تفسير سورة الصافات

الدر المصون
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله: ﴿والصافات صَفَّا﴾ : قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامِ التاء من الصافَّاتِ، والزَّاجراتِ والتاليات، في صاد «صَفَّاً» وزاي «زَجْراً» وذال «ذِكْراً»، وكذلك فَعَلا في ﴿والذاريات ذَرْواً﴾ [الذاريات: ١] وفي ﴿فالملقيات ذِكْراً﴾ [المرسلات: ٥] وفي ﴿العاديات ضَبْحاً﴾ [العاديات: ١] بخلافٍ عن خلاَّد في الأخيرين. وأبو عمروٍ جارٍ على أصلِه في إدغام المتقاربَيْن كما هو المعروفُ مِنْ أصلِه. وحمزةُ خارجٌ عن أصلِه، والفرقُ بين مَذْهَبَيْهما أنَّ أبا عمرٍو يُجيز الرَّوْمَ، وحمزةَ لا يُجيزه. وهذا كما اتفقا في إدغام ﴿بَيَّتَ طَآئِفَةٌ﴾ في سورة النساء [الآية: ٨١]، وإن كان ليس من أصلِ حمزةَ إدغامُ مثلِه. وقرأ الباقون بإظهار جميعِ ذلك.
ومفعولُ «الصَّافَّات» و «الزَّاجراتِ» غيرُ مرادٍ؛ إذ المعنى: الفاعلات لذلك. وأعرب أبو البقاء «صَفَّاً» مَفْعولاً به على أنه قد يَقَعُ على المصفوفِ.
289
قلت: وهذا ضعيفٌ. وقيل: هو مرادٌ. والمعنى: والصافاتِ أنفسَها وهم الملائكةُ أو المجاهدون أو المُصَلُّون، أو الصافَّاتِ أجنحتَها وهي الطيرُ، كقوله: ﴿والطير صَآفَّاتٍ﴾ [النور: ٤١]، والزاجراتِ السحابَ أو العُصاةَ إنْ أُريد بهم العلماءُ. والزَّجْرُ: الدَّفْعُ بقوةٍ وهو قوةُ التصويتِ. وأنشد:
٣٧٨٩ - زَجْرَ أَبي عُرْوَةَ السِّباعَ إذا أشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم
وزَجَرْتُ الإِبِلَ والغنمَ: إذا فَزِعَتْ مِنْ صوتِك. وأمَّا «والتاليات» فَيجوز أَنْ يكونَ «ذِكْراً» مفعولَه. والمرادُ بالذِّكْر: القرآنُ وغيرُه مِنْ تسبيحٍ وتحميدٍ. ويجوز أَنْ يكونَ «ذِكْراً» مصدراً أيضاً مِنْ معنى التاليات. وهذا أوفقُ لِما قبلَه. قال الزمخشري: «الفاءُ في» فالزَّاجراتِ «» فالتالياتِ «: إمَّا أَنْ تدلَّ على ترتُّبِ معانيها في الوجودِ كقولِه:
٣٧٩٠ - أيا لَهْفَ زَيَّابةَ للحارثِ الصَّا بحِ فالغانِمِ فالآيِبِ
كأنه قال: الذي صَبَحَ فغَنِمَ فآبَ، وإمَّا على ترتُّبهما في التفاوتِ من بعضِ الوجوه، كقوله: خُذِ الأفضلَ فالأكملَ، واعمل الأحسنَ فالأجملَ، وإمَّا على ترتُّبِ موصوفاتِها في ذلك كقولك:»
رَحِمَ اللَّهُ المَحَلِّقين فالمقصِّرين «فأمَّا هنا فإنْ وحَّدْتَ الموصوفَ كانت للدلالةِ على ترتُّبِ الصفات في التفاضُلِ. فإذا كان الموحَّدُ الملائكةَ فيكون الفضلُ للصفِّ ثم للزَّجْرِ ثم للتلاوةِ، وإمَّا على
290
العكس. وإنْ ثَلَّثْتَ الموصوفَ فترتَّبَ في الفضل، فتكون الصافَّاتُ ذواتَ فضلٍ، والزاجراتُ أفضلَ، والتالياتُ أَبْهَرَ فضلاً، أو على العكس» يعني بالعكس في الموضعين أنك ترتقي من أفضلَ إلى فاضلٍ إلى مَفْضولٍ، أو يُبْدَأُ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل.
والواوُ في هذه للقسمِ، والجوابُ/ قولُه: ﴿إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ﴾. وقد عَرَفْتَ الكلامَ في الواوِ الثانيةِ والثالثةِ: هل هي للقسمِ أو للعطف؟
291
قوله: ﴿رَّبُّ السماوات﴾ : يجوز أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأن يكون بدلاً مِنْ «لَواحدٌ»، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر. وجَمْعُ المشارقِ والمغارِبِ باعتبارِ جميع السنة، فإنَّ للشمسِ ثلاثَمئةٍ وستين مشرقاً، وثلاثَمئة وستين مَغْرباً. وأمَّا قولُه: «المَشْرِقَيْن والمغربين» فباعتبار الصيف والشتاء.
قوله: ﴿بِزِينَةٍ الكواكب﴾ : قرأ أبو بكر بتنوين «زينة» ونصب «الكواكب» وفيه وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ الزينةُ مصدراً، وفاعلُه محذوفٌ، تقديره: بأنْ زَيَّنَ اللَّهُ الكواكبَ، في كونِها مضيئةً حَسَنةً في أنفسها. والثاني: أنَّ الزينةَ اسمٌ لِما يُزان به كاللِّيْقَةِ: اسمٌ لِما تُلاقُ به الدَّواةُ، فتكون «الكواكبُ» على هذا منصوبةً بإضمارِ «أَعْني»، أو تكون بدلاً مِنْ سماء الدنيا بدلَ اشتمالٍ أي: كواكبها، أو من محل «بزينة».
وحمزةُ وحفصٌ كذلك، إلاَّ أنهما خَفَضا الكواكب على أنْ يُرادَ بزينة: ما يُزان به، والكواكب بدلٌ أو بيانٌ للزينة.
291
والباقون بإضافةِ «زينة» إلى «الكواكب». وهي تحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تكونَ إضافةَ أعمَّ إلى أخصَّ فتكونَ للبيان نحو: ثوبُ خَزّ. الثاني: أنها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه أي: بأن زَيَّنَتِ الكواكبُ السماءَ بضوئِها. والثالث: أنه مضافٌ لمفعولِه أي: بأَنْ زَيَّنها اللَّهُ بأَنْ جَعَلها مشرِقةً مضيئةً في نفسِها.
وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها، ورفعِ الكواكب. فإنْ جَعَلْتَها مصدراً ارتفع «الكواكب» به، وإنْ جَعَلْتَها اسماً لِما يُزان به فعلى هذا ترتفع «الكواكبُ» بإضمار مبتدأ أي: هي الكواكبُ، وهي في قوة البدلِ. ومنع الفراءُ إعمالَ المصدرِ المنوَّن. وزعمَ أنه لم يُسْمَعْ. وهو غلَطٌ لقولِه تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ﴾ [البلد: ١٤] كما سيأتي إن شاء الله.
292
قوله: ﴿وَحِفْظاً﴾ : منصوبٌ على المصدر بإضمارِ فعلٍ أي: حَفِظْناها حِفْظاً، وإمَّا على المفعولِ مِنْ أجله على زيادة الواوِ. والعاملُ فيه «زيَّنَّا»، أو على أَنْ يكونَ العاملُ مقدراً أي: لِحفْظِها زَيَّنَّاها، أو على الحَمْلِ على المعنى المتقدم أي: إنَّا خَلَقْنا السماءَ الدنيا زينةً وحِفظاً. و «من كلِّ» متعلقٌ ب «حِفْظاً» إنْ لم يكنْ مصدراً مؤكِّداً، وبالمحذوفِ إنْ جُعِل مصدراً مؤكداً. ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل «حِفْظاً».
قوله: ﴿لاَّ يَسَّمَّعُونَ﴾ : قرأ الأخَوان وحفصٌ بتشديد
292
السين والميم. والأصل: يَتَسَمَّعون فأدغم. والباقون بالتخفيف فيهما. واختار أبو عبيد الأُوْلى وقال: «لو كان مخففاً لم يتعَدَّ ب» إلى «. وأُجيب عنه: بأنَّ معنى الكلامِ: لا يُصْغُون إلى الملأ. وقال مكي:» لأنه جرى مَجْرى مُطاوِعِه وهو يتَسَمَّعُون، فكما كان تَسَمَّع يتعدَّى ب «إلى» تَعَدَّى سَمِع ب «إلى» وفَعِلْتُ وافتعلْتُ في التعدِّي سواءٌ، فَتَسَمَّع مطاوع سمعَ، واستمع أيضاً مطاوع سَمِع فتعدَّى سَمِعَ تعدِّيَ مطاوعِه «.
وهذه الجملةُ منقطعةٌ عَمَّا قبلها، ولا يجوزُ فيها أَنْ تكونَ صفةً لشيطان على المعنى؛ إذ يصير التقدير: مِنْ كلِّ شيطانٍ ماردٍ غيرِ سامعٍ أو مستمعٍ. وهو فاسدٌ. ولا يجوزُ أيضاً أَنْ تكونَ جواباً لسؤال سائلِ: لِمَ تُحْفَظُ من الشياطين؟ إذ يَفْسُد معنى ذلك. وقال بعضهم: أصلُ الكلامِ: لئلا يَسْمَعوا، فَحُذِفت اللامُ، وأَنْ، فارتفع الفعلُ. وفيه تَعَسُّفٌ. وقد وَهِم أبو البقاء فجوَّزَ أَنْ تكون صفةً، وأنْ تكونَ حالاً، وأنْ تكونَ مستأنفةً، فالأولان ظاهرا الفسادِ، والثالثُ إن عنى به الاستئنافَ البيانيَّ فهو فاسدٌ أيضاً، وإنْ أرادَ الانقطاعَ على ما قَدَّمْتُه فهو صحيحٌ.
293
قوله: ﴿دُحُوراً﴾ : العامَّةُ على ضم الدال. وفيه أوجهٌ، المفعولُ له، أي: لأجلِ الطَّرْد. الثاني: أنه مصدرٌ ل «يُقْذَفُون» أي: يُدْحَرون دُحوراً أو يُقْذَفُون قَذْفاً. فالتجوُّزُ: إمَّا في الأول، وإمَّا في الثاني. الثالث: أنه مصدرٌ لمقدرٍ أي: يُدْحَرون دُحوراً. الرابع: أنه في موضع الحال أي ذَوي
293
دُحورٍ أو مَدْحورين. وقيل: هو جمعُ داحِر نحو: قاعِد وقُعود. فيكون حالاً بنفسه من غيرِ تأويلٍ. ورُوِي عن أبي عمرٍو أنه قرأ «ويَقْذِفُون» مبنياً لفاعل.
وقرأ علي والسلمي وابن أبي عبلة «دَحورا» بفتح الدال، وفيها وجهان، أحدهما: أنها صفةٌ لمصدرٍ مقدرٍ، أي: قذفاً دَحُورا، وهو كالصَّبور والشَّكور. والثاني: أنه مصدرٌ كالقَبول والوَلوع. وقد تقدَّم أنه محصورٌ في أُلَيْفاظ.
294
قوله: ﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنه مرفوعُ/ المحلِّ بدلاً مِنْ ضميرِ «لا يَسَّمَّعون» وهو أحسنُ؛ لأنه غيرُ موجَب. والثاني: أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء. والمعنى: أنَّ الشياطينَ لا يَسمعون الملائكةَ إلاَّ مَنْ خَطِف. قلت: ويجوز أَنْ تكون «مَنْ» شرطيةً، وجوابُها «فَأَتْبَعَه»، أو موصولةً وخبرُها «فَأَتْبَعَه» وهو استثناءٌ منقطعٌ. وقد نَصُّوا على أنَّ مثلَ هذه الجملةِ تكونُ استثناءً منقطعاً كقوله: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ﴾ [الغاشية: ٢٢ - ٢٣]. والخَطْفَةُ مصدرٌ معرفٌ بأل الجنسية أو العهدية.
وقرأ العامَّةُ «خَطِفَ» بفتح الخاء وكسرِ الطاءِ مخففةً. وقتادة والحسن بكسرهما وتشديد الطاء، وهي لغةُ تميمِ بنِ مُرّ وبكرِ بن وائل. وعنهما أيضاً وعن عيسى بفتح الخاء وكسر الطاء مشددةً. وعن الحسن أيضاً خَطِفَ كالعامَّة. وأصل القراءَتَيْن: اخْتَطَفَ، فلمَّا أُريد الإِدغامُ سَكَنت التاءُ وقبلها الخاءُ ساكنةً،
294
فكُسِرت الخاءُ لالتقاءِ الساكنين، ثم كُسِرت الطاءُ إتْباعاً لحركةِ الخاء. وهذه واضحةٌ. وأمَّا الثانية فمُشْكِلَةٌ جداً؛ لأنَّ كَسْرَ الطاء إنما كان لكسرِ الخاء وهو مفقودٌ. وقد وُجِّه على التوهُّم. وذلك أنهم لَمَّا أرادوا الإِدغام نقلوا حركة التاء إلى الخاء ففُتِحَتْ وهم يتوهَّمون أنها مكسورةٌ لالتقاءِ الساكنين كما تقدَّم تقريرُه، فأتبعوا الطاءَ لحركةِ الخاءِ المتوهَّمة. وإذا كانوا قد فَعَلوا ذلك في مقتضياتِ الإِعرابِ فَلأَنْ يَفْعلوه في غيرِه أَوْلَى. وبالجملة فهو تعليلُ شذوذٍ.
وقرأ ابن عباس «خَطِفَ» بكسر الخاء والطاء خفيفةً، وهو إتْباعٌ كقولِهم: نِعِمَ بكسر النون والعين. وقُرئ «فاتَّبَعَه» بالتشديد.
295
قوله: ﴿أَم مَّنْ خَلَقْنَآ﴾ : العامَّةُ على تشديدِ الميم، الأصلُ: أم مَنْ وهي أم المتصلةُ، عُطِفَتُ «مَنْ» على «هم». وقرأ الأعمش بتخفيفها، وهو استفهامٌ ثانٍ. فالهمزةُ للاستفهام أيضاً و «مَنْ» مبتدأ، وخبره محذوفٌ أي: ألذين خَلَقْناهم أشدُّ؟ فهما جملتان مستقلتان وغَلَّبَ مَنْ يَعْقل على غيره فلذلك أتى ب «مَنْ». ولازِبٌ ولازِمٌ بمعنىً. وقد قُرئ «لازم».
قوله: ﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾ : قرأ الأخَوان بضمِّ التاء، والباقون بفتحها. فالفتحُ ظاهرٌ. وهو ضميرُ الرسولِ أو كلِّ مَنْ يَصِحُّ منه ذلك. وأمَّا الضمُّ فعلى صَرْفِه للمخاطب أي: قُلْ يا محمدُ بل عَجِبْتُ أنا، أو على
295
إسنادِه للباري تعالى على ما يَليقُ به، وقد تقدَّم تحريرُ هذا في البقرة، وما وَرَدَ منه في الكتاب والسنَّة. وعن شُرَيْحٍ أنه أنكرها، وقال: «إنَّ الله لا يَعْجَبُ» فبلغَتْ إبراهيمَ النخعي فقال: «إن شريحاً كان مُعْجَباً برأيه، قرأها مَنْ هو أعلمُ منه» يعني عبد الله بن مسعود.
قوله: «ويَسْخَرون» يجوزُ أَنْ يكونَ استئنافاً وهو الأظهرُ، وأن يكونَ حالاً. وقرأ جناح بن حبيش «ذُكِروا» مخففاً.
296
وقرأ جناح بن حبيش " ذُكِروا " مخففاً.
قوله :﴿ أَوَ آبَآؤُنَا ﴾ : قرأ ابن عامر وقالون بسكونِ الواوِ على أنَّها " أو " العاطفةُ المقتضيةُ للشكِّ. والباقون بفتحِها على أنها همزةُ استفهامٍ دخلَتْ على واوِ العطفِ. وهذا الخلافُ جارٍ أيضاً في الواقعة. وقد تقدَّم مثلُ هذا في الأعراف في قولِه :﴿ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى ﴾ [ الأعراف : ٩٨ ] فمَنْ فتح الواوَ جاز " في آباؤنا " وجهان، أحدهما : أَنْ يكونَ معطوفاً على مَحَلِّ " إنَّ " واسمِها. والثاني : أَنْ يكونَ معطوفاً على الضمير المستترِ في " لَمَبْعوثون " واستغنى بالفصلِ بهمزةِ الاستفهامِ. ومَنْ سَكَّنها تعيَّن فيه الأولُ دون الثاني على قولِ الجمهور لعَدَمِ الفاصل.
وقد أوضح هذا الزمخشريُّ حيث قال :" آباؤنا " معطوفٌ على محل " إنَّ " واسمِها، أو على الضميرِ في " مَبْعوثون ". والذي جَوَّز العطفَ عليه الفصلُ بهمزةِ الاستفهام ". قال الشيخُ : أمَّا قولُه :" معطوفٌ على محلِّ إنَّ واسمها " فمذهبُ سيبويه خلافُه ؛ فإنَّ قولَك " إن زيداً قائمٌ وعمروٌ " " عمرٌو " فيه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ. وأمَّا قولُه :" أو على الضميرِ في " مبعوثون " إلى آخره فلا يجوزُ أيضاً لأنَّ همزةَ الاستفهامِ لا تدخلُ إلاَّ على الجملِ لا على المفرد ؛ لأنه إذا عُطِف/ على المفردِ كان الفعلُ عاملاً في المفرد بوساطة حرفِ العطفِ، وهمزةُ الاستفهام لا يَعْمَلُ ما قبلها فيما بعدها. فقوله :" أو آباؤنا " مبتدأٌ محذوفُ الخَبرِ، تقديرُه : أو آباؤنا مبعوثون، يَدُلُّ عليه ما قبله. فإذا قلتَ :" أقام زيدٌ أو عمرٌو " فعمرٌو مبتدأ محذوفُ الخبرِ لِما ذكرنا ".
قلت : أمَّا الردُّ الأولُ فلا يَلْزَمُ ؛ لأنه لا يلتزمُ مذهبَ سيبويه. وأمَّا الثاني فإنَّ الهمزةَ مؤكِّدة للأولى فهي داخلةٌ في الحقيقةِ على الجملةِ، إلاَّ أنه فَصَلَ بين الهمزتين ب " إنَّ " واسمها وخبرها. يَدُلُّ على هذا ما قاله هو في سورةِ الواقعة، فإنه قال :" دَخَلَتْ همزَةُ الاستفهامِ على حَرْفِ العطفِ. فإنْ قلت : كيف حَسُنَ العطفُ على المضمر " لَمبعوثون " من غيرِ تأكيدٍ ب " نحن " ؟ قلتُ : حَسُنَ للفاصلِ الذي هو الهمزةُ كما حَسُنَ في قولِه :
﴿ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ﴾ [ الأنعام : ١٤٨ ] لفَصْلِ المؤكِّدة للنفي ". انتهى. فلم يَذْكُرْ هنا غيرَ هذا الوجهِ، وتشبيهَه بقوله : لفَصْلِ المؤكِّدةِ للنفي، لأنَّ " لا " مؤكدةٌ للنفي المتقدِّم ب " ما ". إلاَّ أنَّ هذا مُشْكِلٌ : بأنَّ الحرفَ إذا كُرِّر للتوكيد لم يُعَدْ في الأمر العام إلاَّ بإعادة ما اتصل به أولاً أو بضميرِه. وقد مضى القولُ فيه. وتحصَّل في رفع " آباؤنا " ثلاثةُ أوجهٍ : العطفُ على محلِّ " إن " واسمِها، العطفُ على الضمير المستكنِّ في " لَمبعوثون "، الرفعُ على الابتداء، والخبرُ مضمرٌ. والعامل في " إذا " محذوفٌ أي : أنُبْعَثُ إذا مِتْنا. هذا إذا جَعَلْتَها ظرفاً غيرَ متضمنٍ لمعنى الشرطِ. فإنْ جَعَلْتَها شرطيةً كان جوابُها عاملاً فيها أي : أإذا مِتْنا بُعِثْنا أو حُشِرْنا.
وقُرِئ " إذا " دونَ استفهامٍ. وقد مضى القولُ فيه في الرعد.
قوله: ﴿أَوَ آبَآؤُنَا﴾ : قرأ ابن عامر وقالون بسكونِ الواوِ على أنَّها «أو» العاطفةُ المقتضيةُ للشكِّ. والباقون بفتحِها على أنها همزةُ استفهامٍ دخلَتْ على واوِ العطفِ. وهذا الخلافُ جارٍ أيضاً في الواقعة. وقد تقدَّم مثلُ هذا في الأعراف في قولِه: ﴿أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى﴾ [الأعراف: ٩٨] فمَنْ فتح الواوَ جاز «في آباؤنا» وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ معطوفاً على مَحَلِّ «إنَّ» واسمِها. والثاني: أَنْ يكونَ معطوفاً على الضمير المستترِ في «لَمَبْعوثون» واستغنى بالفصلِ بهمزةِ الاستفهامِ. ومَنْ سَكَّنها تعيَّن فيه الأولُ دون الثاني على قولِ الجمهور لعَدَمِ الفاصل.
296
وقد أوضح هذا الزمخشريُّ حيث قال: «آباؤنا» معطوفٌ على محل «إنَّ» واسمِها، أو على الضميرِ في «مَبْعوثون». والذي جَوَّز العطفَ عليه الفصلُ بهمزةِ الاستفهام «. قال الشيخُ: أمَّا قولُه:» معطوفٌ على محلِّ إنَّ واسمها «فمذهبُ سيبويه خلافُه؛ فإنَّ قولَك» إن زيداً قائمٌ وعمروٌ «» عمرٌو «فيه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ. وأمَّا قولُه:» أو علىلضميرِ في «مبعوثون» إلى آخره فلا يجوزُ أيضاً لأنَّ همزةَ الاستفهامِ لا تدخلُ إلاَّ على الجملِ لا على المفرد؛ لأنه إذا عُطِف/ على المفردِ كان الفعلُ عاملاً في المفرد بوساطة حرفِ العطفِ، وهمزةُ الاستفهام لا يَعْمَلُ ما قبلها فيما بعدها. فقوله: «أو آباؤنا» مبتدأٌ محذوفُ الخَبرِ، تقديرُه: أو آباؤنا مبعوثون، يَدُلُّ عليه ما قبله. فإذا قلتَ: «أقام زيدٌ أو عمرٌو» فعمرٌو مبتدأ محذوفُ الخبرِ لِما ذكرنا «.
قلت: أمَّا الردُّ الأولُ فلا يَلْزَمُ؛ لأنه لا يلتزمُ مذهبَ سيبويه. وأمَّا الثاني فإنَّ الهمزةَ مؤكِّدة للأولى فهي داخلةٌ في الحقيقةِ على الجملةِ، إلاَّ أنه فَصَلَ بين الهمزتين ب»
إنَّ «واسمها وخبرها. يَدُلُّ على هذا ما قاله هو في سورةِ الواقعة، فإنه قال:» دَخَلَتْ همزَةُ الاستفهامِ على حَرْفِ العطفِ. فإنْ قلت: كيف حَسُنَ العطفُ على المضمر «لَمبعوثون» من غيرِ تأكيدٍ ب «نحن» ؟ قلتُ: حَسُنَ للفاصلِ الذي هو الهمزةُ كما حَسُنَ في قولِه: ﴿مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا﴾ [الأنعام: ١٤٨] لفَصْلِ المؤكِّدة للنفي «. انتهى. فلم يَذْكُرْ هنا غيرَ هذا الوجهِ،
297
وتشبيهَه بقوله: لفَصْلِ المؤكِّدةِ للنفي، لأنَّ» لا «مؤكدةٌ للنفي المتقدِّم ب» ما «. إلاَّ أنَّ هذا مُشْكِلٌ: بأنَّ الحرفَ إذا كُرِّر للتوكيد لم يُعَدْ في الأمر العام إلاَّ بإعادة ما اتصل به أولاً أو بضميرِه. وقد مضى القولُ فيه. وتحصَّل في رفع» آباؤنا «ثلاثةُ أوجهٍ: العطفُ على محلِّ» إن «واسمِها، العطفُ على الضمير المستكنِّ في» لَمبعوثون «، الرفعُ على الابتداء، والخبرُ مضمرٌ. والعامل في» إذا «محذوفٌ أي: أنُبْعَثُ إذا مِتْنا. هذا إذا جَعَلْتَها ظرفاً غيرَ متضمنٍ لمعنى الشرطِ. فإنْ جَعَلْتَها شرطيةً كان جوابُها عاملاً فيها أي: أإذا مِتْنا بُعِثْنا أو حُشِرْنا.
وقُرِئ»
إذا «دونَ استفهامٍ. وقد مضى القولُ فيه في الرعد.
298
قوله: ﴿وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ﴾ : جملةٌ حاليةٌ. العاملُ فيها الجملةُ القائمةُ مَقامَها «نعم» أي: تُبْعَثون وأنتم صاغرون أذلاَّءُ. قال الشيخ: «وقرأ ابنُ وثاب» نَعِمْ «بكسر العين. قلت: وقد تقدم في الأعراف أنَّ الكسائيَّ قرأها كذلك حيث وقعَتْ، وكلامُه هنا مُوْهِمٌ أنَّ ابنَ وثَّاب منفردٌ بها.
قوله: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ﴾ : قال الزمخشري: «فإنما هي جوابُ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه: إذا كان ذلك فما هي إلاَّ زَجْرَةٌ واحدةٌ». قال الشيخ: «وكثيراً ما تُضْمَرُ جملةُ الشرطِ قبل فاءٍ إذا ساغ تقديرُه، ولا ضرورةَ
298
تَدْعُوْ إلى ذلك، ولا يُحْذَف الشرطُ ويبقى جوابُه، إلاَّ إذا انجزم الفعلُ في الذي يُطْلَقُ عليه أنه جوابٌ للأمرِ والنهي وما ذُكِر معهما. أمَّا ابتداءً فلا يجوزُ حَذْفُه».
قوله: «هي» ضميرُ البعثةِ المدلولِ عليها بالسِّياق لَمَّا كانَتْ بعثتُهم ناشئةً عن الزَّجْرَةِ جُعِلَتْ إياها مجازاً. وقال الزمخشري: «هي مبهمةٌ يُوَضِّحها خبرُها». قال الشيخ: «وكثيراً ما يقول هو وابنُ مالك: إن الضميرَ يُفَسِّره خبرُه».
299
ووقف أبو حاتمٍ على «وَيْلَنا» وجعل ما بعده من قول الباري تعالى. وبعضُهم جَعَلَ ﴿هذا يَوْمُ الدين﴾ مِنْ كلامِ الكفرة فيقف عليه. وقوله: ﴿هذا يَوْمُ الفصل﴾ مِنْ قولِ الباري تعالى. وقيل: الجميعُ مِنْ كلامهم، وعلى هذا فيكونُ قولُه «تُكَذِّبون» : إمَّا التفاتاً من التكلم إلى الخطاب، وإمَّا مخاطبةُ بعضِهم لبعض.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٠:ووقف أبو حاتمٍ على " وَيْلَنا " وجعل ما بعده من قول الباري تعالى. وبعضُهم جَعَلَ ﴿ هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾ مِنْ كلامِ الكفرة فيقف عليه. وقوله :﴿ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ ﴾ مِنْ قولِ الباري تعالى. وقيل : الجميعُ مِنْ كلامهم، وعلى هذا فيكونُ قولُه " تُكَذِّبون " : إمَّا التفاتاً من التكلم إلى الخطاب، وإمَّا مخاطبةُ بعضِهم لبعض.
قوله: ﴿وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ : العامَّةُ على نصبِه، وفيه وجهان، أحدهما: العطفُ على الموصول. والثاني: أنه مفعولٌ معه. قال أبو البقاء: «وهو في المعنى أقوى». قلت: إنما قال في المعنى لأنَّه في الصناعةِ ضعيفٌ؛ لأنه أمكن العطفُ فلا يُعْدَلُ عنه. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بالرفعِ عَطْفاً على ضمير «ظَلموا» وهو ضعيفٌ لعدمِ العاملِ. وقوله: ﴿وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ لا يجوزُ فيه هذا لأنه لا يُنْسَبُ إليهم ظلمٌ، إنْ لم يُرَدْ بهم الشياطينُ: وإن أُريد بهم ذلك جاز فيه الرفعُ أيضاً على ما تقدَّم.
قوله: ﴿إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ : العامَّةُ على الكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلة. وقُرِئ بفتحها على حَذْفِ لامِ العلةِ أي: قِفُوهم لأجل سؤال اللَّهِ إياهم.
قوله: ﴿مَا لَكُمْ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ منقطعاً عَمَّا قبله والمسؤولُ عنه غيرُ مذكورٍ، ولذلك قَدَّره بعضُهم: عن أعمالهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ هو المسؤولَ عنه في المعنى، فيكونَ معلِّقاً للسؤال. و «لا تَناصَرون» جملةٌ حاليةٌ. العاملُ فيها الاستقرارُ في «لكم». وقيل: بل هي على حَذْفِ حرفِ الجرِّ، و «أنْ» الناصبةِ، فلمَّا حُذِفَتُ «أن» ارتفع الفعلُ. والأصل: في أنْ لا، وتقدَّمَتْ قراءةُ البزي «لا تَّناصرون» بتشديد التاء. وقُرِئ «تَتَناصرون» على الأصلِ.
قوله: ﴿عَنِ اليمين﴾ : حالٌ من فاعل «تَأْتُوننا». واليمينُ: إمَّا الجارحَةُ عَبَّر بها عن القوةِ، وإمَّا الحَلْفُ؛ لأنَّ المتعاقِدَيْن بالحَلْفِ يَمْسَح كلٌّ منهما يمينَ الآخرِ، فالتقديرُ على الأول: تأتوننا أقوياءَ، وعلى الثاني مُقْسِمينَ حالفين. /
قوله: ﴿إِنَّا لَذَآئِقُونَ﴾ : الظاهر أنه مِنْ إخبارِ الكَفَرةِ المتبوعين أو الجنِّ بأنَّهم ذائِقون العذابَ. ولا عدُولَ في هذا الكلامِ. وقال الزمخشري: «فَلَزِمَنا قولُ ربِّنا إنَّا لَذائقون. يعني وعيدَ اللَّهِ بأنَّا لذائقون
300
لِعذابِه لا مَحالةَ. ولو حكى الوعيدَ كما هو لقال: إنَّكم لذائقونَ، ولكنه عَدَلَ به إلى لفظِ المتكلم؛ لأنهم متكلِّمون بذلك عن أنفسِهم. ونحوُه قولُ القائلِ:
٣٧٩٠ - ب لقد عَلِمَتْ هوازِنُ قَلَّ مالي .......................
ولو حكى قولَها لقال: قَلَّ مالُك. ومنه قولُ المُحَلِّفِ للحالِف: احْلِفْ» لأَخْرُجَنَّ «و» لَتَخْرُجَنَّ «الهمزةُ لحكايةِ الحالفِ، والتاءُ لإِقبالِ المحلِّف على المحلَّف».
301
قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ : أي: يومَ إذ يَسْألوا ويُراجِعوا الكلامَ فيما بينهم.
قوله: ﴿وَصَدَّقَ المرسلين﴾ : أي: صَدَّقهم محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقرأ عبد الله «صَدَقَ» خفيفةَ الدالِ. «المُرْسلون» فاعلاً به أي: صَدَقوا فيما جاؤوا به مِنْ بشارتهم به عليه السلام.
قوله: ﴿لَذَآئِقُو العذاب﴾ : العامة على حذْفِ النونِ
301
والجرِّ. وقرأ بعضُهم بإثباتِها، والنصبِ، وهو الأصلُ. وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم وأبو السَّمَّال في روايةٍ بحذف النون والنصبِ، أَجْرى النون مُجْرى التنوين في حَذْفِها لالتقاء الساكنين كقولِه: ﴿أَحَدٌ الله الصمد﴾ [الإخلاص: ١-٢] [وقولِه] :
٣٧٩١ -........................ ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلا
وقال أبو البقاء: «وقُرِئ شاذَّاً بالنصب، وهو سهوٌ من قارئه لأنَّ اسمَ الفاعلِ تُحْذَفُ منه النونُ ويُنْصَبُ إذا كان فيه الألفُ واللامُ». قلت: وليس بسَهْوٍ لِما ذكَرْتُه لك. وقرأ أبو السَّمَّال أيضاً «لَذائِقٌ» بالإِفراد والتنوين، «العذابَ» نصباً. تخريجُه على حَذْفِ اسمِ جمعٍ هذه صفتُه، أي: إنكم لَفريقٌ أو لجمعٌ ذائِقٌ؛ ليتطابقَ الاسمُ والخبرُ في الجمعيَّةِ.
302
وقوله: ﴿إِلاَّ مَا كُنْتُمْ﴾ : أي: إلاَّ جزاءَ ما كنتم.
قوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله﴾ : استثناءٌ منقطعٌ.
وقوله: ﴿أُوْلَئِكَ﴾ : إلى آخره بيانٌ لحالِهم.
قوله: ﴿فَوَاكِهُ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «رزق»، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: ذلك الرزقُ فواكهُ.
وقوله: ﴿على سُرُرٍ﴾ : العامَّةُ على ضمِّ الراءِ. وأبو السَّمَّال بفتحها، وهي لغةُ بعضِ كلبٍ وتميمٍ: يفتحون عينَ فُعُل إذا كان اسماً مضاعَفاً. وأمَّا الصفةُ نحو «ذُلُل» ففيها خلافٌ: الصحيحُ أنه لا يجوزُ؛ لأنَّ السَّماعَ وَرَدَ في الجوامد دونَ الصفات.
قوله: «في جنات» يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «مُكْرَمون»، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأنْ يكونَ حالاً، وكذلك «على سُرُرٍ». و «متقابلين» حالٌ. ويجوزُ أَنْ يتعلَّق «على سرر» بمتقابلين، و «يُطافُ» صفةٌ ل «مُكْرَمُون»، أو حالٌ من الضمير في «متقابلين»، أو من الضميرِ في أحدِ الجارَّيْن إذا جعلناه حالاً.
والكأسُ من الزُّجاج ما دام فيها خمرٌ أو نبيذٌ وإلاَّ فهي قَدَحٌ. وقد تُطْلق الكأسُ على الخمرِ نفسِها، وهو مجازٌ سائغٌ. وأُنْشِدَ:
٣٧٩٢ - وكأسٍ شَرِبْتُ على لَذَّةٍ وأخرى تَداوَيْتُ منها بها
و «من مَعين» صفةٌ ل «كأس» وتقدَّم الكلامُ على «معين».
قوله: ﴿بَيْضَآءَ﴾ : صفةٌ ل «كَأْس». وقال الشيخ: «صفةٌ ل كأس أو للخمرِ». قلت: لم تُذْكَرِ الخمرُ، اللَّهم إلاَّ أَنْ يَعْنيَ بالمَعين الخمرَ وهو بعيدٌ جداً.
303
وقرأ عبد الله «صفراءَ» وهي مخالِفَةٌ للسَّواد، إلاَّ أنه قد جاء وَصْفُها بهذا اللونِ. وأنشد لبعض المُوَلَّدين:
٣٧٩٣ - صَفْراءُ لا تَنْزِلُ الأحزانُ ساحتَها لو مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتْه سَرَّاءُ
و «لَذَّةٍ» صفةٌ أيضاً. وُصِفَتْ بالمصدرِ مبالغةً أو على حَذْفِ المضاف أي: ذات لذةٍ، أو على تأنيثِ لَذّ بمعنى لذيذ فيكون وصفاً على فَعْل كصَعْبٍ. يُقال: لَذَّ الشيءُ يَلَذُّ لَذَّاً فهو لَذيذ ولَذٌّ. وأنشد:
٣٧٩٤ - بحديثِها اللَّذِّ الذي لو كَلَّمَتْ أُسْدَ الفَلاةِ به أَتَيْنَ سِراعا
وقال آخر:
٣٧٩٥ - ولَذٍّ كطَعْمِ الصَّرْخَدِيِّ تَرَكْتُه بأَرضِ العِدا مِنْ خَشْيَةِ الحَدَثانِ
واللذيذُ: كلُّ شيءٍ مُسْتَطابٍ. وأُنْشِد:
304
٣٧٩٦ - تَلَذُّ لِطَعْمِه وتَخالُ فيه إذا نَبَّهْتَها بعدَ المَنامِ
و «للشاربين» صفةٌ ل «لَذَّةٍ».
305
و: ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ﴾ : صفةٌ أيضاً. وبَطَل عَمَلُ «لا» وتكرَّرت لتقدُّمِ خبرِها. وقد تقدَّم أولَ البقرةِ فائدةُ تقديمَ مثلِ هذا الخبرِ ورَدُّ الشيخِ له والبحثُ معه، فعليك بالالتفات إليه.
قوله: «يُنْزَفُون» قرأ الأخَوان «يُنْزِفون» هنا وفي الواقعة بضمِّ الياءِ وكسرِ الزاي. وافقهما عاصمٌ على ما في الواقعة فقط. والباقون بضم الياءِ وفتحِ الزاي. وابنُ أبي إسحاق بالفتح والكسر. وطلحةُ بالفتح والضمِّ. فالقراءةُ الأولى مِنْ أَنْزَفَ الرجلُ إذا ذهب عقلُه من السُّكْرِ فهو نَزِيْفٌ ومَنْزُوْف. وكان قياسُه مُنْزَف ك مُكْرَم. ونَزَفَ الرجلُ الخمرةَ فأَنْزَف هو، ثلاثيُّه متعدٍ، ورباعيُّه بالهمزةِ قاصرٌ، وهو نحو: كَبَيْتُه فأَكَبَّ وقَشَعَتِ الريحُ السَّحابَ فأَقْشَع/ أي: دخلا في الكَبِّ والقَشْع. وقال الأسودُ:
٣٧٩٧ - لَعَمْري لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ لبِئْسَ النَّدامى أنتمُ آلَ أَبْجرا
ويقال: أَنْزَفَ أيضاً أي: نَفِدَ شرابُه. وأمَّا الثانيةُ فمِنْ نُزِف الرجلُ ثلاثياً
305
مبنياً للمفعول بمعنى: سَكِر وذَهَبَ عَقْلُه أيضاً. ويجوزُ أَنْ تكونَ هذه القراءةُ مِنْ أُنْزِف أيضاً بالمعنى المتقدِّم. وقيل: هو مِنْ قولِهم: نَزَفْتُ الرَّكِيَّةَ أي: نَزَحْتُ ماءَها. والمعنى: أنهم لا تَذْهَبُ خمورُهم بل هي باقيةٌ أبداً. وضَمَّنَ «يُنْزَفُوْن» معنى يَصُدُّون عنها بسبب النزيف. وأمّا القراءتان الأخيرتان فيقال: نَزِف الرجلُ ونَزُف بالكسر والضم بمعنى: ذَهَبَ عَقْلُه بالسُّكْر.
والغَوْلُ: كلُّ ما اغتالك أي: أَهْلَكك. ومنه الغُوْلُ بالضم: شيءٌ تَوَهَّمَتْه العربُ. ولها فيه أشعارٌ كالعَنْقاءِ يُقال: غالني كذا. ومنه الغِيْلَة في القَتْل والرَّضاع قال:
٣٧٩٨ - مَضَى أَوَّلُونا ناعِمِيْنَ بعيشِهِمْ جميعاً وغالَتْني بمكةَ غُوْلُ
وقال آخر:
وما زالَتِ الخَمْرُ تَغْتالنا وتَذْهَبُ بالأولِ الأولِ
فالغَوْل اسمٌ عامٌّ لجميع الأَذَى.
306
و: ﴿قَاصِرَاتُ الطرف﴾ : يجوز أَنْ يكونَ من باب الصفةِ المشبهةِ أي: قاصراتٌ أطرافُهنَّ كمُنْطَلِق اللسانِ، وأَنْ يكونَ من باب اسم الفاعل على أصلِه. فعلى الأولِ المضافُ إليه مرفوعُ المحلِّ، وعلى
306
الثاني منصوبُه أي: قَصُرَتْ أطرافُهُنّ على أزواجِهِنَّ وهو مدحٌ عظيمٌ. قال امرؤ القيس:
٣٨٠٠ - من القاصِراتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا
والعِيْنُ: جمع عَيْناء وهي الواسعةُ العينِ. والذَّكَرُ أَعْيَنُ، والبَيْضُ جمعُ بَيْضَة وهو معروفٌ. والمرادُ به هنا بَيْضُ النَّعام. والمَكْنون المصُون مِنْ كَنَنْتُه أي: جَعَلْتُه في كِنّ. والعربُ تُشَبِّه المرأةَ بها في لَوْنِها، وهو بياضٌ مُشْرِبٌ بعضَ صُفْرَةٍ. والعربُ تُحبُّه. قال امرؤ القيس:
٣٨٠١ - وبَيْضَةِ خِدْرٍ لا يُرام خِباؤُها تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بها غيرَ مُعْجَلٍ
كبِكْرِ مُقاناةِ البَياضِ بصُفْرَةٍ غَذاها نَمِيْرُ الماءِ غيرَ المُحَلَّلِ
وقال ذو الرمة:
٣٨٠٢ - بيضاءُ في بَرَحٍ صَفْراءُ في غَنَجٍ كأنها فِضَّةٌ قد مَسَّها ذَهَبُ
وقال بعضُهم: إنما شُبِّهَتِ المرأةُ بها في أجزائِها، فإنَّ البيضةَ من أيِّ جهةٍ أتيتَها كانَتْ في رأي العينِ مُشْبهةً للأخرى وهو في غاية المدح. وقد
307
لَحَظ هذا بعضُ الشعراءِ حيث قال:
٣٨٠٣ - تناسَبَتِ الأعضاءُ فيها فلا تَرَى بهنَّ اختلافاً بل أَتَيْنَ على قَدْرِ
ويُجْمع البَيْضُ على بُيُوْض قال:
308
والبَيْضُ جمعُ بَيْضَة وهو معروفٌ. والمرادُ به هنا بَيْضُ النَّعام. والمَكْنون المصُون مِنْ كَنَنْتُه أي : جَعَلْتُه في كِنّ. والعربُ تُشَبِّه المرأةَ بها في لَوْنِها، وهو بياضٌ مُشْرِبٌ بعضَ صُفْرَةٍ. والعربُ تُحبُّه. قال امرؤ القيس :
٣٨٠٤ - بتَيْهاءَ قفرٍ والمَطِيُّ كأنَّها قطا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخاً بُيوضُها
٣٨٠١ وبَيْضَةِ خِدْرٍ لا يُرام خِباؤُها تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بها غيرَ مُعْجَلٍ
كبِكْرِ مُقاناةِ البَياضِ بصُفْرَةٍ غَذاها نَمِيْرُ الماءِ غيرَ المُحَلَّلِ
وقال ذو الرمة :
٣٨٠٢ بيضاءُ في بَرَحٍ صَفْراءُ في غَنَجٍ كأنها فِضَّةٌ قد مَسَّها ذَهَبُ
وقال بعضُهم : إنما شُبِّهَتِ المرأةُ بها في أجزائِها، فإنَّ البيضةَ من أيِّ جهةٍ أتيتَها كانَتْ في رأي العينِ مُشْبهةً للأخرى وهو في غاية المدح. وقد لَحَظ هذا بعضُ الشعراءِ حيث قال :
٣٨٠٣ تناسَبَتِ الأعضاءُ فيها فلا تَرَى بهنَّ اختلافاً بل أَتَيْنَ على قَدْرِ
ويُجْمع البَيْضُ على بُيُوْض قال :
٣٨٠٤ بتَيْهاءَ قفرٍ والمَطِيُّ كأنَّها قطا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخاً بُيوضُها
قوله: ﴿يَتَسَآءَلُونَ﴾ : حالٌ من فاعل «أَقْبَلَ» و «أقبل» معطوفٌ على «يُطاف» أي: يَشْربون فيتحدثون. وكذا حالُ الشَّرْبِ حيث يَجْلسون كما قال:
٣٨٠٥ - وما بَقِيَتْ من اللَّذَّاتِ إلاَّ محادثة الكِرامِ على المُدامِ
وأتى بقوله: «فأقْبَلَ» ماضياً لتحقُّقِ وقوعِه كقولِه: ﴿ونادى أَصْحَابُ الجنة﴾ [الأعراف: ٤٤] ﴿ونادى أَصْحَابُ النار﴾ [الأعراف: ٥٠].
قوله: ﴿لَمِنَ المصدقين﴾ : العامَّةُ على تخفيفِ الصادِ من التصديق أي: لَمِنَ المُصَدِّقين بلقاءِ الله. وقُرِئ بتشديدِها من الصَّدَقة.
وقرأ العامَّةُ «مُطَّلِعُوْنَ» بتشديد الطاءِ مفتوحةً وبفتح النونِ. «فاطَّلَع» ماضياً مبنياً للفاعل، افْتَعَلَ من الطُّلوع.
وقرأ ابنُ عباس في آخرين - ويُرْوَى عن أبي عمروٍ - بسكونِ الطاءِ وفتح النون «فأُطْلِعَ» بقطعِ همزةٍ مضمومةٍ وكسرِ اللامِ ماضياً مبنياً للمفعول. و «مُطْلِعُوْنَ» على هذه القراءةِ يحتمل أَنْ يكونَ قاصراً أي: مُقْبِلون مِنْ قولِك: أَطْلَعَ علينا فلانٌ أي: أَقْبَلَ، وأَنْ يكونَ متعدياً، ومفعولُه محذوفٌ أي: أصحابَكم.
وقرأ أبو البرهسم وعَمَّار بن أبي عمار «مُطْلِعُوْنِ» خفيفةَ الطاء مكسورةَ النونِ، «فَأُطْلِعَ» مبنياً للمفعول. وقد رَدَّ الناسُ - أبو حاتم وغيرُه - هذه القراءةَ من حيث الجمعُ بين النونِ وضميرِ المتكلم؛ إذ كان قياسُها مُطْلِعيَّ، والأصل: مُطْلِعُوْي، فأُبْدِل وأُدْغِمَ نحو: جاء مُسْلِميَّ العاقلون، وقوله عليه السلام «أوَ مُخْرِجِيَّ هم» وقد وَجَّهها ابنُ جني على أنَّه أُجْرِيَ فيها اسمُ الفاعل مُجْرى المضارع، يعني في إثباتِ النونِ فيه مع الضميرِ. وأَنْشَدَ الطبريُّ على ذلك:
309
٣٨٠٦ - وما أَدْري وظَنِّي كلَّ ظنِّ أمُسْلِمُنِي إلى قومي شُراح
وإليه نحا الزمخشريُّ قال: «أو شَبَّه اسمَ الفاعلِ في ذلك بالمضارعِ لتآخي بينِهما كأنَّه قال:» يُطْلِعُونِ «. وهو ضعيفٌ لا يقع إلا في شِعْرٍ. وذكر فيه توجيهاً آخر فقال:» أراد مُطْلِعونَ إياي فوضع المتصلَ موضعَ المنفصلِ، كقوله:
٣٨٠٧ - هم الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُوْنَه ........................
ورَدَّه الشيخ: بأنَّ هذا ليس مِنْ مواضِع المنفصلِ حتى يَدَّعِيَ أن المتصلَ وَقَعَ موقِعَه. لا يجوز: «هندُ زيدٌ ضاربٌ إياها، ولا زيدٌ ضارِبٌ إياي» قلت: إنما لم يَجُزْ ما ذَكَرَ؛ لأنه إذا قُدِرَ على المتصلِ لم يُعْدَلْ إلى المنفصلِ. ولقائلٍ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّمُ أنه يُقْدَرُ على المتصلِ حالةَ ثبوتِ النونِ والتنوينِ قبل الضميرِ، بل يصيرُ الموضعُ موضعَ الضميرِ المنفصلِ؛ فيَصِحُّ ما قاله الزمخشريُّ. وللنحاةِ في اسمِ الفاعلِ المنونِ قبل ياءِ المتكلمِ نحوَ البيتِ المتقدمِ، وقولِ الآخر:
310
وقول الآخر:
٣٨٠٨ - فهَلْ فتىً مِنْ سَراةِ القَوْمِ يَحْمِلُني وليس حامِلَني إلاَّ ابنُ حَمَّالِ
٣٨٠٩ - وليس بمُعْيِيْنِيْ وفي الناسِ مُمْتِعٌ صَديقٌ إذا أعْيا عليَّ صديقُ
قولان، أحدُهما: أنَّه تنوينٌ، وأنه شَذَّ تنوينُه مع الضميرِ، وإنْ قلنا: إن الضمير بعده في محلِّ نصبٍ. والثاني: أنه ليس تنويناً، وإنما هو نونُ وقايةٍ. واستدلَّ ابنُ مالكٍ على هذا بقولِه:
وليس بمُعْيِيْني............... .............................
وبقوله أيضاً:
٣٨١٠ - وليس المُوافِيني لِيُرْفَدَ خائباً فإنَّ له أَضْعافَ ما كان أمَّلا
ووَجْهُ الدلالةِ من الأول: أنَّه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذفَ الياءَ قبلَه؛ لأنه منقوصٌ منونٌ، والمنقوص المنونُ تُحذف ياؤه رفعاً وجَرَّاً لالتقاء الساكِنَيْن.
ووجهُها من الثاني: أنَّ الألفَ واللامَ لا تُجامِعُ النونَ والذي يُرَجِّح
311
القولَ الأولَ ثبوتُ النونِ في قوله: «والآمِرُوْنَه» وفي قولِه:
٣٨١١ - ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مَحْتَضِرُونَه جميعاً وأَيْدي المُعْتَفِيْنَ رواهِقُهْ
فإنَّ النونَ قائمةٌ مقامَ التنوينِ تثنيةً وجمعاً على حَدِّها. وقال أبو البقاء: «ويُقْرأ بكسرِ النونِ، وهو بعيدٌ جداً؛ لأنَّ النونَ إنْ كانت للوقايةِ فلا تَلْحَقُ الأسماءَ، وإنْ كانَتْ نونَ الجمعِ فلا تَثْبُتُ في الإِضافةِ». قلت: وهذا الترديدُ صحيحٌ لولا ما تقدَّم من الجوابِ عنه مع تَكَلُّفٍ فيه، وخروجٍ عن القواعد، ولولا خَوْفُ السَّآمةِ لاسْتَقْصَيْتُ مذاهبَ النحاةِ في هذه المسألة.
وقُرِئ «مُطَّلِعُوْن» بالتشديد كالعامَّة، «فأَطَّلِعَ» مضارعاً منصوباً بإضمار «أَنْ» على جوابِ الاستفهامِ. وقُرِئ «مُطْلِعون» بالتخفيف «فَأَطْلَعَ» مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً منصوباً على ما تقدَّم. يُقال: طَلَع علينا فلانٌ وأَطْلع، كأكْرم، واطَّلَعَ بالتشديد بمعنًى واحد.
وأمَّا قراءةُ مَنْ بنى الفعلَ للمفعولِ في القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مصدرُ الفعلِ أي: أُطْلِعَ الإِطلاعُ. الثاني: الجارُّ المقدرُ. الثالث - وهو الصحيح - أنه ضميرُ القائلِ لأصحابِه ما قاله؛ لأنه يُقال: طَلَعَ زيدٌ وأَطْلعه غيرُه، فالهمزَةُ فيه للتعدية. وأمَّا الوجهان الأوَّلان فذهب إليهما أبو الفضل الرازيُّ في «لوامحه» فقال: «طَلَعَ واطَّلع إذا بدا وظَهَر، وأَطْلَع إطلاعاً إذا جاء وأَقْبَلَ. ومعنى ذلك: هل أنتم مُقْبلون فأُقْبل. وإنما أُقيم المصدرُ
312
فيه مُقام الفاعلِ بتقدير: فأُطْلِعَ الإِطلاعُ، أو بتقدير حرفِ الجر المحذوف أي: أُطْلِعَ به؛ لأن أَطْلَعَ لازم كما أنَّ أَقْبَلَ كذلك».
وقد رَدَّ الشيخُ عليه هذين الوجهين فقال: «قد ذَكرْنا أنَّ أَطْلَعَ بالهمزةِ مُعَدَّى مِنْ طَلَعَ اللازمِ. وأمَّا قولُه:» أو حرف الجرِّ المحذوف أي: أُطْلِع به «فهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ مفعولَ ما لم يُسَمّ فاعلُه لا يجوزُ حَذْفُه لأنه نائبٌ عنه، فكما أنَّ الفاعلَ لا يجوزُ حَذْفُه دونَ عامِله فكذلك هذا. لو قلت:» زيدٌ ممرورٌ أو مغضوبٌ «تريد: به أو عليه لم يَجُزْ». قلت: أبو الفضل لا يَدَّعِي أنَّ النائبَ عن الفاعل محذوفٌ، وإنما قال: بتقدير حرفِ الجرِّ المحذوفِ. ومعنى ذلك: أنه لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ اتِّساعاً انقلبَ الضميرُ مرفوعاً فاستتر في الفعلِ، كما يُدَّعى ذلك في حَذْفِ عائد الموصولِ المجرورِ عند عَدَمِ شروطِ الحذفِ/ ويُسَمَّى الحذفَ على التدريج.
313
قوله: ﴿فَرَآهُ﴾ : عطفٌ على «فاطَّلَعَ». وسواءُ الجحيمِ وَسَطُها. وأحسنُ ما قيل فيه ما قاله ابنُ عباس: سُمِّي بذلك لاستواءِ المسافةِ منه إلى الجوانبِ. وعن عيسى بن عمر أنه قال لأبي عبيدةَ: «كنت أكْتُبُ حتى ينقطعَ سَوائي».
قوله: ﴿تالله﴾ : قَسَمٌ فيه [معنى] تعجُّبٍ، و «إنْ» مخففةٌ أو نافية، واللام فارقةٌ أو بمعنى «إلاَّ»، وعلى التقديرين فهي جوابُ القسمِ أعني إنْ وما في حَيِّزها.
قوله: ﴿بِمَيِّتِينَ﴾ : قرأ زيد بن علي «بمائِتين» وهما مثلُ: ضيِّق وضائق. وقد تقدَّم.
وقوله: «أفما» فيه الخلافُ المشهورُ: فقدَّره الزمخشري: أنحن مُخَلَّدون مُنَعَّمون فما نحن بميِّتين. وغيرُه يجعلُ الهمزةَ متقدمةً على الفاءِ.
قوله: ﴿إِلاَّ مَوْتَتَنَا﴾ : منصوبٌ على المصدر. والعاملُ فيه الوصفُ قبلَه، ويكون استثناءً مفرَّغاً. وقيل: هو استثناءٌ منقطعٌ، أي: لكنْ الموتةُ الأولى كانت لنا في الدنيا. وهذا قريبٌ في المعنى مِنْ قولِه تعالى: ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى﴾ [الدخان: ٥٦] وفيها بَحْثٌ حَسَنٌ وهناك إنْ شاء اللَّهُ يأتي تحقيقُه.
وقوله: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ﴾ : إلى قوله: «العامِلون» يحتملُ أنْ يكونَ مِنْ كلامِ القائلِ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الباري تعالى.
قوله: ﴿نُّزُلاً﴾ : تمييزٌ ل «خَيْرٌ»، والخيريَّةُ بالنسبة إلى ما اختاره الكفارُ على غيرِه. والزَّقُّوم: شجرةٌ مَسْمومة يَخْرج لها لبنٌ، متى مَسَّ جسمَ أحدٍ تَوَرَّم فماتَ. والتَزَقُّمُ البَلْعُ بشِدة وجُهْدٍ للأشياءِ الكريهة. وقولُ أبي جهلٍ - وهو من العرب العَرْباء - «لا نعرفُ الزَّقُّومَ إلاَّ التمرَ بالزُّبْدِ» من العِناد والكذب البَحْتِ.
قوله: ﴿رُءُوسُ الشياطين﴾ : فيه وجهان، أحدهما:
314
أنه حقيقةٌ، وأنَّ رؤوسَ الشياطينِ شجرٌ بعينِه بناحيةِ اليمن يُسَمَّى «الأسْتَن» وقد ذكره النابغةُ:
٣٨١٢ - تَحِيْدُ عن أَسْتَنٍ سُوْدٍ أسافِلُها مثلَ الإِماءِ الغوادي تَحْمِل الحُزَمَا
وهو شجرُ مُرٌّ منكَرُ الصورةِ، سَمَّتْه العربُ بذلك تشبيهاً برؤوس الشياطين في القُبْح ثم صار أصلاً يُشَبَّه به. وقيل: الشياطين صِنْفٌ من الحَيَّاتِ، ولهنَّ أعْراف. قال:
٣٨١٣ - عُجَيِّزٌ تَحْلِفُ حينَ أَحْلِفُ كمثلِ شيطان الحَماطِ أَعْرَفُ
وقيل: وهو شجرٌ يقال له الصَّوْمُ، ومنه قولُ ساعدةَ بن جُؤَيَّة:
٣٨١٤ - مُوَكَّلٌ بشُدُوْفِ الصَّوْم يَرْقُبها من المَغَارِبِ مَخْطوفُ الحَشَا زَرِمُ
فعلى هذا قد خُوْطِبَ العربُ بما تَعْرِفُه، وهذه الشجرةُ موجودةٌ فالكلامُ حقيقةٌ.
315
والثاني: أنَّه من بابِ التَّخْييل والتمثيل. وذلك أنَّ كلَّ ما يُسْتَنْكَرُ ويُسْتَقْبَحُ في الطِّباعِ والصورةِ يُشَبَّه بما يتخيَّله الوهمُ، وإن لم يَرَه. والشياطين وإن كانوا موجودين غيرَ مَرْئِيَّين للعرب، إلاَّ أنه خاطبهم بما أَلِفوه من الاستعارات التخييلية، كقوله:
٣٨١٥ -........................... ومَسْنُوْنَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيابِ أَغْوالِ
ولم يَرَ أنيابَها، بل ليسَتْ موجودة البتةَ.
316
قوله: ﴿لَشَوْباً﴾ : العامَّةُ على فتح الشين، وهو مصدرٌ على أصلِه. وقيل: يُرادُ به اسمُ المفعولِ، ويَدُلُّ له قراءةُ شيبانَ النحويِّ «لَشُوباً» بالضمِّ. قال الزجاج: «المفتوحُ مصدرٌ والمضومُ اسمٌ بمعنى المَشُوْب» كالنَّقض بمعنى المنقوض. وعَطَفَ ب «ثمَّ» لأحدِ معنيين: إمَّا لأنه يُؤَخِّر ما يظنُّونه يَرْوِيْهم مِنْ عَطَشهم زيادةً في عذابهم، فلذلك أتى ب «ثم» المقتضيةِ للتراخي، وإمَّا لأنَّ العادة تقضي بتراخي الشُّرْبِ عن الأكلِ، فعَمِل على ذلك المِنْوالِ. وأمَّا مَلْءُ البطنِ فيَعْقُبُ الأكلَ، فلذلك عَطَفَ على ما قبلَه بالفاءِ و «مِنْ حميمٍ» صفةٌ ل «شَوْباً». والشَّوْبُ: الخَلْطُ والمَزْجُ ومنه: شابَ اللبنَ يَشُوبُه أي: خَلَطه ومَزَجَه.
قوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله﴾ :/استثناءٌ مِن المُنْذَرين استثناءً منقطعاً لأنه وعيدٌ، وهم لم يَدْخُلوا في هذا الوعيدِ.
قوله: ﴿فَلَنِعْمَ﴾ : جوابٌ لقسَمٍ مقدَّرٍ أي: فواللَّهِ. ومثلُه قوله:
٣٨١٦ - لَعَمْري لَنِعْمَ السَّيِّدانِ وُجِدْتُما ............................
والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ أي: نحن.
قوله: ﴿سَلاَمٌ على نُوحٍ﴾ : مبتدأٌ وخبرٌ، وفيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه مُفَسِّرٌ ل «تَرَكْنا». والثاني: أنه مُفَسِّرٌ لمفعولِه أي: تَرَكْنا عليه ثناءً وهو هذا الكلامُ. وقيل: ثَمَّ قولٌ مقدَّرٌ أي: فقُلْنا سلامٌ. وقيل: ضَمَّن معنى ترَكْنا معنى قلنا. وقيل: سَلَّط «تَرَكْنا» على ما بعده. قال الزمخشري: «وتركنا عليه في الآخِرين هذه الكلمةَ وهي: ﴿سَلاَمٌ على نُوحٍ﴾، بمعنى: يُسَلِّمون عليه تسليماً، ويَدْعُوْن له، وهو من الكلام المحكيِّ كقولك: قرأْتُ سورةَ أَنْزَلْناها» وهذا الذي قالهُ قولُ الكوفيين: جعلوا الجملةَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً ب «تَرَكْنا»، لا أنه ضُمِّنَ معنى القول بل هو على معناه بخلافِ الوجهِ قبلَه، وهو أيضاً مِنْ أقوالِهم. وقرأ عبد الله «سَلاماً» وهو مفعولٌ به ب «تَرَكْنا»
317
و «كذلك» نعتُ مصدرٍ، أو حالٌ مِنْ ضميرِه كما تقدَّم تحريرُه غيرَ مرَّة.
318
قوله: ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ﴾ : الضميرُ فيه وجهان، أظهرُهما: أنَّه يعودُ على نوح أي: مِمَّن كان يُشايِعُه أي: يتابِعُه على دينِه والتصلُّبِ في أمر الله. والثاني: أنه يعودُ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. والشِّيْعَةُ قد تُطْلَق على المتقدمِ كقوله:
٣٨١٧ - وما ليَ إلاَّ آلَ أحمدَ شِيْعَةٌ وما لِيَ إلاَّ مَشْعَبَ الحقِّ مَشْعَبُ
فجعلَ آلَ أحمدَ - وهم متقدِّمون عليه وهو تابعٌ لهم - شِيعةً له قاله الفراء. والمعروفُ أن الشِّيْعَةَ تكون في المتأخِّر.
قوله: ﴿إِذْ جَآءَ﴾ : في العاملِ فيه وجهان، أحدهما: اذكُرْ مقدَّراً، وهو المتعارَفُ. والثاني: قال الزمخشري: «ما في الشِّيْعَةِ مِنْ معنى المشايَعَة يعني: وإنَّ مِمَّنْ شايَعَه على دينِه وتقواه حين جاء رَبَّه». قال الشيخ: «لا يجوز؛ لأنَّ فيه الفَصْلَ بين العاملِ والمعمولِ بأجنبي وهو» لإِبْراهيمَ «لأنه أجنبيٌّ مِنْ شِيْعته، ومِنْ» إذ «. وزاد المنعَ أَنْ قَدَّره» مِمَّنْ شايَعَه حين جاء لإِبراهيم « [لأنه قَدَّرَ مِمَّنْ شايَعَه، فجعل العاملَ قبلَه صلةً لموصول
318
وفَصَلَ بينه وبين» إذ «بأجنبي وهو لإِبراهيم] وأيضاً فلامُ الابتداءِ تمنعُ أَنْ يعملَ ما قبلَها فيما بعدها. لو قلت:» إن ضارباً لقادمٌ علينا زيداً «تقديره: إنَّ ضارباً زيداً لقادِمٌ علينا لم يَجُزْ».
319
قوله: ﴿إِذْ قَالَ﴾ : بدلٌ مِنْ «إذ» الأولى أو ظرفٌ ل «سليم» أي: سَلِمَ عليه في وقتِ قولِه كَيْتَ وكَيْتَ، أو ظرفٌ ل «جاء» ذكره أبو البقاء، وليس بواضحٍ. وتقدَّم نظيرُ ما بعده.
قوله: ﴿أَإِفْكاً﴾ : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه مفعولٌ من أجله أي: أتُريدون آلهةً دونَ اللَّهِ إفكاً، ف «آلهةً» مفعولٌ به و «دونَ» ظرفٌ ل «تُرِيْدون»، وقُدِّمَتْ معمولاتُ الفعلِ اهتماماً بها، وحَسَّنه كونُ العاملِ رأسَ فاصلةٍ، وقَدَّمَ المفعولَ مِنْ أجله على المفعول به اهتماماً به لأنه مُكافِحٌ لهم بأنَّهم على إفْكٍ وباطِلٍ. وبهذا الوجهِ بدأ الزمخشري. الثاني: أَنْ يكونَ مفعولاً به ب «تُريدون»، ويكون «آلهةً» بدلاً منه جعلها نفسَ الإِفكِ مبالغةً فأبْدَلها منه وفَسَّره بها، ولم يَذْكر ابنُ عَطية غيرَه. الثالث: أنَّه حالٌ مِنْ فاعل «تُريدون» أي: أتُريدون آلهةً آفِكين أو ذوي إفْك. وإليه نحا الزمخشري. قال الشيخ: «وجَعْلُ المصدرِ حالاً لا يَطَّرِدُ إلاَّ مع» أمَّا «نحو: أمَّا عِلْماً فعالِمٌ».
قوله: ﴿فَرَاغَ﴾ : أي: مال في خُفْيَةٍ. وأصلُه مِنْ رَوَغان الثعلبِ، وهو تَرَدُّدُه وعَدَمُ ثبوتِه بمكانٍ.
و «ضَرْباً» مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي: فراغ عليهم ضارِباً أو مصدرٌ لفعلٍ، ذلك الفعلُ/ حالٌ تقديرُه: فراغَ يَضْرِب ضَرْباً، أو ضَمَّن «راغَ» معنى يَضْرِبُ، وهو بعيدٌ. و «باليمينِ» متعلِّقٌ ب «ضَرْباً» إن لم نجعَلْه مؤكِّداً وإلاَّ فبعامِلِه. واليمينُ: يجوزُ أن يُرادَ بها إحدى اليدين وهو الظاهرُ، وأنُ يُرادَ بها القوةُ، فالباءُ على هذا للحالِ أي: مُلْتبساً بالقوةِ، وأَنْ يُراد بها الحَلْفُ وفاءً بقولِه: ﴿وتالله لأَكِيدَنَّ﴾ [الأنبياء: ٥٧]. والباءُ على هذا للسببِ. وعَدَّى «راغ» الثاني ب «على» لَمَّا كان مع الضَرْبِ المُسْتَوْلي عليهم مِنْ فَوقِهم إلى أسفلِهم بخلافِ الأولِ فإنه مع توبيخٍ لهم، وأتى بضميرِ العقلاء في قولِه «عليهم» جَرْياً على ظنِّ عَبَدَتها أنها كالعقلاءِ.
قوله: ﴿يَزِفُّونَ﴾ : حالٌ مِنْ فاعلِ «أَقْبَلوا»، و «إليه» يجوزُ تَعَلُّقُه بما قبلَه أو بما بعده. وقرأ حمزةُ «يُزِفُّون» بضم الياء مِنْ أَزَفَّ وله معنيان، أحدهما: أنَّه مِنْ أَزَفَّ يُزِفُّ أي: دخل في الزَّفيفِ وهو الإِسراعُ، أو زِفافِ العَروسِ وهو المَشْيُ على هيئتِه؛ لأنَّ القومَ كانوا في طمأنينةٍ مِنْ أَمْرِهم، كذا قيل هذا الثاني وليس بشيءٍ؛ إذ المعنى: أنهم لَمَّا سمعوا بذلك بادروا مُسْرِعين، فالهمزة على هذا ليسَتْ للتعديةِ. والثاني: أنه مِنْ أَزَفَّ بعيرَه أي: حَمَله على الزَّفِيْفِ وهو الإِسراعُ أو على الزِّفافِ، وقد تقدَّم ما فيه. وباقي السبعةِ بفتحِ الياءِ مِنْ زَفَّ الظليمُ يَزِفُّ أي: عَدا بسُرْعة. وأصلُ الزَّفيفِ للنَّعام.
320
وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك وابن أبي عبلة «يَزِفُون» مِنْ وَزَفَ يَزِفُ أي: أَسْرَعَ. إلاَّ أنَّ الكسائيَّ والفراء قالا: لا نعرفُها بمعنى زَفَّ، وقد عَرَفَها غيرُهما. قال مجاهد - وهو بعضُ مَنْ قرأ بها -: «الوزيف: النَّسَلان».
وقُرِئ «يُزَفُّون» مبنيَّاً للمفعول و «يَزْفُوْن» ك يَرْمُون مِنْ زَفاه بمعنى حَداه، كأنَّ بعضَهم يَزْفو بعضاً لتسارُعِهم إليه. وبين قولِه: «فأَقْبَلُوا» وقولِه: «فراغ عليهم» جُمَلٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها الفَحْوَى أي: فبلغَهم الخبرُ فرَجَعوا مِنْ عيدِهم، ونحو هذا.
321
قوله: ﴿وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ : في «ما» هذه أربعةُ أوجه، أجودُها: أنها بمعنى الذي أي: وخَلَق الذي تَصْنَعونه، فالعملُ هنا التصويرُ والنحتُ نحو: عَمِل الصائغُ السِّوارَ أي: صاغه. ويُرَجِّح كونَها بمعنى الذي تَقَدُّمُ ما قبلَها فإنَّها بمعنى الذي أي: أتعبُدُوْنَ الذي تَنْحِتُون، واللَّهُ خلقكم وخَلَقَ ذلك الذي تَعْملونه بالنَّحْتِ.
والثاني: أنها مصدريةٌ أي: خَلَقَكم وأعمالَكم. وجعلها الأشعريَّةُ دليلاً على خَلْقِ أفعال العباد لله تعالى، وهو الحقُّ. إلاَّ أَنَّ دليلَ ذلك مِنْ هنا غيرُ قويّ لِما تقدَّم مِنْ ظهورِ كَوْنِها بمعنى الذي. وقال مكي: «يجبُ أَنْ تكونَ» ما «والفعلُ مصدراً جيْءَ به لِيُفيدَ أنَّ اللَّهَ خالقُ الأشياءِ كلِّها». وقال أيضاً: «وهذا أَلْيَقُ لقولِه تعالى: ﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾ [الفلق: ٢] أجمع القراءُ على الإِضافةِ، فدَلَّ على أنه خالقُ الشَّرِّ. وقد فارق عمرو بن عبيد الناسَ فقرأ» مِنْ شرٍّ «بالتنوين ليُثْبِتَ
321
مع الله تعالى خالقاً». وقد استفرضَ الزمخشري هذه المقالةَ هنا بكونِها مصدريةً، وشَنَّع على قائلِها.
والثالث: أنها استفهاميةٌ، وهو استفهامُ توبيخٍ وتحقيرٍ لشأنِها أي: وأيَّ شيءٍ تَعْملونَ؟ والرابع: أنَّها نافيةٌ أي: إنَّ العملَ في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون شيئاً. والجملةُ مِنْ قولِه: «والله خَلَقكم» حالٌ ومعناها حينئذٍ: أتعبدون الأصنام على حالةٍ تُنافي ذلك، وهي أنَّ اللَّهَ خالِقُكم وخالِقُهم جميعاً. ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً.
322
قوله: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ﴾ :«معه» متعلِّقٌ بمحذوفٍ على سبيل البيان كأنَّ قائلاً قال: مع مَنْ بلغ السَّعْيَ؟ فقيل: مع أبيه. ولا يجوزُ تعلُّقُه ب «بَلَغَ» لأنَّه يَقْتضي بلوغَهما معاً حَدَّ السَّعْيِ. ولا يجوز تعلُّقُه بالسَّعْيِ؛ لأنَّ صلةَ المصدرِ لا تتقدَّمُ عليه فتعيَّن ما تقدَّم. قال معناه الزمخشريُّ. ومَنْ يَتَّسِعْ في الظرفِ يُجَوِّزْ تَعَلُّقَه بالسَّعْي.
قوله: «ماذا ترى» يجوزُ أَنْ تكونَ «ماذا» مركبةً مغلَّباً فيها الاستفهامُ فتكونَ منصوبةً ب «تَرَى»، وهي وما بعدها في محلِّ نصب ب «انْظُر» لأنها مُعَلِّقةٌ له، وأنْ تكونَ «ما» استفهاميةً، و «ذا» موصولةً، فتكون مبتدأً وخبراً، والجملةُ معلِّقَةٌ أيضاً، وأَنْ تكونَ «ماذا» بمعنى الذي فتكونَ معمولاً ل «انْظُرْ». وقرأ الأخَوان «تُري» بالضم والكسر. والمفعولان محذوفان، أي: تُريني إياه مِنْ صبرك واحتمالك.
322
وباقي السبعة/ «تَرَى» بفتحتين مِن الرأي. وقرأ الأعمش والضحَّاك «تُرَى» بالضمِّ والفتح بمعنى: ما يُخَيَّلُ إليك ويَسْنَحُ بخاطرك.
وقوله: «ما تُؤْمَرُ» يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» بمعنى الذي، والعائدُ مقدرٌ أي: تُؤْمَرُه، والأصلُ: تُؤْمَرُ به، ولكنَّ حَذْفَ الجارِّ مُطَّرِدٌ، فلم يُحْذَفْ العائدُ إلاَّ وهو منصوبُ المحلِّ، فليس حَذْفُه هنا كحذفِه في قولك: «جاء الذي مَرَرْتُ». وأَنْ تكونَ مصدريةً. قال الزمخشري: «أو أَمْرَك، على إضافةِ المصدرِ للمفعول وتسميةِ المأمورِ به أمراً» يعني بقولِه المفعول أي: الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، إلاَّ أنَّ في تقدير المصدرِ بفعل مبنيّ للمفعولِ خلافاً مَشْهوراً.
323
قوله: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ : في جوابِها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها - وهو الظاهرُ - أنَّه محذوفٌ، أي: نادَتْه الملائكةُ، أو ظهرَ صَبْرُهما أو أَجْزَلْنا لهما أَجْرَهما. وقدَّره بعضُهم: بعد الرؤيا أي: كان ما كان مِمَّا يَنْطِقُ به الحالُ والوصفُ ممَّا لا يُدْرَكُ كُنْهُه. ونقل ابن عطية أنَّ التقديرَ: فلمَّا أَسْلَما أَسْلَما وَتلَّه، قال: كقوله:
٣٨١٨ - فلمَّا أَجَزْنا ساحةً الحَيِّ................. ...........................
أي: فلمَّا أَجَزْنا أَجَزْنا وانتحى، ويُعْزَى هذا لسبيويه وشيخِه الخليلِ. وفيه نظرٌ: من حيثُ اتِّحادُ الفعلَيْنِ الجارِيَيْنِ مَجْرى الشرط والجواب. إلاَّ أَنْ يُقال:
323
جَعَلَ التغايرُ في الآية بالعطفِ على الفعل، وفي البيت يعمل الثاني في «ساحة» وبالعطف عليه أيضاً. والظاهر أنَّ مثلَ هذا لا يكفي في التغاير.
الثاني: أنه «وتَلَّه للجبين» والواوُ زائدةٌ وهو قولُ الكوفيين والأخفشِ. والثالث: أنه «وناديناه» والواوُ زائدةٌ أيضاً.
وقرأ علي وعبد الله وابن عباس «سَلَّما». وقُرئ «اسْتَسْلَما».
و «تَلَّه» أي: صَرَعَه وأسقطه على شِقِّه. وقيل: هو الرميُ بقوةٍ، وأصله: مِنْ رَمَى به على التلِّ وهو المكانُ المرتفع، أو من التليل وهو العنُقُ أي: رماه على عُنُقِه، ثم قيل لكل إسقاطٍ، وإن لم يكنْ على تَلّ ولا على عُنُق. والمِتَلُّ: الرُّمْحُ الذي يُتَلُّ به. والجبينُ: ما اكْتَنَفَ الجبهةَ مِنْ هنا، ومِنْ هنا وشَذَّ جمعُه على أَجْبُن. وقياسُه في القلَّةِ أَجْبِنَة كأَرْغِفَة، وفي الكثرة: جُبُن وجُبْنان كرَغيف ورُغْفان ورُغُفُ.
324
قوله: ﴿نَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ : نصبٌ على الحالِ، وهي حال مقدرة. قال الشيخ: «إن كان الذَّبيحُ إسحاقَ فيظهر كونُها حالاً مقدرةً، وإنْ كان إسماعيلُ هو الذبيحَ، وكانت هذه البشارةُ بِشارةً بولادة إسحاقَ، فقد جَعَلَ الزمخشريُّ ذلك مَحَلَّ سؤالٍ قال:» فإنْ قلتَ: فرقٌ بين
324
هذا وبين قولِه: ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣] : وذلك أنَّ المَدْخولَ موجودٌ مع وجودِ الدخول، والخلودُ غيرُ موجودٍ معهما فقدَّرْت: مُقَدِّرين الخلودَ فكان مستقيماً، وليس كذلك المبشَّرُ به، فإنه معدومٌ وقتَ وجودِ البشارةِ، وعَدَمُ المبشَّرُ به أوجَبَ عدمَ حالِه؛ لأن الحالَ حِلْيَةٌ لا تقومُ إلاَّ بالمُحَلَّى، وهذا المبشَّرُ به الذي هو إسحاقُ حين وُجد لم تُوْجَدْ النبوَّةُ أيضاً بوجودِه بل تراخَتْ عنه مدةً طويلةً، فكيف يُجْعل «نبيَّاً» حالاً مقدرةً، والحالُ صفةٌ للفاعلِ والمفعولِ عند وجودِ الفعل منه أو به؟ فالخلودُ وإنْ لم يكنْ صفتَهم عند دخولِ الجنة فتَقدِّرُها صفتَهم؛ لأنَّ المعنى: مقدِّرين الخلودَ وليس كذلك النبوةُ، فإنَّه لا سبيلَ إلى أَنْ تكونَ موجودةً أو مقدرةً وقتَ وجودِ البِشارة بإسحاقَ لعدم إسحاق؟ قلت: هذا سؤالٌ دقيقٌ المَسْلَكِ. والذي يَحِلُّ الإِشكالَ: أنه لا بُدَّ مِنْ تقديرِ مُضافٍ محذوف وذلك قولُه: وبَشَّرْناه بوجودِ إسحاقَ نبياً أي: بأَنْ يُوْجِد مَقْدرةَ نبوَّتِه، فالعاملُ في الحال الوجودُ/ لا فعلُ البشارة وبذلك يَرْجِعُ نظيرَ قولِه تعالى: ﴿فادخلوها خَالِدِينَ﴾ [الزمر: ٧٣]. انتهى. وهو كلامٌ حَسَنٌ.
قوله: «من الصالحين» يجوز أَنْ يكونَ صفةً ل «نَبِيَّاً»، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير في «نبيَّاً» فتكونَ حالاً متداخلةً. ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ثانية. قال الزمخشري: «وُرُوْدُها على سبيلِ الثناءِ والتقريظ؛ لأنَّ كلّ نبيّ لا بُدَّ أَنْ يكونَ من الصالحين».
325
قوله: ﴿وَنَصَرْنَاهُمْ﴾ : الضميرُ عائدٌ على موسى
325
وهارونَ وقومِهما. وقيل: عائدٌ على الاثنين بلفظِ الجمع تعظيماً كقولِه:
٣٨١٩ - فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ .........................
﴿ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ [الطلاق: ١].
قوله: «فكانوا هم» يجوز في «هم» أَنْ يكون تأكيداً، وأن يكونَ بدلاً، وأَنْ يكونَ فَصْلاً. وهو الأظهرُ.
326
قوله: ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ﴾ : العامَّةُ على همزةٍ مكسورةٍ، همزةِ قطع. وابنُ ذكوان بوَصْلِها، ولم يَنْقُلْها عنه الشيخُ بل نقلها عن جماعةٍ غيرِه. ووجهُ القراءتَيْن أنه اسمٌ أعجميٌّ تلاعَبَتْ به العربُ فقطعَتْ همزتَه تارةً، ووَصَلَتْها أخرى وقالوا فيه: إلْياسين كجِبْرائين. وقيل: تحتمل قراءةُ الوصلِ أَنْ يكون اسمُه ياسين ثم دَخَلَتْ عليه أل المعرِّفةُ، كما دَخَلَتْ على ليَسَع وقد تقدَّم. وإلياس هذا قيل: هو ابنُ إلْياسين المذكورِ بعدُ، مِنْ وَلَدِ
326
هارونَ أخي موسى. وقيل: بل إلياس إدريسُ. ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله والأعمش وابن وثاب «وإنَّ إدْريس». وقُرِئ «إدْراس» كإبْرَاهيمَ. وإبراهام. وفي مصحف أُبَيّ وقراءتِه: قوله: «وإن إيْليسَ» بهمزة مكسورة ثم ياءٍ ساكنةٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ثم لامٍ مكسورةٍ، ثم ياءٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ساكنةً، ثم سينٍ مفتوحةٍ.
327
قوله: ﴿إِذْ قَالَ﴾ : ظرفٌ لقولِه «لمن المرسلين».
قوله: ﴿بَعْلاً﴾ : القرَّاءُ على تنوينِه منصوباً، وهو الرَّبُّ بلغة اليمن. سمع ابنُ عباس رجلاً منهم يَنْشُدُ ضالةً فقال آخر: أنا بَعْلُها فقال: اللَّهُ أكبرُ، وتلا الآيةَ. وقيل: هو عَلَمٌ لصنم بعينه، وله قصةٌ في التفسير. وقيل: هو عَلَمٌ لامرأةٍ بعينها أَتَتْهم بضلال فاتَّبعوها، كذا جاء في التفسير. وتأيَّد صاحبُ هذه المقالة بقراءةِ مَنْ قرأ «بَعْلاءَ» بزنة حَمْراء.
قوله: «وتَذَرُوْنَ» يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً على إضمار مبتدأ، وأَنْ يكونَ عطفاً على «تَدْعُون» فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإِنكار.
قوله: ﴿الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ﴾ : قرأ الأخَوان وحفص بنصْبِ الثلاثةِ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ: النصبِ على المدحِ أو البدلِ أو البيانِ إنْ قلنا: إنَّ إضافةَ أَفْعَلَ إضافةٌ مَحْضَةٌ. والباقون بالرفع: إمَّا على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هو اللَّهُ، أو على أنَّ الجلالةَ مبتدأٌ وما بعدَه الخبرُ. رُوِيَ عن
327
حمزةَ أنَّه كان إذا وَصَلَ نَصَبَ، وإذا وَقَفَ رَفَع. وهو حسنٌ جداً، وفيه جَمْعٌ بين الرِّوايَتيْن.
328
قوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله﴾ : استثناءٌ متصلٌ مِنْ فاعلِ «فكذَّبوه» وفيه دلالةٌ على أنَّ في قومِه مَنْ لم يُكَذِّبْه، فلذلك اسْتُثْنُوا. ولا يجوزُ أَنْ يكونوا مُسْتَثْنَيْن مِنْ ضمير «لَمُحْضَرون» لأنه يَلْزَمُ أَنْ يكونوا مَنْدَرجين فيمَنْ كَذَّبَ، لكنهم لم يُحْضَروا لكونِهم عبادَ اللَّهِ المُخْلِصين. وهو بَيِّنُ الفسادِ. لا يُقال: هو مستثنى منه استثناءً منقطعاً؛ لأنه يَصيرُ المعنى: لكنَّ عبادَ اللَّهِ المخلصين من غير هؤلاء لم يُحْضَروا. ولا حاجةَ إلى هذا بوجهٍ، إذ به يَفْسُدُ نَظْمُ الكلامِ.
قوله: ﴿على إِلْ يَاسِينَ﴾ : قرأ نافعٌ وابن عامر ﴿على آلِ يَاسِينَ﴾ بإضافةِ «آل» بمعنى أهل إلى «ياسينَ». والباقون بكسرِ الهمزةِ وسكونِ اللامِ موصولةً ب «ياسين» كأنه جَمَعَ «إلياس» جَمْعَ سلامةٍ. فأمَّا الأُوْلى: فإنَّه أراد بالآل إلياسَ وَلَدَ ياسين كما تقدَّم وأصحابَه. وقيل: المرادُ بياسين هذا إلياسُ المتقدمُ، فيكونُ له اسمان. وآلُه: رَهْطُه وقومُه المؤمنون. وقيل: المرادُ بياسينَ محمدُ بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقيل: هي جمعُ إلياس المتقدمِ. وجُمِعَ باعتبارِ أصحابِه كالمَهالبةِ والأَشاعثةِ في المُهَلَّبِ وبنيه، والأَشعثِ وقومِه، وهو في الأصلِ جمعُ المنسوبين إلى إلياس، والأصلُ إلياسيّ كأشعَريّ. ثم اسْتُثْقِل
328
تضعيفُهما فحُذِفَتْ إحدى ياءَي النسَب/ فلمَّا جُمِعَ سَلامةٍ التقى ساكنان: إحدى الياءَيْن وياءُ الجمعِ، فحُذِفَتْ أولاهما لالتقاءِ السَّاكنين، فصار إلياسين كما ترى. ومثلُه: الأَشْعَرُون والخُبَيْبُون. قال:
٣٨٢٠ - قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِيْ... وقد تقدَّم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند «الأَعْجَمِيْن». إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قد رَدَّ هذا: بأنَّه لو كان على ما ذُكِر لَوَجَب تعريفُه بأل فكان يُقال: على الإِلياسين. قلت: لأنه متى جُمِعَ العَلَمُ جَمْعَ سَلامةٍ أو ثُنِّي لَزِمَتْه الألفُ واللامُ؛ لأنه تَزُوْلُ عَلَميَّتُه فيقال: الزيدان، الزيدون، الزينبات ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم: جُمادَيان وعَمايتان عَلَمَيْ شهرَيْن وجبلَيْن لندورِهما.
وقرأ الحسن وأبو رجاء «على إلياسينَ» بوصلِ الهمزةِ على أنه جَمْعُ إلياس وقومِه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة. وهذه واضحةٌ لوجودِ أل المعرفةِ فيه كالزيدِيْن. وقرأ عبد الله «على إدْراسين» لأنَّه قرأ في الأول «وإنَّ إدْريَس». وقرأ أُبَيٌّ «على إيليسِيْنَ» لأنه قرأ في الأول «وإنَّ إيليسَ» كما حَرَّرْتُه عنه. وهاتان تَدُلاَّن على أن إلياسينَ جَمْعُ إلياس.
329
قوله: ﴿مُّصْبِحِينَ﴾ : حالٌ. وهو مِنْ أَصْبح التامَّة بمعنى داخلين في الصباح. ومنه «إذا سَمِعْتَ بسُرى القَيْنِ فاعلَمْ أنه مُصْبِح»
329
أي: مُقيم في الصباح. وقد تقدَّم ذلك في سورة الروم.
330
قوله: ﴿وباليل﴾ : عطفٌ على الحالِ قبلها أي: ومُلْتبسِيْنَ بالليل.
قوله: ﴿إِذْ أَبَقَ﴾ : ظرفٌ للمرسَلين، أي: هو من المرسلين حتى في هذه الحالة. وأَبَقَ أي: هَرَبَ. يُقال: أَبَقَ العبدُ يَأْبِقُ إباقا فهو آبِقٌ، والجمع أُبَّاق كضُرَّابِ. وفيه لغةٌ ثانية: أَبِقَ بالكسر يَأْبَق بالفتح. ويَأْبِقُ الرجل يُشَبَّه به في الاستتار. وقولُ الشاعر:
٣٨٢١ -........................ قد أُحْكِمَتْ حَكَماتِ القِدِّ والأَبَقا
قيل: هو القِنَّبُ.
قوله: ﴿فَسَاهَمَ﴾ : أي: فغالَبَهم في المساهمة، وهي الاقتراعُ. وأصلُه أَنْ يَخْرُجَ السَّهْمُ على مَنْ غلب.
قوله: ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ : حالٌ. والمليمُ: الذي أتى بما يُلامُ عليه. قال:
330
يقال: ألام فلانٌ أي: فَعَلَ ما يُلامُ عليه. وقُرِئ «مَليم» بفتح الميم مِنْ لامَ يَلُوْمُ، وهي شاذَّةٌ جداً إذ كان قياسها «مَلُوْم» لأنَّها مِنْ ذوات الواوِ كمَقُول ومَصُون. قيل: ولكنْ أُخِذَتْ من لِيْم على كذا مبنياً للمفعول. ومثلُه في ذلك: شُبْتُ الشيءَ فهو مَشِيْب، ودُعِيَ فهو مَدْعِيّ، والقياسُ: مَشُوْب ومَدْعُوّ، لأنَّهما مِنْ يَشُوْبُ ويَدْعُو.
331
قوله: ﴿فِي بَطْنِهِ﴾ : الظاهرُ أنه متعلِّقٌ ب «لَبِثَ» وقيل: حالٌ أي: مستقراً.
قوله: ﴿بالعرآء﴾ : أي: في العَراء نحو: زيد بمكة. والعَراءُ: الأرضُ الواسعةُ التي لا نباتَ بها ولا مَعْلَمَ، اشتقاقاً من العُري وهو عَدَمُ السُّتْرَةِ، سُمِّيَتِ الأرضُ الجَرْداء لعدم اسْتِتارها بشيء. والعُرا بالقصر: الناحيةُ. ومنه اعتراه أي: قَصَدَ عُراه. وأما الممدودُ فهو - كما تقدَّم - الأرضُ الفَيْحاء. قال:
٣٨٢٢ - وكم مِنْ مُليْمٍ لم يُصَبْ بمَلامَةٍ ومُتَّبَعٍ بالذَّنْبِ ليس له ذَنْبٌ
قوله: ﴿مِّن يَقْطِينٍ﴾ : هو يَفْعيل مِنْ قَطَنَ بالمكانِ إذا أقام فيه لا يَبْرَح. قيل: واليَقْطِيْنُ: كلُّ ما لم يكُنْ له ساقٌ مِنْ عُوْدٍ كالقِثَّاء
331
والقَرْعِ والبِطِّيخ. وفي قوله: «شجرةً» ما يَرُدُّ قولَ بعضِهم إن الشجرةَ في كلامهم ما كان لها ساقٌ مِنْ عَوْدٍ، بل الصحيحُ أنها أَعَمُّ. ولذلك بُيِّنَتْ بقولِه: «مِنْ يَقْطِين». وأمَّا قولُه: ﴿والنجم والشجر﴾ [الرحمن: ٦] فلا دليلَ فيه لأنه استعمالُ اللفظِ العامِّ في أحدِ مَدْلولاته. وقيل: بل أَنْبَتَ اللَّهُ اليَقْطِيْنَ الخاصَّ على ساقٍ معجزةً له فجاء على أصلِه/ ولو بَنَيْتَ من الوَعْد مثلَ: يَقْطين لقلت: يَوْعِيْد لا يُقال: تُحذف الواوُ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرٍ ك «يَعِدُ» مضارعَ وَعَد؛ لأنَّ شَرْطَ تلك الياءِ أَنْ تكونَ للمضارعةِ. وهذه مِمَّا يَمْتَحِنُ بها أهلُ التصريفِ بعضَهم بعضاً.
332
قوله: ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾ : في «أو» هذه سبعةُ أوجهٍ قد تقدَّمَتْ بتحقيقِها ودلائلها في أولِ البقرةِ عند قولِه ﴿أَوْ كَصَيِّبٍ﴾ [الآية: ١٩] فعليكَ بالالتفاتِ إليهما ثَمَّةَ: فالشَّكُّ بالنسبةِ إلى المخاطبين، أي: إن الرائي يَشُكُّ عند رؤيتِهم، والإِبهامُ بالنسبةِ إلى أن الله تعالى أَبْهَمَ أمْرَهم، والإِباحةُ أي: إن الناظرَ إليهم يُباح له أن يَحْزِرَهم بهذا القَدْر، أو بهذا القَدْرِ، وكذلك التخييرُ أي: هو مُخَيَّرٌ بين أَنْ يَحْزِرَهم كذا أو كذا، والإِضرابُ ومعنى الواوِ واضحان.
قوله: ﴿فاستفتهم﴾ : قال الزمخشريُّ: «معطوفٌ على مثلِه في أولِ السورة، وإنْ تباعَدَتْ». قال الشيخ: «وإذا كانوا قد عَدُّوا الفصلَ بجملةٍ نحو:» كُلْ لحماً واضْرِب زيداً وخبزاً «من أقبح التركيبِ، فكيف بجملٍ كثيرةٍ وقِصَصٍ متباينةٍ؟» قلت: ولقائلٍ أن يقول: إنَّ الفَصْلَ -
332
وإنْ كَثُرَ بين الجملِ المتعاطفةِ - مغتفرٌ. وأمَّا المثالُ الذي ذكره فمِنْ قبيلِ المفرداتِ. ألا ترى كيف عطف «خبزاً» على لَحْماً؟
333
قوله: ﴿وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾ : جملةٌ حاليةٌ من الملائكة. والرابطُ: الواوُ، وهي هنا واجبةٌ لَعدم رابِطٍ غيرِها.
والعامَّةُ على «وَلَدَ اللَّهُ» فعلاً ماضياً مسنداً للجلالةِ أي: أتى بالولد، تعالى اللَّهُ عَمَّا يقولون عَلُوَّاً كبيراً. وقُرِئ «وَلَدُ اللَّهِ» بإضافة الولد إليه أي: يقولون: الملائكةُ وَلَدُه. فحُذِف المبتدأُ للعِلْمِ به، وأُبْقِيَ خبرُه. والوَلَدُ: فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَض؛ فلذلك يقع خبراً عن المفردِ والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً. تقول: هذي وَلَدي، وهم وَلَدي.
قوله: ﴿أَصْطَفَى﴾ : العامَّةُ على فتحِ الهمزة على أنها همزةُ استفهامٍ بمعنى الإِنكارِ والتقريعِ، وقد حُذِفَ معها همزةُ الوَصْلِ استغناءً عنها.
وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشيبةُ والأعمش بهمزةِ وَصْلٍ تَثْبُتُ ابتداءً وتَسْقُطُ دَرْجاً. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّه على نيةِ الاستفهامِ، وإنما حُذِفَ للعِلْمِ به. ومنه قولُ عُمَرَ بن أبي ربيعة:
٣٨٢٤ - ثم قالُوا:
٣٨٢٣ - ورَفَعْتُ رِجْلاً لا أخافُ عِثارَها ونَبَذْتُ بالمَتْن العَراء ثيابي
333
أي: أتُحبها. والثاني: أن هذه الجملةَ بَدَلٌ من الجملة المحكيَّةِ بالقول، وهي «وَلَدَ اللَّهُ» أي: يقولون كذا، ويقولون: اصطفى هذا الجنسَ على هذا الجنس. قال الزمخشري: «وقد قرأ بها حمزةُ والأعمشُ. وهذه القراءة وإنْ كان هذا مَحْمَلَها فهي ضعيفةٌ. والذي أَضْعَفَها أنَّ الإِنكارَ قد اكتنف هذه الجملةَ مِنْ جانَبيْها، وذلك قولُه:» وإنهم لَكاذبون «، ﴿مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ فمَنْ جَعَلَها للإَثباتِ فقد أَوْقَعها دخِيلةً بين نَسِيبَيْنِ». قال الشيخ: «وليسَتْ دخيلةً بين نَسِيْبَيْن؛ لأنَّ لها مناسَبةً ظاهرةً مع قولِهم:» وَلَدَ اللَّهُ «. وأمَّا قولُه:» وإنهم لَكاذبون «فهي جملةُ اعتراضٍ بين مقالتَيْ الكفرة جاءَتْ للتنديدِ والتأكيدِ في كَوْنِ مقالتِهم تلك هي مِنْ إفْكِهم».
ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ «آصْطفى» بالمدِّ. قال: «وهو بعيدٌ جداً».
334
قوله: ﴿مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ : جملتان استفهاميتان ليس لإِحداهما تَعَلُّقٌ بالأُخْرى من حيث الإِعرابُ، استفهم أولاً عَمَّا استقرَّ لهم وثَبَتَ، استفهامَ إنكار، وثانياً استفهامَ تعجيب مِنْ حُكْمِهِم بهذا الحكم الجائرِ، وهو أنهم نَسَبوا أَخَسَّ الجنسَيْن وما يَتَطَّيرون منه، ويَتَوارى أحدُهم مِنْ قومِه عند بِشارَتِه به، إلى ربِّهم، وأحسنَ الجنسيْنِ إليهم.
قوله: ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله﴾ : مُسْتثنى منقطعٌ. والمستثنى منه: إمَّا فاعلُ «جَعَلُوا» أي: جعلوا بينه وبين الجِنَّةِ نَسَباً إلاَّ
334
عبادَ الله. الثاني: أنه فاعلُ «يَصِفُوْن» أي: لكن عباد/ الله يَصْفُونه بما يَليق به تعالى. الثالث: أنه ضمير «مُحْضَرون» أي: لكنَّ عبادَ الله ناجُوْن. وعلى هذا فتكون جملةُ التسبيحِ معترضةً. وظاهرُ كلامِ أبي البقاء أنه يجوزُ أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً لأنه قال: «مستثنى مِنْ» جَعَلُوا «أو» مُحْضَرون «. ويجوزُ أَنْ يكونَ منفصلاً» فظاهرُ هذه العبارةِ أنَّ الوجهين الأوَّلين هو فيهما متصلٌ لا منفصِلٌ. وليس ببعيدٍ كأنه قيل: وجَعَل الناسَ. ثم استثنى منهم هؤلاء وكلَّ مَنْ لم يجعل بين الله تعالى وبينَ الجِنَّةِ نَسَباً فهو عند الله مُخْلصٌ من الشِّرْك.
335
قوله: ﴿وَمَا تَعْبُدُونَ﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنه معطوفٌ على اسم «إنَّ». و «ما» نافيةٌ، و «أنتم» اسمُها أو مبتدأٌ، و «أنتم» فيه تغليبُ المخاطبِ على الغائبِ؛ إذ الأصلُ: فإنكمُ ومعبودَكم ما أنتم وهو، فغُلِّب الخطابُ. و «عليه» متعلقٌ بقوله: «بفاتِنين». والضميرُ عائدٌ على «ما تعبدون» بتقديرِ حَذْفِ مضافٍ وضُمِّنَ فاتنين معنى حاملين بالفتنة والتقدير: فإنكم وآلهتكم، ما أنتم وهم حامِلين على عبادته إلاَّ الذين سَبَقَ في عِلْمه أنَّه من أهل صَلْيِ الجحيم. فَمَنْ مفعولٌ ب «فاتِنين» والاستثناءُ مفرغٌ. والثاني: أنه مفعولٌ معه، وعلى هذا فيَحْسُنُ السكوتُ على «تعبدون» كما يَحْسُن في قولك: «إنَّ كلَّ رجلٍ وضَيْعَتَه»، وحكى الكسائيُّ أن كلَّ ثوبٍ وثمنَه والمعنى: أنكم مع معبودِيْكم مُقْتَرنون. كما يُقَدَّر ذلك في «كلُ رجلٍ وضَيْعَتُه مقترنان». وقولُه: ﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ﴾ مستأنفٌ أي: ما أنتم على ما تعبدون بفاتنين، أو بحاملين على الفتنة، إلاَّ مَنْ هو صالٍ منكم. قالها الزمخشريُّ. إلاَّ أنَّ
335
أبا البقاء ضَعَّفَ الثاني: وكذا الشيخُ تابعاً له في تضعيفِه بعَدَم تَبَادُرِهِ إلى الفهم.
قلت: الظاهرُ أنه معطوفٌ، واستئنافُ ﴿مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ﴾ غيرُ واضحٍ، والحقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يعودَ الضمير في «عليه» على اللَّهِ تعالى قال: «فإنْ قلتَ: كيف يَفْتِنُونهم على الله؟ قلت: يُفْسِدونهم عليه بإغوائهم، مِنْ قولِك: فتن فلانٌ على فلانٍ امرأتَه، كما تقول: أَفْسَدها عليه وخَيَّبها عليه».
336
وقولُه :﴿ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ﴾ مستأنفٌ أي : ما أنتم على ما تعبدون بفاتنين، أو بحاملين على الفتنة، إلاَّ مَنْ هو صالٍ منكم. قالها الزمخشريُّ. إلاَّ أنَّ أبا البقاء ضَعَّفَ الثاني : وكذا الشيخُ تابعاً له في تضعيفِه بعَدَم تَبَادُرِهِ إلى الفهم.
قلت : الظاهرُ أنه معطوفٌ، واستئنافُ ﴿ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ﴾ غيرُ واضحٍ، والحقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ. وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يعودَ الضمير في " عليه " على اللَّهِ تعالى قال :" فإنْ قلتَ : كيف يَفْتِنُونهم على الله ؟ قلت : يُفْسِدونهم عليه بإغوائهم، مِنْ قولِك : فتن فلانٌ على فلانٍ امرأتَه، كما تقول : أَفْسَدها عليه وخَيَّبها عليه ".
و «مَنْ هو» يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً أو موصوفةً.
وقرأ العامَّةُ «صالِ الجحيم» بكسرِ اللامِ؛ لأنه منقوصٌ مضافٌ حُذِفَتْ لامُه لالتقاءِ الساكنين، وحُمِلَ على لفظ «مَنْ» فأَفْرَدَ كما أَفْرد هو. وقرأ الحسنُ وابن أبي عبلة بضمِّ اللامِ مع واوٍ بعدَها، فيما نقله الهذلي عنهما، وابن عطية عن الحسن. وقرآ بضمِّها مع عَدَمِ واوٍ فيما نقل ابنُ خالويه عنهما وعن الحسن فقط، فيما نقله الزمخشريُّ وأبو الفضل. فأمَّا مع الواو
336
فإنَّه جَمْعُ سَلامةٍ بالواو والنون، ويكون قد حُمِلَ على لفظ «مَنْ» أولاً فأفردَ في قوله «هو»، وعلى معناها ثانياً فجُمِعَ في قوله: «صالُو» وحُذِفَتْ النونُ للإِضافة. وممَّا حُمِل فيه على اللفظ والمعنى في جملةٍ واحدةٍ وهي صلةٌ للموصولِ قولُه تعالى: ﴿إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى﴾ [البقرة: ١١١] فأفرد في «كان» وجُمِعَ في هوداً. ومثله قولُه:
تُحِبُّها قلتُ بَهْراً عددَ الرَّمْلِ والحَصَى والترابِ
٣٨٢٥ -......................... وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكُمْ نِياما
وأمَّا مع عَدَمِ الواو فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ جمعاً أيضاً، وإنما حُذِفَتْ الواوُ خطاً كما حُذِفَتْ لفظاً. وكثيراً ما يَفْعلون هذا: يُسْقِطون في الخطِّ ما يَسْقط في اللفظِ. ومنه «يَقُضُّ الحق» في قراءةِ مَنْ قرأ بالضاد المعجمة، ورُسِمَ بغير ياءٍ، وكذلك ﴿واخشون، اليوم﴾ [المائدة: ٣]. ويُحْتمل أَنْ يكونَ مفرداً، وحقُّه على هذا كسرُ اللامِ فقط لأنه عينُ منقوصٍ، وعينُ المنقوصِ مكسورةٌ أبداً وحُذِفَتِ اللامُ وهي الياءُ لالتقاءِ الساكنين نحو: هذا قاضِ البلد.
وقد ذكروا فيه توجيهَيْن، أحدهما: أنه مقلوبٌ؛ إذا الأصلُ: صالي ثم صايل: قَدَّموا اللامَ إلى موضع العينِ، فوقعَ الإِعرابُ على العين، ثم حُذِفَتْ لامُ الكلمة بعد/ القلب فصار اللفظ كما ترى، ووزنُه على هذا فاعُ فيُقال على هذا: جاء صالٌ، ورأيتُ صالاً، ومررت بصالٍ، فيصيرُ في اللفظِ كقولك: هذا
337
بابٌ ورأيتُ باباً، ومررتُ ببابٍ. ونظيرُه في مجردِ القلبِ: شاكٍ ولاثٍ في شائك ولائث، ولكنْ شائِك ولائِث قبل القلب صحيحان، فصارا به معتلَّيْن منقوصَيْنِ بخلافِ «صال» فإنَّه قبلَ القلبِ معتلٌّ منقوصٌ فصار به صحيحاً. والثاني: أنَّ اللامَ حُذِفَتْ استثقالاً مِنْ غيرِ قَلْبٍ. وهذا عندي أسهلُ ممَّا قبلَه وقد رَأَيْناهم يتناسَوْن اللامَ المحذوفةَ، ويجعلون الإِعرابَ على العين. وقد قُرِئَ «وله الجوارُ» برفع الراءِ، ﴿وَجَنَى الجنتين دَانٌ﴾ برفعِ النونِ تشبيهاً ب جناح وجانّ. وقالوا: ما بالَيْت به بالة والأصل بالِية كعافِيَة. وقد تقدَّمَ طَرَف مِنْ هذا عند قولِه تعالى: ﴿وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٌ﴾ فيمَنْ قرأه برفع الشين.
338
قوله: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنَّ «منَّا» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مبتدأٌ، والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه: ﴿إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ تقديرُه: ما أحدٌ منا إلاَّ له مقامٌ، وحَذْفُ المبتدأ مع «مِنْ» جيدٌ فصيحٌ. والثاني: أنَّ المبتدأ محذوفٌ أيضاً، و ﴿إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ﴾ صفتُه حُذِفَ موصوفُها، والخبرُ على هذا هو الجارُّ المتقدم. والتقدير: وما منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ. قال الزمخشري: حَذَفَ الموصوفَ، وأقامَ الصفةَ مُقامَه كقولِه:
338
[وقوله] :
٣٨٢٧ - تَرْمي بكفَّيْ كان مِنْ أَرْمى البَشَرْ... ورَدَّه الشيخُ فقال: «ليس هذا مِنْ حَذْفِ الموصوفِ وإقامةِ الصفةِ مُقامَه؛ لأنَّ المحذوفَ مبتدأٌ، و ﴿إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ﴾ خَبَرُه؛ ولأنه لا ينعقِدُ كلامٌ مِنْ قولِه:» وما منَّا أحد «، وقوله: ﴿إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ﴾ مَحَطُّ الفائدةِ، وإنْ تُخُيِّل أن ﴿إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ في موضع الصفةِ فقد نَصُّوا على أنَّ» إلاَّ «لا تكونُ صفةً إذا حُذِف موصوفُها، وأنها فارقتْ» غير «إذا كانتْ صفةً في ذلك لتمكّنِ» غير «في الوصف وَعَدَمِ تمكُّنِ» إلاَّ «فيه، وجَعَل ذلك كقولِه:» أنا ابنُ جَلا «أي: أنا ابنُ رجلٍ جَلا، و» بكفَّيْ كان «أي: رجل كان، وقد عَدَّه النَّحْويون مِنْ أقبحِ الضَّرائِر [حيث حَذَفَ الموصوفَ والصفةُ جملةٌ لم تتقدَّمْها» مِنْ «بخلافِ قولِه» مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقام «يريدون: مِنَّا فريقٌ ظَعَن، ومنَّا فريقٌ أقام] وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في النساء عند قوله: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ﴾ [النساء: ١٥٩]. وهذا الكلامُ وما بعده ظاهرُه أنه من كلامِ الملائكةِ. وقيل: مِنْ كلامِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. ومفعول» الصافُّون «و» المُسَبِّحون «يجوزُ أن يكونَ مُراداً أي: الصافُّون أقدامَنا أو أجنحتَنا، والمسبِّحون اللَّهَ تعالى وأنْ لا يُرادَ البتةَ أي: نحن مِنْ أهلِ هذا الفعلِ.
339
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٤:قوله :﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ ﴾ : فيه وجهان، أحدهما : أنَّ " منَّا " صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مبتدأٌ، والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه :﴿ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ تقديرُه : ما أحدٌ منا إلاَّ له مقامٌ، وحَذْفُ المبتدأ مع " مِنْ " جيدٌ فصيحٌ. والثاني : أنَّ المبتدأ محذوفٌ أيضاً، و ﴿ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ ﴾ صفتُه حُذِفَ موصوفُها، والخبرُ على هذا هو الجارُّ المتقدم. والتقدير : وما منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ. قال الزمخشري : حَذَفَ الموصوفَ، وأقامَ الصفةَ مُقامَه كقولِه :
أنا ابنُ جَلا وطلاَّعُ الثَّنايا ***..........................

وقوله :

تَرْمي بكفَّيْ كان مِنْ أَرْمى البَشَرْ ***
ورَدَّه الشيخُ فقال :" ليس هذا مِنْ حَذْفِ الموصوفِ وإقامةِ الصفةِ مُقامَه ؛ لأنَّ المحذوفَ مبتدأٌ، و ﴿ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ ﴾ خَبَرُه ؛ ولأنه لا ينعقِدُ كلامٌ مِنْ قولِه :" وما منَّا أحد "، وقوله :﴿ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ ﴾ مَحَطُّ الفائدةِ، وإنْ تُخُيِّل أن ﴿ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ في موضع الصفةِ فقد نَصُّوا على أنَّ " إلاَّ " لا تكونُ صفةً إذا حُذِف موصوفُها، وأنها فارقتْ " غير " إذا كانتْ صفةً في ذلك لتمكّنِ " غير " في الوصف وَعَدَمِ تمكُّنِ " إلاَّ " فيه، وجَعَل ذلك كقولِه :" أنا ابنُ جَلا " أي : أنا ابنُ رجلٍ جَلا، و " بكفَّيْ كان " أي : رجل كان، وقد عَدَّه النَّحْويون مِنْ أقبحِ الضَّرائِر [ حيث حَذَفَ الموصوفَ والصفةُ جملةٌ لم تتقدَّمْها " مِنْ " بخلافِ قولِه " مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقام " يريدون : مِنَّا فريقٌ ظَعَن، ومنَّا فريقٌ أقام ] وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في النساء عند قوله :﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ﴾ [ النساء : ١٥٩ ]. وهذا الكلامُ وما بعده ظاهرُه أنه من كلامِ الملائكةِ. وقيل : مِنْ كلامِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. ومفعول " الصافُّون " و " المُسَبِّحون " يجوزُ أن يكونَ مُراداً أي : الصافُّون أقدامَنا أو أجنحتَنا، والمسبِّحون اللَّهَ تعالى وأنْ لا يُرادَ البتةَ أي : نحن مِنْ أهلِ هذا الفعلِ.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦٤:قوله :﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ ﴾ : فيه وجهان، أحدهما : أنَّ " منَّا " صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مبتدأٌ، والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه :﴿ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ تقديرُه : ما أحدٌ منا إلاَّ له مقامٌ، وحَذْفُ المبتدأ مع " مِنْ " جيدٌ فصيحٌ. والثاني : أنَّ المبتدأ محذوفٌ أيضاً، و ﴿ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ ﴾ صفتُه حُذِفَ موصوفُها، والخبرُ على هذا هو الجارُّ المتقدم. والتقدير : وما منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ. قال الزمخشري : حَذَفَ الموصوفَ، وأقامَ الصفةَ مُقامَه كقولِه :
أنا ابنُ جَلا وطلاَّعُ الثَّنايا ***..........................

وقوله :

تَرْمي بكفَّيْ كان مِنْ أَرْمى البَشَرْ ***
ورَدَّه الشيخُ فقال :" ليس هذا مِنْ حَذْفِ الموصوفِ وإقامةِ الصفةِ مُقامَه ؛ لأنَّ المحذوفَ مبتدأٌ، و ﴿ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ ﴾ خَبَرُه ؛ ولأنه لا ينعقِدُ كلامٌ مِنْ قولِه :" وما منَّا أحد "، وقوله :﴿ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ ﴾ مَحَطُّ الفائدةِ، وإنْ تُخُيِّل أن ﴿ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ في موضع الصفةِ فقد نَصُّوا على أنَّ " إلاَّ " لا تكونُ صفةً إذا حُذِف موصوفُها، وأنها فارقتْ " غير " إذا كانتْ صفةً في ذلك لتمكّنِ " غير " في الوصف وَعَدَمِ تمكُّنِ " إلاَّ " فيه، وجَعَل ذلك كقولِه :" أنا ابنُ جَلا " أي : أنا ابنُ رجلٍ جَلا، و " بكفَّيْ كان " أي : رجل كان، وقد عَدَّه النَّحْويون مِنْ أقبحِ الضَّرائِر [ حيث حَذَفَ الموصوفَ والصفةُ جملةٌ لم تتقدَّمْها " مِنْ " بخلافِ قولِه " مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقام " يريدون : مِنَّا فريقٌ ظَعَن، ومنَّا فريقٌ أقام ] وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في النساء عند قوله :﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ﴾ [ النساء : ١٥٩ ]. وهذا الكلامُ وما بعده ظاهرُه أنه من كلامِ الملائكةِ. وقيل : مِنْ كلامِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم. ومفعول " الصافُّون " و " المُسَبِّحون " يجوزُ أن يكونَ مُراداً أي : الصافُّون أقدامَنا أو أجنحتَنا، والمسبِّحون اللَّهَ تعالى وأنْ لا يُرادَ البتةَ أي : نحن مِنْ أهلِ هذا الفعلِ.

قوله: ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون﴾ : تفسيرٌ للكلمة فيجوز أن لا يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب، ويجوزُ أَنْ تكونَ خبرَ مبتدأ مضمر أو منصوبةً بإضمارِ فعل أي: هي أنَّهم لهم المنصورون، أو أعني بالكلمة هذا اللفظَ، ويكون ذلك على سبيلِ الحكايةِ؛ لأنَّك لو صَرَّحْتَ بالفعل قبلَها حاكياً للجملة بعده كان صحيحاً، كأنَّك قلت: عَنَيْتُ هذا اللفظ كما تقول: «كتبتُ زيدٌ قائمٌ» و «إنَّ زيداً لَقائمٌ». وقرأ الضحَّاك «كلماتنا» جمعاً.
قوله: ﴿نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ﴾ : العامَّةُ على «نَزَلَ» مبنياً للفاعلِ، وعبد الله ببنائه للمفعولِ، والجارُّ قائمٌ مقامَ فاعِله. والسَّاحةُ: الفِناءُ الخالي مِن الأبنية، وجَمْعُها سُوْحٌ فألفُها عن واوٍ، فتُصَغَّرُ على سُوَيْحَة. قال الشاعر:
٣٨٢٦ - أنا ابنُ جَلا وطلاَّعُ الثَّنايا ..........................
٣٨٢٨ - فكان سِيَّانِ أَنْ لا يَسْرَحُوا نَعَماً أو يَسْرَحُوه بها واغْبَرَّت السُّوحُ
وبهذا يتبيَّنُ/ ضَعْفُ قولِ الراغب: إنها مِنْ ذواتِ الياءِ؛ حيث عَدَّها في مادة «سيح» ثم قال: «السَّاحة: المكانُ الواسعُ. ومنه ساحةُ الدار. والسَّائحُ: الماءُ الجاري في الساحة. وساحَ فلانٌ في الأرضِ: مَرَّ مَرَّ السَّائح،
340
ورجلٌ سائحٌ وسَيَّاح» انتهى. ويُحتمل أَنْ يكونَ لها مادتان، لكنْ كان ينبغي أن يذكرَ: ما هي الأشهرُ، أو يذكرَهما معاً. وحُذِفَ مفعولُ «أبْصر» الثاني: إمَّا اختصاراً لدلالةِ الأولِ عليه، وإمَّا اقتصاراً. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي: صباحُهم.
341
قوله: ﴿رَبِّ العزة﴾ : أُضيف الربُّ إلى العزَّةِ لاختصاصه بها، كأنه قيل: ذو العزَّة كما تقول: صاحبُ صِدْقٍ لاختصاصِه به. وقيل: المرادُ العزَّةُ المخلوقةُ الكائنةُ بين خَلْقِه. ويترتَّبُ على القولين مسألةُ اليمين. فعلى الأول ينعقدُ بها اليمينُ؛ لأنها صفةٌ من صفاتِه تعالى بخلاف الثاني، فإنه لا ينعقدُ بها اليمينُ.
Icon