تفسير سورة سورة الشورى من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
ﰡ
﴿ كذلك يوحى إليك... ﴾ أي مثل ما في هذه السورة من الدعوة إلى التوحيد والتصديق بالبعث والنبوة – أوحى الله به إليك وإلى الرسل من قبلك، لتبلغوه للناس هداية وتبصيرا، وإنذارا
وتبشيرا. فالكاف مفعول " يوحى " وفاعله لفظ الجلالة، والمشار إليه ما في هذه السورة وجيء ب " يوحى " بدل أوحى للدلالة على استمراره في الماضي، وأن إيحاء مثله عادته تعالى.
﴿ تكاد السموات يتفطرن ﴾ أي يتشققن فيسقطن من عظمهن﴿ من فوقهن ﴾ من أعلاهن، من علو شأنه تعالى وعظمته، وهيبته وجلاله.
﴿ والملائكة ﴾ في السموات العلا﴿ يسبحون بحمد ربهم ﴾ ينزهونه عما لا ينبغي له من الشريك والولد وسائر النقائص، متلبسين بحمده تعالى والثناء عليه ؛ إيمانا وإذعانا لعظمته. ﴿ ويستغفرون لمن في الأرض ﴾ يطلبونه للمؤمنين من أهل الأرض عفو الله وغفرانه ؛ خوفا عليهم من سطوة جبروته.
﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء ﴾ شركاء وأندادا ؛ وهم الذين جهلوا عظمته تعالى فنسبوا إليه ما لا يليق به. ﴿ الله حفيظ عليهم ﴾ رقيب عليهم، يحصى أعمالهم فيجازيهم بها﴿ وما أنت عليهم بوكيل ﴾ بموكل عليهم، ولا مفوض إليك أمرهم ؛ بل ما عليك إلا البلاغ، وعلينا الحساب.
﴿ وكذلك أوحينا إليك... ﴾ أي ومثل ذلك الإيحاء البديع البين أوحينا إليك قرآنا عربيا، لا لبس فيه عليك ولا على قومك. ﴿ لتنذر أم القرى ﴾ أي أهل أم القرى وهي مكة ؛ وسميت بذلك لأنها بالنسبة لما حولها كالأصل. ﴿ ومن حولها ﴾ أي تنذر من حولها من العرب العذاب على الشرك بالله. وخصوا بالذكر مع عموم الرسالة لأنهم أول المنذرين، وأقرب من سواهم إليه صلى الله عليه وسلم. ﴿ وتنذر يوم الجمع ﴾ أي وتنذر الناس هول يوم القيامة الذي يجتمع فيه الخلائق للحساب، ويقضى فيه على فريق بالعذاب ولفريق بالثواب.
﴿ ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ﴾ أي على الدين الحق، فلم تختلف آخرتهم. ولكنه لم يشأ
ذلك لحكمته البالغة ؛ فافترق الناس على أديان شتى، والحق واحد ؛ ليقضى الله أمرا كان مفعولا. وهو كقوله تعالى : " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " . وقوله تعالى : " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها " . ﴿ ولكن يدخل من يشاء في رحمته ﴾ وهم الذين عرفوا الدين الحق واتبعوه. ﴿ والظالمون ﴾ لأنفسهم بجهلهم به ومعاندتهم له﴿ ما لهم من ولي ولا نصير ﴾ يوم الجزاء.
﴿ أم اتخذوا من دونه أولياء ﴾ أي بل أتخذوا – متجاوزين الله – أولياء من الأصنام وغيرها.
ف " أم " بمعنى بل وهمزة الاستفهام الإنكاري ؛ وهي لإنكار وقوع ذلك ونفيه على أبلغ وجه. أي أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الأولياء في شيء ؛ لأن ذلك فرع كون الأصنام أولياء، وهو أظهر المحالات.
﴿ فاطر السموات والأرض ﴾ خالفها ومبدعها على غير مثال سابق ؛ من فطره – من باب نصر – ابتدأه واخترعه. ﴿ يذرؤكم فيه ﴾ يكثركم بسبب هذا التزاوج بين الذكور والإناث. يقال : ذرأ الشيء كثره. والذرء والذر أخوان. والضمير المنصوب عائد إلى المخاطبين وإلى الأنعام على سبيل التغليب. وفي بمعنى باء السببية. والضمير المجرور عائد إلى التزاوج المفهوم من قوله : " جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا ". ﴿ ليس كمثله شيء ﴾ ليس شيء مثله تعالى في شئونه ؛ والكاف زائدة. أو ليس مثل صفته شيء من الصفات التي لغيره. أو ليس كذاته شيء ؛ والكاف أصلية، والمثل بمعنى الذات. تقوله العرب : مثلك لا يبخل. يعنون : أنت لا تبخل ؛ على سبيل الكناية، قصدا إلى المبالغة في نفي البخل عن المخاطب بنفيه عن مثله، فيثبت انتفاؤه عنه بدليله.
والمراد : تنزيهه تعالى عن مشابهة شيء من الخلق في شيء ؛ ذاتا وصفات وأفعالا.
﴿ له مقاليد السموات والأرض ﴾ له مفاتيح خزائنهما ؛ ومن يملك المفاتيح يملك الخزائن [ آية ٦٣ الزمر ص ٢٥٩ ]. ﴿ ويقدر ﴾ يضيق ويقتر على من يشاء.
﴿ شرع لكم ﴾ الخطاب لأمته صلى الله عليه وسلم. أي سن لكم من الشريعة ما وصى به أرباب الشرائع من مشاهير الأنبياء ؛ وأمرهم به أمرا مؤكدا، وهو :﴿ أن أقيموا الدين ﴾ أي توحيد الله والإيمان به، وطاعة رسله فيما جاءوا به من الشرائع. والمراد بإقامته : قبوله والعمل به. ﴿ ولا تتفرقوا فيه ﴾ أي لا تختلفوا في الدين، أي في هذه الأصول التي أجمعت عليها الشرائع الإلهية. ﴿ الله يجتبي إليه من يشاء ﴾ يصطفي ويختار لرسالته من يشاء من عباده [ آية ١٧٩ آل عمران ص ١٣٤ ].
﴿ وما تفرقوا... ﴾ أي الأمم السابقة بعد موت أنبيائهم. ﴿ بغيا بينهم ﴾ ظلما وتجاوزا للحد بسبب الحرص على الدنيا وزينتها. ﴿ ولولا كلمة سبقت من ربك ﴾ هي العدة بتأخير العذاب عنهم﴿ إلى أجل مسمى ﴾ وهو يوم القيامة. ﴿ لقضي بينهم ﴾ باستئصال المبطلين حين افترقوا. ﴿ وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم ﴾ هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم. ﴿ لفي شك منه مريب ﴾ موقع في الريبة وقلق النفي واضطرابها.
﴿ فلذلك فادع ﴾ أي فلأجل هذا التفرق والتشعب فادع إلى التوحيد، وإلى الاتفاق على الملة
الحنيفية. ﴿ واستقم ﴾ ألزم المنهج المستقيم، الذي لا عوج فيه ولا انحراف. ﴿ لا حجة بيننا وبينكم ﴾ لا احتجاج ولا خصومة بيننا وبينكم ؛ لأن الحق قد ظهر، فلم يبق للاحتجاج حاجة، ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة والعناد.
﴿ حجتهم داحضة ﴾ باطلة زائلة ؛ كالشيء الذي يزل عن موضعه [ آية ٥٦ الكهف ص ٤٨٠ ].
﴿ والميزان ﴾ أي وأنزل الميزان، أي العدل الذي يحكم به بين الناس. وإنزاله : أمرهم به وتكليفهم إقامته. وتسميته ميزانا من تسمية الشيء باسم آلته ؛ لأن الميزان آلة الإنصاف بين الناس في المعاملات. ﴿ لعل الساعة قريب ﴾ لعل مجيئها قريب. أو لعل البعث قريب.
﴿ يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ﴾ استعجال استهزاء وإنكار. ﴿ والذين آمنوا مشفقون منها ﴾ خائفون من قيامها مع اعتناء بها ؛ أنهم لا يدرون ما الله فاعل بهم ؛ من الإشفاق وهو عناية مشوبة بخوف، لأن المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه. فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، وإذا عدي بفي فمعنى العناية فيه أظهر ؛ كما في قوله تعالى : " إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين " .
﴿ الله لطيف بعباده ﴾ بار بهم ورفيق، يفيض عليهم أجمعين من صنوف البر مالا تبلغه العقول. وقيل : اللطف منح الهداية، والتوفيق للطاعة ؛ وهو خاص بالمؤمنين. وما يرى من النعم على الكفار ليس بلطف، وإنما هو إملاء واستدراج ؛ إلا ما آل إلى وفاة على الإسلام.
﴿ من كان يريد حرث الآخرة... ﴾ أي من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة – وهو شأن المؤمن – نضعفه له. والحرث في الأصل : مصدر بمعنى إلقاء البذر في الأرض، ويطلق على الحاصل به وهو الزرع. ويستعمل مجازا في ثمرات الأعمال ونتائجها ؛ تشبيها لها بثمرات البذور.
﴿ ترى الظالمين مشفقين... ﴾ أي تراهم يوم القيامة خائفين خوفا شديدا مما كسبوه في الدنيا من السيئات ؛ والعذاب عليه واقع بهم لا محالة. ﴿ في روضات الجنات ﴾ في أشرف بقاعها وأطيبها وأنزهها. جمع روضة ؛ وهي الموضع النزه الكثير الماء والخضرة ؛ ولا تقول العرب لمواضع الأشجار ؛ رياض.
﴿ إلا المودة في القربى ﴾ أي لكن أسألكم أن توادوني لقرابتي منكم، وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم فتحفظوني ؛ فالقرابة هنا : قرابة الرحم، و " في " للسببية بمعنى لام التعليل. أو لكن أسألكم أن تودوا قرابتي وأهل بيتي، و " في " للظرفية المجازية ؛ أي إلا مودة واقعة في قرابتي. ﴿ ومن يقترف حسنة ﴾ يكتسب أي حسنة ؛ من القرف وهو الكسب [ آية ١١٣ الأنعام ص ٢٣٨ ].
﴿ ويمح الله الباطل ﴾ كلام مستأنف غير داخل في جزاء الشرط ؛ لأنه تعالى يمحو الباطل مطلقا.
وسقطت منه الواو لالتقاء الساكنين ؛ وخطا حملا له على اللفظ ؛ كما كتبوا " سندع الزبانية " فهو مرفوع لا مجزوم، ويؤيده عطف " يحق " المرفوع عليه.
﴿ يقبل التوبة عن عباده ﴾ أي من أهل طاعته بالتجاوز عما تابوا منه. و " عن " بمعنى من.
﴿ لبغوا في الأرض ﴾ أي لطغوا وعتوا جميعا فيها لغناهم ؛ من البغي وهو الظلم وتجاوز الحد. والغنى : مبطرة مأشرة. أو لتكبروا في الأرض، وفعلوا ما يستتبعه الكبر من العلو فيها والفساد ؛ من البغي بمعنى الكبر. ﴿ ولكن ينزل بقدر ﴾ بتقدير﴿ ما يشاء ﴾ وهو ما تقتضيه حكمته جل شأنه !.
﴿ ومن آياته خلق السموات.. ﴾ أي ومن الآيات الدالة على كمال قدرته الموجبة لتوحيده، وتصديق ما وعد به من البعث : خلق السموات والأرض على هذه الصورة العجيبة والنظام المحكم.
﴿ وما بث فيهما من دابة ﴾ أي وما خلق ما فرق ونشر فيهما من دواب. والدابة اسم لكل ما دب على وجه الأرض أو غيرها. وظاهره وجود دواب في السموات. وجوزه الزمخشري فقال : يجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران ؛ فيصفون بالدبيب كما يوصف الحيوان، وأن يخلق الله في السموات حيوانات يمشون فيها مشى الحيوانات في الأرض. وقال الفراء : أراد ما بث في الأرض دون السماء، وهو من نسبة ما في أحد الشيئين إليهما جميعا ؛ إذ يصدق أنه فيهما وإن كان في أحدهما، على نمط قوله تعالى : " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " وهما إنما يخرجان من الملح. ومن قبيل : بنو تميم فيهم شاعر مجيد ؛ وإنما هو في فخذ من أفخاذهم.
﴿ ما أصابكم من مصيبة ﴾ في مسند الإمام أحمد عن على كرم الله وجهه قال : ألا أخبركم بأفضل آية كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الآية ثم قال :( وسأفسرها لك يا علي ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثنى عليكم العقوبة في الآخرة. وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فإنه سبحانه أحلم من أن يعاقب به بعد عفوه. وقال على : هذه الآية أرجى آية في كتاب الله، وإذا كان يكفر عنا بالمصائب ويعفو عن كثير، فأي شيء يبقى بعد كفارته وعفوه !.
﴿ ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام ﴾ أي السفن الجارية في البحر كأنها من عظمها أعلام أي جبال شاهقة. جارية وهي السفينة، وسميت جارية لجريانها في الماء. وجمع علم وهو الجبل الطويل، وأصله الأثر الذي يعلم به الشيء، كعلم الطريق وعلم الجيش ؛ وسمى الجبل علما لذلك.
﴿ فيظللن رواكد على ظهره ﴾ فيصرن ثوابت على ظهر البحر لا يجرين. يقال : ركد الماء ركودا – من باب قعد – سكن ؛ فهو راكد. وكل ثابت في مكان فهو راكد.
﴿ أو يوبقهن بما كسبوا ﴾ يهلكن بإرسال الرياح العاصفة المغرقة ؛ بسبب ما كسبه ركبانها من الذنوب. يقال أوبقه، حبسه أو أهلكه. ووبق – كوعد ووحل وورث – وبوقا وموبقا : هلك وهو عطف على " يسكن ". والأصل : أو يرسلها – أي الريح – عاصفة فيوبق ناسا بذنوبهم، وينج ناسا بالعفو عنهم. وبهذا ظهر وجه جزم " يعف ".
﴿ ويعلم الذين يجادلون... ﴾ بالنصب عطف على مقدر ؛ أي لينتقم منهم ويعلم. أو ليظهر عظيم قدرته ويعلم. ﴿ ما لهم من محيص ﴾ ما لهم مهرب من العذاب على مجادلتهم في آيات الله. يقال : حاص عنه حيصا وحيوصا ومحيصا ومحاصا، عدل وحاد.
﴿ والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ﴾ عطف على " الذين آمنوا ". وكبائر الإثم : ما رتب عليها الوعيد، أو ما وجب فيها الحد، أو كل ما نهى الله عنه. والفواحش من الذنوب : ما فحش وعظم قبحه ؛ وعطفها من عطف الخاص على العام.
﴿ وأمرهم شورى بينهم ﴾ أي شأنهم إذا حزبهم أمر يحتاج إلى مراجعة الرأي : التشاور فيه بينهم. والشورى : مصدر شاورته ؛ مثل البشرى والذكرى. والتشاور والمشاورة والمشورة : استخراج الرأي بمراجع البعض البعض ؛ من قولهم : شرت العسل – بكسر الشين – إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه
﴿ والذين إذا أصابهم البغي ﴾ قال القاضي أبو بكر بن العربي : " ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح ؛ فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للآخر. واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالتين : إحداهما – أن يكون الباغي معلنا بالفجور، مؤذيا للصغير والكبير ؛ فيكون الانتقام منه أفضل. وفي مثله قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنسفهم فتجرئ عليهم الفساق. والثانية – أن يقع ذلك ممن لم يعرف بالزلة ويسأل المغفرة ؛ لعفو ههنا أفضل. وفي مثله نزل : " وأن تعفو أقرب للتقوى " وقوله : " فمن تصدق به فهو كفارة له " . وقوله : " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " . ومثله ما ذكر الكيا الصبري في أحكامه ؛ إلا أنه عند الانتصار تراعى المماثلة لقوله تعالى : " وجزاء سيئة سيئة مثلها "، وقوله : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " .
﴿ فمن عفا ﴾ عمن أساء إليه﴿ وأصلح ﴾ ما بينه وبين المسيء إليه بالإغضاء عما صدر منه﴿ فأجره على الله ﴾ أي فيجزيه الله أعظم الجزاء. والمراد : التحريض على العفو.
﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه ﴾ أي بعد ما ظلم﴿ فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾ أي مؤاخذة وملامة ؛ لأنهم أتوا بما هو مباح لهم.
﴿ ولمن صبر ﴾ على الظلم﴿ وغفر ﴾ أي تجاوز عن ظالمه ولم ينتصر﴿ إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾ منه ؛ أي من الأمور التي ندب إليها.
﴿ خاشعين من الذل ﴾ خاضعين متضائلين بسبب الذل ؛ من الخشوع وهو الانكسار والتواضع. ﴿ ينظرون من طرف خفي ﴾ أي يبتدئ نظرهم من تحريك ضعيف لأجفانهم بمسارقة النظر ؛ كما يرى المصبور ينظر إلى السيف. وهكذا الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها ؛ كما يفعل في نظره إلى ما يحب.
﴿ وما لكم من نكير ﴾ أي لا تجدون يومئذ منكرا لما ينزل لكم من العذاب، لاستحقاقكم له عدلا.
﴿ ويجعل من يشاء عقيما ﴾ لا ولد له ؛ ذكرا كان أو أنثى. يقال : رجل عقيم، وجمعه عقماء وعقام. وامرأة عقيم، جمعها عقائم وعقم. وفعله كفرح ونصر وكرم وعنى.
﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ﴾ دلت الآية على أن تكليم الله تعالى للبشر وقع على ثلاثة أنحاء : الأول – بالإبقاء في القلب يقظة أو مناما، ويسمى وحيا ؛ وهو يشمل الإلهام والرؤيا المنامية. مصدر وحى إليه –كوعى – وأوحى إليه مثله. تقول العرب : وحيث إليه وله، وأوحيت إليه وله ؛ ولغة القرآن الفاشية " أوحى " بالألف. وأصل الوحي : الإشارة السريعة. يقال : أمر وحى أي سريع ؛ ثم غلب استعماله فيما يلقى للمصطفين الأخيار من الكلمات الإلهية. الثاني – بإسماع الكلام الإلهي من غير أن يرى السامع من يكلمه ؛ كما كان لموسى عليه السلام، وكما كان للملائكة الذين كلمهم الله في قصة خلق آدم ؛ وهو المراد بقوله تعالى :﴿ أو من وراء حجاب ﴾. الثالث – بإرسال ملك ترى صورته المعينة، ويسمع كلامه ؛ كجبريل عليه السلام فيوحى للنبي ما أمر الله أن يوحى به إليه ؛ وهو المعنى بقوله تعالى :﴿ أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشاء ﴾. ومعنى الآية على ما اختاره الزمخشري : وما صح أن يكلم الله أحدا في حال إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب، أو مرسلا رسولا.
﴿ وكذلك ﴾ أي ومثل إيحائنا إلى غيرك من الرسل﴿ أوحينا إليك روحا ﴾ أي القرآن. ﴿ من ﴾
﴿ أمرنا ﴾ أي بأمرنا. ﴿ ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ﴾ أي شرائعه ومعالمه وتفاصيله، مما لا طريق إلى العلم به إلا السمع ؛ لا أصل الإيمان. والله أعلم.