال المفسرون (٣): أهل الأمصار أحدّ فطنًا وأعلم وأشدّ تيقظًا، إذ سكن البادية يغلب عليهم القسوة والجفاء، وقد قال النبي - ﷺ -: "من بدا جفا، ومن أَتبع الصيد غفل، ومن لزم أبواب الملوك افتتن" (٤) وفي هذا رد لإنكارهم نبوته، يقول: لم يبعث قبلك إلا رجالاً، فكيف تعجبوا من إرسالنا إياك، ومن قبلك من الرسل كانوا على مثل حالك، ومن قبلهم من الأمم المكذبة كانوا على مثل حالهم، فأهلكناهم، فذلك قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ هو يعني: المشركين المنكرين لنبوة محمد - ﷺ -، يقول: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا﴾ إلى مصارع الأمم المكذبة فيعتبروا بهم.
(١) "البحر المحيط" ٥/ ٣٥٣، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٥، وابن كثير ٢/ ٥٤٤، والقرطبي ٩/ ٢٧٤.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٢٩٥، والقرطبي ٩/ ٢٧٤، وابن عطية ٨/ ٩٦.
(٣) الطبري ١٣/ ٨٠، وهو مروي عن قتادة، والثعلبي ٧/ ١١٦ ب، والبغوي ٤/ ٢٨٥، وابن عطية ٨/ ٩٦، وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢١٠.
(٤) أخرجه أحمد في "المسند" ٢/ ٣٧١، ٢/ ٤٤٠، عن أبي هريرة، وفي ٤/ ٢٩٧ عن البراء، وصحح أحمد شاكر إسناده تحت رقم: (٨٨٢٣)، ١٧/ ٢٤، وانظر: "صحيح الجامع" (٦١٢٣)، (٦١٢٤).
264
وقوله تعالى: ﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ﴾ قال الفراء (١): أضيفت الدار إلى الآخرة، وهي الآخرة، وقد تضيف العرب الشيء إلى نفسه، إذا اختلف اللفظ، كقوله: ﴿حَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الواقعة: ٩٥]، ويوم الخميس، وجميع الأيام يضاف إلى أنفسها لاختلاف لفظها.
وقال أبو إسحاق (٢) المعنى: دار الحال الآخرة؛ لأن للناس حالين: حال الدنيا وحال الآخرة، ومثله قولهم: صلاة الأولى، أي: صلاة الفريضة الأولى، والساعة الأولى، هذا كلامه، وقد ذكرنا نحو هذا في سورة الأنعام لتوجيه قراءة ابن عامر (٣).
وقال ابن الأنباري (٤): الدار يعني بها الجنة، وهذا قول ابن عباس (٥) في هذه الآية قال: الدار هي الجنة، والآخرة يقصد بها: قصد المدة وتلخيصها: ولجنة (٦) المدة الآخرة، والأمة الآخرة، يعني بالأمة: الزمان، خير للمتقين.
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٥٥.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٣١.
(٣) عند قوله تعالى: ﴿وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ﴾ [الأنعام: ٣٢]، قال هنالك: قرأ ابن عامر: (ولدار الآخرة) بالإضافة، قال الفراء: يضاف الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان، كقولهم: بارحة الأولى، ويوم الخميس، وحق اليقين. فإذا اتفقا لم تقل العرب: حق الحق ولا يقين اليقين. وعند البصريين لا يجوز إضافة الثسيء إلى نفسه وإن اختلف اللفظ، وقالوا في قراعه ابن عامر: لم يجعل (الآخرة) صفة (للدار) لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، ولكنه جعلها صفة الساعة وكأنه قال: ولدار الساعة الآخرة.
(٤) انظر: القرطبي ٩/ ٢٧٥.
(٥) "تنوير المقباس" ص ١٥٤
(٦) في (ج): (والجنة).
265
وهذا الذي قاله أبو بكر إنما هو على مذهب البصريين؛ لأن عندهم لا يجوز إضافة الشيء إلى نفسه وإن اختلف اللفظان (١)، وقال على مذهب الكوفيين: الدار نوع والآخرة جنس، وكانت إضافة النوع إلى الجنس يجري مجرى قولهم: قميص وَشْي، وجبَّة خَزّ إذ القميص من الوشي، فكانت الدار كأنها بعض الآخرة، إذ الآخرة يقع على معان كثيرة ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ هذا فتؤمنوا.
١١٠ - قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ الآية، (حتى) هاهنا حرف من حروف الابتداء يستأنف بعدها كما يستأنف بعد "أما، وإذا"، وذلك أن (حتى) لها ثلاثة أحوال: إما أن تكون جارة، أو عاطفة، [أو كانت من حروف الابتداء، وليست هاهنا جارة ولا عاطفة] (٢)، وحيث ينصب الفعل إنما ينصبه بإضمار أن، ومما جاء فيه (حتى) حرفًا مبتدأ كقوله (٣):
وحَتّى الجِيَادُ ما يُقَدْنَ بأرْسَانِ (٤)
ألا ترى أنها ليست عاطفة لدخول حرف العطف عليها، ولا جارة
(١) "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٦٠، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٥٣، والقرطبي ٩/ ٢٧٥، وابن عطية ٨/ ٩٨.
(٢) ما بين المعقوفتين في (ب)، وهو ساقط من (أ)، (ج).
(٣) في (أ)، (ج): (وقوله تعالى).
(٤) البيت لامرئ القيس، وصدره:
سريتُ بهم حتى تكلَّ مطيُّهُمْ
وهو في "ديوانه" ص ٩٥، و"الدر" ٦/ ١٤١، و"شرح أبيات سيبويه" ٢/ ٤٢٠، و"الكتاب" ٣/ ٢٧، و"اللسان" (غزا)، و"شرح شواهد الإيضاح" ص ٢٢٨، و"شرح شواهد المغني" ١/ ٣٧٤، و"شرح المفصل" ٥/ ٧٩.
266
لارتفاع الاسم بعدها، ومثله (١):
حتى إذا سَلَخَا جُمَادَى ستةً جَزَءًا فطالَ صيامُه وصيامُها
ومعني قوله: ﴿اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ أي من إيمان قومهم، قال ابن عباس (٢): يريد من قومهم أن يؤمنوا، وذكرنا الكلام في: ﴿اسْتَيْأَسَ﴾ عند قوله: ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ﴾ [يوسف: ٨٠].
وقوله تعالى: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ أي: أيقنوا أن قومهم قد كذبوهم، وهذا معنى قول عطاء (٣) وقتادة (٤) والحسن (٥). وأكثر من قرأ (٦) (كُذِّبوا) بالتشديد، وقالت عائشة (٧) رضي الله عنها: ما زال النبلاء بهم حتى
(١) البيت للبيد وهو من معلقته البيت رقم (٢٨) في "شرح ديوانه" ص ٣٠٥، و"تهذيب اللغة" (سلخ) ٢/ ١٧٣١، و"اللسان" ٤/ ٢٠٦٣، و"تاج العروس" (سلخ) ٤/ ٢٧٧، و (جمادى) ستة هي جمادى الآخرة، وهي تمام ستة أشهر من أول السنة.
(٢) الطبري ١٣/ ٨٣، وأبو عبيد وسعيد بن منصور والنسائي في "الكبرى" ٦/ ٣٦٩ (١١٢٥٦)، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢١١، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر" ٤/ ٧٧، والثعلبي ٧/ ١١٧ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٦.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٢٩٦.
(٤) الطبري ١٣/ ٨٨، وعبد الرزاق ٢/ ٣٢٩، والثعلبي ٧/ ١١٨ أ، والبغوي ٤/ ٢٨٦.
(٥) الطبري ١٣/ ٨٨، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٦.
(٦) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ﴿كُذِبُوا﴾ الشديد، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم ﴿كُذِبُوا﴾ بالتخفيف. وكلهم بضم الكاف.
انظر: "السبعة" ص ٣٥١، ٣٥٢، و"إتحاف" / ٢٦٨، والطبري ١٣/ ٨٥، ٨٧، وابن عطية ٩/ ٣٩٢، و"البحر" ٥/ ٣٥٤.
(٧) الطبري ١٣/ ٨٧، وأبو عبيد والبخاري (٤٦٩٥) كتاب التفسير، باب قوله ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ والنسائي في "الكبرى" ٦/ ٣٦٩ (١١٢٥٤)، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢١١، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر" ٤/ ٧٧، والثعلبي ٧/ ١١٨أ.
267
ظنوا أن من آمن بهم من أتباعهم قد كذبهم (١) فأتاهم نصر الله عن ذلك، وعلى هذا القول: الظن بمعنى الحسبان، والتكذيب مظنون من جهة من آمن بهم، والمعنى: ظنت (٢) الرسل ظن حسبان أن أتباعهم من الأمم قد كذبتهم في وعد الظفر والنصر لإبطائه وتأخيره عنهم، وطول البلاء بهم، لا أنهم كذبوهم في كونهم رسلاً، وهذا التكذيب أيضًا لم يحصل من أتباعهم المؤمنين؛ لأنه لو حصل لكان نوع كفر، ولكن الرسل ظنت بهم ذلك لبُطء النصر، وعلى القول الأول الظن بمعنى: اليقين والتكذيب المتيقن من جهة الكفار، وعلى القولين جميعا الكناية في (ظنوا) للرسل.
وقرأ أهل الكوفة (كُذِبوا) مخففة، ومعناه: ظن الأمم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله إياهم وإهلاك أعدائهم، هذا معنى قول ابن عباس (٣) وابن مسعود (٤) وسعيد بن جبير (٥) ومجاهد (٦) وابن زيد (٧) والضحاك (٨) وعامة المفسرين وأهل المعاني (٩).
(١) في (ب): (كذبوهم).
(٢) في (أ)، (ج): ﴿ظَنَنتُ﴾ بنونين.
(٣) الطبري ١٣/ ٨٢ - ٨٧، وأبو عبيد وسعيد بن منصور والنسائي في "الكبرى" ٦/ ٣٦٩ (١١٢٥٦)، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢١٢، وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر" ٤/ ٧٧.
(٤) الطبري ١٣/ ٨٥، وعبد الرزاق ٢/ ٣٢٩، وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ كما في "الدر".
(٥) الطبري ١٣/ ٨٤ - ٨٦، وأبو الشيخ، وابن المنذر كما في "الدر" ٤/ ٧٧.
(٦) الطبري ١٣/ ٨٤.
(٧) الطبري ١٣/ ٨٤ - ٨٥.
(٨) الطبري ١٣/ ٨٥.
(٩) الطبري ١٣/ ٨٥، والثعلبي ٧/ ١١٧ أ، والبغوي ٤/ ٢٨٦، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٦، وابن عطية ٨/ ١٠٠، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٥٤، والقرطبي ٩/ ٢٧٥، و"معاني الفراء" ٢/ ٥٦، و"معاني الزجاج" ٣/ ١٣٢.
268
و (كُذبوا) من قولهم: كذبتك الحديث، أي: لم أصدقك، ومنه قوله تعالى (١): ﴿وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [التوبة: ٩٠]، قال أبو علي (٢): والضمير في قوله: ﴿وَظَنُّوا﴾ على هذه القراءة للمرسل إليهم، لتقدير ظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروهم به، من أنهم لم يؤمنوا بهم نزل بهم العذاب وإنما ظنوا ذلك لما شاهدوا من إمهال الله إيماهم، ولا يمتنع حمل الضمير في ﴿وَظَنُّوا﴾ هو على المرسل إليهم وإن لم يتقدم ذكرهم؛ لأن ذكر الرسل يدل على المرسل إليهم، وإن شئت قلت: إن ذكرهم جرى في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [يوسف: ١٠٩] فيكون الضمير للذين من قبلهم من مكذبي الرسل، والظن هاهنا على معنى: التوهم والحسبان.
وهذا معنى ما روى سفيان عن أبي حصين (٣) عن عمران بن الحارث (٤) عن ابن عباس (٥) أنه قال: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ من قومهم
(١) (تعالى) ساقط من (أ)، (ج).
(٢) "الحجة" ٤/ ٤٤٢.
(٣) هو عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي الكوفي، روى له الجماعة، ثقة ثبت سنّي، ربما دلّس، توفي سنة ١٢٧ هـ. انظر: "التقريب" ص ٣٨٤ (٤٤٨٤).
وفي رواية الطبري حصين بدل أبي حصين، وحصين هذا هو حصين بن عبد الرحمن السلمي، أبو الهذيل الكوفي، ثقة تغيّر حفظه في الآخر، روى له الجماعة، توفي سنة ١٣٦ هـ، انظر: "التقريب" ص ١٧٠ (١٣٦٩).
(٤) عمران بن الحارث السلمي، أبو الحكم الكوفي: ثقة، روى لي مسلم والنسائي، روى عن ابن عباس. انظر: "التقريب" ص ٤٢٩ (٥١٤٧). وهذا الإسناد صحيح.
(٥) الطبري ١٣/ ٨٢، وفي الرواية سفيان، عن حصين، عن عمران، عن ابن عباس.
269
الإجابة، وظن القوم أن الرسل قد كُذِبُوا فيما وعدوا من نصرهم وإهلاك من كذبهم، والثاني: وتيقن الرسل أنهم قد كُذِبُوا في وعد قومهم إياهم الإيمان: أي وعدوا أن يؤمنوا ثم لم يؤمنوا.
والأول هو قول سعيد بن جبير (١) رواه إسماعيل بن علية (٢) عن أبي المعلى (٣) عنه.
وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس (٤): أنه قرأ: (وظنوا أنهم كذبوا) يذهب إلى أن الرسل ضُعفوا، فظنوا أنهم قد خُلفوا، قال ابن عباس (٥): وكانوا بشرًا.
قال أبو بكر بن الأنباري: وهذا غير معول عليه من جهتين: إحداهما (٦): أن التفسير فيه ليس عن ابن عباس، لكنه من [متأول] تأوله عليه، والأخرى: أن في قوله: ﴿جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ دلالة على أن أهل الكفر لما ظنوا ما لا يجوز ظن مثله واستضعفوا رسل الله، نصر الرسل ولو كان
(١) في الطبري ١٣/ ٨٤، رواية إسماعيل بن علية، عن كلثوم بن جبر، عن سعيد (٢٠٠٠٧)، وفي رواية أخرى: وهيب، عن أبي المعليّ العطار، عن سعيد (٢٠٠١٠).
(٢) هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم، أبو بشر البصري، المعروف بابن عُليّه، ثقة حافظ، روى له الجماعة، توفي سنة ١٩٣ هـ.
انظر: "التقريب" ص ١٠٥ (٤١٦).
(٣) هو يحيي بن ميمون الضبي، أبو المعلي العطار الكوفي، ثقة، روى له البخاري تعليقًا، والنسائي وابن ماجه، توفي سنة ١٣٢ هـ.
انظر: "التقريب" ص ٥٩٧ (٧٦٥٨).
(٤) الطبري ١٣/ ٨٧.
(٥) الطبري ١٣/ ٨٧.
(٦) في (ج): (إحديهما).
270
الظن للرسل كان ذلك منهم خطأً عظيمًا لا يستحقون ظفرًا ولا نصرًا، وتنزيه الأنبياء وتطهيرهم واجب علينا إذا وجدنا إلى ذلك سبيلًا.
وقال أبو إسحاق (١) منكرًا لهذا التفسير: وذلك بعيد في صفة الرسل. يروى عن عائشة (٢) أن النبي - ﷺ - لم يوعد بشيء يخلف فيه، وعنها (٣) أيضًا أنها قالت: معاذ الله أن تظن الرسلُ هذا بربها.
قال أبو علي (٤): وإن ذهب ذاهب إلى أن المعنى: ظن الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا، فقد أتى عظيمًا لا يجوز أن ينسب مثلُه إلى الأنبياء، لأن الله سبحانه لا يخلف الميعاد ولا مبدل لكلماته، هذا قول من أنكر هذه الرواية.
وقال الأزهري (٥): إن صح هذا عن ابن عباس فوجهه عندي -والله أعلم- أن الرسل خطر في أوهامهم ما يخطر في أوهام البشر، من غير أن حققوا تلك الخواطر، ولم يكن ظنهم ظنًّا اطمأنوا إليه، ولكن كان (٦) ظنًا بخاطر، وقد روينا عن النبي - ﷺ - أنه قال: "تجاوز الله عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم ينطق به لسان أو تعمله يد" (٧).
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٣٢.
(٢) الطبري ١٣/ ٨٧، وصححه أحمد شاكر في تعليقه، و"الفتح" ٨/ ١٤٠.
(٣) الطبري ١٣/ ٨٧، وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢١١، وأخرجه البخاري (٤٦٩٥) كتاب التفسير باب: قوله ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾، والحاكم في "المستدرك" ٣/ ٣٤٩، وقال على شرط الشريخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(٤) "الحجة" ٤/ ٤٤٣.
(٥) "تهذيب اللغة" (كذب) ٤/ ٣١١٥.
(٦) في "التهذيب" ٤/ ٣١١٥: ونكنه كان خاطرًا بغلبة اليقين.
(٧) أخرجه الترمذي بلفظه (١١٨٣) الطلاق واللعان، باب: ما جاء فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وبنحوه في البخاري، (٢٠٢٨) كتاب العتق باب: الخطأ والنسيان في العتاقة، والطلاق وفي مسلم (١٢٧) كتاب: الأيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر.
271
وقوله تعالى: ﴿جَاءَهُمْ نَصْرُنَا﴾ قال ابن عباس (١): يريد نصر النبيين.
﴿فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ﴾ كتبت في المصحف بنون واحدة كراهة لاجتماع المثلين، كما كتبوا: الدنيا والعليا ومحيا ونحو ذلك، بالألف؛ كراهة لاجتماع المثلين، ولولا ذلك لكتبت بالياء كما كتبت: حبلى ونخشى، وما لم يكن فيه ياء من هذا النحو بالياء، فلما كرهوا اجتماع المثلين في الخط حذفوا النون، وقوى ذلك أنه لا يكون في هذه النون إلا الإخفاء ولا يجوز البيان؛ لأنها لا تتبين عند حروف الفم فأشبه بذلك الإدغام؛ لأن الإخفاء لا يتبين فيه الحروف المخففة (٢) كما أن الإدغام لا يتبين فيه الحرف المدغم بيانه في غير الإدغام، فلما وافوا هذه النون المدغم استحبوا حذفه من الخط، ولأجل (٣) هذه [السورة من الخط قرأ عاصم (فُنُجِّي) (٤) مشدّدة الجيم مفتوحة الياء بنون واحد، وقوى هذه] (٥) القراءة أنه عُطِفَ عليه فعل
(١) الطبري بلفظ فينصر الله الرسل ١٣/ ٨٣.
(٢) في (ب): (المخفا الصحيح).
(٣) في (ج): (لأجل) من غير واو.
(٤) قرأ ابن عامر وعاصم (فنُجِّي) مشددة الجيم مفتوحة الياء بنون واحدة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي (فنُنْجي) بنونين الأول مضمومة والثانية ساكنة والياء ساكنة وروى عن أبي عمرو (فَنَّجِّي) يدغم. انظر: "السبعة" ص ٣٥٢، و"إتحاف" /٢٦٨، والطبري ١٣/ ٨٩، و"البحر" ٥/ ٣٥٥.
(٥) ما بين المعقوفين في (ب) وساقط من (أ)، (ج).
272
مسند إلى المفعول وهو قوله: ﴿وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ وأما قراءة العامة ﴿فننجي من نشاء﴾ وقال أبو علي (١): هو حكاية حال، ألا ترى أن القصة فيما مضى، وإنما حكى فعل الحال على ما كانت، كما أن قوله: ﴿هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ﴾ [القصص: ١٥] أشار إلى الحاضر والقصة ماضية لأنه حكى الحال.
١١١ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ﴾ قال ابن عباس (٢): يريد إخوة يوسف وهم الأسباط، "عبرة" قال (٣): يريد فكرة، قال ابن الأنباري: معنى الاعتبار عند أهل اللغة: الاستعلام للشيء بالدلائل والشواهد من خواطر العقول وغيرها، يقول الرجل لغيره: اذهب فاعتبر وزن هذا الدرهم، يريد: استعمله وابحث عن خبره، وهذا يرجع إلى الفكر الذي فسره ابن عباس.
وقال غيره (٤): معنى الاعتبار التدبر والنظر في الأمر كقوله تعالى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾ (٥) أي: تدبروا وانظروا فيما نزل بقريظة والنضير، فقايسوا أفعالهم واتعظوا بالعذاب الذي نزل بهم.
وقال أبو الهيثم (٦): العابر الذي ينظر في الكتاب فيعبره، أي: يعتبر
(١) "الحجة" ٤/ ٤٤٥.
(٢) "تنوير المقباس" ص ١٥٤، وانظر: الثعلبي ٧/ ١١٨ ب، والبغوي ٤/ ٢٨٧، و"زاد المسير" ٤/ ٢٩٧.
(٣) الطبري ١٦/ ٣١٢، وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢١٣، وأبو الشيخ عن ابن عباس: معرفه، كما في "الدر" ٤/ ٨٧.
(٤) انظر "تهذيب اللغة" (عبر) ٣/ ٣٣٠٥ - ٣٣٠٦، و"اللسان" (عبر) ٥/ ٢٧٨٣.
(٥) الحشر: ٢، وفي جميع النسخ: يا أولي الألباب، وهو خطأ.
(٦) "تهذيب اللغة" (عبر) ٣/ ٢٣٠٥.
273
بعضه ببعض حتى يقع فهمه عليه، وهذا كله راجع إلى معنى الفكرة، والتدبر أخذ من العبرة وهو الجانب، كأن المعبر باستدلاله وتفكره يعبر عن جانبه الذي هو فيه إلى جانب البصيرة والعلم، فمعنى العبرة: الدلالة التي بها يعبر إلى العلم والبصيرة من الجهل والحيرة، والعبارة دلالة يعبر المعني من نفس القائل إلى نفس السامع، وقد ذكرنا نحو هذا عند قوله: ﴿لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣].
قال أهل المعاني (١): ووجه الاعتبار بقصصهم هو أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب، وإعلائه بعد حبسه في السجن، وتمليكه مصر بعد أن كان لبعض أهلها في حكم العبد، وجمع بينه وبين والديه وإخوته على ما أحب بعد المدة الطويلة - لقادرٌ على أن يعز محمدًا، ويعلي كلمته، وينصره على من عاداه.
وقوله تعالى: ﴿لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ إن قيل: إن قوم محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا ذوي عقول وأحلام وفيهم من لم يعتبر بهذه القصص فلم عم الله تعالى أهل الألباب بالعبرة؟
قال أبو بكر بن الأنباري (٢): إن جميعهم عُرِّضوا للاعتبار بما سمعوه، فمنهم من اعتبر، ومنهم من أبى ذلك، إيثارًا لهواه وعنادًا، فلم يخرج عن أن يكون له عبرة لو اعتبر.
وقال غيره (٣): أراد بأولي الألباب هاهنا: من اعتبر وتفكر وعلم
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٩٧.
(٢) الرازي ١٨/ ٢٢٨.
(٣) انظر: الطبري ١٣/ ٩٠، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٥٦.
274
الحق، وذلك أن من لم يعتبر بمثل هذا لا يكون له عقل سليم، فلا يكون من جملة العقلاء الذين يوصفون بالاعتبار.
وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى﴾ أي: ما كان قصصهم حديثًا يتقوله بشر، على هذا دل كلام ابن عباس (١): ويجوز أن يكون المعنى: ما كان القرآن حديثًا يفترى، ﴿وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾، أي: من الكتب، أي: يصدق ما قبله من التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب، قاله ابن عباس (٢) والحسن (٣) وقتادة.
ونصب (تصديق) على تقدير: ولكن كان تصديق الذي بين يديه، كقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ [الأحزاب: ٤٠]: قاله الفراء (٤) والزجاج (٥)، قالا: ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى: ولكن هو تصديق الذي بين يديه ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يحتاج إليه من أمور الدين من الحلال والحرام والحجاج والاعتبار، هذا إذا قلنا: ما كان القرآن، وإن قلنا: ما كان القصص، فالمعنى: وتفصيل كل شيء من نبأ يوسف وإخوته.
وهكذا فسر ابن عباس (٦) فقال في رواية عطاء والضحاك:
(١) "تنوير المقباس" ص ١٥٥.
(٢) انظر: "زاد المسير" ٤/ ٢٩٧، البغوي ٤/ ٢٨٧، ابن كثير ٢/ ٥٤٦.
(٣) الطبري ١٣/ ٩٠، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٧٨ عن قتادة، وابن أبي حاتم ٧/ ٢٢١٣ عن قتادة.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٥٦.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ١٣٣.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٢٩٨، و"البحر المحيط" ٥/ ٣٥٦.
275
﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من خبر يوسف وإخوته وأمورهم.
وعلى التفسيرين جميعًا: قوله ﴿كُلِّ شَيْءٍ﴾ من العام الذي أريد به الخاص كقوله: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦] يريد كل شيء يجوز أن يدخل فيها. وقوله تعالى: ﴿وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: ٢٣] أي: من كل شيء يجوز أن يؤتى مثلها.
وقوله تعالى: ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ قال ابن عباس (١): يريد بيانًا ورحمةً لقوم يؤمنون: أي يصدقون بما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-.
(١) "زاد المسير" ٤/ ٢٩٨، و"تنوير المقباس" ص ١٥٥
276
سورة الرعد
277
Icon