تفسير سورة الدّخان

تفسير النسفي
تفسير سورة سورة الدخان من كتاب مدارك التنزيل وحقائق التأويل المعروف بـتفسير النسفي .
لمؤلفه أبو البركات النسفي . المتوفي سنة 710 هـ
سورة الدخان تسع وخمسون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم في الخبر من قرأها ليلة جمعة أصبح مغفورا له

حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢)
في الخبر من قرأها ليلة جمعة أصبح مغفوراً له ﴿حم والكتاب المبين﴾ أي القرآن الواو في والكتاب واو القسم إن جعلت حم تعديداً للحروف أو اسماً للسورة مرفوعاً على خبر الابتداء المحذو ف وواو العطف إن كانت حم مقسماً بها وجواب القسم
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)
﴿إِنَّآ أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة﴾ أي ليلة القدر أو ليلة النصف من شعبان وقيل بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة والجمهور على الأول لقوله إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر وقوله شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن وليلة القدر في أكثر الأقاويل في شهر رمضان ثم قالوا أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل به في وقت وقوع الحاجة الى نبيه ﷺ وقيل ابتداء نزوله في ليلة القدر والمباركة الكثيرة الخير لما ينزل فيها من الخير والبركة ويستجاب من الدعاء ولو لم يوجد فيها
286
إلا إنزال القرآن وحده لكفى به بركة ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر﴾
﴿حكيم﴾ ﴿أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين﴾
هما جملتان مستأنفتان ملفوفتان فسر بهما جواب القسم كأنه قيل أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزالنا إياه في هذه الليلة خصوصاً لأن إنزال القرآن من الامور الحكيمية وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم ومعنى يُفْرَقُ يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى ليلة القدر التي تجيء في السنة المقبلة ﴿حَكِيمٍ﴾ ذي حكمة أي مفعول على ما تقتضيه الحكمة وهو من الإسناد المجازي لان الحكم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ووصف الأمر به مجازا
287
أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥)
﴿أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَا﴾ نصب على الاختصاص جعل كل أمر جزلاً فخماً بأن وصفه بالحكيم ثم زاده جزالة وفخامة بأن قال أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا كما اقتضاه علمنا وتدبيرنا ﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ بدل من إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦)
﴿رحمة من ربك﴾ معفول له على معنى انا أنزلنا القرآن لأن من شأننا وعادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم او تعليل لقوله امرا من عندنا ورحمة مفعول به وقد وصف الرحمة بالإرسال كما وصفها به في قوله وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مرسل له من بعده والأصل إنا كنا مرسلين رحمة منا فوضع الظاهر موضع الضمير إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين ﴿إِنَّهُ هُوَ السميع﴾ لأقوالهم ﴿العليم﴾ بأحوالهم
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧)
﴿رب﴾ كو فى بدل من رَبَّكَ وغيرهم بالرفع أي هو ربٌ ﴿السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ﴾ ومعنى الشرط أنهم كانوا يقرون بأن للسموات والأرض رباً وخالقاً فقيل لهم إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب ثم قيل إن هذا الرب هو السميع العليم الذي
287
أنتم مقرّون به ومعترفون بأنه رب السموات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم وإيقان كما تقول إن هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته
288
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨)
﴿لآ إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِى وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ﴾ اى هو ربكم ﴿ورب آبائكم الأولين﴾ عطف عليه ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩)
﴿بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ﴾ وإن إقرارهم غير صادر عن علم وتيقن بل قول مخلوط بهزؤ ولعب
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (١٠)
﴿فارتقب﴾ فانتظر ﴿يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ﴾ يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص وقيل إن قريشاً لما استعصت على رسول الله ﷺ دعا عليهم فقال اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان وكان يحدث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان ﴿مُّبِينٍ﴾ ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان
يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١)
﴿يَغْشَى الناس﴾ يشملهم ويلبسهم وهو في محل الجر صفة
﴿هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ﴿رَبَّنا اكشف عَنَّا العذاب إنا مؤمنون﴾
لدخان وقوله ﴿هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢)
﴿رَبَّنا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ﴾ أي سنؤمن إن تكشف عنا العذاب منصوب المحل بفعل مضمر وهو يقولون ويقولون منصوب المحل على الحال أي قائلين ذلك
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤)
﴿أنى لَهُمُ الذكرى﴾ كيف يذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب ﴿وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ﴾ أي وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الاذّكار من كشف الدخان وهو ما ظهر على رسول الله ﷺ من الآيات والبينات من الكتاب المعجز وغيره فلم يذكروا وتولوا عنه وبهتوه بأن عدّاساً غلاماً أعجمياً لبعض ثقيف هو الذي علمه ونسبوه الى الجنون
إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (١٥)
﴿إنا كاشفو العذاب قَلِيلاً﴾ زماناً قليلاً أو كشفاً قليلاً ﴿إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ﴾ إلى الكفر الذي كنتم فيه أو إلى العذاب
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)
﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى﴾ هي يوم القيامة أو يوم بدر ﴿إِنَّا مُنتَقِمُونَ﴾ أي ننتقم منهم في ذلك اليوم وانتصاب يَوْمَ نَبْطِشُ باذكروا بما دل عليه إِنَّا مُنتَقِمُونَ وهو ننتقم لا بمنتقمون لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧)
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ﴾ قبل هؤلاء المشركين أي فعلنا بهم فعل المختبر ليظهر منهم ما كان باطناً قَوْمَ فِرْعَوْنَ ﴿وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ﴾ على الله وعلى عباده المؤمنين أو كريم في نفسه حسيب نسيب لأن الله تعالى لم يبعث نبياً إلا من سراة قومه وكرامهم
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨)
﴿أَنْ أَدُّوآ إِلَىَّ﴾ هي أن المفسرة لأن مجيء الرسول إلى من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم الا مبشر اونذيرا وداعيا الى الله او ففة من الثقيلة ومعناه وجاءهم بأن الشأن والحديث أدوا إليَّ سلِّموا إلي ﴿عِبَادَ الله﴾ هو مفعول به وهم بنو إسرائيل يقول أدوهم الى وأرسلوهم معى كقوله ارسل معنا بنى اسرائيل ولا تعذبهم ويجوز أن يكون نداء لهم على معنى ادوا الى عباد الله وما هو واجب لي
289
عليكم من الإيمان لي وقبول دعوتي واتباع سبيلي وعلل ذلك بقوله ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ أي على رسالتي غير متهم
290
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (١٩)
﴿وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله﴾ أن هذه مثل الأولى في وجهيها أي لا تستكبروا على الله بالاستهانة برسوله ووحيه أو لا تستكبروا على نبى الله ﴿إني آتيكم بسلطان مبين﴾ بحجة واصحة تدل على أني نبي
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠)
﴿وَإِنِّى عُذْتُ﴾ مدغم أبو عمرو وحمزة وعلي ﴿بِرَبِّى وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ﴾ أن تقتلوني رجماً ومعناه أنه عائذ بربه متكل على أنه يعصمه منهم ومن كيدهم فهو غير مبالٍ بما كانوا يتوعدونه من الرجم والقتل
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)
﴿وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون﴾ أي إن لم تؤمنوا الى فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن فتنحوا عنى او فخلونى كفافا لالى ولا على ولا تتعرضو الى بشركم واذا كم مليس جزاء من دعاكم الى مافيه فلاحكم ذلك ترجمونى فاعتزلوني في الحالتين يعقوب
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢)
﴿فَدَعَا رَبَّهُ﴾ شاكياً قومه ﴿أَنَّ هَؤُلآءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ﴾ بأن هؤلاء أي دعا ربه بذلك قيل كان دعاؤه اللهم عجل لهم ما يستحقونه باجرا مهم وقيل هو قوله رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين وقرىء إِنَّ هَؤُلآء بالكسر على إضمار القول أي فدعا ربه فقال إن هؤلاء
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣)
﴿فَأَسْرِ﴾ من أسرى فَأَسْرِ بالوصل حجازي من سرى والقول مضمر بعد الفاء أي فقال أسر ﴿بِعِبَادِى﴾ أي بني إسرائيل ﴿لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ﴾ أي دبر الله أن تتقدموا ويتبعكم فرعون وجنوده فينجي المتقدمين ويغرق التابعين
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤)
﴿واترك البحر رَهْواً﴾ ساكناً أراد موسى عليه السلام لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق فأمر بأن يتركه ساكناً على هيئته قاراً على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق ببسالا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئاً ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم وقيل الرهو الفجوة الواسعة أي اتركه مفتوحاً على حاله منفرجاً ﴿إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ﴾ بعد خروجكم من البحر وقرىء بالفتح أي لأنهم
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦)
﴿كم﴾ عبارة عن الكثرة منصوب بقوله ﴿كم تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ عبارة عن الكثرة منصوب بقوله ﴿تَرَكُواْ مِن جنات وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ هو ما كان لهم من المنازل الحسنة وقيل المنابر
وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧)
﴿وَنَعْمَةٍ﴾ تنعم ﴿كَانُواْ فِيهَا فاكهين﴾ متنعمين
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (٢٨)
﴿كذلك﴾ أي الأمر كذلك فالكاف في موضع الرفع لى أنه خبر مبتدأ مضمر ﴿وأورثناها قوما آخرين﴾ ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولاء وهم بنو إسرائيل
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩)
﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض﴾ لأنهم ماتوا كفاراً والمؤمن إذا مات تبكي عليه السماء والأرض فيبكي على المؤمن من الأرض مصلاه ومن السماء مصعد عمله وعن الحسن أهل السماء والأرض ﴿وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ﴾ أي لم ينظروا إلى وقت آخر ولم يمهلوا
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (٣٠)
﴿ولقد نجينا بني إسرائيل مِنَ العذاب المهين﴾ أي الاستخدام والاستعباد وقتل الأولاد
مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
﴿مِن فِرْعَوْنَ﴾ بدل من العذاب المهين بإعادة الجار كأنه نفسه كان عذابا مهينا لأفراط في تعذبيهم وإهانتهم أو خبر مبتدأ محذوف أي ذلك من فرعون ﴿إِنَّهُ كَانَ عَالِياً﴾ متكبراً ﴿مِّنَ المسرفين﴾ خبر ثانٍ أي كان متكبراً مسرفاً
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٢)
﴿وَلَقَدِ اخترناهم﴾ أي بني إسرائيل ﴿على عِلْمٍ﴾ حال من ضمير الفاعل أي عالمين بمكان الخيرة وبأنهم أحقاء بأن يختاروا ﴿عَلَى العالمين﴾ على عالمي زمانهم
وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (٣٣)
﴿وآتيناهم مِنَ الأيات﴾ كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك ﴿ما فيه بلاء مبين﴾ نعمة ظاهرة أو اختيار ظاهر لننظر كيف تعملون
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤)
﴿إِنَّ هَؤُلآءِ﴾ يعني كفار قريش ﴿لَيَقُولُونَ﴾
إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥)
﴿إِنْ هِىَ﴾ ما الموتة ﴿إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى﴾ والإشكال ان الكلام وقع في الحياة الثانية لافى الموت فهلا قيل إن هي إلا حياتنا الأولى وما معنى ذكر الأولى كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى جحدوها وأثبتوا الأولى والجواب أنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة وذلك قوله تعالى وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يحييكم فقالوا إن هي إلا موتتنا الأولى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن يتعقبها حياة إلا الموتة الأولى فلا فرق إذاً بين هذا وبين قوله إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا في المعنى ويحتمل أن يكون هذا إنكاراً لما في قوله رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين ﴿وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ﴾ بمبعوثين يقال أنشر الله الموتى ونشرهم اذا بعثهم
فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٦)
﴿فأتوا بآبائنا﴾ خطاب الذين كانوا يعدونهم النشور من رسول الله ﷺ والمؤمنين ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ أي إن صدقتم فيما تقولون نعجلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ذلك حتى يكون دليلاً على أن ما تعدونه من قيام الساعة وبعث الموتى حق
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧)
﴿أهم خير﴾ في القوة المنعة ﴿أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ﴾ هو تبع الحميري كان
292
مؤمنا وقومه كافرين وقيل كان نبيا وفى الحديث ما أدرى أكان تبع نبياً أو غير نبي ﴿والذين من قبلهم﴾ مر فوع بالعطف على قَوْمُ تُبَّعٍ ﴿أهلكناهم إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾ كافرين منكرين للبعث
293
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (٣٨)
﴿وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ﴾ أي وما بين الجنسين ﴿لاَعِبِينَ﴾ حال ولو لم يكن بعث ولا حساب ولا ثواب كان خلق الخلق للقناء خاصة فيكون لعباً
مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٣٩)
﴿مَا خلقناهمآ إِلاَّ بالحق﴾ بالجد ضد اللعب ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أنه خلق لذلك
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠)
﴿إِنَّ يَوْمَ الفصل﴾ بين المحق والمبطل وهو يوم القيامة ﴿ميقاتهم أَجْمَعِينَ﴾ وقت موعدهم كلهم
يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١)
﴿يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً﴾ أيّ ولي كان عن أي ولي كان شيئاً من إغناء أي قليلاً منه ﴿وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ﴾ الضمير للمولى لأنهم في المعنى كثير لتناول اللفظ على الإبهام والشياع كل مولى
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢)
﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله﴾ في محل الرفع على البدل من الواو في يُنصَرُونَ أي لا يمنع من العذاب إلا من رحمة الله ﴿إِنَّهُ هُوَ العزيز﴾ الغالب على أعدائه ﴿الرحيم﴾ لأوليائه
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (٤٣)
﴿إن شجرة الزقوم﴾ هى على صورة
﴿طعام الأثيم﴾ ﴿كالمهل يغلي في البطون﴾
شجر الدنيا لكنها في النار والزقوم ثمرها وهو كل طعام ثقيل
طَعَامُ الْأَثِيمِ (٤٤)
﴿طَعَامُ الأثيم﴾ هو الفاجر الكثير الآثام وعن أبي الدرداء أنه كان يقرىء رجلاً فكان يقول طعام اليتيم فقال قل طعام الفاجر يا هذا وبهذا تستدل على أن إبدال الكلمة مكان الكلمة جائز إذ كانت مؤذيه معناها ومنه اجاز ابو حنيفة رضى الله عنه القراءة بالفارسية بشرط أن يؤدي القارىء المعاني كلها على كمالها من غير أن يخرم منها شيئاً قالوا وهذه الشريطة تشهد أنها اجاز كلا إجازة لأن في كلام العرب خصوصاً في القرآن الذي هو معجز بفصاحته وغرابة نظمه واساليبه من لطائف المعانى والدقائق مالا يستقل بأدائه لسان من فارسية وغيرها ويُروى رجوعه إلى قولهما وعليه الاعتماد
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥)
﴿كالمهل﴾ هو دردي الزيت والكاف رفع خبر بعد خبر ﴿يغلي في البطون﴾ وبالياء مكى وحفص فالتاء للشجرة والياء للطعام
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦)
﴿كَغَلْىِ الحميم﴾ أي الماء الحار الذي انتهى غليانه ومعناه غلياً كغلي الحميم فالكاف منصوب المحل ثم يقل للزبانية
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٤٧)
﴿خُذُوهُ﴾ أي الأثيم ﴿فاعتلوه﴾ فقودوه بعنف وغلظة فاعتلوه مكي ونافع وشامي وسهل ويعقوب ﴿إلى سَوَآءِ الجحيم﴾ إلى وسطها ومعظمها
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (٤٨)
﴿ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم﴾ المصبوب هو الحميم ل
294
اعذابه إلا أنه اذا صب عليه الحميم لقد صب عليه عذابه وشدته وصب العذاب استعارة ويقال له
295
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩)
﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ على سبيل الهزؤ والهكم إِنَّكَ أي لأنك عليّ
إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠)
﴿إِنَّ هَذَا﴾ أي العذاب أو هذا الأمر هو ﴿مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ﴾ تشكون
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (٥١)
﴿إن المتقين في مقام﴾ بالفتح وهو موضوع القيام والمراد المكان وهو من الخاص الذي وقع مستعملاً في معنى العموم وبالضم مدني وشامي وهو موضع الإقامة ﴿أَمِينٍ﴾ من أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو ضد الخائن فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كانما يخوف صاحبه بما يلقى فيه من المكاره
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢)
﴿فِى جنات وَعُيُونٍ﴾ بدل من مَقَامٍ أَمِينٍ
يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (٥٣)
﴿يلبسون من سندس﴾ مارق من الديباج ﴿وإستبرق﴾ ما غلظ وهو تعريب استبر واللفظ إذا عرب خرج من أن يكون أعجمياً لأن معنى التعريب أن يجعل عربياً بالتصرف فيه وتغييره عن منهاجه وإجرائه على أوجه الإعراب فساغ أن يقع في القرآن العربي ﴿متقابلين﴾ في مجالسهم وهو أتم للأنس
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤)
﴿كذلك﴾ الكاف مرفوعة أي الأمر كذلك ﴿وزوجناهم﴾ وقرناهم ولهذا عدي بالباء ﴿بِحُورٍ﴾ جمع حوراء وهى الشديده سواد العين والشدة بياضها ﴿عِينٍ﴾ جمع عيناء وهي الواسعة العين
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥)
﴿يدعون فيها﴾ يطلبون في الجنة ﴿بكل فاكهة آمنين﴾ من الزوال والانقطاع
﴿لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى {
سوة الجاثية

بسم الله الرحمن الرحيم

{حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم﴾

وتولد الضرر من الإكثار
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (٥٦)
﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا﴾ أي في الجنة ﴿الموت﴾ البته ﴿إلا الموتة الأولى﴾ الا سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا وقيل لكن الموتة قد ذاقوها في الدنيا ﴿ووقاهم عَذَابَ الجحيم﴾
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧)
﴿فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ﴾ أي للفضل فهو مفعول له أو مصدر مؤكد لما قبله لأن قوله ووقاهم عذا الجحيم تفضل منه لهم لأن العبد لا يستحق على الله شيئاً ﴿ذلك﴾ أي صرف العذاب ودخول الجنة ﴿هُوَ الفوز العظيم﴾
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨)
﴿فَإِنَّمَا يسرناه﴾ أي الكتاب وقد جرى ذكره في أول السورة ﴿بلسانك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ يتعظون
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩)
﴿فارتقب﴾ فانتظر ما يحل بهم ﴿إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ﴾ منتظرون ما يحل بك من الدوائر
296
سورة الجاثية مكية وهى سبع وثلاثون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

297
Icon