ﰡ
وتسمى سورة النعم. مكية، إلا ثلاث آيات في آخرها، مائة وثمان وعشرون آية، ألف وثمانمائة وخمس وأربعون كلمة، سبعة آلاف وثمانمائة وأربعة وثلاثون حرفا
أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي العذاب الموعود للكفرة. والحاصل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أكثر من تهديدهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة ولم يروا شيئا نسبوه إلى الكذب فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله تعالى: أتى أمر الله أي قد حصل حكم الله بنزول العذاب من الأزل إلى الأبد وإنما لم يحصل المحكوم به لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي لا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت ولما قالت الكفار: إنا سلمنا لك يا محمد صحة ما تقوله من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة إلا أنا نعبد هذه الأصنام فإنها شفعاؤنا عند الله فهي تشفع لنا عنده فنتخلص من هذا العذاب المحكوم به بسبب شفاعة هذه الأصنام فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله تعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) فنزه الله تعالى نفسه عن شركة الشركاء وأن يكون لأحد أن يشفع عنده إلا بإذنه ولما قال الكفار: إنه تعالى قضى على بعض عباده بالسراء وعلى آخرين بالضراء، ولكن كيف يمكنك يا محمد أن تعرف هذه الأسرار التي لا يعلمها إلا الله تعالى! وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟ فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ أي جبريل ومن معه من الملائكة بِالرُّوحِ أي بكلام الله تعالى مِنْ أَمْرِهِ أي إن الروح هي أمره تعالى عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم الأنبياء أَنْ أَنْذِرُوا أي أعلموا الناس أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) بالإتيان بعبادتي.
وتقرير هذا الكلام أنه تعالى ينزل الملائكة على من يشاء من عبيده، ويأمر الله ذلك العبد الذي نزلت عليه الملائكة بأن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله العالم واحد كلفهم بمعرفة التوحيد وبالعبادة له، وبين أنهم إن فعلوا ذلك فازوا بخيري الدنيا والآخرة، وإن تمردوا وقعوا في شر الدنيا والآخرة فبهذا الطريق صار ذلك العبد مخصوصا بهذه المعارف من دون سائر الخلق فقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا أَنَا إشارة إلى الأحكام الأصولية وقوله تعالى: فَاتَّقُونِ إشارة إلى الأحكام
روى الشيخان عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل.
وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) أي ويخلق في الدنيا غير ما عدد من أصناف النعم.
روي عن ابن عباس أنه قال: إن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر، فيغتسل، فيزداد نورا
أي مائل عن الحق وهو أنواع الكفر والضلال وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) إلى استقامة الطريق هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ ولكل حي مِنْهُ أي الماء شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ أي من الماء ما ينبت على الأرض فِيهِ أي في الشجر تُسِيمُونَ (١٠) ترعون مواشيكم
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ أي بالماء الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ والإنسان خلق محتاجا إلى الغذاء وهو إما أن يكون من الحيوان أو من النبات والغذاء الحيواني إنما يحصل من أسامة الحيوانات، وأما الغذاء النباتي فقسمان:
حبوب، وفواكه. فالحبوب: هي ما به قوام بدن الإنسان. وأشرف الفواكه: الزيتون والنخيل والأعناب، أما الزيتون فلأنه فاكهة من وجه وإدام من وجه آخر لكثرة ما فيه من الدهن، ومنافع الأدهان كثيرة في الأكل والطلي واشتعال السرج، وأما امتياز النخيل والأعناب من سائر الفواكه فظاهر. وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ مما لا يمكن على الناس تفصيل أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنزال الماء وإنبات ما ذكر لَآيَةً دالة على تفرده تعالى بالألوهية لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) ألا ترى أن الحبة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان مع رطوبة الأرض، فإنها تنتفخ وينشق أعلاها فيصعد منه شجرة إلى الهواء وأسفلها تغوص منه عروق في الأرض، ثم ينمو الأعلى ويقوى وتخرج منه الأوراق والأزهار والأكمام والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطباع والطعوم والألوان والروائح والأشكال والمنافع ومن تفكر في ذلك علم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه أحد في شيء من صفات الكمال وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ.
قرأ ابن عامر «والشمس والقمر والنجوم» بالرفع على الابتداء و «مسخرات» خبرها. وقرأ حفص عن عاصم و «النجوم» بالرفع. والباقون بالنصب في الجميع و «مسخرات» حال منه، أي أنه تعالى سخر للناس هذه الأشياء وجعلها موافقة لمصالحهم حال كونها مسخرات لله تعالى بِأَمْرِهِ أي بإرادته كيف شاء إِنَّ فِي ذلِكَ أي تسخير الليل وما بعده لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) أي يعلمون أن تسخيرها من الله تعالى وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي وسخر لكم ما خلق لكم في الأرض من حيوان ونبات مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ أي اختلاف ما في الأرض لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) أي يتعظون فإن اختلاف طبائع ما في الأرض وأشكاله مع اتحاد مواده إنما هو بصنع حكيم عليم قادر مختار منزه عن كونه جسمانيا وذلك هو الله تعالى وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ ومعنى تسخير الله تعالى إياها للخلق جعلها بحيث يتمكن الناس من
وقال السدي: هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي أَفَمَنْ يَخْلُقُ هذه الأشياء وهو الله تعالى كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا أصلا وهو الأصنام أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون فإن هذا القدر لا يحتاج إلى تفكر ولا إلى شيء سوى التذكر فيكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم من أن العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بعبادة من لا يستحق العبادة ويترك عبادة من يستحقها وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي إنكم لا تعرفونها على سبيل التمام وإذا لم تعرفوها امتنع منكم القيام بشكرها على سبيل التمام ومما يدل قطعا على أن عقول الخلق قاصرة عن معرفة أقسام نعم الله تعالى أن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لتنغص العيش على الإنسان ولتمنى أن ينفق كل الدنيا حتى يزول عنه ذلك الخلل، ثم إنه تعالى يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الأكمل مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بكيفية مصالحه فليكن هذا المثال حاضرا في ذهنك، ثم تأمل في جميع ما خلق الله في هذا العالم من المعادن والنبات والحيوان وجعلها مهيأة لانتفاعك بها حتى تعلم أن عقول الخلق تفنى في معرفة حكمة الرحمن في خلق الإنسان فضلا عن سائر وجوه الإحسان، ثم الطريق إلى الشكر أن يشكر الله تعالى على جميع نعمه مفصلها ومجملها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ للتقصير الصادر عنكم في القيام بشكر نعمه رَحِيمٌ (١٨) بكم حيث لم يقطع نعمه عنكم بسبب تقصيركم وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ أي تضمرونه من العقائد والأعمال وَما تُعْلِنُونَ (١٩) أي تظهرونه منهما وهذه
قرأ حفص عن عاصم «يسرون»، و «يعلنون»، و «يدعون» بالياء على الغيبة. لكن نقل عن السمين أن قراءة الياء التحتية شاذة في الفعلين الأولين. وقرأ أبو بكر عن عاصم «يدعون» خاصة بالياء على المغايبة. وقرئ على صيغة المبني للمفعول. وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أي أن الأصنام مخلوقة لله تعالى منحوتة من الحجارة وغيرها
أَمُوتُ أي جمادات لا روح فيها غَيْرُ أَحْياءٍ أي لا تأتيها الحياة أصلا وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) أي وما يشعر أولئك الآلهة متى يبعث عبدتهم من القبور وفي هذا تهكم بالمشركين في أن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف وقت جزائهم على عبادتهم.
وقيل: المعنى أن هذه الأصنام لا تعرف متى يبعثها الله تعالى.
قال ابن عباس: إن الله تعالى يبعث الأصنام ولها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بها إلى النار إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا يشاركه شيء في شيء فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ولا يرغبون في حصول الثواب ولا يرهبون من الوقوع في العقاب قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لوحدانية الله تعالى ولكل كلام يخالف قولهم وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) عن الرجوع من الباطل إلى الحق لا جَرَمَ أي حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من قلوبهم وَما يُعْلِنُونَ من استكبارهم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) على خلقه فما بالك بالمستكبرين على التوحيد واتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ أي وإذا قال وفود الحاج لأولئك المنكرين المستكبرين عمّا أنزل الله تعالى على محمد عليه السلام قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) أي هذا الذي تذكرون أنه منزل من ربكم هو أكاذيب الأولين ليس فيه شيء من العلوم والحقائق لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ أي آثامهم الخاصة بهم وهي آثام ضلالهم كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لم يخفف من عقابهم شيء يوم القيامة بمصيبة أصابتهم في الدنيا فقوله: «ليحملوا» متعلق «بقالوا» ف «اللام» للعاقبة. وقوله: «يوم القيامة» ظرف «ليحملوا».
وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ أي وليحملوا أيضا من جنس آثام من ضل بإضلالهم أي فيحصل للرؤساء مثل أوزار الأتباع بِغَيْرِ عِلْمٍ أي إن هؤلاء الرؤساء يقدمون على الإضلال جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد في مقابلته أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) أي بئس ما يحملونه من الذنوب حملهم هذا قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أي قد رتبوا منصوبات ليمكروا بها أنبياء الله تعالى فأهلكهم الله تعالى وجعل هلاكهم مثل هلاك قوم بنوا بنيانا شديدا ودعّموه فانهدم ذلك البنيان وسقط عليهم سقف بنيانهم، فأهلكهم. شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد وفي إبطاله تعالى تلك الحيل،
بآخر فأهلكه الله بمكره ومنه المثل السائر على ألسنة الناس من حفر لأخيه قليبا وقع فيه قريبا. وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) أي إنهم اعتمدوا على منصوباتهم ثم تولد البلاء منها بأعيانها فهؤلاء الماكرون القائلون: إن القرآن أساطير الأولين سيأتيهم العذاب العاجل من جهة لا تخطر ببالهم مثل ما أتاهم ثُمَّ الله تعالى يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ أي يذل الكفار بعذاب وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي يقول الله لهم تفضيحا أين شركائي في زعمكم الذين كنتم تخاصمون الأنبياء والمؤمنين في شأن الشركاء حين بينوا لكم بطلانها. وقرأ نافع «تشاقون» بكسر النون قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي يقول المؤمنون الذين أوتوا علما بدلائل التوحيد حين يرون خزي الكفار وهم في الموقف: إِنَّ الْخِزْيَ أي الفضيحة الْيَوْمَ وَالسُّوءَ أي العذاب عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي عزرائيل وأعوانه ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي مستمرين على الكفار فإنهم ظلموا أنفسهم حيث عرضوها للعذاب المخلد. وقرأ حمزة «يتوفاهم» بالياء مع الإمالة في الموضعين فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي أسلموا وأقروا لله بالعبودية عند الموت قائلين: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ أي شرك في زعمنا فتقول الملائكة بَلى كنتم تعملون أعظم الشرك إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) من الشرك فلا فائدة لكم في إنكاركم فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي ليدخل كل صنف من الكفرة في طبقة هو موعود بها. والمراد دخولهم فيها في وقته فإن ذلك تخويف عظيم وإن تراخى المخوف به لا دخول القبر الذي هو حفرة من حفر النيران خالِدِينَ فِيها أي دركات جهنم لا يخرجون منها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) عن قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي خافوا الشرك وأيقنوا أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً أي أنزل خيرا.
قال المفسرون: كان في أيام الموسم يأتي الرجل مكة فيسأل المشركين عن محمد وأمره فيقولون: إنه ساحر وكاهن وكذاب. فيأتي المؤمنين ويسألهم عن محمد وما أنزل الله عليه.
فيقولون خيرا. أي أنزل خيرا والذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خير لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي قالوا: لا إله إلا الله مع الاعتقاد الحق فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ أي ثناء ورفعة وتعظيم، وهذه الجملة بدل من قوله: خيرا أو تفسيرا له وذلك أن الخير هو الوحي الذي أنزل الله تعالى فيه قوله من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا وحسنة في الآخرة وقوله تعالى: «في هذه الدنيا» متعلق بقوله: «حسنة». وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مما حصل لهم في الدنيا، وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) والمخصوص بالمدح إما محذوف تقديره دار الآخرة أو هي دار الدنيا، لأن المتقين يتزودون فيها للآخرة
وأما قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ وهذه تدل على القصور والبساتين وعلى الدوام
هلْ يَنْظُرُونَ أي ما ينتظر الكفار الذين طعنوا في القرآن وأنكروا النبوة
إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم بالتهديد
أوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ أي عذاب ربك في الدنيا بهلاكهم
كذلِكَ أي مثل فعل هؤلاء من الشرك والتكذيب والاستهزاء
فعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم فأصابهم العذاب المعجل
وما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بذلك فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم
ولكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) بأن كذبوا الرسل فاستحقوا ما نزل بهم
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي عقاب سيئات أعمالهم
وَحاقَ أي وأحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) أي عقاب استهزائهم من جوانبهم
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي من أهل مكة للرسول صلّى الله عليه وسلّم تكذيبا له وطعنا في الرسالة لَوْ شاءَ اللَّهُ عدم عبادتنا لشيء غيره ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا الذين نقتدي بهم في ديننا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ من البحيرة والسائبة، والوصيلة والحامي وإشراكنا بالله الأوثان، وتحريمنا الأنعام، والحرث بمشيئته تعالى فهو راض بذلك، وحينئذ فلا فائدة في مجيئك إلينا بالأمر والنهي وفي إرسالك كَذلِكَ أي مثل ذلك الفعل الشنيع فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم فأشركوا بالله وحرموا حله وردوا رسله، وجادلوهم بالباطل حين نهوهم عن الخطأ، وهدوهم إلى الحق فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) أي ليست وظيفة الرسل إلا تبليغ الرسالة تبليغا واضحا فهو واجب عليهم، وأما حصول الإيمان فلا يتعلق بالرسول وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم السالفة رَسُولًا خاصا بهم كما بعثناك إلى قومك أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحدوه وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي اجتنبوا عبادة ما تعبدون من دون الله، أو اجتنبوا طاعة الشيطان
يجدون في عقولهم أن الشيء إذا صار عدما محضا لا يعود بعينه، بل العائد يكون شيئا آخر ولقد رد الله تعالى عليهم أبلغ رد بقوله بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا أي بلى يبعثهم الله بالبعث وعدا حقا لا خلف فيه ثابتا على الله فينجزه لامتناع الخلف في وعده وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أي أهل مكة لا يَعْلَمُونَ (٣٨) أنهم يبعثون لقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناع البعث ولجهلهم بشئون الله تعالى من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال لِيُبَيِّنَ لَهُمُ أي بلى يبعثهم ليبين لمن يموت الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ من أمور البعث وغيرها من أمور الدين فيثيب المحق من المؤمنين ويعذب المبطل من الكافرين وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله بالإشراك وإنكار البعث والنبوة يوم القيامة أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) فيما أقسموا فيه وفي كل ما يقولون إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ أي شيء كان إِذا أَرَدْناهُ أي وقت إرادتنا لوجوده أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ أي أحدث وهو خبر المبتدأ فَيَكُونُ (٤٠) أي فيحدث عقب ذلك من غير توقف، وهذا تمثيل لنفي الكلام والتعب فليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور بل هو تمثيل لسهولة حصول المقدورات عند تعلق إرادته تعالى بها، وتصوير لسرعة حدوثها، ولكن العباد خوطبوا بذلك على قدر عقولهم، ولو أراد الله خلق الدنيا وما فيها في قدر لمح البصر لقدر على ذلك، فالمعنى إنما إيجادنا لشيء عند تعلق إرادتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون
وَالَّذِينَ هاجَرُوا من مكة إلى المدينة فِي اللَّهِ أي لإظهار دينه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي أرضا كريمة آمنة وهي المدينة وهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين أخرجهم أهل مكة من ديارهم فهاجروا إلى الحبشة ثم إلى المدينة وعلى هذا يكون نزول الآية في أصحاب الهجرتين فيكون نزولها في المدينة بين الهجرتين.
بعض ما أراد أهل مكة من كلمة الكفر فتركوا عذابهم، ثم هاجروا، فبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام كما أن بنصرة الأنصار قويت شوكتهم فلذلك غلبوا على أهل مكة وعلى العرب قاطبة وعلى أهل المشرق والمغرب، وعن عمر أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أكبر وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي وللأجر الكائن في الآخرة وهو النعيم الكائن في الجنة أعظم من الأجر الكائن في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) أي لو علم الكفار أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم في الدين الَّذِينَ صَبَرُوا على أذية الكفار ومفارقة الأهل والوطن وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) أي إليه خاصة يفوّضون الأمر كله معرضين عما سواه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا أكرم الرسل إلى الأمم من طوائف البشر إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ بواسطة الملائكة وهذا رد لقريش حين قالوا: الله أعلى وأعظم من أن يكون رسوله واحدا من البشر، بل لو أراد بعثة رسول إلينا لبعث ملكا. فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل العلم بأخبار الماضين فإذا سألوهم فلا بد أن يجيبوا بأن الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشرا فإذا أخبروهم بذلك زالت الشبهة من قلوبهم إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) أن الرسل من البشر بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ متعلق بمحذوف على أنه صفة لرجالا أي رجالا ملتبسين بالمعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وبالتكاليف التي يبلغونها من الله تعالى إلى العباد، أو متعلق بيوحى، أي يوحى إليهم بالحجج الواضحة وبالكتب، أو متعلق بذلك، أي فاسألوا أهل العلم بالحجج وبالكتب القديمة من التوراة والإنجيل، أو متعلق بلا تعلمون أي إن كنتم لا تعلمون الله لم يرسل الرسل إلا إنسيا بالعلامات وبخبر كتب الأولين فاسألوا كل من يذكر بعلم وتحقيق، واسألوا أهل الكتب الذين يعرفون معاني كتب الله تعالى وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي القرآن سمي ذكرا، لأن فيه تنبيها للغافلين لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ كافة ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال الأمم المهلكة بأفانين العذاب على حسب أعمالهم الموجبة لذلك وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) فيما نزل إليهم فيتنبهوا لما فيه من العبر، ويحترزوا عما يؤدي إلى مثل ما أصاب الأولين من العذاب أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي سعوا من أهل مكة ومن حول المدينة في إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه على سبيل الخفية أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون
ولما بيّن الله تعالى أولا أن الجمادات بأسرها منقادة لله تعالى. بيّن بهذه الآية أن الحيوانات بأسرها منقادة لله تعالى فأخسها الدواب وأشرفها الملائكة. وذلك دليل على أن كل المخلوقات منقادة لله تعالى. وَهُمْ أي الملائكة مع علو شأنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) عن عبادته تعالى يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وهذه الجملة بيان لقوله: «لا يستكبرون» أو حال من ضميره، أي خائفين لمالك أمرهم خوف هيبة وإجلال وهو فوقهم بالقهر وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) به من الطاعات والتدبيرات فبواطنهم وظواهرهم مبرأة من الأخلاق الفاسدة والأفعال الباطلة
وَقالَ اللَّهُ لجميع المكلفين: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ أي لا تعبدوا الله والأصنام ولما بين الله تعالى أولا أن كل ما سوى الله سواء كان من عالم الأرواح، أو من عالم الأجسام فهو منقاد خاضع لجلال الله تعالى أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك. والمقصود من التكرير تأكيد التنفير عن الإشراك بالله، وتكميل وقوف العقل على ما فيه من القبح إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي لما دلت الدلائل السابقة على أنه لا بد للعالم من الإله وقد ثبت أن وجود الإلهين محال ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) أي إن كنتم راهبين شيئا فارهبوني لا غير فإني ذلك الواحد الذي يسجد له ما في السموات والأرض ولما كان الإله واحدا والواجب لذاته واحدا كان كل ما سواه حاصلا بتخليقه وإيجاده فثبت أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، لأن أفعال العباد من جملة ما في السموات والأرض ووجب أن يكون جميع المخلوقات في ملكه وتصرفه وتحت قهره. وذلك قوله تعالى:
وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خلقا وملكا وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أي لله تعالى الطاعة دائما فليس من أحد يطاع إلا انقطعت تلك الطاعة بالموت أو بسبب في حال الحياة إلا الله تعالى فإن طاعته واجبة
بها من حيث كونها لا تكتسب، وكونها يخاف عليها الزنا، وكان الرجل في الجاهلية إذا ظهر آثار الطلق بامرأته اختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له فإن كان ذكرا فرح به، وإن كان أنثى حزن ولم يظهر للناس أياما يدبر فيها ماذا يصنع بها، وذلك قوله تعالى:
أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أي أيحفظ ما بشر به من الأنثى مع رضاه بذل نفسه أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أي أم يخفيه في التراب بالوأد فالعرب كانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها فيها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبل، ومنهم من يغرقها، ومنهم من يذبحها وهم
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها أي الأرض مِنْ دَابَّةٍ أي لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر ومعصية لا يبقى لهم نسل فيلزم أن لا يبقى في العالم أحد من الناس فحينئذ لا يبقى في الأرض أحد من الدواب أيضا، لأنها مخلوقة لمنافع البشر وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي معين عند الله تعالى لأعمارهم ليتوالدوا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ عن ذلك الأجل ساعَةً أي فذة وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وإنما ذكر الاستقدام مع أنه لا يتصور عند مجيء الأجل مبالغة في بيان عدم الاستئخار بنظمه في سلك ما يمتنع وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ أي وينسبون إليه تعالى البنات التي يكرهونها لأنفسهم وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى بدل من الكذب أي يصفون أنفسهم بأنهم فازوا برضوان الله تعالى بسبب إثبات البنات له تعالى وبأنهم على الدين الحق لا جَرَمَ أي ثبت أَنَّ لَهُمُ النَّارَ التي ليس وراء عذابها عذاب وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) أي متروكون في النار. وقرأ نافع وقتيبة عن الكسائي بكسر الراء أي مفرطين على أنفسهم في الذنوب تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فدعوهم إلى الحق فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة فرأوها حسنة فكذبوا الرسل فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أي فالشيطان متول أمورهم في الدنيا بإغوائهم وقرينهم في النار وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) هو عذاب النار وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ أي إلا لتبين للناس بواسطة بيانات القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها من التوحيد والشرك والجبر والقدر وأحوال المعاد والأحكام كتحريم الميتة وتحليل نحو البحيرة وَهُدىً وَرَحْمَةً أي وللهداية من الضلالة وللرحمة من العذاب لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) بالقرآن لأنهم المغتنمون آثاره وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي والله خلق السماء على وجه ينزل منه الماء، ويصير ذلك الماء سببا لنبات الزرع والشجر ولخروج النور والثمر إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنزال الماء وإحياء الأرض اليابسة لَآيَةً دالة على وحدته تعالى وعلمه وقدرته وحكمته لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) هذه المواعظ سماع تفكر، لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً عظيمة إذا تفكرتم فيها نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ أي الأنعام.
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي «نسقيكم» بضم النون.
وعن ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء، والقرآن شفاء لما في الصدور فعليكم بالشفاءين
قال العلماء: عمر الإنسان له أربع مراتب:
أولها: سن النشوء وهو من أول العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة وهو غاية سن الشباب.
وثانيها: سن الوقوف وهي من ذلك إلى أربعين سنة وهو غاية القوة وكمال العقل.
وثالثها: سن الانحطاط القليل وهو سن الكهولة وهو من ذلك إلى ستين سنة.
ورابعها: سن الانحطاط الكبير وهو سن الشيخوخة وهو من ذلك إلى خمسة وستين سنة وفيه يتبين النقص والهرم.
قال علي بن أبي طالب: أرذل العمر خمسة وسبعون سنة
. وقال قتادة: تسعون سنة. وقال السدي: إنه الخرف أي زوال العقل. وقيل: والمسلم لا يزداد بسبب طول العمر إلا كرامة على الله تعالى. وقال عكرمة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً أي ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في نقصان العقل وسوء الفهم وفي النسيان إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بمقادير أعمالكم قَدِيرٌ (٧٠) على تحويلكم من حال إلى حال وكان الإنسان ميتا حين كان نطفة، ثم صار حيا، ثم مات فلما كان الموت الأول جائزا كان عود الموت جائزا فكذلك لما كانت الحياة الأولى جائزة وجب أن يكون عود الحياة جائزا في المرة الثانية، ومتى كان الأمر كذلك ثبت أن القول بالبعث والنشر والحشر حق.
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ أي فاوت بينكم في الرزق كما فاوت بينكم في الذكاء، والبلادة، والحسن، والقبح، والصحة، والسقم فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي
رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ
أي فليس الذين فضلوا في الرزق على غيرهم بجاعلي رزقهم لعبيدهم حتى تكون عبيدهم فيه معهم سواء في الملك وهم أمثالهم في البشرية والمخلوقية والمرزوقية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا: إن عيسى ابن مريم ابن الله فالمعنى أنكم لا تشركون عبيدكم فيما ملكتم فتكونون سواء فكيف جعلتم عبدي عيسى ابنا لي وشريكا بي في الإلهية أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١) فإن من أثبت لله شريكا فقد أسند إليه بعض الخيرات فكان جاحدا لكونها من عند الله تعالى، وأيضا إن أهل الطبائع وأهل
قال الأطباء: والتفاوت بين الذكر والأنثى إن الذكر أسخن مزاجا، والأنثى أكثر رطوبة، فالمني إذا انصب إلى الخصية اليمنى من الرجل، ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكرا تاما في الذكورة. وإن انصب إلى الخصية اليسرى من الرجل ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد أنثى تاما في الأنوثة، وإن انصب إلى الخصية اليمنى ثم انصب منها إلى الجانب الأيسر كان الولد ذكرا في طبيعة الإناث، وإن انصب إلى الخصية اليسرى، ثم انصب منها إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد أنثى في طبيعة الذكور وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي من نسائكم بَنِينَ وَحَفَدَةً أي خدما يسرعون في طاعتكم وهم إما أولاد الأولاد وإما البنات فإنهن يخدمن البيوت أتم خدمة وإما الأختان على البنات أي فيحصل لهم الأختان بسبب البنات وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي بعض اللذائذ من النبات والحيوان فالمرزوق في الدنيا أنموذج لما في الآخرة وكل الطيبات في الجنة أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أي أيكفرون بالله الذي شأنه ذلك المذكور ويؤمنون بالباطل بأن يحرموا على أنفسهم طيبات أحلها الله لهم مثل البحيرة والسائبة والوصيلة، ويبيحوا لأنفسهم محرمات حرمها الله عليهم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما ذبح على النصب أي لم يحكمون بتلك الأحكام الباطلة وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) أي وبأنعام الله في تحليل الطيبات وتحريم الخبيثات يجحدون وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً أي أيعبدون الأصنام التي لا تملك لعبدتهم رزقا من المطر والنبات لا قليلا ولا كثير، فشيئا بدل من رزقا وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) أي وليس للأصنام استطاعة تحصيل الملك وهذا معطوف على ما لا يملك وعبر عن الأصنام بلفظ ما اعتبارا للحقيقة، وبلفظ جمع العقلاء اعتبارا لاعتقادهم فيها أنها آلهة فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ أي لا تشبهوا الله تعالى بخلقه في شأن من الشؤون فإن عبدة الأوثان كانوا يقولون: إن إله العالم أعظم من أن يعبده الواحد منا بل نحن نعبد الكواكب أو هذه الأصنام، ثم إن الكواكب والأصنام عبيد الإله الأكبر الأعظم فإن أصاغر الناس يخدمون أكابر خدم الملك وأولئك الأكابر يخدمون الملك فكذا هاهنا فعند هذا قال الله تعالى لهم: اتركوا عبادة هذه الأصنام والكواكب ولا تجعلوا لله الأمثال التي ذكرتموها وكونوا مخلصين في عبادة الإله القدير الحكيم إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أن خطأ قولكم الاشتغال بعبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من الاشتغال بعبادة نفس الملك، لأن هذا الدليل قياس، والقياس يجب تركه عند ورود النص وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) ذلك فتقعون في مهاوي الضلال ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بالعبد والحر عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من التصرفات وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً أي
هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي من هو منطيق فهم ينفع الناس بحثهم على العدل وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) أي وهو عادل مبرأ عن العبث وإذا ثبت في بديهة العقل أن الأبكم العاجز لا يساوي الناطق القادر الكامل في الفضل والشرف مع استوائهما في البشرية، فلأن نحكم بأن الجماد لا يكون مساويا لرب العالمين في المعبودية أولى. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ولله تعالى خاصة الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين قاطبة، فإن علمه تعالى حضوري وتحقق الغيب في أنفسها علم بالنسبة إليه تعالى. وهذا بيان كمال العلم. وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أي وما أمر إقامة الساعة وهي إماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، وتبديل صور الأكوان أجمعين إلا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها في سهولته! أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أي بل أمر إقامة الساعة أقرب من طرف العين في السرعة بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة فالله تعالى يحيي الخلق دفعة، وهي في جزء غير منقسم، وهذا بيان كمال القدرة إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) فإن الله تعالى متى أراد شيئا إيجاده أو إعدامه حصل في أسرع ما كان وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً أي غير عارفين شيئا أصلا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها المعرفة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أي لكي تستعملوها في شكر ما أنعم الله به عليكم طورا غبّ
قال كعب الأحبار: إن الطير ترتفع في الجو مسافة اثني عشر ميلا، ولا ترتفع فوق ذلك ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو حين قبض أجنحتهن وبسطها ووقوفهن إِلَّا اللَّهُ بقدرته الواسعة فإن جسد الطير ثقيل يمتنع بقاؤه في الجو معلقا من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، فبقاؤه في الجو معلقا فعله وحاصل باختياره، فثبت أن خالق فعل العبد هو الله تعالى. إِنَّ فِي ذلِكَ- أي تسخير الطير للطيران بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذنابا كذلك فإذا بسطت أجنحتها وأذنابها تخرق ما بين يديها من الهواء- لَآياتٍ أي لعلامات لوحدانية الله تعالى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) أي يصدقون أن إمساكهن من الله تعالى فإنه تعالى أعطى الطير جناحا يبسطه مرة ويكسره مرة أخرى، وخلق الهواء خلقة رقيقة يسهل الطيران بسبب خرقه، ولولا ذلك لما أمكن الطيران وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ التي تبنونها سَكَناً أي موضعا تسكنون فيه وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً مغايرة لبيوتكم المعهودة هي الخيام تَسْتَخِفُّونَها أي تجدونها خفيفة عليكم في حملها ونقلها ونقضها في أسفاركم، يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي وقت سيركم في أسفاركم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وبفتح العين. وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ أي وقت نزولكم في الضرب وَمِنْ أَصْوافِها أي الأنعام وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أنواع متاع البيت من الفرش والأكسية وَمَتاعاً أي ما ينتفع به في البيت خاصة ويتزين به إِلى حِينٍ (٨٠) أي إلى وقت البلاء
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من غير صنع من جهتكم ظِلالًا أي ما يستظلون به من شدة الحر وهي ظلال الجدران والأشجار والجبال والغمام. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ
أَكْناناً
أي مواضع تستكنون فيها من شدة البرد والحر من الكهوف والغيران والسروب وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ أي ثيابا من القطن والكتان والصوف وغيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ في الصيف والبرد في الشتاء ولم يذكر الله تعالى وقاية البرد لتقدمه في قوله تعالى فيها دفء وَسَرابِيلَ أي جواشن تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ أي الشدة التي تصل إلى بعضكم من بعض في الحرب من الطعن والضرب والرمي كَذلِكَ أي مثل ما خلق الله هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم يُتِمُّ نِعْمَتَهُ في الدنيا عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ يا أهل مكة تُسْلِمُونَ (٨١) أي تؤمنون به تعالى وتنقادون لأمره. وقرئ «تسلمون» بفتح التاء واللام، أي لكي تسلموا من الجراحات أو من الشرك فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإسلام وآثروا متابعة الآباء فلا نقص من جهتك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) أي لأن وظيفتك هي البلاغ الواضح فقد فعلته يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ أي يقرون أن هذه النعم كلها من الله ثُمَّ يُنْكِرُونَها أي لا يشكرونها بالتوحيد لأنهم قالوا: إنما
والمعنى أنه تعالى يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام حتى تقول هذا القول وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ أي أسرع المشركون إلى الله يومئذ الانقياد لحكم الله فأقروا بالبراءة عن الشركاء وبربوبية الله بعد أن كانوا في الدنيا متكبرين عنه لما عجزوا عن الجواب لكن الانقياد في هذا اليوم لا ينفعهم لانقطاع التكليف فيه وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) أي ذهب عنهم افتراؤهم على الله من أن لله شريكا وبطل أملهم من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا في أنفسهم وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي منعوا الناس عن الدخول في الإسلام وحملوهم على الكفر زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ أي بحيات وعقارب، وجوع وعطش، وزمهرير وغير ذلك فيخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة البرد إلى النار بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) بذلك الصد وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وهو أعضاؤهم. فالله تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى إنها تشهد عليه وهي العينان والأذنان، والرجلان، واليدان، والجلد واللسان وَجِئْنا بِكَ يا سيد الرسل شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ أي الأمم كلهم وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ من أمور الدين ينص فيه على بعضها وبإحالته لبعضها على السنّة أو على الإجماع، أو على القياس فكانت السنّة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب وَهُدىً وَرَحْمَةً للعالمين فإن حرمان الكفرة من مغانم آثار الكتاب من تفريطهم لا من جهة الكتاب وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) خاصة لأنهم المنتفعون بذلك إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ أي بالتوسط في الأمور وهو رأس الفضائل كلها فيندرج تحته فضيلة القوة العقلية، فالحكمة
والقول: بأن العبد مستقل بأفعاله قدر محض. والعدل أن يقال: إن العبد يفعل الفعل لكن بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله تعالى فيه، والقول: بأن الله تعالى لا يؤاخذ عبده على شيء من الذنوب مساهلة عظيمة، والقول: بأنه تعالى يخلد في النار عبده الآتي بالمعصية الواحدة تشديد عظيم والعدل هو القول بأنه تعالى يخرج من النار كل من اعتقد أنه لا إله إلا الله ويندرج تحته أيضا الحكم العملية، فالتعبد بأداء الواجبات متوسط بين البطالة والترهب. والختان: مأمور به في شريعتنا، فإن إبقاء الجلدة مبالغة في تقوية اللذة والإخصاء وقطع الآلات كما عليه المانوية إفراط، فكانت الشريعة إنما أمرت بالختان سعيا في تقليل تلك اللذة حتى يصير ميل الإنسان إلى قضاء شهوة الجماع إلى حد الاعتدال، لئلا تصير الرغبة فيه غالبة على الطبع ويندرج تحته أيضا الحكم الخلقية، فالجود متوسط بين البخل والتبذير وشريعة سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وسط بين التشديد والتساهل قال الله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: ١٤٣] أي متباعدين عن طرفي الإفراط والتفريط في كل الأمور. ولما بالغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العبادات قال تعالى: طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: ١] ولما أخذ قوم في المساهلة قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً [المؤمنون: ١١٥] والمطلوب رعاية العدل بين طرفي الإفراط والتفريط وَالْإِحْسانِ أي المبالغة في أداء الطاعات إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل، وإما بحسب الكيفية كالاستغراق في شهود مقامات الربوبية.
والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب والإحسان عبارة عن الزيادة في ذلك وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أي إعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن أعجل الطاعة ثوابا صلة الرحم»
«١» وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ أي المعاصي كلها وَالْمُنْكَرِ وهو ما لا يعرف في شريعة وَالْبَغْيِ أي الاستعلاء على الناس والترفع.
والحاصل أن الفحشاء هي الإفراط في متابعة القوة الشهوية، فهي إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة، وأن المنكر هو الإفراط في إظهار آثار القوة الغضبية
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وهو العهد الذي يلتزمه الإنسان باختياره فيدخل فيه المبايعة على الإيمان بالله وبرسوله وعهد الجهاد وعهد الوفاء بالمنذورات والأشياء المؤكدة باليمين. وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها بالقصد ففرق بين اليمين المؤكد بالعزم وبين لغو اليمين وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي شاهدا، فإن من حلف بالله قد جعل الله كفيلا بالوفاء بسبب ذلك الحلف، وهذه واو الحال أي لا تنقضوا الأيمان وقد قلتم الله شاهد علينا بالوفاء إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) من النقض والوفاء فيجازيكم على ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر وفي هذا ترغيب وترهيب وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أي من بعد قوة العزل بفتلها وإبرامها أَنْكاثاً أي أنقاضا وهو مفعول ثان لنقضت بمعنى جعلت أو حال من عزلها مؤكدة لعاملها أي منكوثا.
قيل: المشبه به معين وهي امرأة في مكة اسمها: رائطة بنت سعد بن تيم. وقيل: تلقب بجعرانة، وكانت حمقاء اتخذت مغزلا قدر ذراع وسنارة مثل إصبع وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل الصوف والوبر هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا أي مكرا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ وهو استفهام بمعنى الإنكار. والمعنى أتصيرون أيمانكم غشا بينكم بسبب أن أمة أزيد في القوة والكثرة من أمة أخرى؟
قال مجاهد: كان قريش يحالفون الحلفاء ثم إذا وجدوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم مع الحلفاء وعاهدوا أعداء حلفائهم إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ أي يعاملكم بالأكثر معاملة من يختبركم لينظر أتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله أم تغترون بكثرة قوم وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) في الدنيا أي حين يجازيكم على أعمالكم بالثواب والعقاب وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مشيئة قسر لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً متفقة على الإسلام وَلكِنْ لم يشأ ذلك بل شاء اختلافكم لقضية حكمة يعلمها الله ولذلك يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ.
وروى الواحدي أن عزيرا قال: يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء، فقال: يا عزيز أعرض عن هذا. فأعاده ثانيا، فقال: أعرض عن هذا. فأعاده ثالثا فقال: أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوة وَلَتُسْئَلُنَّ جميعا يوم القيامة عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) في
وقرأ ابن كثير وعاصم «ولنجزينهم» بنون العظمة على طريقة الالتفات. والباقون بالياء من غير التفات «واللام» لام قسم أي والله ليجزين الله مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً في الدنيا فيعيش عيشا طيبا فالموسر ظاهر، والمعسر يطيب عيشه بالقناعة، والرضا بالقسمة وتوقع الأجر العظيم، فإن قلب المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى والقلب إذا كان مملوءا من هذه المعارف لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا، أما قلب الجاهل فإنه خال عن معرفة الله تعالى فيصير مملوءا من الأحزان الواقعة بسبب مصائب الدنيا.
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ في الآخرة أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) أي بجزاء أحسن من أعمالهم فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) أي فإذا أردت قراءة القرآن فاسأل الله أن يعصمك من وساوس الشيطان المطرود من رحمة الله لئلا يوسوسك في القراءة، أي فقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وهذا الأمر للندب عند الجمهور وللوجوب عند عطاء وحيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستعاذة عند قراءة القرآن فما ظنكم بمن عداه صلّى الله عليه وسلّم فيمن عدا القراءة من الأعمال! إِنَّهُ أي الشيطان لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ أي تسلط عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩)
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ أي وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكما آخر وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من التغليظ والتخفيف في مصالح العباد وما الشرائع إلا مصالح للعباد في المعاش والمعاد فالمصالح تدور.
وهذه الجملة اعتراضية بين الشرط وجوابه لتوبيخ الكفرة على كونهم ينسبون رسول الله إلى الافتراء في التبديل وللتنبيه على فساد رأيهم. قالُوا أي الكفار من أهل مكة للنبي صلّى الله عليه وسلّم:
إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ أي مختلق من تلقاء نفسك.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية ألين منها تقول كفار قريش والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه، وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه فأنزل الله تعالى هذه الآية بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) إن الله لا يأمر عباده إلا بما يصلح لهم وإن في النسخ حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا قُلْ نَزَّلَهُ أي القرآن رُوحُ الْقُدُسِ أي الروح المطهر من الأدناس البشرية وهو جبريل مِنْ رَبِّكَ يا أكرم الخلق بِالْحَقِّ أي بالموافق للحكمة لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان بأن القرآن كلام الله فإنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح اللائقة بالحال رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وهذان معطوفان على «ليثبت»، فهما منصوبان باعتبار محله، ومجروران باعتبار المصدر المؤول. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ أي كفار مكة يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ أي إنما يعلم محمدا القرآن بشر لا جبريل كما يدّعى.
قال عبد الله بن مسلم الحضرمي: عنوا عبدين لنا أحدهما يقال له: يسار، والآخر جبر وكانا يصنعان السيف بمكة ويقرءان التوراة والإنجيل وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمر عليهما ويسمع ما يقرءانه فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله تعالى: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) أي كلام الذي ينسبون إليه عبراني لم يتكلم بالعربية ولم يأت بفصيح الكلام وهذا القرآن كلام عربي ذو بيان وفصاحة، فكيف يعلم محمدا وهو جاءكم بهذا القرآن الفصيح الذي عجزتم عنه وأنتم أهل الفصاحة! فكيف يقدر من هو أعجمي على مثل هذا القرآن وأين فصاحة هذا القرآن من عجمه هذا الذي تشيرون إليه؟! فثبت بهذا الدليل أن القرآن وحي أوحاه الله إلى محمد وليس هو من تعليم الذي تشيرون إليه، ولا هو آت به من تلقاء نفسه بل هو
روي أن قريشا أكرهوا عمارا وأباه ياسرا وأمه سمية على الارتداد فربطوا سمية بين بعيرين وضربها أبو جهل بحربة في فرجها، فماتت وقتل ياسر. وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوا عليه فقيل: يا رسول الله إن عمارا كفر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه» «١». فأتى عمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبكي فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح عينه.
وقال مالك: إن عادوا لك فقل لهم ما قلت فنزلت هذه الآية ذلِكَ أي الكفر بعد الإيمان، بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أي بسبب أنهم رجّحوا الدنيا على الآخرة وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أي وبأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان وما عصمهم عن الكفر أُولئِكَ الموصوفون بتلك القبائح الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فأبت عن التأمل في الحق وإدراكه وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) عمّا يراد بهم في الآخرة من العذاب، فلا غفلة أعظم من الغفلة عن تدبر عواقب الأمور لا جَرَمَ أي حق أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) حيث صرفوا أعمارهم فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلد ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا إلى المدينة أي ناصرهم مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي عذبوا. نزلت هذه الآية في عياش بن ربيعة أخي أبي جهل من الرضاعة أو من أمه وفي أبي
وقرأ ابن عامر «فتنوا» بالبناء للفاعل، أي عذبوا المؤمنين، كعامر بن الحضرمي أكره مولاه جبرا الرومي حتى ارتد ثم أسلما وحسن إسلامهما وهاجروا ثُمَّ جاهَدُوا في سبيل الله وَصَبَرُوا على الطاعة والمرازي. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي من بعد. هذه الأعمال الثلاثة لَغَفُورٌ لما فعلوا من قبل رَحِيمٌ (١١٠) فينعم عليهم مجازاة على ما صنعوا من بعد وهذه الآية إن كانت نازلة فيمن أظهر الكفر، فالمراد أن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لا يكره فلا إثم له في ذلك. وإن كانت واردة فيمن ارتد، فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يحصلان له الغفران والرحمة ويزيلان العتاب.
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها فالظرف منصوب برحيم أو بمحذوف أي ذكرهم يوم يأتي كل إنسان يعتذر عن ذاته ويسعى في خلاصه من العذاب كقولهم: هؤلاء أضلونا السبيلا. وقولهم: والله ربنا ما كنا مشركين، ونحو ذلك من الاعتذارات.
وروى عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتى يخاصم الروح الجسد، فيقول الروح: يا رب لم يكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها، فضعف عليه العذاب. فيقول الجسد: يا رب أنت خلقتني كالخشبة ليس لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها، ولا عين أبصر بها فجاء هذا الروح كشعاع النور فبه نطق لساني وبه أبصرت عيناي وبه مشت رجلاي، فيضرب الله لهما مثلا: أعمى ومقعدا دخلا بستانا فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثمر والمقعد لا يتناوله فحمل الأعمى المقعد فأصابا الثمر فعلى من يكون العذاب؟! قالا: عليهما، قال الله تعالى: عليكما جميعا العذاب وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي وتعطى كل نفس جزاء ما عملت كاملا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) بالعقاب بغير ذنب، وبالزيادة في العقاب على الذنوب. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أي جعل الله مثلا أهل قرية مكة كانَتْ آمِنَةً أي كان أهلها ذوي أمن فلا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب الخوف من العدو، مُطْمَئِنَّةً أي كان أهلها صحاحا، لأن هواء ذلك البلد لما كان ملائما لأمزجتهم اطمأنوا إليه واستقروا فيه فلا يحتاجون إلى الانتقال منه بسبب الأمراض يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي يأتي أهل تلك القرية أقوات واسعة من نواحيها من بر وبحر فلا يحتاجون إلى الانتقال عنها بسبب ضيق الرزق. قالت العقلاء من بحر الرجز:
ثلاثة ليس لها نهاية | الأمن والصحة والكفاية |
أحدهما: أنه لما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع والخوف فأشبها الطعام.
وثانيهما: أن أثر الجوع والخوف لما اشتد صار كأنه أحاط بهم من كل الجهات فأشبه اللباس، وقد ظهر أثرهما عليهم من الهزال وصفرة اللون، ونهكة البدن، وسوء الحال، وكسوف البال. ويشبه أيضا أثر الخوف باللباس في الإحاطة واللزوم، وأثر الجوع بالطعام المر البشع في الكراهة. بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) من تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم وإخراجه من مكة والهمّ بقتله.
فالله تعالى ابتلاهم بالجوع سبع سنين، فقطع عنهم المطر وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب الميتة والعلهز وهو وبر يخلط بالدم والقد وهو جلد الماعز الصغير حتى كان ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع، وأما خوفهم فهو لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون على من حولهم من العرب فكان أهل مكة يخافونهم، ثم إن رؤساء مكة أرسلوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان بن حرب في جماعة فقدموا المدينة عليه، وقال له أبو سفيان: يا محمد إنك جئت تأمر بصلة الرحم والعفو وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم فدعا لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأذن للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون.
وهذه الآية نزلت في المدينة، لأن الله تعالى وصف القرية بصفات ست كانت هذه الصفات موجودة في أهل مكة فضربها الله مثلا لأهل المدينة يحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم فيصيبهم مثل ما أصابهم من الجوع والخوف، والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤمر بالقتال وهو بمكة وإنما أمر بالقتال لما هاجر إلى المدينة، فكان يبعث السرايا إلى حول مكة يخوفهم بذلك وهو بالمدينة. وَلَقَدْ جاءَهُمْ أي جاء أهل تلك القرية وهي مكة رَسُولٌ مِنْهُمْ أي من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه، فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة، وأنذرهم سوء عاقبة ما يأتون وما يذرون فَكَذَّبُوهُ في رسالته فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ بالجوع الذي كان بمكة وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) أي والحال أنهم كافرون بتكذيب رسول الله فَكُلُوا يا معشر المسلمين مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي من الغنائم حَلالًا طَيِّباً أي إنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب، وهو الغنيمة، واتركوا الخبائث، وهي الميتة والدم وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ أي واعرفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) أي تطيعون إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فهذه الآية دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع: فالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع داخلة في الميتة، وما ذبح على النصب داخل تحت قوله تعالى: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) أي فمن دعته ضرورة المخمصة إلى تناول شيء من ذلك غير ظالم على مضطر آخر ولا متجاوز
المحرمات وهو الذي سبق ذكره في سورة الأنعام وَما ظَلَمْناهُمْ بتحريم ذلك وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) حيث فعلوا ما يؤدي إلى ذلك التحريم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ أي الكفر والمعاصي بِجَهالَةٍ أي بسبب جهالة، لأن أحدا لا يختار الكفر ما لم يعتقد كونه حقا، ولا يفعل المعصية ما لم تصر الشهوة غالبة للعقل فكل من عمل السوء يكون بسبب الجهالة. ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي عمل السوء وَأَصْلَحُوا بأن آمنوا وأطاعوا الله إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي التوبة لَغَفُورٌ لذلك السوء رَحِيمٌ (١١٩) يثيب على طاعتهم تركا وفعلا أي لما بالغ الله في تهديد المشركين على أنواع قبائحهم من إنكار البعث والنبوة وكون القرآن من عند الله، وتحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه بين الله أن أمثال تلك القبائح لا تمنعهم من قبول التوبة وحصول المغفرة والرحمة إذا ندموا على ما فعلوا وآمنوا فالله يخلصهم من العذاب إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً على انفراده لكماله في صفات الخير وجمعه الفضائل، وهو رئيس أهل التوحيد، لأنه كان مؤمنا وحده والناس كلهم كانوا كفارا ولذلك وصفه بتسع صفات. قانِتاً لِلَّهِ أي مطيعا له تعالى قائما بأمره. حَنِيفاً أي مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق لا يزول عنه وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) في أمر من أمور دينهم فإنه كان من الموحدين في الصغر والكبر
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ.
روي أن إبراهيم عليه السلام كان لا يتغذى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفا، فأخر غذاءه، فإذا هو بقوم من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام فأظهروا أن بهم علة الجذام، فقال: الآن يجب علي مؤاكلتكم فلولا عزتكم على الله تعالى لما ابتلاكم بهذا البلاء.
اجْتَباهُ أي اصطفاه للنبوة وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) أي هداه في الدعوة إلى طريق موصل إلى الله تعالى وهو ملة الإسلام. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي ولدا صالحا وسيرة حسنة عند كل أهل الأديان، فجميع الملل يترصون عن إبراهيم ولا يكفر به أحد. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) أي لمن أصحاب الدرجات العالية في الجنة ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا سيد المرسلين مع علو طبقتك أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإتيان الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن
مبدأ التكوين هو يوم الأحد فنجعل هذا اليوم عيدا لنا وقد جاءهم عيسى عليه السلام بالجمعة أيضا فقالوا: لا نريد أن يكون عيد اليهود بعد عيدنا، واتخذوا الأحد عيدا لهم وقلنا معشر الأمة المحمدية: يوم الجمعة هو يوم الكمال فحصول التمام يوجب الفرح الكامل، فهو أحق بالتعظيم، وبجعله عيدا. وأيضا إن الله تعالى خلق في يوم الجمعة أبا البشر آدم عليه السلام وهو أشرف خلقه وتاب عليه فيه فكان يوم الجمعة أشرف الأيام لهذا السبب، ولأن الله تعالى اختار يوم الجمعة لهذه الأمة ولم يختاروه لأنفسهم. وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) في الدين فإنه تعالى سيحكم للمحقين بالثواب وللمبطلين بالعقاب. ادْعُ يا أشرف الرسل من بعثت إليهم من الأمة قاطبة إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ أي إلى دينه بِالْحِكْمَةِ أي الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينية وهذه أشرف الدرجات، وهي التي قال الله تعالى في صفتها: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: ٢٦٩] وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ أي الأمارات الظنية والدلائل الإقناعية وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بدليل مركب من مقدمات مقبولة فالناس على ثلاثة أقسام:
الأول: أصحاب العقول الصحيحة الذين يطلبون معرفة الأشياء على حقائقها.
والثاني: أصحاب النظر السليم الذين لم يبلغوا حدّ الكمال ولم ينزلوا إلى حضيض النقصان.
والثالث: الذين تغلب على طباعهم المخاصمة لا طلب العلوم اليقينية فقوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ إلخ. معناه: ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالدلائل القطعية اليقينية حتى يعلموا الأشياء بحقائقها، وهم خواص الصحابة وغيرهم. وادع عوام الخلق بالدلائل الإقناعية الظنية وهم أرباب السلامة، وفيهم الكثرة، وتكلّم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل وهي التي تفيد إفحامهم وإلزامهم. والجدل ليس من باب الدعوة،
وقرأ ابن كثير بكسر الضاد مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) أي من مكرهم بك في المستقبل فالضيق إذا قوى صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨) وهذا يدل على أن كمال السعادة للإنسان في هذين الأمرين التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله. والمراد بالمعية هي بالرحمة والفضل والرتبة.