تفسير سورة القمر

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة القمر من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

سورة القمر
مكية كلها عند الجمهور، وقيل: إلّا قوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ... إلخ. وهى خمسون آية، ومناسبتها لما قبلها: قوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ «١» وهى التي أخبر عنها بقوله:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨)
يقول الحق جلّ جلاله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قربت القيامة، قال القشيري: ومعنى قربها: أنّ ما بقي من الزمان إلى القيامة قليلٌ بالإضافة إلى ما مضى. هـ. قال ابن عطية: وأمرها مجهول التحديد، وكل ما يُروى من التحديد في عمر الدنيا فضعيف. هـ. وَانْشَقَّ الْقَمَرُ نصفين، وقرىء: و «قد انشقَّ القمر»، أي: اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أنَّ القمر قد انشقًَّ، كما تقول: أقبل الأميرُ، وقد جاء البشير بقدومه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: انشق القمر على عهد النبي ﷺ فرقتين، فكانت أحداهما فوق الجبل، والأخرى أسفل من الجبل، فقال صلّى الله عليه وسلم: «اشهدوا» «٢». قال ابن عباس: إنَّ المشركين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن كنت صادقاً فشُق لنا القمر فلقتين، فقال: «إن فعلتُ أتؤمنون؟» فقالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل صلّى الله عليه وسلم ربه فانشق فرقتين، نصف على أبي قُبيس، ونصف على قُعَيْقِعان «٣». وقيل: سألوا آية مجملة، فأراهم انشقاق القمر «٤». قال ابن عطية: وعليه الجمهور، يعني عدم التعيين.
(١) الآية ٥٧ من سورة النّجم.
(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير، تفسير سورة القمر، باب وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم، باب انشقاق القمر، ح ٢٨٠٠). [.....]
(٣) ذكره القرطبي فى تفسيره (٧/ ٦٤٨٣). وقعيقعان: جبل بمكة. انظر اللسان (قعع ٥/ ٣٦٩٦).
(٤) أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار، باب انشقاق القمر ح ٣٨٦٨) عن أنس بن مالك.
521
وفي صحيح مسلم: أنه انشق مرتين «١»، وصرح في شرح المواقف بأن انشقاقه متواتر. هـ. وقيل: معناه انشق، أي: ينشق يوم القيامة، وهو ضعيف، ولا يُقال: لو انشقَّ لما خفي على أهل الأقطار، ولو ظهر عندهم لنقل متواتراً لأن الطباع جبلت على نشر العجائب، لأنه يجوز أن يحجبه اللهُ عنهم بغيم أو غيره، مع أنه كان ليلاً، وجُلّ الناس نائمون، وأيضاً: عادة الله- تعالى- في معجزاته أنه لا يراها إلاَّ مَن ظهرت لأجله في الغالب.
تنبيه: قال القسطلاني في المواهب اللدنية: ما يذكره بعض القصَّاص أن القمر دخل في جيب النبي ﷺ وخرج من كمه، ليس له أصل، كما حكاه الزركشي عن شيخه العِماد ابن كثير. هـ.
وَإِنْ يَرَوْا أي: أهل مكة آيَةً تدل على صدق رسوله صلّى الله عليه وسلم يُعْرِضُوا عن الإيمان وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ محكم شديدٌ قويّ، من: المِرّة، وهي القوة، أو: دائم مطّرد. رُوي: أنه لما انشق قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة؟ فسلوا السُّفار، فلما قَدِموا سألوهم، فقالوا: إنهم قد رأينه، فقالوا: قد استمر سحره في البلاد، فنزلت «٢». قال البيضاوي: دلّ قوله: (مستمر) على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة، ومعجزات سابقة. هـ. أو: مستمر ذاهب ومارٌّ، يزول ولا يبقى، من: مرّ الشيء واستمر: ذهب.
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ الباطلة، وما زيَّن لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره، حتى قالوا: سحرَ القمر، أو: سَحَرَ أعيننا، وَكُلُّ أَمْرٍ وعدهم الله به مُسْتَقِرٌّ كائن في وقته، أو: كل أمر قُدِّرَ واقع لا محالة يستقر في وقته، أو: كل أمر من الخير والشر يقع بأهله من الثواب والعقاب، وقرىء «مستقرٍ» بالجر «٣»، فيعطف على «الساعة»، أي: اقتربت الساعة وكل أمرٍ مستقر، يعني: أشراطها.
وَلَقَدْ جاءَهُمْ أي: اهل مكة في القرآن مِنَ الْأَنْباءِ من أخبار القرون الماضية، وكيف أُهلكوا بالتكذيب ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي: ازدجار عن الكفر والعِناد، يقول: زجرته وازدجرته، أي: منعته، وأصله: ازتجر، افتعل، من الزجر، ولكن التاء إذا وقعت بعد زاي ساكنة أبدلت دالاً لأن التاء حرف مهموس، والزاي حرف مجهور.
فأبدل من التاء حرف مجهور، وهو الدال ليناسب الميم.
(١) أخرجه مسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم، باب انشقاق القمر ح ٢٨٠٢) عن قتادة.
(٢) أخرجه الطبري (٢٧/ ٨٥) وعزاه السيوطي فى الدر (٦/ ١٧٦) لابن المنذر، وابن مردويه، وأبى نعيم، والبيهقي، كلاهما فى الدلائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(٣) قرأ أبو جعفر «مستقر» بخفض الرّاء، صفة، ورفع (كل) حينئذ بالعطف على «الساعة»، وقيل: بالابتداء والخبر، أي: وكلّ أمر مستقر لهم فى القدر بالغوه. وقرأ الباقون بالرفع، خبر «كل». انظر الإتحاف (٢/ ٥٠٥).
522
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ: بدل من «ما»، أو: خبر، أي: هو حكمة بالغة ناهية في الرشد والصواب، أو: بالغة من الله إليهم. قال القشيري: والحكمة البالغة الصحيحة الظاهرة الواضحة لمَن فكّر فيها. هـ. قال المحلي: وصفت بالبلاغة لأنها تبلغ من مقصد الوعظ والبيان ما لا يبلغ غيرها هـ. فَما تُغْنِ النُّذُرُ شيئاً، حيث سبق القدر بكفرهم، و «ما» نافية، أو استفهامية منصوبة ب «تُغن»، أي: فأيّ إغناء تُغني النُذر مع سابق القدر؟ والنُذر: جمع نذير، وهم الرسل، أو: المنذَر به، أو: مصدر بمعنى الإنذار، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد عدم الإغناء، واستمراره حسب تجدُّد مجيء الزواجر واستمرارها.
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ لعلمك بأنّ الإنذار لا يُغني فيهم شيئاً، واذكر يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ «١» وهو إسرافيل عليه السلام إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي: منكر فظيع، تُنكره النفوس، لعدم العهد بمثله، وهو هول القيامة. خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ، ف «خُشَعاً» : حال من فاعل «يخرجون»، أي: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أذلة أبصارهم من شدة الهول لأن ذلة الذليل وعزة العزيز يظهرن في أعينهما، ومَن قرأ: «خاشعاً» «٢» فوجهه: أنه أسند إلى ظاهر، فيجب تجريده كالفعل، وأما مَن قرأ بالجمع، فهو على لغة: «أكلوني البراغيث»، كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة والتموُّج والتفرُّق في الأقطار. قال ابن عطية: في الحديث: أن مريم دعت للجراد فقالت: اللهم أعِشْها بغير رضاع، وتتابع بينها بغير شباع. هـ.
ثم وصف خروجهم من القبور، فقال: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ مسرعين مَادِّي أعناقهم إليه، أو ناظرين إليه، يَقُولُ الْكافِرُونَ استئناف بياني، وقع جواباً عما نشأ من وصف اليوم بالأهوال، وأهله بسوء الحال، كأن قائلا قال: فماذا يكون حينئذ؟ فقال: يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب شديد. وفي إسناد هذا القول إلى الكفار تلويح بأنّ المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اقتربت ساعة الفتح لمَن جَدّ في السير، ولازم صحبةَ أهل القرب، قال القشيري: الساعة ساعتان كبرى، وهي عامة، وصغرى، وهي خاصة بالنسبة إلى السالك إلى الله، برفع الأوصاف البشرية، وقطع العلائق الطبيعية. ثم قال: وإليه الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «مَن مات فقد قامت قيامته» «٣» راجعة إلى الساعة الصغرى. هـ. أي:
(١) أثبت المصنف الياء فى «الداع إلى» وهى قراءة ورش وأبى عمرو وأبى جعفر، وصلا، والبزي ويعقوب فى الحالين. وقرأ الباقون بغير ياء وصلا ووقفا. انظر السبعة/ ٦١٧ والإتحاف ٢/ ٥٠٥.
(٢) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب «خاشعا» بفتح الخاء وألف بعدها وكسر الشين مخففة، بالإفراد. وقرأ الباقون «خشعا» بضم الخاء وفتح الشين وتشديدها بلا ألف. انظر الإتحاف (٢/ ٥٠٦).
(٣) قال العراقي فى المغني ٤/ ٦٧: «أخرجه ابن أبى الدنيا فى كتاب الموت، من حديث أنس، بسند ضعيف» وكذا قال الشوكانى فى الفوائد المجموعة (ص ٢٦٧) وزاد: «وهو من قول الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى» وأخرجه الديلمي، الفردوس بمأثور الخطاب (ح ١١١٧) عن أنس بلفظ:
523
مَن مات عن رؤية نفسه قامت قيامته بلقاء ربه وشهوده. وقوله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ أي: قمر الإيمان فإنه إذا أشرقت عليه شمس العيان، لم يبقَ لنوره أثر، ليس الخبر كالعيان، وإن يَرَوا- أي: أهل الغفلة والحجاب- آيةً تدل على طلوع شمس العيان على العبد المخصوص، يُعرضوا منكرين، وَيَقُولُوا: هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.. الآية، وكل أمر قدّره الحق- تعالى في الأزل، من أوقات الفتح أو غيره، مستقر، يستقر ويقع في وقته، لا يتقدّم ولا يتأخّر، فلا ينبغي للمريد أن يستعجل الفتح قبل إِبَّانِه، فربما عُوقب بحرمانه، ولقد جاءهم من الأخبار عن منكري أهل الخصوصية، وما لحق أهلَ الانتقاد من الهلاك أو الطرد والبُعد ما فيه مزدجر، كما فعل بابن البراء وأمثاله، حكمة من الله بالغة، وسنة ماضية، يقول: «مَنْ آذَى لِي وليا فقد آذن بالحرب» فما تُغن النُذر إذا سبق الخذلان، فتولّ أيها السالك عنهم، وعن خوضهم، واشتغل بالله عنهم فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم، واذكر الموت وما بعده، فإنه حينئذ يظهر عز الأولياء، وذل الأغبياء، يقولون: هذا يوم عسر على مَن طغى وتجبر.
ثم سرد قصص الأنبياء، تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلم- وتفسيرا لقوله: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ فقال:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٩ الى ١٧]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧)
يقول الحق جلّ جلاله: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ أي: قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحاً عليه السلام.
ومعنى تكرار التكذيب: أنهم كذَّبوا تكذيباً عقب تكذيب، كلما خلا منهم قرن مكذِّب، جاء عقبه قرن آخر مكذِّب مثله، وقيل: كذبت قوم نوح الرسل، (فكذَّبوا عبدنا) لأنه من جملتهم. وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع إضافته لنون العظمة تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله، وزيادة تشنيع لمكذِّبيه، وَقالُوا مَجْنُونٌ أي: لم يقتصروا على مجرد التكذيب، بل نسبوه للجنون، وَازْدُجِرَ أي: زجر عن أداء الرسالة بالشتم، وهدّد بالقتل، أو: هو من جملة قولهم، أي: قالوا: هو مجنون وقد ازدجرته الجن، أي: تخبّطته وذهبت بلُبه.
524
فَدَعا رَبَّهُ حين أيس منهم أَنِّي مَغْلُوبٌ أي: بأني مغلوب من جهة قومي، بتسليطهم عليّ، فلم يسمعوني، واستحكم اليأس من إجابتهم. قال القشيري: مغلوب بالتسلُّط لا بالحجة، إذ الحجة كانت له. هـ. وهذا جار فيمن لم يستجب لك، تقول: غلبني. ثم دعا عليهم بقوله: فَانْتَصِرْ فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم، وذلك بعد تحقُّق يأسه منهم وعظم إذايتهم. فقد رُوي أن الواحد منهم كان يلقاه فيضربه حتى يغشى عليه، فيقول:
اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ منصب بكثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً، قال يمان: حتى طبق بين السماء والأرض «١»، وقيل: كانوا يطلبون المطر سنين، فأُهلكوا بمطلوبهم. وفتح الأبواب كناية عن كثرة الأمطار، وشدة إنصابها، وقيل: كان في السماء يومئذ أبواب حقيقة.
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، وهو أبلغ من قولك: وفجرنا عيون الأرض، ومثله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «٢» في إفادة العموم والشمول، فَالْتَقَى الْماءُ أي: مياه السماء ومياه الأرض، وقرىء: «الماءان» «٣»، أي: النوعان من الماء السمائي والأرضي. عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي: قُضي في أم الكتاب، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان، أو: قدر أنّ الماءين يكون مقدارهما واحداً من غير تفاوت. قيل: كان ماء السماء بارداً كالثلج، وماء الأرض مثل الحميم، ويقال: إنّ الماء الذي نبع من الأرض نضب، والذي نزل من السماء بَقِيَ حارّاً.
وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ أي: أخشاب عريضة، والمراد: السفينة، وهي من الصفات التي تقوم مقام موصوفها كالشرح له، وهو من فصيح الكلام ومن بديعه، وَدُسُرٍ ومسامير، جمع: دسار، وهو المسمار، فِعال مِن: دسره: إذا دفعه لأنه يدسَر به مَنفذه. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا أي. بمرأىً منا، أو: بحفظنا، وهو حال من فاعل «تجري»، أي: تجري محفوظة جَزاءً مفعول له، أي: فعلنا ذلك جزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ وهو نوح عليه السلام، وجعله مكفوراً لأن النبي نعمة من الله ورحمة، فكان نوح نعمة مكفورة. وقرأ مجاهد بفتح الكاف، أي: عقاباً لمَن كَفَرَ بالله. قيل: ما نجا من الغرق إلاَّ عُوج بن عُنُق، كان الماء إلى حجزته «٤»، وسبب نجاته: أنّ نوحا احتاج إلى
(١) ذكره البغوي فى تفسيره ٧/ ٤٢٨.
(٢) من الآية ٤ من سورة مريم.
(٣) عزاها فى مختصر ابن خالويه، وزاد فى البحر المحيط (٨/ ١٧٥) علىّ والحسن ومحمد بن كعب.
(٤) الحجزة: موضع التكة من السروال.
525
خشب الساج للسفينة، فلم يمكنه نقلها، فحمل عُوج تلك الخشب إليه من الشام، فشكر الله له ذلك، ونجّاه من الغرق.
قاله الثعلبي «١». قلت: وقد تقدّم إبطاله في سورة العقود «٢»، وأنه من وضع الزنادقة. ذكره القسطلاني.
وَلَقَدْ تَرَكْناها أي: السفينة، أو: الفعلة، أي: جعلناها آيَةً يَعتبر بها مَن يقف على خبرها. وعن قتادة:
أبقاها الله بأرض الجزيرة، وقيل: على الجُوديَّ، حتى رآها أوائل هذه الأمة «٣». فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ من متعظ يتعظ ويعتبر، وأصله: مذتكر، فأبدلت التاء دالاً مهملة، وأدغمت الذال فيها لقرب المخرج، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟! استفهام تعظيم وتعجيب، أي: كان عذابي وإنذاري لهم على هيئة هائلة، لا يُحيط بها الوصف، والنّذر:
جمع نذير، بمعنى الإنذار.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي: سهّلناه للادّكار والاتعاظ بأن شحنَّاه بأنواع المواعظ والعِبر، وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد ما فيه شفاء وكفاية. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه، أي: فهل من متعظ يقبل الاتعاظ، وقيل: ولقد سهّلناه للحفظ، وأعنّا مَن أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليُعان عليه؟ قال القشيري: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ يسَّر قراءته على ألسنة قوم، وعِلْمَه على قوم، وفهمه على قلوب قوم، وحِفْظه على قلوب قوم، وكلهم أهل القرآن، وكلهم أهل الله وخاصته. ويقال: كاشَفَ الأرواح من قومٍ قبل إدخالها في الأجساد، فهل من مُدكر يذكر العهد الذي جرى لنا معه؟. هـ.
ويروى: أن كتب أهل الأديان من التوراة في الإنجيل والزبور لا يتلوها أهلها إلا نظراً، ولا يحفظونها ظاهراً كالقرآن، وفي القوت: مما خصَّ اللهُ به هذه الأمة ثلاثة أشياء: حفظ كتابنا هذا، إلا ما ألهم اللهُ عزيزاً من التوراة بعد أن كان بختنصّر أحرق جميعها، ومنها: تبقية الإسناد فيهم، يأثره خلف عن سلف، متصلاً إلى نبينا صلّى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يستنسخون الصُحف، كلما خلقت صحيفة جُددت، فكان ذلك أثرة العلم فيهم، والثالثة: أن كان مؤمن من هذه الأمة يسئل عن علم الإيمان، ويُسمع قوله مع حداثة سنه، ولم يكن مما مضى يسمعون العلم إلا مِن الأحبار والقسيسين والرهبان. وزاد رابعة: وهي ثبات الإيمان في قلوبهم، لا يعتوره شك، ولا يختلجه شرك، مع تقليب الجوارح في المعاصي. وقد قال قوم موسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً «٤» بعد أن رأوا الآيات العظيمة، من انفلاق البحر وغيره. هـ. قال أبو السعود: وحمل تيسيره على حفظه لا يساعده المقام. هـ.
(١) وذكره القرطبي فى تفسيره (٧/ ٦٤٨٩).
(٢) لم يذكر الشيخ شيئا عن عوج بن عنق فى تفسير سورة المائدة. وقد ولع بعض المفسرين بذكر قصة عوج عند تفسير قوله تعالى:
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها المائدة/ ٢٢. وقد بين العلماء زيف ما نقل فى هذه القصة. راجع فى هذا، الإسرائيليات والموضوعات للدكتور محمد أبى شهبة/ ١٨٦. [.....]
(٣) أخرجه ابن جرير (٢٧/ ٩٥) وعزاه السيوطي فى الدر (٦/ ١٨٠) لعبد الرّزّاق وعبد بن حميد وابن المنذر.
(٤) من الآية ١٣٨ من سورة الأعراف.
526
الإشارة: في الآية تسلية لمن أوذي من الأولياء، وإجابة الدعاء على الظالم، لهم إن [أُذن] «١» لهم في ذلك بإلهام أو هاتفٍ، وإلاَّ فالصبر أولى، وجعل القشيري نوحاً إشارة إلى القلب، وقومَه جنود النفس، من الهوى والدنيا وسائر العلائق، فيكون التقدير: كذبت النفسُ وجنودُها القلبَ، فيما يَرِدُ عليه من تجليات الحق، وكشوفات الغيب، وقالوا: إنما هو مجنون فيما يُخبر به، فزجرته، ومنعته من تلك الواردات الإلهية بظلمات شهواتها، فدعا ربه وقال:
أني مغلوب في يد النفس وجنودها، فانتصِرْ لي حتى تغيبني عنهم، ففتحنا أبواب سماء الغيب بأمطار الواردات الإلهية القهّارية، لتمحق تلك الظلمات النفسانية، وفجرنا أرض البشرية بعلوم آداب العبودية، فالتقى ماء الواردات، التي هي من حضرة الربوبية، مع ماء علوم العبودية، على أمر قد قُدر أنه ينصر القلب، ويرقيه إلى حضرة القدس، وحملناه على سفينة الجذب والعناية، تجري بحفظنا، جزاء لنعمة القلب التي كفرتْ به النفسُ وجنودُها، ولقد تركنا هذه الفعلة آية يعتبر بها السائرون إلينا، والطالبون لنا، فهل من مدكر؟ فكيف كان عذابي لمَن استولت عليه النفس وجنودها؟ وكيف كان إنذاري من غم الحجاب، وسوء الحساب، ولقد يسَّرنا القرآن للذكر للاتعاظ، فهل من مُدكر، فينهض من غفلته إلى مولاه؟.
ثم ذكر قصة عاد، فقال:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢)
يقول الحق جلّ جلاله: كَذَّبَتْ عادٌ هوداً عليه السلام، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟! أي: وإنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، والاستفهام لتوجيه قلوب السامعين للإصغاء إلى ما يُلقى إليهم قبل ذكره لتهويله وتعظيمه، وتعجيبهم من حاله قبل بيانه، كما قبله وما بعده، كأنه قيل: كذبت عاد فهل سمعتم ما حلّ بهم؟ أو: فاسمعوا، فكيف كان عذابي وإنذاري لهم.
ثم بيَّن ما أجمل فقال: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً باردة أو: شديدة الصوت فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم مُسْتَمِرٍّ شؤمه عليهم إلى أن أهلكهم، وكان في أربعاء آخر شوال، تَنْزِعُ النَّاسَ أي: تقلعهم، وجاء بالظاهر
(١) فى الأصول [أوذن].
مكان المضمر ليشمل ذكورَهم وإناثهم، صغيرهم وكبيرهم. رُوي: أنهم كانوا يتداخلون الشِّعاب، ويحفرون الحفر، ويندسُّون فيها، ويُمسك بعضهم ببعض فتزعجهم الريح، وتَصرعُهم موتى.
قال ابن إسحاق: ولمّا هاجت عليهم الريح، قام سبعةُ نفرٍ من عاد [فأولجوا] »
العيال في شعب بين جبلَين، ثم اصطفُّوا على باب الشعب، ليردُّوا الريحَ عنهم، فجعلت الريحُ تجعفهم «٢» رجلاً رجلاً. هـ. ثم صاروا بعد موتهم كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي: أصول نخل منقلع من مغارسه، وشُبِّهوا بأعجاز النخلة، وهي أصولها التي قطعت رؤوسها لأنّ الريح كانت تقطع رؤوسهم، فتبقى أجساداً بلا رؤوس، فيتساقطون على الأرض أمواتاً، وهم جثث طوال. وتذكير صفة النخل بالنظر إلى اللفظ، كما أن تأنيثه في قوله تعالى: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «٣» بالنظر للمعنى. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟! تهويل وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما، فليس فيه شائبة تكرار، وما قيل:
من أن الأول لِما حاق بهم في الدنيا، والثاني لِما يحيق بهم في الآخرة، يرده ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟! وفي تكريره بعد كل قصة تنبيه على أن إيراد قصص الأمم إنما هو للوعظ والتذكار، وللانزجار عن مثل فعلهم، لا لمجرد السماع والتلذُّذ بأخبارهم، كما هي عادة القصاص.
الإشارة: من شأن النفوس العاتية المُتجبرة العادية تكذيب أهل الخصوصية كيفما كانوا، ولا ترضى بحط رأسها لمَن يدعوها إلى ربها، فيُرسل اللهُ عليهم ريحَ الهوى والخذلان، فتصرعهم في محل الذل والهوان، وتتركهم عبيداً لنفوسهم الخسيسة، وللدنيا الدنية، فكيف كان عذابى لهؤلاء وإنذاري لهم؟!. ولقد يسّرنا القرآن للذكر، وبيَّنَّا فيه ما فعلنا بأهل التكبُّر والعناد من الإهانة والطرد والإبعاد، فهل مِن مدكر، يتيقّظ مِن سنة غفلته، ويرحل من دنياه لآخرته، ومن نفسه إلى ربه؟.
ثم ذكر قصة ثمود، فقال:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٢٣ الى ٣٢]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢)
(١) فى الأصول: [فألجوا].
(٢) تجعفهم: تصرعهم.
(٣) من الآية ٧ من سورة الحاقة.
528
يقول الحق جلّ جلاله: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ بصالح عليه السلام لأنَّ مَن كذَّب واحداً فقد كذّب الجميع لاتفاقهم في الشرائع، أو: كذّبوا بالإنذارات والمواعظ التي يسمعونها من صالح، فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا أي: كائناً من جنسنا، وانتصابه بفعل يُفسره «نتبعه» أي: أنتبع بشراً منا واحِداً منفرداً لا تباعة له؟ أو: واحداً من الناس لا شرف له نَتَّبِعُهُ وندع ديننا؟ إِنَّا إِذاً أي: على تقدير اتباعنا له، وهو مفرد ونحن أمة جمة لَفِي ضَلالٍ عن الصواب وَسُعُرٍ نيران تحرق، جمع «سعير». كان صالح يقول لهم: إن لم تتبعونى كنتم في ضلالٍ عن الحق، وصرتم إلى سعير، ونيران تحرق، فعكسوا عليه، لغاية عتوهم، وقالوا: إن اتبعناك كنا كما تقول.
وقيل: المراد بالسعر: الجنون، لأنها تشوه صاحبها، أنكروا أن يكون الرسول بشراً، وطلبوا أن يكون من الملائكة، وأنكروا أن تتبع أمةٌ واحداً، أو: رجلاً لا شرف له في زعمهم، حيث لم يتعاط معهم أسباب الدنيا. ويؤيد التأويل الثاني قولهم: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ أي: الوحي عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا وفينا مَن هو أحق منه بالاختيار للنبوة؟ بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي. بطر متكبر، حَمَلَه بطرُه وطلبُه التعظيم علينا على ادعائه ذلك.
قال تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً أي: عن قريب، وهو عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة، مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ أصالح أم مَن كذّبه؟ وقرأ الشامي وحمزة بتاء الخطاب، على حكاية ما قاله صالح مجيباً لهم. إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ باعثوها ومخرجوها من الهضبة كما سألوا، فِتْنَةً لَهُمْ ابتلاءً وامتحاناً لهم، مفعول له، أو:
حال، فَارْتَقِبْهُمْ فانتظرهم وتبصّر ما هم صانعون وَاصْطَبِرْ على أذاهم، ولا تعجل حتى ياتيك أمري.
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم بينهم، لها شِرْب يوم، ولهم شِرْب يوم، وقال: «بينهم» تغليباً للعقلاء.
كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ محضور، يحضر القوم الشرب يوماً، وتحضر الناقة يوماً، فَنادَوْا صاحِبَهُمْ قُدَار بن سالف، حُمير ثمود، فَتَعاطى فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم، غير مكترث به، فَعَقَرَ الناقة، ، أو:
فتعاطى الناقة فعقرها، أو: تعاطى السيف فقتلها، والتعاطي: تناول الشيء بتكلُّف. وقال أبو حيان: هو مضارع عاطا، وكأنّ هذه الفعلة تدافعها الناس بعضهم بعضاً، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده. هـ.
529
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ في اليوم الرابع مِن عَقْرها، صَيْحَةً واحِدَةً صاح بهم جبريل عليه السلام فَكانُوا فصاروا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ كالشجر اليابس الذي يجده مَن يعمل الحظيرة، فالهشيم:
الشجر اليابس المتكسر، الذي يبس من طول الزمان، وتتوطّؤه البهائم فيتحطّم ويتهشّم، والمحتظر: الذي يعمل الحظيرة. قال ابن عباس: «هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة من الشجر والشوك، فما يسقط من ذلك ودرسته الغنم فهو هشيم» «١» شبههم في تبددهم، وتفرق أو صالهم، بالشوك الساقط على الأرض، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فيتعظ بما يسمع من هذه القصص.
الإشارة: سبب إنكار الناس على أهل الخصوصية ظهور وصف البشرية عليهم، ولا يلزم من وجود الخصوصية عدم وصف البشرية، ووصف البشرية على قسمين:
قسم لازم، لا تنفك العبودية عنه، كالأ كل والشرب والنوم والنكاح، وغيرها من الأوصاف الضرورية، وهذه هي التي تجامع الخصوصية وبها سترت، واحتجبت حتى أنكرت، فوجودها في العبد كمال لإنها صِوان لسر الخصوصية. قال في الحكم: «سبحان مَن ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية، وظهر بعظمة الربوبية في إظهار العبودية». وقسم عارض يمكن زواله وهي الأوصاف المذمومة، كالكبر والحسد والحقد، وحب الدنيا والرياسة، وغير ذلك، فهذا لا تجامعه الخصوصية، ولا بد من التطهير منه في وجودها.
وللقشيري إشارة أخرى، وحاصلها: كذبت ثمود النفسُ الأمّارة وجنودُها صالح القلب حين دعاها إلى الخروج عن عوائدها، والتطهُّر من أوصافها المذمومة، فقالت النفسُ وجنودها: أنتبع واحداً منا، لأنه مخلوق مثلنا، ونحن عُصبة؟ إنا إذاً لفي ضلال وسعر، أأُلقي الذكر الإلهامي عليه من بيننا؟ بل هو كذّاب أشِرٌ، سيعلمون غداً، حين يقع لهم الرحيل من عالمهم، مَنِ الكذابُ الأشر، أثمود النفس وجنودها، أم صالح القلب؟ إنّا مرسل ناقة النفس فتنة لهم، ابتلاءً ليظهر الخصوص من العموم، فارتقبهم، لعلهم يرجعون إلى أصلهم من النزاهة والطهارة، واصطبر في مجاهدتهم، ونبئهم أنَّ ماء الحياة- وهي الخمرة الأزلية- قسمة بينهم، مَن شَرِبَ منها صفا، ومَن تنكّب عنها أظلم، كُل شِرْب يحضره مَن يتأهل له. فنادوا صاحبهم- وهو الهوى- فتعاطى ناقة النفس، التي أرادت العروج إلى وطن الروح، فعقرها وردها إلى وطنها الخسيس، فكيف كان عذابي لها، وإنذاري إياها؟ إنَّا أرسلنا عليهم صيحةَ القهر، فسقطوا إلى الحضيض الأسفل، فكانوا كهشيم المحتظر صاروا أرضيين بعد أن كانوا سماويين. هـ بالمعنى مع تخالف له.
(١) انظر تفسير البغوي ٧/ ٤٣١.
530
ثم قال القشيري: اعلم أن النفس حقيقة واحدة، غير متعددة، لكن بحسب توارد الصفات المتباينة تعددت أسماؤها، فإذا توجهت إلى الحق توجهاً كليّاً سميت مطمئنة، وإذا توجهت إلى الطبيعة البشرية توجهاً كليّاً سميت أمّارة، وإذا توجهت إلى الحق تارة، وإلى الطبيعة أخرى سميت لوّامة. هـ مختصراً.
ثم ذكر قصة لوط، فقال:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٣٣ الى ٤٠]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠)
يقول الحق جلّ جلاله: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ، وقد تقدّم، إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ أي: على قوم لوط حاصِباً أي: ريحاً تحصبهم، أي: ترميهم بالحصباء، إِلَّا آلَ لُوطٍ ابنتيه ومَن آمن معه، نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ملتبسين بسَحَرٍ من الأسحار، ولذا صرفه، وهو آخر الليل، أو: السُدس الأخير منه، وقيل: هما سحران، فالسَحَر الأعلى: قبل انصداع الفجر، والآخر: عند انصداعه، نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي: إنعاماً منا، وهو علة لنجَّينا، كَذلِكَ أي: مثل ذلك الجزاء العجيب نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نعمتنا بالإيمان والطاعة.
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط بَطْشَتَنا أخذتنا الشديدة بالعذاب، فَتَمارَوْا فكذّبوا بِالنُّذُرِ بإنذاره متشاكّين فيه، وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ قصدوا الفجور بأضيافه، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فمسخناها وسويناها كسائر الوجه، أي: صارت وجوههم صفيحة واحدة لا ثقب فيها.
رُوي أنهم لمَّا قصدوا دار لوط، وعالجوا بابها ليدخلوا، قالت الرسل للوط: خلّ بينهم وبين الدخول، فإنّا رُسلُ ربك، لن يصلُوا إليك. وفي رواية: لمّا مُنعوا من الباب تسوّروا الحائط، فدخلوا، فصفعهم جبريل بجناحه فتركهم عُمياً يترددون، ولا يهتدون إلى الباب، فأخرجهم لوط عُمياً. وقلنا لهم على ألسنة الرسل، أو بلسان الحال:
فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي: وبال إنذاري، والمراد به: الطمس فإنه من جملة ما أُنذروا به.
531
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أول النهار عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ لا يفارقهم حتى يُسلمهم إلى النار، وفي وصفه بالاستقرار إيماء إلى أنّ عذاب الطمس ينتهي إليه، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ، حكاية لما قيل لهم حينئذ من جهته- تعالى- تشديداً للعتاب.
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، قال النسفي: وفائدة تكرير هذه الآية أن يجدّدوا عند سماع كل نبأ من أنباء الأولين ادّكاراً واتعاظاً إذا سمعوا الحث على ذلك، وأن يستأنفوا تنبُّهاً واستيقاظاً إذا سمعوا الحثّ على ذلك، وهكذا حكم التكرير في قوله، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «١» عند كل نعمة عدّها، وقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ «٢» عند كل آية أوردها، وكذا تكرير القصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب، مصوّرة في الأذهان، [مذكّرة] «٣» غير منسيّةٍ في كل أوان. هـ.
الإشارة: قال القشيري: يُشير إلى أنَّ كل مَن غلبته الشهوةُ البهيمية- شهوة الجماع- يجب عليه أن يقهر تلك الصفة، ويكسرها بأحجار ذكر «لا إله إلا الله»، ويُعالج تلك الصفة بضدها، وهو العفة. هـ. فالإشارة بقوم لوط إلى الشهوات الجسمانية، فقد كذّبت الروحَ حين دعتها إلى مقام الصفا، ودعتها النفسُ بالميل إليها إلى الحضيض الأسفل، فإذا أراد اللهُ نصر عبده أرسل عليها حاصب الواردات والمجاهدات، فمحتْ أوصافها الذميمة، ونقلتها إلى مقام الروحانية، قال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ يعني الأوصاف المحمودة، نجيناهم في آخر ليل القطيعة، أو: الروح وأوصافها الحميدة، نجيناها في وقت النفحات من التدنُّس بأوصاف النفس الأمّارة، نعمةً من عندنا، لا بمجاهدة ولا سبب، كذلك نَجزي من شكر نعمة العناية، وشكر مَن جاءت على يديه الهداية، وهم الوسائط من شيوخ التربية. ولقد أنذر الروحُ النفسَ وهواها وجنودها بطشَتنا: قهرنا، بوارد قهري، مِن خوف مُزعج، أو شوقٍ مُقلق، حتى يُخرجها من وطنها، فتَماروا بالنُذر، وقالوا: لم يبقَ مَن يُخرجنا مِن وطننا، فقد انقطعت التربية، ولا يمكن إخراجنا بغيرها، ولقد راودوه عن ضيفه، راودوا الروحَ عن نور معرفته ويقينه، بالميل إلى شهوات النفس فطمسنا أعينهم، فلم يتمكنوا من رد الروح إذا سبقت لها العناية، فيُقال للنفس وجنودِها: ذوقوا عذابي ونُذُري بالبقاء مع الخواطر والهموم، ولقد صبّحهم أول نهار المعرفة حين أشرقت شموس العيان عذاب مستقر، وهو مَحق أوصاف النفس، والغيبة عنها أبداً سرمداً. والله تعالى أعلم.
(١) كررت هذه الآية فى سورة الرّحمن إحدى وثلاثين مرة، المرة الأولى جاءت فى الآية ١٣.
(٢) الآية ١٥ من سورة المرسلات.
(٣) فى النّسفى [مذكورة].
532
ثم ذكر قوم فرعون، تعالى:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ موسى وهارون، جمعهما لغاية ما عالجا في إنذارهم، أو: بمعنى الإنذار، وصدّر قصتهم بالتوكيد القسمي لإبراز كمال الإعتناء بشأنها لغاية عِظَم ما فيها من الآيات، وكثرتها، وهول ما لا قوة من العذاب، واكتفى بذكر آل فرعون للعلم بأنَّ نفسه أولى بذلك، كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها وهي التسع فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ لا يغالَب مُقْتَدِرٍ لا يعجزه شيء.
الإشارة: النفوس الفراعنة، التي حكمت المشيئة بشقائها، لا ينفع فيها وعظ ولا تذكير لأنَّ الكبرياء من صفة الحق، فمَن نازع اللهَ فيها قصمة الله وأبعده.
ثم هدد قريشا بما نزل على من قبلهم، فقال:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٨]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨)
يقول الحق جلّ جلاله: أَكُفَّارُكُمْ يا معشر العرب، أو: يا أهل مكة خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ الكفار المعدودين في السورة قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، والمعنى: أنه أصابهم ما أصابهم مع ظهور خيريتهم منكم قوةً وآلةً ومكانةً في الدنيا، أو: كانوا أقلّ منكم كفراً وعناداً، فهل تطمعون ألاَّ يُصيبَكم مِثلُ مَا أصَابَهُم، وأنتم شر منهم مكانةً، وأسوأ حالاً؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أم نزلت عليكم يا أهل مكة براءة في الكتب المتقدمة: أنَّ مَن كفر منكم وكذّب الرسول كان آمناً مِن عذاب الله، فأمِنتم بتلك البراءة؟
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ أي: جماعة أمرنا جميع مُنْتَصِرٌ ممتنع لا نُرام ولا نُضام، والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم، وإسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية قبائحهم لغيرهم، أي: أيقولون واثقين
533
بشوكتهم: نحن أولوا حزم ورأي، أمرنا مجتمع لا يقدَر علينا، أو: منتصرون من الأعداء، لا نغلب، أو:
متناصرون، ينصر بعضُنا بعضاً. والإفراد باعتبار لفظ «جميع».
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ جمع أهل مكة، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ الأدبار. والتوحيد لإرادة الجنس، أو: إرادة أنّ كل منهم يُولّي دبره، وقد كان كذلك يوم بدر. قال عمر رضي الله عنه: لما نزلت: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ كنت لا أدري أي جمع يُهزم؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله ﷺ يلبس الدرع، ويقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فعرفت تأويلها «١»، فالآية مكية على الصحيح. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي: ليس هذا تمام عقوبتهم، بل الساعة موعد أصل عذابهم، وهذا طلائعه، وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ أي: أقصى غاية من الفظاعة والمرارة من عذاب الدنيا.
والداهية: الأمر الفظيع الذي لا يُهْتَدَى إلى الخلاص منه، وإظهار الساعة في موضع إضمارها تربيةً لهولها.
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ من الأولين والآخرين فِي ضَلالٍ عن الحق في الدنيا وَسُعُرٍ ونيران تحرق في الآخرة، أو: لفي هلاك ونيران مسعرة، يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ يُجرّون فيها عَلى وُجُوهِهِمْ ويقال لهم:
ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ أي: قيسوا حرها وأَلمها، كقولك: وَجَدَ مسَّ الحمَّى، وذاق طعم الضرب لأن النار إذا أصابتهم بحرّها فكأنها تمسهم مسّاً بذلك، و «سقر» غير مصروف للعلمية والتعريف لأنها علم لجهنم، من: سقَرتْه النار:
إذا لَوّحتْه.
الإشارة: ما قيل في منكري خصوصية النبوة، يُقال في منكري خصوصية الولاية إذا اشتغل بأذاهم، يعني: أنَّ مَن أنكر على الأولياء المتقدمين قد أصابهم ما أصابهم، إما ذُل في الظاهر، أو طرد في الباطن، وأنتم أيها المنكرون على أهل زمانكم مثلُهم. أمنتقدكم خير مِن أولئكم أم لكم براءة مِن العذاب في كتب الله تعالى؟ أم يقولون: نحن جميع، أي: مجتمعون على الدين، لا يُصيبنا ما أصاب الكفار، فيُقال لهم: سيُهزم جمعكم، ويتفرّق شملكم، وتُفضوا إلى ما أسلفتم، نادمين على ما فعلتم، ولن ينفع الندم حين تزل القدم، فتبقون في حسرة البُعد على الدوام، فالكفار حُرموا من جنة الزخارف، وأنتم تُحرمون من جنة المعارف، مع غم الحجاب وذُل البُعد عن الحضرة القدسية، إن المجرمين- وهم أهل الطعن والانتقاد- في ضلال عن طريق الوصول إلى الله، ونيران القطيعة، يوم
(١) أخرجه الإمام أحمد (٢/ ٣٢٩) والطبري (٢٧/ ١٠٨). وزاد المناوى فى الفتح السماوي (٣/ ١٠١٨- ١٠١٩) عزوه لعبد الرّزاق وابن أبى حاتم، وابن مردويه، فى تفاسيرهم، من مرسل عكرمة.
534
يسحبون على وجوههم، فينهكمون في الدنيا في الحظوظ والشهوات، وفي الآخرة في نار البُعد والقطيعة، على دوام الأوقات، ويقال لهم: ذُوقوا مرارةَ الحجاب وسوء الحساب، وكل هذا بقدر وقضاء سابق، كما قال تعالى:
[سورة القمر (٥٤) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي: بتقدير سابق في اللوح قبل وقوعه، قد علمنا حالَه وزمانه قبل ظهوره، أو: خلقناه كل شيء مقدّراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة، و «كل» : منصوب بفعل يفسره الظاهر. وقرىء بالرفع شاذا، والنّصب أولى لأنه لو رفع لأمكن أن يكون «خلقنا» صفة لشيء، ويكون الخبر مقدراً، أي: إنا كل شيء مخلوق لنا حاصل بقدر، فيكون حجة للمعتزلة، باعتبار المفهوم، وأن أفعال العباد غير مخلوقة لله. فلم يسبق لها قدر، تعالى الله عن قولهم، ويجوز أن يكون الخبر: «خلقناه»، فلا حجة فيه، ولا يجوز في النصب أن يكون «خلقنا» صفة لشيء لأنه يفسر الناصب، والصفة لا تعمل في الموصوف، وما لا يعمل لا يفسر عاملاً. قال أبو هريرة: جاء مشركو قريش إلى النبي ﷺ يُخاصمونه في القدر، فنزلت الآية «١»، وكان عمر يحلف أنها نزلت في القدرية، أي: على طريق الإخبار بالغيب.
وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ أي: كلمة واحدة، سريعة التكوين، وهو قوله تعالى: كُنْ أي: وما أمرنا لشيء نريد تكوينه إلاّ أَن نَّقُولَ لَهُ: كُنْ، فيكون، أو: إلاّ فِعلة واحدة، وهو الإيجاد بلا معالجة، كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ في السرعة، أي: على قد ما يلمح أحد ببصره، وقيل: المراد سرعة القيامة، لقوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ «٢».
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي: أشباهكم في الكفر من الأمم، وقيل: أتباعكم، فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ من متعظ بذلك وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ من الكفر والمعاصي مكتوب على التفصيل فِي الزُّبُرِ في ديوان الحفظة، وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مِن الأعمال، ومِن كل ما هو كائن مُسْتَطَرٌ مسطور في اللوح بتفاصيله.
(١) أخرجه مسلم فى (القدر، باب كلّ شىء بقدر، ح ٢٦٥٦).
(٢) الآية ٧٧ من سورة النّحل.
535
ولمَّا بيَّن سوء حال الكفرة بقوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ... الخ، بيَّن حُسن حال المؤمنين، جمعاً بين الترهيب والترغيب فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي: الكفر والمعاصي فِي جَنَّاتٍ عظيمة وَنَهَرٍ أي: أنهار كذلك. والإفراد للاكتفاء بذكر الجنس، مراعاة للفواصل، وقرىء: «ونُهُر» «١» جمع «نَهَر»، كأَسَد وأُسُد. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان مرضيّ، وقرئ «فيمقاعد صدق» «٢»، عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ أي: مقربين عند مليك قادر لا يُقادَر قدر ملكه وسلطانه، فلا شيء إلا وهو تحت ملكوته، سبحانه، ما أعظم شأنه. والعندية: عندية منزلة وكرامة وزلفى، لا مسافة ولا محاسّة.
الإشارة: هذه الآية وأشباهها هي التي غسلت القلوب من الأحزان والأغيار، وأراحت العبد من كدّ التدبير والاختيار لأنّ العاقل إذا علمَ عِلم يقين أنّ شئونه وأحواله، وكل ما ينزل به، قد عمّه القدر، لا يتقدّم شيء عن وقته ولا يتأخر، فوَّض أمره إلى الله، واستسلم لأحكام مولاه، وتلقى ما ينزل به من النوازل بالرضا والقبول، خيراً كان أو شرًّا، كما قال الشاعر:
«إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته » الحديث. وانظر كشف الخفاء (ح/ ٢٦١٨).
إذَا كانتِ الأَقْدارُ مِن مَالكِ المُلْكِ فَسِيَّان عِندي مَا يَسرُّ وما يُبكي
وقال آخر:
تَسَلَّ عن الْهُمومِ تَسل «٣» فَما الدُّنيا سِوى ثوبٍ يُعارُ
وسَلِّم للمُهَيْمنِ في قَضَاهُ ولاَ تَخْتَرْ فلَيْسَ لَكَ اخْتِيارُ
فَما تَدرِي إِذا ما الليْلُ وَلَّى بِأَيِّ غَريبةٍ يَاتِي النَّهار
وقوله تعالى: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ.. الخ، هذا في عالمَ الأمر، ويُسمى عالم القدرة، وأما في عالم الخلق، ويسمى عالَم الحكمة، فجُلّه بالتدريج والترتيب، ستراً لأسرار الربوبية، وصوناً لسر القدرة الإلهية، ليبقى الإيمان بالغيب، فتظهر مزية المؤمن، ويُقال لأهل العناد المُتجبرة: ولقد أهلكنا أشياعكم إما بالهلاك الحسي، أو المعنوي، كالطرد والبُعد، فهل من متعظٍ، يرجع عن عناده؟ وكل شيء فعلوه في ديوان صحائفهم، وكل صغير وكبير من
(١) عزاها فى مختصر ابن خالويه/ ١٤٩ للأعرج. وزاد فى البحر المحيط (٨/ ١٨٢) الأعمش وأبا مجلز واليماني وأبا نهيك وزهير العرقبى. [.....]
(٢) عزاها فى مختصر ابن خالويه/ ١٤٩ وفى البحر المحيط (٨/ ١٨٢) لعثمان البتى.
(٣) كذا، والشطرة غير مستقيمة الوزن، وقد تكون: «تسل عن الهموم به تسل».
536
أعمال العباد مسطورة في العلم القديم. إنَّ المتقين ما سوى الله، في جنات المعارف، وأنهار العلوم والحِكَم، في مقعد صدق، هو حضرة القدس، ومحل الأنس، عند مليك مقتدر. قال الورتجبي: مقامات العندية جنانها زفارف الأنس، وأنهارها أنوار القدس، أجلسهم الله في بساط الزلفة والمداناة، التي لا يتغير صاحبها بعلة القهر، ولا يزول عنها بالتستُّر والحجاب لذلك سماه «مقعد صدق» أي: محل كرامة دائمة، ومزية قائمة، ومواصلة سرمدية، والله مقدّر قادر. انظر تمام كلامه.
وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم «١».
(١) إلى هنا ينتهى المجلد الخامس بتجزئة المحقق. ويتلوه- إن شاء الله- المجلد السادس، وأوله تفسير سورة «الرحمن»، أسأل الله تعالى أن ينفعنى وجميع المسلمين به، وأن يبلغنا بهذا الكتاب أسمى الدرجات، وأن يوفقنا لما يقربنا إليه فى كلّ الأوقات، وألا يجعلنا من المفتونين. اللهم اغفر لنا وارحمنا ويسر لنا كلّ عسير. آمين.
أحمد عبد الله القرشي
537
سورة الرحمن
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿الرحمنُ علَّمَ القرآنَ﴾ عدّد في هذه الصورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نِعمه الدينية والدنيوية، الأنفسية والآفاقية، وأنكر عليهم إثر كل منها إخلالهم بموجب شكرها، وبدأ بتعليم القرآن؛ لأنه أعظمها شأناً، وأرفعها مكاناً، كيف لا وهو مدار السعادة الدينية والدنيوية؟ وإسناد تعليم القرآن إلى اسم " الرَّحْمَان " للإيذان بأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها.
ثم ثنَّى بنعمة الإيمان، فقال: ﴿خَلَقَ الإِنسانَ﴾ أي: جنس الإنسان، أو آدم، أو محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بخلقه: إنشاؤه على ما هو عليه من القُوى الظاهرة والباطنة. ﴿علَّمه البيانَ﴾ وهو المنطق الفصيح، المُعْرِب عما في الضمير، وليس المراد بتعليمه: تمكينه من بيان ما في نفسه، بل منه ومِن فهم بيان غيره، إذ هو الذي يدور عليه التعليم. وأَخَّر ذِكر خلق الإنسان عن تعليم القرآن؛ ليعلم إنما خلقه للدين، وليُحيط علماً بوحي الله وكُتبه، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان، وهو البيان والإفصاح عما في الضمير. والجمل الثلاث أخبار مترادفة للرحمن، وإخلاء الأخيرتين عن العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزّك بعد ذلك، كثَّرك بعد قِلَّة، فعل بك ما لم يفعل أحدٌ بأحدٍ، فما تُنكر إحسانه؟.
266
ثم ذكر النِعَم الآفاقية، فقال: ﴿الشمسُ والقمرُ بحُسْبَانٍ﴾ أي: يجريان بحساب معلوم، وتقدير سويِّ، في بُروجهما ومنازلهما، بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية، وتختلف الفصول والأوقات، ويُعلم منها عدد السنين والحساب، ولو كان الدهر كله نهاراً أو ليلاً لبطلت هذه الحكمة، ولم يَدْر أحدٌ كيف يحسب شيئاً، ولاختلّ نظام العالم بالكلية، وقال مجاهد: (بحُسْبان) كحسبان الرحا، يدوران في مثل قطب الرحا، وهو مُؤيِّدٌ لأهل التنجيم. قال بعضهم: إنَّ الشمس قدر الدنيا مائة وعشرون مرة، لأجل ذلك أن الإنسان يجدها قبالته حيث صار. وقال في شرح الوغليسية: إنَّ الشمس قدر الدنيا بمائة ونيف وستين مرة، والقمر قدر الدنيا ثمان مرات، ويُحيط بهما بصر أقل من حبة السمسم، الله أكبر وأعز وأعلا. هـ. ويقال: مكتوب في وجه الشمس: " لا إله إلا الله محمد رسول الله، خلق الشمس بقدرته، وأجراها بأمره " وفي وجه القمر مكتوب: " لا إله إلا الله، محمد رسول الله، خالق الخير والشر بقدرته، يبتلي بهما مَن يشاء مِن خلقه، فطُوبى لمَن أجرى اللهُ الخير على يديه، والويل لمَن أجرى اللهُ الشر على يديه ".
﴿والنجمُ والشجرُ يسجدان﴾ النجم: النبات الذي ينجم، أي: يطلع من الأرض ولا ساق له، كالبقول، والشجر: الذي له ساق. وقيل: ﴿النجم﴾ : نجوم السماء وسجودهما: انقيادهما لما يُراد منهما، شُبّها بالساجدين من المكلّفين في انقيادهما، واتصلت هاتان الجملتان بالرحمن بالوصل المعنويّ، لِما علم أنَّ الحُسبان حسبانه، والسجود له لا لغيره، كأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه والنجم والشجر يسجدان له، ولم يذكر العاطف في الجُمل الأُولِ وجِيء به بعدُ؛ لأنّ الأُولَ وردت على سبيل التعديد كما تقدّم، ثم ردَّ الكلام إلى منهاجه في وصل ما يجب وصله؛ للتناسب والتقارب بالعطف وبيان والتناسب: أنَّ الشمس والقمر سماويان، والنجم والشجر أرضيان، فعطف أحد المتقابلين على الآخر، وأيضاً: حُسبان الشمس والقمر نوع من الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود النجم والشجر. ثم قال تعالى: ﴿والسماءَ رفَعها﴾ أي: خَلَقها مسموكةً مرفوعةً، حيث جعلها منشأ أحكامه، ومسكن ملائكته الذي يهبطون بالوحي على أنبيائه، ونبّه بذلك على كبرياء شأنه، ومُلكه وسلطانه، ﴿وَوَضَعَ الميزانَ﴾ أي: كل ما يُوزن به الأشياء ويعرف مقاديرها، من ميزان، وقَرَسْطون، ومكيال، ومعيار، والقرسطون - بفتحتين: العدلة التي توزن بها الفضة، أي: خَلَقه موضعاً على الأرض من حيث علّق به أحكام العباد على التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم. وقيل: معنى الميزان، العدل، أي: شرع العدل وأمر به حتى يوفّى كل ذي حق حقه، حتى انتظم أمر العالم واستقام، كما قال صلى الله عليه وسلم: " بالعدل قامت السماوات والأرض "، والعدل: ما حكمت به الشريعةُ المحمدية، من كتاب، وسُنة، وإجماع، وقياس. وأمر بذلك ﴿ألاَّ تَطْغَوْا في الميزانِ﴾ أي: لئلا تجوروا في الميزان بعد
267
الإنصاف في حقوق العباد، فـ " أن " ناصبة، أو مُفَسِّرة، أو ناهية، ﴿وأَقيموا الوزنَ بالقِسْطِ﴾ وأقيموا أوزانكم بالعدل ﴿ولا تُخْسِرُوا الميزانَ﴾ ولا تنقصوه بالتطفيف، نهى عن الطغيان، الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران، الذي هو تطفيف ونقصان، وكرّر لفظ " الميزان " تشديداً للوصية، وتقويةً للأمر باستعماله الحثّ عليه.
ولمّا ذكر نعمة الإمداد المعنوي، وهو مدد الأرواح، ذكر مددَ الأشباح، فقال: ﴿والأرضَ وضعها﴾ خفضها مدحوّة على الماء ﴿للأنام﴾ للخلق، وهو ما على وجه الأرض من دابة. وعن الحسن: الجن والإنس، فهي كالمهاد، يتصرفن فوقها. ﴿فيها فاكهةٌ﴾ ضروب مما يُتفكّه به، ﴿والنخلُ ذاتُ الأكمام﴾ وهي أوعية الثمر، واحدها: كِمٌّ، بكسر الكاف، أو: كلّ ما يَكُم، أي: يُغطّى، من ليفه وسعفه وكُفُرَّاه، والكُفرّ: وعاء الطَّلْعِ، وكله مُنتفع به، كما يُنتفع بالمكموم من ثمره وجُمّاره وجّذوعه.
﴿والحبُّ ذو العَصْفِ﴾ هو ورق الزرع، أو التبن، ﴿والريحانُ﴾ أي: الرزق وهو اللبّ، أي: فيها ما يتلذذ به، والجامع بين التلذُّذ والتغذّي، وهو تمر النخل، وما يتغذّى به فقط، وهو الحب المشتمل على علق الدواب وزرق العباد. وقرأ الأخَوان: (والريحانِ) بالجر، عطفاً على " العصف " والباقون بالرفع عطفاً على " الحب " على حذف مضاف، أي: وذو الريحان، فحذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: معناه: وفيه الريحان الذي يُشم. وقرأ الشامي بنصب الجميع، أي: خلق الحب والريحان.
﴿فَبأيّ آلاءِ رِّبكما﴾ أي: نِعَمَه التي عَدَّدها من أول السورة، ﴿تُكَذِّبان﴾ والخطاب للثقلين المدلول عليهما بقوله تعالى: ﴿للأنام﴾ وينطق به قوله: ﴿أيه الثقلان﴾ والفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصّل من فنون النعماء، وصنوف الآلاء، الموجبة للإيمان والشكر، والتعرُّض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية، مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ. ومعنى تكذيبهم آلائه تعالى: كفرهم بها، وإمّا بإنكار كونه نعمة في نفسه، كتعليم القرآن وما يستند إليه من النعم الدينية، وإمّا بإنكاره كونه من الله تعالى مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه، كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره تعالى، اشتراكاً أو استقلالاً، صريحاً أو دلالة، فإنَّ إشراكهم لآلهتهم معه تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى. انظر أبا السعود. أي: إذا كان الأمر كما فصّل فبأيّ فرد من أفارد نعمه تعالى تُكذِّبان، مع أنّ كُلاًّ منها ناطق بالحق، شاهد بالصدق؟ والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أنَّ " الرحمن " من الأسماء الخاصة بالذات العلية، لا يُوصف به غيره تعالى، لا حقيقة ولا مجازاً؛ لأنها مقتضية لنعمة الإيجاد، ولا يصح مِن غيره، بخلاف
268
" الرحيم " فإنه مقتضٍ لنعمة الإمداد، وقد يصح من غيره تعالى مجازاً، فلذلك يجوز أن يُوصف العبد بالرحيم، ولا يوصف بالرحمن، ثم إنَّ الرحمة المشتمل عليها الرحمن على قسمين: رحمة ذاتية لا تُفارق الذات، ورحمة صفاتية يقع بها الإمداد للخلق، فيرحَم بها مَنْ يشاء من عباده، وتسمى الرحمة الذاتية رحمانية، ولمَّا كانت لا تُفارق الذات وقع التعبير بها في الاستواء، فقال تعالى: ﴿الرحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥]، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ﴾ [الفرقان: ٥٩]، وإليه أشار في الحِكَم بقوله: يا مَن استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيباً في رحمانيته... الخ.
وأما الرحمة الصفاتية، وهي التي يقع بها الإمداد، فتتنوع بتنوُّع الأسماء الحسنى، وهي تسعة وتسعون. أمّا الأسماء الجمالية فالرحمة فيها ظاهرة، وأمّا الأسماء الجلالية فالرحمة فيها: عدم انفكاك لطف الله عن قدره، والرحمة الذاتية هي المُوفية مائة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " إنّ اللهَ تعالى خَلَقَ مائةَ رحمة، أَمسك عنده تسعةً وتسعين، وأنزل واحدةً إلى الدنيا، بها يتراحم الخلقُ " الحديث، أو كما قال عليه السلام. ولمَّا كان القرآن من أجلّ النِعَم عبّر عن تعليمه بالرحمانية، التي هي من الصفات الخاصة؛ لأنّ القرآن مُظهر لأوصاف الذات وأسرارها وأفعالها، وكاشف لحقائقها، عند مَن فُتحت بصيرته.
وقوله تعالى: ﴿خَلَقَ الإِنسانَ﴾ أي: أظهره من سر اللطافة إلى مظهر الكثافة جاهلاً به من جهة الجسمانية، ثم ﴿علَّمه البيان﴾ أي: بيان السير إلى معرفته، بأن ركّب فيه العقل المميز، ونَصَبَ له مظاهر يتعرّف بها، وبعث له دالاًّ يدله، ويُعلمه أسرار الربوبية وآداب العبودية، فلا يزال يُحاذيه، ويسير به حتى يستنير قمر توحيده، وتُشرق شمس عرفانه، وإليه الإشارة بقوله: ﴿الشمس والقمر بُحسبان﴾ أي: يجريان بحسب معلوم، في زيادة نور التوحيد ونقصانه، على حسب استعداد العبد وتوجهه. قال القشيري بعد كلام: وكذلك شموس المعارف، وأقمار العلوم - في طلوعها في أوْج القلوبِ والأسرار - في حكم الله تعالى وتقديره حسابٌ معلومٌ، يُجْريهما على ما سبق به الحُكْمُ. هـ. والنجم والشجر يسجدان، أي: ونجم نور العقل الطبيعي، وشجر الفكر الاعتباري يخضعان ويضمحلان عند سطوع شمس نهار العرفان، وأمَا نور العقل الوهبي، والفكر الاستبصاري، فيطويان الكونَ طيّاً؛ لانَّ نورهما مستمد من العقل الأكبر، وهو أول الفيض الإلهي، المتدفق من بحر الجبروت، وسماء الأرواح، رَفَعَا عن لوث عالم الأشباح، وهو محل شهود أسرار الذات وأنوار الصفات، وتجليات الأنبياء والرسل، فمَن ترقّى إليه لا تغيب عنه أرواح الأنبياء وذواتهم، فالمتجلي واحد. ووضع الميزان على النفوس الظلمانية، ألاَّ تَطْغَوا في الميزان، بتعديّ حدود الرياضة والمجاهدة، وأقيموا عليها الوزن بالقسط، ولا تُخسروا
269
الميزان بإهمالها في هواها وحظوظها. والأرض، أي: أرض البشرية وضعها لقيام وظائف العبودية، اليت رتّبها للأنام، فيها فاكهة العلوم الوهبية إن صفت، ونَخْل علوم الشريعة ذات الأكمام، وهي البراهين التي تستخرج بها مسائلها، فمَن وقف مع قشر الأكمام كان مقلِّداً. ومَن نفذ إلى لُبها كان مجتهداً منِ نِحريراً.
وقال القشيري: ﴿والنخلُ ذات الأكمام﴾ من فواكه الوحدانيات المستورة عن الأغيار، المستورة عن غير أهلها. ثم قال: ﴿والحب ذو العصف﴾ من حبة المحبة الذاتية، غير القابلة للتغيُّر والاستبدلال، المشتملة على الأرزاق المكتنفة بالمعارف والحاقئق والحِكِم. هـ. والريحان هو قوت الأرواح من اليقين، أو نسيم الأذواق والوجدان، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذّبان﴾ أيها الثقلان، أو أيها النفس والروح؛ إذ كل منهما فاز بأمنيته، ووصل إلى نهاية ما اشتهاه، إذا عمل بما تقدّم، وأصغى بأُذن قلبه إلى ما عددناه. وبالله التوفيق.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿خَلَقَ الإِنسانَ﴾ آدم ﴿من صلصالٍ﴾ من طين يابس، له صلصلة، أي: صوت ﴿كالفَخَّار﴾ كالطين المطبوخ بالنار وهو الخزف. ولا تخالف بين هذا وبين قوله: ﴿مِّنْ حَمإٍ مَّسْنُونٍ﴾ [الحجر: ٢٦] و ﴿مِّن طِينٍ لاَّزِب﴾ [الصافات: ١١] لاتفاقهما معنىً، لأنَّ المعنى: أنَّ أصل خلقه من تراب، ثم جعله طيناً، ثم حمأً مسنوناً، ثم صلصالاً. ﴿وخَلَقَ الجانَّ﴾ أي: الجن، او أبا الجن إبليس، ﴿من مَارجٍ من نار﴾ والمارج هو اللهب الصافي، الذي لا دخان فيه، وقيل: المختلط بسواد النار، من: مَرجَ الشي: إذا اضطرب أو اختلط، و " مِن ": بيانية، كأ، هـ قيل: مِن صاف النار، أو مختلط من النار، أو أراد: من نار مخصوصة.
﴿فبأي آلاءِ ربكما تُكَذِّبان﴾ مما أفاض عليكما في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم. قال القشيري: وكرّر سبحانه هذه الآية في غير موضع، على جهة التقرير بالنعمة على التفاصيل. نعمة بعد نعمة، ووجه النعمة في خلق آدم من طين: أنه رقّاه إلى رتبةٍ
270
بعد أن خلقه من طين، وكذلك القول في ﴿مارج من نار﴾. هـ. يعني: أنَّ آدم رقّاه إلى رتبة الروحانية والخلافة، والجن إلى رتبة التصرُّف الباطني في الآدمي وغيره.
﴿ربُّ المشْرِقَين وربُّ المغربين﴾ أي: مشرقي الشمس في الصيف والشتاء، ومَغْربيها. قال ابن الحشا: المشرق الشتوي: هو النقطة التي تطلع فيها الشمس فيها في الأفق في نصف دجنبر، أقصر ما يكون النهار من أيام السنة، والمشرق الصيفي: هو النقطة التي تطلع فيها الشمس في نصف يونية، أطول ما يكون من أيام السنة. والمغربان: حيث تغرب في هذين اليومين، ومشارق الشمس ومغاربها في سائر أيام السنة ليس هذين المشرقين والمغربين. هـ. وقوله: في نصف دجنبر ونصف يونية، هذا في زمانه، وأمّا اليوم فهي على ثمانية أيام ونحوها، لزيادة حركة الإقبال. قال ابن عطية: متى وقع ذكر المشرق والمغرب فهو إشارة إلى الناحيتين، أي: مشرق الصيف والشتاء ومغربهما. ومتى وقع ذكر الشارق والمغارب فيهو إشارة إلى تفصيل مشرق كل يوم ومغربه، ومتى ذكر المشرقان فهو إشارة إلى نهايتي المشارق والمغارب؛ لأنّ ذكر نهايتي الشيء ذكر لجميعه. هـ.
﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ قال القشيري: ووجه النعمة في مشرق الشمس ومغربها: جريانه على ترتيب بديع؛ ليكمل انتفاع الخلق بذلك. هـ.
﴿مَرَجَ البحرين يلتقيان﴾ أي: أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين، لا فصل بين الماءين بإسماك أحدهما عن الآخر في مرأى العين. قال في الحاشية: ويُقرب ما ذكره ما هو مشهود في الريف مع الماء، فاعتبر به، وبالأبيض من البيضة مع الأصفر منها، وقيل: أرسل بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط؛ لانهما خلجان يتشعبان منه، ﴿بينهما برزخٌ﴾ حاجز من قدرة الله تعالى، ﴿لا يَبغِيان﴾ لا يتجاوزان حدّيهما، ولا يبغي أحدُهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية، أو: لا يتجاوزان حدّيهما بإغراق ما بينهما، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ وليس شيء منها يقبل التكذيب. ﴿يَخْرُجُ منهما اللؤلؤُ والمَرجانُ﴾ اللؤلؤ: الدرّ، والمَرجان: الخرزُ الأحمر المشهور. قلت: هو شجر ينبت في الحجر في وسط البحر، وهو موجود في بحر المغرب، ما بين طنجة وسبتة. وقال الطرطوشي: هو عروق حُمر يطلع من البحر كأصابع الكف، وشاهدناه بأرض المغرب مراراً. هـ. وقيل: اللؤلؤ: كِبار الدر، والمرجان: صِغاره. وإنما قال: " منهما " وهما إنما يخرجان من الملح؛ لأنهما لمّا التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يُقال: يخرجان منهما. ونقل الأخفش عن قوم: أنهما يخرجان من المالح والعذب، وليس لِمن ردّه حجة قاطعة، ومَن أثبت أَولى ممن نفى. هـ. قال أبو حيان: والظاهر خروجهما منهما، وحكاه الأخفش عن قوم. هـ. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذَّبان﴾ مع ظهور هذه النعمة.
﴿وله الجوارِ﴾ أي: السفن، جمع: جارية، ﴿المُنشَئاتُ﴾ المرفوعات الشُرَّع، وقرأ حمزة ويحيى بكسر الشين، أي: الرافعات الشُروع، أي القلاع، أو: اللاتي يُنشئن الأمواج
271
بمَخْرهن ﴿في البحر كالأعلام﴾ كالجبال الشاهقة، جمع عَلَم، وهو الجبل الطويل، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ مِن خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها، وكيفية تركيبها، وإجرائها في البحر، بأسباب لا يَقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه.
﴿كُلُّ مَن عليها﴾ على الأرض ﴿فانِ ويبقى وجهُ ربك﴾ أي: ذاته، قال القشيري: وفي بقائه سبحانه خَلَفُ من كلِّ تلفٍ، وتسليةٌ للمؤمنين عما يُصيبهم من المصائب، ويفوتهم من المواهب. هـ. ﴿ذو الجلال﴾ ذو العظمة والسلطان، ﴿والإِكرام﴾ أي: الفضل التام بالتجاوز والإحسان. وهذه الصفة من عظم صفات الله تعالى، وفي الحديث: " ألظوا - أي: تعلقوا - بيا ذا الجلال والإكرام " يعني: نادوه به، يُقال: ألظ بالمكان: إذا أدام به، وألظ بالدعاء: إذا لزمه، وروي أنه ﷺ مرّ برجل يُصلِّي، ويقول: يا ذا الجلال والإكرام، فقال: " قد استُجيب لك " ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ فإنَّ إفناءهم وإخراجهم من ضيق هذه الدار الدنية، وإحياءهم وإبقاءهم في الدار الباقية في النعيم السرمدي من عظائم النِعم.
الإشارة: اختص مظهَر الإنسان عن سائر المظاهر باعتدال خلقته، لطافةً وكثافةً، معنىً وحسّاً، روحانيّاً وبشريةٌ، فلذلك فاقت معرفته إذا عرف سائر المخلوقات، بخلاف الجن والملائكة، اللطافةُ غالبة عليهم، فمَن كان منهم عارفاً لا تجده إلا متحرفاً، غالباً عليه الهيمان والسُكْر، وأمّا الآدمي فمَن غلبت رَوحانيتُه على صلصاليته، ومعناه على حسه، كان كالملائكة أو أفضل، ومَن غلبت طينتُه على روحانيته، وحسُّه على معناه، كان كالبهائم أو أضلّ.
وقوله تعالى: ﴿رَبُّ المشرقين وربُّ المغربين﴾ أي: رب مشرق شمس العرفان وقمر الإيمان، ومغربهما عند غين الأنوار والأغيار. وقال القشيري: يُشير مشرق الروح والقلب، ومغرب النفس والهوى. هـ. فإذا أشرق نور الروح والقلب غابت ظلمة النفس والهوى، وإذا استولت ظلمة النفس والهوى على الروح والقلب غربت شمسهما، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ مع ما في ذلك في اللطائف الغامضة، والغوامض الخفية، من عدم سكون الروح والقلب إلى التجلِّي الجمالي، وعدم اضطراب النفس والهوى بالتجلِّي القهري الجلالي؛ لأنَّ الكامل من هذه الطائفة هو الذي يُشاهد الجمالَ في الجلال، والجلالَ في الجمال، فلا يسكن إلى شيء، ولا يقف مع شيء.
وقوله تعالى: ﴿مَرَجَ البحرين يلتقيان﴾ يُشير إلى بحر علم الشريعة، وبحر علم الحقيقة، يلتقيان في الإنسان الكامل، ﴿بينهما برزخ﴾ وهو العقل، فإنه يحجز الشريعةَ أن
272
تعدو محلها، والحقيقة أن تُجاوز محلها، فالشريعة محلها الظواهر، والحقيقة محلها البواطن، والعقل برزخ بينهما، يقوم بحُكم كل واحدة منهما، فمَن خفَّ عقله غلبت إحداهما عليه، إمّا الشريعة، فيكون يابساً جامداً لا يخلو من فسوق، وإمّا الحقيقة، فيكون إما سكراناً أو زنديقاً. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان؟﴾ حيث هَدى العبدَ إلى القيام بحقهما، وإنزال كل واحدة في محلها، ﴿يَخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ فيخرج من بحر الحقيقة جواهرَ الحِكم ويواقيت العلوم، ومن بحر الشريعة مَرجان تحرير النقول، وتحقيق مبانيها، والإتيان بها من معادنها، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذَّبان﴾ حيث وفَّق غوّاص بحر الحقيقة إلى استخراج أسرارها، وغوّاص بحر الشريعة إلى إظهار أنوارها. ﴿وله الجوارِ﴾، أي: سفن استخراج أسرارها، وغوّاص بحر الشريعة إلى أظهار أنوارها. ﴿المنشأت﴾ في بحر الذات، مع رسوخ عقلها، كالجبل الراسي، فتعوم سفنُ أفكار العارفين في بحر الجبروت وأنوار الملكوت، ثم ترسي في مرساة العبودية، للقيام بآداب الربوبية، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ مع عظيم هذا اللطف الكبير، والمنَّة الكريمة، حيث يتلاطم عليهم أموَاجُ بحر الذات، فيكونوا من المغرقين في الزندقة، أو ذهاب العقل بالكلية، لكن مَنْ صَحبَ رئيسا عارفاً لا يخاف من الغرق إن شاء الله.
﴿
كلُّ مَن عليها فانٍ﴾
كل مَنْ على بساط المملكة فَانٍ متلاشٍ، ﴿ويبقى وجه ربك﴾ أي: ذاته المقدسة، فلا موجود معها على الحقيقة، كما قال الشاعر:
فَالْكُلُّ دُونَ اللَّه إِنْ حَقَّقْتَه
عَدمٌ عَلَى التَّفْصِيل والإجمال
وهذا معلوم عند أرباب الأذواق، مُقرر عند أهل الفناء والبقاء، فلا يجحده إلاَّ جهول، كما قال تعالى: ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾ ؟.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يَسْألُه مَن في السماوات والأرض﴾ مِن ملَكٍ وإنسٍ وجن وغيرهم، لا غنى لأحد منهم عنه سبحانه، كل منهم يسأل حاجته، إما بلسان مقاله، أو بلسان حاله، أهل السموات يسأله قوت أرواحهم، وأهل الأرض قوتَ أشباحهم
273
وأرواحهم. وقال أبو السعود: فإنهم كافة، من حيث حقائقهم الممكِنة، بمعزلٍ من استحقاق الوجود، وما يتفرّع عليه من الكمالات بأسره، بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشمُّوا رائحة الوجود أصلاً، فهم في كل أمر مستمدون على الاستدعاء والسؤال. هـ.
ويُوقف على قوله: ﴿والأرض﴾ ثم يبتدأ بقوله: ﴿كُلَّ يومٍ﴾ فهو ظرف لقوله: ﴿هو في شأن﴾ أي: هو كائن كل وقت وحين في شأنٍ من شؤون خلقه، التي من جملتها: إعطاؤهم ما سألوا، فإنه تعالى لا يزال يُنشئ أشخاصاً، ويُفني آخرين، ويأتي بأحوالٍ ويذهب بأحوالٍ، حسبما تقتضيه مشيئته، المبنية على الحِكَم البالغة، وسمعتُ شيخنا الفقيه العلاّمة، سيدي " التاودي بن سودة " - رحمه الله - يقول في تفسيرها: إنَّ من شؤونه تعالى أنه كل يوم يُجهّز ثلاثة جيوش: جيشاً إلى الأرحام، وجيشاً إلى الدنيا، وجيشاً إلى المقابر. هـ. وعن ابن عيينة: الدهر عند الله يومان، أحدهما: اليوم الذي هو مدة الدنيا، فشأنه فيه: الأمر والنهي، والإحياء والإماتة، والإعطاء والمنع، والآخر: يوم القيامة، فشأنه فيه: الجزاء والحساب.
ورُوي عنه ﷺ أنه تلاها، فقيل له: ما هذا الشأن؟ فقال: " من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرّج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين " وقيل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شأناً، فردّ الله عليهم؛ والمراد بهذه الشؤون: أمور يُبديها ولا يبتديها، فقد جفّ القلم بما هو كائن إلى ما لا نهاية له. ومنه: ما جاء في القضاء على الولد في الرحم، بسعادةٍ أو غيرها، ليس ذلك القضاء إنشاء وابتداء، وإنما هو إبداء وإظهار للملائكة ما سبق به قضاؤه وقدره، وهو مسطور في اللوح، ولذلك جاء: " إنه يُقال للملك: انطلق إلى أم الكتاب، فينطلق، فيجد قصة ذلك فيه... " الحديث. وقيل: شأنه تعالى: سَوْق المقادير إلى المواقيت.
قال النسفي: قيل: إنَّ عبدَ اللهِ بن طاهر دعا الحسينَ بن الفضل، وقال له: أشكلت عليّ ثلاث آيات، دعوتك لتكشفها لي، قوله تعالى: ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾ [المائدة: ٣١] وقد صحّ: أن الندم توبة، وقوله: ﴿كُلَّ يَوْمِ هُوَ فِي شأنٍ﴾ وقد صحّ أن القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقوله: ﴿وَأَن لَّيْسَ للإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾ [النجم: ٣٩] فما بال الأضعاف؟ فقال الحسين: يجوز ألاَّ يكون الندم توبة في تلك الآية. وقيل: إن ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، ولكن على حمله وتكلفه مشقته، وقوله: ﴿وأن ليس للإِنسان إلا ما سعى﴾ مخصوص بقوم إبراهيم وموسى - عليهما السلام-، وأمَّا قوله: ﴿كُلَّ يَوْمِ هُوَ فِي شأن﴾ فإنها شؤون يُبديها لا يبتديها، فقال عبدُ الله فقبَّل رأسه ووسّع خراجه. هـ.
274
﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ مع مشاهدتكم لما ذكر من شؤون إحسانه تعالى.
﴿سَنَفْرُغ لكم أيه الثقلانِ﴾ سنتجرّد لحسابكم وجزائكم، مستعار من قول الرجل لمَن يتهدّده: سأفرغ لك، أي: سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنك، ويجوز أن يُراد: ستنتهي الدنيا ويبلغ آخرها، وينتهي عند ذلك شؤون الخلق، التي أرادها بقوله: ﴿كُلَّ يَوْمِ هُوَ فِي شأن﴾ فلا يبقى إلاَّ شأن واحد، وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغاً لهم على طريق المثل، و " الثقلان ": الجن والإنس، سُمّيا بذلك؛ لثقلهما على الأرض، أو: لرزانة آرائهما، أو: لأنهما مُثقلان بالتكليف، ﴿فبأي آلاء ربكما﴾ التي من جملتها: التنبيه على ما يلقونه يوم القيامة، للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب، ﴿تُكذِّبان﴾ بأقوالكما أو بأعمالكما.
﴿يا معشرَ الجنِّ والإِنس﴾ هو كالترجمة لقوله: " أيه الثقلان " ﴿إِن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرضِ﴾ بأن تهربوا من قضائي، وتخرجوا من ملكوتي، ومن أقطار سماواتي وأرضي، ﴿فانفذوا﴾ وخلِّصوا أنفسكم من عقابي، ﴿لا تنفُذون﴾ لا تقدرون على النفوذ ﴿إِلاَّ بسلطانٍ﴾ إِلاّ بقوةٍ وقهرٍ، وأنتم من ذلك بمعزلٍ بعيد. قيل: يُقال لهم هذا يوم القيامة، حين تُحدق بهم الملائكة، فإذا رآهم الجن والإنس هربوا، فلا يأتون وجهاً إلاّ وجدوا الملائكة أحاطت به. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ التي من جملتها: التنبيه والتحذير؛ ليقع التأهُّب لتلك الأهوال.
﴿يُرْسَلُ عليكم شُواظ من نارٍ﴾ أي: لهب خالص منها. وفيه لغتان: ضم الشين وكسرها، ﴿ونُحاسٌ﴾ أي: دخان، مَن رفعه عطفه على " شواظ " ومَن جرّه فعلى " نار "، والمعنى، إذا خرجتم من قبوركم يُرسل عليكم لهب خالص من النار، ودخان يسوقكم إلى المحشر، ﴿فلا تنتصرانِ﴾ فلا تمنعان منهما، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ فإنَّ بيان العواقب لُطفٌ ونعمةٌ لمَن ينتبه.
﴿
فإِذا انشقت السماءُ﴾
أي: انصدعت يوم القيامة ﴿فكانت وَرْدَةً﴾ فصارت كلون الورد الأحمر ﴿كالدِّهان﴾ كدهن الزيت، كما قال: ﴿كَالْمُهْلِ﴾ [المعارج: ٨] وهو دُردِيّ الزيت، وهو جمع دهن، وقيل: الدهان: الأديم الأحمر. وجواب " إذا " محذوف، أي: يكون من الأهوال والأحوال ما لا يحيط به دائرة المقال.
قلت: وهذا الانشقاق يحصل للسموات والناسُ في المحشر، ثم تدنو الشمس من الخلائق، فيعظم الخطب والهول، إلاّ ما استثني في حديث السبعة. وقيل: يحصل قبل
275
البعث، كما في البدور السافرة. والله أعلم بحقيقة الأمر.
﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ مع عِظم شأنها، ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسأل عَن ذَنبِهِ إِنس وَلاَ جانٌّ﴾ لأنهم يُعرفون بسيماهم وذلك أول ما يخرجون من القبور، ويُحشرون إلى الموقف أفواجاً على اختلاف مراتبهم، وأمّا قوله تعالى: ﴿فوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الحجر: ٩٢] ونحوه؛ ففي موقف المناقشة والحساب، فيوم القيامة يوم طويل، وفيه مواطن، يُسألون في موطن، ولا يُسألون في آخر. وقال قتادة: قد كانت مسألة، ثم ختم على أفواه القوم. وقيل: لا يُسأل ليَعلم من جهته، ولكن يُسأل للتوبيخ. وضمير ﴿ذنبه﴾ للإنس لتقدُّمه رتبة، وإفراده لأنّ المراد فرد من الإنس، والمراد بالجان الجن، فوضع الجان - الذي هو أبو الجن موضع الجن، كأنه قيل: لاَّ يُسأل عَن ذَنبِهِ أنسي ولا جني، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾ مع كثر منافعها؛ فإنَّ الإخبار بما ذكر يزجركم عن الشر المؤدي إليه.
الإشارة: يسأله مَن في سماوات الأرواح ما يليق بروحانيته، من كشف الأسرار، وتوالي الأنوار، فهو دائم سائل مفتقر، لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، وسؤاله إما بلسان حاله أو مقاله، ويسأله مَن في أرض البشرية ممن لم يترقّ إلى عالم الروحانية ما يليق بضعف بشريته، من القوت الحسي، وما يلائمه من ضرورية البشرية، أو يكون سبب نجاته ونعيمه يوم القيامة، من الاستقامة الظاهرة.
وأشار بقوله: ﴿كُلَّ يَوْمِ هُوَ فِي شأن﴾ إلى اختلاف تجلياته في كل لحظة، فيتجلّى في ساعة واحدة بقبض قوم وبسط آخرين، ورفع قوم وذلّ آخرين، وإعطاء قوم ومنع آخرين، وترقية قوم وخفض آخرين، إلى ما لا نهاية له، ولذلك تختلف الواردات على قلوب العارفين، ينسخ بعضها بعضاً، ولذلك أيضاً تجد العارفين لا يسكنون إلى شيء، ولا يقفون مع شيء ولا يُعولون على شيء، بل يَنظرون ما يبرز من عنصر القدرة، فيسيرون معه، إذا أصبحوا نظروا ما يفعل الله بهم، وإذا أمسوا كذلك، قد هدمت المعرفة أركانَ عزائمهم، وحلّت عقدهم، فهم في عموم أوقاتهم لا يُريدون ولا يختارون ولا يُدبّرون؛ لعِلمهم أن الأمر بيد غيرهم، ليس لهم من الأمر شيء.
وقوله تعالى: ﴿سنفرغ لكم أيه الثقلان﴾ فسّر القشيري الثقلين بالروح وصفاتها الحميدة، وبالنفس وصفاتها الذميمة، أي: سنفرغ لإكرامكم، ورفع أقداركم يا معشر الأرواح المطهرة، بأن أتجلّى لكم، فتُشاهدوني في كل وقت وحين، وسنفرغ لكم أيتها النفوس الظلمانية بأنواع الامتحان بصُنوف المحن، فلا تدخلوا جنتي حتى تتهذبوا وتصفوا من كدرات الأغيار، ولا أتجلّى لكم إلاّ في وقت الاحتياج والاضطرار. والحاصل: أنَّ المدار كله على هذه الدار، فمَن صفا هنا صُفي له ثَمّ، ومَن كدر هنا كدر عليه هناك. ويُقال لأهل النفوس الظلمانية: ﴿يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض﴾ بفكرة بصائركم فانفذوا، ولا قدرة لكم على ذلك؛ لسجن أرواحكم
276
في هياكل ذواتكم، وإحاطة دائرة الكون بكم، لا تنفذون إلاّ بسلطانٍ: إلاّ بقوة سلطان أرواحكم على نفوسكم، فتجذبها إلى عالم الروحانية، بصحبة طبيب ماهر، فحيئذ تنفذ بصيرتكم عن دائرة الأكوان، وتُفضوا إلى فضاء العيان، وإذا كان يوم القيامة خرقت أرواحُهم بأشباحهم محيطاتِ الأكوان، وأَفضوا في الهوى إلى سعة الجنان، قال تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِين﴾ [الشعراء: ٩٠]، وقد تقدّم معناه.
﴿يُرسل عليكم شُواظ من نار ونُحاس... ﴾ الخ، قال القشيري: يُخاطب معشر جن النفس بإرسال لهب البُعد والقطيعة عليهم، بواسطة انغماسهم وانهماكهم في استيفاء اللذات الجسمانية، والشهوات الحيوانية، على الدوام والاستمرار، ويُخاطب معشر إنس الروح بصب الصُفر المذاب على رؤوسهم، بسبب انحطاطهم من المقام الروحي العلوي، إلى المقام النفس السفلي بالتراجع، ولا يقدر أحدهما على نصرة الآخر. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذّبان﴾ فإنَّ تعذيب مستحق العذاب، وتنعيم متسحق النعيم، والتمييز بين جن النفس العاصي، وبين إنس الروح، من الآلاء العظيمة. هـ. فإذا انشقت السماء الحسية، أي: ذابت وتلاشت بذكر اسم الله عليها من العارف، فكانت وردةً يهب بنسيم المعاني من أكنافها، كالدهان: كالزيت المُذاب، حين تذوب بالفكرة الصافية، والحاصل: أنَّ سائر الكائنات، تذوب وتتلطّف حين تستولي عليها المعاني القائمة بها، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾ مع ظهور هذه النعمة العظيمة، التي خَفِيَتْ عن جُلّ الناس، ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسأل عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ ممن بلغ منهم إلى هذه المرتبة العظيمة، فأهل العيان لم يبقَ في حقهم طاعة ولا عصيان، فلا يتوجه إليهم سؤال ولا عتاب، وفي مناجاة الحق لسيدنا موسى عليه السلام: لا يا موسى إنما يُطيعني ويعصيني أهل الحجاب، وأما مَن لا حجاب بيني وبينه فلا طاعة في حقه ولا معصية. وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه: يبلغ الولي مبلغا يُقال له: افعل ما شئت، أصحبناك السلام، وأسقطنا عنك الملامة. هـ. وهذا بعد محق أوصاف النفس، وبعد التحقق بالفناء والبقاء. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يُغْرَفُ المجرمون﴾ أي: الكفرة ﴿بسيماهم﴾ بسواد وجوههم، وزُرقة عيونهم، أو: بما يعلوهم من الكآبة والحزن. قيل: هو تعليل لقوله: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسأل عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ﴾ أي: لا يُسألون لأنهم معروفون، ﴿فيُؤخذُ بالنواصي والأقدام﴾ أي: يُجمع بين نواصيهم وأقدامهم في سلسلة من وراء ظهورهم،
277
وقيل: تسحبهم الملائكةُ، تارة يُأخذ بالنواصي، وتارة بالأقدام، فالجار نائب الفاعل، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ فإنَّ التخويف من هذه الأهوال قبل وقوعها من أجلّ النعم؛ ليقع الزجر عما يُؤدي إليها.
﴿هذه جهنمُ التي يُكذِّب بها المجرمون﴾ أي: يُقال لهم: هذه جهنم التي كذبتم بها، توبيخاً وعقاباً، ﴿يطوف بينهما وبين حميمٍ آنٍ﴾ أي: بالغ من الحرارة أقصاها، فالحميم: المار الحار، " والآنِ ": البالغ في الحرارة، فهم يُعذّبون بين الحرق بالنار وشرب الحميم الحار. قال كَعْب: إن وادياً من أودية جهنم، يجتمع فيه صديد أهل النار، ينغمسون بأغلالهم فيه، حتى يخلع أوصالهم، ثم يُخرجون منها، وقد أحدث اللهخ لهم خلقاً جديداً، فيُلقون في النار، فذلك قوله تعالى: ﴿يطوفون بينها وبين حميمٍ آنٍ﴾، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾، وقد تقدّم تفسير كون هذا نِعماً مراراً.
الإشارة: فسَّر القشيري " المجرمون " هنا بطائفتين، الأولى: المتشدقون من علماء الكلام، الذي يتكلمون في ذاته وصفاته وأفعاله بما ليس لهم به علمٌ، ويُجادلون أربابَ الكشف والشهود بسبب علومهم الجدلية، ويفوهون بقوة الجبهة وصلابة الناصية، فلا شك أنهم يُجرون على ناصيتهم في نار البُعد والطرد عن مراتب أهل العرفان. الطائقة الثانية: المتصوفة الجاهلة، المنقطعون عن الطريق المستقيم، والمنهج القويم، بسبب دخولهم في هذه الطريق بالتقليد، من غير إذن شيخ كامل، واصِلٍ مُوصِل، فلا شك أنهم يخرجون بأقدامهم المُعْوَجة عن سلوك طريق الحق إلى نار البُعد والقطيعة. هـ. بالمعنى. والسيما التي يُعرفون بها، إما علو النفس، وغِلظة الطبع، وطلب الجاه، وإما قلقة اللسان، وإظهار العلوم، فالعارف الكامل بعكس هذا كله، متواضع، سهل، لَيِّن، الخفاء أحب إليه من الظهور، لسان حاله أفصح من مقاله. ثم قال تعالى: ﴿هذه جهنم التي يُكذِّب بها المجرمون﴾ المتقدمون، لأنهم ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحسنون صُنعاً، ﴿يطوفون بينها﴾ أي: بين نار القطيعة وحميم التدبير والاختيار، مِن هَمّ الرز، وخوف الخلق، وغم الحجاب: نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.
278
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ولِمَنْ خافَ مقامَ ربه﴾ أي: قيامه بين يديه للحساب ﴿يوم يقوم الناس لرب العالمين﴾ أو: قيامه تعالى على أحواله، من: قام عليه، إذا راقبه، كقوله: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد: ٣٣]. قال مجاهد: هو الرجل يهم بالمعصية، فيذكر الله تعالى، فيدعها من خوفه. قال السدي: شيئا، مفقودان: الخوف المزعج، والشوق المقلق. هـ. أي: للخائف ﴿جنتانِ﴾ أي: بستانان من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر، مسيرة كل بستان: مائة سنة. وقال صلى الله عليه وسلم: " هل تدرون ما هاتان الجنتان؟ هما بستانان في بستانين، قرارهما لابث، وفرعهما ثابت، وشجرهما نابت "، أَكْرَم بهما المؤمن ليتكامل سروره بالتنقُّل لمن جنة إلى جنة، وقيل: جنة لخوفه وجنة لتركه شهوته، أو: جنة لعقيدته وجنة لعمله، أو: جنة لفعل الطاعة وجنة لتركه المعصية، أو: جنة يُثاب بها وجنة يُتفضل عليه بها، أو: روحانية وجسمانية، أو: جنة للسابقين وجنة لأهل اليمين، أو: جنة للإنس وجنة للجن؛ لأنّ الخطاب للثقلين، كأنه قيل: لكل خائف منكما جنتان. والأول أرجح، وسيأتي في الإشارة بقيته، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾.
ثم وصف تلك الجنتين بقوله: ﴿ذَوَاتا أفَنانٍ﴾ أغصان، جمع " فَنن "، وخصّ الأفنان لأنها هي التي تُورق، ومنها تُجنى الثمار، وتعقد الظلال، أو جمع فَنّ، بمعنى النوع، أي: ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، مما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾ وليس فيها شيء يقبل التكذيب.
﴿
فيهما﴾
أي: في الجنتين ﴿عينانِ تجريان﴾ حيث شاؤوا إلى الأعالي والأسافل. وعن الحسن: تجريان بالماء الزلال، إحداهما: التسنيم، والأخرى: السلسبيل، وقيل: بالماء والخمر، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾، ﴿فيهما من كل فاكهةٍ زوجان﴾ صنفان، صنف معروف وصنف غريب، أو رطب ويابس. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾.
﴿متكئينَ﴾ نصب على المدح للخائفين، أو: حال منهم؛ لأنّ مَن خاف في معنى الجمع، ﴿على فُرُش بطائنُها من إِستبرقٍ﴾ من ديباج ثخين، وحيث كانت بطائنها كذلك فما ظنك بظاهرها؟ وقيل: ظاهرها سُندس، وقيل: من نور، وقيل: لا يعلمها إلاَّ الله. والبطائن: جمع بطانة، وهو: ما يلي الأرض، والإستبرق معرَّب، ﴿وجَنَى الجنتين دانٍ﴾ أي: ما يجتنى من أشجارها من الثمار قريب، يناله القائم والقاعد والمضطجع. قال ابن عباس رضي الله عنه: تدنو الشجيرة حتى يجنيها وليُّ الله، إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً، وإن شاء مضطجعاً.
قال القشيري: وفي الخبر المسند: " مَن قال سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله،
279
والله أكبر، غرس له بها ألف شجرة في الجنة، أصلها الذهب، وفرعها الدر، وطلعها كثدي الأبكار، ألين من الزبد، وأحلى من العسل، كلما أُخذ منها شيء عاد كما كان، وذاك قوله تعالى: ﴿وجَنَى الجنتين دانٍ﴾ إذا أرادوه أتى إلى أفواههم، حتى يتناولون من غير مشقة، ويقال: ينالها القائم والقاعد والنائم. هـ. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾، ﴿فيهن﴾ أي: الجنتين؛ لاشتمالها على أماكن وقصور ومجالس، أو: في هذه الآلاء المعدودة، من الجنتين والعينين والفاكهة والغرس والجَنْي، ﴿قاصراتُ الطَّرْفِ﴾ جَوار قَصَرْنَ أبصارَهنّ على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم، ﴿لم يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ﴾ أي: لم يمس الإنسيات أحدٌ من الإنس، لا الجنيات أحدٌ من الجن. والطمث: الجماع بالتدمية. وفي الآية دليل على أنّ الجن يطمثون كما يطمث الإنس. ﴿فبأي آلاء رَبكما تُكذِّبان كأنهنَّ﴾ أي: تلك الجوار ﴿الياقوتُ﴾ صفاءً ﴿والمَرْجانُ﴾ بياضاً، على أنَّ المرجان صغار الدر، أو: في الصفاء وحُمرة الوجه. قيل: إنَّ الجواري تلبس سبعين حلة، فيُرى مُخ ساقها من ورائها، كام يرى الشراب الأحمر في الزجاجة. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾.
﴿هَلْ جزاءُ الإِحسان إِلاَّ الإِحسانُ﴾ هو استئناف مقرر لِمَا فصّل قبله، أي: ما جزاء الإحسانِ في العمل إلاّ الإحسانُ في الثواب، قال أنس: قرأها النبي ﷺ فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قال: هل جزاءُ مَن أنعمتُ عليه بالتوحيد إلاّ الجنة " وفي لفظ آخر: " هل جزاء مَن أنعمت عليه بتوحيدي ومعرفتي إلاّ أن أُسكنه جنتي وحظيرة قدسي برحمتي " أو: هل جزاء مَن قال " لا إله إلا الله " إلاَّ الجنة. قال السدي: هل جزاء الذين أطاعوا في الدنيا إلاّ الكرامة في الآخرة. وقال جعفر الصادق: هل جزاء مَن أحسنتُ إليه في الأزل إلاَّ حفظ الإحسان عليه في الأبد. قال الحسن: هي مسجلة - أي مطلقة - للبر والفاجر، للفاجر في دنياه، وللبَر في عُقباه. هـ. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾.
الإشارة: ﴿ولمن خاف مَقام ربه﴾ فرَاقَبه، ثم شاهَده، ﴿جنتان﴾ جنة المعارف مُعجّلة، وجنة الزخارف معها مُؤجلة، أو: جنة المعارف لأرواحهم، وجنة الزخارف لأشباحهم. قال القشيري: جنتان: جنة مُعَجَّلة من حلاوة الطاعة ورَوْح القرب، ومؤجَّلة في الآخرة، وهي جنة الثواب، وهم مختلفون في جنان الدنيا على قدر تفاوت مقادير أحوالهم، كما يختلفون في الآخرة في درجاتهم. هـ. فجنة حلاوة الطاعة لأهل اليمين، وجنة روح القرب للمقربين. قال الورتجبي: جنتان: جنة المشاهدة وجنة المكالمة، جنة
280
المحبة وجنة المكاشفة، جنة المعرفة وجنة التوحيد، جنة المقامات وجنة الحالات، جنة القلب وجنة الروح، جنة الكرامات وجنة المداناة. هـ. أو: جنة الوصال وجنة الكمال، أو: جنة الكمال وجنة التكميل، أو جنة الفناء وجنة البقاء، أو جنة البقاء وجنة الترقِّي إلى غير انتهاء.
وقوله تعالى: ﴿ذواتا أفنان﴾ يُشير إلى ما في هاتين الجنتين من فنون العلوم والأذواق، والأسرار والأنوار، وتفنُّن الأفكار في بحار الأسرار، فيهما لكل واحدٍ عينان تجريان، إحداهما بعلوم الشريعة والمعاملة وآداب العبودية، وأخرى بعلوم الحقيقة والطريقة والتوحيد الخاص، فيهما من كل فاكهةٍ من فواكه الأذواق صنفان: صنف حاصل، وصنف يتجدّد بتجدُّد الأنفاس، أو: صنف لعالم الحكمة، وصنف لعالم القدرة، أو: صنف للذات وصنف للصفات، أو: صنف لحلاوة المشاهدة وصنف لآداب المعاملة. متكئين على فُرش الأُنس، بطائنها من استبرق الروح والفَرح ودوام البِسط، وجنا الجنتين دانٍ لمَن تمكّن من الشهود؛ لأنّ ثمار المعارف من حلاوة الشهود والأُنس صارت طوع يده، فشُهوده دائم، وقُربه للحبيب لازم، فمهما أجال فكرته غاصت في بحار الأحدية، واستخرجت من يواقيت الحِكَم، وجواهر العلوم، ما لا يُحيط به المفهوم، بخلاف غير المتمكن، تعب الفكرة ينقص له من لذة الشهود. قال القشيري: إذ لا لذة في أوائل المشاهدة، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم ارزقني لذةَ النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضرّاء مضرة... " الحديث. هـ. فِيهن قاصرات الطرف، أي: أبكار الحقائق خاصة بهم لا تنكشف لغيرهم. لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان؛ لم يمس تلك الحقائق غيرهم، لأنها خاصة بأهل الأذواق، وكل واحد يمس من الحقائق ما لا يمس غيره، وينكشف له ما لا ينكشف لغيره، لأنها على حسب الاستعداد. كأنهن - أي: تلك الحقائق - الياقوتُ في صفاء معناها، والمرجان في حسن مبناها، هذا جزاء أهل مقام الإحسان.
﴿
هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان﴾
أي: هل جزاء أهل مقام الإحسان إلاَّ الإحسان والتقريب والتخصيص بهذه العلوم والحقائق، أو: هل جزاء الإحسان معنا إلا الإحسان بكشف ذاتنا، أو: هل جزاء الإحسان إلى عبادي إلاّ الإحسانُ بقربي وولايتي. قال ابن جزي: ويحتمل أن يكون الإحسان هنا هو الذي سأل عنه جبريل عليه السلام " أن تعبد الله كأنك تراه " فجعل جزاء ذلك الإحسان بهاتين الجنتين، ويُقوي ذلك: انه جعل هاتين
281
الجنتين الموصوفتين هنا لأهل المقام العَلي؛ وجعل جنتين وجعل جنتين دونهما لمَن كان دون ذلك، فالجنتان المذكورتان أولاً للسابقين، والمذكورتان بعد ذلك لأصحاب اليمين، حسبما ورد في الواقعة. انظر تمامه.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ومِن دونهما جنتانِ﴾ أي: ومن دون تَيْنِك الجنتين الموعودتين للمقربين ﴿جنتان﴾ أخريان لِمن دونهم من أصحاب اليمين، ويؤيده حديث أبي موسى، قال في هذه الآية. ﴿ولمن خاف مقام ربه﴾ قال: " جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من وَرِق لأصحاب اليمين " ورَفَعه، ولا شك أنَّ الذهب أرفع من الوَرِق، فلا يلتفت إلى الفضة مَن له الذهب، خلافاً لمن قال: يلزم حرمان أهل الطبقة الأولى - وهم السابقون - ما ذكر في الحديث من الفضة، واختار في نوادر الأصول أنَّ قوله: ﴿ومن دونهما﴾ أي: في القُرب إلى العرش، وأنَّ هذه أعلى وَصْفاً مما ذكر قبلُ، إلى العرش، وبَسَطَ القول في ذلك، ومثله ذكره ابن عطية عن ابن عباس، واحتج لذلك، ولكن الأكثرعلى خلاف ذلك، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
﴿فبأي آلاء ربكما تُكّذِبان مُدْهامَّتان﴾ خضراوان تميلان إلى السواد، من شدة الخضرة، وفيه إشعار بأنَّ الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض، وعلى الأُوليين الأشجار والفواكه، ومَن اشتهى فيها شيئاً يُعطاه، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ كرر التوبيخ مع ذكر الموصوف ومع صفته تنبيهاً على أنّ تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار، ﴿فيهما عينان نَضَّاختان﴾ فوّارتان بالماء، والنضخ أكثر من النضح - بالمهملة - وهو الرش، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾.
﴿فيهما فاكهةُ ونخلٌ ورمانٌ﴾ عطف الأخيرين على الفاكهة عطف خاص على عام؛ لفضلهما، فإنَّ ثمر النخل فاكهة وغذاء، والرمان فاكهة ودواء. قال أبو حنيفة: مَن حَلَفَ لا يأكل فاكهة فأكل رُماناً أو رطباً لم يحنث، وقوفاً مع ظاهر العطف، وعندنا الأَيمان مبنية
282
على الأعراف، وهي تختلف باختلاف الأقطار. ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾ ولا شيء منها يقبل الإنكار.
﴿
فيهنَّ خَيْراتٌ حِسَانٌ﴾
أي: في الجنتين المشتملتين على قصور ومساكن نساء ﴿خيرات﴾ أي: فاضلات الخُلُق، حِسان الخَلْق، وهو مخفف من " خير " بالتشديد، وقرئ (خيِّرات) على الأصل، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾. ﴿حُورٌ﴾ بدل من " خيرات " ﴿مَقصوراتٌ في الخيام﴾ قُصِرن في خدورهن. يقال: امرأة قصيرة وقَصُورة، ومقصورة، أي مخدّرة، أو: مقصورات الطرف على أزواجهن ساكنة في الخيام. قال القشيري: قصرن أنفسَهن وقلوبَهن وأبصارَهن على أزواجهن. هـ. يقلن: نحن الناعماتُ فلا نبأس، الخالداتُ فلا نَبيدُ، الراضيات فلا نَسْخَط. وفي خبر: أن عائشة قالت: " إنَّ المؤمنات أجَبْنَهُنَّ، نحن المُصلِّياتُ وما صلَّيْتُنَّ، نحن الصائمات وما صُمتُنَّ، نحن المتصدِّقاتُ وما تصدَّقْتنَّ، قالت عائشة: فغلبنهن ". والخيام من الدر المجوف، ﴿فبأي آلاء ربكنما تُكَذِّبان﴾. ﴿لم يَطْمِثْهُن إِنسٌ قبلهم ولا جانٌّ فبأي آلاء ربكما تُكَذِّبان﴾.
﴿متكئين﴾ نصب على الاختصاص، ﴿على رَفْرَفٍ﴾ هو كل ثوب عريض، وقيل: هو الوسائد، والأظهر من الحديث أنه سرير مفروش بثياب خُضر، يركب فيه أهل الجنة، ويسير بهم حيث شاؤوا، وقوله: ﴿خُضْرٍ﴾، وصف لرفرف؛ لأنه مُحلّى بثيابٍ خُضر، والرفرف: إما اسم جنس، أو اسم جمع، واحده: رفرفة. ﴿وعبقريٍّ حِسَانٍ﴾ أي: طنافس، وهي جياد البُسط، كالزرابي وشبهها. والعبقري: منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنه اسم بلد الجن، يسبون إليه كل شيء عجيب. وقال أبو عبيد: هو منسوب إلى أرض يُعمل فيها الوَشي، فينسب إليها كل مبالغ في الوصف، وقال الخليل: كل جليل فاضل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم عند العرب عبْقري، ومنه قوله ﷺ في عمر: " فلم أرَ عَبْقريّاً من الناس يَفْرِي فَرْيَه " والمراد به الجنس، ولذلك وصفه بالجمع، ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾ قال النسفي: وإنما تقاصرت صفات هاتين الجنتين عن الأوليين حتى قيل: [ومن دونهما] لأنَّ ﴿مدهامتان﴾ دون ﴿ذواتا أفنان﴾، و ﴿نضّاختان﴾ دون ﴿تجريان﴾، و ﴿فاكهة﴾ دون ﴿من كل فاكهة زوجان﴾، وكذلك صفة الحور والمتّكأ. هـ.
﴿تبارك اسمُ ربك﴾ أي: تنزّه وتقدّس، أو تكاثر خيره. وفيه تقرير لما ذكر في السورة الكريمة من آلائه الفائضة على الأنام، ﴿ذي الجلال﴾ ذي العظمة. وقرأ الشامي بالرفع، صفة لاسم، ﴿والإكرام﴾ لأوليائه بالإنعام.
283
قيل: لمَّ ختم تعالى نِعم الدنيا بقوله: ﴿ويبقى وجهُ ربك ذي الجلال والإِكرام﴾ ختم نِعم الآخرة بقوله: ﴿تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام﴾ وناسب هذا ذكر البقاء والديمومية له تعالى، إذ ذكر فناء العالم، وناسب هنا ذكر ما امتنّ به من البركة، وهي الخير والزيادة، إذ جاء ذلك عقب ما امتنّ به على المؤمنين، وما آتاهم في دار كرامته من الخير وزيادته وديمومته.
روَى جابر أنَّ النبي ﷺ قرأ سورة الرحمن، فقال: " ما لي أراكم سكوتاً، لَلْجِنُّ كانوا أحسن منكم ردّاً، ما أتيتُ على قول الله: ﴿فبأي آلاء ربكما تُكذِّبان﴾ إلاَّ قالوا: ولا شيء من نعمك ربنا نكذِّب، فلك الحمد ولك الشكر ". وكررت هذه الآية في هذه السورة إحد وثلاثين مرة، ذُكرت ثمانية منها عقب آيات فيها عجائب خلق الله، وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، على عدد أبوب جهنم، وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلها، على عدد أبوب الجنة، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما، فمَن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها فُتحت له أبواب الجنة وغُلقت أبواب جهنم. قاله النسفي.
الإشارة: ومن دون جنتي أهل المقربين جنتا أهل اليمين، وهما جنة حلاوة الطاعة وكمال الاستقامة، أو حلاوة المعاملات وظهور الكرامات، أو حلاوة المناجاة وحصول المداناة، أو: جنة مُعجَّلة في البرزخ لأرواحهم، وأخرى بعد البعث لأشباحهم، وهذا يجري أيضاً في حق المقربين. وقوله: ﴿مُدْهامتان﴾ شديدة خضرتها؛ لانَّ النظر إلى الخضرة أمْيَلُ، وكذلك أهل العبادة الظاهرية حين يجدون حلاوتها، ويقفون معها، ترمُقهم أبصار العامة بالتعظيم والتكريم، فربما يجنون بعض جزاء أعمالهم، بخلاف أهل الباطن، أهل الفناء والبقاء، لا ترى منهم إلاّ النيران؛ لفرارهم من الخلق، ولخفاء عبادتهم بين فكرة ونظرة، فيهما عينان نضاختان فوارتان بالعلوم الظاهرة التي أثمرتها التقوى، لقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢]، وكثرة العلوم كمال عند أهل الظاهر، ولا يعتبره أهل الباطن؛ إذ المدار عندهم على الأذواق والوجدان، وتحقيق عين العيان. وفي كتاب شيخ شيوخنا، سيدي " علي العمراني " رضي الله عنه قال: علم الحرب وما جرى بينهم إنما يوجد عند المستشرف على المعركة، وأمّا المباشِر للحرب فهو في شغل شاغل عنه.
284
فيها فاكهة، أي: تفنُّن في تحقيق المسائل، ونخل؛ تضلُّع من علم الحديث، ورُمان؛ تغلغل في التفسير، أو: فيهما فاكهة تحقيق علم المعاملة، ونخل تحقيق علم الاعتقادات المجازية، ورمان تمسك بعلم التصوُّف، الذي هو دواء القلوب، فيهن خيرات حسان في تلك الجنان أخلاق حسان، وهي ثمرة العلم النافع، حور مقصورات في الخيام، أي: تلك الأخلاق الطيبة مقصورة على قلوب أهل الصفا، لا تظهر إلا لهم، أو: في تلك الجنان الذي هي القلوب، علوم غريبة، لم تكشف لغيرهم، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان؛ لم يفك انغلاقها أحد قبلهم. وفي التسهيل: وإذا كانت العلوم مِنحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، فغير مستبعد أن يدخر لكثير من المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين. هـ. متكئين على رَفرفٍ، أي: بساط فكرة الاعتبار، يستخرج بها جواهر العلوم، ووصفه بالخضرة لظهور أثر فكرهة الاعتبار بما تجليه من العلوم، وفي الحديث: " ساعة من العالِم يتفكر في علمهِ خَيرٌ مِنْ عبادة الجاهل ألف سنة " أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وكذلك وصفه بالعبقرية والجَودة؛ لكماله في محله. ﴿تبارك اسم ربك﴾ أي: تعاظم قدره ﴿ذي الجلال والإكرام﴾ حيث مَنَّ بهذه النعم الجِسام على الفريقين، وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم.
285
سورة الواقعة
قال ابن عطية: رُوي عن رسول الله ﷺ أنه قال: " مَن دوام على قراءة سورة الواقعة لم يفتقر أبداً "، ودعا عثمانُ عبدَ الله بنَ مسعود إلى عطائه، فأبى أن يأخذ، فقيل له: خُذ للعيال، فقال: إنهم يقرؤون سورة الواقعة، وسمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: " مَن قرأها لم يفتقر أبداً " قال ابن عطية: فيها ذكر القيامة، وحظوظ الناس في الآخرة، وفَهْمُ ذلك غِنىً لا فقر معه، ومَن فهِمه شُغل بالاستعداد. هـ. وقال مسروق: مَن أراد أن يعلم نبأ الأولين، ونبأ أهل الجنة، ونبأ أهل النار، ونبأ الدنيا والآخرة؛ فليقرأ سورة الواقعة. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِذا وَقَعت الواقعةُ﴾ إذا قامت القيامة، وذلك عند النفخة الثانية، ووُصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة، فكأنها واقعة في نفسها، كأنه قيل: أذا وقعت التي لا بُدّ من وقوعها. ووقوع الأمر: نزوله، يقال: وقع ما كنت أتوقعه، وانتصاب ﴿إذا﴾ بمضمر يُنبئ عن الهول والفظاعة، كأنه قيل: أذا وقعت الواقعة يكون من الأهوال ما لا يَفي به المقال، أو: بالنفي المفهوم من قوله: ﴿ليس لِوقعتها كاذبةٌ﴾ أي: لا كذب وقت وقوعها، أو: باذكر، أو: بمضمون السورة قبلها، أي: يكون ما ذكر من نعِيم
286
الفريقين إذا وقعت الواقعة، ثم استأنف بقوله: ﴿يس لوقعتها كاذبةٌ﴾ أي: لا يكون عند وقوعها نَفْسٌ تَكذب على الله، أو: تكذب في نفسها كما تكذب اليوم، لأنَّ كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدّقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذّبات، واللام مثلها في قوله: ﴿قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى﴾ [الفجر: ٢٤]، أي: ظرفية، أي: ليس عند وقوعها كذب، أو: تعليلية، قال الفراء: ﴿كاذبة﴾ : مصدر، كالعاقبة والعالية، وقيل: صفة لمحذوف، كما تقدّم.
﴿
خافضةٌ رافعةٌ﴾
أي: هي خافضة لأقوام، رافعة لآخرين، وهو تقرير لِعظمها وتهويل لأمرها، فإنَّ الوقائع العِظام شأنها كذلك، أو: بيان لِما يكون يومئذ من حَطّ الأشقياء إلى الدركات، ورفع السعداء إلى الدرجات، ومن زلزلة الأشياء وإزالة الأجرام عن مقارها، بنثر الكواكب وتسيير الجبال، كما أبان ذلك بقوله: ﴿إِذا رُجَّتِ الأرضُ رَجّاً﴾ : حُرِّكت تحريكاً شديداً حتى تهدِم كلَّ شيء فوقها، من جبل وبناء، وهو متعلق بخافضه، أي: تخفض وترفع وقت رج الأرض، أي: عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض، أو: بدل من: ﴿إذا وقعت﴾، وجواب الشرط: ﴿فأصحاب الميمنة﴾، والمعنى: إذا كان كذا فأصحاب الميمنة ما أسعدهم، وما أعظم ما يُجازون به، وما أعظم رتبتهم عند الله في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم. وتقديم الخفض الملتّت، من: بسَّ السويق: إذا لتّه، أو: سِيقت وسُيّرت عن أماكنها، من: بسّ الغنم: إذا ساقها، كقوله تعالى: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ﴾ [النبأ: ٢٠]. ﴿فكانت﴾ أي: فصارت بسبب ذلك؛ ﴿هباءً﴾ غباراً ﴿مُنبثاً﴾ منتشراً متفرقاً في الهواء، والهباء: ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة، ولا يكاد يُرى إلاّ في الشمس إذا دخلت في كُوة، ﴿وكنتم﴾ معاشر الخلق، أو: أيتها الأُمة ﴿أزواجاً﴾ أصنافاً ﴿ثلاثة﴾ صنفان في الجنة، وصنف النار، قال قتادة: هي منازل الناس يوم القيامة.
ثم فسّر تلك الأزواج، فقال: ﴿فأصحابُ الميمنة﴾ وهم الذي يؤتون صحائفهم بأيمانهم ﴿ما أصحابُ الميمنة﴾، تعظيم لشأنهم، و " ما ": استفهام تعجب مبتدأ، و " أصحاب ": خبر، والجملة: خبر المتبدأ الأول، والأصل: فأصحاب الميمنة ما هم؟ أي: أيّ شيء هم في حالهم وصفتهم؟ فوضع الظاهر موضع المضمر زيادة في التعظيم، ومثله: ﴿الْحَآقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ﴾ [الحاقة: ١، ٢] ونظائرها.
﴿وأصحابُ المشئمةِ﴾ أي: الذين يُؤتون صحائفهم بشمالهم ﴿ما أصحابُ المشئمة﴾ أي: أيّ شيء هم؟ ! تعجيب من حالهم الفظيع، أو: فأصحاب المنزلة السنية؛ وأصحاب المنزلة الدنية الخسيسة، من قولك: فلان مِني باليمين، وفلان مِني بالشمال؛ إذا وصفتهما عندك بالرفعة والوضعة، وذلك لتيمُّنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل، وقيل: يُؤخذ بأهل الجنة ذات اليمين، وبأل النار ذات الشمال. وقال القشيري: أصحاب الميمنة: هم الذين
287
في جانب اليمين من آدم وقت ذرَّ الذرية من صُلبه، وأصحاب المشئمة الذين كانوا في جانب شماله. هـ. قلت: وكذلك رآهم النبي - عليه الصلاة والسلام - ليلة المعراج.
﴿
والسابقون السابقون﴾
مبتدأ وخبر، على معنى تعظيم الأمر وتفخيمه؛ لأنّ المبتدأ إذا أُعيد بنفسه خبراً دلَّ على التفخيم، كقوله الشاعر:
أنا أبو النَّجْمِ وشِعْري شِعْري
والمعنى: والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالُهم، وعُرفت محاسنهم، أو: والسابقون إلى الخيرات هم السابقون إلى الجنات، وقال أبو السعود: الذي تقتضيه جزالة النظم أنَّ " أصحاب الميمنة ": خبر مبتدأ محذوف، وكذا قوله تعالى: ﴿والسابقون﴾ فإنَّ المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام، وأمّا أوصافها وأحوالها فحقها أن تُبين بعد ذلك بإسنادها إليه، والتقدير: فأحدها أصحاب الميمنة، والآخر أصحاب المشئمة، والثالث السابقون. ثم أطال الكلام في ذلك، فانظره.
واختُلف في تعيينهم، فقيل: هم الذين سبقوا إلى الإيمان، وإيضاحه، عند ظهور الحق من غير تلعْثم ولا توان، وقيل: الذين سبقوا في حيازات الفضائل والكمالات، وقيل: هم الذي صلُّوا إلى القبلتين، كما قال تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ﴾ [التوبة: ١٠٠] وقيل: السابقون إلى الصلوات الخمس، وقيل: المسارعون في الخيرات. والتحقيق: أنهم السابقون إلى الله بالمجاهدة والمكابدة، حتى أفضوا إلى مقام المشاهدة، وهو مقام الإحسان.
﴿أولئك المقرَّبون﴾ أشار إليهم بإشارة البُعد مع قُرب العهد؛ للإيذان ببُعد منزلتهم في الفضل والشرف، أي: أولئك السابقون إلى الله هم المقربون إلى الله في الكرامة والتعظيم، الذي تلي درجاتهم درجات الأنبياء، وهم ﴿في جنات النعيم﴾ أي: ذات التنعُّم، فتَصْدق بالفردوس، التي هي مسكن المقربين، وإنما أخَّر ذكر السابقين مع كونهم أحق بالتقدُّم في الذكر؛ ليقترن ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم، ويتخلّص إلى ذكر نعيمهم الآتي، على أنّ إيرادهم بعنوان المسبق مطلقاً مُعْرِبٌ عن إحرازهم لقصب السبق من جميع الأمور. الإشارة: إذا وقعت الحقيقة المتوقعة للمتوجهين؛ كان من العلوم والأسرار ما لا تُحيط به عامة الأفكار، ووقوع الحقيقة: برزوها معهم، وإشراق أنوارها على قلوبهم،
288
فتفنى الكائنات وتضمحل الرسوم والإشارات، ويبقى الحيّ القيوم وحده، كما كان وحده، ليس لوقعتها كاذبة؛ لا كذب في وقوعها، ولا شك في إظهارها على مَن توجه إليها، وصَحِبَ أهلها، وحطّ رأسه لأربابها، وامتثل كل ما يأمرونه به، خافضة لمن توجه إليها، وَوَصَلَ لأنوارها، وتحقق بأسرارها. يعني: هكذا شأنها في الجملة، تخفض قوماً وترفع آخرين، وإنما تقع لمَن توجه إليها إذا رُجت أرض النفوس منه رجّاً، أي: تحركت واضطربت، بمنازلة الأحوال، وارتكاب الشدائد والأهوال، وتوالي الأذكار، والاضطراب في الأسفار، فإنَّ كُمون سرها في الإنسان كَكمُون الزبد في اللبن، فلا بد من مخضه لاستخراج زُبده. وبُست جبال العقل منه بسّاً، فكانت هباءً مُنبثاً؛ لأنّ نور العقل يتغطّى بنور شمس العرفان، ويضمحل كما يضمحل نور القمر إذا طلعت الشمس، وكنتم أيها الطالبون المتوجهون أصنافاً ثلاثة: قومٌ توجهوا إليها، ثم قنعوا بما برز لهم من شعاع أنوارها، وهم عامة المتوجهين. وقوم استشرفوا عليها فلم يطيقوا أنوارها، فرجعوا القهقرى، وهم أهل الحرمان، من أهل المشأمه. وقوم أدركوها، وتحققوا بها ذوقاً وكشفاً، ففنوا وبقوا، سَكروا وصحوا، وهم السابقون المقربون في جنات المعارف، ونعيم الشهود، أبداً سرمداً، جعلنا من خواصهم آمين، وسيأتي إن شاء الله في آخر السورة تحقيق الفرق بين المقربين وأصحاب اليمين.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ثُلّةٌ﴾ أي: هم ثلة، أي: جماعة كثيرة ﴿من الأولين﴾ والثُلة: الأمة الكثيرة من الناس، ﴿وقليل من الآخِرين﴾ ممن يتأخر من هذه الأمة، والمعنى: أن السابقين في أول الأمة المحمدية كثير، وفي آخرها قليل، وذلك أنَّ صدر هذه الأمة كَثُر فيها خير، وظهرت فيها أنوار وأسرار، وخرج منها جهابذة من العلماء والأولياء، بخلاف آخرها، السابقون فيها قليلون بالنسبة إلى عامة أهل اليمين، ويُؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم "، وصرّح في حديث
289
آخر أنهم جميعاً من أمته، فقال: " الفرقتان من أمتي "، فسابق أول الأمة ثلة، وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل. هـ. من الثعالبي. وقيل: المراد بالأولين: الأمم الماضية، والآخرين: الأمة المحمدية، وهو بعيد أو فاسدٌ، واقتصر في نوادر الأصول على أنَّ الثلة الأنبياء، وخُتموا بمحمد ﷺ ومِنْ بعده الأولياء، وعددهم قليل في كل زمان. هـ. وفي المَحلِّي هنا تخليط. انظر الحاشية.
﴿على سُرُرٍ﴾ جمع سرير، ﴿موضونةٍ﴾ قال ابن عباس: " مرمولة "، أي: منسوجة بقضبان الذهب، وقضبان اللؤلؤ الرطب، طولُ السرير: ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد الجلوس تواضع، فإذا استوى عليه ارتفع، ﴿متكئين عليها﴾ حال من الضمير في الظرف، وهو العامل فيه، أي: استقروا على سُرر متكئين عليها اتكاء الملوك على الأَسِرة، ﴿متقابلين﴾ ينظر بعضهم في وجوه بعض، ولا ينظر بعضهم من أقفاء بعض. وُصفوا بحسن العِشْرة، وتهذيب الأخلاق، وصفاء المودة. وهو أيضاً حال.
﴿يطوف عليهم﴾ يَخدمهم ﴿وِلدانٌ﴾ غلمان، جمع وليدٍ، ﴿مُخلَّدون﴾ مُبْقَّوْنَ أبداً على شكل الولدان، لا يتحولون عنه إلى الكِبَر، وقيل: مقرَّطون، والخِلَدَةُ: القُرْط، وهو ما يلقى في الأذن من الأخراص وغيرها. قيل: هم أطفال أهل الدنيا، لم يكن لهم حسنات يُثابون عليها، ولا سيئات يعاقبون عليها. وفي الحديث: " أولاد الكفار خُدّام أهل الجنة " وهذا هو الصحيح. ﴿بأكوابٍ﴾ جمع كوب، وهو آنية لا عروة لها ولا خرطوم، ﴿وأباريقَ﴾ جمع إبريق، وهو ما له خرطوم وعروة، ﴿وكأسٍ﴾ أي: قدح فيه شراب، فإن لم يكن فيه شراب فلا يُسمى كأساً، ﴿من مَعينٍ﴾ من خمر، يجري من العيون، ﴿لا يُصَدَّعون عنها﴾ أي: بسببها، أي: لا يصدر عنها صُداع، وهو وجع الرأس، ﴿ولا يُنزَفُونَ﴾ ولا يسكرون، يقال: نزَف الرجل: ذهب عقله بالسُكر، فهو نزيف ومنزوف. وقرأ أهل الكوفة بضم الياء وكسر الزاي، أي: لا ينفذ شرابهم، يقال: أُنزف القوم: إذا نفد شرابهم. وفي الحديث: " زَمزمُ لا تُنْزَفُ ولا تُذَمّ " أي: لا ينفذ ماؤها.
﴿
وفاكهةٍ مما يتَخيَّرون﴾
أي: يختارونه ويأخذون خيره وأفضله، يجنونه بأيديهم، وهو أشد نعيماً وسروراً من أخذه مجنياً، ﴿ولحم طيرٍ مما يشتهون﴾ مما يتمنون مشوياً أو مطبوخاً، ﴿وحُورٌ عِينٌ﴾ أي: وفيها حور عين، أو: لهم حور عين، ويجوز أن يعطف
290
على " ولدان " أي: وتخدمهم حُور عين، زيادة في التعظيم، ومَن قرأ بالخفض عطفه على " جنات النعيم " كأنه قيل: هم في جنات النعيم وفاكهة ولحم طير وحور ﴿كأماثلِ اللؤلؤ المكنونِ﴾ في الصفاء والنقاء. والمكنون: المصون في صَدفه. وقال الزجاج: كأمثال الدُرِّ حين يخرج من صدفه، لم يُغيرّه الزمان واختلاف الأيدي عليه، ﴿جزاء بما كانوا يعملون﴾ مفعول له، أي: يفعل بهم ذلك لجزاء أعمالهم الصالحة أو: مصدر، أي: يُجزَون جزاء، فنفس الدخول للجنة بمحض الرحمة، وكثرة النعيم والغُرف بالعمل، والترقي باليقين والمعرفة - والله تعالى أعلم - فلا تعارض.
﴿لا يَسْمَعون فيها﴾ في الجنة ﴿لَغواً﴾ باطلاً ﴿ولا تأثيماً﴾ هذياناً، أو: ما يُؤهم صاحبه لو كف، ﴿إِلاَّ قِيلا﴾ أي: قولاً ﴿سلاماً سلاماً﴾ أي: ذا سلامة. والاستثناء منقطع، و " سلاماً " بدل من " قيلاً " أو: مفعول به لـ " قيلاً "، أي: لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا سلاماً سلاماً، والمعنى: أنهم يُفشون السلام فيُسَلِّمون سلاماً بعد سلام، أو: لا يسمع كلٌّ من المسلِّم والمسلِّم عليه إلا سلام الآخر بدءاً ورداً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أخبر تعالى أنّ المقربين في الصدر الأول أكثر من الزمان الأخير، وهو كذلك من جهة الكمية، وأما من جهة الكيفية فالمقربون في آخر الزمان أعظم رتبةً، وأوسع علماً وتحقيقاً؛ لأنهم نهضوا في زمان الغفلة، وجدُّوا في زمان الفترة، لم يجدوا من أهل الجدّ إلا قليلاً، ولا من أهل الحق إلا نذراً يسيراً، فحيث نهضوا وحدهم عوّضهم الله مرتبة لم يعطها لغيرهم، ويشهد لهذا قوله عليه السلام: " اشتقت إلى إخواني " قال أصحابه، نحن إخوانُك يا رسول الله؟ قال: " أنتم أصحابي، إخواني قوم يأتون بعدي، مِن نعتهم كذا وكذا " ثم قال: " يعدل عمل واحد منهم سبعين منكم " قالوا: يا رسول الله منهم؟ قال: " منكم " قيل: بماذا يا رسول الله؟ قال: " إنكم وَجَدْتُم على الخير أعْواناً، وهم لم يجدوا عليه أعواناً " وفي حديث آخر، رواته ثقات: قالوا: يا رسول الله؛ هل أحد خير منا؟ قال: " قوم يجيئون بعدكم، فيجدون كتاباً بين لوحين، يؤمنون بما فيه، ويؤمنون بي، ولم يروني، ويُصَدِّقون بما جئتُ به، ويعملون به، فهم خير منكم "، ولا يلزم من تفضيلهم مِن جهةٍ تفضيلهم مطلقاً.
ثم وصف المقرّبين بكونهم على سُرر الهداية، منسوجة بالعِز والعناية، محفوفة بالنصر والرعاية، متكئين عليها، راسخين فيها، متقابلين في المقامات والأخلاق، أي: يواجه بعضهم بعضاً بقلوبهم وأسرارهم، لا تَباغض بينهم ولا تحاسد، تطوف عليهم الأكوان وتخدمهم، " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المُكوّن، فإذا شهدت المُكوِّن كانت الأكوان معك ": يُسقون بأكوابٍ وأباريق من علم الطريق، وكأس من خمر الحقيقة، فلا
291
يتصدّعون من أجلها؛ إذ ليست كخمر الدوالي، ولا يُنزفون: لا يسكرون سُكْر اصطلام، وإنما يسكرون سُكراً مشوباً بصَحْوٍ، إذا كان الساقي عارفاً ماهراً. وفاكهة؛ حلاوة الشهود، مما يتخيرون، إن شاؤوا بالفكرة والنظرة، وإن شاؤوا بالذِكر والمذاكرة، وكان بعض أشياخنا يقول: خمرة الناس في الحضرة، وخمرتنا في الهدرة، أي: المذاكرة. ولحم طير من علوم الطريقة والشريعة، مما يشتهون منها، وحُورق عِين من أبكار الحقائق، مصونة عن غير أهلها، كأمثال اللؤلؤ المكنون، جزاء على مجاهدتهم ومكابدتهم. لا يسمعون في جنة المعارف لغواً ولا تأثيماً؛ لتهذيب أخلاق أهلها، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه:
تُهذّبُ أخلاقَ النَّدامى، فيَهْتدي
بها لطريقه العزمِ مَن لا له عَزْم
ويكرُمُ مَن لا يَعْرف الجودَ كَفّثه
ويحلُمُ عند الغيْظِ مَن لا له حِلم
فلا تسمع من الصوفية إِلا قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا، كما قيل في حقيقة التصوُّف: أخلاقٌ كرام، ظهرت من قوم كرام، في زمن كريم. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وأصحابُ اليمين ما أصحابُ اليمين﴾ استفهام تعجيب، تفخيماً لحالهم، وتعظيماً لشأنهم، ثم ذكر نعيمهم فقال: ﴿في سِدْرٍ مَّخْضُودٍ﴾ والسدر: شجر النبق، والمخضود: الذي لا شوك له، كأنه خُضِد شوكه، أي: قُطع، أي: ليس هو كسِدر الدنيا، وقيل: مخضود، أي: ثنى إغصانه من كثرة حمله، من خَضَدَ الغصن: إذا ثناه وهو رطب. قال ابن جُبَيْر: ثمرها أعظم من القلال، وثمار الجنة كلها بادية، ليس شيء منها في غلاف. رُوي أنَّ المسلمين نظروا إلى وادٍ بالطائف مخصب، فأعجبهم سِدرها، وقالوا: يا ليت لنا مثله في الجنة، فنزلت، وقال أمية بن أبي الصلت في وصف الجنة:
إنَّ الحَدائِقَ في الجِنان ظَلِيلةٌ
فيها الكواعِبُ، سِدْرُهَا مَخْضُودُ
﴿وطَلْحٍ مَّنضُودٍ﴾ الطلح: شجرة الموز، والنضود: الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه، فليست له ساق بارزة، وفي جامع العُتْبية عن مالك، قال: بلغني أنّ الطلح المنضود، المذكور في الآية، هو الموز، وهو مما يشبه ثمار الجنة، لقوله تعالى:
292
﴿أُكُلُهَا دَآئِمٌ﴾ [الرعد: ٣٥]، والموز يؤكل في الشتاء والصيف. هـ.
﴿وظِلّ ممدودٍ﴾ منبسط، لا يتقلص ولا ينقطع، كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. ﴿وماءٍ مسكوبٍ﴾ جارٍ بلا أُخدود، يُسْكَب لهم أين شاؤوا، وكيف شاؤوا، بلا تعب. ﴿وفاكهةٍ كثيرةٍ﴾ بحسب الأنواع والأجناس، ﴿لا مقطوعةٍ﴾ لا تنقطع في بعض الأوقات، كفواكه الدنيا، بل هي دائمة، ﴿ولا ممنوعةٍ﴾ عن تناولها بوجه من الوجوه، أو: لا يحظر عليها، كبساتين الدنيا، أو: لا مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان.
﴿وفُرُشٍ مرفوعةٍ﴾ رفيعة القدر، أو: مرفوعة على الأسرَّة، وارتفاع السرير خمسمائة سنة، وقيل: كنّى بالفُرُش عن النساء؛ لأنَّ المرأة يُكنّى عنها بالفراش، مرفوعة على الأرائك، قال تعالى: ﴿هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظَلاَلٍ عَلَى الأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ﴾ [يس: ٦٥]، ويؤيده قوله: ﴿إِنَّا أنشأناهن إِنشاءً﴾ أي: ابتدأنا خلقهن ابتداءً من غير ولادة. فإما أن يُراد: اللاتي ابتدئ إنشاؤهن، وهن الحور، أو: اللاتي أُعيد إنشاؤن، وهن نساء الدنيا، وعلى غير هذا التأويل أضمر لهنّ؛ لأنّ ذكر الفُرش، وهي المضاجع، دلَّ عليه. ﴿فجعلناهن أبكاراً﴾ أي: عذارى، كلما أتاهنَ أزواجهنَ وجدوهنَ أبكاراً. ﴿عُرُباً﴾ جمع عَرُوب، وهي المحبّبة لزوجها، الحسنة التبعُّل، ﴿أتراباً﴾ : مستويات في السنّ، بنات ثلاثٍ وثلاثين، وأزواجهنّ كذلك. ﴿لأصحاب﴾ أي: أنشأناهن أصحاب ﴿اليمين﴾.
﴿
ثُلةٌ﴾
أي: أصحاب اليمين ثلة: جماعة كثيرة ﴿من الأولين﴾، ﴿وثُلة﴾ وجماعة كثيرة ﴿من الآخرِين﴾ فالسابقون كثيرون من الأولين وقليل من الآخرين، وأصحاب اليمين كثيرون من الأولين والآخرين. هذا المتعين في تفسير الآية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أصحاب اليمين هم أهل الحجاب، المحصورون في سجن الأكوان، المحيط بهم دوائر حسهم، من العُبّاد والزُهّاد، والعُلماء بالشرائع، والصالحين الأبرار، وعامة المسلمين. هم في سدر مخضود؛ كثرة الأعمال المخضودة من شوك الرياء والعجب، المنزهة من الفتور والقصور، وطلح منضود؛ حلاوة الطاعات، وتحقيق المقامات، وظِلٍّ ممدود؛ ظل راحة القناعة لمَن أُعطيها، وروح الرضا والتسليم لمَن منحه. وماء مسكوب؛ عِلْم التوحيد البرهاني أو الإلهامي، وفاكهة كثيرة: حلاوة المناجاة، وظهور الكرامات، ولذة التفنُّن في العلوم الرسمية، لا مقطوعة ولا ممنوعة لمَن رسخ فيها. وفُرش مرفوعة؛ تفاوت درجاتهم على حسب أعمالهم: إنّا أنشأناهن إنشاءً، لكل فريق مما تقدم، زيادة في عمله، أو علمه، أو زهده، على ما يليق بحاله، فكل صنفٍ له تَرقٍّ في فنه وزيادة في محله. فجعلناهن أبكاراً؛ لأن كل زيادة تكون جديدة لم يعهدها
293
صاحبها، عُرباً يعشقها وتعشقه، أتراباً، تكون على قدر حاله وفهمه وذوقه. هذا لعامة أصحاب اليمين، وهم كثيرون، سَلفاً وخَلفاً.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وأصحابُ الشمال ما أصحابُ الشمال﴾ تفظيع لشأنهم، والشمال والمشأمة واحد. ﴿في سَمُوم﴾ في حرّ نار تنفذ في المسامّ، ﴿وحميم﴾ وماء حارّ، تناهي في الحرارة، ﴿وظِلٍّ من يَحْمُوم﴾ من دخان أسود بهيم، ﴿لا باردٍ﴾ كسائر الظلال، ﴿ولا كريم﴾ فيه خير مّا في الجملة، سمّاه ظلاًّ، ثم نفى عنه برد الظل ورَوْحَه ونفعَه لمَن يأوي إليه من أذى الحر، وذلك كرمه - ليمحي عنه ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه، والمعنى: أنه ظلٌّ حار ضارّ.
﴿إِنهم كانوا قبل ذلك﴾ أي: في الدنيا ﴿مُتْرَفِينَ﴾ منعّمين بأنواع النِعَم، من المآكل والمشارب، والمساكن الطيبة، والمقامات الكريمة، منهمكين في الشهوات، فمَنَعَهم ذلك من الانزجار، وشَغَلَهم عن الاعتبار. وهو تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب، ﴿وكانوا يُصِرُّون﴾ يُداومون ﴿على الحِنْثِ العظيم﴾ أي: على الذنب العظيم، وهو الشرك؛ لأنه نقض عهد الميثاق، وخروج عن طاعة الملك إلى نصر غيره. والحنث: نقض العهد الموثّق باليمين، أو: الكفر بالبعث، لقوله: ﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ [النحل: ٣٨]، ثم صار يُطلق على مطلق الذنب، ومنه: بلغ الغلامُ الحنث، أي: وقت الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب.
﴿وكانوا يقولون﴾ لغاية عتوهم: ﴿أئِذا مِتْنَا وكنا تراباً وعظاماً﴾ أي: إذا صارت أجزاؤنا من الجلد والعظم واللحم، بعضها تراباً، وبعضها عظاماً نخرة، نُبعث بعد ذلك؟ وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابها حيواناً. والعامل في " إذا " ما دلّ عليه قوله: ﴿أئنا لمبعوثون﴾ أي: أنْبعث إذا صرنا في هذه الحالة؟ ولا يعمل فيه لفظه؛ لأنّ " إنّ " والاستفهام لا يعمل ما بعدها فيما قبلهما، ﴿أَوَ آباؤنا الأولون﴾ يُبعثون أيضاً؟ دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف، وحسن العطف على المضمر في ﴿لمبعوثون﴾ من
294
غير توكيدٍ بـ " نحن " للفاصل الذي هو الهمزة، يعنون بذلك: أن بعث آبائهم أبعد في الوقوع من بعثهم. وقرئ في السبع بأو العاطفة.
ثم ردّ عليهم بقوله: ﴿قل إِنّ الأولين والآخِرين﴾ أي: إنّ الأولين من الأمم المتقدمين، الذين من جملتهم آباؤكم، والآخرين، الذين من جملتهم أنتم. وفي تقديم " الأولين " مبالغة في الرد، حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد مع مراعاة الترتيب، ﴿لمجموعون﴾ بالبعث ﴿إِلى ميقاتٍ يومٍ معلوم﴾ أي: إلى ما وقتت به الدنيا باعتبار فنائها من يوم معلوم، وهو يوم البعث والحساب، والإضافة بمعنى " من " كخاتم فضة.
﴿ثم إِنكم أيها الضالون﴾ عن الهدى ﴿المكذِّبون﴾ بالبعث، والخطاب لأهل مكة وأضرابهم، ﴿لآكلون﴾ بعد البعث والجمع ودخول جهنم ﴿مِن شجرٍ مِن زقوم﴾ " مِن " الأولى: لابتداء الغاية، والثانية: لبيان الشجر. ﴿فمالئُون منها البطونَ﴾ أي: بطونكم من شدة الجوع، ﴿فشاربون عليه﴾ عقب ذلك بلا ريث ﴿من الحميم﴾ الماء الحار. أنّث ضمير الشجر على المعنى، وذكَّره على اللفظ في " منها " و " عليه ". ﴿فشاربون شُرْبَ الهِيم﴾ وهي الإبل التي بها الهُيَام، وهو داء يُصيبها فتشرب ولا تروَى، أي: لا يكون شربكم شراباً معتاداً، بل يكون مثل شرب الإبل الهيم، واحدها: " هيماء وأَهْيَم " وحاصل الآية: أنه يُسلط عليهم من الجوع ما يضطرون إلى شرب الحميم، الذي يُقَطِّع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهِيم، وإنما صحّ عطف الشاربين على الشاربين، وهما لذوات متّفقة، لأنَّ كونهم شاربين الحميم مع ما هو عليه من تناهي الحرارة، وقطع الأمعاء، أمر عجيب، وشربهم له على ذلك كشرب الهِيم الماء أمر عجيب أيضاً، فكانت صفتين مختلفتين.
﴿هذا نُزلُهم﴾ النُزل: هو الرزق الذي يُعدّ للنازل تكرمةً له، ﴿يَوْمَ الدَّينِ﴾ يوم الجزاء، فإذا كان نُزلهم هذا، فما ظنك بعدما استقر بهم القرار، واطمأنت بهم الدار في النار؟ وفيه من التهكُّم ما لا يخفى.
﴿نحن خلَقناكم فلولا﴾ فلاّ ﴿تُصَدِّقُونَ﴾ تحضيض على التصديق، إمَّا بالخَلق؛ لأنهم وإن كانوا مصدّقين به إلاّ أنه لمّا كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق فكأنهم مكذّبون به، وإمّا بالعبث؛ لأنّ مَن خلَق أولاً لم يمتنع عليه أن يَخلق ثانياً.
الإشارة: أصحاب الشمال هم أهل الخذلان من العصاة والجُهال، في سَموم الجهل والبُعُد، ينفذ في مسام أرواحهم وقلوبهم، وحميم الحرص والتعب، والجزع والهلع، وظِلٍّ من يحموم، وهو التدبير والاختيار، لا بارد ولا كريم، أي: ليس كظل الرضا وبرد التسليم، بل هو ظل مشؤوم، حاجب عن شمس العيان، مُوقع في ظل الذل والطمع والهوان. إنهم كانوا قبل ذلك؛ قبل وقت وصول العارفين مُترفين متنعمين في الحظوظ، منهمكين في الشهوات، وكانوا يُصِرُّون على الحنث العظيم، وهو حب الدنيا، الذي هو
295
رأس كل خطيئة، وكانوا يُنكرون بعث الأرواح من الجهل إلى العرفان، ويقولون: ﴿أئذا مِتْنا وكنا ترابا﴾، أي: أرضيين بشريين، وعظاماً يابسين بالقسوة والبُعد، ﴿أئنا لمبعوثون﴾ من هذه الموتة إلى حياة أرواحنا بالعلم والمعرفة؟ والحاصل: أنهم كانوا ينكرون وجود أهل التربية؛ الذي يُحيي اللهُ بهم القلوبَ والأرواحَ الميتة بالجهل والغفلة. قل إنَّ الأولين منكم الذين كانوا على هذا الوصف، والآخرين إلى يوم القيامة، لمجموعون إلى الحضرة، إذا صَحِبوا أهل التربية، فيفتح الله عليهم إلى ميقات يوم معلوم، وهو الحد الذي سبق لفتحهم. ثم إنكم أيها الضالون المكذّبون المنكِّرون لوجود الطبيب، الذي يُحيي الأرواح الميتة والقلوب، ﴿لآكلون من شجر من زقوم﴾ وهي شجرة الجهل وتوارد الشكوك والخواطر على قلوبكم، فمالئون منها بطونكم، بحيث لا يبقى في بواطنكم متسع لأنوار اليقين والمعرفة، فشاربون على ذلك من الحميم، وهو الغضب والتدبير والاختيار، ﴿فشاربون شُرب الهيم﴾، لا يملُّون منه ليلاً ولا نهاراً، كذا يَظلُّون يَبنون ويَهدمون، وهو عين البطالة والتضييع. ﴿هذا نُزلهم يوم الدين﴾، أي: يوم يُجازِي الحقُّ المتوجهين إليه بالوصال وراحة الاتصال. ﴿نحن خلقناكم﴾ : أنشأناكم من العدم، فلولا تُصدِّقون في إحياء أرواحكم بالعلم والمعرفة بعد موتها، فإنّ القادر على إنشاء الأشباح قادر على إحياء الأرواح. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: ﴿أفرأيتم ما تُمْنُون﴾ أي: تقذفونه في الأرحام من النُطف، ﴿أأنتم تخلقونه﴾ تُقدِّرونه وتُصورونه وتجعلونه بشراً سويّاً ﴿أم نحن الخالقون﴾ من غير علة ولا علاج "؟ قال الطيبي: وجه الاستدلال بهذه الآية على البعث أن يُقال: إنّ المَني إنما يحصل من فضلة الهضم، وهو كالطل المنبث في أطراف الأعضاء، وبهذا تشترك الأعضاء بالتذاذ الوقاع لحصول الانحلال عنها كلها، ثم إنّ الله سبحانه وتعالى يُسلط قوة الشهوة على البنية، حتى إنها تجمع تلك الأجزاء الطلّية، والحاصل أن تلك الأجزاء كانت مفْترقة جدّاً أولاً في أطراف العالم، ثم إنه تعالى جمعها في بدن ذلك الحيوان، فتفرّقت في
296
أطراف بدنه، ثم جمعها الله في أوعية المَني، فأخرجها ماءً دافقاً إلى قرار الرحم، فإذا كان قادراً على جمع هذه الأجزاء المتفرقة، وتكوين الحيوان منها، فإذا افترقت بالموت مرة أُخرى؛ لم يمتنع عليها جمعها وتكوينها مرة أخرى. هـ. وذَكَرَ عند قوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَرَآئِبِ﴾ [الطارق: ٧] أنَّ المني يتولد من فضلة الهضم الرابع، وينفصل من جميع أجزاء البدن، فيأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته، ومعظمُهُ يتولد من الدماغ، وهو أعظم الأعضاء معنويةً فيه. انظر بقيته في الحاشية.
﴿
نحن قدَّرنا بينكم الموتَ﴾
أي: قسمناه ووقّتنا موت كل أحد بوقت معين، حسبما تقتضيه قسمتنا، المبنية على الحِكَم البالغة. قال القشيري: فيكون في الوقت الذي نريده، منكم مَنْ يموت طفلاً، ومنكم مَن يموت شابّاً، وكهلاً وشيخاً، وبعللٍ مختلفة، وبأسباب متفاوتة، وأوقاتٍ مختلفة. هـ. ﴿وما نحن بمسبوقين﴾ بعاجزين ﴿على أن نُبَدَّلَ أمثالَكم﴾ بل نحن قادرون على ذلك، لا تسبقونني ولا تغلبونني على أن نُذهبكم، ونأتي مكانكم بأشباهكم من الخلق، والتبديل يكون بالذات أو بالصفات، ﴿ونُنشِئَكم فيما لا تعلمون﴾ ونخلقكم بعد التبديل في صورة لا تعهدونها. قال الحسن: نجعلكم قردةً وخنازير، يعني: إنَّا نقدر على الأمرين جميعاً، أي: خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم فكيف نعجز عن إعادتكم. و ﴿أمثال﴾ إمّا جمع " مِثْل " بالسكون - وهو التبديل بالذات، أو: " مَثَل " بالفتح، وهو التبديل في الصفات، أي: على أن نُبدّل ونُغيّر صفاتكم التي أنتم عليها، وننشِئَكم في صفات لا تعلمونها. ﴿ولقد علمتم النشأةَ الأولى﴾ أي: فطرة آدم عليه السلام: أو:
خلقتهم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة الخ، ﴿فلولا تَذَكَّرُون﴾ فهلاَّ تذكرون أنْ مَن قدر عليها قدر على النشأة الأخرى.
ولمّا ذكّرهم بنعمة الإيجاد، ذكّرهم بنعمة الإمداد، فقال: ﴿أفرأيتم ما تحرثون﴾ أي: ما تبذرون حبه وتقلِبون الأرض عليه، ﴿أأنتم تزرعونه﴾ أن: تُنبتونه وتُخرجونه من الأرض نباتاً ﴿أم نحن الزارعون﴾ المُنبِتون له؟ وفي الحديث: " لا يقل أحدكم، زرعت، وليقل: حرثت " ﴿لو نشاء لجعلناه حُطاماً﴾ هشيماً منكسِراً قبل إدراكه، ﴿فَظَلْتم﴾ بسبب ذلك ﴿تَفَكَّهُون﴾ تتعجَّبُون من سوء حاله إثر ما شهدتموه على أحسن ما يكون، أو: تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو: على ما اقترفتم من المعاصي التي أُصبتم لذلك من أجلها، و " تفكه " من أفعال الإزالة، كتخرّج، وتأثّم، أي: أزال الفُكَاهة، وهي المسرة، فتحصل الندامة، ﴿إِنَّا لمُغْرَمُونَ﴾ أي: قائلين: إنّا لملزمون غرامةَ ما أنفقنا فيها، أو: لمهلَكون لِهلاك قوتنا، من: الغرام، وهو الهلاك، ﴿بل نحن محرومون﴾ حُرمنا ما رزقنا بشؤم تفريطنا، فالمحروم هو الممنوع الرزق. قال ابن عباس: " هو المحارَف " الذي انحرف عنه رزقه.
297
﴿أفرأيتم الماءَ الذي تشربون﴾ أي: الماء العذب الصالح للشرب، ﴿أأنتم أنزلتموه من المُزنِ﴾ السحاب الأبيض، وهو أعذب ماءٍ، أو مطلق السحاب، واحدها " مزنة "، ﴿أم نحن المنزلون﴾ بقدرتنا، فأسكناه في الأرض، ثم أخرجناه عيوناً وأنهاراً؟ ﴿لو نشاء جعلناه أُجَاجاً﴾ أي: ملحاً، أو مُرّاً لا يُقْدَر على شربه، ﴿فلولا﴾ فهلاَّ ﴿تشكرون﴾ تحضيض على شكر الكل، وحذف اللام هنا مع إثباتها في الشرطية الأولى؛ لأنّ هذه اللام تُفيد معنى التأكيد، فأُدخلت في آية المطعوم دون المشروب؛ للدلالة على أن أمر المطعوم متقدم على أمر المشروب، وأنْ الوعيد بفقده أشد وأصعب، مِن قِبَل أنّ المشروب إنما يُحتاج إليه تبعاً للمطعوم، ولهذا قُدِّمت آية المطعوم على آية المشروب، وقيل غير ذلك في حكمة إدخالها.
﴿
أفرأيتم النارَ التي تُورون﴾
أي: تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب كانت تقدح بعودين، تحك أحدهما على الآخر، ويُسمون الأعلى: الزند، والسفلى: الزندة، شبّهوهما بالفحل والطروقة. ﴿أأنتم أنشأتم شجرتَهَا﴾ التي بها الزناد، وهي المرْخ والعَفَار، ﴿أم نحن المنشئون﴾ الخالقون لها ابتداءً بقدرتنا؟ والتعبير عن خلقها بالنشأ، المنبئ عن بديع الصنع، المُعْرِب عن كمال القدرة والحكمة؛ لِما فيه من الغرابة الفارقة بينهما وبين سائر الأشجار، التي لا تخلو عن النار، حتى قيل: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعَفَار، كما أنّ التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاًءَاخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤] كذلك.
ثم بيَّن منافعها، فقال: ﴿نحن جعلناها تذكرةً﴾ تذكيراً لنار جهنم، لينظروا إليها، ويذكروا ما وُعدوا به من نار جهنم، أو: تذكرة وأنموذجاً، لما رُوي عن النبي ﷺ أنه قال: " نارُكم هذه التي يُوقدها بنو آدم هي جزءٌ من سبعين جزءاً من حَرِّ جهنم " وقيل: تبصرة في أمر البعث؛ فإنه ليس أبدع من إخراج النار من الشيء الرطب، ﴿ومتاعاً للمُقْوين﴾ منفعة للمقوين المسافرين الذي ينزلون القِواء، وهو القفر. وفي القاموس: القِيُّ: فقر الأرض، كالِقواء - بالكسر والمد: القفر. هـ. وتخصيصهم بذلك؛ لأنهم أحوج إليها؛ فإنّ المقيمين والنازلين بقرب منازلهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد، أو: للذين خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام، من قولهم: أَقْوت الدار: إذا خلت من ساكنها. والأول أحسن.
بدأ أولاً بنعمة الإيجاد، ثم بإمداد الطعام، ثم بالشراب، وما يُعجن به من الطعام، ثم بما يطبخ به؛ فلا يؤكل الطعام إلاّ بعد هذه الثلاث، ولا يستغني عنه الجسد ما دام حيّاً في حكم العادة.
298
ولمَّا ذكر دلائل توحيده وقدرته، أمر بتنزيهه عمَّا لا يليق بحاله؛ لأنّ العقل إذا أدرك الصانع سما إلى درك كنهه، فربما يقع في التشبيه أو التجسيم أو التعطيل، فقال: ﴿فَسَبِّح باسم ربك﴾ أي: فنزّه ربك عما لا يليق به أيها المستمع المستدل، فأراد بالاسم المسمى، والباء صلة، أي: نزَّه ربك ﴿العظيم﴾ أو: نزّه ربك ملتبساً بذكر اسمه. والعظيم: صفة للرب، أو للاسم، لأن المراد به المسمى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أفرأيتم أيها المشايخ ما تُمْنون من نُطف الإرادة في قلوب المريدين، أأنتم تخلقونه في قلوبهم حتى تنبت فيها بذرة الإرادة، وتهيج شجرة المحبة، فتُثمر بالمعرفة، أم نحن الخالقون؟ نحن قدّرنا بينكم الموت، فمنكم مَن يموت الموت الحسي أو المعنوي قبل الوصول، ومنكم مَن يموت بعد الوصول، والموت المعنوي: هو الرجوع عن السير، ولا يكون إلاَّ قبل الوصول، وما نحن بمسبوقين على أن نُبدل أمثالكم، ونُغيّر صفاتكم، فإنّ القلوب بيد الله، وننشئكم فيما لا تعلمون من الجهل والبُعد. ولقد علمتم النشأة الأولى، التي كنتم عليها حال الغفلة والبطالة قبل ملاقاة الرجال، أفلا تذكرون فتشكرون على نعمة اليقظة والمعرفة.
أفرأيتم ما تحرثون من الأعمال والأحوال والمجاهدات والرياضات، أأنتم تزرعونه، أي: تُنبتونه حتى يُقبل منكم، وتجنون ثماره، أم نحن الزارعون؟ لو نشاء لأبطلناه ورددناه فنجعله هباءً منثوراً، فظلتم تندمون على ما فات منكم من المشاق، حيث لم تجنوا ثمرتها، تقولون: إنّا لمغرمون، حيث افتقرنا ودفعنا أموالنا في حال الجذبة الأولى، بل نحن محرمون من ثمار مجاهدتنا وطاعتنا، أفرأيتم الماء الذي تشربون، وهو ماء الحياة الذي تحيا به القلوب، تشربونه بوسائط المشايخ، يزقّه الشيخُ لروح المريد، كما يزق الطيرُ أفراخه، وبذلك تحيا روحه، فتغيب عن عوالم حسها، أأنتم أنزلتموه من سحاب الهداية والعناية، أم نحن المنزِلون؟ لو نشاء جعلناه أُجاجاً فَتَمجه الروحُ بعد شربها، أو تمتنع من شربه، فالأول للداخلين إذا لم تسعفهم رياح المقادير، فتنكسر سفينة سيرهم بعد الركوب، والثاني للطالبين المحرومين من أرزاق المعرفة. فلولا تشكرون هذه النعم، حيث وفقكم لشرب الخمر، ودمتم حتى سكرتم وصحوتم، وحييت بها أرواحكم وأشباحكم. أفرأيتم النار نار الشهوة التي تُورون؛ تقدحونها في نفوسكم، أأنتم أنشأتم شجرتها، وهي النفس الطبيعية، أم نحن المنشئون؟ نحن جعلناها تذكرة، أي: إيقاظاً توقظ صاحبها ليتلجئ إلى مولاه، وفي الحِكَم: " وحرَّك عليك النفس ليُديم إقبالك عليه ": وجعلناها متاعاً للسائرين؛ إذ بجهادها يتحقق سيرهم، وبتصفيتها يتحقق كمالهم، وبفنائها يتحقق وصولهم، وكان شيخ شيخنا حين يشتكي له أحد له بنفسه، يقول: أما أنا فجزاها علي خيراً، ما ربحت إلاّ منها. وقال القشيري: ﴿أفرأيتم النار... ﴾ الخ، يشير إلى نار المحبة المشتعلة الموقدة،
299
بمقدح الطلب في حراقة قلب المحب الصادق في سلوكه وشجرتها هي العناية الإلهية، يدل على هذا قول العارف أبي الحسن المنصور - قدّس الله سره - حين سُئل عن حقيقة المحبة، فقال: هي العناية الإلهية السرميدة، لولاها مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب ولا الإيمان، فنحن جلعناها تذكرة لأرباب النفوس البشرية، ليهدتوا بها إلى سلوك طريق الحق، ومتاعاً للمُوقين، أي غذاء أرواح المحبين، الطاوين أياماً وليالي من الطعام والشراب، كا رُوي عن سهل التستري: أنه كان يطوي ثلاثين يوماً، وعن أبي عقيل المغربي: أنه ما أكل ستين سنة وهو مجاور بمكة، وعن كثيرين من السالكين المرتاضين. هـ.
وقوله تعالى: ﴿فسبِّح باسم رَبِّكَ العظيم﴾ قال الورتجبي: أَمَرَه أن ينزهه لا بنفسه بل بربه، ثم قال: والاسم والمسمى واحد، أي: قدسني بي فإني أعظم من أن تُقدسني بنفسك، أو بشيء دوني، ألا ترى إشارة قوله: ﴿العظيم﴾ أي: عظم جلاله أن يبلغ إلى أن تمدحه الخليقة، وأن تصِفة البرية. هـ.
قلت: " فلا ": صلة، كقوله: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ... ﴾ [النساء: ٦٥]. ومَن قرأ باللام فهي لام الابتداء، دخلت على مبتدأ محذوف، أي: فلأنا أُقسم، ولا يصح أن تكون للقسم؛ لأنها لا بد أن تقرن بنون التوكيد.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فلا أُقِسِمُ بمواقعِ النجومِ﴾ بمساقطها ومغاربها. وقرأ الأخَوان " بموقع " على الإفراد، وتخصيصها بالقَسَم لِمَا في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير، أو: لأنّ ذلك وقت قيام المجتهدين والمبتهلين إليه تعالى، وأوان نزول الرحمة والرضوان عليها، واستعظم ذلك بقوله: ﴿وَإِنَّهُ لقَسَم لَّوْ تَعْلَمُونَ عظيمٌ﴾ وهو اعتراض في اعتراض، لأنه اعتراض بين القسم والمقسَم عليه بقوله: ﴿إِنه لقرآن كريمٌ﴾ أي: حسن مرضيّ، أو نفّاع جمّ المنافع؛ لاشتماله على أصول العلوم المهمة في صلاح المعاش والمعاد، أو: كريم على الله تعالى، واعترض بين الموصوف وصفته بـ ﴿لو تعلمون﴾ وجواب " لو " متروك، أريد به نفي علمهم، أو: محذوف، ثقةً، والتقدير: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ ذلك، لكن لا تعلمون كُنه ذلك، أو: لو تعلمون ذلك لعظمتموه، أو: لعملتم بموجبه، ﴿في كتابٍ مكنون﴾ مَصون من غير المقربين من
300
الملائكة، لا يطلع عليه مَن سواهم، وهو اللوح المحفوظ.
﴿لاَّ يَمسُّه إِلاَّ المُطَهَّرون﴾ أي: الملائكة المنزّهون عن الكدرات الجسمانية، وأوضار الذنوب. هذا إن جعلته صفة لكتاب مكنون، وهو اللوح، وإن جعلته صفة للقرآن؛ فالمعنى: لا ينبغي أن يمسّه إلاَّ مَن هو على الطهارة مِن الناس، والمراد: المكتوب منه. قال ابن جزي: فإن قلنا إنَّ الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الملائكة، فالمطهَّرون يُراد به الملائكة؛ لأنهم مُطهَّرون من الذنوب والعيوب، وإن قلنا أنَّ الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الناس؛ فيحتمل أن يريد بالمطهرين: المسلمين؛ لأنهم مُطَهرون من الكفر، أو يريد: المطهرين من الحدث الأكبر، وهو الجنابة والحيض، فالطهارة على هذا: الاغتسال. أو: المطهرين من الحدث الأصغر، فالطهارة على هذا: الوضوء، ويحتمل أن يكون قوله: ﴿لا يمسُّه﴾ خبراً أو نهياً، على أنه قد أنكر بعضهم أن يكون نهياً، وقال: لو كان نهياً لكان بفتح السين. والتحقيق: أن النهي يصح مع ضم السين؛ لأن الفعل المضاعف إذا كان مجزوماً واتصل به ضمير المفرد المذكر ضُم عند التقاء الساكنين، اتباعاً لحركة الضمير، وإذا جعلته خبر؛ فيحتمل أن يُراد به مجرد الإخبار، أو: يكون خبراً بمعنى النهي، وإذا كان لمجرد الإخبار، فالمعنى: لا ينبغي أن يمسه إلاَّ المطهرون، أي: هذا حقه، وإن وقع خلاف ذلك.
واختلف الفقهاء فيمن يجوز له مَسّ المصحف على حسب الاحتمالات في الآية، فأجمعوا على أنه لا يمسه كافر، واختلفوا فيما سواه على أقوال؛ فقال بعضهم: لا يجوز أن يمسه الجُنب ولا الحائض ولا المحدِث الحدثَ الأصغر، وهذا قول مالك وأصحابه، ومَنعوا أيضاً أن يحمله بعلاقة أو وسادة، وحجتهم: الآية، على أن يُراد بالمطهرين الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر، وقد احتج مالك في الموطأ بالآية، ومن حجتهم أيضاً: كتاب رسول الله ﷺ إلى عَمرو بن حزم ألاَّ يمسَّ القرآن إلا طاهرٌ. القول الثاني: أنه يجوز مسه للجنب والحائض والمحدِث حدثاً أصغر، وهو مذهب أحمد بن حنبل والظاهرية، وحملوا " المطهرين " على أنهم المسلمون أو الملائكة. والقول الثالث: أنه يجوز مسه بالحدث الأصغر دون الأكبر، وحمل صاحب هذا القول " المطهرين " على أن يُراد من الحدث: الأكبر، ورخَّص مالك في مسِّه على غير وضوء لمُعلِّم الصبيان؛ لأجل المشقة.
واختلفوا في قراءة الجنب للقرآن، فمنعه الشافعي وأبو حنيفة مطلقاً، وأجازه الظاهرية مطلقاً، وأجاز مالك قراءة الآيات اليسيرة، أي: لتعوُّذ ونحوه. واختلفوا في قراءة الحائض والنفساء للقرآن عن ظاهر قلب، فعن مالك روايتان، وفرّق بعضهم بين الكثير
301
واليسير. هـ. قلت: المشهور في الحائض والنفساء جواز القراءة مطلقاً. وقال الكواشي عن ابن عطاء: لا يفهم إشارات القراءة إلاَّ مَن طَهَّر سره من الأكوان. هـ. وفي آخر البخاري؛ " لا يمسه ": لا يجد طعمه ونَفْعَه إلاَّ مَن آمن بالقرآن، ولا يحمله بحقه إلاَّ المؤمنُ لقوله: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ﴾ [الجمعة: ٥]. هـ.
﴿تنزيلٌ من رب العالمين﴾ : صفة رابعة للقرآن، أي: نزل من رب العالمين، وُصف بالمصدر؛ لأنه نزل منجّماً من بين سائر الكتب، فكأنه في نفسه تنزيل، ﴿أفبهذا الحديثِ﴾ أي: القرآن ﴿أنتم مُّدْهِنون﴾ متهاونون به، كمَن يُدهن في بعض الأمر، أي: يلين جانبه، فلا يتصلّب فيه تهاوناً به. قال ابن عطية: قال ابن عباس: المداهنة هي المهاودة فيما لا يحل، والمداراة: المهادوة فيما يحل. هـ.
﴿وتجعلون رزقَكم أنكم تُكذِّبون﴾ أي: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب، أي: وضعتم التكذيب موضع الشكر. وفي قراءة عليّ رضي الله عنه، وهي مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿وتجعلون شكركم أنكم تكذِّبون﴾ أي: وتجعلون شكركم لنعمة القرآن التكذيب. وقيل: نزلت في الأنواء ونسبة الأمطار إليها، أي: وتجعلون شكر ما رزقكم الله من الغيث أنكم تكذّبون كونَه من الله، حيث تنسبونه إلى النجوم، وتقولون: مُطرنا بنوء كذا، والمنهي إنما هو اعتقاد التأثير للنجوم، لا من بابا العلامة وقيل: مطلقاً، سدّاً للذريعة، وهو مقتضى كلام ابن رشد، وعزاه لسحنون. والمسألة خلافية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " إذا ذُكرت النجوم فأمْسِكوا "، ومنهم مَن فصّل في المسألة، فقال: يجوز إضافة الأفعال السيئة إليها لقوله صلى الله عليه وسلم: " تعوّذوا بالله من شر هذا، فإنه الغاسق إذا وقب " وأشار إلى القمر. وأما الحسنة فالشكر يقتضي إضافتها إلى الله، وكذا الأدب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مواقع النجوم هي أسرار العارفين؛ لأنه يغرق في بحارها كل ما سوى الله، وتغيب فيها نجوم العلم العقلي والنقلي، وأقمار التوحيد البرهاني؛ لأنه إذا أشرقت في قلوبهم شمس العرفان، لم يبقَ لنور النجوم والقمر أثر، وقد قلت في قصيدتي العينية:
تبدّت لنا شمسُ النهارِ وأشرقتْ
فلم يَبق ضوءُ النجمِ والشمسُ طالعُ
قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي: كنتُ أعرف أربعة عشر علماً، فلما تعلمتُ علم الحقيقة شرطت ذلك كله. هـ. يعني: وقع الاستغناء عنها، فالكنز الذي ظفر به من العلم بالله، على نعت العيان، فلم يبقَ للروح التفات إلى شيء قط. " ماذا فقد مَن وجدك "؟ وليس المراد أنها ذهبت معرفتها عنه، بل لو رجع إليها لوجدها تشحرت واتسعت أمدادها، ولكن ظفر بعلم يُعد الاشتغال بغيره بطالة، كما قال الغزالي لابن العربي
302
المعافري: كنتَ الصاحِبَ في زمن البطالة، يعني: قبل ملاقاته بالشيخ. وإنما كان القسم به عظيماً؛ لأنه ليس عند الله أعظم من قلوب الواصلين وأسرار العارفين، لأنها وسعت الرب تعالى علماً وتجلياً، " لم يسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن ". فالقَسم عظيم، والمُقسَم به أعظم، والمُقسَم عليه أعظم، وهو القرآن الكريم، ﴿لا يسمّه إلاّ المطهرون﴾ قال الجنيد: لا يمسّه إلاّ العارفون بالله، المطهرون سرهم عما سِوَى الله. هـ. أي: لا يمس أبكار حقائقه ودقائق إشارته إلاّ القلوب المطهَرة من الأكدار والأغيار، وهي قلوب العارفين: ﴿تنزيل من رب العالمين﴾ على سيد المرسلين، ثم غرفت أسرارَه قلوبُ خلفائه العارفين. أفبهذا الحديث أنتم مدهنون. قال القشيري: أي: أنتم تتهاونون في قبول مثل هذا الكلام الحق، وتعجبون من مثل هذه الحقيقيات والتدقيقات. هـ. والعتاب لمَن يتهاون بعلم الإشارة ويُنكرها. ويتنكّب مطالعتها. وتجعلون شكر رزقكم إياها - حيث استخرجها بواسطة قلوب العارفين - التكذيب بها والإنكار على أربابها.
يقول الحق جلّ جلاله لمَّا وبَّخهم على تكذيبهم بالقرآن الناطق بقوله: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ﴾ [الواقعة: ٧٥]، ثم أوقفهم على أنهم تحت قهر ملكوته، من حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معاشهم، عجزهم بقهرية الموت، فقال: ﴿فلولا﴾ أي: هلاَّ ﴿إِذا بلغتْ﴾ الروح عند الموت ﴿الحلقومَ﴾ وهو ممرّ الطعام والشراب، وتداعت للخروج ﴿وأنتم حينئذٍ﴾ أيها الحاضرون حول صاحبها ﴿تنظرون﴾ إلى ما هو فيه من الغمرات، ﴿ونحن أقربُ إِليه﴾ علماً وقدرة وإحاطة ﴿منكم﴾ حيث لا تعرفون من حاله إلاَّ ما تُشاهدون من أثر الشدة، من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها، ولا أن تقدروا على دفع أدنى شيء منها، ونحن المتولون لتفاصيل أحواله، ﴿ولكن لا تُبصرون﴾ لا تدركون ذلك لجهلكم بشؤوننا، ﴿فلولا إِن كنتم غير مَدِينينَ﴾ غير مربوبين مقهورين، من: دان السطلان رعيته: إذا ساسهم واستعبدهم، والمحضَض عليه قوله: ﴿ترجعونها﴾
303
تردون الروح إلى الجسد بعد بلوغ الحلقوم ﴿إِن كنتم صادقين﴾ أنكم غير مربوبين مقهورين.
وترتيب الآية: فلولا إذا بلغت الروحُ الحلقومَ، وأنتم تنظرون إليه، يُعالج سكرات الموت، ترجعونها إلى الجسد إن كنتم غير مربوبين، فـ " لولا " الثانية مكررة للأولى؛ للتأكيد، والمعنى: إنكم في عموم جحودكم إن أنزلت عليكم كتاباً قلتم: سحرٌ وافتراءٌ، وإن أرسلتُ إليكم رسولاً صادقاً قلتم: ساحرٌ كذابٌ، وإن رزقتكم مطراً يُحييكم قلتم: صدق نوء كذا، على مذهب التعطيل، فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن إذا بلغ الحلقوم، إن كنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمُحيي المييت، المبدئ المعيد، وأنكم غير مربوبين مقهورين؟ !.
ثم ذكر أحوال الأرواح عبد الموت في البرزخ، فقال: ﴿فأمّا إِن كان﴾ المتوفى ﴿من المقرَّبين﴾ من السابقين، من الأزواج الثلاثة المذكورة أول السورة، عبّر عنهم هنا بأجلّ أوصافهم، وهو شدة القرب، بعد أن عبّر عنهم أولاً بالسبق، فالسابقون هم المقربون، وهم العارفون بالله معرفة العيان، أهل الفناء في الذات، لقوله صلى الله عليه وسلم: " سبق المُفَرِّدون "، قيل: ومَن المُفَرِّدون يا رسول الله؟ قال: " المسْتَهترون بذكر الله " الحديث. فالسابقون هم المولعون بذكر الله، حتى امتزج مع لحمهم ودمهم، فحصل لهم القرب من الحق.
﴿فَرَوْحٌ﴾ أي: فلهم روح، أي: راحة للروح لأرواحهم من هموم الدنيا وغمومها، ومن ضيق عالم الأشباح إلى خالص عالم الأرواح، مع أن هذا حاصل لهم قبل الموت، لكن يتسع ميدانه بعد الموت، أو: رحمة تخصهم، أو: نسيم يهب عليهم. وفي القاموس: الرَّوح - بالفتح: الراحة والرحمة ونعيم الريح. هـ. وقرئ بالضم، وهي مروية عنه صلى الله عليه وسلم، أي: الحياة والبقاء، أو: فله حياة طيبة دائمة لا موت فيها ﴿وريحانٌ﴾ أي: رزق، بلغة حِمْير، والمراد: رزق أرواحهم من العلوم والأسرار، أو: أشباحهم، فإنّ أرواحهم تتطور على شكر صاحبها، فتأكل من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها. كما في حديث الشهداء، والصديقون أعظم منهم، أو: جنة، أو: هو الريحان الذي يُشمّ. قال أبو العالية: " لا يُفارق أحدٌ من المقربين الدنيا حتى يؤتى ببعض من ريحان الجنة فيشمه، فتفيض روحه "، ﴿وجنةُ نعيم﴾ تتنعّم فيها روحه في عالم البرزخ، ثم جسمه وروحه بعد البعث، وهذا يقتضي أنّ الأرواح تدخل الجنة قبل البعث، وهو خاص بالشهداء والصدِّيقين.
﴿وأمّا إِن كان مِن أصحاب اليمين فسلامٌ لك من أصحاب اليمين﴾ أي: فسلام لك
304
يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أي: يسلّمون عليك؛ فإنّ الروح إذا سُئلت في القبر عُرج بها إلى أرواح أهلها، فيتلقونه ويُسلّمون عليه، ويهنُّونه بالخروج من سجن الدنيا، أو: سلامة لك يا محمد من أصحاب اليمين، فلا ترى فيهم إلاَّ السلامة.
﴿وأمّا إِن كان من المكذّبين الضالين﴾ هم الصنف الثالث من الأزواج الثلالثة، وهم الذين قبل لهم: ﴿ثم إنكم إيها الضالون المكذِّبون﴾... الخ، ﴿فَنُزُلٌ من حَميم﴾ أي: فله نُزل من حميم يشربه، ﴿وتَصْلِيهُ جحيمِ﴾ إدخال في النار، ومقاساة ألوانِ عذابها. وهذا يدل على أنّ الكافر بمجرد موته يدخل النار. وقيل: معنى ذلك: ما يجده في القبر من سموم النار ودخانها. ويحتمل: أن الآية لا تختص بعالم البرزخ، بل تعم البرزخ وما بعده.
وقد تكلم الناسُ عن الأرواح في عالم البرزخ، وحاصل ما ظهر لنا من الأحاديث والأخبار: أنّ أرواح الصدّيقين، وهم المقربون، تتشكل على صورة أجسامهم، وتذهب حيث شاءت في الجنان وغيرها. وأرواح الشهداء تدخل في حواصل طيور خُضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، لمّا كانت أرواحهم في الدنيا مسجونة في هيكل ذاتهم، سُجنت في حواصل الطيور، بخلاف العارفين لّمَا سرحت أفكارهم في الملكوت والجبروت؛ أُطلقت أرواحهم بعد الموت، وأرواح الصالحين الأبرار وعامة المؤمنين، ممن لم ينفذ فيه الوعيد؛ متفرقة في البرزخ، فمنهم في ظل شجرة المنتهَى، ومنهم في السموات، على قدر سعيهم في الدنيا. وكل صنف يُجمع مع صنفه جماعةً، فالعلماء مع صنفهم، والقراء كذلك، والصالحون كذلك، والأولياء كذلك، والمنهمكون في الدنيا إذا سلموا من العذاب تكون أرواحهم كالنائم المستغرق، لا يشعر بمرور الأيام، حتى يستيقظ بنفخة البعث، وأما مَن نفذ فيهم الوعيد، فهم يُعذبون بأنواع من العذاب، وتذكَّر حديث البخاري في الرؤيا التي رآها ﷺ في شأن الزناة وأكل الربا، وغيرهم. وفي ابن حجر: أن أرواح المؤمنين في عليين، وأرواح الكافر في سجين، ولكل روح بجسدها اتصال معنوي، لا يُشبه الاتصال في الحيلة الدنيا، بل أشبه شيء به حال النائم، وإن كان هو أشد من حال النائم اتصالاً قال: وبهذا يُجمع بين ما ورد أن مقرها في عليين أو سجين، وبين ما نقل ابن عبد البر عن الجمهور: أنها عند أَفْنية قبورها. قال: ومع ذلك فهي مأذون لها في التصرُّف، وتأوي إلى محلها من عليين أو سجين، وإذا نقل الميت من قبر إلى قبر، فالاتصال المذكور متصل، وكذا إذا تفرقت الأجزاء. هـ.
وفي الأصل الرابع والخمسين من نوادر الأصول: إذا قَدِمَ المؤمنُ على ربه لقاه رَوحاً وريحاناً وبشرى على ألسنة الرسل، وهو قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ﴾ [فصلت: ٣٠]، ثم يأمر له في قبره بكسوة من فِراش ودِثار ورياحين، وهو قوله: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ {الروم: ٤٤]، ويُنور له
305
في مضجعه، ويُؤنسه بملائكته الكرام، إلى أن يلقاه عرصة القيامة، فيبعثه إلى الموطن الذي هيأ له نزلاً. هـ. وقال في الأصل السبعين: إنّ الشهداء يُعجّل لهم تعالى اللقاء، ويحييهم قبل نفخة الصور، ويكلمهم كِفاحاً، كما لأهل الجنة، وليس لمَن دونهم من الأموات هذه الدرجة إلاّ للصدّيقين، فهم أجدر بذلك؛ لبذلهم نفوسهم لله تعالى مدة أعمارهم، والشهداء بذلوها في طاعة الله ساعة، فظهر أن للشهيد حياة خاصة على مَن دونه، وأحرى منه الصدّيق. هـ.
وبالجملة: فالأرواح منها في البرزخ تجول وتُبصر أحوال أهل الدنيا، ومنها تحت العرش، ومنها طيّارة في الجنان وإلى حيث شاءت، على أقدارهم من السعي إلى الله أيام الحياة، ومنها ما تسرح وتتردد إلى جثتها تزورها، ومنها ما يلقى أرواح المقبوضين. وعن سَلمان: إنّ الأرواح المؤمنين - أي: الكُمل - تذهب في برازخ من الأرض حيث شاءت، بين السماء والأرض، حتى يردها الله إلى جسدها، فإذا ترددت هذه الأرواح علمت بأحوال الأحياء، وإذا ورد عليهم من الأحياء ميت، التفُّوا وتساءلوا عن الأخبار. هـ. قلت: وهذه أرواح العارفين دون غيرهم. والله تعالى أعلم. وفي بعض الأثر: إذا مات العارف قبل لروحه: جُل حيث شئتِ.
﴿إِنَّ هذا﴾ أي: الذي ذكر في السورة الكريمة ﴿لهو حقُّ اليقين﴾ أي: الحق الثابت من اليقين، أو: حق الخبر اليقين، ﴿فسبِّح باسم رَبِّكَ العظيم﴾ الفاء لترتيب التسبيح، أو الأمر به على ما قبلها، فإنَّ حقيّة ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب تنزيهه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل؛ من الأمور التي من جملتها الإشراك والتكذيب بآياته الناطقة بالحق.
الإشارة: فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين؛ فرَوْح الوصال، وريحان الجمال، ومِنّة الكمال، أو: فرَوْح الفضاء، وريحان العطاء، وجنة البقاء، أو: فروح الفناء، وريحان البقاء، وجنة الترقي أبداً سرمداً، أو: فرَوْح الأنس لقلبه، وريحان القدس لروحه، وجنة الفردوس لنفسه، ﴿وأمّا إِن كان مِن أصحاب اليمين فسلامٌ لك﴾ أي: فسلام عليك يا محمد ﴿من أًصحاب اليمين﴾ فهم يسلمون عليك، ويشتاقون إلى لقائك، ويرتاحون للقدوم عليك وصحبتك. والحاصل: أنَّ المقرَّب راحته ونعيمه في وصاله بربه، وصاحب اليمين اشتياقه لرسوله، وراحته ونعيمه في حصبته وجواره، فالمُقرَّب فانٍ في ذات الحق، وصاحب اليمين فانٍ في رسوله ﷺ سيد الخلق، فأهل الفناء في الذات هم المقربون، وأهل الفناء في النبي ﷺ هم أصحاب اليمين، فحاصل الآية: ﴿فَأَمَّآ إِن كَانَ مِن المقربين﴾ فهو لي، وأُجازيه برَوْح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين فمُسلم لك، وهو من أصحاب اليمين، هذا حاصل ما حرره شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته.
وفي الإحياء ما حاصله: أنَّ المقرَّب له الوصال إلى سعادة الملك، وصاحب اليمين
306
له النجاة، وهو سالك، والمقرَّب واصل، والمعرِض عن الله له الجحيم. والخبر عن ذلك كله حق يقين عند العارف بالله؛ لأنه أدرك ذلك كله مشاهدةً. وفي القوت بعد كلام: وأيضاً للمقربين من كل هولٍ رَوح به لشهادتهم القريب، وفي كل كربٍ ريحان لقرب الحبيب، كما لأهل اليمين من كل ذلك سلامة. هـ.
قال النسفي: رُوي أنَّ عثمان بن عفان رضي الله عنه دخل على ابن مسعود رضي الله عنه في مرض موته، فقال: ما تشتكي؟ فقال: ذنوبي، فقال: ما تشتهي؟ فقال: رحمة ربي - وفي رواية: ما يقضي ربي - فقال: أفلا تدعوا الطبيب؟ فقال: الطبيب أمرضني، فقال: ألا نأمر لك بعطاء؟ فقال: لا حاجة لي فيه، قال: ندفعه إلى بناتك، قال: لا حاجة لهن فيه، قد أمرتهنّ بأن يقرأن سورة الواقعة، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: " مَن قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تُصبه فاقة أبداً " وليس في هذه السور الثلاث ذكر لفظ " الله " (اقتربت، والرحمن، والواقعة). هـ. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وصحبه وسلّم.
307
سورة الحديد
قلت: وقعت مادة التسبيح في القرآن بلفظ الماضي والمضارع والأمر والمصدر؛ استيفاء لهذه المادة، فقال هنا: ﴿سَبَّحَ﴾ وفي الجمعة: ﴿يُسَبِّحُ﴾ [الجمعة: ١] و ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾ [الأعلى: ١] و ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى﴾ [الإسراء: ١]. وهذا الفعل قد عُدّي باللام تارة، وبنفسه أخرى في قوله: ﴿وَسَبِّحُوهُ﴾ [الأحزاب: ٤٢]، وأصله: التعدي بنفسه؛ لأنّ معنى سبَّحته: بعّدته من السوء، من: سَبَح: إذا ذهب وبَعُد، فاللام إما أن تكون مثل اللام في: نصحته ونصحت له، وإما أن يراد بـ " سبَّح لله ": اكتسب التسبيح لأجل الله ولوجهه خالصاً. قاله النسفي.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿سَبَّح لله﴾ أي: نَزَّه اللهَ عما لا يليق بجلاله، اعتقاداً، أو قولاً وعملاً، مَن استقر ﴿في السماوات والأرض﴾ مِن الملائكة والجن والإنس
308
والجمادات، بلسان الحال والمقال، فإنَّ كل فرد من أفراد الموجودات يدلّ بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم، الواجب الوجود، المتصف بالكمال، المنزَّه عن النقائص، وهو المراد بقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤] قيل: إنما استغنى عن إعادة الموصل في خصوص هذه السورة لتكرر ذكر الأرض هنا في أربعة مواضع. هـ. ﴿وهو العزيزُ﴾ المنتقِم ممن لم يُسبِّح له عناداً، ﴿الحكيمُ﴾ في مجازاة مَن سبَّح له انقياداً.
﴿وله مُلك السماواتِ والأرض﴾ أي: التصرُّف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات، مِن نعت الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات. قال الورتجبي: ذكر الله سبحانه ملكه على قدر أفهام الخليقة، وإلاّ فأين السموات والأرض من ملكه، والسموات والأرضون في ميادين مملكته أقل من خردلة! لمّا علم عجز خلقه عن إدراك ما فوق رؤيتهم، ذكر أنَّ مُلك السموات والأرض مِلكُ قدرته الواسعة، التي إذا أراد الله إيجاد شيء يقول كن فيكون بقدرته، وليس لقدرته نهاية، ولا لإرادته منتهى. هـ. ﴿يُحيي ويميت﴾ استئناف مُبيِّن لبعض أحكام المُلك، أي: هو يُحيي الموتى ويُميت الأحياء، ﴿وَهُوَ على كُلِّ شيءٍ﴾ من الأشياء، التي من جملتها الإحياء والإماتة ﴿قدير﴾ لا يعجزه شيء.
﴿
وهو الأولُ﴾
القديم قبل كل شيء، ﴿والآخرُ﴾ الذي يَبقى بعد فناء كل شيء، ﴿والظاهرُ﴾ الذي ظهر بكل شيء، ﴿والباطنُ﴾ الذي اختفى بعد ظهوره في كل شيء، وقد جاء في الحديث: " اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن، فليس دونك شيء " قال الطيبي: فالمعنيّ بالظاهر على التفسير النبوي: الغالب الذي يَغلب ولا يُغلب، فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء؛ إذ ليس فوقه أحدٌ يمنعه، وبالباطن ألاّ ملجأ ولا منجا دونه، يُنجي ملتجئاً له. هـ. وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله. ﴿وهو بكل شيءٍ عليم﴾ لا يعزب عن علمه شيء من الظاهر والخفيِّ. ﴿هو الذي خَلَقَ السماوات والأرضَ في ستة أيام﴾ من أيام الدنيا، ولو أراد أن يخلقها في طرفة عين لفعل، ولكن جعل الست أصلاً ليكون عليها المدار، وتعليماً للتأني، ﴿ثم استوى﴾ أي: استولى ﴿على العرش﴾ حتى صار العرش وما احتوى عليه غيباً في عظمة أسرار ذاته، ﴿يعلم ما يَلِجُ في الأرض﴾ ما يدخل فيها، من البذر، والقطر، والكنوز، والأمطار، ﴿وما يعرجُ فيها﴾ من الملائكة والأموات والأعمال، ﴿وهو معكم أينما كنتم﴾ بالعلم والقدرة والإحاطة الذاتية، وما ادعاه ابنُ عطية من الإجماع أنه بالعلم، فإن كان مراده من أهل الظاهر فمسلّم، وأمّا أهل الباطن فمجمِعون على خلافه، انظر الإشارة.
309
﴿والله بما تعملون بصيرٌ﴾ فيُجازي كلاًّ بعمله.
﴿له مُلك السماوات والأرضِ﴾ تكرير للتأكيد، وتمهيد لقوله: ﴿وإِلى الله تُرجع الأمورُ﴾ أي: إليه وحده لا إلى غيره استقلالاً واشتراكاً ترجع جميع الأمور، ﴿يُولج الليلَ في النهار﴾ يُدخل الليل في النهار، بأن ينقص من الليل ويزيد في النهار، ﴿ويُولج النهارَ في الليل﴾ بأن ينقص من النهار ويزيد الليل، ﴿وهو عليم بذات الصدور﴾ أي: بمكنونها اللازمة لها من الهواجس والخواطر، بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم وخواطرهم، بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها على جوارحهم، أو بحقائق الصدور من صلاحها وفسادها، كَنّى بها عن القلوب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التسبيح مأخوذ من السبْح، وهو العوم، فأفكار العارفين تعوم في قلزوم بحر الذات وتيار الصفات، وترجع إلى ساحل البر لتقوم بوظائف العبودية والعبادات، وقد سبَح في بحر الذات وغرق فيه أهلُ السموات والأرض، شعروا أم لم يشعروا، بل كل الكائنات غريقة في بحر الذات، ممحوة بأحديتها. قال القشيري: تنزيهاً لله تعالى من حيث الاسم الجامع لجميع الأسماء والصفات الجلالية والجمالية ما في السموات الذات من الأسماء الذاتية، المتجلية في المظاهر الكلية، وما في أرض الصفات من الأسماء الصفاتية، المتجلية في المظاهر الجزئية. اعلم أن فَلَك الذات سماء الصفات، وفلك الصفات أرض الذات، وكذلك فلك الصفات سماء الأسماء، وفلك الأسماء أرض الصفات، وهذه السموات والأرضون كلها مظاهر اسم الله الأعظم، وهو المسبَّح - بالفتح - في مقام التفصيل، والمسبِّح - بالكسر - في مقام الجمع، كما ذكرنا. هـ.
قلت: ومعنى قوله: " فلك الذات سماء الصفات "... الخ، أنَّ أسرار الذات اللطيفة الأصلية سقف لأنوار الصفات، المتجلّي بها، وأنوار الصفات، أرض لتلك الأسرار، وكذلك أنوار الصفات سقف لأرض الأسماء، والأسماء أرض لسماء الصفات، وبقي عليه أن يقول: وفلك الأسماء سماء للأثر، والأثر أرض لسماء الأسماء، فكل مقام سماء لما تحته، وأرض لما فوقه، فالأثار أرض لسماء الأسماء، والأسماء أرض للصفات، والصفات أرض للذات، دلّ بوجود أثاره على وجود أسمائه، وبوجود أسمائه على وجود صفاته، وبوجود صفاته على وجود ذاته، وهذا مقام الترقي، ومقام التدلي بالعكس، انظر الحِكَم، وهو العزيز أن يُدرك كنه ربوبيته، الحكيم في اختفائه بعد ظهوره. له ملك سموات الأرواح وأرض الأشباح، أو: ملك سموات أفلاك الذات والصفات والأسماء، وفلك أرضها، على ما تقدّم. يُحيي قلوب أوليائه بمعرفته، ويُميت قلوب أعدائه بالجهل به، أو يُحيي القلوب بالعلم به، ويُميت النفوس بالفناء عنها، وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قدير من الأحياء والإماتة وغيرهما. هو الأول بلا بداية والآخر بل نهاية، وهو الظاهر، فلا ظاهر معه، وهو الباطن في حال ظهوره. أو: هو الظاهر بتجلياته، والباطن
310
بما نشر عليها من رداء كبريائه، أو: الظاهر بقدرته، والباطن بحكمته، أو: الظاهر بالتعريف، والباطن باعتبار التكييف. والحاصل: أنه ظاهر في بطونه، باطن في ظهوره، ما ظهر به هو الذي بطن فيه، وما بطن فيه هو الذي ظهر به، اسمه الظاهر يقتضي بطون الأشياء واستهلاكها وتلاشيها؛ إذ لا ظاهر معه، واسمه الباطن يقتضي ظهور حسها، ليكون باطناً فيها. وفي الحِكَم قال: " أظهر كل شيء بأنه الباطن، وطوى وجود كل شيء بأنه الظاهر ". ولا يفهم هذا إلا أهل الأذواق.
قال القشيري: هو الأول في عين آخريته، والآخر في عين أوليته، والظاهر في عين باطنيته، والباطن في عين ظاهريته، من حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد؛ لأنها ذاته المطلقة عن هذه الاعتبارات المختلفة، والحيثيات المتنافرة؛ لإحاطته بالكل، واستغنائه عن الكل. قيل لأبي سعيد الخراز: بِمَ عرفت الله؟ قال: بجمعه بين الأضداد، ثُم تَلا هذه الآية: ﴿هو الأول والآخر... ﴾ الخ، ولا يتصور الجمع بين الأضداد إلاَّ مِن حيثية واحدة، واعتبار واحد، في آنٍ واحد. هـ.
﴿هو الذي خَلَقَ السماوات والأرض في ستة أيام﴾ قال القشيري: يُشير إلى مراتب الصفات الستة، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، أي: هو الذي تجلّى للأشياء كلها بذاته الموصوفة بالصفاة بالصفات الستة. انظر بقيته فيه. وتقدم الكلام على الاستواء في سورة الأعراف والسجدة. يعلم ما يلج في أرض البشرية من المساوئ، وما يخرج منها بالتخلية والمجاهدة، وما ينزل من سماء الغيوب على القلوب المطهرة، من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من حلاوة الشهود، وهو معكم أينما كنتم بذاته وصفاته، على ما يليق بجلال قدسه وكمال كبريائه؛ إذ الصفة لا تُفارق الموصوف فإذا كانت المعية بالعلم لَزِمَ أن تكون بالذات، فافهم، وسلِّم إن لم تذق.
حدثني شيخي، الفقيه المحرر " الجنوي ": أنَّ علماء مصر اجتمعوا للمناظرة في صفة المعية، فانفصل مجلسهم على أنها بالذات، على ما يليق به. وسمعتُه أيضاً يقول: إنَّ الفقيه العلامة " سيدي أحمد بن مبارك " لقي الرجل الصالح سيدي " أحمد الصقلي "، فقال له: كيف تعتقد: ﴿وهو معكم أين ما كنتم﴾ ؟ فقال: بالذات، فقال له: أشهد أنك من العارفين. هـ. قلت: فبحر الذات متصل، لا يتصور فيه انفصال، ولا يخلو منه مكان ولا زمان، كان ولا زمان ولا مكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقال الورتجبي: للعارفين في هذا مقامان: مقام عين الجمع، ومقام إفراد القديم من الحدوث. فمِن حيث الوحدة والقِدم تتصاغر الأكوان في عزة الرحمن، وسطوات عظمته،
311
حتى لا يبقى أثرها. ثم قال: ومِن حيث الجمع باشر نورُ الصفة نورَ العقل، ونورُ الصفة قائم بالذات، فيتجلّى بنوره لفعله من ذاته وصفاته، ثم يتجلّى من الفعل، فترى جميعَ الوجوه مرآةَ وجوده، وهو ظاهر لكل شيء، من كل شيء للعموم بالفعل، وللخصوص بالاسم والنعت، ولخصوص الخصوص بالصفة، وللقائمين بمشاهدة ذاته بالذات، فهو تعالى منزّه عن البينونة والحلول والافتراق والاجتماع، وإنما هو ذوق العشق، ولا يعلم تأويله إلاّ العاشقون. هـ. وحاصل كلامه: أنك إن نظرت للوحدة لم يبقَ مَن تحصل معه المعية؛ إذ لا شيء معه، وإن نظرت من حيث الجمع والفرق أثبتَ الفرق في عين الجمع فتحصل المعية منه له جمعاً، ومنه لأثره فرقاً، ولا فرق حقيقة، فافهم، ولا يفهم هذا إلاّ أهل العشق الكامل، وهم أهل الفناء، كما قال ابن الفارض:
فلم تَهْوَني ما لم تكن فيَّ فانياً
ولم تَفْنَ ما لم تجْتَل فيك صورتي
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿آمِنوا بالله ورسوله﴾ أي: دُوموا على إيمانكم، إن كان خطاباً للمؤمنين، فيكون توطئة لدعائهم إلى ما بعده من الإنفاق وغيره؛ لأنهم أهل لهذه الرُتب الرفيعة، أو: أَحْدِثوا الإيمان، إن كان خطاباً للكفار، ﴿وأَنفِقوا﴾ أي: تصدّقوا، فيشمل الزكاة وغيرها، ﴿مما جعلكم مستخلفين فيه﴾ أي: جعلكم خلفاء في التصرُّف فيه من غير أن تملكوه حقيقةً، وما أنتم فيه إلاّ بمنزلة الوكلاء والنُواب، فأنفِقوا منها في حقوق الله تعالى، وَلْيَهُنْ عليكم الإنفاق منها، كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أَذِنَ له، أو: جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما كان في أيديهم بتوريثكم إياه، وسينقله منكم إلى غيركم، فاعتبِروا بحالهم ولا تبخلوا به، ﴿فالذين آمنوا﴾ بالله ورسوله ﴿منكم وأنفَقوا لهم أجرٌ كبير﴾ لا يُقادر قدره.
312
﴿وما لكم لا تؤمنون بالله﴾ هو حال، أي: أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين، وهو توبيخ على ترك الإيمان حسبما أُمروا به، بإنكار أن يكون لهم عذر مّا في الجملة، ﴿والرسولُ يدعوكم﴾ ويُنبهكم عيله، ويُقيم لكم الحجج على ذلك، ﴿لتؤمنوا بربكم وقد أخذ﴾ قبل ذلك عليكم ميثاقه في عالم الذر، على الإقرار بالربوبية، والتصديق بالداعي، بعد أن رَكّب فيكم العقول، فلم يبق لكم عذر في ترك الإيمان، أو: أخذ ميثاقه بنصب الأدلة والتمكين من النظر، فانظروا واعتبروا وآمنوا، ﴿إِن كنتم مؤمنين﴾ بأخذ هذا الميثاق، أو: بموجبٍ ما، فإنَّ هذا موجب لا موجب وراءه.
﴿
هو الذي يُنَزِّلُ على عبده﴾
محمد ﷺ ﴿آيات بيناتٍ﴾ واضحاتٍ، يعني القرآن، ﴿ليُخرجَكم﴾ أي: الله تعالى، أو العبد ﴿من الظلمات﴾ أي: من ظلمات الكفر والمعاصي والغفلة، إلى نور الإيمان والتوبة واليقظة، ﴿وإنَّ الله بكم لرؤوف رحيم﴾ حيث يهديكم إلى سعادة الدارين، بإرسال الرسول، وتنزيل الآيات، بعد نصب الحُجج العقلية.
ثم وبَّخهم على ترك الإنفاق، بعد توبيخهم على ترك الإيمان، على ترتيب قوله: ﴿آمِنوا﴾ و ﴿إنفِقوا﴾ فقال: ﴿وما لكم ألاَّ تُنفقوا في سبيل الله﴾ أي: أيَ شيء حصل لكم في ألاّ تنفقوا فيما هو قُربة إلى الله تعالى، وهو له حقيقة، وإنما أنتم خلفاؤه في صرفه إلى ما عيّنه من المصارف؟ ﴿ولله ميراثُ السماوات والأرض﴾ يرث كل شيء فيهما، لا يبقى لأحد شيء من ذلك، وإذا كان كذلك فأيّ عذر لكم في ترك إنفاقه ﴿في سبيل الله﴾ والله مُهلككم، فوارث أموالكم؟ فتقديمها لله أولى، وهي أبلغ آية في الحث على الصدقة. وإظهار اسم الجليل في موضع الإضمار في " لله " لزيادة التقرير، وتربية المهابة.
ثم بيّن التفاوت بين المنفِقين منهم باعتبار الزمان، فقال: ﴿لا يستوي منكم مَن أنفق مِن قبل الفتح وقاتلَ﴾ مع مَن أنفق بعد الفتح وقاتل، حذفه لدلالة ما بعده عليه من قوله: ﴿أولئك أعظم درجة... ﴾ الخ، والمراد: فتح مكة، أي: لا يستوي مَن أنفق قبل عز الإسلام وظهوره، مع مَن أنفق بعد لك، ﴿أولئك﴾ الذين أنفقوا قبل الفتح وقاتلوا، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهباً ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، ولا نِصفه "، فهم ﴿أعظمُ درجةً من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلَوا﴾ لأنّ مَن أنفق وقت الحاجة والاضطرار، أعظم ممن أنفق في حال السعة والبسط، ﴿وكُلاًّ﴾ أي: كل واحد من الفريقين ﴿وَعَدَ اللهُ الحسنى﴾ وهي الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرأ الشامي بالرفع، مبتدأ، أي: وعده الله الحسنى، ﴿والله بما تعملون خبير﴾ فيُجازيكم على قدر أعمالكم.
﴿من ذا الذى يُقْرِضُ اللهَ قرضاً حسناً﴾ هو ندب بليغ من الله تعالى إلى الإنفاق في
313
سبيله، بعد الأمر به، والتوبيخ على تركه، وبيان درجات المنفقين، أي: مَن ذا الذي يُنفق مَالَهُ في سبيل الله رجاء أن يعوضه مثل ذلك وأكثر، فإنه كمن يُقرضه. وحسن الإنفاق بالإخلاص فيه، وتحري أكرم المال، وأفضل الجهات، ﴿فيُضاعِفه له﴾ أي: يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفاً أضعافاً كثيرة من فضله، ﴿وله أجرٌ كريمٌ﴾ وذلك الأجر المضموم إليه الأَضعاف كريمٌ في نفسه، حقيقٌ بأن يُتنافس فيه وإن لم يُضاعف، فكيف وقد ضُوعف أضعافاً كثيرة! ومن نصب فعلى جواب الاستفهام.
الإشارة: أَمَرَ الحقُّ تعالى مشايخَ التربية، والعلماءَ الأتقيا، أن يؤمنوا إيمان شهود وعيان، أو إيمان تحقيق وبرهان، فالأول للأولياء، والثاني للعلماء، ثم قال: ﴿وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه﴾ من العلوم الوهبية، أو الرسمية، فالذين آمنوا منكم كما تقدّم، مما عندهم سعة العلوم الوهبية، أو مِن ضيق العلوم الرسمية، لهم أجر كبير: سكنى الحضرة، في مقعد صدق، أو بُحْبُوحة الجنة في نعيم الأشباح. وما لكم لا تؤمنون بالله، أي: تُجددوا إيمانكم كل ساعة، بفكرة الاستبصار والاعتبار، والرسولُ يدعوكم لتُجددوا إيمانكم، وقد أخذ ميثاقكم في عالم الذر، ثم جدّده ببعث الرسل وخلفائهم من شيوخ التربية، الداعين إلى الله، إن كنتم مؤمنين بهذا الميثاق. هو الذي يُنزِّل على عبده آيات بينات، وهو القرآن، يَنزل على رسوله ﷺ ليُخرجكم من الظلمات إلى النور، من ظلمة المعاصي إلى نور التوبة والاستقامة، ومن ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، ومن ظلمة الهوى والحظوظ إلى نور الزهد والعِفة، ومن ظلمة الحس إلى نور المعنى، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم بالله.
وما لكم ألاَّ تنفقوا مُهجكم وأرواحكم في سبيل الله، ببذلها في مرضاة الله، ولله ميراث السموات والأرض، فيرثكم بأشباحكم وأرواحكم، فمَن بذلها عوّضه دوام الشهود، ومَن بخل بها عقبه حسرة الحجاب، لا يستوي منكم مَن أنفق نفسه وقاتلها قبل ظهور الطريق، مع مَن أنفق وجاهد بعد ظهورها، فالسابقون لم يجدوا أعواناً، والمتأخرون وجدوا أعواناً، وكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى الجنة الحسية، وزاد السابقين الجنة المعنوية، جنةَ المعارف. والله بما تعملون خبير، لا يخفى عليه مَن تقدم ممن تأخر. ﴿من ذا الذى يُقرض الله قرضاً حسناً﴾، قال القشيري: هو أن يُقرض وينقطع عن قلبه حُبّ الدارين، ففي الخبر: " خير الصدقة ما كان عن ظهر غنىً ". هـ. فيضاعفه له بالترفي إلى ما لا نهاية له، وله أجر كريم، وهو مقعد صدق عند مليك مقتدر.
314
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر ﴿يومَ ترى﴾ أو: لهم أجر كبير ﴿يومَ ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهم﴾ وهو نور الإيمان في الدنيا، يكون هناك حسيّاً يسعى ﴿بين أيديهم وبأَيمانهم﴾ وقيل: هو القرآن، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم مَن يؤتى نوره كالنخلة، ومنهك كالرجل القائم، وأدناهم نوراً مَنْ نوره على إبهام رجله، يطفأ تارة ويلمع تارة.
قلت: ومنهم مَن نُوره كالقمر ليلة البدر، ومنهم مَن نوره كالشمس الضاحية، يُضيء خمسمائة عام، كما في أحاديث أخرى، وذلك على قدر إيمانهم وعرفانهم. قال الحسن: يستضيئون به على الصراط، وهم متفاوتون في السرعة، قال أبو نصر الهمداني: أمة محمد ﷺ على سبعة أنواع: الصدِّيقون، والعلماء، والبُدلاء، والشهداء، والحُجاج، والمطيعون، والعاصون، فالصدِّيقون يمرُّون كالبرق، والعلماء، أي: العاملون، كالريح العاصف، والبدلاء كالطير في ساعة، والشهداء كالجواد المسرع، يمرُّون في نصف يوم، والحجاج يمرُّون يومٍ كامل، والمطيعون في شهر، والعاصون يضعون أقدامهم على الصراط، وأوزارهم على ظهرهم، فيعثرون، فتقصد جهنم أن تحرقهم، فترى نور الإيمان في قلوبهم، فتقول: جز يا مؤمن، فإنَّ نورك قد أطفا لهبي. هـ. قلت: الصدِّيقون على قسمين، أما أهل الاقتداء، الدالُّون على الله، المسلِّكون، فتقرب الغُرف لهم، فيركبونها، ويمرُّون، وأما الأفراد فيطيرون كالبرق. والله تعالى أعلم.
وقال مقاتل: يكون هذا النور لهم دليلاً إلى الجنة، وتخصيص الجهتين لأنّ السعداء يُؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ﴿من بين أيديهم وعن إيمانهم﴾ كما أنَّ الأشقياء يؤتون صحائفهم من شمائلهم ووراء ظهورهم، فجَعَل النور في الجهتين إشعاراً لهم بأنهم بحسناتهم وبصحائفهم البيض أفلحوا.
وتقول لهم الملائكة: ﴿بُشراكم اليومَ جناتٌ﴾ أي: دخول جنات؛ لأنّ البشارة تقع بالإجداث دون الجُثث، ﴿تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم﴾. ﴿يومَ﴾ بدل من " يوم ترى " ﴿يقول المنافقون والمنافقاتُ للذين آمنوا انُظرونا﴾ أي:
315
انتظرونا؛ لأنه يُسرَع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف، ويبقى المنافقون في ظلمة، فيقولون للمؤمنين: قفوا في سيركم لنستضيء بنوركم. وقرأ حمزة: " أَنظِرونا "، من الإنظار، وهو التأخير، أي: أَمهِلوا علينا. وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني، أي: انتظرني، فتتفق القراءتان. وقيل: من النظر، أي: التفتوا إلينا وأَبْصِرونا ﴿نَقتبس مِن نوركم﴾ لأنَّ نورهم بين أيديهم، فيُقال طرداً لهم وتهكُّماً بهم من جهة المؤمنين أو الملائكة: ﴿ارجعوا وراءكم﴾ أي: إلى الموقف، إلى حيث أُعطينا هذا النور ﴿فالتمِسوا نوراً﴾ فإنّا هناك اقتبسناه، أو: التفتوا وراءكم، فيلتفتون فيُحال بينهم، ﴿فضُرِبَ﴾ حينئذ ﴿بينهم﴾ بين الفريقين ﴿بسُورٍ﴾ بحائطٍ حائل بين شق الجنة وشق النار، ﴿له باب﴾ يلي المنافقين، ليروا ما فيه من المؤمنون من الأنوار والرحمة، فيزدادون حسرة، ﴿باطِنُه﴾ أي: باطن ذلك السور، وهو الجهة التي تلي المؤمنين ﴿فيه الرحمةُ وظاهرهُ﴾ الذي يلي المنافقين ﴿مِن قِبَلِه العذابُ﴾ أي: العذاب حاصل من قِبَلِه. فالعذاب: مبتدأ، و ﴿مِن قِبَلِه﴾ : خبر، أي: ظاهر السور تليه جهنم أو الظلمة، فيقابله العذاب، فهم بين النار والسور.
﴿يُنادونهم﴾ أي: ينادي المنافقون المؤمنين: ﴿ألم نكن معكم﴾ في الدنيا؟ يريدون موافقتهم لهم في الظاهر، ﴿قالوا﴾ أي: المؤمنون: ﴿بلى﴾ كنتم معنا في الظاهر ﴿ولكنكم فتنتم أنفسَكم﴾ أي: محنتموها وأهلكتموها بالنفاق والكفر، ﴿وتربصتم﴾ بالمؤمنين الدوائر، ﴿وارتبتم﴾ في أمر الدين ﴿وغرتكم الأمانيُّ﴾ الفارغة، التي من جملتها أطماعكم في انتكاس الإسلام، أو: طول الأمل وامتداد الأعمار ﴿حتى جاء أمرُ الله﴾ ؛ الموت، ﴿وغرَّكم بالله﴾ الكريم ﴿الغَرُورُ﴾ أي: الشيطان بأنَّ الله غفور كريم لا يعذبكم، أو: بأنه لا بعث ولا حساب.
﴿
فاليومَ لا يُؤخذ منكم فديةٌ﴾
فداء ﴿ولا من الذين كفروا﴾ جهراً، ﴿مأواكم النارُ﴾ أي: مرجعكم، لا تبرحون عنها أبداً ﴿هي مولاكم﴾ أي: المتصرفة فيكم تصرُّف المولى في ملكه، أو: هي أولى بكم، وحقيقة مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم، أو: ناصركم، على طريق:
تحيةٌ بَينِهِم ضَرْبٌ وجِيعُ
فيكون تهكُّماً بهم، ﴿وبئس المصيرُ﴾ أي: النار.
الإشارة: يوم ترى المؤمنين والمؤمنات، الكاملين في الإيمان، الطالبين الوصول،
316
يسعى نورُهم، وهو نور التوجُّه بين أيديهم وبأيمانهم، فيهتدون إلى أنوار المواجهة، وهي المشاهدة، فيقال لهم: بُشراكم اليوم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، خالدين فيها، ذلك هو الفوز العظيم. قال القشيري: قوله تعالى: ﴿يسعى نورهم... ﴾ الخ؛ كما أنَّ لهم في العرصة هذا النور؛ فاليومَ لهم نورٌ في قلوبهم وبواطنهم، يمشون في نورهم، ويهتدون به في جميع أحوالهم، قال صلى الله عليه وسلم: ﴿المؤمن ينظر بنور الله﴾، وقال تعالى: ﴿فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ﴾ [الزمر: ٢٢]. وربما سقط ذلك النورُ على مَنْ يَقْربُ إليهم، وربما يقع من ذلك على القلوب، فلا محالة لأوليائه هذه الخصوصية. هـ. قال الورتجبي: ونورُ الحق الذي ألبس العارف تخضع له الأكوان ومَن فيها، ومثله لسهل. فانظره مسْتوفٍ.
يوم يقول المنافقون والمنافقات، وهم الذين اعتنوا بتزيين الظواهر، وغفلوا عن البواطن، فصارت خراباً من النور، يقولون في الدنيا: انظُرونا والتفتوا إلينا، نَقْتَبِس مِن نُّورِكُمْ، قِيلَ: ارجعوا وراءكم، إلى دنياكم وحظوظكم، فاتلمسوا نوراً، تهكُّماً بهم، فضُرب بينهم بسورٍ معنوي، وهو خرق العوائد، وتخريب الظواهر؛ إذ لا يقدرون على ارتكابه، له باب ليدخل معهم مَن أراد نورهم، باطن ذلك السور فيه الرحمة، وهي الراحة، والطمأنينة، والبسط، وبهجة المعارف، وظاهره الذي يلي العامة من قِبَلِه العذاب، وهو ما هم فيه من الحرص، والتعب، والجزع، والهلع، والقبض. ينادونهم: ألم نكن معكم في عالم الحس؟ وهو عالم الأشباح، قالوا: بلى، ولكنكم لم ترتقوا إلى عالم المعاني، وهو عالم الأرواح، الذي هو محل الراحة والهنا والسرور، بل فَتنتم أنفسكم بأشغال الدنيا، واشتغلتم بطلب حظوظها وجاهها، ورئاستها وطيب مأكلها، ومشربها وملبسها، وتربصتم بأهل التوجه الدوائر، أو الرجوع إلى ما أنتم فيه، وارتبتم في وجود خصوصية التربية، وغَرَّتكم الأماني: المطامع الكاذبة، وأنكم تنالون الخصوصية بغير صحبة ولا مجاهدة، وغرّكم طولُ الأمل والتسويف، عن التوبة والتوجُّه، وغرّك بحلمه الغرور، فزيَّن لكم القعود والتخلُّف عن مقامات الرجال، فاليوم، أي: حين ظهرت مقامات الرجال في الدنيا والآخرة، لا يؤخذ منكم فدية في التخلُّص من غم الحجاب، ولا من الذين كفروا، مأواكم نار القطيعة، هي مولاكم ومنسحبة عليكم، وبئس المصير.
317
قلت: ﴿ألم يأن﴾ : مجزوم بحذف الياء، من: أَنَى يأنِي، كمَضَى يمضي: إذا حان وقرب. و ﴿أن تخشع﴾ : فاعل. و ﴿لا يكونوا﴾ : عطف على " تخشع "، وقرأ رويس عن يعقوب بالخطاب، فيكون التفاتاً؛ للاعتناء بالتحذير، أو نهياً.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ألم يَأْنِ﴾ ألم يحضر، أو يقرب ﴿للذين آمنوا أن تخشع قُلوبُهم لذكر الله﴾ أو: ألم يجيء وقت خشوع قلوب المؤمنين لذكر الله تعالى، وتطمئن به، ويسارعون إلى طاعته، بالامثال لأوامره والاجتناب لنواهيه. قيل: كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا وأصابوا الرزق والنعمة، ففتروا عما كانوا عليه، فنزلت. وبه تعلم أنَّ الشدة هي عين الرخاء، وأنَّ الجلال هو الجمال، وأين هو حبيبك ثَمَّ هو عدوك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربعُ سنين. وعن ابن عباس رضي الله عنه: استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
وعن أبي بكر رضي الله عنه: إنَّ هذه الآية قُرئت بين يديه، وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاءً شديداً، فنظر إليهم فقال: " هكذا كنا حتى قست قلوبنا ". قلت: مراده بالقسوة: التصلُّب والتثبُّت للورادات، وذلك أنَّ القلب في البدايات يكون رطباً مغلوباً للأحوال والواردات، يتأثر بأدنى شيء، فإذا استمر مع الأنوار والواردات؛ استأنس بها وتصلّب واشتد، فلا تؤثر فيه الواردات، فيكون مالكاً للأحوال، لا مملوكاً، وهذا أمر ذَوقْي، يرتفع البكاء عن العارفين، ويظهر على الصالحين والطالبين. وهذه الآية أيضاً كانت سبب توبة الفُضيل، كان صاعداً لجارية، فسمع قارئاً يقرأها، فقال: قد آن الخشوع والرجوع، فتاب.
والمراد بذكر الله ذكر اسمه تعالى على أي لفظ كان، كقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ... ﴾ [الأنفال: ٢] الآية، أو: القرآن، فيكون قوله: ﴿وما نَزَلَ من الحق﴾ عطف تفسير، أو لتغاير العنوانين، فإنه ذِكْرٌ وموعظة، كما أنه حقٌّ نازل من السماء. والمراد بالخشوع: الإنابة والخضوع، ومتابعة الأمر والنهي. ﴿ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبلُ﴾ أي: اليهود والنصارى، ﴿فطال عليهم الأمدُ﴾ الزمن بينهم وبين أنبيائهم، ﴿فقست قلوبُهم﴾ باتباع الشهوات، وذلك أنَّ بني إسرائيل كان الحقُّ يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمِعوا التوراة خشعوا له، ورقَّت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلب عليهم الجفاء والقسوة، واختلفوا.
قال ابن مسعود: إن بني إسرائيل لمَّا طال عليهم الأمد قست قلوبُهم، فاخترعوا كتاباً
318
من عند أنفسهم، استحلته أنفُسِهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثيرٍ من شهواتهم، حتى نبذوا كتابَ الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، ثم قالوا: اعْرِضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل، فإن تابعوكم فاتركوهم، وإلاَّ فاقتلوهم. ثم اتفقوا أن يرسلوه إلى عالمٍ من علمائهم، [وقالوا] : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، وإلاَّ قتلتموه، فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقة، وجعلها في قرن، وعلقها في عنقه، ثم لبس عليه ثيابه، وأتاهم، فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا؟ فأومئ إلى صدره، وقال: آمنتُ بهذا - يعني المعلَّق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة. هـ.
قال تعالى: ﴿وكثيرُ منهم فاسقون﴾ خارجون عن دينهم، رافضون لما في الكتابين، أي: وقليل منهم مؤمنون، فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثلهم. وقال ابن عطية: الإشارة بقوله: ﴿أوتوا الكتاب﴾ إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام، ولذلك قال: ﴿من قبل﴾، وإنما شبّه أهل عصر نبي بأهل عصر نبي، وقوله: ﴿فطال عليهم الأمدُ﴾ قيل: أمد الحياة، وقيل: أمد انتظار القيامة. هـ. وقال مقاتل: ﴿الأمد﴾ هنا: الأمل، أي: لما طالت آمالهم لا جرم قست قلوبهم. هـ. قيل: إن الصحابة ملُّوا ملالة، فقالوا: حدِّثنا، فنزل: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: ٣]، وبعد مدة قالوا: لو ذَكَّرتَنا، فنزلت هذه السورة.
وهذه الآية ﴿اعلموا أنَّ الله يُحيي الأرضَ بعد موتها﴾ قيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يُحييها كما يُحيي الغيثُ الأرض، وفيه إرشاد إلى أنَّ طريق زوال القسوة ليس إلاَّ الالتجاء إلى الله، ونفى الحول والقوة؛ لأنه تعالى القادر وحده على ذلك، كما أنه وحده يُحيي الأرض، ﴿قد بينا لكم الآيات﴾ التي من جملتها هذه الآية، ﴿لعلكم تعقلون﴾ كي تعقلوا ما فيها، وتعملوا بموجبها، فتفوزوا بسعادة الدارين. والله تعالى أعلم.
الإشارة: خشوع القلب لذكر الله هو ذهوله وغيبته عند سطوع أنوار المذكور، فيغيب الذاكر في المذكور، وهو الفناء، والخشوع لسماع ما نزل من الحق: أن يسمعه من الحق، لا من الخلق، وهو أقصى درجات المقربين. ثم نهى تعالى الخواص أن يتشبّهوا بأهل العلوم الرسمية اللسانية؛ لأنه طال بهم الأمل، وتنافسوا في الرئاسة، وتهالكوا في الحظوظ العاجلة، حتى قست قلوبهم، وخرجوا عن الإرادة بالكلية، قال القشيري: وقسوة القلب إنما تحصل من اتباع الشهوة؛ فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان، وموجِبُ القسوة: انحرافُ القلب عن مراقبة الربِّ، ويقال: موجب القسوة أوله خطرة، فإنْ لم تتدارَكْ صارت فكرة، وإن لم تتدارَكْ صارت عزيمة، فإن لم تتدارَكْ صارت مخالفة، فإن لم تتلافَ صارت قسوةً، وبعد ذلك طبع ودين. هـ. وحينئذ لا ينفع الوعظ والتذكير، كما قال:
319
إذا قسا القلبُ لم تنفعه موعظةٌ
كالأرض إن سبختْ لم ينفع المطرُ
اعلموا أن الله يُحيي أرض القلوب بالعلم والمعرفة، بعد موتها بالغفلة والجهل، قد بيَّنَّا الآيات لمَن يتدبّر ويعقل.
قلت: ﴿المصدقين﴾ مَن قرأ بالتشديد فيهما فاسم فاعل، من: تصدّق، أدغمت التاء في الصاد، ومَن قرأ بتخفيف الصاد فاسم فاعل صدّق. و ﴿أقرضوا﴾ : عطف على الصلة، أي: إن الذين تصدّقوا وأقرضوا.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ المصدِّقين والمصدِّقات﴾ أي: المتصدقين بأموالهم والمتصدقات أو: المصدقين بالله ورسوله والمصدقات، ﴿وأقرضوا اللهَ قرضاً حسناً﴾ وهو أن تتصدّق من كسبٍ طيبٍ، بقلب طيب، ﴿يُضاعف لهم﴾ بأضعاف كثيرة إلى سبعمائة، ﴿ولهم أجرٌ كريمٌ﴾ الجنة وما فيها.
وقد ورد في الصدقات أحاديث، منها: أنها تدفع سَبعينَ باباً من السوء، وتزيد البركة في العمر. رُوي أن شابّاً وشابة دخلا على سليمان عليه السلام فعقد لهما النكاح، وخرجا من عنده مسرورين، وحضر ملك الموت، فقال: لا تعجب من سرورهما، فقد أُمرت أن أقبض روح هذا الشاب بعد خمسة أيام، فجعل سليمانُ يراعي حالَ الشاب، حتى ذهبت ستة أيام، ثم خمسة أشهر، فعجب من ذلك، فدخل عليه ملك الموت، فسأله عن ذلك، فقال: إني أُمرت أن أقبض روحه كما ذكرتُ لك، فلما خرج من عندك لقيه سائل، فدفع له درهماً، فدعا له بالبقاء، فأُمرت بتأخير الأمر عنه ببركة صدقته. هـ. وانظر عند قوله: ﴿يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ﴾ [الرعد: ٣٨]، ومثله قضية الرجل الذي آذى جيرانَه، فدعا موسى عليه السلام عليه، ثم تصدَّق صبيحة اليوم برغيف، فنزل الثعبان، فلقيته الصدقة فسقط ميتاً على حزمة حطبه.
﴿والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون﴾ المبالغون في التصديق، أو الصدق، وهو أولى؛ لأنّ وزن المبالغة لا يساغ من غير الثلاثي في الأكثر إلا نادراً،
320
كمسّيك من أمسك. ﴿و﴾ هم أيضاً ﴿الشهداءُ عند ربهم﴾ وظاهره: أن كل مَن آمن بالله ورسله ينال درجة الصدّيقين، الذين درجتهم دون درجة الأنبياء، وفوق درجة الخواص، وأنَّ كل مَن آمن ينال درجة الشهداء، وليس كذلك، فينبغي حمل قوله: ﴿آمَنوا﴾ على خصوص إيمان وكماله، وهم الذين لم يشكّوا في الرسل حين أخبَروهم، ولم يتوقفوا ساعة، أي: سبقوا إلى الإيمان، واستشهدوا في سبيل الله. وسيأتي في الإشارة حقيقة الصدّيق. وقيل: كل مَن آمن بالله ورسله مطلق الإيمان فهو صدّيق وشهيد، أي: ملحق بهما، وإن لم يتساووا في النعيم، كقوله: ﴿وَمَن يُطِع اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيِنَ وَالصِّدِّيقِينَ... ﴾ [النساء: ٦٩].
والحاصل على هذه العبارة: الترغيب في الإيمان والحث عليه، وهو وارد في كلام العرب في مبالغة التشبيه، تقول: فلان هو حاتم بعينه، إذا شابهه في الجود، ويؤيد هذا حديث البراء بن عازب: أن النبي ﷺ قال: " مؤمنو أمتي شهداء " قال مجاهد: (كل مؤمن صدّيق وشهيد)، أي: على ما تقدّم، وإنما خصّ النبي ﷺ ذكرَ الشهداء السبعة تشريفاً على رتب الشهداء غيرهم، ألا ترى أنَّ المقتول في سبيل الله مخصوص أيضاً بتشريف ينفرد به، وقال بعضهم: معنى الشهداء هنا: أنهم يشهدون على الأمم. قال ابن عباس ومسروق والضحاك: الكلام تام في قوله: " الصدّيقون "، وقوله: " الشهداء " استئناف كلام، أي: والشهداء حاضرون عند ربهم، أو: والشهداء ﴿لهم أجرهم ونورهم﴾ عند ربهم، قال أبو حيان: والظاهر: أن " الشهداء " مبتدأ، خبره ما بعده. هـ.
قلت: الظاهر: أنَّ الآية متصلة، فكل مؤمن حقيقي صدّيق وشهيد، أي: يلحق بهم، وقوله: ﴿لهم أجرهم ونورهم﴾ أي: لهم أجر الصدّيقين ونورهم، على التشبيه، ولا يبلغ المشبَّه درجة المشبَّه به. وإذا قيّدنا الإيمان بالسبق، فالمعنى لهم أجرهم كامل ونورهم تام، ويؤيد عدم التقييد: ذكر ضده عقبه، كما هو عادة التنزيل، بقوله: ﴿والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم﴾.
الإشارة: إنَّ المصدّقين والمصدّقات، وهم الذين بذلوا مهجهم وأرواحهم في مرضاة الله - ومَن كان في الله تلفه كان على الله خَلَفَه - وأقرضوا الله قرضاً حسناً، أي: قطعوا قلوبهم عن محبة ما سواه، وحصروه في حضرة الله، يُضاعف لهم أنوارهم وأسرارهم،
321
ولهم أجر كريم، شهود الذات الأقدس، وهؤلاء هم الصدِّيقون المشار إليهم بقوله: ﴿والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدّيقون﴾ فهذا الإيمان عند الصوفية مقيد، قال الورتجبي: هم الذين شاهدوا الله بالله بنعت المعرفة والمحبة، وتبعوا رسولَه بنعت المحبة والمعرفة بشرفه وفضله، والانقياد بين يدي أمره ونهيه، فأولئك هم الصدّيقون؛ لأنهم معادن الإخلاص واليقين، وتصديق الله في قوله بعد أن شاهدوه مشاهدة الصديقية، التي لا اضطراب فيها من جهة معارضة النفس والشيطان، وهم شهداء الله المقتولون بسيوف محبته، مطروحون في بحر وصلته، يَحْيون بجماله، يَشهدون على وجودهم بفنائه في الله، وبفناء الكون في عظمة الله، وهم قوم يستشرفون على هموم الخلائق بنور الله، يشهدون لهم وعليهم؛ لِصدق الفراسة؛ لأنهم أمناء الله، خصَّهم الله بالصديقية والسعادة والولاية والخلافة. هـ.
وقال القشيري: الصدّيق مَن استوى ظاهرُه وباطنُه، ويقال: هو الذي يحمل الأمرَ على الأشَق، لا يَنْزلُ إلى الرُّخَصِ، ولا يجنح إلى التأويلات، والشهداء: الذين يشهدون بقلوبهم مواطن الوصلة، ويعتكفون بأسرارهم في أوطان القُربة، ونُورهم: ما كحل الحق به بصائرهم من أنوار التوحيد. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿اعْلَموا أنما الحياةُ الدنيا لَعِبٌ﴾ كلعب الصبيان، ﴿وَلَهوٌ﴾ كلهو الفتيان، ﴿وزِينَةٌ﴾ كزينة النسوان، ﴿وتفاخر بينكم﴾ كتفاخر الأقران، ﴿وتكاثرٌ﴾ كتكاثر الدهقان - أي الفلاحين - ﴿في الأموال والأولاد﴾ أي: مباهاة بهما. والتكاثر: الاستكثار، والحاصل: أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء، فضلاً عن الاطمئنان بها، وأنها مع ذلك سريعة الزوال، وشيكة الاضمحلال، ولذلك قال: ﴿كَمَثَل غيثٍ أعجَبَ الكفَّارَ﴾ أي: الحُرّاث، من: كَفَرَ الحبَ: ستره، ويقال: كفرت الغمامُ النجومَ: سترتها، أي: أعجب الزراع ﴿نباتُه﴾ أي: النبات الحاصل منه، ﴿ثم يَهيجُ﴾ أي: يجف بعد خضرته ونضارته، ﴿فتراه مُصْفراً﴾ بعد ما رأيته ناضراً مونِعاً، وإنما لم يقل: ثم تراه؛ إيذاناً بأنّ اصفراره مقارن لجفافه. ﴿ثم يكون حُطاماً﴾ متفتتاً متكسراً، شبَّه حالَ الدنيا وسرعة تقضّيها مع قلة جدواها بنباتٍ أنبته الغيث، فاستوى وقوي، وأعجب به حُرّاثه، أو:
322
الكفار الجاحدون لنعمة الله تعالى فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة، فهاج، واصفرّ وصار حطاماً.
وهذا المثل هو لمَن اشتغل بالدنيا، والجري عليها، وأمّا ما كان منها في طاعة الله، أو في الضرورات التي تُقيم الأولاد، وتُعين الطاعات، فلا يدخل في هذا المثل، وهذا مثال للإنسان ينشأ شابّاً قويّاً، حَسن المنظر والهيئة، ثم يأخذ في النقص والهرم، ثم يموت، ويضمحل أمره، وتصير الأموال لغيره. قال القشيري: الدنيا حقيرة، وأحقرُ منها قَدْراً: طالبُها، وأقلُّ منها خَطَراً: المُزاحِم فيها، فما هي إلاّ جيفة، وطلاب الجيفةِ ليس لهم خطر، وأخسُّهم مَن يبخل بها. وهذه الدنيا المذمومة هي ما شَغَل العبد عن الآخرة، فكل ما شغله عن الآخرة فهي الدنيا. هـ.
﴿
وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ﴾
لمَن أعرض عن الله، ﴿ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ﴾ لمَن أقبل على الله، وزهد فيما سواه. والحاصل: أنّ الدنيا ليست إلاَّ محقراتٍ من الأمور، وهي اللعب، واللهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر، وأمّا الآخرة؛ فما هي إلا أمورٌ عِظام، وهي العذاب الشديد، والمغفرة، والرضوان من الله الحميد. والكاف في " كَمَثَلِ " في محل رفع، خبر بعد خبر، ﴿وما الحياةُ الدنيا إِلا متاعُ الغُرور﴾ لمَن ركن إليها، واعتمد عليها، ومتاع الغرور: هو الذي يظهر ما حسن منه، ويبطن ما قبح، يفعله مَن يغر الناس ويغشهم، وكذلك الدنيا تُظهر لطلابها حلاوةً ووَلُوعاً، وتزداد عليهم شيئاً فشيئاً، فينهمكون في حلاوة شهواتها وبهجتها، ويغفلون عن الاستعداد، والعمر يفنى من يدهم في البطالة، فهي تغرهم وتخدعهم حتى تسوقهم إلى الموت مفلسين. قال ذو النون: يا معشر المريدين؛ لا تطلبوا الدنيا، وإن طلبتموها فلا تحبوها، فإنّ الزاد منها، والمَقيل في غيرها.
ولمَّا حقَّر الدنيا، وصغّ أمرها، وعظّم أمر الآخرة، حَثَّ عبادَه على المسارعة إلى نيل ما وَعَد من ذلك، وهي المغفرة والرضوان، فقال: ﴿سابِقوا﴾ بالأعمال الصالحة ﴿إِلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أو: سارِعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار، ﴿وجنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض﴾ أي: كعرض سبع سموات، وسبع أرضين، إذا مدت إحداها حَذْو الأخرى، وذَكَر العرض دون الطول؛ لأنّ كل ما له عرض وطول فعَرضه أقلّ من طوله، فإذا وصف عَرضه بالبسط عُرف أن طوله أبسط، وهذا تقريب لأفهام العرب، وإلاَّ فالجنة أعظم من ذلك مراراً، كيف لا والمؤمن الواحد يُعطي قدر الدنيا عشر مرات! ﴿أُعِدَّتْ﴾ تلك الجنة ﴿للذين آمنوا بالله ورسله﴾ وهو دليل أنها مخلوقة، ﴿ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء﴾ وهم المؤمنون، وفيه دليل أنه " لا يدخل الجنة أحدٌ بعمله " كما في
323
الحديث: ﴿والله ذو الفضل العظيم﴾ وبذلك يؤتي من شاء ذلك الفضل، الذي لا غاية وراءه.
الإشارة: قد شبّه بعضُ الحكماء الدنيا بسبعة أشياء، شبّهها بالماء المالح، يغرق ولا يروي، ويضر ولا ينفع، وشبهها بظل الغمام، يغر ويخذل، وشببها بالبرق الخاطف في سرعة الذهاب والإضرار، وبسحاب الصيف، يضر ولا ينفع، وبزهر الربيع، يغر بزهرته، ثم يصفر فتراه هَشيماً، بأحلام النائم، يرى السرورَ في منامه، فإذا استيقظ لم يجد في يديه شيئاً إلاّ الحسرة، وبالعسل المشوب بالسم الرعاف، يغر ويقتل. هـ. قال حفيده: فتأملت هذه الحروف سبعين سنة، ثم زِدتُ فيها حرفاً واحداً فشبهتها بالغول التي تهلك مَن أجابها، وتترك مَن أعرض عنها. هـ. وفي كتاب قطب العارفين، لسيدي عبد الرحمن اللجائي، قال: فأول درجة الذاهبين إلى الله تعالى: بغض الدنيا، التي هي ظلمة القلوب، وحجاب لوائح الغيوب، والحاجزة بين المحب والمحبوب، فبقدر رفضها يستعد للسفر، ويصح للقلوب النظر، فإن كانت الدنيا من قلب العبد مرفوضة، حتى لا تعدل عنده جناح بعوضة، فقد وضع قدمه في أول درجة من درجات المريدين، فينظر العبد بعد ذلك ما قدّمت دنياه، ويقبل على أخراه. هـ.
وذكر القشيري في إشارة الآية: أنها إشارة إلى أطوار النفس والقلب والروح والسر، فقال بعد كلام: وأيضاً يُشير إلى تعب صِبا النفس الأمّارة بملاعب المخالفات الشرعية، والموافقات الطبيعية، وإلى لهو شاب القلب بالصفات القلبية، مثل الزهد، والورع، والتوكُّل والتقيُّيد بها، وإلى زينة كهل السر بالأحوال السرية، والمنازلات الغيبية، مثل الكشوفات والمشاهدات والمعاينات، وإلى تفاخر شيخ الروح بإنبات التجليات والتنزلات، وإلى تكاثر سر السر بالفناء عن ناسوتيته، والبقاء بلاهوتيته الجامع. هـ. إلاّ أنه قدّم السر على الروح، والمعهود العكس، فانظره.
قوله: ﴿سابِقوا... ﴾ الآية، فيه إغراء على النهوض إلى الله، وسرعة السير إلى الحق تعالى، التنافس في السبق، كما قال الشاعر:
السباقَ السباقَ قولاً وفعلا
حَذَّر النفسَ حسرةَ المسبوق
حُكي عن أبي خالد القيرواني، وكان من العُبّاد، المجتهدين: أنه رأى خيلاً يسابقَ بها، فتقدمها فَرَسان، ثم تقدم أحدهما الآخر، ثم جدّ الثاني حتى سبق الأول، فتخلّل أبو خالد، حتى وصلَ إلى الفرس السابق، فجعل يُقبّله، ويقول: بارك الله فيك، صبرت فظفرت، ثم سقط مغشيّاً. هـ. قال الورتجبي: دعا المريدين إلى مغفرته بنعت الإسراع، يعني في قوله: ﴿سارِعوا﴾ ودعا المشتاقين إلى جماله بنعت الاشتياق، وقد دخل الكل في مظنة الخطاب؛ لأنّ الكل قد وقعوا في بحار الذنوب، حين لم يعرفوه حقّ معرفته، فدعاهم إلى التطهير برحمته من الغرور بأنهم عرفوه. هـ. أي: دعاهم إلى التطهير من
324
الاغترار بمعرفته، وهي لم تحصل. والله تعالى أعلم.
قلت: ﴿في الأرض﴾ : نعت لمصيبة، أي: كائنة في الأرض، و (في كتاب) : حال.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض﴾ من الجدب وآفات الزروع والفواكه، ﴿ولا في أنفُسِكُم﴾ من الأمراض والأوصاب وموت الأولاد ﴿إِلاَّ﴾ مكتوب ﴿في كتابٍ﴾ اللوح ﴿من قبل أن نبرأها﴾ أي: مِن قبل أن تخلق الأنفس أو المصائب، ﴿إِنّ ذلك على الله يسير﴾ أي: إن إثباتها في اللوح سهل على قدرته كلحظة، وكما كُتبت المصائب، كُتبت المسرات والمواهب، وقد يدلّ عليها قوله تعالى: ﴿لِكَيْلا تأسَوا﴾ أي: أخبرناكم بذلك لِكيلا تحزنوا ﴿على ما فاتكم﴾ من الدنيا حزناً يقنطكم، ﴿ولا تفرحوا﴾ فرح المختال الفخور ﴿بما آتاكم﴾ من الدنيا وسعتها، ومن العافية وصحتها، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الكل مقدر، يفوت ما قدر فواته، ويأتي ما قدّر إتيانه، لا محالة، لا يعظم جزعه على ما فات، ولا فرحه بما هو آت، ومع هذا كل ما ينزل بالنفس من المصائب زيادة في درجاته، وتطهير من سيئاته، ففي صحيح مسلم: أن رسول الله ﷺ قال: " ما يُصيب المسلم من وَصَبٍ، ولا نَصَب، ولا سَقَمٍ، ولا حَزَنٍ، حتى الهمَ يَهُمُّه، إلاَّ كفّر به من سيئاته " وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: " عجبت لقضاء الله تعالى للمؤمن: إن قضى له بالسراء رضي وكان خيراً، وإن قضى له بالضراء ورضي كان خيراً له "، وقال أيضاً: " مَا مِنْ مسلم يُشاكُ بشوكةٍ فما فوقها، إلاَّ كُتبتْ له درجةٌ، ومُحيتْ عنه بها خَطيئةٌ ". وليس أحد إلاَّ وهو يفرح بمنفعةٍ تُصيبه، ويحزن عند مضرةٍ تنزل به، لأنه طبع بشري، ولذلك كان عمر رضي الله عنه إذا أوتي بغنيمة أو خير يقول: (اللهم إنا لا نستيطع إلاَّ أن نفرح بما آتيتنا)، ولكن ينبغي أن يكون الفرح شكراً، والحزن صبراً، وإنما يُذم مِن الحزن الجزع المنافي للصبر، ومن الفرح الأشر المُطغي المُلهي عن الشكر، والمؤدّي إلى الفخر، ﴿واللهُ لا يُحب كلَّ مختال فخور﴾ فإنَّ مَن فرح بحظوظ الدنيا،
325
وعظمت في نفسه، اختال وافتخر بها، لا محالة. وفي تخصيص التنزيل الذم بالفرح المذكور إيذان بأنه أقبح من الأسى.
ثم أبدل من " كل مختال " تفسيراً له فقال: ﴿الذين يبخلون ويأمرون الناسَ بالبخل﴾ أي: لا يُحب الذين يفرحون الفرحَ المُطغي إذا رُزقوا مالاً أو حظّاً من الدنيا، فلأجل فرحهم به عزّ في نفوسهم، فبخلوا به، وأَمروا غيرهم بإمساكه، ويحضُّونهم على البخل والادخار، ﴿ومَن يتولَ﴾ يُعرض عن الإنفاق، أو عن أوامر الله تعالى ونواهيه، ولم ينتهِ عما نهى عنه من الأسى على الفائت، والفرح بالآتي، ﴿فإِنَّ الله هو الغنيُّ الحميدُ﴾ أي: غني عنه وعن أنفاقه، محمودٌ في ذاته، لا يضره إعراضُ مَن أعرض عن شكره، بالتقرُّب إليه بشيء من نعمه. وفيه تهديد وإشعار بأنَّ الأمر بالإنفاق إنما هلو لمصحلة المنفق فقط. وقرأ المدنيان وابن عامر بغير " هو " الذي يفيد الحصر، اكتفاء عنها بتعريف الجُزأين، مع تأكيد " إنّ "، وقرأ الباقون بزيادتها؛ للتنصيص على الحصر والتأكيد، وهو ضمير فصل عن البصريين، أي: الفرق؛ لأنه يفرق بين الخبر والصفة، وعماد عند الكوفيين، ورابطة عند المنطقيين.
الإشارة: ما أصاب من مصيبة في أرض البشرية، من غلبة الطبع، والميل إلى الحظوظ النفسانية، ولا في أنفسكم؛ ولا في باطن أنفسكم، مما يُصيب القلبَ من الأمراض، كالعجب والرياء والكبر والحسد، وغيرها، وما يُصيب الروح من الوقوف مع المقامات، أو الكرامات، أو الكشوفات، إلاَّ في كتاب سابق، وهو العلم القديم، والقضاء المحتوم، فمَن وافقته رياح القضاء نهض رغماً عن أنفه، ومَن انتكبته نكس على عقبيه، أو وقف عن سيره، فالرجوع إلى الله واجب في الحالتين، عبودية وأدباً، فعلنا ذلك لكيلا تأسَوا على ما فاتكم. فمَن تحقّق بالعبودية لا يفوته شيء، ولا تفرحوا بما آتاكم مما شأنه يزول. قال القشيري: هذه صفة المتحررين من رِقِّ النفس، وقيمة الرجال إنما تتبين بتغيُّرهم، فمَن لم يتغير بما يَرِدُ عليه مما لا يريده من جفاءٍ أو مكروهٍ أو محبةٍ فهو كامل، ومَن لم يتغير بالمضار، ولا يَسُرُّه الوجد، كما لا يُحْزِنْه العَدَم، فهو سَيِّد وقته. هـ. قلت: وهذه كانت سيرة الصحابة رضي الله عنهم كما قال كعب بن زهير في وصفهم:
لاَ يَفرحونَ إِذا نَالَتْ رِماحُهُمُ
قَوْماً وَلَيْسُوا مجازيعاً إذا نِيلوا
ثم قال: ويُقال: إذا أردْتَ أن تعرفَ الرجلَ فاطلبْه عند الموارد، والتغيراتُ من علامات بقاء النفْس بأيّ وجهٍ كان. هـ. وقال الورتجبي عن الواسطي: العارف مستهلك في كُنه المعروف، فإذا حصل بمقام المعرفة لا يبقى عليه قصد فرح ولا أسى، قال الله تعالى: ﴿لِكَيلا تأسوا... ﴾ الآية. هـ. قلت: وإليه أشار في الحِكَم بقوله: " ما تجده
326
القلوب من الأحزان فلِما منعت من الشهود والعيان "، وقال ابن الفارض، في شان الخمرة إذا دخلت القلب:
وإِنْ خطرتْ يوماً علَى خاطرِ امرىءٍ
أقامتْ به الأفراحُ وارتحلَ الهمّ
أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: " يا داود، قُل للصدِّيقين: بي فليفرحوا، وبذكري فليتنعموا " واحتجّ الغزالي بهذه الآية على أن الرزق لا يزيد بالطلب، ولا ينقص بتركه، ولو كان يزيد بالطلب وينقص بالترك لكان للأسى والفرح موضع، إذ هو قصَّر وتوانى حتى فاته، وشمَّر وجدّ حتى حصَّله، وقد قال ﷺ للسائل: " ما لك، لو لم تأتها لأتتك "، ثم أورد كون الثواب والعقاب مكتوبيْن، ويزيد بالطلب وينقص بتركه، ثم فرّق بأنّ المكتوب قسمان: قسم مكتوب مطلقاً، من غير شرط وتعليقٍ بفعل العبد، وهو الأرزاق والآجال، وقسم معلّق بفعل العبد، وهو الثواب والعقاب. هـ.
قلت: في تفريقه نظر، والحق: التفصيل في النظر، فمَن نظر لعالم الحكمة، وهو عالم التشريع، وجدهما معاً مقيدين بفعل العبد، أمّا الرزق الحسي فيأتي بسبب الفعل، إن توجه للأسباب ونقص من التقوى، وبغير سبب إن تجرّد من الأسباب، وحصل مقام التقوى؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً... ﴾ [الطلاق: ٢] الآية، فالمُتَّقِي المنقطع إلى الله ناب اللهُ عنه في الفعل، ومَن نظر لعالم القدرة، وهو عالم الحقيقة، وجد الفعل كله من الله بلا واسطة ﴿لاَ يُسأل عَمَّا يَفْعَلُ وهم يُسألون﴾ وكذلك أمر الرزق المعنوي، وهو الطاعة واليقين، التي يتربت عليهما الثواب والعقاب، فمَن نظر لعالَم الحكمة وجده مقيداً بسبب العبد واجتهاده، وبها جاءت الشريعة، ومَن نظر لعالَم القدرة امتحى العبد ووجوده، فضلاً عن فعله وتسبُّبه، فتأمّله.
قوله تعالى: ﴿والله لا يُحب كل مختال فخور﴾ قال القشيري: لأنّ الاختيال من بقاء النفس، والفخر رؤية خطر ما به يفتخر. هـ. ﴿الذين يبخلون﴾ بما عندهم من الأرزاق الحسية والمعنوية، والبخل بها علامة الفرح بها، والوقوف معها، وأمّا مَن وصل إلى شهود مُعطيهما ومُجريها فلا يبخل بشيء؛ لغناه بالله عن كل شيء، ومَن يتولّ عن هذا كله، فإِنَّ الله الغني عنه وعن جميع الخلق، المحمود قبل وجود الخلق. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: ﴿لقد أرسلنا رسلنا﴾ من البشر ﴿بالبينات﴾ الحُجج والمعجزات، أو: لقد أرسلنا الملائكة إلى الإنبياء، والأنبياء إلى الأمم، ويؤيده قوله تعالى: ﴿وأنزلنا معهم الكتابَ﴾ أي: جنس الكتاب الشامل للكل؛ لأنّ الكتاب من شأنه أن ينزل مع الملائكة، ويُجاب: بأن التقدير: وأنزلنا عليه الكتاب مصحوباً معهم لا تُفارقهم أحكامه، ﴿و﴾ أنزلنا ﴿الميزانَ﴾ أي: الشرع؛ لأنه عِيار الأحكام الصحيحة والفاسدة، ﴿ليقوم الناسُ بالقسط﴾ أي: العدل، وقيل المراد: الميزان الحسي. رُوي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان، فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال: " مُرْ قومَك يَزِنوا به ". ﴿وأنزلنا الحديدَ﴾ قال ابن عباس: " نزل آدم من الجنة ومعه آلة الحدادين، خمسة أشياء: السندان، والكَلْبتانِ، والمِيقَعَةُ، والمِطرقة، والإبرة ". أو: ﴿أنزلنا الحديد﴾ أخرجناه من المعادن، والمعادن تتكون من الماء النازل في الأرض، فينعقد في عروق المعادن، وقيل: المراد به السلاح.
وحاصل مضمن الآية: أرسلنا الرسلَ وأنزلنا الكتابَ، فمَن تبع طوعاً نجا، ومَن أعرض فقد أنزلنا الحديد يُحارب به حتى يستقيم كرهاً. ﴿فيه بأس شديد﴾ أي: قوة وشدة يتمنّع بها ويحارب، ﴿ومنافعُ للناس﴾ يستعملونه في أدواتهم، فلا تجد صنعة تستغني عن الحديد، ﴿وليعلم اللهُ﴾ علم ظهور ﴿مَن ينصُرُه ورسُلَه﴾ باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين، ﴿بالغيبِ﴾ غائباً عنهم في مقام الإيمان بالغيب، ﴿إِنَّ الله قويٌّ عزيزٌ﴾ فيدفع بقوته مَن يُعرض عن ملته، وينصر بعزته مَن ينصر دينه، فيقوى جأشه على الثبوت في مداحض الحرب.
قال النسفي: والمناسبة بين هذه الأشياء الثلاثة: أنّ الكتاب قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يُبين سبيل المراشد والعهود، ويتضمن جوامع الأحكام والحدود، ويأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن البغي والطغيان، والاجتناب عن الظلم إنما يقع بآلة بها يقع التعامل، ويحصل بها التساوي والتعادل، وهي الميزان. ومن المعلوم: أنَّ الكتاب الجامع للأوامر الإلهية، والآلة الموضوعة للتعامل بالتسوية، إنما يُحافظ العوامّ على اتباعها
328
بالسيف، الذي هو حجة الله على مَن جحد وعَنَد، ونزع من صفقة الجماعة اليد، وهو الحديد، الذي وصف بالبأس الشديد. هـ.
﴿ولقد أرسلنا نوحاً وإِبراهيم﴾ خُصّا بالذكر لأنهما أبوان للأنبياء عليهم السلام ﴿وجعلنا في ذريتهما﴾ أولادهما ﴿النبوةَ﴾ الوحي ﴿والكتابَ﴾ جنس الكتاب. وعن ابن عباس: " الخطّ بالقلم ". يقال: كتب كتاباً وكتابة. ﴿فمنهم﴾ من الذرية، أو: مِن المرسَل إليهم، المدلول عليه من الإرسال، ﴿مُهتدٍ﴾ إلى الحق، ﴿وكثيرٌ منهم فاسقون﴾ خارجون عن الطريق المستقيم، والعدول عن سبيل المقابلة للمبالغة في الذم، والإيذان بكثرة الضلاّل والفسّاق.
﴿ثم قَفِّينا على آثارهم﴾ أي: نوح وإبراهيم، ومَن مضى من الأنبياء، أو: مَن عاصروهم من الرسل، ﴿برسلنا وقَفِّينا بعيسى ابن مريم﴾ أي: أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم. والتقفية: من القفا، كأنّ كل واحد جاء في قفا صاحبه من ورائه، ﴿وآتيناه﴾ أي: عيسى ﴿الإِنجيلَ﴾ وفيه لغتان كسر الهمزة وفتحه، وهو عجمي لا يلزم فيه أبنية العرب، ﴿وجعلنا في قلوب الذين ابتَعوه﴾ وهم النصارى ﴿رأفةً﴾ مودةً وليناً، ﴿ورحمةً﴾ تعطُّفاً على إخوانهم، وهذا ظاهر في النصارى دون اليهود، فأتباع عيسى أولاً كانوا الحواريين، وطائفة من اليهود، وكفرت به الطائفة الباقية، فالنصارى أشياع الحواريين، فما زالت الرحمة فيهم، وأما اليهود فقلوبهم أقسى من الحجر. ﴿ورهبانيةً ابتدعوها﴾ من باب الاشتغال، أي: وابتدعوا رهبانية ابتدعوها من عند أنفسهم. أو: معطوفة على ما قبلها، أي: وجعلنا في قلوبهم رهبانيةً مبتدَعةً مِن عندهم، أي: وقفيناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهابنية واستحداثها، وهي: المبالغة في الرهبة بالعبادة، والانقطاع عن الناس، وهي منسوبة إلى الرَهْبان، وهو الخائف، فعلان من: رَهَبَ، كخشيان، من خشي. وقرئ بضم الراء، نسبة إلى الرُّهْبان جمع راهب، كراكب وركبان. وسبب ابتداعهم إياها: أنَّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السلام، فقاتلوهم ثلاث مرات، فقُتل المؤمنون حتى لم يبقَ منهم إلاَّ القليل، فخافوا أن يفتونهم في دينهم، فاختاروا الرهبانية في قُلَل الجبال، فارين بدينهم، مختلِّصين أنفسهم. انظر الثعلبي فقد نقله حديثاً.
﴿
ما كتبناها عليهم﴾
أي: لم نفرضها عليهم، ولكن نذروها على أنفسهم. ما فعلوا ذلك ﴿إِلاَّ ابتغاءَ رِضْوانِ الله﴾ عليهم، قيل: الاستثناء منقطع، أي: ما كتبناها عليهم لكن فعلوها ابتغاء رضوان الله، وقيل: متصل من أعم الأحوال، أي: ما كتبناها عليهم في حال من الأحوال إلاّ ابتغاء الرضوان، ﴿فما رَعَوْها حقَّ رعايتها﴾ كما يجب على الناذر رعاية نذره؛ لأنه عهد مع الله، لا يحلّ نكثه، وقيل: في حق مَن أدرك البعثة فلم يؤمن بالنبي ﷺ أي: فما رَعَوا تلك الرهبانية حقها، حيث لم يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيده قوله تعالى: ﴿فآتينا الذين آمنوا منهم﴾ إيماناً صحيحاً، وهو الإيمان بالنبي ﷺ ﴿أجرَهم﴾ ما
329
يخصهم من الأجر، ﴿وكثيرٌ منهم فاسقون﴾ خارجون عن حد الاتباع، كافرون بالله ورسوله.
الإشارة: كل زمان يبعث اللهُ رُسلاً يدعون إلى الله، وهم الأولياء العارفون، خلفاء الرسل، بالبينات الواضحة على ولايتهم، لمَن سبقت له العناية، وأنزلنا معهم الكتاب، أي: الواردات الإلهية، والميزان، وهو إلهام اصطلاح التربية المناسبة لذلك الزمان، فيزن بها أحوالَ المريدين، ويعطي كل واحد ما يناسبه من الأوراد، والأعمال، والأحوال، ليقوم الناس في أنفسهم بالقسط، من غير إفراط ولا تفريط، وأنزلنا الحديد، إشارة إلى الجذب، الذي في قلوب العارفين، فيه بأس شديد، يذهب العقول، ومنافع للناس، لأنه هو النور الذي يمشي به الوليّ في الناس، إذ بذلك الجذب يجذب قلوبَ المريدين، ومَن لم يكن له ذلك الجذب، فلا يصلح للتربية؛ لأنه ظاهري محض، ولا بُد لهذا الجذب أن يصحبه سلوك في الظاهر، وإلاَّ فلا يصلح أيضاً للتربية كالمصطلمين. خصّ هذا النور بأوليائه لِيعلم مَن ينصُر دينَه وسنةَ رسوله منهم، بالغيب، أي: مع غيب المشيئة عنهم، فهم يجتهدون في نصر الدين، وينظرون ما يفعل الله، وما سبق به القدر، وأمّا أمر الربوبية فهم في مقام العيان منها، إنَّ الله قوي، يُقوي قلوب المتوجهين، عزيز يُعز من يجتهد في نصر الدين.
ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم، خصّ هذين الرسولين؛ لأنّ نوحاً عليه السلام كان في غاية القوة والشدة، وإبراهيم كان في غاية الليونة، وهكذا أولياء كل زمان، بعضهم يميل للقوة جدّاً، وبعضهم يميل للرطوبة، فإذا أراد الله أن يُظهر طريقةً أمِلةً جعل فيها هذين الضدين، من الأولياء مَنْ يميل لليونة ومَنْ يميل للقوة، ليعتدل الأمر في الوجود، فإن انفرد صاحبُ القوة احترق الوجود، أو غرق، كما جرى في زمان نوح عليه السلام، حين انفرد بالقوة، وإن انفرد صاحب الليونة وقعت برودة في الدين، كما وقع في زمن إبراهيم عليه السلام إذ لم تكن أمته كثيرة، ولمّا اجتمعا في زمان موسى كثرت أتباعه؛ لأنَّ موسى عليه السلام كان قوياً، وهارون كان ليناً، فكثرت أتباعه. وعظمت هذه المة المحمدية لدوام اجتماعهما في أمته، فكان عليه الصلاة والسلام سهلاً ليناً، وكان في مقابلته عمر من وزرائه قوياً صلباً في دين الله، ثم استخلف أبو بكر على قدم الرسول ﷺ فقابله عمر رضي الله عنه، فلما استخلف عمر ولان؛ قابله عليّ رضي الله عنه، وهكذا كل طائفة كثرت أتباعها تجد فيها هذين الضدين. سبحان المدبِّر الحكيم، الجامع للأضداد.
وقوله تعالى: ﴿وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً﴾ هي صفة المريدين المتوجهين، ورهبانيةُ هذه الأمة: المساجد والزوايا، كما في الحديث. وليس من شأن
330
العارفين الانفراد في الجبال والفيافي، إنما شأنهم خلط الناس وإرشادهم. قال الورتجبي: وصف الله تعالى هنا أهل السنة وأهل البدعة، أهل السنة: أهل الرحمة والرأفة، وأهل البدعة: أهل الرهبانية المبتدعة من أنفسهم. وصف الله قلوب المتمسكين بسنّة الأنبياء بالمودة والشفقة في دينه ومتابعة رسله، فتلك المودة من مودة الله إياهم، وتلك الرحمة من رحمة الله عليهم، حيث اختارهم في الأزل؛ لأنهم خلفاء الأنبياء، وقادة الأمة، ووصف المتكلفين الذي ابتدعوا رهبانية من أنفسهم، مثل ترك أكل اللحم، والجلوس في الزوايا للأربعين، عن الإتيان إلى الجمعة والجماعات، لأجل قبول العامة، فإنهم ليسوا على الطريق المستقيم، بل هم يتبعون شياطينهم، الذي غوتهم في دينهم، بل زيّنوا في قلوبهم المحالات والمزخافات، وما كتبنا عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، ورضوان الله هو في الشريعة والطريقة الأحمدية صلى الله عليه وسلم. هـ. وقوله: " الأربعين " كان العبّاد ينذرون خُلوة أربعين يوماً، فيتخلّفون عن الجمعة والجماعة، والأمر كما قيل: إذا ثبت عدالة المرء فليترك وما فعل، فهو أسلم. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: ﴿يأيها الذين آمنوا﴾ بالرسل المتقدمة ﴿اتقوا اللهَ﴾ أي: خافوه ﴿وآمِنوا برسوله﴾ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، المذكور في كتابكم، ﴿يُؤتِكم كِفْلَين﴾ نصيبين ﴿من رحمته﴾ لإيمانكم بالرسول ﷺ وبمَن قبله، لكن لا بمعنى أن شريعتهم باقية بعد البعثة، بل على أنها كانت حقاً قبل النسخ، وإنما أعطى مَن آمن بنبينا كفلين مع بطلان شريعته، لصعوبة الخروج عن الإلف والعادة، ﴿ويجعل لكم نوراً تمشون به﴾ يوم القيامة، كما سبق للمؤمنين في قوله: ﴿يَسْعَى نُورُهُم... ﴾ [الحديد: ١٢] الخ، ﴿ويغفرْ لكم﴾ ما أسلفتم من الكفر والمعاصي، ﴿واللهُ غفور رحيم﴾ ويؤيد هذا التأويل وأنَّ الخطاب لأهل الكتاب: قوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي... " الحديث. وقيل: الخطاب للمؤمنين، أي: يأيها الذين آمنوا اتقوا الله فيما نهاكم عنه، ودُوموا على إيمانكم، يؤتكم كفلين... الخ، ويؤيد هذا حديث الصحيحين: " مَثَلُ أهل الكتاب قبلنا كمثل رجل استأجر أُجراء يعملون إلى الليل على قيراط قيراط، فعملت اليهود
331
إلى نصف النهار، ثم عجزوا، ثم عملت النصارى إلى العصر، فعجزوا، ثم عملتم إلى الليل، فاستوفيتم أجر الفريقين، فقيل: ما شأن هؤلاء أقل عملاً وأعظم أجراً؟ فقال: هي ظلمتكم من حقكم شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ذلك فضلي أوتيه مَن أشاء ". قيل: لمّا نزل قوله: ﴿أولئك يُؤتون أجرَهم مرتين بما صبروا﴾ افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي ﷺ فنزل. ﴿يا أيها الذين آمنوا... ﴾ الخ. ولمَّا نزلت هذه الآية الكريمة في هذا الوعد الكريم للمؤمنين حسدتهم اليهود، فأنزل الله: ﴿لئلا يعلم أهل الكتاب ألاَّ يقدرون على شيء... ﴾ الخ، أي: إنما خصصت المسلمين بذلك ليعلم أهل الكتاب إنه، أي: الأمر والشأن لا يملكون فضل الله، ولا يدخل تحت قدرتهم، فـ " إنْ " مخففة، واسمها: ضمير الشأن، و (لا) مزيدة، أي: ليعلم أهل الكتاب أنه لا يقدرون ﴿على شيءٍ من فضل الله﴾ ولا يملكونه، حتى يخصوا به مَن شاؤوا، ﴿و﴾ ليعلموا أيضاً ﴿أنَّ الفضلَ بيد الله﴾ في ملكه وتصرفه، ﴿يُؤتيه من يشاء﴾ من عباده ﴿واللهُ ذو الفضل العظيم﴾ لا نهاية لفضله. وعلى أنَّ الخطاب لأهل الكتاب يكون قوله: ﴿لئلا يعلم أهل الكتاب﴾ أي: مَن لم يؤمن منهم، فيكون راجعاً لمضمون الجملة الطلبية، المتضمنة لمعنى الشرط، أي: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بموسى وعيسى ﴿اتقوا الله وآمنوا برسوله﴾ فإن فعلتم ذلك ﴿يُؤتكم كفلين من رحمته... ﴾ الخ، وإنما جَعلتُ هذا لمَن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا به أنهم لا يملكون من فضل الله شيئاً، وأنَّ الفضل بيد الله... الخ.
الإشارة: تنسحب هذه الآية من طريق الإشارة على مَن كانت في أسلافه خصوصية ولاية، أو صلاح، أو شرف علم أو رئاسة مَّا، ثم ظهرت التربية الحقيقية في غير أسلافه، فإن حطّ رأسه وصَدّق بالخصوصية لغيره أعطي أجره مرتين، وعظم قدره في مقام الولاية، وإنما كانت تنتقل دولة الولاية؛ ليعلم أهلُ الخصوصية المتقدمة أنّ الفضل بيد الله، يُؤتيه مَن يشاء، والله ذو الفضل العظيم. والله الموفق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه، وسلم.
332
سورة المجادلة
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿قد سَمِعَ اللهُ قولَ التي تُجادِلُك﴾ وهي خولة، ﴿في زوجها﴾ أوس، أي: تُراجعك الكلام في شانه، وفيما صدر منه صدر منه في حقها مِن الظِّهار، أو تسألك وتستفيتك. وقال الكواشي: " قد سمع " أي: عَلِمَ وأجاب قولها، أي: دعاءها. وفي " قد " هنا معنى التوقُّ؛ لأنّ رسول الله ﷺ والمرأة كانا يتوقعان أن يُنزل اللهُ في مجادلتهما ما يفرج الله به عنهما. هـ. وقال الفخر: هذه الواقعة تدل على أنّ مَن انقطع رجاؤه من الخلق، ولم يبقَ له في مُهمه أحدٌ إلاَّ الخالق، كفاه الله ذلك المُهم. وقال القشيري: لمّا صدقت في شكواها إلى الله، وأيِسَتْ مِن كشف ضُرِّها من غير الله، أنزل الله
333
في شأنها: ﴿قد سمع الله... ﴾ ويقال: صارت قصتها فرجةً ورحمةً للمؤمنين إلى يوم القيامة، في قضية الظهار، ليعلم العالمون أنه لا يخسر على الله أحد. هـ.
ولمّا نزلت السورة بإثر الشكوى، قالت عائشة رضي الله عنها: " ما أسمع الله " تعجُّباً من سرعة نزولها.
﴿وتشتكي إلى اللهِ﴾ أي: تتضرع إليه، وتُظهر ما بها من الكرب، ﴿واللهُ يسمع تحاورَكما﴾ مراجعتكما الكلام، من: حاور إذا رجع. وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع، حسب استمرار التحاور وتجدُّده، وفي نظمها في سلك الخطاب تشريفٌ لها. والجملة استئناف، جار مجرى التعليل لِمَا قبله، فإنّ إلحافَها في المسألة، ومبالغتها في التضرُّع إلى الله تعالى، ومدافعته ﷺ إياها، منبئٌ عن التوقف وترقُّب الوحي، وعلمه تعالى بحالهما من دواعي الإجابة، أي: قد سمع قول المرأة وأجاب طلبتها؛ لأنه يسمع تحاوركما. وقيل: هو حال، وهو بعيد. ﴿إِنَّ الله سميع بصير﴾ تعليل لِما قبله، أي: مُبالغ في العلم بالمسموعات والمبصرات، ومِن قضيته: أن يسمع تحاوركما، ويرى ما يقارنه من الهيئات، التي مِن جملتها: رفع رأسها إلى السماء، وإثارة التضرُّع، وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة، وتعليل الحكم بوصف الألوهية، وتأكيد الجملتين.
الإشارة: قد سمع الله قولَ الروح، التي تُجادل في شأن القلب؛ لأنه مقرها ومسكنها، إن صلح صلحت، وإن فسد بحب الدنيا ومتابعة الهوى، فسدت، فهي تُجادل رسولَ الإلهام وتشتكي إلى الله من القلب الفاسد، والله يسمع تحاورهما وتضرعَها إن صدقت في طلب الحق، فيُجيب دعاءها، ويُقيض لها طبيباً يُعالجه، حتى ترجع لأصلها منه، إِن الله سميعٌ بصير.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وَالَّذِينَ يَظَّهَّرُونَ﴾ وأصله: يتظهرون، فأدمغت التاء في الظاء، وقرأ عاصم: بضم الياء وتخفيف الظاء، مضارع ظاهر؛ لأنّ كل واحد يباعد
332
صاحبه، وقرأ ابن عامر والأخوان وأبو جعفر وخلف بفتح الياء وشد الظاء بالمد، مضارع " تظاهر "، والحاصل في فعل الظهار ثلاث لغات: ظاهر وتظاهر وتظهر، مأخذة من الظهر؛ لأنه يُشَبِّه امرأته بظهر أُمه، ولا مفهوم للظهر، بل كل جزء منها مثل الظهر. وفي قوله: ﴿منكم﴾ توبيخ للعرب، لأنه كان من أيْمان الجاهلية خاصة، دون سائر الأمم، ﴿مِن نسائهم﴾ من زوجاتهم، ﴿ما هن أمهاتِهم﴾ : خبر الموصول، أي: ليسوا بأمهاتهم حقيقة، فهو كذب محض، ﴿إِنْ أمهاتُهم﴾ حقيقة ﴿إِلاّ اللائي وَلَدنَهُمْ﴾ مِن بطونهن، فلا تشبّه بهن في الحرمة إلاّ مَن ألحقها الشرع بهن من المرضعات وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخلن بذلك في حكم الأمهات، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة. ﴿وزُوراً﴾ كذباً باطلاً، منحرفاً عن الحق، ﴿وإنّ الله لعفوٌّ غفور﴾ لما سلف منهم.
ثم ذَكَر الحُكم بعد بيان إنكاره، فقال: ﴿والذين يَظَّهرون مِن نسائهم ثم يعودون لِما قالوا﴾ أي: والذين يقولون ذلك القول المُنكَر، ثم يعودون إلى ما قالوا بالتدارك والتلافي ورفع التضرُّر، أو: لِنقيض ما قالوا: قال ابن جزي: في معنى العود ستة أقوال: الأول: إيقاع الظِّهار في الإسلام، فالمعنى أنهم كانوا يُظاهرون في الجاهلية، فإذا فعلوه في الإسلام فذلك عود إليه، هذا قول ابن قتيبة، فتجب الكفارة عنده بنفس الظَّهار، بخلاف أقوال غيره، فإنَّ الكفارة لا تجب إلاّ بالظهار والعود معاً. القول الثاني: إنّ العود هو وطء الزوجة، رُوي ذلك عن مالك، فلا تجب الكفارة على هذا حتى يطأ، فإذا وطئها وجبت عليه الكفارة، أمسك الزوجةَ أو طلّقها، أو ماتت. الثالث: إنَّ العَوْد هو العزم على الوطء، ورُوي هذا أيضاً عن مالك، فإذا عزم على الوطء وجبت الكفارة، أمسك، أو طلَّق، أو ماتت. الرابع: إن العود هو العزم على الوطء والإمساك، وهذا أصح الروايات عن مالك. الخامس: إنه العزم على الإمساك خاصة، وهذا مذهب الشافعي، فإذا ظاهر ولم يُطَلَّقها بعد الظَّهار لزمته الكفارة. السادس: إنه تكرار الظهار مرة أخرى، وهذا مذهب الظاهرية، وهو ضعيف، لأنهم لا يرون الظَّهار موجباً حكماً في أول مرة، وإنما يُوجبه في الثانية، وإنما نزلت فيما ظاهر أول مرة، فذلك يرد عليهم، ويختلف معنى " لِما قالوه " باختلاف هذه الأقوال، فالمعنى: يعودون للوطء الذي حرَّموه، أو للعزم عليه، أو للإمساك الذي تركوه، أو للعزم عليه. هـ.
﴿
فتحريرُ رقبةٍ﴾
أي: فتداركه، أو فعليه، أو فالواجب تحرير رقبة. واشترط مالك والشافعي أن تكون مؤمنة، حملاً للمُطْلَق على المقيد؛ لأنه قيّدها في القتل بالإيمان، والفاء للسببية، ومِن فوائدها: الدلالة على تكرُّر وجوب التحرير بتكرُّر الظهار. ﴿مِن قبل أن يتماسا﴾ أي: المظاهِر والمظاهَر منها، ومذهب مالك والجمهور: أن المسّ هنا يُراد به الوطء، وما دونه من اللمس والقُبلة، فلا يجوز للمظاهِر أن يفعل شيئاً من ذلك حتى
335
يُكفِّر، فإن فعل شيئاً من ذلك تاب ولا يعود. وقال الحسن والثوري: أراد الوطء خاصة، فأباحا ما دونه من قبل الكفارة. ﴿ذلكم﴾ الحُكم ﴿تُوعظون به﴾ لأنَّ الحُكم بالكفارة دليل على ارتكاب الجناية، فيجب أن تتعظوا بهذا الحُكم حتى لا تعودوا إلى الظهار، وتخافوا عقابَ الله عليه، ﴿واللهُ بما تعملون خبيرٌ﴾ مُطَّلِع على ما ظهر مِن أعمالكم، التي مِن جملتها الظاهر.
﴿فمن لم يجد﴾ الرقبة ﴿فصيامُ شهرين﴾ أي: فعليه صيام شهرين ﴿مُتتابعين مِن قبل أن يتماسا﴾ فإنْ أفسده باختياره من أوله باتفاق، وإن أفسده بعذر، كمرض أو نسيان، فقال مالك: يبني على ما كان معه، في رواية عنه، وقال أبو حنيفة: يبتدئ، ورُوي القولان عن الشافعي. ﴿فمَن لا يستطعْ﴾ الصيام ﴿فإِطعام ستين مسكيناً﴾ بمُدّ هشام على مذهب مالك. واختلف في قدره، فقيل: إنه مدان غير ثلث بمُد النبي ﷺ وقيل: إنه مُد وثلث، وقيل: إنه مُدان، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي وابن القصار: يُطعم مُدّاً بمُد النبي ﷺ لكل مسكين، ولا يجزئه إلاّ كمالُ الستين، فإنْ أطعم مسكيناً واحداً ستين يوماً لم يجزه عند مالك والشافعي، خلافاً لأبي حنيفة، وكذلك إن أطعم ثلاثين مرتين، والطعام يكون من غالب قوت البلد.
وذكر الحق جلّ جلاله: ﴿من قبل أن يتماسا﴾ في العتق والصوم، ولم يذكره في الإطعام، فاختلف العلماءُ في ذلك، فَحَمل مالك الإطعامَ على ما قبله، ورأى أنه لا يكون إلاّ قبل المسيس، وجعل ذلك مِن المُطْلَق الذي يُحمل على المقَيد. وقال ابو حنيفة: يجوز للمظاهِر إذا كان من أهل الإطعام أن يطأ قبل الكفارة؛ لأن الله لم ينص في الإطعام أنه قبل المسيس، وقال الشافعي: يجب تقديمه على المسيس، لكن لا يستانف إن مسّ في حال الإطعام. وجعل الأطعام. وجعل الحق جلّ جلاله كفارة الظهار مُرتّبة، فلا ينتقل عن الأول حتى يعجز عنه، ومثلها كفارة القتل والتمتُّع، وقد نظم بعضهم أنواع الكفارات، ما فيه الترتيب وما فيه التخيير، فقال:
خيِّرْ بِصَومٍ ثَمَّ صَيدٍ وَأذَى
وقُل لِكُلَّ خصلةٍ يا حَبَّذا
وَرَتِّب الظِّهارَ والتَّمَتُّعا
وَالقَتلَ ثَمّ في اليمين اجتمعا
﴿ذلك لتؤمنوا﴾ الإشارة إلى ما مرّ من البيان والتعليم للأحكام، ومحله رفع أو نصب، أي: ذلك واقع، أو فصّلنا ذلك لتؤمنوا ﴿بالله ورسولِه﴾ وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم، وترفُضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم، ﴿وتلك﴾ أي: الأحكام التي وصفنا في الظِهار والكفارة، ﴿حدودُ الله﴾ التي لا يجوز تعدّيها، ﴿وللكافرين﴾ أي: الذين لا يعملون بها ﴿عذابٌ أليم﴾ عبّر عنه بالكفر تغليظاً على طريق: ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: ٩٧].
336
الإشارة: الذين يباعدون من أنفسهم، فيُحرِّمون عليها التمتُّع بما أحلّ الله من الطيبات، تضييقاً وتشديداً عليها، مفْرطين في ذلك، محتجين لذلك بأنهم كانوا في بطن الشهوات، فقد ملكتهم ملك الأم لولدها، قال تعالى: " ما هن أمهاتِهم إنْ أُمهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم، وإنهم ليقولون مُنكراً من القول وزوراً " حيث حرّموا ما أحلّ الله، والمراد بذلك الإفراط المؤدي إلى التلف. قال القشيري: لأنّ النفس مطية الروح، فلا تسلك طريق السير إلاّ بها، وهي مددها ومعونتها، كما قال عليه السلام: " إنَّ لنفْسك عَلَيْكَ حَقّاً " فلا بد للروح من مسامحة النفس ومداراتها في بضع الأوقات، لتميل النفس إلى تصرفها وحكمها فيها، وإلاّ ضعفت وكَلَّت عن موافقتها، فتنقطع الروح عن السلوك إلى الله. هـ. قلت: وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يكن أحدكم كالمنبت، لا أرضا قطع، ولا ظهراً أبقى " ﴿وإن الله لعفو غفور﴾ لمَن وقع له شيء من هذا ورجع.
والذين يُظاهرون من نسائهم، يُباعدون من أنفسهم، ثم يعودون إلى الترفُّق بها والاستمتاع بما أحلّ الله لها، فكفارته تحرير رقبةً مِن ملك الشهوة، فلا يتناول شيئاً من المباحات الطيبة، إلاّ بنية التقرُّب إلى الله والشكر، لا بنية مجرد الاستمتاع، ولا يتناول من الشهوات التي شرهت إليها النفس، وحرصت على تحصيلها قبل حصولها، شيئاً قط، فإن لم يقدر عليها على هذا النمط، فعليه صيام شهرين أو أكثر، مجاهدةً ورياضةً، حتى تقف على حد الضرورة، فإن لم يتسطع فإطعام ستين مسكيناً أو أكثر، بكل ما يدخل عليه من الحظوظ. وقال القشيري: وإن لم يقدر على تحرير رقبته على هذا الارتباط؛ فيجب على الروح أن تصوم شهرين متتابين، يعني يمسك نفسَه عن الالتفات إلى الكونين على الدوام والاستمرار، من غير تخلُّل التفات، وإن لم يتمكن مِن قطع هذا الالتفات، لبقية من بقايا أنانيته، فيجب عليه إطعام ستين مسكيناً من مساكين القوى الروحانية، المستهلك لسلطنة النفس وصفاتها، ليقيمهم على التخلُّق بالأخلاق الإلهية، والتحقق بالصفات الروحانية، هـ. ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله الإيمان الكامل، وتلك حدود الله لا يجوز تعدِّيها بالأهوية والبدع، وللكافرين لهذه الحِكم عذاب البُعد ونار القطيعة، المؤلم للروح والقلب، بغم الحجاب وسوء الحساب.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ الذين يُحادون اللهَ ورسولَه﴾ أي: يُعادونهما ويُشاقونهما؛ فإنَّ كُلاَّ من المتعادين في عدوةٍ وشِقٍّ غير الآخر، وكذلك يكون كُلُّ واحدٍ منهما في حدّ غير حدّ الآخر، غير أنَّ لذكر المُحادَّة هنا لمّا ذكر حدود الله مِن حسن الموقع ما لا غاية وراءه. ثم أخبر عنهم فقال: ﴿كُبِتُوا﴾ أي: أُخذوا وأُهلكوا، أو: لُعنوا ﴿كما كُبِتَ الذين من قبلهم﴾ من كُفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم السلام. وقال القشيري: يُحادّون: يُخالفون أمر الله، ويتركون طاعة رسول الله، أذِلُّوا وأُخْزوا كما أُذِلَّ مَنْ قبلهم من الكفار والعصاة. نزلت في المستهزئين يوم الخندق، إذ الله أجرى سُنته بالانتقام من أهل الإجرام، ومَن ضيَّعَ لرسول الله سُنةً واحدة في دينه ببدعة انخرط في سلك هذا الخزي، ووقع في هذا الذُّل. هـ. وقال ابن عطية: الآية نزلت في المنافقين واليهود، وكانوا يتربصون بالرسول والمؤمنين الدوائر، ويتمنون فيهم المكروه، ويتناجون بذلك. هـ.
﴿وقد أنزلنا آياتٍ بيناتٍ﴾ : حال من ضمير " كُبتوا " أي: كُبتوا بمحادتهم، والحال أنَّا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسولَه، ممن قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم، أو: آيات على صدق الرسول وصحة ما جاء به، ﴿وللكافرين﴾ بهذه الآيات، أو: بكل ما يجب الإيمان به، فيدخل فيه تلك الآيات دخولاً أوليّاً، ﴿عذابٌ مهين﴾ يذهب بعزِّهم وكِبْرهم.
واذكر ﴿يومَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا﴾ أو: لهم ذلك العذاب ﴿يومَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا﴾ أي: لا يترك أحداً منهم، أو مجتمعين في حال واحد وصعيدٍ واحد، ﴿فيُنَبئهم بما عمِلوا﴾ من القبائح، تخجيلاً لهم، وتشهيراً لحالهم، وتشديداً لعذابهم، فيتمنون حينئذ المسارعة إلى النار، لِما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد، ﴿أحصاه اللهُ﴾ أحاط به عدداً، لم يفته منه شيء، والجملة استئناف بياني، كأنه قيل: كيف ينبئهم بما عملوا، وهي أعراض مُنقضية متلاشية، فقيل: ﴿أحصاه اللهُ ونَسًوه﴾ أي: قد نسوه لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه وإنما تحفظ معظّمات الأمور. وهو حال أيضاً. ﴿واللهُ على كل شيءٍ شهيدٌ﴾ لا يغيب عنه شيء. والجملة اعتراض تذييلي، مقرِّرة لإحصائه تعالى.
ثم استشهد على شمول شهادته تعالى، فقال: ﴿ألم تَرَ أن الله يعلمُ ما في السماوات وما في الأرض﴾ فهو كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٨]، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٥] أي: ألم تعلم علماً مزاحماً
338
للمشاهدة أنَّ الله يعلم ما استقر في السماوات وما في الأرض من الموجودات، ﴿ما يكونُ من نجْوَى ثلاثةٍ﴾ : استئناف مُقَرِّر لِما قبله مِن سعة علمه تعالى، ومُبَيّن لكيفيته، و " كان " تامة، أي: ما يقع من تناجي ثلاثة نفر في مساررتهم ﴿إِلاَّ هُو﴾ أي: الله تعالى ﴿رابعُهم﴾ أي: جاعلهم أربعة من حيث إنه تعالى يُشاركهم في الاطلاع عليها، ﴿ولا خمسةٍ﴾ أي: ولا نجوى خمسة ﴿إِلاّ هو سادسُهم ولا أدنَى﴾ ولا أقل ﴿من ذلك ولا أكثرَ إِلاّ هو معهم﴾ يعلم ما يتناجون به، فلا يخفى عليهم ما هم فيه. وتخصيص العددين إما لخصوص الواقعة، فإنّ الآية نزلت في المنافقين، وكانوا يتناجون مغايظةً للمؤمنين على هذين العددين، وقيل: المعنى: ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة ولا أدنى من عددهم ولا أكثر، إلا والله معهم، يسمع ما يقولون، ولأنّ أهل التناجي في العادة طائفة من أهل الرأي والتجارب، وأول عَدَدهم الاثنان فصاعداً، إلى خمسة، إلى ستة، إلى ما اقتضته الحال، فذكر عزَ وجل الثلاثة والخمسة، وقال: ﴿ولا أدنى من ذلك﴾ فدلّ على الاثنين والأربعة، وقال: ﴿ولا أكثرَ﴾ فدلّ على ما فوق هذا العدد. قاله النسفي.
﴿ثم يُنبِّئُهم﴾ يُخبرهم ﴿بما عَمِلوا﴾ تفضيحاً وإظهاراً لِما يوجب عذابهم. ﴿إِنّ الله بكل شيء عليم﴾ لأنَّ نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكل سواء، فلا يخلو منه زمان ولا مكان.
الإشارة: في الحديث: " مَن عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب " فمَن حادّ أولياءَ الله فقد حادّ الله ورسولَه، فيُكبت كما كُبِتَ مَن قبله ممن اشتغل بإذايتهم، وقد أنزلنا آيات واضحات على ثبوت الولاية في كل زمان، قال تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البَقَرَة: ١٠٦]، وللكافرين الجاحدين لخصوصيتهم عذاب مهين، وهو البُعد والطرد وغم الحجاب وسوء الحساب. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا، أي: أهل الإنكار، فيُنبئهم بما عملوا من الانتقاد والإذاية، أحصاه اللهُ ونسوه، لأنهم يعتقدون أنهم في ذلك على صواب؛ لجهلهم المُرَكَّب، فإذا تناجوا في شأنهم بما يسؤوهم فيقال في حقهم: ﴿ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلاّ هو رابعهم... ﴾ الآية. قال القشيري: ﴿إنّ الذين يُحادون الله ورسولَه﴾، يعني: يُحادون مظاهر الله، وهم الأولياء المحققون، العارفون القائمون بأسرار الحقائق، ومظاهر رسول الله، وهم العلماء العاملون، القائمون بأحكام الشرائع، كُبتوا: أُفحموا بالحُجج وإظهار البراهين من الكرامات الظاهرة، وخرق العادات الباهرة، أو نشر العلوم الشريعة، ونشر الأحكام الفرعية، وقد أنزلنا بصحة ولايتهم، وقوة وراثتهم، علامات ظاهرة، ودلالات زاهرة، من المشاهدات والمعاينات، أو الحجج القاطعة
339
والبراهين الساطعة، ومن ستر أنوار ولايتهم، وآثارَ وراثتهم، بساتر إنكاره، فله عذاب القطيعة والفضيحة مع إهانة من غير إبانة هـ. ببعض البيان.
قال الورتجبي: قوله تعالى: ﴿إلا هو معهم﴾ المعية بالعلم عموم، وبالقرب خصوص، والقرب بالعلم عموم، وبظهور التجلِّي خصوص، وذلك دنو ﴿دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى﴾، فإذا ارتفع الأين والبين والمكان والجهات، واتصل أنوارُ كشوف الذات والصفات بالعارف، فذلك حقيقة المعية، إذ هو سبحانه مُنزّه عن الانفصال والاتصال بالحدث. ولو ترى أهل النجوى، الذين مجالستهم لله وفي الله، لترَى من وجوههم أنوار المعية، أين أنت من العلم الظاهر، الذي يدل على الرسوم. ألم تعلم أنَّ علمه تعالى أزلي، وبالعلم يتجلّى للمعلومات، فالصفات شاملة على الأفعال، ظاهرة من مشاهد الملعومات، فإذا كان الذرات لا تخلو من قرب الصفات، كيف تخلو عن قرب الذات الأرواحُ العالية المقدّسة العاشقة المستغرقة في بحر وُجوده، لا تظن في حقي أني جاهل بأنّ القديم لا يكون محل للحوادث، فإنه حديث المُحدَثين، أعبرْ من هذا البحر حتى لا تجد الحدثان ولا الإنسان في مشاهدة الرحمان هـ.
قلت: وحاصل كلامه: أنَّ المعيّة بالعلم تستلزم المعية بالذات، إذا الصفة لا تفارق الموصوف، وإنَّ بحر الذات اللطيف محيط بالكثيف منه من غير انفصال، وأما كون القديم لا يكون محل الحوادث فصحيح، لكن الحوادث عندنا فانية متلاشية، إذ ما ثَمَّ إلا تلوينات الخمرة الأزلية، وقد قال الجنيد: " إذا قرن الحادث بالقديم تلاشى الحادث وبقي القديم "، فاعبُرْ عن عالَم الحس إلى بحر المعاني، حتى لا تجد إلاَّ القديم الأزلي، فافهم وسلِّم.
إن لم ترَ الهلالَ فسَلِّم
لأناس رأوه بالأبصار
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلى الذين نُهوا عن النجوى ثم يعودون لنما نُهوا عنه﴾ نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون فيما بينهم، ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين، يريدون أن يغيظوهم، فنهاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فعادوا لمثل فعلهم. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والهمزة للتعجيب مِن حالهم، وصيغة المضارع للدلالة على تكرير عودهم وتجدُّده، واستحضار صورته العجيبة. وفي السِّيَر: أنه أمر بإخراجهم من المسجد،
340
فأُخرجوا مجرورين، كما في الاكتفاء. ﴿ويتناجون بالإِثم والعُدوان﴾ أي: بما هو إثم في نفسه وعدوان للمؤمنين، ﴿ومعصيتِ الرسول﴾ أي: وتواصٍ بمعصية الرسول. وذكره ﷺ بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهيْن إليه عليه السّلام لزيادة تشنُّعهم واستعظام معصيتهم، ﴿وإِذا جاؤوا حَيَّوكَ﴾ أي: سلَّموا عليك ﴿بما لم يُحَيِّك به اللهُ﴾ بما لا يُسلم عليك الله تعالى، فكانوا يقولون في تحيتهم: السام عليك يا محمد. والسام: الموت، والله تعالى يقول في سلامه على رسوله: ﴿وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل: ٢٩] ﴿وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصفات: ١٨١]. ﴿ويقولون في أنفسِهم﴾ أي: فيما بينهم، أو في ضمائرهم، ﴿لولا يُعذبُنا اللهُ بما نقول﴾ هلاّ يُعذبنا الله بذلك، فلو كان نبيّاً لعاقبنا بالهلاك، قال تعالى: ﴿حَسْبُهم﴾ عذاباً ﴿جهنمُ يصلونها﴾ يدخلونها فيحترقون فيها، ﴿فبئس المصيرُ﴾ المرجع جهنم.
الإشارة: أَلَمْ ترَ إِلَى الذين نُهوا عن الوقوع في أهل الخصوصية، والتناجي بما يسؤوهم ثم يعودون لما نُهوا عنه، ويتناجون بالإثم والعدوان، وما فيه فساد البين وتشتيت القلوب، ومعصية الرسول بمخالفة سنته، وإذا جاؤوك أيها العارف، الخليفة للرسول، حيَّوك بما لم يُحيك به الله، أي: خاطبوك بما لم يأمر الله أن تُخاطَب به من التعظيم، ويقولون في أنفسهم، لولا يُعذبنا الله بن نفعل من تصغيرهم، حسبهم نار القطيعة والبُعد، مُخلّدون فيها، فبئس المصير.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِذا تناجيتم﴾ في أنديتكم وفي خلواتكم ﴿فلا تتناجَوا بالإِثم والعدوانِ ومعصيتِ الرسول﴾ كفعل هؤلاء المنافقين، ﴿وتناجَوا بالبِرِّ والتقوى﴾ أي: بما تضمن خير المؤمنين، والاتقاء عن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم، أو: بأداء الفرائض وترك المعاصي، ﴿واتقوا اللهّ الذي إِليه تحشرون﴾ فيُجازيكم بما تتناجون به من خير أو شر، ﴿إِنما النجوى﴾ المعهودة التي هي التناجي بالإثم والعدوان، ﴿من الشيطان﴾ لا من غيره، فإنه المزيِّن لها والحامل عليها ﴿لِيَحْزُنَ﴾ بها ﴿الذين آمنوا﴾ بتوهيمه أنها في نكبةٍ أصابتهم، أو أصابت إخوانهم، او في الاشتغال بثلْمهم وتنقيصهم. ولهذا نهى الشارع أن يتناجى اثنان دون الثالث، لئلا يتوهم أنهم يتكلمون فهي. قال تعالى ﴿وليس بضارَّهم﴾ أن يتناجى اثنان دون الثالث، لئلا يتوهم أنهم يتكلمون فهي. قال تعالى ﴿وليس بضارِّهم﴾ أي: وليس الشيطان أو الحزن بضارهم ﴿شيئاً﴾ من الأشياء، أو شيئاً من الضرر ﴿إِلاّ بإِذن الله﴾ بمشيئته، ﴿وعلى الله فلتوكل المؤمنون﴾ فلا تُبالوا بنجواهم، فإنَّ الله تعالى يعصمهم
341
من شره وضرره، فيلكلوا أمرَهم إلى الله، ويتعوّذوا من شر الشيطان، فإنَّ كيده ضعيف.
قال القشيري: إنما قَبُحَ التناجي منهم، وعَظُمَ خطره؛ لأنه تضمَّن فسادَ ذات البيْن، وخيرُ الأمور ما عاد بإصلاح ذات البيْن، وبعكسه يكون الأمر بالضد، يعني: فيعظم خطر التناجي بالبر والتقوى، وبما يقرب إلى الله. ثم قال: إذا كانت المشاهدة غالبةً، والقلوب حاضرةً، والتوكل صحيحاً، والنظرُ في موضعه صائباً، فلا تأثير لهذه الحالات، أي: لحزن الشيطان وتوهيمه وإضراره، وإنما هذا للضعفاء. هـ.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم مع قلوبكم وأسراركم فلا تتناجوا بالإثم، وهو تدبير أمر الدنيا وشؤونها، بل غيبوا عنها يأتيكم نصيبكم منها، مع الفوز بالحضور مع الله، ولا تتناجوا بالعدوان، وهو شغل القلب بأمر الخلق، دفعاً وجلباً، ضرّاً ونفعاً، إذ ليس بيدهم شيء، ومعصية الرسول، وهو إضمار ترك السُنة، أو مخالفة أمر المشايخ، وتَناجَوا بالبر، وهو الفكرة في عظمة الله، والتقوى، وهو الغيبة عما سوى الله بِحَصر القلب عن الخروج من الحضرة، واتقوا الله بترك ما سواه، الذي إليه تُحشرون فيُدخلكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر. إنما النجوى، أي: الفكرة في الدنيا، من الشيطان؛ لأنّ له بيتاً في القلب لجهة الشمال، إذا ذكر الله انخنس، وإذا غفل القلب وسوس بهموم الدنيا، ليَحْزُن الذين آمنوا؛ ليكدر عليهم وقتهم، وليس بضارِّهم شيئاً إذا قَوِيَ نور الإيمان إلاّ بإذن الله ومشيئته، فلا تسليط له من نفسه. وليس بضارِّهم شيئاً إذا قَوِيَ نور الإيمان إلاّ بإذن الله ومشيئته، فلا تسليط له من نفسه. وعلى الله فليتوكَّل المؤمنون، فإذا صحّ توكلهم حَفِظَهم منه، لقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [النحل: ٩٩]، وقد تقدّم عن القشيري: أنّ الأقوياء لا يلحقهم شيء من حزنه وإضراره. وبالله التوفيق.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذينَ آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس﴾ [المجادلة: ١١] أي: توسَعوا فيه، وقيل: " في المجلس " متعلق بقيل، أي: إذا قيل لكم في المجلس تفسّحوا فافسحوا، والمراد: مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتضامُّون فيه تنافساً فيه ﷺ وحرصاً على استماع كلامه. وقرأ عاصم " مجالس " أي: في مجالس الرسول التي تجلسونها. وقيل: المراد: مجالس القتال، وهي مراكز الغزاة، كقوله تعالى: {مَقَاعِدَ
342
لِلْقِتَالِ} [آل عمران: ١٢١] قيل: كان الرجل يأتي الصف، فيقول: تفَفسَّحوا، فيأبَوا، لحرصهم. والأول أنسب بذكر النجوى أولاً وثانياً. فإن امتثلتم وتفسحتم ﴿يَفْسَحِ اللهُ لكم﴾ في كل ما تريدون التفسُّح فيه، من الرزق، والدار، والصدر، والقبر، والجنة، والعلم، والمعرفة. ﴿وإِذا قيل انشُزُوا﴾ أي: ارتفعوا من مجلسه، وانهضوا للصلاة، أو الجهاد، أو غيرهما من أعمال البر، أو: انشزوا للتوسعة في المجلس على المقبِلين، ﴿فانشُزُوا﴾ أي: فانهضوا ولا تُبطِئوا، وقيل: كانوا يُطيلون الجلوس معه ﷺ وربما جلس قوم حتى يؤمروا بالقيام، فأُمروا بالقيام وعدم التثقيل. وفي مضارع " نشز " لغتان الضم والكسر، والأمر تابع له.
﴿يَرْفَعِ اللهُ الذين آمنوا منكم﴾ بامتثال أوامره وأَمْرِ رسوله، بالنصر وحسن الذكر في الدنيا، والإيواء إلى غرف الجنان في الآخرة. ﴿و﴾ يرفع ﴿الذين أُوتوا العلمَ﴾ خصوصاً ﴿درجاتٍ﴾ عالية، بما جمعوا من أثريْ العلم والعمل، فإنّ العلم مع علو رتبته يزيد مع العمل رفعةً لا يُدرك شأوها، بخلاف العلم العاري عن العمل، وإن كان له شرف في الجملة، ولذلك يُقتدى بالعالِم في أفعاله فقط. وفي هذه الدرجات قولان، أحدهما: في الدنيا، في الرتبة والشرف والتعظيم، والآخر: في الآخرة، وهو أرجح. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: " يرفع العالم فوق المؤمن سبعمائة درجة، بين كل درجة كَمَا بَيْنَ السَّماءِ والأرضِ "، ومثل هذا لا يُقال بالرأي. وتقدير الآية: يرفع الله الذي آمنوا منكم درجةً، والذين أُوتوا العلم درجات، وقيل: " درجات " يرجع لهما معاً، وتفضيل أهل العلم يؤخذ من خارج.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه كان إذا قرأها قال: " يا أيها الناي افهموا هذه الآية، ولترغبكم في العلم ". وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " فَضلُ العَالِمِ على العابِد كفضل القمر ليلة البدرعلى سائر الكواكب "، وعنه صلى الله عليه وسلم: " عبادة العالم يوماً واحداً تعدل عبادة العابد أربعين سنة " يعني الجاهل، وعنه صلى الله عليه وسلم: " يشفعُ يومَ القيامة ثلاثةٌ: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء "، فأَعْظِم بمرتبةٍ هي واسطة بين النبوة والشهادة، بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشمل الحديث العلماء بالله وبأحكام الله، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: خُيّر سليمان عليه السلام بين العلم والمال والمُلك، فاخترا العلم، فأعطى المالَ والمُلكَ معه. وقال صلى الله عليه وسلم: " أوحى اللهُ إلى إبراهيم عليه السلام: يا إبراهيم إني عليم، أُحب كل عليم
343
" وعن بعض الحكماء: ليت شعري أيّ شيءٍ أدرك مَن فاته العلم؟ وأيّ شيءٍ فات مَن أدرك العلم؟ والعلوم أنواع، وشرفها باعتبار المعلوم، فأفضل العلوم: العلم بالذات العلية، على نعت الكشف والعيان، ثم العلم بالصفات والأسماء، ثم العلم بالأحكام، ثم العلم بالآلات الموصلة إليه.
﴿واللهُ بما تعملون خبير﴾ تهديد لمَن لم يمتثل الأمر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما قيل في مجلس العِلم يُقال في مجلس الوعظ، بل هو عينه؛ لأنه العلم النافع، فإذا قَدِمَ واحدٌ من الفقراء أو غيرهم لمجلس الشيخ، فوجد فُرجة جلس فيها، وإلاّ جلس خلف الحلقة، ولو مع النعال، فلا يُزاحم ولا يُقم أحداً ليجلس، إلاّ أن يأمره الشيخ بالتقدُّم لمنفعة فيه في إعانة الشيخ، فليتقدّم برفق ولطافة وأدب. وإذا قيل لأهل المجلس: تفسَّحوا فليتفسَّحوا، يفسح الله لهم في العلم والعرفان، والأخلاق والوجدان، والمقامات، وسائر ما يطلب التوسُّع فيه. وإذا قيل: انشُزُوا لصلاة أو خدمة أو ملاقاة، فانشُزُوا، يرفع الله الذين آمنوا منكم، وليس فيهم أهلية لصريح المعرفة درجةً عن العامة، حيث صَحِبُوا العارفين للتبرُّك والحُرمة. ويرفع الذين أُتوا العلم بالذات، على سبيل الكشف والعيان، درجات، سبعمائة درجة، على العالم صاحب الدليل والبرهان، فيرفع العالِم فوق الجاهل سبعمائة درجة، ويرفع العارف فوق العالِم سبعمائة. فالناس أربع طبقات: الطبعة العيا الأولياء والعارفون بالله، ثم العلماء، ثم الصالحون، ثم عامة المؤمنين. والمراد بالأولياء مَن منَّ اللهُ عليه بملاقاة شيخ التربية، حتى دخل مقام الفناء والبقاء، زاح عنه حجاب الكائنات، وأفضى إلى شهود المكوِّن، فهؤلاء هم المقرَّبون الصدِّيقون، والمراد بالعلماء العاملون المخلِصون.
قال في " لطائف المنن ": وحيثما وقع العِلم في كتاب الله عزّ وجل، وكلام رسول الله ﷺ فإنما المراد به النافع، المخمِد للهوى، القامع للنفس، الذي تكتنفه الخشية، وتكون معه الإنابة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُاْ﴾ [فاطر: ٢٨]، فلم يجعل عِلم مَن لم يخشَ من العلماء علماً، فشاهد العلم الذي هو مطلوب الله: الخشية، وشاهد الخشية: موافقة الأمر، وأمّا عِلم مَن يكوم معه الرغبة في الدنيا، والتملُّق لأربابها، وصرف الهمة لاكتسابها، والجمع والادخار، والمباهاة والاستكثار، وطول الأمل ونسيان الآخرة، فما أبعد مَن هذا وصفه من أن يكون من ورثة الأنبياء عليهم السلام، وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث، ومثَلُ من هذه الأوصاف وصفُه كمَثَل الشمعة تُشيء على غيرها وهي تحرق نفسها، جعل الله عِلمَ مَن هذا وصفه حجة عليه، وسبباً في تكثير العقوبة لديه، ولا يغرنك أن يكون به انتفاع للبادي والحاضر، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله يؤيدُ هذا الدين بالرجل الفاجر "، ومثَلُ مَن
344
تعلّم العلم لاكتساب الدنيا، وتحصيل الرفعة بها، كمثل مَن رفع العذرة بملعقة من ياقوت، فما أشرف الوسيلة، وما أخس المتوسل إليه! ومثَلُ مَن قطع الأوقات في طلب العلم، فمكث أربعين سنة يتعلّم العلم ولا يعمل به، كمثل مَن قعد هذه المدة يتطهّر ويُجدد الطهارة، ولم يُصلِّ صلاةً واحدة، إذ مقصود العلم العمل، كما أنَّ المقصود بالطهارة وجود الصلاة، ولقد سأل رجلٌ الحسنَ البصري عن مسألة، فأفتاه فيها، فقال الرجل للحسن: قد خالفك الفقهاءُ، فزجره الحسن، وقال: ويحك، وهل رأيت فقيهاً، إنما الفقيه مَن فقه عن الله أمْرَه ونهيه. وسمعتُ شيخنا أبا العباس رضي الله عنه يقول: الفقيه مَن انفقأ الحجاب عن عينيْ قلبه، فشاهد ملكوت ربه. انتهى كلامه.
فالعلماء المخلِصون الذين عرفوا الله من طريق البرهان، تلي درجتهم درجةَ الأولياء الذين هم أهل الشهود والعيان، ثم الصالحون الأبرار، ثم عامة المؤمنين، ومَن قال خلاف هذا فهو جاهل بمرتبة الولاية، قال صلى الله عليه وسلم: " عامة أهل الجنة البُله " وعِلِّيُون لذوي الألباب، وذووا الألباب هم أهل البصائر، الذين فتح الله بصيرتَهم، وتطهّرت سريرتهم بالمجاهدة والرياضة، حتى شاهدوا الحق وعرفوه، وقال تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَائِكَ هُمْ أُوْلُو الأَلْبَابِ﴾ [الزمر: ١٧، ١٨]، وراجع ما تقدم في تفسيرها، وكل مَن كان محجوباً عن الله، يتسدل بغيره عليه، فهو من البُله، إلاّ أنّ صاحب الاستدلال أربع من المقلِّد، أي: سَلِمَ من الوسواس، وإلاّ فالمقلِّد أحسن منه.
ولمّا تكلم في الإحياء على درجات التوحيد، قال: " والدرجة العليا في ذلك للأنبياء، ثم للأوياء العارفين، ثم للعلماء الراسخين، ثم الصالحين "، فقدَّم الأولياء على العلماء. وقال الأستاذ القشيري في أول رسالته: فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضَّلهم على الكافة من عباده بعد رسله وأنبيائه. هـ. سُئل ابن رشد - رحمه الله - عن قول الغزالي والقشيري بتفضيل الأولياء على العلماء، فقال: أمّا تفضيل العارفين بالله على العارفين بأحكام الله؛ فقول الأستاذ أبي حامد متفق عليه، ولا يشكُّ عاقلٌ أنَّ العارفين بما يجب لله من أوصاف الجلال ونعوت الكمال أفضل من العارفين بالأحكام، بل العارفون بالله أفضل من أهل الأصول والفروع؛ لأنّ العلم يشرف بشرف المعلوم. ثم أطال الكلام في الاستدلال على ذلك، فانظر. ذكره في المعيار.
وقال بعضهم في تفضيل العارف على العالِم: إنّ العارف فوق ما يقول، والعالِم دون ما يقول، يعني: أن العارف إذا تكلم في مقام من مقامات اليقين، كان قَدَمُه فوق ما
345
وصف، لأنه يسلكه دوماً ثم يصفه، والعالم إنما يصفه بالنعت، وأيضاً: العالِم يدلك على العمل، والعارف يُخرجك عن شهود العمل، العالِم يحملك حِمل التكليف، والعارف يروحك بشهود التعريف، العالِم يَدُلك على علم الرسوم، والعارف يُعرّفك بذات الحي القيوم، العالِمَ يَدُلك على الأسباب، والعارف يدلك على مُسبِّب الأسباب، العالِم يَدُلك على شهود الوسائط، والعارف يَدُلك على محرك الوسائط، العالِم يُحذّرك من الوقوف مع الأغيار، والعارف يُحذّرك من الوقوف مع الأنوار، ويزج بك في حضرة الأسرار، العالِم يُحذّرك من الشرك الجلي، والعارف يُخلِّصك من الشرك الخفي، إلى غير من الفروقات بين العارف والعالم. ومن اصطلاحات الصوفية، أنَّ العالِم بالأحكام يسمى عالماً، والعالِم بالذات عياناً وكشفاً يسمى عارفاً، كما في القوت. وبالله التوفيق.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِذا ناجيتم الرسولَ﴾ أي: إذا أردتم مناجاته في بعض شؤونكم المهمة، ﴿فقدِّموا بين يدي نجواكم﴾ أي: قبل نجواكم ﴿صدقة﴾ وهي استعارة ممن له يدان، كقول عمر رضي الله عنه: " من أفضل ما أوتيت العرب الشِعر، يقدّمه الرجل أما حاجته، فيستمطر به الكريم، ويستنزل به اللئيم " يريد: قبل حاجته. وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتفاع الفقراء، والزجر عن الإفراط في مناجاته وسؤاله عليه الصلاة والسلام، والتمييز بين المخلِص والمنافق، وبين مُحب الآخرة ومُحب الدنيا، وهل الأمر للندب، أو للوجوب لكنه نسخ بقوله: ﴿أأشفقتم..﴾ الخ؟ وعن عليّ رضي الله عنه: " إنَّ في كتاب الله آية ما عمل بها أحدٌ غيري، كان لي دينار فصرّفته فكنت إذا ناجيته ﷺ تصدّقت به ". وقال أيضاً: " أنا كنت سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين "، قال رضي الله عنه: فَهِم رسولُ الله ﷺ أنّ هذه العبادة قد شقّت على الناس، فقال: " يا عليّ كم ترى حدّ هذه الصدقة؟ أتراه ديناراً؟ " قلت: لا، قال: " فنصف دينار "؟ قلت: لا، قال: " فكم "؟ قلت: حبة من شعير، قال: " إنك لزهيد " فأنزل الله الرخصة ". قال الفخر: قوله ﷺ لعليّ: " إنك لزهيد " معناه: إنك قليل المال،
346
فقدّرتَ على حسب حالك. وفي رواية: " شعيرة من ذهب "، فقال: إنك لزهيد "، أي: مُصعِّر مقلِّل للدنيا. قاله في القوت.
﴿ذلك﴾ التقديم للصدقة ﴿خير لكم﴾ في دينكم ﴿وأطهرُ﴾ لنفوسكم من رذيلة البُخل، ولأنَّ الصدقة طُهرة. ﴿فإِن لم تجدوا﴾ ما تتصدقون به ﴿فإِنَّ الله غفور رحيم﴾ في ترخيص المناجاة من غير صدقة. قيل: كان ذلك عشر ليال، ثم نُسِخَ، وقيل: ما كان إلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ. وعن عليّ - كرّم الله وجهه - أنه قال: سألتُ رسولَ الله ﷺ عن عشر مسائل، فأجابني عنها، ثم نزل نسخ الصدقة، قلت: يا رسول الله؛ ما الوفاء؟ قال: " التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله " قلت: وما الفساد؟ قال: " الكفر والشرك بالله " قلت: وما الحق؟ قال: " الإسلام، والقرآن والولاية إذا انتهات إليك " قلت: وما الحيلة؟ قال: " ترك الحيلة "، قلت: وما عَلَيَّ؟ قال: " طاعة الله وطاعة رسوله "، قلت: وكيف أدعو الله تعالى؟ قال: " بالصدق واليقين " قلت: وماذا سأل الله؟ قال: " العافية " قلت: وما أصنع لنجاة نفسي؟ قال: " كلْ حلالاً، وقل صدقاً " قلت: وما السرور؟ قال: " الجنة " قلت: وما الراحة؟ قال: " لقاء الله " فلما فرغت منها نزل نسخ الصدقة.
﴿
أأشفقتم أن تُقَدِّموا بين يَدَيْ نجواكم صدقاتٍ﴾
أي: أَخِفْتُم الفقرَ مِن تقديم الصدقات، أو: أَخِفْتُم من هذا الأمر لِما فيه من الإنفاق الذي تكرهه النفوس، ﴿فإِذ لم تفعلوا﴾ ما أُمرتم به وشقّ عليكم، ﴿وتاب اللهُ عليكم﴾ أي: خفّف عنكم، وأزال عنكم المؤاخذة بترك تقديم الصدقة على المناجاة، كما أزال المؤاخذة بالذنب عن التائب عنه، ﴿فأقيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاة﴾ أي: فإذا فرَّطتم فيما أُمرتم به من تقديم الصدقات، فتداركوه بالمثابرة على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ﴿وأطيعوا اللهَ ورسولَه﴾ في سائر الأوامر، فإنَّ القيام بها كالجابر لِما وقع في ذلك من التفريط، ﴿واللهُ خبير بما تعملون﴾ ظاهراً وباطناً، وهو وعدٌ ووعيد.
الإشارة: إذا أردتم مناجاة المشايخ في زيارتكم، فقدِّموا بين يدي نجواكم صدقة، تُدفع للشيخ، أو لأهل داره، فإنها مفتاح لفيض المواهب، مثالها كالدلو، لا يمكن رفع الماء إلاَّ به، ذلك خير لكم، وأطهر لقلوبكم من رذيلة من البخل، فإن لم تجدوا شيئاً فإن الله غفور رحيم. أأشفقتم أن تُقدِّموا بين يدي نجواكم صدقات؛ لِثَقَلِ ذلك على النفس؟ فإذ لم تفعلوا وزُرتم بلا صدقة، وقد تاب الله عليكم من هذا التفريط، فأقيموا صلاة القلوب، وهو التعظيم، ودوام العكوف في حضرة علاّم الغيوب، وآتوا زكاة أبدانكم، بإجهادها في خدمة المشايخ والإخوان، وأطيعوا الله ورسوله وخلفاءه فيما يأمرونكم به وينهونكم عنه، ﴿والله خبير بما تعملون﴾.
347
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِين تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ وهم اليهود، لقوله: ﴿مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: ٦٠]. والغضب في حقه تعالى: إرادة الانتقام. كان المنافقون يتولّون اليهود، وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، ففضحهم الله. ثم قال تعالى: ﴿ما هم منكم﴾ يا معشر المسلمين ﴿ولا منهم﴾ أي: من اليهود، بل كانوا ﴿مُّذبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لآَ إِلَى هَؤُلأَءِ إِلَى هَؤُلآَءِ﴾ [النساء: ١٤٣]. ﴿ويحلفون على الكذب﴾ أي: يقولون: والله إنّ لمسلمون لا منافقون، ﴿وهم يعلمون﴾ أنهم كاذبون منافقون، ﴿أعدَّ اللهُ لهم عذاباً شديداً﴾ نوعاً من العذاب متفاقماً، ﴿إِنهم ساء ما كانوا يعملون﴾ فيما مضى من الزمان، كانوا مُصرِّين على سوء العمل، وتمرّنوا عليه، أو: هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة.
﴿اتخَذُوا أَيمانهم﴾ الكاذبة ﴿جُنَّةً﴾ وقايةً دون أموالهم ودمائهم، ﴿فصَدُّوا﴾ الناسَ في خلال أمنهم وسلامتهم، أو: فصدُّوا بأنفسهم ﴿عن سبيل الله﴾ عن طاعته والإيمان به، ﴿فلهم عذابٌ مُهين﴾ يُهينهم ويُخزيهم، وأعدّ لهم العذاب المخزي لكفرهم وصدهم، كقوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الَعَذَابِ﴾ [النحل: ٨٨]. ﴿لن تُغني عنهم أموالُهم ولا أولادُهم من الله﴾ من عذاب الله ﴿شيئاً﴾ قليلاً من الإغناء، أي: ما يخافون عليه من الأموال والأولاد فيحلفون لأجله، لا ينفعهم عند الله. رُوي أنَّ رجلاً منهم قال: لنُنصرنّ يوم القيامة بأموالنا وأنفسنا وأولادنا. فنزلت. ﴿أولئك﴾ الموصوفون بما ذكر من القبائح ﴿أصحابُ النار﴾ ملازموها ﴿هم فيها خالدون﴾.
﴿
يومَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فيحلِفون له﴾
أي: لله تعالى في الآخرة أنهم كانوا مُخلِصين غير منافقين، ﴿كما يحلفون لكم﴾ في الدنيا على ذلك، ﴿ويَحْسَبون أنهم﴾ في الدنيا ﴿على شيءٍ﴾ من النفع، أو: يحسبون في الآخرة أنهم على شيءٍ من النفع، مِن جلب منفعة أو دفع مضرة، كما كانوا في الدنيا، حيث كانوا يدفعون بها عن أزواجهم وأموالهم، ﴿ألا إِنهم هم الكاذبون﴾ البالغون في الكذب إلى غايةٍ لا مطمح وراءها، حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علاّم الغيوب.
﴿استحوذَ عليهم الشيطانُ﴾ استولى عليهم ومَلَكَهم، ﴿فأنساهم ذكرَ الله﴾ بحيث لم
348
يذكروه بقلوبهم ولا بألسنتهم، ﴿أولئك حزبُ الشيطان﴾ أي: جنوده وأتباعه، ﴿ألا إِنّ حزبَ الشيطان هم الخاسرون﴾ أي: الموصوفون بالخسران الذي لا غياية وراءه، حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم، وأخذوا بدله العذاب الأليم، وفي تصدير الجمة بحرفي التنبيه والتحقيق، وإظهار الشيطان معاً في موضع الإضمارِ، وتوسيط ضمير الفصل، من فنون التأكيد ما لا يخفى.
الإشارة: منافقون الصوفية هم الذين يُقرُّون أهلَ الظاهر وينصرونهم، ويُنكرون على أهل الباطن، فإذا لقوهم أظهروا لهم المودّة والوفاق، وادَّعوا أنهم منهم، فهم مذبذبون بين ذلك، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، ليسوا من أهل الظاهر المحض، ولا من أهل الباطن، لعدم تحققهم به، تجر الآية ذيلَها عليهم. والعذاب المعدّ لهم غم الحجاب، وتخلُّفهم عن درجات المقربين. قوله تعالى: ﴿اتخذوا أَيمانهم جُنة﴾ قال القشيري: مَن استتر بحُجة طاعته لأجل دنياه؛ انكشف لسهام التقدير من حيث لا يشعر، ثم لا دينُه يبقى، ولا دنياه تَسْلَم. قال تعالى: ﴿لن تُغني عنهم أموالُهم ولا أولادهم من الله شيئاً﴾ الآية. هـ. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فيتحاشون إلى المقربين، ويحلفون بلسان حالهم: أنهم كانوا منهم، كما يحلفون اليوم، ويظنون أنهم من أهل الباطن، ويحسبون أنهم على شيء، فيبدوا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لم يكونوا يحتسبون، وذلك لعدم صُحبتهم للعارفين المخلِصين، حصل لهم الغلظ، فوقفوا مع حُسبانهم الضال، ولو دامت صُحبتُهم لأهل التوحيد الخاص لتنبّهوا لغلطهم. استحوذ عليهم الشيطانُ، فزيّن لهم الوقوفَ مع ما هم فيه، فأنساهم ذكرَ العيان، فكانوا من حزب الشيطان في الجملة، بالنسبة إلى مَن فوقهم. قال شاة الكرماني: علامة استحواذ الشيطان على العبد: أن يشغله بعمارة ظاهره، من المأكل والملبس، ويشغل قلبه عن التفكُّر في آلاء الله ونعمائه، والقيام بشكرها، ويشغل لسانه عن ذكر ربه، بالكذب والغيبة والبهتان، ويشغل قلبه عن التفكُّر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنّ الذين يُحادون اللهَ ورسولَه﴾ أي: يخالفونهما، ويجعلون بينهم وبينهما حدّاً، وهم حزب الشيطان المتقدم، ﴿أولئك في﴾ جملة ﴿الأذَلِّينَ﴾ لا ترى أحداً أذلّ منهم من الأولين والآخرين؛ لأنّ ذِلة أحد المتخاصمين على قدر عزة الآخر، وحيث كانت عزة الله غير متناهية كانت ذلة مَن يُحاده كذلك. ﴿كتب اللهُ﴾ في اللوح وقضاه، وحيث جرى مجرى القسم أجيب بما يُجاب به، فقال: ﴿لأغْلِبنَّ أنا ورسلي﴾ بالحجة والسيف، أو بأحدهما، وهو تعليل لِما قبله من كون مَن حاد الله في
349
الأَذلِّين. ﴿إِنَّ الله قويٌّ﴾ على نُصرة أوليائه، ﴿عزيزٌ﴾ لا يمتنع عليه ما يريد.
الإشارة: كل مَن يُعادي أهلَ الله مخذول، عاقبته الذل في الدنيا والآخرة، ﴿كتب الله لأغْلِبَنَّ أنا ورسلي﴾ وخلفاؤهم من أولئك، ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: ٤٠]، إلاَّ مَن تعدّى منهم طورَه، كمَن تعرّض للظهور، وهو من أهل الباطن، فإنَّ القدرة تخدمه وتؤدبه؛ لأنّ الباطن لا ينقلب ظاهراً، ولا عكسه. والله تعالى أعلم.
350
سورة الحشر
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿سَبَّح لله ما في السماوات وما في الأرض﴾ أي: نزّهه أهلُ السماوات السبع، وأهلُ الأرضين السبع. وكرر الموصول هنا لزيادة التقرير، والتنبيه على استقلال كل مِن الفريقين بالتسبيح. قال الكواشي: فيه إيماء إلى قدرة الله تعالى، وأنه أهل لأن يُسبَّح لمنِّه على المؤمنين بنصرهم على أعدائهم، ﴿وهو العزيزُ الحكيم﴾، قال ابن عطية: صفتان مناسبتان لِمَا يأتي بعدُ، من قصة العدو الذي أخرجهم مِن ديارهم. هـ.
رُويَ أنَّ هذه السورة بأسرها نزلت في بني النضير، وهو رهط من اليهود، من ذرية هارون عليه السلام، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل لبعثته صلى الله عليه وسلم، وقيل: هم بقية الحبرْين اللذين كانا مع تُبع، فنزلا المدينة انتظاراً له صلى الله عليه وسلم، وذلك أنَّ النبي ﷺ حين قَدِمَ المدينة صالحهم على ألاّ يكونوا عليه ولا له، فلما ظَهَرَ يوم بدر، قالوا: هو النبيّ الذي نعْتُه في التوراة: لا تُردُّ له رايةٌ، فلما كان يوم أُحُد ما كان، ارتابوا ونكثوا، فخرج
3
كعبُ بن الأشرف في أربعين راكباً، فحالف أبا سفيان عند الكعبة على رسول الله ﷺ فأمر عليه السلام محمدَ بن مسلمة الأنصاري في فتية، فقتل كعباً غيلة، وكان أخاه من الرضاعة، وقد كان عليه السلام اطلع منهم على خائنةٍ ونقض عهدٍ، حين أتاهم ومعه أبو بكر وعمر وعليّ، ليستعينهم في دية الرجلين اللذَين قتلهما عَمرو بنُ أمية الضمري، غلطاً، فأجابوه على ذلك، وأجسلوه تحت الحِصن، وأمروا رجلاً منهم أن يطرح على النبي ﷺ رَحىً، فنزل جبريلُ فأخذ بيده وأقامه، فرجع إلى المدينة، وأمر المسلمين بالخروج إلى بني النضير، وهم بقريةٍ يقال لها: زهرة، فأمرهم النبيُّ ﷺ بالخروج من المدينة، فاستمهلوه عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، فدسّ إليهم عبدُ الله بن أُبي وأصحابهُمن المنافقين: لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم، لا نخذلكم، ولئن خرجتم لَنَخْرُجنَّ معكم، فحصّنوا أسوارَهم، فحاصرهم النبيُّ ﷺ إحدى وعشرين ليلة، وأمر بقطع نخلهم، فلما قذف اللهُ في قلوبهم الرعب، وأيسوا من نصر المنافقين، طلبوا الصُلح، فأبى عليهم إلاّ الجلاء، على أن يَحْمِل كلُّ ثلاثة أبياتٍ على بعيرٍ ما شاؤوا من متاعهم، وللنبي ﷺ ما بقي، فخرجوا إلى الشام، وإلى أذرعات وأريحا، إلاّ بيتين؛ آل أبي الحقيق، وآل حُيَي بن أخطب، فإنهم لحقوا بخيبر، ولحقت طائفة بالحيرة، وذلك قوله تعالى:
﴿
هُوَ الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب مِن ديارهم﴾
بالمدينة، أي: هو الذي تولّى إخراجهم، لا بسبب فيه لأحد غيره. واللام في قوله: ﴿لأول الحشر﴾ متعلق بأخْرَج، وهو اللام في قوله: ﴿قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: ٢٤] أي: أخرجهم عند أول الحشر، وكونه أول الحشر؛ لأنّ هذا أول حشرهم إلى الشام، وكانوا مِن سبط لم يُصبهم جلاء قط، وهم أول مَن أُخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام، وآخر حشرهم: إجلاء عُمر إياهم من خيبر إلى الشام، أو: آخر حشرهم: حشر يوم القيامة، قال ابن عباس رضي الله عنه: " مَن شك أنَّ المحشر بالشام فليقرأ هذه الآية " فهم الحشر الأول، وسائر الناس الحشر الثاني. وقال لهم رسول الله ﷺ لمّا خرجوا: " امضوا، فإنكم أول الحشر ونحن على الأثر " ﴿ما ظننتم أن يخرجوا﴾، لشدة بأسهم، ومَنعَتهم، ووثاقه حصونهم، وكثرة عَددهم وعُدتهم، ﴿وظنوا أنهم مانعتهم حُصُونُهم من الله﴾ أي: ظنوا أنّ حصونهم تمنعهم من بأس الله. والفريق بين هذا التركيب والنظم الذي جاء عليه التنزيل: أنّ في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وُثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم، وفي مصير ضميرهم اسماً لـ " أن "، وإسناد الجملة إليه، دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة، لا يُبالَى معها
4
بأحد يتعرض لهم، أو يطمع في مغازيهم، وليس ذلك في قولك: وظنوا أنّ حصونهم تمنعهم. ﴿فأتاهم اللهُ﴾ أي: أمره وعقابه ﴿من حيث لم يحتسبوا﴾ ؛ من حيث لم يظنوا، ولم يخطر ببالهم، حتى قُتل " كعب " رئيسهم على يد أخيه رضاعاً.
﴿وقَذَفَ في قلوبهم الرُّعْبَ﴾ ؛ الخوف والجزع، ﴿يُخْربون بيوتَهم بأيديهم وأيدي المؤمنين﴾، فكانوا يُخربون بواطنَها، والمسلمون ظواهرَها، لِمَا أراد الله مِن استئصال شأفتهم، وألاَّ تبقى لهم بالمدينة دار، ولا منهم دَيَّار. والذي دعاهم إلى التخريب حاجتهم إلى الخشب والحجارة، ليسدُّوا بها أفواه الأزفَّة ولئلا يبقى بعد جلائهم مساكن للمسلمين، وأن ينقلوا معهم ما كان في أبنيتهم من جيّد الخشب والساج، وأمّا المؤمنون فدعاهم إلى التخريب إزالة مُتحصّنهم، وأن تتسع لهم مجال الحرب. ومعنى تخريبهم إياها بأيدي المؤمنين: أنهم لما عرّضوهم بنكث العهد لذلك، وكان السبب فيه؛ فكأنهم أمروهم به، وكلّفوهم إياه. ﴿فاعتبِروا يا أُولي الأبصارِ﴾ أي: فاتعِظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجهٍ لا تهتدي إليه الأفكار، أو: فتأملوا فيما نزل بهؤلاء، والسبب الذي استحقوا به ذلك، فاحذروا أن تفعلوا مثَل فعلهم، فتُعاقََبوا مثل عقوبتهم. قال البيضاوي: اتعِظوا بحالهم، فلا تغدروا، ولا تعتمدوا على غير الله. هـ. وهذا دليل على جواز القياس.
﴿
ولولا أن كتب اللهُ عليهم الجلاء﴾
؛ الخروج من الوطن، على ذلك الوجه الفظيع ﴿لعذَّبهم في الدنيا﴾ بالقتل والسبي، كما فعل ببني قريظة، ﴿ولهم في الآخرة عذابُ النار﴾ الذي لا أشد منه، ﴿ذلك بأنهم﴾ أي: إنما أصابهم ذلك بسبب أنهم ﴿شاقُوا اللهَ﴾ ؛ خالَفوه ﴿ورسوله﴾ وفعلوا ما فعلوا، مما حكي عنهم من القبائح، ﴿ومَن يُشاقِّ اللهَ﴾، وقرئ: " يشاقِق " على الأصل. والاقتصار على مشاققته لتضمنها مشاققته عليه السلام، وليوافق قوله تعالى: ﴿فإنَّ الله شديدُ العقاب﴾، والجملة: إما نفس الجزاء على حذف العائد، أي: شديد العقاب له، أو: تعليل للجزاء المحذوف، أي: يُعاقبه لأنّ الله شديد العقاب.
الإشارة: " سبِّح لله " نزَّه الله تعالى مَن وجود الغيرية والإثنينية ما في سموات الأرواح من علوم الأحدية، ونزّهه ما في أرض النفوس والعقول من البراهين القطعية عن الشبيه والنظير. والعارف الكامل هو الذي يجمع بين التنزيه والتشبيه في ذات واحدة، في دفعة واحدة، فالتنزيه من حيث ذات المعاني، والتشبيه من حيث الأواني، أو التنزيه من حيث الجمع، والتشبيه من حيث الفرق، أو التنزيه من حيث اسمه الباطن، والتشبيه من حيث اسمه الظاهر. وانظر القشيري في مختصر الإشارات، ولعل هذا المنزع هو الذي رام الجيلاني، حيث قال في عينيته:
وإياكَ والتنزيهَ فهو مُقيّدٌ
وإياك والتشبيهَ فهو مُخَادِعُ
5
أي: لا تقف مع واحدٍ منهما، فأطلق عنان المعاني في كل ما ترى، ولا تشبه المعاني بشيء، إذ ليس مثلها ولا معها فإياك أن تنزّه المعاني عن شيء، فتقيّد عن الشهود فيه، وإياك أن تشببها بشيء؛ إذ ليس مثلها شيء في الوجود. والله تعالى أعلم. ولا يعلم هذا إلا أهل الذوق الكبير.
ثم قال تعالى: ﴿هو الذي أخرج﴾ الخواطر الردية، والخبائث اليهودية، من ديار القلوب، عند أول حشرها إلى الحضرة، ما ظننتم أن يخرجوا، لتمكنها من النفس، وتمرُّنها معها، وظنوا أنهم مانعتهم حصونُهم من الله، حيث تحصّنوا بتمكن العوائد ورسوخها في النفس، ومخالطة الأحباب والعشائر، والرئاسة والجاه والمال، فأتاهم الله من حيث لم يحتسِبوا، حيث قيَّض لها شيخاً عارفاً، وقذف في القلب خوفاً مُزْعِجاً، أو شوقاً مقلقاً، وقذف في قلوبهم الرعب، فخرجت تلك الخبائث قهراً، يُخربون بيوتهم، أي: بيوت ظواهرهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، أي: بإعانة المشايخ والإخوان، فطهَّروا بواطنهم من الخبائث، وخرّبوا ظواهرهم من زينة الحس، فحينئذ تعمّرت بواطنُهم بأسرار العلوم والمعارف، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وافعلوا مثل فعلهم، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء من القلوب؛ لعذّبهم في الدنيا بالحرص والجزع والطمع، ولهم في الآخرة عذاب نار القطيعة، بعد إسدال الحجاب في الدنيا، ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله؛ إذ كل مخالفة إنما هي من النفس وجنودها في عالم الحكمة.
﴿ما قطعتم من لِّينَةٍ﴾، قال القشيري: هو نوع من النخل ما عَدا العجوة والبَرْنِيّ، أمر رسول الله ﷺ بقطعها من مال بني النضير، فقطع بعضها، فقالت اليهود: أي فائدة في هذا؟ فبقي المسلمون في الجواب، فأنزل الله هذه الآية. هـ. وأصلها: لونة، من الألوان، فقلبت ياء، وقيل: اللينة: النخلة الكريمة، كأنهم اشتقوها من اللين، أي: أيّ شيء قطعتم من لِينة ﴿أو تركتموها قائمةً على أصولها﴾ من غير أن تتعرضوا لها بشيء ﴿فبإذن الله﴾ ؛ فقطعها وتركها بإذن الله، ﴿وليُخزي الفاسقين﴾ أي: وليذل اليهود ويغيظهم أذِنَ في قطعها وقلعها وفي تركها، وأمر المؤمنين أن يحتكموا في أموالهم كيف شاؤوا. واستُدل به على جواز هدم ديار الكفرة، وقطع أشجارهم، وحرق زروعهم، إذا لم يُرج وكان فيه إنكاء للعدو. وتخصيص اللينة بالقطع ليكون غيظهم أشد.
الإشارة: قَطْعُ شجرة حب الدنيا من القلب واجب على المريد في بدايته، ولو أدّى إلى إفساد المال لإصلاح قلبه، ارتكاباً لأخف الضررين، ومنه: قضية الشبلي في إحراق
6
ثوب وقلنسوته، في حكاية التلميذ، فإذا تمكن من المعرفة خُيِّر، وله يقال: ﴿ما قطعتم من لينة أو تركتموها... ﴾ الآية. وقال القشيري بعد تفسير الظاهر: وفيه دليل على أنَّ الشرع غير مُعَلل، فإذا جاء الأمر الشرعي بَطَلَ طلب التعليل، وسكتَت الألسن عن المطالبة بـ " لِمَ " وخُطورُ الاعتراض والاستقباحِ بالبال خروج عن حدّ العرفان، والشيوخ قالوا: مَن قال لأستاذه: " لِمَ " لا يفلح، وكل مريدٍ يكون لأمثال هذه الخواطر جولان في قلبه لا يجيءُ منه شيء، ومَن لم يتجرّد قلبُه عن طلب الإعلال، ولم يباشِرْ حُسْنَ الرضا بكل ما يجري، واستحسانَ، كل ما يبدو من الغيب من الله سرّه وقلبَه فليس من الله في شيء. هـ. ومثله قول الحِكَم: " ما تَركَ مِن الجهل شيئا مَن أراد أن يُظهر في الوقت غيرَ ما أظهره الله فيه ".
قلت: جملة ﴿وما أفاء﴾ : شرطية معطوفة على مثلها، وهو: ﴿ما قطعتم..﴾ الآية، وكلتاهما إخبار وإعلام، أي: اعلموا أن ذلك القطع والترك كان بإذن الله، وذلك الفيء كان بتسليط الله لا بسعيكم، لكنه لم يُعلم منه كيفية القسمة، فبيّنها بعدُ بقوله: ﴿وما أفاء الله على رسوله... ﴾ الخ، وقيل: غير ذلك على ما سيأتي.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وما أفاء الله على رسوله منهم﴾ أي: ما أعاده الله من مالهم، وفيه إشعار بأنه كان حقيقاً بأن يكون له صلى الله عليه وسلم، وإنما وقع في أيديهم بغير حق، فردّه الله تعالى إلى مستحقه، لأنه تعالى خلق الناس لعبادته، وخَلَقَ ما خَلَقَ ليتوسَلوا به إلى طاعته، فهو جديرٌ بأن يكون للمؤمنين. ﴿فما أوجفتمْ عليه﴾ أي: فما أجريتم على تحصيله وتغنيمه، من: الوجيف، وهو: سرعة السير، و " مِن " في قوله: ﴿مِن خَيْلَ ولا رِكابٍ﴾ زائدة لتأكيد النفي، أي: فما أجريتم على تحصيله خيلاً ولا ركاباً، وهو ما يركب من الإبل خاصة، كما أنَّ الراكب عندهم راكبها لا غير، وأمّا راكب الفرس فإنما يُسمونه فارساً، ولا واحد لها من لفظها، وإنما الواحد منها: راحلة. والمعنى: ما قطعتم لها شقةً بعيدة، ولا لقيتم مشقة شديدة، وذلك لأن قُراهم كانت على ميلين من المدينة، فمشوا إليها مشياً، وما كان فيهم إلاَّ النبي ﷺ فَفَتَحَها صُلحاً، كأنه قيل: ما أفاء الله على رسوله فما حصَّلتموه بكد اليمين ولا بعرق الجبين، {ولكنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رسلَه على مَن
7
يشاء} أي: ولكن جرت سنّة الله أن يُسلّط رسلَه على مَن يشاء من أعدائهم، وقد سلّط رسولَه ﷺ تسليطاً غير معتاد، من غير أن تقتحموا الخطوب، وتُقاسموا شدائد الحروب، فلا حقّ لكم في أموالهم. ﴿واللهُ على كل شيءٍ قدير﴾ يفعل ما يشاء، تارة على الوجوه المعهودة، وأخرى على غيرها.
ثم بيّن قسمة الفيء، فقال: ﴿ما أفاء اللهُ على رسوله من أهل القُرى﴾، فلم يدخل العاطف؛ لأنَّ الجملة بيان للأولى، وقيل: الأولى نزلت في أموال بني النضير، وقد جعلها الله لرسوله خاصة، فقسمها على المهاجرين، ولم يُعط الأنصارَ منها، إلاّ لثلاثة، لفقرهم، أبو دُجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة، والثانية: نزلت في كل قريةٍ فُتحت عنوة، وهو الظاهر، فقال في بيان مصرف الفيء: ﴿فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾. واختلف في قسمته، فقيل: يُسدس لظاهر الآية، ويُصرف سهم الله إلى عمارة الكعبة وسائر المساجد، وقيل: يُخمس، وذكر الله للتعظيم، ويُصرف سهم الرسول للإمام على قولٍ، وإلى العساكر والثغور على قولٍ، وإلى مصالح المسلمين على قولٍ. وقد تقدّم في سورة الأنفال تحقيقه. وإنما بيّنا قسمته، ﴿كي لا يكون دُولَة﴾ أي: كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يكون للفقراء يعيشون به ﴿دُولة بين الأغنياء منكم﴾ أي: يتداوله الأغنياء بينهم، ويختصُّون به. والدولة: ما يدول للإنسان، أي: ما يدور له من الغنى والجدّ والغلبة وغيرها، وقيل: الدولة - بالفتح - من المُلك، وبالضم من المِلك - بالكسر-.
﴿وما آتاكم الرسولُ﴾ أي: ما أعطاكموه من الفيء أو من الأمر، ﴿فَخُذوه﴾ فاقبلوه، أو: افعلوه، فإنه واجب، ﴿وما نهاكم عنه﴾ أي: عن أخذه، أو عن تعاطيه ﴿فانتهوا﴾ عنه، ولا تطلبوه، أو: لا تفعلوه، لَمَّا خصّ عليه السلام المهاجرين بفيء بني النضير وما حولها من القرى، قالت الأنصار: لنا معهم سهم، فنزلت ﴿واتقوا الله﴾ في مخالفته عليه السلام، ﴿إنَّ الله شديدُ العقاب﴾ لمَن خالف رسولَه صلى الله عليه وسلم، والأحسن: أن يكون عاماً في كل ما جاء به الرسول، والفيء داخل في العموم.
الإشارة: العلم على قسمين؛ علم وهبي إلهي، يفيض على رسول القلب، بمحض الفضل والجود، وهو ما يختص بأسرار الربوبية فهذا يختص به صاحبه، ولا يبذله لغيره إلاّ مَن بذل نفسه له، وإليه تُشير الآية الأولى. وعلم كسبي، يُكتسب بالجد والتشمير في تعلُّمه وأخذه، فهذا يجب بذله لعامة الناس وخاصتهم، وإليه تشير الآية الثانية. وإنما اختص علم السر بأهله كي لا يكون دُولة بين الأغنياء من أهل الظاهر، فيُبتذل ويُشتهر، وهو فساد نظام العالم. وقوله تعالى: ﴿وما آتاكم الرسولُ فخُذوه﴾ قال القشيري: هذا
8
أصل في وجوب متابعة الرسول، ولزوم طريقته وسنته، على ما في العلم تفصيله. والواجبُ على العبد عَرْضُ ما وقع له من الخواطر، ويُكاشَفُ به من الأحوالِ، على العلم، فما لم يقبله الكتاب والسنّة فهو ضلال. هـ.
قلت: " للفقراء " يتعلق بمحذوف، أي: يعطي، أو: اعْجَبوا، على أنه استئناف، وقيل: بدل من " ذي القربى ". و " وتبوؤوا الدارَ والإيمان " أي: وأَلِفوا الإيمان، ولا يصح العطف؛ لئلا يلزم أنّ الإيمان متبوأ، وإنما يُتبوأ المنزل؛ إذ التبوء: التهيؤ، يقال: بوأت له منزلاً، أي: هيأته له، وفي إعراب الحوفي في سورة آل عمران: يقال تبوأ فلان الدار إذا لزمها. هـ. فعلى هذا يصح العطف، ولا يحتاج إلى تقدير عاملٍ آخر. قال ابن هشام: ولا يجوز كون الإيمان مفعولاً معه؛ لعدم الفائدة في تقييد الأنصار المعطوفين على المهاجرين بمصاحبة الإيمان، إذ هو أمر معلوم. هـ. وانظر ابن جزي، فإنه هو الوجه المستحسن عنده في توجيه الآية، والمعنى: أنهم جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين؛ لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان، لا بنزول الدار، قال: فيكون الإيمان على هذا مفعولاً معه، وأصله لابن عطية، وبهذا الاقتراح يصح معنى قوله: ﴿مِن قبلهم﴾ فتأمله. انظر الحاشية.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿للفقراءِ﴾ أي: يعطى الفيء للفقراء ﴿المهاجرين الذين أُخرجوا مِن دِيَارِهِم وأموالِهم﴾ حيث اضطرهم كفارُ مكة إلى الخروج من مكة، وكانوا مائة رجل. وفيه دليل على أنَّ الكفار يملكون ما استولوا عليه من أموال المسلمين؛ لأنّ الله تعالى سمّاهم فقراء، مع أنهم كانت لهم ديار وأموال بمكة، فخرجوا ﴿يبتغون فضلاً من الله ورضواناً﴾ أي: طالبين منه تعالى رزقاً في الدنيا، ورضا في الآخرة، أو: يطلبون الجنة ورضوان الله أو: زيادة في الإيمان والرضوان، ﴿وينصرون اللهَ ورسولَه﴾ أي: ناوين نصرة دين الله وإعانة رسوله، ﴿أولئك﴾ الموصوفون بما فصّل من الصفات الحميدة ﴿هُم الصادقون﴾ ؛ الراسخون في الصدق، حيث ظهر ذلك عليهم؛ بما فعلوا من مفارقة الأوطان والأهل والولدان.
9
﴿والذين تبوؤوا الدارَ والإِيمانَ﴾، هذا استئناف مسوق لمدح الأنصار بخصال حميدة، من جملتها: محبتهم للمهاجرين، ورضاهم باختصاصهم بالفيء أكمل رضا، أي: اتخذوا المدينة والإيمان مباءة وسكناً وتمكّنوا فيهما أشد تمكين، ﴿مِن قبلهم﴾ أي: من قبل هجرة المهاجرين، أو تبوؤوا الدار ولزموا الإيمان، ولزومه: إخلاصه وظهور شعائره وأحكامه، ولا ريب في تقدُّم الأنصار في ذلك على المهاجرين؛ لأنّ المهاجرين لم يتأتَّ لهم أظهاره قبل الهجرة، فتقدمهم في إظهاره فقط، لا في إخلاصه؛ إذ لا يتصور تقدمهم عليهم في ذلك.
﴿
يُحبون مَنْ هاجر إليهم﴾
حتى شاطروهم أموالهم، وأنزلوهم منازلهم، ونزل مَن كانت له أمَرأتانِ عن إحداهما ليتزوجها المهاجري، ومحبتهم للمهاجرين من حيث هجرتهم لنصرة الدين لشدة محبتهم للإيمان، ﴿ولا يجدون في صُدورهم﴾ ؛ في نفوسهم ﴿حاجةً﴾ أي: شيئاً محتاجاً إليه، يقال: خذ منه حاجتك، أي: ما تحتاج إليه، يعني: أنّ نفوسهم لم تتبع ما أوتوا من الفيء، ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه، وقيل: حاجة: حسداً أو كزازة، مما أُعطي المهاجرون من الفيء، حيث خصّهم النبيُّ ﷺ به. ﴿ويُؤثرون على أنفسهم﴾ أي: يُقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء مَنْ أسباب المعاش، ﴿ولو كان بهم خصاصةٌ﴾ أي: حاجة وخلّة، وأصلها: خُصاص البيت، أي: فروجه. والجملة: حال، أي: يُؤثرون في حال خصاصتهم. قال ابن عباس: لما ظفر النبيُّ ﷺ بأموال بني النضير، قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة، فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا، ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نُشاركهم فيها، فنزلت. وهذا صريح في أنَّ قوله تعالى: ﴿والذين تبوؤوا الدار﴾ استئناف غير معطوف على الفقراء المهاجرين، نعم يجوز عطفه عليهم باعتبار شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق، دون الفيء، فيكون قوله تعالى: ﴿يُحبون﴾ وما عطف عليه استئنافاً مقرراً لصدقهم، أو حال. قاله أبو السعود.
قلت: إذا جعلنا قولَه تعالى: ﴿ما أفاء اللهُ على رسوله مِن أهل القُرى﴾ استئنافاً غير مُبيّنِ لِما قبله، بل في كل فيء يأتي بعد بني النضير، صحّ عطف الأنصار على فقراء المهاجرين في كل شيء، وكذا قوله: ﴿والذين جاؤوا مِن بعدهم﴾ عطف عليهم، فيكون المعنى: يقسم الفيء للفقراء المهاجرين، وللذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم، وللذين جاؤوا مِن بعدهم. ويؤيد هذا ما رُوي أنّ عمر رضي الله عنه لمّا قرأ هذه الآية إلى آخرها قال: هذه الآية استوعبت المسلمين، ما على وجه الأرض مسلم إلاَّ وله في هذا الفيء حق، إلا ما ملكت أيْمَانهم. هـ.
وقيل: نزلت في ضيفٍ نزل بالنبي ﷺ فلم يجد عنده شيئاً، فقال صلى الله عليه وسلم: " مَن يُضيف
10
هذا؟ " فقال: رجلٌ من الأنصار - قيل: أبو طلحة، أنا يا رسول الله، فلم يجد من الطعام إلاّ ما يكفي الصبية، فقال لامرأته: نوّمي الصبيان، وأطِفئي السراج، وقرّبي الطعام، فنظهر للضيف أنَّا نأكل معه، ونمضغ ألسنتنا ليأكل، فأكل الضيف وحده، فلما أصبح قال ﷺ للرجل: " إنَّ الله ضحك مِن فعلكما " عن أنس: أُهدي لبعضهم رأس مشويّ، وهو مجهود، فَوَجَّهه إلى جارِه، وجارُه وَجَّهَه إلى جارِه، فتداولته تسعةُ أنْفُس، حتى عاد إلى الأول.
﴿
ومَن يُوق شُحَّ نفسه﴾
أي: مَن يقيه الله شحَّ نفسه حتى يغالبها فيما يغلب عليها، مِن حب المال وبُغضَ الإنفاق، ﴿فأولئك هم المفلحون﴾ ؛ الفائزون بكل مطلوب، والناجون من كل مرهوب. والشح - بالضم والكسر -: اللُّؤم، وأن تكون نفس الرجل كزّةً حريصة على المنع. وإضافته إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهم المنع نفسه، وقيل: الشُح: أكل مال أخيك ظلماً، والبخل: منع مالك، وقيل: الشُح: منع ما عندك والطمع في غيرك، والبُخل: منع مالك من غير طمع، فالشُح أقبح من البخل. والجملة: اعتراض وارد لمدح الأنصار بالسخاء، بعد مدحهم بالإيثار. وجميع الإشارة باعتبار " مَن " لأنها واقعة على الجمع.
ثم ذكر التابعين، فقال: ﴿والذين جاؤوا مِن بعدهم﴾ هم التابعون بإحسان إلى يوم القيامة، وقيل: هم الذين هاجروا بعدما قوي الإسلام، ﴿يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان﴾، وصفوهم بذلك اعترافاً بفضلهم، وعن عائشة رضي الله عنها: " أُمِرُوا بأن يستغفروا لهم، فسبُّوهم " ﴿ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ﴾ أي: حقداً وعداوة ﴿للذين آمنوا﴾ على الإطلاق، ﴿ربنا إِنك رؤوف رحيم﴾ ؛ مبالغ في الرأفة والرحمة، فأنت حقيق بأن تجيب دعاءنا برأفتك ورحمتك.
الإشارة: الذين يستحقون المواهب، والفيض الإلهي والاصطفاء، ثلاث أصناف، الأول: الفقراء الذين هاجروا أوطانهم، وتركوا ديارهم وعشائرهم؛ طلباً لصلاح قلوبهم وأسرارهم، والثاني: القوم الذين نزلوا بهم إذا آووهم وآثروهم بأموالهم وأنفسهم، الثالث: مَن جاء بعدهم طلباً لذلك، على الوصف الذي ذكره الحق ﴿يقولون ربنا اغفر لنا... ﴾ الخ. قال الورتجبي: قوله تعالى: ﴿والذين تبوؤوا الدارَ والإيمان... ﴾ الخ، أثنى الله سبحانه على الفقراء، ووصَفَهم بأحسن الوصف، إذ كانوا صادقين في فقرهم، ثم أثنى على الأغنياء لِصدقهم في غناهم، ووصَفَهم بالإيمان والمعرفة بالله من قبلهم ولزومهم مواضع قربه، وخفضِهم جناحهم لإخوانهم من الفقراء، ومحبتهم، وتقديسهم من الحسد والشح والبُغض وحب الدنيا، ثم وَصَفَهم بالسخاء والإيثار، فلم يبقَ في قلوبهم من حب
11
الدنيا وجاهها ذرة. ومَنْ سجيتُه مقدسة مِن حرص نفسه أفلح وظفر برؤية ربه. هـ. قلت: كأنه يشير إلى أنَّ قوله تعالى: ﴿للفقراء المهاجرين﴾ هم أهل السير من المريدين، وقوله تعالى: ﴿والذين تبوؤوا الدار... ﴾ هو الواصلون العارفون، أي: تبوؤوا دارَ المعرفة، حيث سكنوها، ورسخوا فيها، وأَلفِوا الإيمان وذاقوا حلاوته.
وقوله تعالى: ﴿ويُؤثرون على أنفسهم... ﴾ الخ، بعد أن وَصَفَهم بقطع الطمع والحرص، والزهد فيما لم يملكوا بقوله: ﴿ولا يجدون في صدورهم حاجة﴾ وَصَفَهم بالإيثار فيما ملكوا، وبذلك يتم تحقيق خروج الدنيا من قلوبهم، بحيث لا يتعلق القلب بما فات منها، ولا يُمسك ما وجد منها، بل يُؤثر به مع الحاجة إليه، فالآية تشير إلى سلامة الصدور، وسخاوة الأنفس، وهذا كان وصف الصحابة - رضي الله عنهم - وبهذين الخصلتين فاقوا جميعَ الناس، وهي أخلاق الصوفية - رضي الله عنهم - قال الشيخ أبو يزيد: ما غلبني أحد غير شاب من بَلْخ، قَدِمَ حاجًّا، فقال: يا أبا يزيد، ما الزهد عندكم؟ فقلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا، فقال: هكذا عندنا الكلاب ببلخ، فقلت: وما الزهد عندكم؟ فقال: إذا وجدنا آثرنا، وإذا فقدنا شكرنا. هـ. وسُئل ذو النون: ما حد الزاهد المشروح صدره؟ فقال: ثلاثة؛ تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار عند القوت. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نافقوا﴾ أي: ألم ترَ يا محمد، أو: يا مَن يسمع، إلى عبد الله بن أُبيّ وأشياعه؟ حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين، من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة، بعد حكاية محاسن أقوال المؤمنين، وأحوالهم الحميدة، على اختلاف طبقاتهم. وقوله تعالى: ﴿يقولون﴾ استئناف لبيان المتعجب منه، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم، أو: لاستحضار صورته. واللام في قوله: ﴿لإِخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب﴾ للتبليغ، والمراد بالأخوة: أخوة الكفر، واللام في قوله: ﴿لئن أُخرجتم﴾ موطئة للقسم، و ﴿لنَخَرُجَنَّ﴾ جوابه، أي: والله لئن أُخرجتم من دياركم
12
﴿لنَخْرُجَنَّ معكم﴾، رُوي أن ابن أُبي وأصحابه دسُّوا إلى بني النضير، حين حاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم، لا نخذلكم، ولئن أُخرجتم لنخرُجن معكم، ﴿ولا نُطيعُ فيكم﴾ ؛ في قتالكم ﴿أحداً أبداً﴾، يعني رسول الله والمسلمين، أو: لا نُطيع في خذلانكم وإخلاف ما وعدناكم من النصرة أحداً، وإن طال الزمان، ﴿وإن قُوتلتم لننصرنكم﴾، قال تعالى في تكذيبهم: ﴿واللهُ يشهد إنهم لكاذبون﴾ في مواعدهم المؤكدة بأيمانهم الفاجرة.
﴿لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قُوتلوا لا ينصرونهم﴾، وكان الأمر كذلك، فلم يقدر أحد أن يرفع رأسه لنصرتهم، ففيه معجزة واضحة، ﴿ولئن نصروهم﴾ على الفرض والتقدير، ﴿ليُوَلُّنَّ الأدبارَ﴾ فراراً ﴿ثم لا يُنصرون﴾ أبداً، إما المنافقون أو اليهود، أي: لا تكون لهم شوكة أبداً. وإنما قال: ﴿ولئن نصروهم﴾ بعد الإخبار بأنهم لا ينصرونهم، أي: على الفرض والتقدير كقوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥]، والحق تعالى كما يعلم ما يكون، يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف يكون.
﴿
لأنتم أشدُّ رهبةً﴾
أي: أشد مرهوبية، مصدر: رُهِبَ، المبني للمفعول، أي: أنتم أشد خوفاً ﴿في صُدورهم من الله﴾ دلالة على نفاقهم، يعني: إنهم يُظهرون لكم في العلانية خوفَ الله، وأنتم أهيب في صدورهم من الله، ﴿ذلك﴾ أي: ما ذكر من كون رهبتهم منكم أشد من رهبة الله ﴿بأنهم قوم لا يفقهون﴾ شيئاً حتى يعلموا عظمة الله تعالى، فيخشوه حق خشيته.
﴿لا يُقاتلونكم﴾ أي: اليهود والمنافقون، أي: لا يقدرون على قتالكم ﴿جميعاً﴾ ؛ مجتمعين متفقين في موطن من المواطن، ﴿إلاّ في قُرىً محصنةٍ﴾، بالدُّروب والخنادق، ﴿أو مِن وراء جُدُر﴾ دون أن يصحروا ويبارزوكم؛ لفرط رهبتهم. وقرأ المكي: " جدار " بالإفراد. ﴿بأسُهم بينهم شديدٌ﴾، بيان لِما ذكر من أنَّ رهبتهم ليس لضعفهم وجُبنهم في أنفسهم، فإنّ بأسهم بالنسبة إلى أقرانهم شديد، وإنما ضعفُهم وجبنهُم بالنسبة إليكم، بما قذف الله تعالى في قلوبهم من الرعب.
﴿تَحْسَبُهم﴾ أي: المنافقين واليهود ﴿جميعاً﴾ أي: مجتمعين ذوي أُلفة واتحاد، ﴿وقلوبُهم شَتَّى﴾ ؛ متفرقة لا أُلفة بينها. قال ابن عطية: وهذه حالة الجماعة المتخاذلة. هـ. يعني: أنّ بينهم إحناً وعداوات، فلا يتعاضدون حقَّ التناصر ولا ينصرون أبداً. قال القشيري: اجتماع النفوس مع تنافر القلوب أصلِ كل فساد، وموجب كل تخاذل، واتفاق القلوب، والاشتراك في الهمّة، والتساوي في القصد، يُوجب كلٍّ ظفرٍ وسعادة. هـ. وما وَصَف به الحق تعالى المنافقين واليهود كله تجسير للمؤمنين، وتشجيع لقلوبهم على قتالهم. ﴿ذلك﴾ التفرُّق ﴿بأنهم قوم لا يعقلون﴾ شيئاً، حتى يعرفوا الحق ويتبعوه، وتطئمن به قلوبهم، وتتحد كلمتهم، ويَرمُوا عن قوس واحدة، لكن لّمَّا جهلوا الحق
13
تشتتت طُرُقهم، وتشتتت القلوب حسب تشتُّت الطُرق، وأما ما قيل من أنَّ المعنى: لا يعقلون أنّ تشتيت القلوب مما يُوهن قلوبهم، فبعيد.
الإشارة: إذا حاصر المريدُ قريةَ القلب ليُخرج منها الأوصاف المذمومة لتتهيأ لسكنى سلطان المعرفة، تقول الحظوظ والأهوية المنافقة للنفس، وأوصافها اليهودية: لا تخرجوا، فنحن نُعاونكم، وفي نصرتكم، لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم، ولا نُطيع فيكم أحداً أبداً، وإن قوتلتم بالمجاهدة والرياضة؛ لننصرنكم بالتخاذل والتثُّبط، والله يشهد أنهم لكاذبون؛ إذ لا قدرة لشيء إلاّ بإذن الله. ﴿لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم... ﴾ الآية. لا يقاتلونكم جميعاً، أي: لا يجتمع جند الهوى النفس على قتالكم، إلاّ في قلوب غافلة، شديدة العلائق والمساوىء محصنة من دخول النور بأسوار الشواغل والعلائق، أو: تُوَسْوِس من وراء جُدُر الإيمان، وأما القلوب الفارغة من الشواغل، المطهرة من المساوئ، فإنما يقاتلها البعض الباقي فيها. بأسهم بينهم شديد، أي: الحرب بينهم سجال، إذا غلب جند النفس استولت ظلماتها على الروح، وإذا غلب جند القلب والروح استولى النورُ على ظلمة النفس، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى، أي: تظنون أنَّ مهاوي الهوى ومهاوي النفس واحدة، وقلوبهم شتى، فالأهواء مختلفة، والحظوظ متفاوتة، والمساوىء متفرقة، فلكل شخص حظ، ولكل نفس هوى غير ما يشتهي الآخر، وذلك بأنهم قوم لا يعقلون، ولو عقلوا لاتفقت أهواؤهم في محبة الله ورسوله، قال صلى الله عليه وسلم: " لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكُون هواه تابعاً لما جئتُ به ".
يقول الحق جلّ جلاله: مَثَلهم، أي: مثل اليهود في حلول البأس بهم ﴿كَمَثَلِ الذين مِن قبلهم﴾ وهم أهل بدر ﴿قريبًا﴾ أي: استقر مِن قبلهم زمنًا قريبًا، فكانت غزوة بني النضير على رأس ستة أشهر من بدر، كما صدر به البخاري عن الزهري. ثم قال: وجعله ابن إسحاق بعد بئر معونة وأُحد. هـ. قلت: وهو الموافق لِما تقدم في صدر السورة، وهو المشهور، ﴿ذاقوا وبالَ أمرِهم﴾ أي: ذاقوا سوء عاقبة أمرهم وعداوتهم لرسول الله ﷺ وهو القتل في الدنيا، ﴿ولهم﴾ مع ذلك في الآخرة ﴿عذابٌ أليمٌ﴾.
ومَثَل المنافقين {كَمَثَلِ الشيطانِ إِذ قال للإِنسان اكْفُرْ فلما كفر قال إِني بريء منك
14
إِني أخاف اللهَ ربَّ العالمين} أي: مثل المنافقين في أغوائهم اليهود على القتال، ووعدهم إياهم النصر، ثم مشاركتهم لهم وخذلانهم كمثل الشيطان إذ استغوى الإنسان بكيده، ثم تبرّأ منه في العاقبة. وقيل: المراد: استغواؤه قريشًا يوم بدر، وقوله: ﴿لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨] إلى قوله: ﴿إِنِّي بَرِياءٌ مِّنْكُمْ﴾ [الأنفال: ٤٨]. قال أبو السعود: وقد أجمل في النظم الكريم، حيث أسند كُلاًّ من الخبرين إلى المقدّر المضاف إلى ضمير الفريقين من غير تعيين ما أسند إليه بخصوصه، ثقةً بأنّ السامع يَرُد كُلاًّ مِن المثالين إلى ما يُماثله، كأنه قيل: مَثَل اليهود في حلول العذاب، كمَثَل الذين من قبلهم... الخ، ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما تقدّم عنهم كمثل الشيطان... الخ. هـ. ﴿فكان عَاقِبتهما﴾ أي: عاقبة الإنسان الكافر والشيطان، ﴿أنهما في النار خالِدَيْن فيها﴾، فـ " عاقبتهما ": خبر كان، و " أنهما " اسمها، و " خالِدَين ": حال. ﴿وذلك جزاءُ الظالمين﴾ أي: الخلود في النار جزاء كل ظالم. وذكر الثعلبي هنا قصة برصيصا الراهب الطويلة، فانظرها فيه، ففيها عبرة، وقيل: فيه نزلت الآية.
الإشارة: مثل الأوصاف المذمومة حيث ترد عليها أنوار الشهود؛ كمثل كفار قريش حين استولت عليها الأنصار والمهاجرون، وأمدّهم الله بملائكة السماء، فهزموهم وقتلوهم، ودفنوهم في القليب، ومثل النفوس الأمّارة وجنودها، كمثل الشيطان يوسوس بالمعاصي، ثم يرجع، فكان عاقبتهما إذا أطاعه الإنسان أنهما في النار القطيعة خالدَين فيها، وذلك جزاء الظالمين لنفوسهم، حيث حرموها الوصول. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله﴾ في كل ما تأتون وتذرون، ﴿ولتنظرْ نَفْس ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ أي: أيّ شيء قدمت من الأعمال الصالحة ليوم القيامة. سمّاه باليوم الذي يلي يومك تقريبًا له، أو عبّر عن الآخرة بالغد، كأنّ الدنيا والآخرة نهاران يوم وغد، وتنكيره لتفخيمه وتهويله، كأنه قيل: لغد لا يعرف كنهه لغاية عِظمه. وعن مالك بن دينار: مكتوب على باب الجنة: وجدنا ما عملنا، ربحنا ما قدّمنا، خسرنا ما خلفنا. ﴿واتقوا اللهَ﴾، كرر تأكيدًا للأمر بالتقوى، أو الأول في أداء الواجبات، كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل، وهذا في ترك المعاصي، كما يؤذن به الوعيد في قوله: ﴿إِنَّ الله خبير بما تعملون﴾ أي: من المعاصي.
﴿ولا تكونوا كالذين نَسُوا اللهَ﴾ أي: نسوا حقوقه تعالى أو: تركوا ذكره، ﴿فأنساهم أنفسهم﴾ ؛
15
فأهملهم ولم يذكرهم بتوفيقِ ولا هداية، أو: جعلهم ناسين لها حتى لم يسمعوا ما ينفعها، ولم يفعلوا ما يخلصها، أو: أراهم يوم القيامة من الأهوال ما أنساهم أنفسهم، ﴿أولئك هم الفاسقون﴾ ؛ الكاملون في الفسق.
﴿لا يستوي أصحابُ النار﴾ الذي نسوا الله فاستحقُّوا الخلود في النار ﴿وأصحابُ الجنة﴾ الذين اتقوا الله، فاستحقُّوا الخلود في الجنة، ﴿أصحابُ الجنة هم الفائزون﴾، وهذا تنبيه وإيقاظ وإيذان بأن غفلتهم وقلة فكرهم في العاقبة، وتهالكهم، على إيثار العاجلة واتباع الشهوات، كأنهم لايعرفون الفرق بين الجنة والنار، والبَوْن العظيم بين أصحابها، وأنَّ الفوز العظيم لأصحاب الجنة، والعذاب الأليم لأصحاب النار، فمِن حقهم أن يعلموا وينتبهوا له، كما تقول لمَن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة مَن لا يعرفه؛ لتنبهه بذلك على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطُّف. واستدل بالآية على أنّ المسلم لا يُقتل بالكافر، وأنَّ الكفار لا يملكون أموال المسلمين، ورُدَّ بأنَّ عدم الاستواء إنما هو في الأحوال الأخروية، لا الدنيوية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله﴾، أن تشهدوا معه سواه ﴿ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ﴾ من المعرفة، فإنّ الشهود يوم القيامة على قدر المعرفة هنا، " واتقوا الله " فلا تؤثروا عليه سواه، ﴿ولا تكونوا كالذين نسوا الله﴾ أي: ذكره والتوجه إليه، " فأنساهم أنفسهم " أي: غيّبهم عن إصلاحها وعلاجها، حتى ماتت في أودية الخواطر والشكوك، " أولئك هم الفاسقون " الخارجون عن الحضرة المقدسة. " لا يستوي أصحاب النار " أي: نار القطيعة والحجاب " وأصحاب الجنة " أي: جنة المعارف، " أصحاب الجنة هم الفائزون " بكل مطلوب، الناجون من كل مرهوب.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿لو أنزلنا هذا القرآن﴾ العظيم الشأن، المنطوي على فنون القوارع، ﴿على جبلٍ﴾ من الجبال، مع كونه علَماً في القسوة وعدم التأثير بما يُصادمه، ﴿لَرَأيته خاشعًا﴾ ؛ خاضعًا متصدِّعًا متشققًا ﴿من خشية الله﴾ أي: من شأن القرآن وعظمته أنه لو جُعل في الجبل تمييز، ونزل عليه، لخضع وتطأطأ وتشقق من خشية الله، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن، وقوة تأثير ما فيه من المواعظ، كما ينطق به قوله تعالى: ﴿وتلك الأمثالُ نضربها للناس لعلهم يتفكرون﴾، وهي إشارة إلى هذا المثل، وإلى أمثاله في مواضع من التنزيل. والمراد: توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشُّعه عند تلاوة
16
القرآن، وتدبُّر قوارعه وزواجره.
الإشارة: قال ابن عطاء: أشار إلى فضله على أوليائه وأهل معرفته، أنَّ شيئًا من الأشياء لا يقوم لصفاته، ولا يبقى مع تجلَّيه، إِلاّ مَن قوّاه الله على ذلك، وهو قلوب العارفين. هـ. قلت: وهذا في تجلِّي الصفات، فما بالك بتجلِّي الذات؟ ! فلا يطيقه إلاّ قلوب الراسخين المقربين، وقال العارف الورتجبي: لو كانت الجبالُ مقامَ الإنسان في الخطاب لتدكدكت الجبال، وتذرّرت، وانفلتت الصخور الصم، وانهدمت الشامخات العاليات، في سطوات أنواره، وهجوم سنا أقداره، وذلك بأنها عرفت حقيقةً، وأقرت بالعجز عن حمل هذا الخطاب العظيم حيث قال سبحانه: ﴿فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ [الأحزاب: ٧٢]. قلت: وكأنه يُشير إلى أن تجلي صفة كلامه من جملة الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبيْنَ أن يحملنها، وهذه الأمانة هي تجلِّي الذات وتجلِّي الصفات، فلم يطق حملها إلاَّ الإنسان الكامل، وهو العارف الحقيقي، أما عن تجلِّي الذات فقد أشفقت مِن حمله السمواتُ والأرضُ والجبالُ، حسبما تقدّم. أما تجلِّي الصفات؛ فذكر هنا أنه لو تجلّت للجبل لخضع وتشقّق ولم يطق حملها، فلو زالت حُجب الغفلة عن القلوب لذابت من هيبة تجلِّي صفة كلامه وخطابه تعالى، إلاَّ أنَّ الله تعالى قَوَّى قلوب أوليائه حتى أطاقوا شهود ذاته، وسماع خطابه، بعد انقشاع الحُجب عن قلوبهم. ثم قال الورتجبي: ولا تخض يا أخي في بحر كلام المتكلمين أنَّ الجبال ليس لها عقل، فإِنَّ هناك أرواحًا وعقولاً لا يعلمها إلاَّ الله ﴿يَآجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾ [سَبَأ: ١٠] ولولا هناك ما يقبل الخطاب لما خاطبها، فإنَّ ببعض الخطاب ومباشرة الأمر تهبط من خشية الله، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٧٤] والخشية: مكان العلم بالله وبخطابه. هـ. قلت: أسرار المعاني القائمة بالأواني سارية في الجمادات وغيرها، فهي عاقلة عالمة في باطن الأمر.
والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿هو اللهُ الذي لاَ إِله إِلاّ هُوَ﴾ وحده ﴿عَالِمُ الغيبِ والشهادة﴾ أي: ما غاب عن الحس من الأسرار القديمة، وما حضر له من الأجرام الحسية. قال الورتجبي: أي: عالم بالمعلومات الغيبية قبل وجودها، وبعد وجودها، لا يزيد علمه بالغيب علمه بالعلانية، لا علمه بالعلانية علمه بالغيب. هـ. وتقديم الغيب على
17
الشهادة لتقدُّمه في الوجود، وتعلُّق العلم القديم به، أو: المراد بالغيب: المعدوم، وبالشهادة: الموجود، أو السر والعلانية، ﴿هو الرحمنُ الرحيم﴾ أي: الرحمن بجلائل النِعم، والرحيم بدقائقها، أو: الرحمن بنعمة الإيجاد، والرحيمُ بنعمة الإمداد.
﴿هو اللهُ الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾، كرر لإبراز الاعتناء بأمر التوحيد، ﴿الملكُ﴾ ؛ المتصرف بالإطلاق، الذي لا يزول مُلكه أبدًا، ﴿القدوسُ﴾ ؛ البليغ في النزاهة عما لا يليق به. وقُرىء بالفتح، وهي لغة فيه، ﴿السلام﴾ ذو السلامة من كل نقص، أو: الذي يَسلم الخلق من ظلمه، أو: ذو السلام على أوليائه يوم القيامة، ﴿المؤمنُ﴾ ؛ واهب الأمْن، أو: المؤمن مِن عذابه مَن أطاعه، أو المصدِّق لعباده إذا وحّدوه، أو: المصدِّق للرسل بالمعجزات، ﴿المهيمِنُ﴾ ؛ الرقيب الحافظ لكل شيء مُفَيْعِل، من: الأمن، بقلب همزته هاء، ﴿العزيزُ﴾، الغالب الذي لا يُغلب، ﴿الجبَّارُ﴾ الذي جَبَرَ خلقه على ما أراد، أو: جبر أحوالهم، أي: أصلحها، ﴿المتكبّر﴾ الذي تكبّر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصًا، أو: البليغ الكبرياء والعظمة. ﴿سبحان الله عما يشركون﴾، نزَّه ذاته عما يصفه به المشركون إثر تعداد صفاته التي لا يمكن أن يُشارَك في شيءٍ منها أصلاً.
﴿هو اللهُ الخالقُ﴾ ؛ المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته، ﴿البارىء﴾ ؛ الموجد لها بريةً من التفاوت؛ وقيل: المميِز بعضها من بعض بالأشكال المختلفة، ﴿المُصَوِّر﴾ ؛ الموجد لصورها وكيفيتها كما أراد. قال الغزالي: الخالق من حيث إنه مُقدِّر، البارىء من حيث إنه مُوجد، المصوِّر، مِن حيث أنه مُصَوِّر صور المخترعات أحسن ترتيب، ومُزيّنها أحسن تزيين. هـ. قلت: وحاصل كلامه: أن الخالق يرجع للإرادة، والبارىء للقدرة، والمُصَوِّر للحكمة، والأحسن: أن يُقال: إنّ الخالق: المخترع للأشياء من غير أصل، البارىء: المهيىء كلَّ ممكن لقبول صورته، فهو من معنى الإرادة؛ إذ متعلّقه التخصيص، المُصَوِّر: المُعطي كل مخلوق ما هيىء له من صورة وجوده بحكمته، فهو معاني اسمه " الحكيم ".
﴿
له الأسماءُ الحسنى﴾
لدلالتها على المعاني الحسنة، وتقدم عدها في آخر الإسراء. ﴿يُسبح له ما في السمواتِ والإرض﴾ ؛ ينطق بتنزيهه عن جميع النقائص تنزيهًا ظاهرًا، ﴿وهو العزيزُ﴾ لا يُغلب، ﴿الحكيمُ﴾ الذي لايمكن الاعتراض عليه في شيء من تقديراته. ختم السورة بما بدأ به من التسبيح. عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سألت حبيبي رسولَ الله ﷺ عن اسم الله الأعظم؟ فقال: " عليك بآخر الحشر، فأَكْثِر قراءته "، فأعدتُ عليه، فأعاد عليّ فأعدت عليه، فأعاد عليّ، وعنه ﷺ أنه قال: " مَن قَالَ حِينَ يُصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السيمع
18
العليم، من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر، وكّلَ اللهُ سبعين ألف ملك يُصلُّون عليه حتى يُمسي، فإذا مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومَن قالها حين يُمسي كان بتلك المنزلة " رواه الترمذي. وأسند ابن جزي حديثًا إلى عبد الله بن مسعود: أنه قال: قرأتُ على النبي ﷺ فلما انتهيت إلى آخر الحشر، قال: " ضع يدك على رأسك " قلت: ولِمَ ذلك يا رسول الله؟ قال: " أقرأني جبريلُ القرآنَ، فلما انتهيت إلى آخر الحشر، قال: ضع يدك على رأسك يا محمد، قلت: ولمَ ذاك؟ قال: إنَّ الله تبارك وتعالى افتتح القرآن فضرب فيه، فلما انتهى إلى آخر الحشر، أمر الملائكة أن تضع يدها على رؤوسها، فقالت: يا ربنا ولِمَ ذلك؟ قال: لأنه شفاء من كل داء إلا السام " وسمعتُ من شيخنا الفقيه الجنوي أنه حديث ضعيب، يعمل به الإنسان وحده، فإذا كان مع الناس تركه، لئلا تعتقد العامة أنه مندوب أو واجب. هـ.
الإشارة: قد ذكرنا في تفسير الفاتحة الكبير كيفية التعلُّق والتخلُّق والتحقُّق بهذه الأسماء. وقال الورتجبي: بيّن بقوله: " الأسماء " أنَّ لذاته النعوت والأسامي القديمة المقدسة عن الإشراك والإدراك، فلما ظهر بهذه الأوصاف أظهر أنوار صفاته في الآيات، وألبس أرواح نوره الأرواح والأشباح والأعصار والأدهار والشواهد والحوادث، فسبّحه الكلُّ بألسنة نورية غيبية صفاتية، لقوله: ﴿يُسبح له... ﴾ الآية، قلت: أرواح نوره هي أسرار ذاته اللطيفة السارية في الأشباح والأرواح والجمادات وجميع الموجودات، التي بها قامت. قال: ثم بيّن أنه منزّه بتنزيهه عن تنزيههم وإدراكهم وعلمهم بقوله: ﴿وهو العزيز الحكيم﴾ العزيز عن الإدراك، الحكيم في إنشاء الأقدار. تعالى الله عما أشار إليه الواصف الحدثاني واللسان الإنساني. هـ.
19
سورة الممتحنة
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوَّكم أولياء﴾ أي: أصدقاء، نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أنه لمّا تجهز رسولُ الله ﷺ لغزوة الفتح، كتب إلى أهل مكة، إنَّ رسول الله ﷺ يُرديكم، فخُذوا حِذركم. وفي رواية: كتب: إنَّ رسولَ الله ﷺ يسير إليكم بجيشٍ كالليل، يسيل كالسيل، فالحذرَ الحذرَ، وأرسله مع " ساره " مولاة بني المطلب، وقيل: كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط، فنزل جبريلُ عليه السلام بالخبر، فبعث رسولُ الله ﷺ عليًّا وعمّاراً، وطلحة، والزبير، والمقداد، وأبا مرثد، وقال: " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإنّ بها ظعينة، معها كتاب إلى أهل مكة، فخذوه منها، وخلُوها، فإن أبتْ فاضربوا عنقها " فأدركوها ثمة، فجحدت، فسلّ عليٌّ سيفه، فأخرجته من عِقاصِها. زاد النسفي: أنه عليه السلام أمَّن يوم الفتح جميعَ الناس إلاّ أربعة، هي أحدهم، فاستحضر رسول الله ﷺ حاطباً، وقال: " ما حملك على
20
هذا "؟ فقال: يا رسول الله! ما كفرتُ منذ أسلمتُ، ولا غششتُ منذ نصحتُ، ولكني كنتُ امرءاً مُلْصَقًا في قريش، ليس لي فيهم مَن يحمي أهلي، فأردتُ أن أتخذ عندهم يداً، وعملتُ أن كتابي لا يُغني شيئاً، فصدّقه صلى الله عليه وسلم، وقَبِلَ عُذره، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم: " وما يدريك يا عمر، لعل الله قد اطَّلَعَ عَلَى أهلِ بَدرِ، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم " ففاضت عينا عمر رضي الله عنه، أي: من بكاء الفرح. والعَدُو: فَعُول، من: عدا، ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد. وفي الآية دليل على أنّ الكبيرة لا تسلب الإيمان.
وقوله: ﴿تُلْقٌونَ إِليهم بالمودةِ﴾ : حال، أي: لا تتخذوهم أولياء مُلقين إليهم، أو: استئناف، أو: صفة لأولياء، أي: توصلون إليهم المودة، على أن الباء زائدة، كقوله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥]، أو: تُلقون إليهم أخبارَ النبي ﷺ بسبب المودة التي بينكم وبينهم، فتكون أصلية. ﴿وقد كفروا بما جاءكم من الحق﴾ : حال من فاعل " تتخذوا " أو " تُلقون "، أي: لا تتولوهم، أو: لا تودوهم وهذه حالتهم يكفرون ﴿بما جاءكم من الحق﴾ ؛ الإسلام، أو: القرآن، جعلوا ما هو سبب الإيمان سبب الكفر. ﴿يُخرجون الرسولَ وإِياكم﴾ من مكة، وهواستئناف مُبيَّن لكفرهم وعتوهم، أو حال من " كفروا ". وصيغة المضارع لاستحضار الصورة. وقوله: ﴿أن تؤمنوا بالله ربِّكم﴾ تعليل للإخراج، أي: يُخرجونكم لإيمانكم، ﴿إِن كنتم خرجتمْ جهادًا في سبيلي وابتغاء مرضاتي﴾، هو متعلق بـ " لاتتخذوا " كأنه قيل: لا تودُّوا أعدائي إن كنتم أوليائي.
﴿تُسِرُّون إِليهم بالمودةِ﴾ أي: تُفضون إليهم بمودتكم سرًّا، أو تُسِرُّون إليهم أسرارَ رسولِ الله ﷺ بسبب المودة، وهو استئناف وارد على نهج العتاب والتوبيخ. ﴿وأنا أعلمُ﴾ أي: والحال أني أعلم منكم ﴿بما أخفيتم وما أعلنتم﴾ ومُطلِع رسولي على ما تُسِرُّون، فإني طائل لكم في الإسرار، وقيل: الباء زائدة، و " أعلم " مضارع و " ما " موصولة، أو مصدرية. ﴿ومَن يَفْعله منكم﴾ أي: الاتخاذ ﴿فقد ضَلَّ سواء السبيل﴾ ؛ فقد أخطأ طريق الحق والصواب.
﴿إِن يَثْقفوكم﴾ أي: يظفروا بكم ﴿يكونوا لكم أعداءً﴾ أي: يُظهروا ما في قلوبهم من العداوة، ويُرتبوا عليها أحكامها، ﴿ويبسُطُوا إِليكم أيديَهم وألسنتهم بالسوء﴾ ؛ بما يسوؤكم من القتل والأسر. ﴿ووَدُّوا لو تكفرون﴾ أي: تمنُّوا ارتدادكم. وصيغة الماضي لتحقُّق ودادهم قبل أن يثقفوكم.
﴿لن تنفَعَكُم أرحامُكُم﴾ ؛ قراباتكم ﴿ولا أولادُكم﴾ الذين تُوالون المشركين لأجلهم، وتتقرّبون إليهم محاماةً عليهم، ﴿يومَ القِيامة يَفْصِلُ بينكم﴾ وبين أقاربكم
21
وأولادكم، بما اعتراكم من أهوال ذلك اليوم، حسبما نطق به قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ... ﴾ [عبس: ٣٤-٣٦] الآيات، ويحتمل أن يكون ظرفًا لـ " تنفعكم "، أي: لا تنفعكم أقاربكم يوم القيامة، ثم استأنف بقوله: ﴿يفصل بينكم﴾ لبيان عدم نفعهم. وهنا قراءات بيّنّاها في غير هذا. ﴿والله بما تعملون بصيرٌ﴾ فيجازيكم على أعمالكم.
الإشارة: أعدى الأعادي إليك نفسك، فهي عدوة لله ولرسوله ولأوليائه؛ لأنها أمّارة بالسوء، ويُضاف إليها جنودها، فيقال ﴿يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء﴾، من النفس وجنودها، تُلقون إليهم بالمودّة والموافقة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق من طريق المجاهدة، يُخرجون الرسول: الوارد الحقيقي، أو الإيمان العياني، من قلوبكم، ويُخرجونكم من الحضرة كراهةَ أن تُؤمنوا بالله ربكم إيماناً حقيقيًّا، إن كنتم خرجتم عن هواكم جهادًا في سبيلي، وابتغاء مرضاتي ومعرفتي، تُسِرُّون إليه بالمودة والموافقة، وأنا أعلم بما أخفيتم من الميل إلى حظوظها، وما أعلنتم، ومَن يفعله ـ أي: الميل عن طريق المجاهدة ـ فقد ضلّ سواء السبيل؛ طريق الوصول، فقد قيل: " مَن رأيته يتبع الرُخص والشهوات، فاعلم أنه لا يأتي منه شيء ". لن تنفعكم أقاربكم ولا حظوظكم، بدلاً من الله شيئًا " ماذا وجَدَ من فقدك "، فالحظوظ الفانية تفنى وتبقى الحسرة والندامة. يوم القيامة يفصلُ بينكم وبينها؛ لفنائها، أو بينكم وبين ما تشتهون من دوام النظرة، والله بما تعملون بصيرٌ، فيُجازي على قدر الكدّ والتعب.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿قد كانت لكم أُسوةٌ﴾ أي: قدوة ﴿حسنةٌ﴾ أو: خصلة حميدة، حقيقة بأن يُرتقى بها ويُقتدى، كائنة ﴿في إِبراهيمَ والذين معه﴾ من أصحابه المؤمنين، أو: الأنبياء المعاصرين له، وقريبًا من عصره، ورجّحه الطبري وغيره؛ لأنه لم يروا لإبراهيم أتباع مؤمنون وقت مكافحته نمرودًا. وقد قال لسارة، حين رحل بها إلى الشام: " ليس على وجه الأرض مَن يعبد الله غيري وغيرك ". ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ﴾، جمْع بريء، كظريف وظرفاء، أي: نتبرأ مِّنْكُمْ ﴿وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ من الأصنام، ﴿كَفَرنا بكم﴾ أي: بدينكم، أو: معبودكم، أو: بكم وبأصنامكم، فلا نعتد
22
بشأنكم وبآلهتكم، ﴿وبدا بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاءُ أبداً﴾ أي: هذا دأبنا أبداً ﴿حتى تُؤمنوا بالله وَحْدَه﴾ وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك، فتنقلب العداوة حينئذ ولاية، والبغضاء محبة.
وحاصل الآية: أنّ الحق تعالى يقول: إن كانت عداوة الكفار لكم إنما هي لأجل إيمانكم بالحق، فعادوهم أنتم، وكافحوهم بالعداوة، وأَظْهِروا البغضاء لهم والمقت، وصَرِّحوا أنّ سبب العداوة ليس إلاّ كفركم بالله، وما دام هذا السبب قائمًا كانت العداوة، حتى إن أزلتموه انقلبت العداوةُ مولاةً، وأنتم مقتدون في ذلك بالخليل عليه السلام وسائر الأنبياء، حيث كافحوا الكفارَ بالعداوة، وتوكّلوا على الله. قال ابن عطية: هذه الأسوة مقيّدة بالتبرِّي من المشركين وإشراكهم، وهو مطرد في كل ملة، وفي نبينا ﷺ أسوة حسنة على الإطلاق، في العقائد وفي أحكام الشرع. هـ.
فلكم أسوة فيمن تقدّم. ﴿إِلاَّ قولَ إِبراهيمَ لأبيه لأَستغفرنَّ لك﴾، وذلك لموعدةٍ وعدها إياه، أي: اقتدوا به في كل شيء، ولا تقتدوا به في استغفاره لأبيه الكافر. واستغفاره عليه السلام لأبيه الكافر جائز عقلاً وشرعاً قبل النهي، لوقوعه قبل تبيُّن أنه من أصحاب الجحيم، لكنه ليس مما ينبغي أن يُؤتسى به أصلاً. ﴿وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله من شيءٍ﴾ أي: من هداية ومغفرة وتوفيق. وهذه الجملة من تمام قول المستثنى، كأنه قال: أستغفرُ لك وما في طاقتي إلاّ الاستغفار، إظهاراً للعجز وتفويضاً للأمر. ﴿ربنا عليك توكلنا وإِليك أَنَبْنا﴾ أي: أَقبلنا، ﴿وإِليك المصيرُ﴾ ؛ المرجع، وهو من تمام ما نقل عن إبراهيم عليه السلام ومَن معه مِن الأسوة الحسنة، وهو راجع لِما قبل الاستثناء، قالوه بعد المهاجرة ونشر البغضاء، التجاء إلى الله تعالى في جميع أمورهم، لا سيما في موافقة الكفرة، وكفاية شرورهم، وقيل: معناه: قولوا، فيكون أبتداء كلام خطاباً لهذه الأمة، وضعّفه أبو السعود. وتقديم المعمول لقصر التوكُّل والإنابة والمصير عليه تعالى.
﴿ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا﴾ بأن تُسلطهم علينا، فيفتنونا بعذاب لا نُطيقه، ﴿واغفر لنا﴾ ما فرط منا، ﴿ربنا إِنك أنت العزيزُ﴾ الذي لا يذلّ مَن التجأ إليه، ولا يخيب رجاء مَن توكل عليه، ﴿الحكيمُ﴾ الذي لا يفعل إلاَّ ما فيه حكمة بالغة. وتكرير النداء للمبالغة في التضرُّع والالتجاء.
﴿لقد كان لكم فيهم﴾ ؛ في إبراهيم ومَن معه ﴿أُسوةٌ حسنةً﴾، تكرير للمبالغة في الحث على الاقتداء به، ولذلك صدّره بالقسم. وقوله: ﴿لمَن كان يرجو اللهَ واليومَ الآخر﴾ بدل من " لكم "، وحكمته: الإيذان بأن مَن يؤمن بالله واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم، وأنّ تركه مخلّ بالإيمان بهما، كما ينبىء عنه قوله تعالى: ﴿ومَن يتولَّ فإِنَّ اللهَ هو الغنيُّ الحميدُ﴾، فإنه إنما يُوعَد بأمثاله الكفرة، أي: هو الغني عن الخلق، الحميد المستحق للحمد وحده.
23
الإشارة: ينبغي للمريد أن يكون إبراهيميًّا، يتبرأ من كلَّ ما يشغله عن الله، أيًّا مَن كان، ويظهر العداوة والبغضاء لكل مَن يقطعه عن مولاه، حتى يوافقه على طريقه وسيرته، إلاّ على وجه النصيحة والدعاء إلى الله، إن كان أهلاً لذلك، فيُذكِّر مَن خالفه في طريقه، فإن أيس منه استغفر له، ودعا له بالهداية، مُقرًّا بالعجز عن هدايته وتوفيقه، ثم يلتجىء إلى مولاه في جميع أموره، ويتحصّن بالله من فتنة أهل الظلم والغفلة. والله غالب على أمره.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿عسى اللهُ أن يجعلَ بينكم وبين الذين عادَيْتم منهم﴾ ؛ من أقاربكم المشركين، ﴿مودةً﴾ بأن يُوافقوكم في الدين. وَعَدهم بذلك لما رأى منهم من التصلُّب في الدين، والتشديد في معاداة أقربائهم، تطييباً لقلوبهم، ولقد أنجز وَعْدَه الكريم، فأسْلَم كثير منهم يوم فتح مكة، فتصافوا، وتوادوا، وصاروا أولياء وإخواناً، وخالَطوهم وناكَحوهم. و " عسى " من الله واجبة الوقوع. ﴿واللهُ قديرٌ﴾ أي: مبالغ في القدرة على تغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة، ﴿واللهُ غفور رحيم﴾، فيغفر لمَن أسلم من المؤمنين ويرحمهم، أو: غفور لما فَرَط منكم من مولاتهم قبلُ، وما بقي في قلوبكم من ميل الطبع إلى الرحم بعدُ، رحيم لمَن لم تبقَ فيه بقية.
الإشارة: عسى الله أن يجعل بينكم وبين نفوسكم، التي عاديتموها وخالفتموها، وقطعتم مواد هواها، مودةً، حين تتهذّب وتتأدّب وترتاض بالمجاهدة، فالواجب حينئذ البرور بها، والإحسان إليها، لأنها انقلبت روحانية، تصطاد بها العلوم اللدنية، والمعارف الربانية، وفيها يقول شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه:
سايس من النفس جهدك
صبّح ومس عليها
لعلها تدخل في يدك
تعود تصطاد بها
فالآية تسلية وترجية لأهل المجاهدة من السائرين دون الواصلين؛ فإنّ المجاهدة لا تكون إلاّ قبل المشاهدة، أو: تكون تسلية لهم عند مقاطعة أقاربهم وعشائرهم، حين فرُّوا عنهم لله، بأن يهديهم الله، حتى يوافقوهم على طريقهم. وبالله التوفيق.
يقول الحق جل جلاله: ﴿لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تَبروهم﴾ أي: لا ينهاكم عن البر بهؤلاء، فـ " أن تبروهم ": بدل من الموصول، ﴿وتُقْسِطوا إِليهم﴾ أي: تقضوا إليهم بالقسط، أي: بالعدل، ولا تظلموهم، وإذا نهى عن الظلم في حق المشرك، فكيف في حق المسلم؟ ﴿إِن اللهَ يُحب المُقسِطين﴾ ؛ الحاكمين بالعدل، رُوِي أن " قُتَيلةَ بنت عبد العزى " قَدِمَتْ مشركة على بنتها " أسماء بنت أبي بكر " رضي الله عنه، بهدايا، فلم تقبلها، ولم تأذن لها بالدخول فنزلت، وأمرها رسولُ الله ﷺ أن تقبل منها، وتُكرمها، وتُحسن إليها. وقيل: المراد بهم خزاعة، وكانوا صالحوا رسولَ الله ﷺ ألاّ يقاتلوه، ولا يُعينوا عليه. قال المحلي: وهذا قبل الأمر بجهادهم. ومثله لابن عطية، فإنه نقل الخلاف، ثم قال: وعلى أنها في الكفار فالآية منسوخة بالقتال. هـ.
قال الكواشي: نزلت رخصة في صلة الذين لم يُعادوا المؤمنين ولم يُقاتلوهم. ثم قال: وفي هذه الآية دلالة على جواز صلة الكفار، الذين لم ينصبوا لحرب المسلمين، وبِرهم، وإن انقطعت الموالاة بينهم. هـ. قال القشيري: مَن كان فيهم حُسن خُلق، أو للمسلمين منهم رِفْق، أُمروا بالملاينة معهم، شاهد هذه الجملة: " إنَّ الله يُحب الرِّفق في الأمر كله ". هـ. المحشي. وهذا: فيما لا ضرر فيه للمسلمين، وفي المدارك: حكى الدارقطني أنَّ عبدَ وزيرِ المعتضد دخل على القاضي إسماعيل، وكان نصرانيّاً، فقام له ورحّب به، فرأى إنكار مَن عنده، فقال: علمت إنكاركم، وقد قال تعالى: ﴿لا ينهاكم الله... ﴾ الآية، وهذا رجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين المعتضد، وهذا مَن البر، فسكت الجماعةُ عند ذلك. هـ. قال البرزلي: ولعله رأى ذلك ضرورة، وتأنّس بظاهر الآية، وخاف مِن أذاه إن لم يفعل ذلك. هـ.
وفي حديث الجامع: " بُعثتُ بمداراة الناس "، قيل: والفرق بينها وبين المداهنة: أنَّ المداهنة: إظهار الرضا بفعل الفاسق من غير إنكار عليه، والمداراة: هي الرفق في تعليم الجاهل، والملاطفة في نهي الفاسق عن فعله، وقد قال تعالى: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا﴾ [طه: ٤٤]، وقيل: المداهنة: ترك الدين بالدنيا، والمداراة: بيع الدنيا بحفظ الدين.
وقد عَدّ السهروردي في " الآداب " مِن رُخص الصوفية: التكلُّف مع أبناء الدنيا
25
والرؤساء والسلاطين، والقيام لهم، وحسن الإقبال عليهم، والأدب في ذلك: إلاّ يكون طمعاً في دنياهم، ولا اتخاذ جاه عندهم كان ﷺ يدخل عليه سادات قريش فيُكرمهم، ويُجلهم، ويُحسن مجالستهم، وقال: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرِموه " هـ. وانظر الأصل الرابع والثمانين في إنزال الناس منازلهم، فقد ذكر فيه: أن العاقل عن الله يُعاشر الناس على ما دبَّر الله لهم، فالغَنِيّ قد أكرمه الله كرامةَ ابتلاء، كما ذكر في تنزيله، فإذا لم تُنزله المنزلةَ التي أنزله الله فيها، فاستهنت به، وحقّرته من غير جرم استحق بذلك الجفاء، فقد تركتَ موافقة الله في تدبيره، وأفسدت عليه دينه وأثمتَه، وكذلك معاملة الملوك والوُلاة على هذا السبيل، فإذا عاملت الملوك والسلاطين بمعاملة الرعية، فقد استخففت بحق السلطان، وكيف يجوز أن تستخف بحقه، والسلطان ظل الله في الأرض؟ به تسكن النفوس، وتجمع الأمور، والناظر إلى ظل الله عليهم في الشغل عن الالتفات إلى أعمالهم.
ثم ذكر أنّ ضد ما ذكر مِن ضعف المعرفة واليقين، وعدم التخلُّص من النفس، فلم تكن لقوتِهم مطالعة ما ذكر، فخافوا على نفوسهم من مخالطتهم أن يجدوا حلاوة بِرهم، فتخلط قلوبُهم بقلوبهم، فجانبوهم، والآخرون نظروا إليهم بغير الجمع، فشغلوا بما ألبسَهم مِن ظله عن جميع ما هم فيه، فلم يضرهم اختلاطهم بهم. وبهذه القوة كان أصحاب رسول الله ﷺ يلقون الأمراء، الذين قد ظهر جَوْرهم، ويقبلون جوائزهم، فكان ابن دينار ومحمد بن واسع، ومَن قبلهم، والحسن البصري، يلقون الأمراء ويَقبلُون منهم، فكانوا يلقونهم بما ذكر من رؤية ظل الله عليهم، ويُظهرون العطف عليهم والنصيحة لهم.
ثم وَجَّه حديثَ ابن عباس: " ملعون مَن أكرم بالغنى وأهان بالفقر " فإنَّ معناه: مَن عظَّم الدنيا وعظَّم أهلها، فأمّا مَن دقت الدنيا في عينه، يرى أهلَها مُبْتَلون بها، بما تقتضيه من القيام بالشكر، ثم غرقه في حِسَابه، فيرحمه كما يرحم الذي ذهب به السيل، ويكرمه، ويبره بما عَوّده الله، وأبقاه على دينه، لئلا يَفسد، فذلك فعل الأنبياء والأولياء، وبذلك وصَّى رسول الله ﷺ فقال: " إذا أتاكم كريمُ قومٍ فأكرموه " فهو إنما يُكرم لله ويهين لله، لا للدنيا، ومن فعل ذلك للدنيا كان ملعونًا، ثم ذكر حديث: " مَن أُعطي حظه من الرفق أُعطي حظَّه من خير الدنيا والآخرة، من حُرمه حُرم كذلك "، ثم ذكر قصة نسْطُور
26
صاحب ابن مريم عليه السلام ورفقه وتلطُّفه مع ذلك الملك الذي سجن صاحبيْه، حتى استخلصهما منه برفق، وأعلم الملكَ وجميعَ الناس في قضية عجيبة، فعليك بها.
﴿
إِنما ينهاكم اللهُ عن﴾
موالاة ﴿الذي قاتلوكم في الدين وأَخْرَجوكم من دياركم﴾، وهم عتاة أهل مكة، ﴿وظاهَرُوا﴾ أي: عاوَنُوا ﴿على إِخراجكم﴾ وهم سائر أهلها، ﴿أن تَوَلَّوْهم﴾ : بدل اشتمال من الموصول، والمعنى: لا ينهاكم عن مبرة مَن لم يتعرّض لكم، إنما ينهاكم عمّن أذاكم ﴿أن تَولَّوهُم ومَن يتولهمْ فأولئك هم الظالمون﴾ حيث وضعوا التولي في غير موضعه. الإشارة: لا ينهاكم الله عن النفوس المطيعة، التي لم تصدكم عن السير إلى الحضرة، أن تبرُّوا بها، وترفقوا بها، إنما ينهاكم عن النفوس الفاجرة، التي قاتلتكم، وصدّتكم عن الحضرة، وأخرجتكم عن دائرة الولاية، باتباع هواها أن تولوها، وتسعوا في حظوظها وهواها، ومَن يتولها، وبقي في رِقَّها؛ فقد ظلم نفسه وبخسها، حيث حرمها نعيمَ الحضرة. أو: لا ينهاكم الله عن بعض العامة، التي لا مضرة فيهم، أن تبرهم بالوعظ والتذكير، وتُقسطوا إليهم بقول الإحسان، إنما ينهاكم عن أهل الإنكار المخالفين لكم، من الجبابرة الغافلين، والقراء المداهنين، والعلماء المتجبرين، والفقراء الجاهلين، أن تولوهم؛ فإنَّ مخالطتهم سم قاتل للمريد، ومَن يتولهم لا يُفلح أبدًا.
قلت: ﴿إذا جاءكم المؤمناتُ﴾ إنما حُذفت تاء التأنيث للفصل بالمفعول، ورُدّ بأنّ الحذف مع الفصل بغير " إلاّ " مرجوح، والصواب: أنه على حذف الموصوف، أي: النساء المؤمنات، وهو اسم جمع، يجوز في الأمران، كقوله تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ... ﴾ [يوسف: ٣٠].
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمناتُ﴾ أي: مُشْرِفات على الإيمان ونَطَقْن بالشهادة، وإنما ظهر بعد الامتحان، ﴿مُهاجراتٍ﴾ من بين الكفار، ﴿فامْتَحِنُوهن﴾ ؛ فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن للسانهن. كان صلى الله عليه وسلم
27
يستحلفهن: ما خرجن من بُغض زوْج، ولا رغبة من أرض إلى أرض، ولا التماسَ دُنيا، ولا عشقًا لرجل منا بل حبًّا لله ورسوله. وقد كان ﷺ صالح أهلَ مكة على أنَّ مَنْ أسلم منهم يَرُده إليهم، فجاءت " سُبيْعَةُ بنت الحارث " مُسْلِمةً بعد الفراغ من الكتاب، فقال زوجها: اردد عليّ امرأتي، فنزلت، فاستحلفها ﷺ بما تقدّم، فحلفت، فلم يردها عليه، وأعطى مهرها زوجَها، فتزوجها عمرُ، فكان ﷺ يَرُد مَن جاء من الرجال، ولا يَرُد النساء. وعن ابن عباس: امتحانها: أن تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله.
﴿اللهُ أعلم بإِيمانهن﴾، لأنه المُطّلع على قلوبهن. وفيه إشارة إلى التخفيف في الامتحان، وأنه ليس المطلوب غايته لتصلوا إلى العلم، بل ما يحصل به الظن القوي، وأما العلم فخاص بالله تعالى. ﴿فإِن عَلِمْتُموهن مؤمناتٍ﴾، العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظن القوي، بظهور الأمارات. وتسمية الظن علمًا يُؤذن بأنَّ الظن الغالب، وما يفضي إليه القياس، جارٍ مجرى العلم، وصاحبه غير داخل في قوله: ﴿وَلآ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ﴾ [الإسراء: ٣٦]. قاله النسفي. ﴿فلا تَرْجِعُوهنَّ إِلى الكفار﴾ أي: إلى أزواجهن الكفرة، ﴿لا هُنَّ حِلٌّ لهم، ولا هم يَحِلُّونَ لهن﴾، تعليل للنهي، أي: حيث خرجت مسلمة حَرُمت على المشرك. والتكرير إما لتأكيد الحرمة، أو الأول: لبيان زوال النكاح الأول، والثاني: لبيان امتناع النكاح الجديد، ما دام مشركاً، فإنْ أسلم في عِدتها كان أولى بها.
﴿
وآتوهم ما أنفقوا﴾
أي: أعطوا أزواجَهن مثلَ ما دفعوا من المهور، ﴿ولا جُناحَ عليكم أن تَنكحوهن﴾، فإنَّ إسلامهن حالَ بينهن وبين أزواجهن الكفار، ﴿إِذا آتيتموهن أُجورهنَّ﴾ ؛ مهورهن؛ لأنّ المهر أجر البُضْع، وبه احتجّ أبو حنيفة على ألاّ عِدَّة على المهاجِرة. قال الكواشي: أباح تعالى نكاحهن وإن كان لهن أزواج في دار الحرب؛ لأنَّ الإسلام فرّق بينهن وبين أزواجهن بعد انقضاء العدة، فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي امرأته عند مالك والشافعي وأحمد، خلافًاً لأبي حنيفة في غير الحامل. هـ. ﴿ولا تُمسكوا بِعِصَم الكوافرٍ﴾، العصمة: ما يعتصم به من عقدٍ وسبب. والكوافر: جمع كافرة، وهي التي بقيت في دار الحرب، أو: لحقت بدار الحرب مرتدةً، أي: لا يكن بينكم وبين النساء الكوافر عصمة ولا عُلقة زوجية. قال ابن عباس رضي الله عنه: مَن كانت له امراة كافرة بمكة فلا يعتَدنَّ بها من نسائه؛ لأنَّ اختلاف الدارين قطع عصمتها منه. ولمّا نزلت الآية طلَّق عمرُ رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة، قُرَيْبَة بنت أبي أمية، وأم كلثوم الخزاعية.
﴿واسألوا ما أنفقتم﴾ من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار، أي: اطلبوه من الكفرة، ﴿وَلْيَسْألوا ما أنفقوا﴾ من مهور نسائهم المهاجرات ممن تزوجها منا. ﴿ذلكم حُكْمُ الله﴾ أي: جميع ما ذكر في هذا الآية. وقوله: ﴿يحكم بينكم﴾ : كلام مستأنف أو: حال من " حُكم الله " على حذف الضمير، أي: يحكمه الله، وجعل الحُكْم حاكماً على
28
المبالغة وقال: " يحكم " مستقبلاً، مع أن الحكم ماضٍ باعتبار ظهور متعلقة، ﴿واللهُ عليم حكيمٌ﴾ يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة.
رُوي أنه لمّا نزلت الآية أدّى المؤمنون ما أُمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن من المشركين، وأبى المشركون أن يردُّوا شيئًا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، فنزل قوله تعالى: ﴿وإن فاتكم﴾ أي: سبقكم وانفلت منكم ﴿شيءٌ من أزواجكم إِلى الكفار﴾ أي: أحَدٌ من أزواجكم، وقرىء به. وإيقاع " شيء " موقعه للتحقير والتعميم، ﴿فعاقبتم﴾، من المعاقبة، لا من العقوبة، أي: صرتم منهم إلى الحال التي صاروا إليها منكم، وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجهم، شبّه ما حكم به على المسلمين والكافرين، من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأداء هؤلاء مهور نساء هؤلاء أخرى، بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره. ﴿فآتوا الذين ذهبتْ أزواجُهم﴾ منكم إلى الكفار ﴿مثلَ ما أنفقوا﴾، تُعطوه من مهر المهاجرة التي تزوجتموها، ولا تؤتوا زوجها الكافر شيئًا، أي: ما كنتم تُعطونه للكفار من مهور أزواجهم المهاجرات أعطوه لمَن فاتت زوجته ولحقت بالكفار، فأزال الله دفعها إليهم، حين لم يرضوا بحُكمه، على أنّ هذا حكم قد نُسخ. قال ابن عطية: وهذه الآية كلها قد ارتفع حكمها. هـ. وذكر الكواشي الخلاف في النسخ وعدمه، وأنَّ رد المال مستمر، وذكر الخلاف في أنَّ الإنفاق كان على الوجوب أو الندب. هـ.
وقيل: معنى " فعاقبتم " من العقوبة، أي: فأصبتموهم في القتال، حتى غنمتم، فأعطوا المسلمين الذين ارتدت زوجاتهم، ولحقْن بدار الحرب مهورَ زوجاتهم من هذه الغنيمة. قال ابن عباس: خمس نسوة رجعن عن الإسلام، ولحقن بالمشركين، من نساء المهاجرين: أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت عند عياض بن شداد، وفاطمة بنت أبي أمية، أخت أم سلمة، وكانت تحت عمر بن الخطاب، وعزةُ بنت عبد العزى، كانت تحت هشام بن العاص، وأم كلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر أيضًا، فأعطاهم النبي ﷺ مهور نسائهم من الغنيمة. هـ. ﴿واتقوا اللهَ الذي أنتم به مؤمنون﴾ أي: احذروا أن تتعدُّوا ما أُمرتم به؛ فإن الإيمان يقتضي فعل ما أمر به صاحبه.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا إيمان الخصوص، وهم المشايخ العارفون؛ إذا جاءكم النفوس المؤمنه بطريقكم، وأرادوا الانخراط في سلككم، فامتحنونهن، هل هي صادقة الطلب، أو تريد حرفًا من حروف الهوى، فإن علمتم صدقهن، فلا تردجعوهن إلى أهل الغفلة، سيما أهل الإنكار؛ إذ لا يحل مخالطتهم في طريق الخصوص، وآتوهم من العلوم والمعارف عِوض ما أنفقوا من أنفسهم وأموالهم، ولاجناح عليكم أن تعقدوا عليهم عقدة الإرادة، التي هي كعقدة النكاح إذا آتيتموهن أجورهن، وهو أن تبذلوا لهم ما عندكم من
29
السر، قدر ما يطيقون، ومن نقض العهد ورجع عن الإرادة فلا تُمسكوا بعصمته، وأطلقوه مع نفسه، فإن سألكم شيئًا مما كان بذل فسلوه عوض ما بذلتم له من العلم، وإن رجع أحد منكم إلى أهل الإنكار، ثم جاء أحد منهم إليكم فآتوه من العلم ما آتيتم مَن فرّ منكم، واتقوا الله الذي توجهتم إليه، فلا تُعطوا السر مَن لا يستحقه، ولا تمنعوه من مستحقه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها النبي إِذا جاءك المؤمناتُ﴾ حال كونهن ﴿يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أوْلادَهُن﴾، يريد: وأد البنات، ﴿وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ﴾، كانت المرأة تلتقط المولود، فتقول لزوجها: هو ولدي منك. كنَّى بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقه بزوجها كذباً؛ لأنّ بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، وفرجها الذي تلد منه بين الرِجلْين. ﴿ولا يَعْصِينَكَ في معروفٍ﴾ أي: فيما تأمرهن من معروف، وتنهاهن عن منكر. والتعبير بالمعروف مع أنّ الرسول ﷺ لا يأمر إلاّ به؛ للتنبيه على أنه لا تجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق. وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهن؛ لكثرة وقوعها فيهن. ﴿فبايعْهُنَّ﴾ على ما ذكر وما لم يذكر؛ لوضوح أمره، ﴿واسْتَغفِرْ لهنَّ اللهَ﴾ فيما مضى، ﴿إِنَّ الله غفور رحيمٌ﴾ أي: مبالغ في المغفرة والرحمة، فيغفر لهن ويرحمهن إذا وَفَّيْن بما بايعن عليه.
رُوي: أنه ﷺ لمّا فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء، وهو على الصفا، وعُمرُ قاعد أسفل منه، يُبايعهنّ عنه بأمره، وهند بنت عتبة ـ امراة أبي سفيان ـ متقنّعه متنكّرة مع النساء، خوفًا من النبي صلى الله عليه سلم أن يعرفها، فقال صلى الله عليه وسلم: " أبايعكن على ألا تُشركن بالله شيئًا " فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا شيئًا ما رأيتك أخذته على الرجال ـ لأنه عليه السلام بايع الرجال على الإسلام والجهاد فقط ـ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ولا تسرقن " فقالت هند: إنّ أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصَبتُ منم ماله هَنَاتٍ، فقال أبو سفيان: هو لك حلال، فقال: " ولا تزنين " فقالت هند: أَوَتزني الحُرّة؟ فقال: " ولا تقتلن أولادكنّ "، فقالت هند: رَبيناهم صغارًا وقتلتموهم كبارًا، وكان ابنها قُتل يوم بدر، فقال: " ولا تأتين ببهتان... " الخ، فقالت هند: والله إنّ البهتان لقبيح، وما تأمرنا إلاّ بالرشد ومكارم الأخلاق! فقال: " ولا تعصين في معروف " فقالت: وما جلسنا في مجلسنا
30
هذا وفي أنفسان أن نعصيك في شيء، فأقرّ النسوةُ بما أخذ عليهن.
وقالت أميمة: يا رسول الله، صافحْنا؟ فقال: " إني لا أُصافح النساء، إنما قَوْلي لامرأة كقولي لمائة امرأة "، قالت عائشة: ما مست يدُ رسولِ الله ﷺ يدَ امرأةٍ قط، إنما بايعهن كلامًا، وقيل: لفّ على يده ثوبًا، وقيل: غمس يده في قدح، فغمسْن أيديهن فيه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الشيخ في قومه كالنبي في أمته، فيُقال له: إذا جاءك النفوسُ المؤمنةُ يُبايعنك على ألا ترى مع الله شيئاً، ولا تميل إلى الدنيا، ولا إلى الهوى، ولا تهمل ما تنتج أفكارُها من الواردات، ولا تأتي ببهتان تفتريه؛ بأن تنسب فعلاً إلى غير الله، أو بأن تكذب في أحوالها وأقوالها، ولا تعصي فيما تأمرها وتنهاها، فإن جاءت على ما ذكر فبايعها واستغفِر لها الله فيما فرّطت فيه، إنّ الله غفور رحيم.
31
سورة الصف
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿سَبَّح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيزُ الحكيم﴾. ولمَّا قال بعضُ الصحابة: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لبذلنا في أموالنا، فنزلت أية الجهاد، فتباطأ بعضُهم، فنزلت: ﴿يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون﴾. وقيل: لمَّا أخبر الله بثواب شهداء بدر، فقالوا: والله لئن شَهِدنا قتالاً لنُفْرِغَنَّ فيه وُسْعَنا، ففرُّوا يوم أُحُد، فنزلت. وقيل: نزلت فيمن يمدح كذباً، حيث كان يقول: قتلتُ، ولم يقتل، وطعنتُ، ولم يطعن، وقيل: كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر ونكأ فيهم، فقتله صُهيب، وانتحل قتله آخر، فنزلت في المنتحِل. أي: لأيّ شيء تقولونه من الخير والمعروف، على أنّ مدار التوبيخ إنما هو عدم فعلهم، وإنما وجّه إلى قولهم تنبيهاً على تضاعيف معصيتهم، لبيان أنَّ المنكَر ليس ترك الخير الموعود فقط، بل الوعد به أيضاً، وقد كانوا يحسبونه معروفاً، ولو قيل: لِمَ لا تفعلون ما تقولون، لفُهم منه أنّ المنكَر إنما هو ترك المفعول.
﴿كَبُرَ مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون﴾، هو بيان لغاية قُبح ما فعلوا، وفرط سماحته، و " كَبُرَ " جارية مجرى نعم، بزيادة معنى التعجُّب، ومعنى التعجُّب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين؛ لأنّ التعجُّب لا يكون إلاّ مِن شيءٍ خارج عن نظائره، وفي " كَبُرَ " ضمير مبهَم مفسَّر بالنكرة بعده، و " أن تقولوا " هو المخصوص بالذم، وقيل: قصد فيه التعجُّب من غير لفظه، وأُسند إلى " إن تقولوا "، ونصب " مقتاً " على تفسيره، دلالةً على أنّ
33
قولهم ما لا يفعلون مقتٌ خالص لا شوب فيه، كأنه قيل: ما أكبر مقتاً قولهم بلا عمل.
ثم بيَّن ما هو مَرْضِي عنده، بعد بيان ما هو ممقوت بقوله: ﴿إِنَّ اللهَ يُحب الذين يُقاتِلون في سبيله﴾، وهو المقصود بالذات من السورة؛ وقوله: ﴿صفًّا﴾ أي: صافِّين أنفسهم، أو مصفوفين، مصدر وقع موقع الحال، ﴿كأنهم بُنيان مرصُوص﴾ ؛ لاصق بعضه ببعض، وقيل: أريد: استواء نيّاتهم في حرب عدوّهم، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان الذي رُصَّ بعضه إلى بعض، وهو حالٌ أيضاً، أي: مشبّهين بالبنيان الملاصق. قال ابن عرفة: التشبيه في الثبات وعدم الفرار كثبوت البناء ولزومه. هـ.
الإشارة: ﴿سَبَّحَ لله﴾، قال الورتجبي: لمَّا عاينوا آيات الله طلبوا فيها مشاهدة الله، فوجدوا في نفوسهم تأثير مباشرة نور قدرة الله، فقدَّسُوه أنه باين بوجوده من الحدثان. هـ. قوله تعالى: ﴿كَبُرَ مقتًا﴾... الخ، قال القشيري: خُلفُ الوعد مع كلِّ أحدٍ قبيحٌ، ومع الله أقبح، ويُقال: إظهارُ التجلُّدِ من غير شهودِ مواضعَ الفقر إلى الحقِّ في كل نَفَسٍ يؤذِنُ بالبقاء مع ما حصل به الدعوى، واللهُ يحب التبرِّي من الحول والقوة. ويقال: لم يتوعَّد على زَلَّةٍ بمثْلِ ما توعَّد على هذا، بقوله: ﴿كَبُرَ مقتا عند الله﴾. هـ. ولذا فرّ كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير، وآثروا السكوت، كما قال بعضهم:
لو كان ينفعني وعظي وعظتُكم
أنا الغريق فما خوفي مِن البلل
قال أبو زيد الثعالبي: وهذا إن وَجد مَن يكفيه ويقوم عنه في الوعظ، وإلاّ فلا ينبغي السكوت. قال الباجي في سنن الصالحين، عن الأصمعي: بلغني أنَّ بعض الحُكماء كان يقول: إني لأعظكم، وإني لكبير الذنوب، ولو أنَّ أحداً لا يعظ أخاه حتى يُحْكِم أمرَ نفسه لتُرك الأمر بالخير، واقتُصر على الشر، ولكن محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس، وتذكير مِن النسيان. وقال أبو حازم: إني لأعظ الناسَ، وما أنا بموضع الوعظ، ولكن أُريد به نفسي. هـ. قلت: وكان شيخ شيوخنا سيدي على الجمل العمراني رضي الله عنه يقول حين يُذَكِّر: نحْن ما ننبَحُ إلاّ على نفوسنا. هـ.
ثم قال: وقال الحسن لِمطرف: عِظ أصحابك، فقال: أخاف أنْ أقولَ ما لا أفعل، فقال: يرحمك الله، وأيّنا يفعل ما يقول، ودّ الشيطانُ لو ظفر منكم بهذه، فلم يأمر أحدٌ منكم بمعروف ولم ينهَ عن منكر. هـ. وفي حديث الجامع: " مُروا بالمَعْرُوفِ وإنْ لَمْ تَفعلُوه، وانْهَوْا عَنِ المنكرِ وإنْ لم تَتجنبُوه " وقال الغزالي: مَن ترك العمل خوف الآفة والرياء، فإنَّ ذلك منتهى بغية الشيطان منه، إذ المراد منه ألاَّ يفوته الإخلاص، ومهما ترك العمل فقد ضيَّع العمل والإخلاص. هـ. قلت: ولا شك أنَّ الوعظ مِن المخلصين وأهل
34
القلوب، أشد تأثيراً من غيرهم، فإنَّ الكلامَ إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان حدّه الآذان، وفي الحِكَم: " تسبق أنوارُ الحكماء أقوالَهم، فحيث ما صار التنوير وصل التعبير ". فأهل النور تسري أنوارُهم في الجالسين قبل أن يتكلموا، وربما انتفع الناسُ بصمتهم، كما ينتفعون بكلامهم، وأمّا أهل الظُلمة ـ وهو مَن في قلبه حُب الدنيا ـ فكلامهم قليل الجدوى، تسبق ظلمةُ قلوبهم إلى قلوب السامعين، فلا ينتفع إلاّ القليل.
يقول الحق جلّ جلاله: واذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين عن الجهاد قول موسى لبنى إسرائيل، حين ندبهم إلى قتل الجبابرة، بقوله: ﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ [المائدة: ٢١] الآية، فلم يمتثلوا أمره، وعصوه أشد عِصيان، حيث قالوا: ﴿يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ... ﴾ [المائدة: ٢٢] الآية، إلى أن قالوا: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ... ﴾ [المائدة: ٢٤] الآية. وآذوه عليه السلام كل الإذاية فقال: ﴿يا قوم لِمَ تُؤذونني وقد تعلمون أني رسولُ الله إِليكم﴾، فالجملة: حال، والحال أنكم تعلمون عِلماً قطعياً، مستمراً، بمشاهدة ما ترون من المعجزات الباهرة، إَني رسولُ الله إليكم، لأُرشدكم إلى خير الدنيا والأخرة، ومِن قضية عِلْمكم أن تُبالغوا في تعظيمي، وتُسارعوا إلى طاعتي، ﴿فلما زاغوا﴾ أي: أصرُّوا على الزيغ عن الحق الذي جاءهم به، واستمروا عليه ﴿أزاغ اللهُ قلوبَهم﴾ ؛ صرفها عن قبول الحق، والميل إلى الصواب، لصرف اختيارهم نحو الغيّ والإضلال، ﴿واللهُ لا يهدي القوم الفاسقين﴾ أي: لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق، المصرِّين على الغواية، هدايةً موصّلَة إلى الطاعة وحسن الأدب، والمراد بهم المذكورون خاصة، والإظهار في موضع الإضمار لذمِّهم بالفسق وتعليل عدم الهداية، أو جنس الفاسقين، وهم داخلون في حكمهم دخولاً أوليًّا، وأَيًّا ما كان فوصفهم بالفسق نظر إلى ما في قوله تعالى: ﴿فافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ﴾ [المائدة: ٢٥]، هذا الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم،
35
ويرتضيه الذوق السليم. انظر أبا السعود.
﴿
وإِذ قال عيسى ابنُ مريم يا بني إِسرائيلَ﴾
، لم يقل: يا قوم، كما قال موسى، لأنه لا نسب له فيهم من جهة الأب، حتى يكونوا مِن قومه: ﴿إِني رسولُ الله إِليكم﴾، كان رسولاً لهم ولمَن دخل معهم، كالنصارى، ﴿مُصَدِّقًا لما بين يديَّ مِن التوراة﴾، وهو من إحدى الدواعي إلى تصديقهم إياه، ﴿ومُبشِّرًا برسولٍ يأتي من بعدي﴾، وهو من الدواعي أيضاً إلى تصديقه؛ لأنَّ بشارته به عليه السلام واقعة في التوراة، أي: أُرسلت إليكم في حال تصديقي للتوراة، وفي حال بشارتي برسول يأتي من بعدي، يعني: أنَّ ديني التصديق بكتب الله وأنبيائه، مَن تقدّم ومَن تأخّر، وهذا الرسول ﴿اسمُه أحمدُ﴾ وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
قال القشيري: كل نبيًّ بشّر قومَه بنبيِّنا صلى الله وعليه وسلم، وأفرد اللهُ عيسى بالذِّكْرِ في هذا الموضع لأنه أخِرُ نبيِّ قبل نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، فبيّن أنّ البشارة به عَمَّتْ جميعَ الأنبياء واحداً بعد واحدٍ حتى انتهى إلى عيسى عليه السلام. هـ. قال الكواشي: و " أحمد " بناء مبالغة، والمعنى: أنَّ الأنبياء كلهم حمّادون الله، وهو أكثر حمداً مِن غيره، وكلهم محمودون لِما فيهم جميل الأخلاق، وهو أكثرهم خِلالاً حميدة. ثم قال: وعن كعب: قال الحواريون: يا روح الله؛ هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم، أمة أحمد، حكماء، علماء، أبراراً، أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى باليسير من العمل. هـ. وقال السهيلي: في اسمه " أحمد ومحمد " إشارة إلى كونه خاتماً؛ لأنَّ الحمد مشروع عند انقضاء الأمور واختتامها وتمامها. هـ.
﴿فلما جاءَهم﴾ أيك عيسى، أو محمد ـ عليهما السلام ـ ﴿بالبيناتِ﴾ ؛ المعجزات الظاهرة، ﴿قالوا هذا سِحرٌ مبين﴾ ؛ ظاهر سحريته، وقرأ الإخوان " ساحر " وصف للرسول.
﴿ومَن أظلمُ ممن افترى على الله الكذبَ وهو يُدْعَى إِلى الإِسلام﴾ أي: أيّ الناس أشد ظلماً ممن يُدْعى إلى سعادة الدارين، فيضع موضع الإجابة الافتراءَ على الله عزّ وجل، بقوله لكلامه الذي دعا عباده إلى الحق: هذا سحر؟ أي: هو أظلم من كل ظالم، ﴿واللهُ لا يهدي القومَ الظالمين﴾ أي: لا يُرشدهم إلى ما فيه صلاحهم؛ لعدم توجههم إليه. ﴿يُريدون لِيُطفئوا نورَ الله بإفواههم﴾ أي: دينه أو: كتابه، أو حجته النيِّرة، واللام مزيدة، أي: يُريدون إطفاءَ نور الله، أو للتعليل والمفعول محذوف، أي: يريدون الكذب ليُطفئوا نورَ الله، وهو تهكُّم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام، بقولهم في القرآن: هذا سحر، مُثِّلت حالهم بحال مَن ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه، ﴿والله مُتِم نُوره﴾ أي: مبلغه إلى غاية يُنشره في الآفاق، ويُعليه على الأديان ﴿ولو كَرِه الكافرون﴾.
﴿
هو الذي أرسل رسولَه بالهُدى﴾
؛ بالقرآن، أو بالمعجزات، أو بالهداية ﴿ودين الحق﴾ ؛ الملة الحنيفية ﴿ليُظهره عَلَى الدين كلِّه﴾ أي: ليعليه على جميع الأديان المخالفة
36
له، ولقد أنجز الله ـ عزّ وعلا ـ وعده، حيث جعله بحيث لم يبقَ دين من الأديان إلاَّ وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام. وعن مجاهد: إذا نزل عيسى لم يكن إلا دين الإسلام. هـ. ﴿ولو كَرِه المشركون﴾ ذلك، قال الطيبي: قوله تعالى: ﴿ومَن أظلم... ﴾ الخ، حذَّر تعالى مما لقي قوم موسى من إزاغة القلوب، والحرمان من التوفيق، بسبب الأذى، وما ارتكب قوم عيسى بعد مجيئه بالبينات من تكذيبه وقولهم فيه: " هذا سحر مبين "، ألاَ ترى كيف جمع الكل في قوله: ﴿ومن أظلم... ﴾ الآية، قال: وقضية الدعوة إلى الإسلام توقير مَن يدعو إليه، وإجابة دعوته. ثم قال: وأمّا قوله: ﴿والله لا يهدي القوم الظالمين﴾ هو تذييل لقوله: ﴿ومَن أظلم ممن افترى... ﴾ الآية؛ لأنّ الظلم هو: وضع الشيء في غير محله، وأيُّ ظلم أعظم من جعل إجابة الداعي إلى الله مفترياً؟ ! والكفر: التغطية ومحاولة إطفاء النور إخفاء وتغطية، ودين الحق هو التوحيد، والشركُ يقابله، ولذلك قال: ﴿ولو كره المشركون﴾. هـ.
الإشارة: سوء الأدب مع الأكابر، وإذايتهم، سبب كل طرد وبُعد، وسبب كلّ ذُل وهوان، وحسن الأدب معهم وتعظيمهم، سبب كُلِّ تقريب واصطفاء، وسبب كُلِّ عز ونصر، ولذلك قال الصوفية: " اجعل عَمَلك مِلحًا، وأدبك دقيقًا ". ألآ ترى بنى إسرائيل حين أساؤوا الأدب مع نبي الله موسى بقولهم: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلآ... ﴾ [المائدة: ٢٤] الخ كيف أذلَّهم الله وأخزاهم إلى يوم القيامة، وانظر أصحابَ نبينا ﷺ حيث تأدّبوا غاية الأدب، وقالوا يوم بدر: " لا نقولُ كما قالت بنو إسرائيل: اذهب أنت وربك، ولكن اذهب أنت وربك ونحن معك، والله لو خُضت بنا ضحضاح البحر لخضناه معك " كيف أعزَّهم الله ونصرهم على سائر الأديان، ببركة حُسن أدبهم ـ رضي الله عنهم وأرضاهم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذين آمنوا هل أَدُلُّكُمْ على تجارةٍ تُنجِيكم من عذابٍ أليم﴾، وكأنهم قالوا: وما هذه التجارة، أو: ماذا نصنع؟ فقال: ﴿تؤمنون بالله ورسوله وتُجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفُسِكم﴾، وهو خبر بمعنى الأمر، أي:
37
وجاهِدوا، وجيء به بصيغة الخبر للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنه قد وقع، فأخبر بوقوعه، وقرىء " تؤمنوا " و " تجاهدوا " على إضمار لام الأمر. ﴿ذلكم خير لكم﴾، الإشارة إلى الإيمان والجهاد بقِسْميه، أي: هو خير لكم من أموالكم وأنفسكم ﴿إن كنتم تعلمون﴾ أنه خير لكم، وقد قلتم: لو نعلم أيّ الأعمال أحب إلى الله لسارعنا، فهذا هو أحب الأعمال إلى الله، أو: إن كنتم من أهل العلم؛ فإنَّ الجهلة لا يعتد بأفعالهم.
﴿يَغفر لكم ذنوبكم﴾ : جواب للأمر المدلول بلفظ الخبر، على قول، أو شرط مقدر، أي: إن تُؤمنوا وتُجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم ﴿ويُدْخِلْكم جناتٍ تجري مِن تحتها الأنهارُ ومساكنَ طيبةً﴾ ولا تطيب إلاّ بشهود الحبيب ﴿في جناتِ عَدْن﴾ أي: إقامة لا انتقال عنها. وجنة عدن هي مدينة الجنة ووسطها، يسكنها الصالحون الأبرار من العلماء والشهداء، وفوقها الفردوس، هي مسكن الأنبياء والصدِّيقين من المقربين، هذا هو المشهور، كما في الصحيح، ﴿ذلك الفوزُ العظيمُ﴾ أي: ما ذكر من المغفرة وإدخال الجنة الموصوفة بما ذكر من الأوصاف الجليلة هو الفوز الذي لا فوز وراءه.
﴿
وأُخرى﴾
أي: ولكم إلى هذه النعمة العظيمة نعمةٌُ أخرى عاجلة ﴿تُحبونها﴾ وترغبون فيها، وفيه شيء من التوبيخ على محبة العاجل. ثم فسَّرها بقوله: ﴿نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ﴾ أي: عاجِل، وهو فتح مكة، والنصر على قريش، أو فتح فارس والروم، أو: هل أَدُلكم على تجارةٍ تُنجيكم، وعلى تجارةٍ تُحبونها، وهي نصر وفتح قريب، ﴿وبَشِّر المؤمنين﴾ : عطف على " تؤمنوا " لأنه في معنى الأمر، كأنه قيل لهم: آمنوا وجاهِدوا يُثبكم الله وينصركم، وبشر أيها الرسول بذلك المؤمنين.
﴿يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارَ الله﴾ أي: أنصار دينه ﴿كما قال عيسى ابنُ مريمَ للحواريين مَنْ أنصاري إِلى الله﴾ ؟ أي: مَن يكون مِن جندي ومختصاً بي، متوجهاً إلى الله. ظاهره تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى: ﴿مَن أنصاري إلى الله﴾ ولكنه محمول على المعنى، أي: كونوا أنصارَ الله، كما كان الحواريون أنصارَ عيسى، حينما قال لهم: مَن أنصاري إلى الله؟ ﴿قال الحواريون نحن أنصارُ الله﴾ أي: نحن الذين ينصرون دينه، والحواريون: أصفياؤه، وهم أول مَن آمن به من بني إسرائيل، قاله ابن عباس، وقيل: كانوا اثني عشر رجلاً. وحواري الرجل: صفوته وخاصته، من الحَور، وهو البياض الخالص، وقيل: كانوا قًصَّارين يُحوِّرون الثياب، أي: يُبيّضونها، وقيل: إنما سُمُّوا حواريين لأنهم كانوا يُطهرون النفوس بإقامتهم الدين والعلم، ولمَّا كفرت اليهود بعيسى عليه السلام، وهَمُّوا بقتله، فرَّ مع الحواريين إلى النصارى بقرية يُقال لها: نصرى، فنصوره، فقاتل اليهودَ بهم مع الحواريين، وهذا معنى قوله تعالى: ﴿فآمنت طائفةٌ من بني إسرائيل وكفرت طائفةٌ﴾ به، فقاتلوهم ﴿فإيَّدنا الذين آمنوا﴾ بعيسى عليه السلام ﴿على عدوهم﴾ أي: قوّيناهم ﴿فأصبحوا ظاهِرين﴾ ؛ غالبين عليهم.
38
الإشارة: هل أّدلُكم على تجارةٍ، وهي سلوك طريق التربية، على أيدي الرجال، تُنجيكم من عذاب أليم، وهو غم الحجاب على الدوام؛ تؤمنون بالله ورسوله أولاً، وتجاهدون هواكم وسائرَ العلائق بأموالكم وأنفسكم ثانياً، فالأموال تدفعونها لمن يدلكم على ربكم، والأنفس تُقدمونها لمَن يُربيكم، يَتحكم فيها بما يشاء ﴿في سبيل الله﴾ في الطريق الموصلة إلى حضرته، ﴿ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون﴾ أي: إن كان لكم علم وعقل، فهذا خير لكم، يغفر لكم ذنوبكم، أي: يُغطي مساوئكم، فيُغطي وصفكم بصوفه، ونعتكم بنعته، فيُوصلكم بما منه إليكم، لا بما منكم إليه، ويُدخلكم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم، ومساكن طيبة، هي السكنى والأطمئنان في مقامات اليقين، مع شهود رب العالمين، أو روح الرضا وريحان التسليم، أو الإقامة في حضرة القدس، مع التنزُّه في المقامات، في جنات عدن، وهي الرسوخ والإقامة في جنات المعارف ذلك الفوز العظيم.
﴿
وأُخرى تحبونها﴾
عاجلة، ﴿نصر من الله﴾ : عِزٌّ دائم، ﴿وفتح قريب﴾ هو دخول بلاد المعاني. وقال القشيري: الفتح القريب: الرؤية والزلفة، ويقال: الشهود، ويقال: الوجود أبد الأبد. هـ. ﴿وبَشِّر﴾ بأنهم ظافرون بهذا، إن فعلوا ما أُمروا به. وقال الورتجبي: نصر الله: تأييده الأزلي، الذي سبق للعارفين والموحِّدين، والفتح القريب: كشف نقابه وفتح أبواب وِصاله، بنصره ظهروا على نفوسهم، فقهروها، وبفتحه أبواب الغيب شاهَدوا كل مغيب مستور من أحكام الربوبية وأنوار الألوهية. هـ. وباقي الآية يُرغب في القيام في نصر الدين، وإرشاد العباد إلى الله، حتى تظهر أنوار الدين، وتخمد ظلمة المعاصي والبِدَع من أقطار البلاد، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم.
39
سورة الجمعة
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يُسَبِّحُ لله ما في السمواتِ وما في الأرض﴾، وهذا التسبيح إمّا أن يكون: تسبيح خِلقة، يعني: أنك إذا نظرت إلى شيء دلتك خِلقتُه على وحدانيته تعالى، وتنزيهِه عما لا يليق به، وإمّا أن يكون تسبيح معرفة؛ بأن يخلق في كل شيء ما يعرفه به تعالى وينزّهه، ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿وَإِن مِن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِحُ بحَمدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُون تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤]، أو: تسبيح ضرورة، بأن يُجري اللهُ التسبيحَ على كل جوهر، من غير معرفةٍ له بذلك. قاله النسفي.
﴿الملكِ القُدُّسِ﴾ أي: المنزَّه عما لا يليق به من الكمالات. ولا يُقال: المنزّه عن النقائص؛ إذ لا يصح اتصافه بها حتى تُنفى عنه، وربما يكون نقصاً في حقه، كما يُقال: الملِك ليس بجزار. ﴿العزيزِ الحكيمِ﴾، وقرئت هذه الصفات الأربع بالرفع على المدح.
﴿هو الذي بَعَثَ في الأميين رسولاً منهم﴾ أي: بعث رجلاً أُميًّا في قوم أميين، وقيل: ﴿منهم﴾ : من أنفسهم، يعلمون نَسَبه وأحواله وصِدْقَه. والأُمي: منسوب إلى أميّة العرب؛ لأنهم لايقرؤون ولا يكتبون من بين الأمم. قيل. بُدئت الكتابة في العرب بالطائف، وهم أخذوها من أهل الحيرة، وأهل الحيرة من أهل الأنبار. ﴿يتلو عليهم آياته﴾ ؛
40
القرآن ﴿ويُزكِّيهم﴾ ؛ يطهرهم من الشرك وخبائث الجاهلية، ﴿ويُعَلّمهم الكتابَ﴾ ؛ القرآن ﴿والحكمةَ﴾ ؛ السُنَّة، أو الفقه في الدين، أو إتقان العلم والعمل، ﴿وإِن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين﴾ ؛ كفر وجهالة. و " إن " مخففة، أي: وإن الشأن كانوا في ضلال فظيع، وهو بيان لشدة افتقارهم لمَن يرشدهم، وإزاحة لِمَا عسى أن يتوهم مِن تعلُّمه ﷺ مِن الغير؛ إذ كلهم كانوا مغروقين في الجهل والضلال، ليس فيهم مَن يعلم شيئاً.
﴿وآخرين منهم﴾ : عطف على " الأميين " أي: بعث في الأميين، الذين في عصره، وفي آخرين من الأميين ﴿لَمَّا يلحقوا بهم﴾ أي: لم يلحقوا بهم بعدُ، وسيلحقون، وهم الذين يأتون بعد الصحابة إلى يوم القيامة، وقيل: هم العجم، أي: وآخرين من جنسهم، وقيل: عطف على " يُعلّمهم " أي: يُعلّم أخرين منهم، وعلى كلِّ فدعوته ﷺ عامة. ﴿وهو العزيزُ الحكيم﴾ ؛ المبالغ في العزة والحكمة، ولذلك مكَّن رجلاً أميًّا من ذلك الأمر العظيم، واصطفاه من بين كافة البشر.
﴿
ذلك﴾
الذي امتاز به محمد ﷺ من بين سائر البشر ﴿فضلُ الله﴾ وإحسانه، أو: ذلك التوفيق حتى يؤمنوا من فضل الله، لا باستحقاق، أو الاعتناء بالبعث وعدم الإهمال، مع ما حصل منه من النتائج المذكورة، فضل من الله، وقطع الأسباب في الجملة في استحقاق الفضل؛ إذ علقه بالمشيئة في قوله: ﴿يؤتيه مَن يشاء﴾ تفضُّلاً وعطية، ﴿والله ذو الفضل العظيم﴾ الذي يُستحقر دونه نِعم الدنيا والآخرة. الإشارة: كل مَن لم يعرف الله معرفةَ العيان، فهو من الأميين، فكما مَنَّ الله تعالى على عباده ببعثه الرسول، بعد أن كانوا في ضلالٍ مبين، كذلك مَنَّ على أمته بعده، فبَعَثَ مشايخَ التربية يتلو عليهم آياته الدالة على شهوده وظهوره، ويزكيهم من الرذائل التي تحجبهم عن الله، ويُعلّمهم أسرارَ الكتاب، وأسرارَ الحكمة، وهي الشريعة، إذ لا يوقف على أسرارهما إلاّ بعد تطهير القلوب، وتزكية النفوس، وإن كانوا من قبل ملاقاة المشايخ لفي ضلال مبين، حائدين عن طريق الشهود، وبعث أيضاً في آخرين منهم من يُذكِّرهم ويُعرفهم بالله، وهكذا لا ينقطع الداعي إلى يوم القيامة، لكن لا يصل إليه إلاّ مَن أراد الله أن يوصله إليه، ولذلك قال: ﴿ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء... ﴾ الآية.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿مَثَلُ﴾ اليهود ﴿الذين حُمِّلُوا التوراةَ﴾ أي: كُلِّفوا علمها، والعمل بما فيها، ﴿ثم لم يحملوها﴾ ؛ لم يعملوا بما فيها، فكأنهم لم يحملوها، ﴿كَمَثَلِ الحمارِ يحمل أسفاراً﴾ جمع سفر، وهو الكتاب الكبير، شَبّه اليهودَ بالحمار، فإنهم حملة التوراة وقُرّاؤها وحُفّاظ ما فيها، ثمّ لم يعملوا بها، ولم ينتفعوا بآياتها، وذلك: أنَّ فيها بعث رسولِ الله ﷺ والبشارة به، فلم يؤمنوا، فهم أشبه شيء بحمار حمل كُتباً كباراً من كتب العلم، فهو يشمي بها، ولا يدري منها إلاَّ ما يلحقه من الكدّ والتعب. وفي التلخيص: وَجْهُ الشَبَه: حرمان الانتفاع بأبلغ نافع، مع تحمُّل التعب في استصحابه، وكل مَن عَلِمَ ولم يعمل بعلمه فهذا مثلُه. قال الطيبي: لمّا تمسكت اليهود بقوله: " في الأميين "؛ لأنه خاص بالعرب، أتبعه بضرب المثل لمَن تمسّك بهذه الشبهة، وترك الدلائل الواضحة المسطورة بعموم البعثة، وأنه كالحمار يحمل أسفاراً، ولا يدري ما حمل، ولا ما فيه. هـ. وجملة " يحمل " حال، والعامل فيها، معنى المثل، أو: صفة للحمار؛ إذ ليس المراد به معيناً، فهو كقوله:
ولَقَد أَمُرُّ علُى اللئيم يَسُبُّني...
﴿بئس مثلُ القومِ الذين كذَّبوا بآيات الله﴾ أي: بئس مثلاً مثل القومُ الذين كذّبوا، أو بئس مثل القوم المكذِّبين مثلهم، وهم اليهود الذين كذَّبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿واللهُ لا يهدي القوم الظالمين﴾ وقت اختيارهم الظلمَ، أو: لا يهدي مَن سبق في علمه أنه يكون ظالماً، أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد.
﴿
قل يا أيها الذين هادوا إِن زعمتم أنكم أولياءُ لله من دون الناس فتَمَنَّوا الموتَ إِن كنتم صادقين﴾
، كانوا يقولون: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: ١٨]، أي: إن كان قولكم حقًا، وكنتم على ثقة، فتمنُّوا على الله أن يُميتمكم ويبعثكم سريعاً إلى دار كرامته، التي أعدّها لأوليائه، فإنّ الحبيب يُحب لقاء حبيبه، وينتقل من دار الأكدار، إلى دار السرور والهناء، قال تعالى: ﴿ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم﴾ من الكفر والمعاصي الموجبة للنار. والباء متعلقة بما يدل عليه النفي، أي: يأبون ذلك بسبب ما قدمت أيديهم،
42
﴿والله عليم بالظالمين﴾ أي: بهم. وإيثار الإظهار في موضع الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بالظلم في كل ما يأتون وما يذرون من الأمور، التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل من ولاية الله.
ثم إنهم لم يجسر أحدٌ منهم أن يتمناها، بل فرٌّوا منها، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الموت الذي تفرون منه﴾ ولم تجسروا أن تتمنوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم، ﴿فإنه مُلاقيكم﴾ لا محالة، من خير صارف يلويه، ولا عاطف يُثنيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لو تَمَنَّوه لماتوا من ساعتهم "، وهذه إحدى المعجزات. ودخلت الباء في خبر " إن " مع أنه لا يجوز: إن زيداً فمنطلق؛ لأنَّ " الذي " قد عُرف فيه معنى الشرط والجزاء، كأنه قيل: إن فررتم من أي موت كان؛ من قتال أو غيره، فإنه ملاقيكم، ﴿ثم تُرَدُّون إلى عالم الغيب والشهادة﴾ الذي لاتخفى عليه خافية، ﴿فيُنبئكم بما كنتم تعملون﴾ من الكفر والمعاصي، بأن يجازيكم عليها. قال الكواشي: أكذب اللهُ اليهودَ في ثلاث، افتخروا بأنهم أولياء الله فكذبهم بقوله: ﴿فتَمنَّواالموتَ﴾ وبأنهم أهل الكتاب، والعرب لا كتاب لهم، فشُبِّهوا بالحمار يحمل أسفاراً، وبالسبت، وأنه ليس للمسلمين مثله، فجعل الله لهم الجمعة. هـ. ولذلك ذكرها بإثر تكذيبهم.
الإشارة: مَثَلُ الذي يقرأ القرآن ويتلوه ولا يتدبّر معانيه، أو يقرأ العلم ولا يعمل به، كمثل الحمار.. الخ. وعُروض الموت على النفس، أو العمل أو الحال، ميزان صحيح، فكل حال وعمل، أو شخص هزمه الموت فهو معلول، وحب البقاء للترقِّي والتوسعة في المعرفة محمود، وغيره مذموم، وقد تقدّم في البقرة تفصيل ذلك، فراجعه إن شئت.
وأمّا تمني الموت فقد نُهي عنه، إلاّ لخوف الفتنة، فقد قال ابن عباس لعمر رضي الله عنهما: ما لك تُكثر الدعاء بالموت؟ وما الذي مَلِلت من العيش؟ أما تُقوّم فاسداً وتعين صالحاً؟ فقال عمر: يا بن عباس! كيف لا أتمنى الموت، وأطلب القدوم على الله، ولست أرى في الناس إلاّ فاتحاً فاه لِلعدة من الدنيا إمّا بحق لا يثق به، أو بباطل لا يناله، ولولا أن يسألني ربي عن الناس لفررت منهم، وتصبح الأرض مني بلاقع. هـ.
وقيل لسفيان الثوري: لِمَ تتمنَّ الموت، وقد نهى رسولُ الله ﷺ عنه؟ فقال: إن سألني ربي عن ذلك أقول: لثقتي بك يا رب، وخوفي من الناس، ثم أنشد:
قد قلتُ لمّا مَدَحوا الحياة وأسرفوا
في الموت ألف فضيلة لا تُعرف
فيها أمان لقائه بلقائه
وفراق كل معاشرِ لا يُنصِف
وقال طاوس: لا يحرز المرء إلاَّ حفرته، وأنشدوا:
يبكي الرجالُ على الحياة وقد
أفنى دموعي شوقي إلى الأجل
43
أموت من قبل أن يفر مني
دَهْري فإني منه على وجل
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِذا نودي للصلاة من يوم الجمعة﴾، والإمام على المنبر، و " مِن " بيان لـ " إذا " أو تفسير لها، وقيل: " مِن " بمعنى " في " كقوله: ﴿مَاذَا خَلَقُواْ مِن ألأَرْضِ﴾ [فاطر: ٤٠ والأحقاف: ٤] أي: في الأرض. وإنما سُمي جُمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة، وقيل: أول مَن سمّاها جمعة: كعب بن لؤي، وكان يُسمى العروبة، وقيل: إنَّ الأنصار قالوا قبل الهجرة: لليهود يومٌ يجتمعون فيه في كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلُموا نجعل يوماً نجتمع فيه، فنذكر الله نُصلّي، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم الجمعة، فاجتعوا إلى سعد بن زُرارة، فصلَّى بهم ركعتين، وذكَّرهم، فسموه يومَ الجمعة، لاجتماعهم فيه، فأنزل الله آية الجمعة ـ أي: بعد ذلك ـ تقريراً لفعلهم، فهي أول جمعة كانت في الإسلام. وأما أول جمعة جمعها رسولُ الله ﷺ فهي لمَا قَدِم المدينةَ مهاجراً، نزل قباء، على بَني عَمرو بن عوف، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء الأربعاء والخميس، وأسّس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامداً إلى المدينة، فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف، في بطن وادٍ لهم، وقد بنوا هناك مسجداً، فخطب، وصلّى الجمعة فيه. انظر الثعلبي.
ويم الجمعة سيد الأيام، وفي الحديث: " مَن مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد، ووُقي فتنة القبر ". فإذا نُودي للصلاة ﴿فاسْعَوا إِلى ذكر الله﴾ أي: امشوا واحضروا الخطبة والصلاة ﴿وذَرُوا البيع﴾ أي: اتركوا المعاملة كلها، وإنما خص البيع؛ لأنّ يوم الجمعة كان سوقًا يتكاثر فيه البيع والشراء عند الزوال، فقيل لهم: بادِروا إلى تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، ﴿واسْعَوا إِلى ذكر الله﴾ الذي لا شيء أنفع منه، ﴿ذلكم﴾ أي: السعي إلى ذكر الله ﴿خيرٌ لكم﴾ من البيع والشراء ﴿إِن كنتم تعلمون﴾ الخير والشر الحقيقيين، أو: إن كنتم
44
من أهل العلم.
﴿
فإِذا قُضِيَتِ الصلاةُ﴾
أي: أُدّيت وفرغ منها ﴿فانتشِرُوا في الأرض﴾، أمْرُ إباحة، أي: اخرجوا لإقامة مصالحكم، ﴿وابتغوا من فضل الله﴾ ؛ الرزق، قال ابن عباس: " إنما هي عيادة المريض، وحضور الجنائز، وزيارة أخ في الله " ومثله في الحديث، وعن الحسن: طلب العلم، وقيل: صلاة التطوُّع. ﴿واذكروا اللهَ كثيراً﴾، أي: ذكراً كثيراً، أو زمناً كثيراً، ولا تخصُّوا ذكره بالصلاة، ﴿لعلكم تُفلحون﴾ أي: كي تفوزوا بخير الدارين.
﴿وإِذا رأَوْا تجارة أو لهوا انفَضُّوا إِليها﴾، رُوي أنّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد، فقَدِم دِحْيَة بن خَليفةَ، بتجارة من زيت الشام، والنبيُّ ﷺ يخطب يوم الجمعة، فقاموا إليها؛ خشية أن يُسبقوا إليه، فما بقي معه عليه السلام إلاّ ثمانية، أو اثنا عشر؛ العشرة المبشَّرون بالجنة، وبلال وابن مسعود، وقيل: أربعون، وهذا مبنى الخلاف في عدد الجماعة التي تنعقد بهم وتجب عليهم، فقال مالك: تنعقد باثني عشر غير الإمام، وتجب على قرية يُمكنهم الإقامة والدفع عن أنفسهم في الغالب، وقال الشافعي: أربعون رجلاً وقال أبو حنيفة: لا بد من المصر الجامع، والسلطان القاهر، وتصح الصلاة عنده بأربعة. ولمّا انفضُّوا قال صلى الله عليه وسلم: " والذي نفس محمد بيده لو قاموا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً " وفي مراسيل أبي داود: إنّ الخطبة كانت بعد الصلاة، فتأو‍ّلوا ـ رضي الله عنهم ـ أنهم قد قضوا ما عليهم، فحولت الخطبة بعد ذلك قبل الصلاة. هـ.
وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، وهو المراد باللهو. وتخصيص التجارة برجْع الضمير إليها؛ لأنها المقصودة، أو لأن الانفضاض إذا كان للتجارة مع الحاجة إليها مذموماً، فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو، فهو مذموم في نفسه، وقيل: التقدير: إذا رأوا تجارة انفضُّوا إليها، أو لهواً انفضُّوا إليه، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه. وقال أبو حيان: وإنما قال: " إليها "، ولم يقل: إليهما، لأن العطف بـ " أو " لا يثنى فيه الضمير، بل يفرد، وقال الطيبي: الضمير راجع إلى اللهو، باعتبار المعنى، والسر فيه: أنَّ التجارة إذا شغلت المكلّف عن الذكر عُدت لهواً، وتعد فضلاً إن لم تشغله، كما ذكر قبل ذلك، فراجعه.
﴿وتَركُوك قائمًا﴾ على المنبر، وفيه ندليل على طلب القيام في الخطبة إلاَّ لعذر. ﴿قل ما عند الله﴾ من الثواب ﴿خير من اللهو ومن التجارة﴾ فإنَّ في ذلك نفع محقق دائم، بخلاف ما فيهما من النفع المتوهم. ﴿واللهُ خيرُ الرازقين﴾ فإليه اسعوا، ومنه اطلبوا الرزق، أي: لا يفوتهم رزق الله بترك البيع، فهو خير الرازقين.
45
الإشارة: إذا نُودي لصلاة القلوب في مقام الجمع، من ناحية الداعي إليها، وهم المشايخ العارفون، فاسعوا إلى ذكر الله، ودُوموا عليه باللسان والقلب، ثم بالقلب فقط، ثم بالروح، ثم بالسر، فإنَّ الذكر منشور الولاية، ولا بد منه في البداية والنهاية، قال الورتجبي بعد كلام: الساعي إلى الذكر مقام المريدين، والمحقق في المعرفة غلب عليه ذكر الله إياه بنعت تجلِّي نفسه لقلبه. هـ.
﴿
وذّرُوا البيع﴾
أي: اتركوا كلَّ ما يشغل عن الله، فلا تتجلى الحقائق إلاّ بعد ترك العلائق، ذلكم، أي: ترك كل شاغل، خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون، أي: إن كنتم من أهل العلم بالله فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض... الخ، أي: إذا حصل لكم البقاء بعد الفناء؛ فانتشِروا في أرض العبودية، واتسعوا في ميادين البشرية، بالاستمتاع بالشهوات المباحة بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، وابتغوا من فضل الله، بالتجارات الرابحة، وهي إرشاد العباد إلى الله، ﴿واذكروا الله كثيرا﴾ أي: في كل شيء وعند كل شيء، برؤية الحق في كل شيء، وإليه تُشير وصيته ﷺ لمُعاذ بقوله: " واذكر الله عند كل حَجر وشجر ". وقوله تعالى: ﴿وإِذا رأوا تجارة أو لهوا انفضُّوا إِليها﴾، قال القشيري: يُشير إلى السالكين المحرومين من الجذبة ـ وهو السالك الأبتر ـ إذا رأوا تجارة، أي: طاعة تُوجب ثواب الآخرة، يقومون إليها، ويَثبون عليها، نظراً إلى ثواب الآخرة، كما قال عليه السلام: " لا تكونوا كالأجير السوء، إن أُعطي عمل، وإن لم يُعطَ لم يعمل "، أو لهواً أطرب النفس برؤية الطاعة واستِلْذَاذها بنظر الخلق إليها، انفضُّوا إليها وتركوك ـ أيها السالك الحقيقي ـ قائماً بعبودية الحق، ومشاهدة قيوميته، قل: ما عند الله من المواهب العالية، والعطايا السنية، خيرٌ من لهو النفس برؤية الغير، ومن التجارات بثواب الآخرة، لقوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلآ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِهِ أَحَداً﴾ [الكهف: ١١٠] أو: ما عند الله نَقْداً للعارفين من واردات القلوب، وبواده الحقيقية، خير مما يؤمل من الدنيا والآخرة للغافلين، والله خير الرازقين، لإعطائه رزق النفس، وهو الطاعة على المنهاج والشرع، ورزق القلب، وهو الأعمال القلبية، كالزهد والورع والرضا والتسليم والمراقبة، والبسط والقبض، والأُنس والهيبة، ورزق الروح
بالتجليات والمشاهدات، والمعاينات والتنزُّلات، ورزق السر برفع رؤية الغير والغيرية، ورزق الخفاء بالفناء في الله والبقاء به. هـ. قال الورتجبي: فيه تأديب المريدين حين اشتغلوا عن صحبة المشايخ، بخلواتهم وعباداتهم، لطلب الكرامة، ولم يعلموا أنَّ ما يجدون في خلواتهم بالإضافة إلى ما يجدون في صحبة مشايخهم لَهْوٌ. هـ. وهو حق. وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد، عين عيان التحقيق، وعلى آله وصحبه وسلّم.
46
سورة المنافقون
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إذا جاءك﴾ أيها الرسول ﴿المنافقون﴾ أي: حضروا مجلسك، ﴿قالوا نشهدُ إِنك لَرسولُ الله﴾، أكدوا بإنَّ واللام؛ للإيذان بأنَّ شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلبهم، وخلوص اعتقادهم، ووفور رغبتهم ونشاطهم، قال تعالى: ﴿واللهُ يعلم إِنك لَرسوله﴾ حقيقةً، كما يدل عليه ظاهر كلامهم. والجملة معترضة بين شهادتهم وتكذيبهم بقوله: ﴿واللهُ يشهدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون﴾، وحكمته: أنه لو لم يذكره لتوهم أنَّ قوله: ﴿واللهُ يشهد إِنَّ المنافقين لكاذبون﴾ إبطال للرسالة، فوسطه بين حكاية قول المنافقين وبين تكذيبهم؛ ليزيل هذا الوهم، ويُحقق الرسالة. وقوله: " لكاذبون " أي: في ادعائهم أنهم قالوا ذلك عن اعتقاد وصميم قلب، كما يُشير إليه ظاهر قولهم. قال القشيري: كذَّبهم فيما قالوا: إنّا نشهد عن بصيرة، ونعتقد تصديقك، فلم يكذبهم في الشهادة، ولكن كذَّبهم في قولهم: إنّا مخلصون مصدِّقون بك. هـ.
﴿اتخَذوا أيمانَهم﴾ الفاجرة ﴿جُنَّةً﴾ ؛ وقاية عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل والسبي، وغير ذلك، واتخاذها جُنَّةً عبارة عن إعدادهم وتهيئهم لها إلى وقت الحاجة، ليحلفوا بها، ويتخلّصوا عن المؤاخذة، ﴿فصَدُّوا﴾ بأنفسهم ﴿عن سبيل الله﴾ وضلُّوا عن طريق الحق، أو: فصّدُّوا مَن أراد الدخول في الإسلام بإلقاء الشُبه، وصدُّوا مَن أراد الإنفاق في سبيل الله بالنهي عنه، كما سيجيء عنهم، ولا ريب أنّ هذا الصدّ منهم متقدم على حلفهم بالفعل، ولذلك عبّر بالاتخاذ. ﴿إِنهم ساء ما كانوا يعملون﴾ من النفاق
47
والصدّ. وفي " ساء " معنى التعجب وتعظيم أمرهم للسامعين.
﴿ذلك﴾ أي: ما تقدّم من قولهم، الناعي عليهم بأنهم أسوأ الناس أعمالاً، أو: ما وصف مِن حالهم في النفاق والكذب والاستتار بالأيمان الفاجرة. ﴿بأنهم﴾ ؛ بسبب أنهم ﴿أمنوا﴾ ؛ نطقوا بكلمة الشهادة، كسائر مَن دخل في الإسلام ﴿ثم كفروا﴾ أي: ظهر كفرهم بما شُوهد منهم من شواهد الكفر ودلائله، أو: نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ونطقوا بالكفر عند شياطينهم، ﴿فطُبعَ على قلوبهم﴾ ؛ ختم عليها، حتى لا يدخلها الإيمان، جزاء على نفاقهم، فتمرّنوا على الكفر، واطمأنوا به، ﴿فهم لا يفقهون﴾ شيئًا، لا يعرفون حقيَّة الإيمان ولا حقيقته أصلاً.
الإشارة: قد يأتي إلى مشايخ التربية مَن يُنافقهم، طمعًا في الدنيا، فيقول: نشهد إنك لَمن العارفين، أو مِن أهل التربية، مثلاً، فَتَجُر الآيةُ ذيلَها عليه، وقد يكون مذبذباً، تارة تلوح له أنوارُ الولاية، وتارة تَستر عنه، فيُصدّق ثم يرجع، ثم يُطبع على قلبه. قال القشيري: ﴿ذلك بأنهم آمنوا﴾ : استضاؤوا بنور الإجابة، فلم يَنْبَسِطْ عليهم شعاعُ نور السعادة، فانطفأ نورُهم بقَهْرِ الحرمان، وبَقوا في ظلمة القسمة السابقة بحكم الشقاوة. هـ. وهنا إشارة أخرى للقشيري، وهو: إذا جاءك أيها الروح الصافية منافق الهوى والنفس الأمّارة، قالوا: نشهد إنك لَرسول الله، أي: كاملة صافية، يُريدون بذلك توقفها عن الترقي باستحسان ما أدركت، والوقوف معه، والله يعلم إنك لَرسوله، حين تصفى، فتكون محل العِلم الرباني، والوحي الإلهامي، والله يشهد إنهم لكاذبون في ادعاء الشهادة بلا حقيقة، اتخذوا أيمانهم جُنَّة، لئلا تكرّ عليهم بأنوارها، فتُخرجهم عن عوائدهم وشهواتهم، فصُدُّوا عن سبيل الله، حيث بقوا مع عوائدهم، أو: فصدُّوا الروح إن صدقتهم وطاوعتهم، ذلك بأنهم أمنوا، حيث ترد عليهم أنوار الواردات، ثم كفروا؛ رجعوا إلى وطنهم، من الحظوظ، حيث تخمد أنوار الواردات عنهم، فطُبع على قلوبهم، حيث وقفوا مع عوائدهم فهم لا يفقهون: لا يعرفون سر إيجادهم، ولا لماذا خُلقوا. هـ. بالمعنى.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وإِذا رأيتهم تُعْجِبُكَ أجسامُهم﴾ لضخامتها، ويروقك منظرُهم؛ لصباحة وجوههم، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو: لكل سامع، ﴿وإِن يقولوا تسمعْ لِقَولهم﴾ لفصاحتهم، وذلاقة ألسنتهم، وحلاوة كلامهم، وكان ابن أُبي رجلاً جسيماً صبيحاً، وقوم من المنافقين في مثل صفته، فكانوا يحضرون مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستندون فيه، ولهم جهارة المناظرة، وفصاحة الألسن، فكان النبي ﷺ ومَن معه يُعجبون
48
بهم، ويسمعون إلى كلامهم. ﴿كأنهم خُشُب مُسَنَّدةٌ﴾ أي: هم كخشب مُسَنَّدة، شُبِّهوا في جلوسهم في مجلس الرسول صلى الله عليهم وسلم مستندين فيها بخُشب منظومة، مسندة إلى الحائط، في كونهم أشباحاً خاليه من العلم والخير؛ لأنّ الخشب إذا انتُفع بها كانت في سَقفٍ، أو جدارٍ، أو غير ذلك من مظان الانتفاع، وما دام متروكاً غير منتفع به، أُسند إلى الحائط فشُبِّهوا به في عدم الانتفاع. أو: لأنهم أشباح بلا أرواح، وأجرام بلا أحلام. و " خُشُب " بضمتين، جمع خَشبة، كَثمرة وثُمُر، ويسكن، كبَدنة وبُدن.
﴿يحسبون كلَّ صيحةٍ﴾ واقعة ﴿عليهم﴾، فـ " كل ": مفعول أول، و " عليهم ": مفعول ثان، أي: يظنون كلَّ صيحة واقعة عليهم لاستقرار الرعب في قلوبهم، فإذا نادى منادٍ في العسكر، أو انفلتت دابة، أو نُشِدت ضالّة؛ ظنوه إيقاعاً بهم. ﴿هم العدوُّ﴾ أي: الكاملون في العداوة، الراسخون فيها، فإنّ أعدى الأعادي المكاشِر، الذي يُكاشر وتحت ضلوعه الداء. فالألف واللام للجنس، أو: للعهد، أي: العدو الذي يشهد لك، ويعتقد خلاف ما يشهد، ﴿فاحْذرهم﴾ ولا تغتر بحلاوة منطقهم، ﴿قاتلهم اللهُ﴾، دعاء عليهم، أو: تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم، ﴿أنَى يُؤفكون﴾ أي: كيف يعدلون عن الحق بعد وضوحه، تعجُّباً من جهلهم وضلالتهم.
الإشارة: لا عبرة بالأجسام العريضة، ولا بالألسن الفصيحة، إنما العبرة بالقلوب المطهرة، والسرائر المنورة، " إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلى صوركم... " الحديث، و " رُبَّ أشعثَ أغبر، مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسمَ على اللهِ لأبَرَّه في قسمه " قال القشيري: قوله تعالى: ﴿وإذا رأيتهم..﴾ الخ، أي: هم أشباح وقوالب، ليس وراءهم ألبابُ وحقائق، والجوزُ الفارغ يؤنق ظاهره، ولكن للعب الصبيان. هـ. وقال الشاعر:
وما الحسنُ في وجه الفتى شرفاً له
إذا لم يكن في فعله والخلائق
وقالت العامة: لا يتكلم إلاَّ الجوز الفارغ، ذمًّا لشقشقة اللسان، وفي الحديث أيضاً ذمهم والتحذير منهم. أما قوله صلى الله عليه وسلم: " التمسوا حوائجكم عن حِسَان الوُجُوه " فإنما المراد: ما يظهر على الوجه من البهجة والنور، والخفة والملاحة، مما خامر الباطن من بشاشة الإيمان ونور المعرفة. والله تعالى أعلم.
49
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وإِذا قيل لهم﴾ عند ظهور نفاقهم: ﴿تعالَوا يستغفر لكم رسولُ الله لَووا رؤوسَهم﴾ أي: عطفوا استكباراً. وقرأ غير نافع بالتشديد للمبالغة. ﴿ورأيتهم يصُدُّون﴾ أي: يُعرضون عن القائل، أوعن الاستغفار، ﴿وهم مستكبرون﴾ عن الاعتذار والاستغفار.
رُوي أنَّ رسولَ الله ﷺ حين لقي بني المصطلق على المُرَيْسيع ـ وهوماءٌ لهم ـ وهزمهم، وقتلهم، ازدحم على الماء " جهجاه " أجير لعُمر ـ مع سِنانٍ ـ حليف لعبد الله بن أُبيّ المنافق ـ فصرخ جهجاه: يا للمهاجرين! وصرخ سنان: يا للأنصار! فأعان جَهْجَاهاً جُعال من فقراء المهاجرين، ولطم سناناً، فقال ابنُ أُبيّ: أُوَقد فعلوها، وقال: وما صحبنا محمداً إلا لنُلطَم! وما مثلنا ومثلهم إلاَّ كما قائل القائل: سمِّن كلبك يَأكُلْكَ! والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ. ثم قال لقومه: كُفوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تُنفقوا على مَن عنده حتى ينفضُّوا ويتركوه، فسمع ذلك زيدُ بن أرقم، وكان حدثاً، فقال: أنت ـ والله ـ الذليلُ، المبَغَّضُ في قومك، ومحمد على رأسه تاج المعراج، في عزّ من الرحمن، وقوةٍ من المسلمين، فقال عبد الله: اسكت، فإنما كنتُ ألعب، فأخبر زيدٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: دعني أضرب عنقَ المنافق! فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إذن تُرْعَدُ أنوفٌ كثيرة بيثرب " قال: فإن كرهت أن يقتله مُهاجريّ، فمُر به أنصاريًّا، فقال: " فكيف إذا تحدّث الناسُ أنّ محمداً يقتل أصحابه؟ " فأرسل ﷺ له، فأتى، فقال: " أنت صاحب الكلام الذي بلغني "؟ فقال: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلتُ شيئاً من ذلك، وإنّ زيداً لكاذب، وهو قوله: ﴿اتخَذوا أَيمانهم جُنَّة﴾ فقال الحاضرون: يا رسول الله! شيخُنا وكبيرُنا، لا تُصدق عليه كلام غلام، عسى أن يكون قد وَهم، قال زيد: فوجدتُ في نفسي، ولآمَنِي الناسُ، فلزمتُ بيتي، فلما نزلت الآية، قال رسولُ الله ﷺ لزيد: " يا غلام إنَّ الله قد صَدَّقك وكذّب المنافقين "، فلما بان كذب عبد الله؛ قيل له: قد نزلت فيك آيٌ شِدادٌ، فاذهب إلى رسول الله ﷺ يستغفر لك، فلوى رأسه، وقال: أمرتموني أن أومن
فآمنتُ، وأمرتموني أن أزكي مَالي، فزكّيتُ، ما بقي لي إلاّ أن أسجد لمحمد، فنزل:
50
قاله النسفي، فانظره، مع أنّ سورة براءة متأخرة عن هذه، وفيها: ﴿وَلآ تُصَلِ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم... ﴾ [التوبة: ٨٤] التي نزلت فيه.
قالت تعالى: ﴿سواءٌ علَيهم أّسْتغفَرتَ لَهم أَم لَم تستغفرْ لَهم﴾، أي: لا مساغ للنصح فيهم، ﴿لَن يَغفِرَ اللهُ لَهُم﴾ أي: ما داموا على النفاق. والمعنى: سواء عليهم الاستغفار وعدمه؛ لأنهم لا يلتفتون إليه، ولا يعتدون به؛ لكفرهم، أو لأنّ الله لا يغفر لهم أبداً، ﴿إِنَّ اللهَ لا يهدي القوم الفاسقين﴾ ؛ لإصرارهم على الفسق، ورسوخهم في الكفر والنفاق. والمراد: إما هم بأعيانهم، والإظهار في موضع الإضمار لبيان غلوهم في الفسق، أو: الجنس، وهم داخلون في زمرتهم دخولاً أولياً.
﴿هم الذين يقولون﴾ للأنصار: ﴿لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله حتى ينفضوا﴾ ؛ يتفرقوا، وهذه المقالة كانت السبب في استدعائه إلى الاستغفار، كما تقدّم، فحقها التقديم قبل قوله: ﴿وإِذا قيل لهم تعالوا﴾ وإنما أُخرت ليتوجه العتاب إليه مرتين، كما تقدّم في سورة البقرة.
ثم قال تعالى، في الرد على الخبيث: ﴿ولله خزائنُ السموات والأرض﴾، فهو رد وإبطال لما زعموا من أنَّ عدم إنفاقهم يؤدي إلى انفضاض الفقراء من حوله ﷺ ببيان أنَّ خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة، يُعطي مَن يشاء، ويمنع مَن يشاء، فيرزق منها المهاجرين، وإن أمسك أهلُ المدينة عنهم، ﴿ولكنَّ المنافقين لا يفقهون﴾ ؛ ولكن عبد الله وأضرابه لايفقهون ذلك فيهتدون، بما يُزيِّن لهم الشيطان.
﴿يقولون لئن رجعنا﴾ من غزوة بني الصطلق ﴿إِلى المدينة ليُخْرِجَنَّ الأعَزُّ منها﴾ يعني: نفسه ـ لعنه الله ـ ﴿الأذلَّ﴾ يعني: جانب المؤمنين، وإسناد القول بذلك إلى المنافقين؛ لرضاهم به، فردّ تعالى عليهم ذلك بقوله: ﴿وللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: ولله الغلبة والعزّة، ولِمن أعزّه من رسوله والمؤمنين، لا لغيرهم، كما أنَّ المَذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين. وعن بعض الصالحات، وكانت في هيئة رثّة من الفقر: ألستُ على الإسلام، وهو العزّ الذي لا ذُلّ معه، والغنى الذي لا فقر معه؟ وعن الحسن بن عليّ رضي الله عنه: أنَّ رجُلاً قال لهُ: إنَّ فيك تيهاً؟ قال: ليس بتيه، ولكنه عزّة، وتلا هذه الآية. هـ.
﴿ولكنَّ المنافقينَ لا يعلمون﴾ ذلك؛ لفرط جهلهم وغرورهم، فيهذون ما يهذون. رُوي أنَّ ولد عبد الله بن أُبيّ، واسمه عبد الله، وكان رجلاً صالحاً، لَمَّا سمع الآية جاء إلى أبيه، فقال له: أنت والله يا أبت الذليل، ورسول الله العزيز، ووقف على باب السكة التي يسلكها أبوه، وجرّد السيف، ومنعه الدخول، وقال: والله لا دخلتَ منزلك إلاَّ أن يأذن في ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله في أذل حال، فبلغ ذلك رسولَ الله ﷺ فبعث إليه: " أن خَلِّه يمضي إلى منزله، وجزاه خيراً " فقال: الآن فنعم. هـ.
51
الإشارة: مَن تكبّر عن حط رأسه للأكابر ففيه خصلة من النفاق، والمراد بالأكابر: الأولياء العارفون بالله، مَن تكبّر عنهم مات، وفيه بقية مِن النفاق، إذ لا يخلو منه إلاّ بالتطهير الكبير على أيدي المشايخ، وكذلك مَن منع الناس مِن الإنفاق على أهل النسبة، كائناً ما كانوا، فشُؤمه الحرمان من نسيم أهل الوصلة، ﴿ولله خزائن السماوات والأرض﴾ أي: خزائن الأرزاق الحسية والمعنوية، فقد يُعطي أحدهما دون الآخر، وقد يعطيهما معاً، أو: يمنعهما معاً، على حسب المشيئة، قال رجل لحاتم الأصم: من أين تأكل؟ فقال: ﴿ولله خزائن السماوات والأرض﴾ وقال الجنيد: خزائن السماوات: الغيوب، وخزائن الأرض: القلوب، وهم علاّم الغيوب، ومُقلِّب القلوب. وكان الشبلي يقرأ: ﴿ولله خزائن السماوات والأرض﴾ ويقول: فأين تذهبون. هـ. أي: حين تهتمون بالرزق بعد هذه الآية.
﴿
وَلِلَّهِ العزةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾
، قال بعضهم: عزة الله: قهره، وعزته لرسوله: إظهاره، وعزتُه للمؤمنين: نصره إياهم على مَن آذاهم. وقيل: عزة الله: الولاية ﴿هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾ [الكهف: ٤٤]، وعزة الرسول: الكفاية والعناية، وعزة المؤمنين: الرفعة والرعاية، وقيل: عزة الله: الربوبية، وعزة الرسول: النبوة، وعزة المؤمنين: العبودية، فإذا أردتَ أيها العبد أن تكون عزيزاً فارفع همتك عن الخلق، وسُد باب الطمع، وتحلَّ بحلية الورع. قال بعضهم: والله ما رأيتُ العزّ إلاَّ في رفع الهمة عن الخلق، وقال آخر: ما قُذِّر لماضغيك أن يمضغاه فلا بدّ أن يمضغاه، فامضغه ـ ويحك ـ بعز، ولا تمضغه بذل. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تُلهكم أموالكُم﴾ أي: لايشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها، والاعتناء بمصالِحها، والتمتُّع بها، ﴿ولا أولادُكم﴾ أي: سروركم بهم، وشفقتكم عليهم، والاستغراق في الأسباب، للنفقة عليهم ﴿عن ذكر الله﴾ أي: عن الاشتغال بذكره عزّ وجل، من الصلاة، والذكر، وسائر العبادات، والمراد: نهيهم عن التلهي بها، وتوجيه النهي لهم للمبالغة، كقوله تعالى: ﴿وَلآ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَآنُ قَوْمٍ﴾ [المائدة: ٢]، ﴿ومن يَفْعَلْ ذلك﴾ أي: التلهي بالدنيا عن الدين ﴿فأولئك هم الخاسرون﴾ ؛ الكاملون في الخسران، حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.
﴿وأَنفِقوا مِن مَّا رزقناكم﴾ أي: بعض ما رزقناكم، تفضُّلاً، من غير أن يكون
52
حصوله من جهتكم ادخاراً للآخرة، وهو عام في المفروض والمندوب، ﴿مِن قبل أن يأتي أحدَكُم الموتُ﴾ بأن يُشاهد دلائله، ويُعاين أمارته ومخايله. وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام بما قدّم، والتشويق لِما أخّر، ﴿فيقولَ﴾ حين تَيَقُنِه بحلوله: ﴿لولا أخَّرتني﴾ ؛ أمهلتني ﴿إلى أجلٍ قريب﴾ ؛ أمدٍ قصيرٍ، ﴿فأصَّدَّقَ﴾ بالنصب، جواب التمني، ﴿وأكن من الصالحين﴾ بالجزم، عطفاً على محل ﴿فأصَّدق﴾ أو: على توهُّم إسقاط الفاء، كأنه قيل: إن أخرتني أصَّدَّق وأكن، وقرأ أبو عمرو بالنصب عطفاً على اللفظ.
﴿ولن يُؤخر اللهُ نفساً﴾ ؛ لن يمهلها ﴿إِذا جاء أجَلُهَا﴾ ؛ آخر عُمْرِها المكتوب في اللوح. ﴿واللهُ خبير بما تعملون﴾ فيُجَازيكم عليه، إن خيراً فخير، وإن شرًّا فشر، فسارعوا إلى الخيرات، واستعِدوا لما هو آت. قال ابن عباس: ما قصَّر أحد في الزكاة والحجِّ إلاَّ سأل الرجعة عند الموت. هـ. والظاهر: أنَّ كل مَن قصَّر في الاجتهاد، وتعمير الأوقات، كله يطلب الرجعة، وكل مَن أدركته المنية قبل الوصول إلى الله مغبون، ولذلك ذكر التغابن بعدها، وفي الحديث: " مَا مِن أحدٍ إلاَّ سيندم عند الموت، إن كان عاصياً أن لو تاب، وإن كان طائعاً أن لو زاد " أو كما قال صلى الله عليه وسلم. قال في غريب المنتقى: إنّ العبد يقول عند كشف الغطاء: يا ملك الموت أَخِّرني يوماً أعتذر فيه إلى ربي، وأتوب وأتزوّد صالحاً لنفسي، فيقول المَلك: فَنيت الأيامُ، فلا يوم، فيقول: أخَّرني ساعة، فيقول: فَنِيَت الساعات فلا ساعة. هـ.
قيل: لمَّا كانت سورة المنافقين رأس ثلاث وستين سورة، أُشير فيها إلى وفاته ﷺ بقوله تعالى: ﴿ولن يُؤخر اللهُ نفساً إِذا جاء أجلها﴾ فإنه ﷺ مات على رأس ثلاث وستين سنة، وعقبها بالتغابن، ليظهر التغابن في فقده صلى الله عليه وسلم. هـ.
الإشارة: قد نهى الله تعالى عن الاشتغال عن ذكره بالأموال والأولاد، ويُقاس عليه سائر القواطع، فلا عذر للعبد في تركه في وقت من الأوقات، فما مِن وقت من الأوقات إلاَّ وله حق جديد، وأمر أكيد، لا يُقضى في غيره، فحقوق الأوقات لا تقضى، بخلاف الحقوق التي لها أوقات محدودة، فإنها تُقضى في غيرها، ولمّا كان الذِكر يُطهِّر القلب، ويُخرج ما فيه من حب الدنيا وغيرها، أمر بالإنفاق بعد الأمر به؛ ليسهل الإنفاقَ على العبد. قال بعض الحكماء في مدح الذكر والترغيب فيه: الذكر منشور الولاية، ولا بُد منه في البداية والنهاية، وهو يُثمر أحوالاً شريفة، وماقامات عالية منيفة، وعلوماً لطيفة، ويحيي عوالم طالما كانت قَبْلُ مواتاً، ويُلبِسُ النفسَ وجنودَها ذلة وسُبَاتاً، ونظيره إذا وصل للقلب: كدخول الماء في الأسراب، فإنه يُخرج ما فيها من الحشرات والدواب، فكذلك الذكر، إذا صدم القلب، ودخل سُويداءه، فإنه يُخلصه مِن مساكنة صلصال النفس، ويُزيل
53
عن ناظره الغشاوة واللبس، ولهذا كان أفضل الأعمال، وأزكى الأحوال، وفُضّل على جهاد السيف والقتال. هـ. وأنفِقوا مما رزقناكم من العلوم والمعارف، لمَن يطلبها وكان أهلاً لها، بعد إنفاق ما عنده من الحس، وإلاَّ فلا خير في فقير شحيح، فإنه مِن أقبح كل قبيح. فانتهزوا الفرصة، وبادِروا نفوذ الأجل، فالترقي إنما تهو في هذه الدار. قال القشيري: لا تَغْتَرُّوا بسلامةِ أوقاتِكم، وتَرَقَّبوا بغَتَات آجالكم، وتأهَّبوا لِما بين أيديكم من الرحيل، ولا تعرجوا في أوطان التسويف. هـ. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم.
54
سورة التغابن
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يُسبِّح لله ما في السماوات وما في الأرض﴾ أي: يُنزّهه سبحانه جميعُ ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه، قال القشيري: المخلوقات بجملتها مُسَبِّحةٌ لله، ولكن لا يَسْمَعُ تسبيحَها مَن فيه طَرَشُ النكرة. هـ. ﴿له الملكُ وله الحمدُ﴾ لا لغيره؛ إذ هو المبدىء لكلّ شيء، وهو القائم به، والمهيمن عليه، وهو المُولي لأصول النِعم وفروعها، وأمّا ملك غيره فاسترعاء من جنابه، وحمد غيره اعتداد بأنّ نعمة الله جرت على يديه. فتقديم الظرفين للاختصاص. ﴿وَهُوَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ﴾ ؛ لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى كل سواء.
﴿هو الذي خَلَقَكُم﴾ خلقاً بديعاً، حائزاً لجميع الكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك ﴿فمنكم كافرٌ﴾ أي: فبعض منكم مختار للكفر كاسباً له، على خلاف ما تستدعيه خِلقته، ﴿ومنكم مؤمن﴾ مختار للإيمان، كاسباً له، على حسب ما تقتضيه خِلقته، وكان الواجب عليكم جميعاً أن تكونوا مختارين للإيمان، شاكرين لنِعم الخلق والإيجاد، وما يتفرّع عليهما من سائر النِعم، فما فعلتُم ذلك مع تمام تمكُّنكم منه، بل تشعّبتم شعباً، وتفرقتم فِرَقاً. وتقديم الكفر لأنه الأغلب والأنسب للتوبيخ. قال القشيري: ﴿فمنكم كافر ومنكم مؤمن﴾ أي: في سابق علمه سمَّاه كافراً، لعلمه أنه يكفر، وكذلك المؤمن. هـ.
55
قال أبو السعود: حَمْله على ذلك مما لا يليق بالمقام، فانظره. ﴿واللهُ بما تعملون بصيرٌ﴾ فيُجازيكم بذلك، فاختاروا منه ما ينفعكم من الإيمان والطاعة، وإياكم وما يرديكم من الكفر والعصيان.
﴿خَلَقَ السماوات والأرضَ بالحق﴾ ؛ بالحكمة البالغة، المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية، حيث جعلها مقرًّا للمكلّفين ليعملوا فيُجازيهم، ﴿وصوَّركم فأّحْسَن صُوَركم﴾ حيث أنشأكم في أحسن تقويم، وأودع فيكم من القُوى والمشاعر الظاهرة والباطنة، ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة، وخصَّكم بخلاصة خَصائص مُبدعاته، وجعلكم أنموذجَ جميع مخلوقاته، فالكائنات كلها منطوية في هذه النشأة.
قال النسفي: أي: خلقكم أحسن الحيوان كلّه، وأبهاه، بدليل: أنّ الإنسان لا يتمنّى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور، ومِن حُسن صورته: أنه خلق منتصباً غير منكبٍّ، ومَن كان دميماً، مشوّه الصورة، سمج الخلقة، فلا سماجة ثمَّ، ولكن الحسن على طبقات، فلانحطاطها عمّا فوقها لا تستملح، ولكنها غير خارجة عن حدّ الحُسن. وقال الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال والبيان. هـ. قلت: وما أشار إليه هو الذي نظمه الجيلاني في عينيته، حيث قال:
وكُلُّ قبيحٍ إنْ نَسَبْتِ لحُسْنِه
أَتَتْكَ مَعَانِي الحُسْنِ فِيهِ تُسارعُ
يُكَمِّل نُقصانَ القبيحِ جَمَالُه
فَما ثَمَّ نُقصانٌ. وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ
﴿وإِليه المصيرُ﴾ في النشأة الأخرى، لا إلى غيره، فأحسِنوا سرائركم، باستعمال تلك القوى والمشاعر فيما خُلقن له.
﴿يعلمُ ما في السماوات والأرض ويعلم ما تُسِرُّون وما تُعلنون﴾ أي: ما تُسرونه فيما بينكم، وما تُظهرونه من الأمور، والتصريح به مع اندراجه فيما سبق قبله؛ لأنه الذي يدور عليه الجزاء، ففيه تأكيد للوعد والوعيد، وتشديد لهما. وقوله تعالى: ﴿واللهُ عليم بذاتِ الصُدور﴾ : تذييل لِما قبله، ومُقَرِّر له، من شمول علمه تعالى لسِرِّهم وعلنهم، أي: هو محيط بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس، بحيث لا يُفارقها أصلاً، فكيف يخفى عليه ما يُسرونه وما يُعلنونه، فحق أن يُتقى ويُحذر. وإظهار الجلالة للإشعار بعلية الحكم، وتأكيد استقلال الجملة. قيل: وتقدّم تقرير القدرة على تقرير العلم؛ لأنّ دلالة المخلوقات على قدرته تعالى بالذات، وعلى علمه بما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأوصاف، وكل ما ذكره بعد قوله: ﴿فمنكم كافر ومنكم مؤمن﴾ في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يُعصى الخالق ولا تُشكر نِعَمه.
قال الطيبي: الفاء في " فمنكم " تفصيلية، والآية كلها واردة لبيان عظمة الله في مُلكِه وملكوته، وذلك أنه تعالى لمّا أثبت لذاته الأقدس التنزيه، وأنّ كل شيء ينزهه ويُقدّسه عما
56
لا يَليق بجلاله، ثم خصّ أنه لوصفه بالمالكية على الإطلاق، وكل كمال وجمال ونعمةٍ وإفضال منه، وهو خالق كل مهتدٍ وضال، ونظم دليل الآفاق مع ليل الأنفس، وبيّن أنَّ إليه المصير، ختم ذلك بإثبات العلم الشامل للكليات والجزئيات، وكرره تكريراً، وأكّده توكيداً، وكأنَّ ذكر العلم في قوله: ﴿والله بما تعملون بصيرٌ﴾ استطراد لذكر الخلق وتفصيله، ولإثبات القضاء والقدر، ولمّا فرغ من بيان العظمة جاء بالتهديد والوعيد، وقال: ﴿ألم يأتكم... ﴾ الآية. هـ.
الإشارة: هو الذي خلقكم، فمنكم كافر بطريق الخصوص، ومنكم مؤمن بها، داخل فيها، أي: فمنكم عام ومنكم خاص. قال القشيري: فمنكم كافرٌ، أي: سائر للحق بالخلق، ومنكم مؤمن، أي: مُصدِّقٌ بظهور الحق في الخلق. ثم قسَّم الناسَ على ثلاثة: مَن لا يرى إلاّ الخلق، وهم أهل الفرق، ومَن لا يرى إلاّ الحق، وهم أهل الجمع، ومَن يرى الحق في الخلق، والخلق في الحق، لا يحجبه أحدُهما عن الآخر، فهم أهل جمع الجمع.
خَلَقَ سماواتِ الأرواح ليُعرف بها، وأرض الأشباح ليُعبد بها، وهو الواحد الأحد، وصوَّركم فأحسن صُورَكم، حيث جعلها جامعة للعوالم العلوية والسفلية؛ لأنَّ الله تعالى خلَقَ آدَم على صُورَتِهِ، وذاته المقدسة جامعة لمظاهر الصفات والأسماء، وتلك المظاهر كلها مجموعة في الصور الآدمية، بخلاف سائر الكائنات، فما في صورتها إلآَّ بعض الأسماء والصفات، فتأمّله. وإليه المصير، أي: وإلى ذاته ترجع جميع الصور والأشكال، فما خرج شيء عن إحاطة الذات والصفات، يعلم ما تُسرُّون من العقائد الصحيحة، وما تُعلنون من العبادات الخالصة، أو: ما تُسرُّون من الكشوفات الذوقية، وما تُعلنون من العبودية الاختيارية، هذا في خاصة أهل الظاهر وأهل الباطن، أو: ما تُسرُّون من العقائد الفاسدة، وما تُعلنون من الأعمال الخبيثة، أو: ما تُسرُّون من الاتحاد أو الحلول، وما تعلنون من العمل والمعلول، وهذا في طالحي الفريقين.
57
يقول الحق جلّ جلاله: لكفار مكة ﴿ألم يأتكم نبأُ الذين كفروا من قبلُ﴾ ؟ كقوم نوح، ومَن بعدهم من الأمم المُصرَّة على الكفر، ﴿فذاقوا وبالَ أمرهم﴾ أي: شؤم كفرهم في الدنيا من الهلاك والاستئصال. والوبالُ: الثقل والشدة، وأمرهم: كفرهم، عبّر عنه بالأمر إيذاناً بأنه أمر هائلٌ، وجناية عظيمة، و " ذاقوا " عطف على " كفروا " أي: ألم يأتكم خبر الذين كفروا فذاقوا من غير مهلة ما يسْتتبعُهُ كفرهم في الدنيا؟ ﴿ولهم في الآخرة عذابٌ أليم﴾ لا يُقادَر قدره.
﴿ذلك﴾ أي: ما ذكر من العذاب الذي ذاقوه في الدنيا، وما سيذوقونه في الآخرة ﴿بأنه﴾ ؛ بسبب أن الشأن ﴿كانت تأتيهم رُسُلهم بالبينات﴾ ؛ بالمعجزات الظاهرة، ﴿فقالوا أَبَشَرٌ يهدوننا﴾ أي: قال كلُّ قوم من المذكورين في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزات منكرين كون الرسول من البشر، متعجبين من ذلك ﴿أَبَشرٌ﴾ مِن جنس البشر ﴿يهدوننا﴾، أنكروا رسالة البشر، ولم ينكروا عبادةَ الحجر، ﴿فكفروا﴾ بالرسل ﴿وتَوَلَّوا﴾ عن التدبُّر فيما أتوا به من البينات، أو: عن الإيمان بهم، ﴿واستغنى اللهُ﴾ أي: أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم، حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا استغناؤه تعالى عنها ما فعل ذلك، ﴿والله غنيٌّ﴾ عن العالمين، فضلاً عن إيمانهم وطاعتهم، ﴿حميدٌ﴾ يحمده كلُّ مخلوقٍ بلسان الحال والمقال، أو: مستحق للحمد بذاته، وإن لم يحمده حامد.
ثم ذكر كفرهم بالبعث، فقال: ﴿زَعَمَ الذين كفروا أن لن يُبعثوا﴾، الزعم: ادّعاء العلم، فيتعدّى إلى مفعولين، سدّ مسدهما " أن " المخففة، أي: أدّعى أهل مكة أنّ الشأن لن يُبعثوا بعد موتهم، ﴿قل بلى وربي لَتُبعثن﴾، ردًّا لزعمهم وإبطالاً لِما نفوه مؤكَّداً بالقسم، فإن قلْتَ: ما معنى اليمين على شيء أنكروه؟ قلتُ: هو جائز؛ لأنّ التهديد به أعظم موقعاً في القلب، فكأنه قيل: ما تنكرونه والله إنه لواقع لا محالة، ﴿ثم لتُنبَّؤنَّ بما عَمِلتم﴾ أي: لتُحاسبن وتُجزون بأعمالكم، ﴿وذلك﴾ أي: ما ذكر من البعث والحساب ﴿على الله يسيرٌ﴾ هيّن، لتحقق القدرة التامة، وقبول المادة للإعادة.
الإشارة: ألم يأتكم يا معشر المنكِرين على أولياء زمانكم، خبر مَن أنكر قبلكم، ذاقوا وبالَ أمرهم حيث ماتوا محجوبين عن شهوده، مطرودين عن ساحة قربه، ذاقوا وبال أمرهم في الدنيا؛ الجزع والهلع وتسليط الخواطر والشكوك، ولهم في الآخرة عذاب البُعد والحِجاب، وسبب ذلك: إنكار الخصوصية عند بشر مثلهم، فكفروا به، وتولَّوا عنه، والله غني عنهم، وعن توجههم، وعن جميع الخلق، زعم الذين كفروا؛ ستروا الحق بالخلق، أي: احتجبوا بالخلق عن شهود الحق، أن لن يُبعثوا على معتقدهم، قل: بلى وربي لتُبعثن، كما عشتم محجوبين عن رؤية الحق إلاّ نادراً؛ لأنَّ العبد يموت على ما عاش، ويُبعث على ما مات، من معرفةٍ أو نكران، ثم لتُحاسبن على أعمالكم، لا يغادَر منها صغيرةٌ ولا كبيرةٌ، بخلاف العارفين، لا يُرفع لهم ميزان، ولا يتوجه لهم حساب، حيث
58
فَنوا عن أنفسهم، وبقوا بالله، وهم من السبعين ألفاً. وبالله التوفيق.
قلت: الفاء في قوله ﴿فأمِنوا﴾ فصيحة، مفصحة عن شرط مقدر، أي: إذا كان الأمر كما ذكرنا من وقوع البعث لا محالة فآمِنوا وتأهّبوا له.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فآمِنوا بالله ورسوله﴾ محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿والنورِ الذي أنزلنا﴾ وهو القرآن، فإنه بيّن حقائق الأشياء، فيهتَدي به كما يهتدى بالنور. والالتفات في " أنزلنا " لكمال العناية بالإنزال، ﴿والله بما تعملون﴾ من الامتثال وعدمه ﴿خبير﴾، فيجازيكم عليه. وإظهار اسم الجليل لتربية المهابة، وتأكيد استقلال الجملة.
واذكر ﴿يومَ يجمعكم﴾ أو: لَتنبؤنَّ، أو خبير ﴿يوم يجمعكم ليوم الجمع﴾ وهو يوم يُجمع فيه الأولون والآخرون للحساب والجزاء، ﴿ذلك يوم التغَابُنِ﴾، مستعار من: تغابن القومُ في التجارة، وهو أن يُغبن بعضُهم بعضاً، لنزول السعداء منازلَ الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء لو كانوا أشقياء، كما ورد في الحديث. وقد يتغابن الناسُ في ذلك اليوم بتفاوت الدرجات، وذلك هو التغابن الحقيقي، لا التغابن في أمور الدنيا، ﴿ومَن يؤمن بالله ويعمل صالحاً نُكَفِّرْ﴾ بنون العظمة لنافع والشامي، وبياء الغيبة، أي: يُكَفِّر الله ﴿عنه سيئاتِه ونُدْخِلْه جنات﴾ أو: يُدخله الله ﴿جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً ذلك﴾ أي: ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات ﴿الفوزُ العظيم﴾ الذي لا فوز وراءه؛ لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات، والظفر بأجل الطلبات.
﴿والذين كفروا وكَذَّبوا بآياتنا أولئك أصحابُ النار خالدين فيها وبئس المصير﴾ ؛ المرجع، كأنّ هاتين الآيتين الكريمتين بيان لكيفية التغابن. والله تعالى أعلم.
الإشارة: فأمِنوا بالله ورسوله إيمان العيان، لا إيمان البرهان، أي: قدِّموا إيمان البرهان، ثم سيروا إلى مقام العيان، وآمِنوا بالقرآن، وصَفُّوا مرآة قلوبكم حتى تسمعوه منا بلا واسطة، واذكروا يومَ يجمعكم ليوم الجمع الدائم لأهل الجمع في الدنيا، ذلك يوم
59
التغابن، يغبن الذاكرون الغافلين، والمجتهدون المقصّرين، والعارفون بالله والمحجوبين عنه، وهذا هو الغبن الكبير، ومَن يُؤمن بالله، ثم يَجْهد في شهود الله، ويعمل عملاً صالحاً، وهو العمل بالله، نُكفِّر عنه سيئاته، أي رؤية أعماله ووجوده، أي: نُغَطِّي وصفَه بوصفي، ونعتَه بنعتي، ونُدخله جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكم، وذلك هو الفوزُ العظيم، أي: خَلْع الوجود المجازي عنه، وإلباس الوجود الحقيقي هو الفوز العظيم. والذين كفروا بطريق الخصوص، وكذَّبوا بآياتنا، وهم العارفون الدالون على الله، أولئك أصحاب النار، أي: نار الحجاب وجحيم الاحتجاب، خالدين فيها، وبئس المصير الحجاب والاحتجاب.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ما أصاب من مُصيبةٍ﴾ دنيوية أو أخروية ﴿إِلاّ بإذن الله﴾ أي: بتقديره وإرادته، كأنها بذاتها متوجهة إلى الإنسان، متوقفة على إذنه تعالى، ﴿ومَن يُؤمن بالله﴾ أي: يُصدِّق بأنّ المقادير كلها بيد الله ﴿يَهْدِ قلبه﴾ للرضا والتسليم، أو الاسترجاع، فيقول: إنَّا لله وإنّا إليه راجعون، أو: يَهْدِ قلبه حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليُصيبه، وعن مجاهد: إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن ظُلم غفر. ونقل ابن عطية عن المفسرين: أنّ المراد: مَن اعترف بالقدر هانت عليه المصيبة، وسلَّم لأمر الله تعالى. ﴿واللهُ بكل شيءٍ عليمٌ﴾ فيعلم ما في القلوب من برد الرضا أو حرارة التدبير.
﴿وأطيعوا اللهَ﴾ فيما أمركم به، ومن جملته: الرضا بقضائه عن المصائب، ﴿وأطيعوا الرسولَ﴾ فيما سنَّ لكم من الأخلاق الطيبة، وكرر الأمر للتأكيد والإيذان بالفرق بين الطاعتين في الكيفية، ﴿فإِن توليتم﴾ عن طاعتهما ﴿فإنما على رسولنا البلاغُ المبين﴾، وهو تعليل للجواب المحذوف، أي: فإن تُعرضوا فلا بأس عليه؛ إذ ما عليه إلاّ البلاغ، وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه. وإظهار الرسول مضافاً إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه ﷺ والإشعار بأنّ مدار الحكم، الذين هو وظيفته عليه السلام هو محض التبليغ، ولتشنيع التولِّي عنه.
﴿اللهُ لاَ إِله إِلاَّ هُوَ﴾ لا يستحق العبادة غيره، فـ " الله ": مبتدأ، و " لاَ إله إِلاَّ هُوَ ": خبره، ﴿وعلى الله﴾ دون غيره ﴿فليتوكل المؤمنون﴾، حَثّ رسولَه ﷺ على التوكُّل عليه حتى ينصره الله، وهي عامة لغيره، وإظهار الجلالة في موضع الإضمار للإشعار بعليّة
60
التوكُّل والأمر به، فإنّ الألوهية مقتضية للتبتُل إليه تعالى بالكلية، وقطع التوكُّل عما سواه بالمرة.
الإشارة: ما من نَفَس تُبديه، إلاَّ وله قَدَر فيك يُمضيه. ما أصاب من مصيبة قلبية أو نفسية، ظاهرة أو باطنة، إلاّ بإذن الله وقَدَرِه، وكذلك ما أصاب من مسرةٍ أو زيادة إلاّ بإذنه تعالى. قال القشيري: أي: أيّ خصلة حَصَلَت فمن قِبَله، خَلْقاً، وبعلمه وإرادته حُكماً، ومَن يؤمن بالله يهدِ قلبه، حتى يهتدي إلى الله في السراء والضراء في الدنيا، وفي الآخرة يهديه إلى الجنة، وقيل: يهديه للأخلاق السنية، وقيل: لاتباع السنّة، واجتنابِ البدعة. هـ. وقال أبو بكر الورّاق: ومَن يؤمن بالله عند النعمة والرخاء فيعلم أنها من فضل الله يهدِ قلبه للشكر، ومَن يؤمن بالله عن الشدة والبلاء، فيعلم أنها من الله يَهْد قلبه للصبر والرضا. هـ.
قال في الحاشية الفاسية: والظاهر والمتبادر: أنّ قوله: ﴿ما أصاب... ﴾ الآية جمعٌ على الله، ورَدٌّ من الأسباب، والوقوف معها، إلى الوقوف مع قضائه، وإنما يجد ذلك المؤمن بالله، وأمّا غيره فصَدْره ضَيق حرج عن قبول المعرفة، ولذلك قال: ﴿ومَن يؤمن بالله يَهْد قلبه﴾ لمعرفته والأطمئنان به، أي: ومَن لم يؤمن يَصْلى نار القطيعة والبُعد، وحرارة التدبير، ففيه ترغيب في الإيمان وتحذير من الكفر، وأنّ الإيمان تعقبه جنة الرضا والتسليم، عاجلاً، والكفر بضد ذلك، فبَعد أن ذكر الجزاء في الآخرة أشار إلى الجزاء المعجّل من اليقين والرضا للمؤمن، وضده للكافر. والله أعلم. هـ.
وأطيعوا اللهَ في الفرائض، والرسول في السنن، وقد بقي بعد الرسول خلفاؤه، يسنون السننَ الخاصة، فمَن أعرض عنهم، يقال له: ﴿فإن توليتم... ﴾ الآية، وتقدّم في آل عمران وغيرها الكلام على التوكُّل. وبالله التوفيق.
61
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِنّ مِن أزواجكم وأولادِكم عدواً لكم﴾ يشغلونكم عن طاعة الله تعالى، ويُخاصمونكم في أمور الدنيا، أي: إنَّ من الأزواج أزواجاً يُعادين بعولتهنّ ويخاصمنَهم، ومن الأولاد أولاداً يُعادون آباءهم ويعقّونهم، ﴿فاحذروهم﴾ ؛ كونوا على حذر منهم إن شغلوكم عن الله، فالضمير للعدو، فإنه يُطلق على الجمع، كقوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي﴾ [الشعراء: ٧٧]، أو: للأزواج والأولاد جميعاً، فالمأمور به على الأول: الحذر عن الكل، وعلى الثاني: الحذر من البعض، لأنّ منهم مَن ليس بعدو، وإمّا الحذر عن عموم الفريقين، لاشتمالهما على العدو. ﴿وإِن تَعفوا﴾ عن ذنوبهم القابلة للعفو، بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا، أو بأمور الدين لكن مع التوبة، أو: تعفوا إذا اطّلعتم منهم على عداوة، ﴿وتصفحوا﴾ ؛ تُعرضوا عن التوبيخ، ﴿وتغفروا﴾ ؛ تستروا ذنوبهم، ﴿فإِنَّ الله غفور رحيم﴾ يغفر لكم ذنوبكم، ويعاملكم مثل ما عاملتم.
رُوي أنّ ناساً من أهل مكة أرادوا الهجرة، فتعلّق بهم نساؤهم وأولادهم، وقالوا: تنطلقون وتُضيعوننا، فرقُّوا لهم، ووقفوا، فلما هاجروا بعد ذلك، ورأوا الذين سبقوهم قد فَقِهُوا في الدين، وحازوا رئاسةَ التقدُّم، أرادوا أن يُعاقبوا أزواجهم وأولادهم، فرغّبهم في العفو.
﴿إِنما أموالُكم وأولادُكم فتنةٌ﴾ ؛ بلاءٌ ومحنةٌ، يوقعون في الإثم والعقوبة، أو: امتحان واختبار، يختبر بهما عبادَه، هل يصدونهم عن الخير أم لا، فيعرف القويّ في دينه من الضعيف. قال الحسن: أدخل " مِن " للتبعيض في الأزواج والأولاد؛ لأنَّ كلهم ليسوا بأعداء، ولم يذكر " مِن " في فتنة الأموال والأولاد؛ لأنها لا تخلو من فتنة واشتغال قلب بها. كان لابن مسعود بَنون كالبُدور، فقيل له ـ وهم بين يديه: أيسرُّونك؟ فقال: لا، إنما يسرُّني لو نفضت يدي من التراب عند دفنهم، فنفوز بأجورهم، قيل له: إنَّ لك الأجر في تربيتهم، فقال: كل ما يشغل عن الله مشؤوم. هـ. من اللباب. وعن ابن مسعود: لا يقل أحدكم: اللهم اعصمني من الفتنة؛ إذ لا يخلو منها أحد، ولكن ليقل: اللهم إنني أعوذ بك من مضلاَّت الفتن. قال أبو بريدة: كان رسول الله ﷺ يخطب يوم الجمعة، فجاءه الحسن والحسين، عليهما قميصان أحمران، يجرانهما، يعثران، ويقومان، فنزل رسولُ الله ﷺ عن المنبر، حتى أخذهما، ثم قرأ:
﴿وإذا قيل لهم تعالوا ﴾ الآية، وما بقي إلاّ أياماً حتى اشتكى ومات.
﴿إنما أموالكم وأولادُكُم فتنةٌ﴾ الآية، ثم قال " إني رأيت هذين فلم أصبر " ثم أخذ في خطبته.
﴿
واللهُ عنده أجرٌ عظيم﴾
لمَن آثر محبةَ الله وطاعتَه على محبة الأموال والأولاد،
62
والسعي في تدبير مصالحهم، وليس في الآية ترهيب من مخالطة الأزواج والأولاد، إنما المراد النهي عن الاشتغال بهم عن ذكر الله وطاعته، فإذا تيسّر ذلك معهم فالمخالطة أولى، فَعَن أنس رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله؛ الجلوس مع العيال أحب إليك أم في المسجد؟ قال: " جلوس ساعة مع العيال أحب إليَّ من الاعتكاف في مسجدي هذا، ودرهم تُنفقه على العيال أفضل من أن تنفقه في سبيل الله " انظر السمرقندي.
﴿فاتقوا اللهَ مَا استطعتم﴾ أي: ابذلوا جهدَكم وطاقتكم في تقواه، قال ابن عطية: تقدّم الخلاف هل هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: ﴿اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] أو: مُبيّنة لها، والمعنى: اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم، وهذا هو الصحيح. هـ. ﴿واسمَعُوا﴾ ما تُوعظون به، ﴿وأطيعوا﴾ فيما تُؤمرون به ﴿وأَنفِقوا﴾ مما رزقناكم في الوجوه التي أُمرتم، فالإنفاق فيها خالصاً لوجهه ﴿خيراً لأنفسِكم﴾ أي: وائتوا خيراً لأنفسكم، ﴿ومَن يُوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون﴾ الفائزون بكل خير.
﴿إِن تُقرضوا اللهَ﴾ بصرف أموالكم إلى المصارف التي عيّنها ﴿قرضاً حسناً﴾ مقروناً بالإخلاص ﴿يُضاعِفْهُ لكم﴾ بالواحدة عشراً إلى سبعمائة أو أكثر، ﴿ويغفرْ لكم﴾ ببركة الإنفاق ما فرط منكم، ﴿واللهُ شكورٌ﴾ يُعطي الجزيل في مقابلة القليل، ﴿حليمٌ﴾ لا يُعاجِل بالعقوبة، ﴿عالمُ الغيب والشهادة﴾ لا تخفى عليه خافية، ﴿العزيزُ الحكيمُ﴾ مبالغ في القدرة والحكمة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل ما يشغلك عن السير إلى الحضرة، أو عن الترقِّي في معاريج الوصلة، فهو عدو لك، فاحذره، بالفرار من موافقته والوقوف معه، فكن إبراهيميًّا، حيث رمَى أهلَه وولَده في وادٍ غير ذي زرع، وتركهم في كنف الله وحِفْظِه، فانظر كيف حَفِظَهم غايةَ الحفظ، وتولاهم غاية التولي، وجعل أفئدة الناس تهوي إليهم من كل جانب، وانصبّت عليهم الأرزاق من كل ناحية، فهذه عادته تعالى مع أهل التوكُّل والانقطاع إليه. ومِن الأزواج والأولاد مَن يزيد بالرجل ويُعينه على ربه، فهؤلاء ليسوا بأعداء. قال سهل: مَن دعاك مِن أهلك وولدك للميل للدنيا فهو عدو، ومَن واخاك على القناعة والتوكُّل فليس بعدو. هـ. قال القشيري: إنَّ من أزواجكم: نفوسكم الأمَارة، وأولادكم: صفاتها ومُناها وأخلاقها الشهوانية، عدوًّا لكم، يمنعكم عن الهجرة إلى مدينة القلب، الذي هو بيت الرب، فاحذروا متابعتَهم بالكلية، وإن تعفوا عن هفواتكم الواقعة في بعض الأوقات، لكونهم مطية لكم، وتصفحوا عن التوبيخ، وتغفروا: تستروا ظلمتهم بنور إيمانكم وشعاع قلوبكم، فإنّ اللهَ غفور سائر لكم بستر لطفه، رحيم بإفاضة رحمته عليكم. هـ. ببعض المعنى.
إنما أموالكم وأولادُكُم فتنةٌ اختبار من الحق، ليعلم مَن يقف معها، أو ينفذ عنها، فأهل العناية لم يشغلهم عن الله شيء، فحين توجّهوا إليه كفاهم أمْرَهم، أو: بالغيبة عنها
63
بالخمرة القوية. قال القشيري: أموالكم: أعمالكم المشوبة، وأولادكم: أخلاقكم المكدرة، فكدورة الطبع فتنة توجب افتتانكم بالإعراض عن الحق، والإقبال على الدنيا، وحب الجاه عند الناس، والتفاتهم إليكم بحسن الاعتقاد، والله عنده أجر عظيم بالفناء عن الكل والبقاء بالحق. هـ.
﴿فاتقوا الله مَا استطعتم﴾ أي: غِيبوا عما سوى الله طاقة جهدكم، وتقدّم أنَّ قوله تعالى: ﴿اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] خطاب لأهل التجريد، وهذا خطاب لأهل الأسباب، والله تعالى أعلم. وقال ابن عطاء: الاستطاعة على الظواهر والأعمال، وحق تقاته على القلوب والأحوال. هـ. أي: اتقوا الله حق تقاته بتوجيه القلوب إليه بلا التفات، واتقوا الله ما استطعتم بعمل الجوارح قدر الطاقات. قال القشيري: ما أنتم في الجملة مستطيعين، ويتوجه إليكم التكليف، فاتقوا الله، والتقوى عن شهود التقوى، بعد ألاّ يكونَ تقصيرٌ في التقوى غايةُ التقوى. هـ. واسمعوا منا بلا واسطة، وأطيعوا فيما نأمركم به مما يُقرب إلينا، وننهاكم عنه مما يُبعد عنا. قال القشيري: أطيعوا بالنفس لأحكام الشريعة، وبالقلب لآداب الطريقة، وبالروح بطلوع الحقيقة. هـ. وأنفِقوا من أموالكم وعلومكم وأسراركم، على الطالبين والسالكين والواصلين، يكن خيراً لأنفسكم، لأنّ الناس نفس واحدة، فإنفاقك على غيرك إنفاق على نفسك، لانتفاء الغيرية في الأحدية. ومن يُوق شُحَّ نفسه بإنفاقها في مرضاة الله، بأن يُقدمها للمَتالف والمتاعب في طلب الوصول، فأولئك هم المفلحون الظافرون بشهود الحق. قال القشيري: ومَن يُوق شُحَّ نفسه حتى يرتفع عن قلبه الأخطار، ويتحرَّر من رِقِّ المكونات، فأولئك هم المفلحون. هـ. وعن بعضهم: مَن أنفق بكُرهٍ فهو شح، ومَن أَنفق بطوعٍ فهو الفرض، ومَن عُوفي من بلاء الجمع والمنع، والرغبة والحرص، فقد دخل في ميدان الفلاح. هـ.
إن تُقرضوا الله بإعطاء وجودكم قرضاً حسناً، من غير اعتبار الغرض والعوض، بالفناء عن شهود القَرْض والحس، يُضاعفه لكم بالوجود الحق، المشتمل على جميع الموجودات الإضافية، ويغفر لكم: يستر عنكم مساوئكم وحسّ وجودكم قبل فنائكم في الله وبقائكم به. والله شكور يقبل مَن توجه إليه بلا شيء، حليم يُغيّب العبد عن شهود مساوئه، بإغراقه في إحسانه. عالم الغيب: بواطن الأرواح، والشهادة: شهادة ظواهر الأشباح، العزيز: المعزّ لأوليائه ومكل مَن انتسب إليه، الحكيم في قسمه المراتب على حسب التوجُّه. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
64
سورة الطلاق
﴿ياأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ... ﴾.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها النبيُّ إِذا طلقتم النساءَ﴾، خصَّ النبيَّ ﷺ بالنداء، وعمَّ بالخطاب؛ لأنَّ النبيَّ ﷺ إمام أمته وقدوتهم، كما يُقال لرئيس القوم: يا فلان افعلوا كذا وكذا؛ إظهاراً لتقدُّمه، واعتباراً لترؤسه، وأنه قدوة قومه، فكان هو وحده في حكم كلّهم، وسادًّا مسدَّ جميعهم. ومعنى " إذا طلقتم ": إذا أردتم تطليقهن، كقوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٦]، تنزيلاً للمقبل على الشيء المشارِف له منزلةَ الشارع فيه، كقوله صلى الله عليه وسلم: " مَن قتل قتيلاً فله سلبه "، ومنه: كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المُصَلِّي. ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أي: مستقبلات لِعِدَّتهن، شارعة فيها، بمجرد الطلاق، من غير أن تكون في حيض أو نِفاس، فإنَّ المرأة إذا طلقت في طُهر تعتد بذلك الطُهر من أقرائها، فتخرج من العدّة برؤية الحيض الثالث، بخلاف إذا طُلقت في غير طُهر، فتنتظر الطُهر منه، فلا تخرج إلاّ برؤية الحيض الرابع. والمراد أن يُطلِّق في طُهر لم يمس فيه، وهذا هو طلاق السُنَّة. قال ابن جزي: واختلف في الطلاق: هل هو مباح أو مكروه، وأمّا إن كان على غير وجه السُنة فهو ممنوع. هـ. وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
65
" فطلِّقوهن في قُبل عِدّتهن ". قال ابن جزي: واختلف في النهي عن الطلاق في الحيض، هل هو معلَّل بتطويل العدة، أو تعبُّد، والصحيح: أنه معلَّل بذلك، وينبني على هذا الخلاف فروع، منها: هل يجوز إذا رضيت به المرأةُ أم لا؟ ومنها: هل يجوز طلاقها في الحيض وهي حامل أم لا؟ ومنها: هل يجوز طلاقها قبل الدخول وهي حائض أم لا؟ فالتعليل بتطويل العدة يقتضي جواز هذه الفروع، والتعبُّد يقتضي المنع، ومَن طَلَّق في الحيض لزمه الطلاق، ثم أُمر بالرجعة على وجه الإجبار عند مالك، ودون إجبار عند الشافعي حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلَّق وإن شاء أمسك، حسبما ورد في حديث ابن عمر، حيث طلّق امرأته، فأمره ﷺ برجعتها هـ.
﴿وأَحْصُوا العِدَّةَ﴾ ؛ اضبطوها، وأكمِلُوها ثلاثة أقراء كوامل، لِما ينبني عليها من الأحكام، كالرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك، ﴿واتقوا اللهَ ربكم﴾ في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن. وفي التعبير بعنوان الربوبية تأكيد لِما أمر، ومبالغة في إيجاب الاتقاء.
﴿
لا تُخرجوهن من بيوتهن﴾
؛ من مساكنهن عند الفراق إلى أن تنقضي عدتهن، وإضافتها إليهن مع أنها للأزواج لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكانها، كأنها أملاكهن. ﴿ولا يَخْرُجْن﴾ ولو بالإذن منكم، فإنَّ الإذن في الخروج في حكم الإخراج، وقيل: لا يخرجن باستبدادهن، أمّا إذا اتفقا على الخروج جاز، وهو خلاف مذهب مالك، فلا يجوز لها في مذهبه المَبيت عن بيتها، ولا أن تغيب عنه، إلاّ لضرورة التصرُّف، وذلك لحفظ النسب، وصيانة المرأة، فإن كان المسكن ملكًا للزوج، أو مكترىً عنده لزمه إسكانها فيه، وإن كان المسكن لها فعليه كِراؤه مدة العدة، وإن كان قد استمتعته فيه مدة الزوجية؛ ففي لزوم خِراج العدة له قولان في المذهب، والصحيح لزومه؛ لأنّ الاستمتاع قد انقطع بالطلاق.
﴿إِلاَّ أن يأتين بفاحشةٍ مبيِّنة﴾، قيل: الزنا، فيخرجن لإقامة الحد، قاله الليثي والثعلبي، وقيل: سوء الكلام وإظهار الفحش مع الأصْهار، فتخرج ويسقط حقها من السكنى، وتلزمها الإقامة في مسكن تتخذه حفظاً للنسب. قاله ابن عباس، ويؤيده: قراءة أُبي: " إلاَّ أن يفحشن عليكم "، وقيل: جميع المعاصي من القذف والسرقة وغير ذلك. قاله ابن عباس أيضاً. ومال إليه الطبري. وقيل: الخروج من بيتها خروجَ انتقال، متى فعلت ذلك سقط حقها. قاله ابن الفرس، وإلى هذا ذهب مالك في المرأة إذا نشزت في
66
العدة، وقيل: هو النشوز قبل الطلاق، فإذا طلّقها بسبب نشوزها فلا سكنى على زوجها قاله قتادة.
﴿وتلك حدودُ الله﴾ أي: تلك الأحكام المذكورة هي حدود الله التي عيّنها لعباده، ﴿ومَن يَتَعَدَّ حدودَ الله﴾ المذكورة، بأن يُخلّ بشيء منها، على أنَّ الإظهار في محل الإضمار لتهويل أمر التعدي، والإشعار بعلة الحكم، ﴿فقد ظَلَمَ نفسه﴾ ؛ أضرَّ بها، إذ لعله يندم. والتفسير بتعريضها للعذاب يأباه قوله: ﴿لا تدرى لعل اللهَ يُحدِثُ بعد ذلك أمراً﴾ فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية، وقد قالوا: إنَّ الأمر الذي يُحدثه اللهُ تعالى: هو أن ينقلب قلبه بُغضها إلى محبتها، أو: من الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ويندم، فلا بد أن يكون الظُلم عبارة عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعدِّيه، وهو الندم إن كان طلَّق ثلاثاً، فيمنع من الرجعة، أو: الحياء، إن كان إخراجها من المسكن بلا سبب، أو: فقد ظَلَمَ نفسَه بتعريضها للعذاب الشامل؛ الدنيوي والأخروي، حيث خالف ما أمره سيده. ﴿لاتدري﴾ أيها المخاطب ﴿لعل اللهُ يُحِدثُ بعد ذلك أمراً﴾ وهو الرجعة، والمعنى: أحصوا العِدَّة وامتثلوا ما أُمرتم به، لعل الله يُحدث الرجعة لنسائكم.
﴿
فإذا بَلَغْنَ أجلَهن﴾
أي: قاربن آخر العِدَّة ﴿فأمْسِكُوهنَّ﴾ ؛ راجعوهن ﴿بمعروفٍ﴾ بحُسن معاشرة وإنفاقٍ لائق، ﴿أو فارِقوهنَّ بمعروفٍ﴾ بإعطاء الصداق والإمتاع حين الطلاق، والوفاء بالشروط. والمعنى: فأنتم بالخيار؛ إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة واتّقاء الضرر، وهو أن يُراجعها في آخر عدتها ثم يُطلٍّقها، تطويلاً لعِدتها وتعذيباً لها، ﴿وأَشْهِدوا﴾ عند الرجعة والمفارقة ﴿ذَوَيْ عَدْلٍ منكم﴾ من المسلمين، وهذا الإشهاد مندوب على المشهور لئلا يقع بينهما التجاحد. وفي قوله: ﴿ذوي عدل﴾ دلالة على أنهم ذكور، فلا تجوز شهادة النساء في النكاح ولا في الطلاق عند الجمهور. ﴿وأقيموا الشهادةَ للهِ﴾ أيها الشهود عند الحاجة إليها، خالصاً لوجهه تعالى. ﴿ذلكم﴾ إشارة إلى الحث على الإشهاد في الرجعة، أو: إلى جميع ما ذكر، ﴿يُوعظ به مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر﴾ إِذ هو المنتفِع به، والمقصود بتذكيره.
الإشارة: إذا طلقتم الدنيا وحظوظَ نفوسكم؛ فليكن ذلك إلى أجل معلوم، وهو الرسوخ والتمكين بعد الوصول، وأَحْصُوا العدّة: اضبطوا أيام سيركم لئلا تضيع في البطالة أو الفضول، واتقوا ما سوى ربكم أن تلتفتوا إليه، لا تُخرجوا نفوسكم من أشباحها بشِدة مجاهدتها، فإنها مَغرفة السر، ومطيّة السير، نَبَرُّ بها فيما تقوم بها من مآكل وملبس ونُخالف هواها، ولا يَخرجن، إي: ولا تتركوها أن تخرج من عش التربية قبل الترشيد، إلاّ أن تطغى وتفحش، فبالِغ في مجاهدتها بما يقارب موتها، وتلك حدود الله التي حَدّها للسائر، ومَن يتعدَّ شيئاً منها فقد ظلم نفسه، إمّا بتفريط أو إفراط، فصاحب التفريط لا يصل، وصاحب الإفراط لا يدوم، لا تدري أيها السائر لعل اللهَ يُحدث بعد ذلك انقياداً
67
وتسهيلاً، فإذا بلغ أجل الوصول، وحل التمكين، فلا ميزان على النفس، إن شاء أمسك عليها إبقاء، وإن شاء غاب عنهما فناء، وأشهِدوا ذّوّيْ عدل منكم، وهم أهل الفن، فلا يخرج مِن ربقة المجاهدة وعش الإرادة، حتى يشهد له الشيخ أو أهل الفن. والله تعالى أعلم.
ثم حَضَّ على التقوى التي هي مجمع الخير، فقال:
﴿... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ومَن يَتَّقِ اللهَ﴾ بأن طلَّق للسُنَّة، ولم يُضار بالمعتدّة، ولم يُخرجها من مسكنها، واحتاط في الإشهاد، وغير ذلك، ﴿يجعل له مخرجاً﴾ مما عسى يقع في شأن الأزواج من الغموم والمضائق، ويُفرِّج عنه ما يعتريه من الكروب. رُوي عن ابن عباس أنه قال لمَن طَلَّق ثلاثاً: " إنك لم تتق الله، فبانت منك امرأتك ". والمختار: أنَّ الآية عامة، أي: ومَن يتق الله في أقواله وأفعاله وأحواله يجعل له مخرجاً من كرب الدنيا والأخرة. وعن النبي ﷺ أنه قرأها، فقال: " مخرجاً من شُبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة "، قال ابن جزي: وهذا ـ أي العموم ـ أرجح من خمسة أوجه، الأول: حمل اللفظ على عمومه، فيدخل فيه الطلاق وغيره. والثاني: رُوي: أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، وذلك أنه أُسر ولده، وضُيِّق عليه رزقه، فشكا ذلك إلى رسول الله ﷺ فأمره بالتقوى، وقال له: " أَكْثِرْ من: لاحَول ولا قوة إلا بالله " فلم يلبث إلاَّ يسيراً، وانطلق ولده، ووسع عليه زرقه. والثالث: أنه رُوي عنه ﷺ أنه قال: " إني لأَعْلمُ آية لو أخذ الناسُ بها لكفتهُم ﴿ومَن يَتَّقِ الله يَجْعَل له مخرجا﴾ " فما زال يكررها، انظر بقيته.
﴿ويَرْزُقه من حيثُ لا يحتسب﴾ أي: من وجوه لاتخطر بباله ولا بحسبه، ﴿ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ أي: يكل أمرَه إليه من غير تعلُّق بغير، ولا تدبير نفس، ﴿فهو حَسْبُه﴾ ؛ كافيه في جميع أموره، ﴿إِنَّ اللهَ بالغُ أَمْرِه﴾، بالإضافة في قراءة حفص، أي: منفذاً أمره، وبالتنوين والنصب عند غيره، أي: مبلغ ما يريد، لا يفوته مُراد، ولا يعجزه مطلوب. ﴿قد جعل اللهُ لكل شيءٍ قَدْراً﴾ ؛ تقديراً، أو توقيتاً، أو مقداراً معلوماً ووقتاً محدوداً، لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، وهذا حث على التوكل وترغيب فيه، لأنَّ العبد إذا عَلِمَ أنَّ الأمور
68
كلها بيد الله، من الرزق وغيره وأنَّ لها وقتاً محدوداً لا يُجاوزه، توكل عليه، وانجمع بكليته عليه، ولم يبقَ له إلاّ التسليم للقدَر السابق. قال ابن عطية: في الآية حَضٌّ على التوكل، أي: لا بد من نفوذ أمر الله تعالى، توكلتَ أيها المرء أم لم تتوكل، فإنْ توكلتَ على الله كفاك، وتعجّلت الراحة والبركة، وإن لم تتوكل وَكَلَك إلى جحدك وتسخُّطك، وأمره نافذ في الوجهين. هـ.
الإشارة: ومَن يتق الله التقوى الكاملة، يجعل له من كمل مُشْكل وشُبهة ومتشابه مَخرجاً، فيَنحلّ له كل ما أشكل على الناس في أمر الدين والدنيا، ويرزقه من العلوم والأسرار والمعارف، ما لا يخطر على بال، من حيث لا يحتسب، من غير تعلُّم ولا مدارسة، وقال القشيري: إذا صَدَقَ العبدُ في تقواه أخرجه من أشغاله، كالشعرة من العجين، لا يتعلق بها شيء، يضرب على المتقِي سرادقات عنايته، ويُدخله في كنف الإيواء ويصرف الأشغال، عن قلبه، ويُخرجه عن تدبيره، ويُجرده عن كل شغل، ويكفيه كل أمر، وينقله إلى شهود قضاء تقديره. هـ.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه في هذه التقوى: أن تكون ظاهرة وباطنة، ظاهرة من المعاصي، وباطنة من المساوىء والدعاوى، أمّا مَن طهَّر ظاهره من المعاصي، وسَدّ الأُفق بالدعاوى وإضافة التدبير والاختيار لنفسه، فلا يقوم خيره بِشَرِّه، أي: فلا يدخل في الآية. ثم قال: إِلاَّ مَن وَطَّن نفسه على الأرياح إلى أيّ وجهة تقلب، أي: دار مع رياح الأقدار حيث دارت، ولم يسكن إلى شيء، وكان ممن قال اللهُ فيه: ﴿تَتَجَافَىا جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة: ١٦]، أتراه منع جنوبَهم من مضاجع النوم، وترك قلوبهم مضجعة وساكنة لغيره، بل رفع قلوبهم عن كل شيء، ولا يضاجِعُون أسرارهم شيئاً، فافهم هذا المعنى، تتجافى جُنوبهم عن مضاجعة الاختيار ومنازعة الأقدار، يدعون ربهم خوفاً وطمعاً، فالخوف قَطَعَهم عن غيره، وبالشوق إليه أطمعهم فيه، ومما رزقناهنم ينفقون. هـ. مختصراً.
وقوله تعالى: ﴿ويَرْزُقه من حيثُ لا يحتسبُ﴾ قال في الحاشية الفاسية: أي: يرزقه المقدَّر في الأزل من حيث لا مشقة عليه في وصوله إليه، فيأكل ويلبس من غير انتظار، ولا استشراف نفس، ولا تعب، فيخرج له من الغيب بالبديهة ما يكفيه عن السؤال، ومَن عَرَف اللهَ عَرَفه بكمال قدرته وإحاطة علمه بكل ذرة، فيلقي زمام الاختيار إليه، فيكفيه كل مؤنه في الدنيا والآخرة، وهو السميع العليم، وقد قال سهل: التقوى: التبري من الحول والقوة. هـ.
وقوله تعالى: ﴿ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فهو حَسْبه﴾ قال القشيري: فالله حاسبه، أي: كافيه. ﴿إِنَّ اللهَ بالغُ أَمْرِه﴾، إذا سَبَقَ له شيءٌ من التقدير، فلا محالةَ يكون، وفي التوكل لا يتغير المقدور ولا يتأخر، ولكنَّ المتوكل تكون ثقته بقلبه، غير كارهٍ لما يرد عليه، وهذا
69
من أجَلِّ النعم. ثم قال في موضع آخر: التوكل: شهود نَفْسِك خارجاً من المِنَّة، جارياً عليك أحكام التقدير من غير تدبيرٍ منك ولا اطلاع لك على حُكمه، فسبيلُ العبد: الخمودُ والرضا دونَ استعلام الأمر. وفي الخبر: " أعوذ بالله من علم لا ينفع " ومن جملته: أن يكون قد وقع لك شُغْلٌ، واستقبلك مُهمٌ، وقد اشتبه عليك وجهُ التدبير فيه، وتكون مُطالباً بالسُكون، فيطلبك العلم، وتتمنى أن تعرف متى يصلح هذا الأمر، وبأي سببٍ؟ وعلى أي وجهٍ؟ وعلى يد مَن؟ فهذا كله تخليطٌ، وغير مُسلَّم شيءٌ من ذلك للأكابر، وهو مِن العلم الذي يجب التعوُّذ منه، فيجب عليك السكون والرضا، فإذا جاء وقتُ الكَشْف، فسترى صورة الحال وتعرفه، وربما ينظر العبدُ في هذه الحالة تعريفاً في المنام، أوينظر في فال من الجامع ـ اي: ككتاب وشَبهه ـ أو يرجو بيان حاله، بأن يجري على لسان مستنطق في الوقت، كلُّ هذا تركُ للأدب، واللهُ لا يَرْضى بذلك من أوليائه، بل الواجبُ السكون. هـ.
وقال في القوت: والحسب إلى الحسيب يجعلُه ما شاء كيف شاء، فقد قيل: ﴿فهو حَسْبُه﴾ أي: التوكل حَسْبُه من سائر المقامات، ثم قال معرباً باللطافة، مسلياً للجماعة: ﴿إِنَّ الله بالغ أمره﴾ أي: منفذ حكمه فيمن توكل، ومَن لا يتوكل، إلاَّ أنّ مَن توكّل عليه يكون الله ـ عزّ وجل ـ حَسبه، أي: يكفيه أيضاً مُهِم الدنيا والآخرة، ولا يزيد مَن لم يتوكل عليه جناح بعوضة في قسْمه، كما لا ينقص عليه ذرة من رزقه، لكن يزيد مَن توكل عليه هُدىً إلى هداه، ويرفعه مقاماً في اليقين قدر تقواه، ويُعزّه بعزّه، وينقص مَن لم يتوكل عليه من اليقين، ويزيده من التعب والهم، ويُشتت قلبَه، ويشغل فكرَه، فالمتوكل عليه يُجب له تكفير السيئات، ويُلقي عليه رضاه ومحبته في المقامات، أمّا الكفاية فقد ضَمِنها تعالى لِمن صدق في توكله عليه، والوقاية قد وهبها لمَن أحسن تفويضه إليه، إلاّ أنّ الاختيار وعلم الاستتار إليه في الكفاية والوقاية، يجعل ذلك ما يشاء كيف شاء، وأين شاء، من أمور الدنيا وأمور الآخرة، من حيث يعلم العبد، ومن حيث لا يعلم؛ لأنَّ العبد تجري عليه الأحكام في الدارين، وفقير محتاج إلى الرحمة واللطف في المكانين. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿واللائي يَئِسْنَ من المحيض من نسائكم﴾ لكبرهن، وقدّروه بستين، أو: بخمس وخمسين. رُوي أنَّ ناساً قالوا: قد عرفنا عِدة الأقراء، فما
70
عدة التي لم تحض؟ فنزلت. وقوله: ﴿إِن ارتبتمْ﴾ أي: إن أشكل عليكم حكمهنّ كيف يعتددن، ﴿فعِدَّتهُنَّ ثلاثةُ أشهرٍ﴾ أو: إن ارتبتم في حيضها، هل انقطع أو لم ينقطع، فعِدَّتها بالأشهر، وهي المرتابة التي غابت حيضتُها، وهي في سن مَن يحيض، واختلف فيها، فقيل: ثلاثة أشهر على ظاهر الآية، وقيل: تسعة، وتستبرىء بثلاثة، وهو المشهور في مذهب مالك، وقدوته في ذلك عُمر بن الخطاب، لأنّ مذهبه عُمري، وقيل: تعتد بالأقراء، ولو بلغت ثلاثين سنة، حتى تبلغ سن مَن لا يحيض، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. ﴿واللائي لم يَحِضْنَ﴾ من صغر، فعدتهنّ ثلاثة أشهر، حذف لدلالة ما قبله، ﴿وأُولات الأحوالِ أجَلُهُنَّ﴾ أي: عِدّتهن ﴿أن يضعن حَملَهن﴾ سواء كن مطلقات، أو متوفًّى عنهن أزواجهن، عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وسائر العلماء. وقال عليّ وابن عباس رضي الله عنهما: إنما هذا في المطلقات الحوامل، وأما المتوقَّى عنهن فعدّتهنَ أقصى الأجلين، إما الوضع، أو انقضاء أربعة أشهر وعشر، وحُجة الجمهور: حديث سُبَيْعة، أنها لما مات زوجها، ووضعت، أَمَرَها رسولُ الله ﷺ بالتزوُّج، وقد رُوي أن ابن عباس رجع إليه، ولو بلغ عليًّا لرجع، فهذه الآية مخصَّصة لِما في سورة البقرة من قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ... ﴾ [البقرة: ٢٣٤].
تنبيه: وَضْعُ الحمل إنما يُبرىء الرحم إذا كان من نكاح صحيح، وأمّا من الزنى فلا يُبرئ، باتفاقٍ، فمَن حملت مِن زنى وهي متزوجة فلا تحل للهارب الذي حملت منه إذا طُلّقت بوضع حملها منه، بل لا بد من ثلاثة قروء بعد الوضع، نَعَم مَن لا زوج لها من حُرةٍ أو أَمةٍ إذا حملت من زنى تمَّ استبراؤها بوضع حملها.
﴿
ومَن يتقِ اللهَ﴾
في شأن أحكام العدة ومراعاة حقوقها ﴿يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسراً﴾ أي: يُسهل عليه أمره. ويتحلّل عليه ما تعقّد ببركة التقوى، ﴿ذلك﴾ أي: ما علَّمكم من الأحكام ﴿أمرُ الله أَنزله إِليكم﴾ لتعملوا به. وإفراد الكاف مع أنّ المُشار إليهم جماعة؛ لأنها لتعيين الفرق بين البُعد والقرب، لا لتعيين خصوصية المخاطبين ﴿ومَن يتق الله﴾ بالمحافظة على أحكامه ﴿يُكفِّر عنه سيئاتِه﴾ فإنَّ الحسنات يُذهبن السيئات، ﴿ويُعْظِمْ له أجراً﴾ بالمضاعفة والتكثير.
الإشارة: والنفوس التي يئسن من المساوىء والميل إلى الدنيا، ثم شككتم في تحقق طهارتها، تنتظر ثلاثة أشهر، فإذا مضت هذه المدة ولم يظهر منها ميل، فالغالب طهارتها، وكذلك النفوس الزكية، الباقية على الفطرة، التي لم يظهر منها خَلل، تنتظر هذه المدة، فإن ظهرت سلامتها فلا مجاهدة عليها، والنفوس الحوامل بكثرة الأشغال عِدَّة تمام فتحها أن تضع كل ما يثقل عليها ويمنعها من السير، ولقد سمعتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه
71
يقول: إن شئتم أن أُقسم لكم؛ إنه لا يدخل أحد عالَم الملكوت وفي قلبه علقة. هـ. ﴿ومَن يتق الله﴾ أي: يعزم على البر والتقوى يجعل له تعالى من أمره يُسراً، يُسهّل عليه طريق السلوك، ويكفيه كلَّ ما يُثقله ويشغله عنه، إما بإزالة ذلك له، أو بغيبته عن شؤونه، ومَن يتق الله بالفعل يُكَفِّر عنه سيئاتِه، أي: يُغطّي عنه أوصافه الذميمة بأوصافه الحميدة، ويُعظم له أجراً بأن يفتح له باب مشاهدته. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ﴾ أي: المطلَقات ﴿من حيثُ سَكَنتم﴾ أي: مكاناً من حيث سكنتم، فـ " من " للتبعيض، أي: بعض مكانِ سكناكم. قال قتادة: لو لم يكن له إلاّ بيت واحد سكنها في بعض جوانبه. ﴿من وُجْدِكُم﴾ أي: وُسْعِكم، أي: ما تطيقونه، فهو عطف بيان، أو بدل. قال أبو حيان: لا يُعرف عطف بيان يعاد فيه العامل، إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً. هـ. والوجد، يجوز فيه الضم ـ وهو أشهر ـ والفتح والكسر.
قال ابن جزي: فأمّا المطلقات غير المبتوتة فيجب لها على زوجها السُكُنَى والنفقة اتفاقاً، وأمّا المبتوتة ففيها ثلاثة أقوال، أحدها: أنها يجب لها السكنى دون الفقة، وهو مذهب مالك والشافعي، والثاني: أنها يجب لها السكنى والنفقة، وهو مذهب أبي حنيفة، والثالث: أنها ليس لها سُكنى ولا نفقة، وهو قول محمد، وثابت البناني، وأُبي بن كعب. فحُجة مالك: حديث فاطمة بنت قيس، وهو أنَّ زوجها طلَّقها البتَّةَ، فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " ليس لك عليه نفقة "، فيوخذ منه: أنَّ لها السُكْنى، وحُجة مَن أوجب لها السكنى والنفقة: قول عمر بن الخطاب: لا ندع آيةً من كتاب الله ربنا لقول امرأة، فإني سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: " لها السُكْنَى والنفقة "، وحجة مَن لم يجعل لها سكنى ولا نفقة: أنَّ في بعض الروايات عنها ـ أي: فاطمة بنت قيس ـ أنها قالت: " لم يجعل لي رسولُ الله ﷺ نفقة ولا سُكْنَى ".
﴿ولا تُضارُّوهُنَّ﴾ في السُّكْنَى ﴿لِتُضيِّقُوا عليهن﴾ ويُلجأن إلى الخروج، ﴿وإِن كن﴾
72
أي: المطلقات ﴿أُولات حملٍ فأَنفِقوا عليهن حتى يضعنَ حَملَهن﴾ فيخرجن من العِدّة. قال ابن جزي: اتفق العلماء على وجوب النفقة في العِدّة للمطلقة، عملاً بالآية، سواء كان الطلاق رجعيًّا أو بائناً. واتفقوا أنَّ للمطلقة غير الحامل النفقة والسُكْنى في العِدّة إذا كان الطلاق رجعيًّا، فإن كان بائناً فاختلفوا في نفقتها حسبما ذكرناه، وأمّا المتوفَّى عنها إذا كانت حاملاً فلا نفقة لها عند مالك والجمهور، لأنهم رأوا أنَّ هذه الآية إنما هي في المطلقات. وقال قوم: لها النفقة في التركة. هـ.
﴿
فإنْ أرضعنَ لكم﴾
هؤلاء المطلقات أولادَكم ﴿فآتوهن أجورَهُنَّ﴾ أي: أجرة الرضاع، وهي النفقة وسائر المؤن المُفصل في كتب الفقه. ﴿وأْتَمِرُوا بينكم بمعروفٍ﴾، خطاب للرجال والنساء، أي: يأمر كلُّ واحد منكم صاحبَه بخيرٍ؛ من المسامحة والرفق والإحسان، ولا يكن من الأب مماكسة، ومن الأم معاسرة، أو: تشاوروا بينكم على التراضي في الأجرة، ومنه: ﴿إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ﴾ [القصص: ٢٠]. ﴿وإِن تعاسَرتمْ﴾ ؛ تضايقتم، فلم ترضَ الأمّ بما ترضع به الأجنبية، ﴿فستُرضِعُ له أخرى﴾ ؛ فستُوجد مرضعةٌ أخرى، غير متعاسرة، وفيه معاتبة للأم على المعاسرة. والمعنى: إن تشططت الأمّ على الأب في أجرة الرضاع، وطلبت منه كثيراً، فللأب أن يسترضع لولده امرأة أخرى بما هو أرفق إلاّ ألاَّ يَقبل الولدُ غيرها، فتُجبر على رضاعة بأجرة المثل.
﴿ليُنفق ذو سَعَةٍ من سَعته ومَن قُدِرَ عليه رزقُه فليُنفق مما آتاه اللهُ﴾ أي: لِينفق كُلٌّ واحد من المعسر والموسر بما يبلغه وسعه، يعني: ما أُمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات، ﴿ومن قَدِرَ﴾ أي: ضُيِّق ﴿عليه رزقُه فلينفقْ﴾ عليها ﴿مما آتاه اللهُ﴾ فيَفرض الحاكمُ عليه ما يطيقه، ﴿لا يُكلِّف اللهُ نفسا إِلاَّ ما آتاها﴾ ؛ أعطاها من الرزق، وفيه تطييب قلب المعسر، وترغيب له في بذل مجهوده، وقد أكد ذلك بالوعد، حيث قال: ﴿سيجعل اللهُ بعد عُسر يُسراً﴾ أي: بعد ضيق في المعيشة سعة فيها، فإنّ عادته تعالى أن يُعقب العسر باليسر، كما قال تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ [الشرح: ٥]، وكرره مرتين، فلن يغلب عسر يسريْن.
الإشارة: أسكِنوا نفوسَكم من حيث سكنتم بها قبل التوجه، فينبغي للمريد أن يُسايس نفسه شيئاً فشيئاً، حتى يغيب عنها في شهود الحق، من غير تشديدٍ في إخراجها عن طبعها بالكلية، فإنها حينئذٍ تَملّ وتكِلّ، فقد قيل: مَن سار إلى الله بموافقة طبعه كان الوصول إليه أقرب إليه من طبعه، ومَن سار إلى الله بمخالفة طبعه كان الوصول إليه على قدر بُعده عن طبعه، وفيه مشقة وحرج. ولذا قال تعالى: ﴿ولا تُضاروهن لتُضيقوا عليهن﴾ لئلا تمل وترجع من حيث جاءت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لا يكن أحدكم كالمُنْبَت، فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى "، نعم مخالفة طبعها في حب الظهور والجاه، أو حب الدنيا،
73
واجب حتماً لا رخصة فيه، وهذه سيرة أشياخنا رضي الله عنهم لا يُضيقون على المريد في جوع ولا عطش، ولا كثرة رياضة، وإنما يأمرونه بالخمول وتخريب الظاهر والزهد التام، والورع الكامل، فقد سمعت شيخ شيخنا مولاي العربي الدرقاوي الحسني رضي الله عنه يقول: سُدُّوا باب الطمع، وافتحوا باب الورع، واللهِ إن فعلتم ذلك حتى يستولي باطنكم على ظاهركم. هـ. أي: تستولي المعاني على الحس، فيتحقق الشهود الكامل. وكان أيضاً يقول: نحن لسنا مع جوعٍ ولا مع شبعة، نحن مع الله. هـ. أي: غائبون عن الجوع والشبع في ذكر الله وشهوده.
وإن كن أُولات حَمل، أي: ثقل من كثرة العلائق، فأّنْفِقوا عليهن من الواردات الإلهية بصُحبة الرجال، حتى تصادم تلك العلائق، فتهدمها، فتضع الحمل عنها، فإن أرْضَعْن لكم، بإن تهذبت ورجعت روحانيةً تأتيك بالعلوم التي يرتضع منها القلب باليقين والمعرفة، فأتوهن أجورهن من البرّ بها والرفق، وائتمروا بينكم بمعروف، فتُؤمر أنت بالإحسان إليها، وتُؤمر هي بالطاعة لك، وإن تعاسرتم، بأن ضعفت هِمتكم، وقلّت أمدادكم، بعدم صحبة أهل الإمداد، فستُرضع له نفس أخرى، أي: فليتخذ شيخاً كاملاً يُرضع له نفسه من ثدي أسرار العلوم والمعارف، ولذلك قيل: مَن لا شيخ له فالشيطان شيخه، لِيُنفق ذو سعة من سعته، وهم الواصلون العارفون، يُنفقون من سعة علومهم وأسرارهم، على المريدين الذي استرضعوهم، ومَن قُدر عليه رزقه من المريدين السائرين فليُنفق مما آتاه الله على مَن تعلقَ به من المريدين، لا يُكلف الله نفسا إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عُسرٍ وضيقِ في العلوم والأسرار يُسراً، فتتسع عليه العلوم والأسرار بعد التمكين. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: ﴿وكَأَيِّن من قريةٍ﴾ أي: كثير من أهل قرية ﴿عَتَتْ﴾ ؛ أعرضت ﴿عن أمر ربها ورُسلِه﴾ أي: عن طاعتهما على وجه العتوّ والعناد، ﴿فحاسبناها حِساباً شديداً﴾ بالاستقصاء والتنقير والمباحثة في كل نقير وقطمير، ﴿وعذَّبناها عذاباً نُكراً﴾ ؛ منكراً فظيعاً، والمراد: إمّا عذاب الآخرة، والتعبير بالماضي لتحقُّق وقوعه، أو عذاب الدنيا، وهو أرجح؛ لأنه سيذكر عذاب الآخرة بعدُ بقوله: ﴿أعدّ اللهُ لهم عذاباً شديداً... ﴾ الخ،
74
﴿فذاقت وَبَالَ أمرِها﴾ أي: وخامة شأنها، وعقوبة فعلها. قال في الصحاح: والوَبَلَة ـ بالتحريك: الثِقَّلُ والوخَامةُ، وقد وَبُل المرتعُ بالضم وَبْلاً ووَبَالاً، فهو وَبيلٌ، أي: وخِيمٌ. هـ. وفي القاموس: وبُلَ ككَرُمَ وبَالةً ووبالاً ووبُولاً، وأرض وَبِيلَةٌ: وخيمةُ المرتَعِ. هـ. ﴿وكان عاقبةُ أمرها خُسراً﴾ أي: خساراً وهلاكاً.
﴿أعدَّ اللهُ لهم﴾ في الآخرة ﴿عذاباً شديداً﴾، وعلى أنَّ الكل في الآخرة يكون هذا تكريراً للوعيد وبياناً لكونه مترقباً، كأنه قال: أعدّ الله لهم هذا العذاب الشديد، ﴿فاتقوا اللهَ يا أُولي الألبابِ﴾ في مخالفة أمره، واحذروا ما حلّ بمَن طغى وعتا. وأولو الألباب هم أهل العقول الصافية، ثم فسَّرهم بقوله: ﴿الذين آمنوا﴾ إيماناً خالصاً من شوائب الشرك والشك، فالموصول عطف بيان لأولي الألباب، أو نعت، أو منصوب بأعِني، ﴿قد أنزل اللهُ إِليكم ذكراً﴾ أي: القرآن.
وانتصب ﴿رسولا﴾ بفعل مضمر، أي: وأرسل رسولاً، أو: هو بدل من " ذِكْراً " كأنه في نفسه ذكر، أو: على تقدير حذف مضاف، قد أنزل ذا ذكر رسولاً، وأريد بالذكر: الشرف، كقوله: ﴿وَإِنَهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤] أي: ذو شرف ومجدٍ عند الله، أو: للمنزَل عليه، أو: لقارئه، وبالرسول: جبريل، أو محمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ ﴿يتلوا﴾ أي: الرسول، أو الله ـ عزّ وجل ـ ﴿عليكم آياتِ الله مُبينات﴾ أي: واضحاتٍ، قد بيَّنها اللهُ تعالى لقوله: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الأَيَات﴾ [آل عمران: ١١٨والحديد: ١٧] وقرىء بكسر الياء، أي: تُبين ما تحتاجون إليه من الأحكام، ﴿لِيُخرج الذين آمنوا وَعمِلوا الصالحاتِ من الظلمات إِلى النور﴾ متعلق بـ " يتلو "، أو: بـ " أنزل "، وفاعل " يُخرج " إما الله، أو الرسول، أي: ليحصّل لهم الله أو الرسول ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح، أو: ليخرج من عَلِمَ وقدّر أنه سيؤمن، ﴿ومَن يؤمن بالله ويعمل صالحاً﴾ حسبما بُيّن في تضاعيف ما أنزل من الآيات المبينات ﴿يُدخله جناتٌ تجري من تحتها الأنهارُ﴾، وقرأ نافع والشامي بنون العظمة ﴿خالدين فيها أبداً﴾، والجمع باعتبار معنى " مَن " كما أنَّ الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها، ﴿قد أحسن اللهُ له رزقاً﴾ في الدنيا والآخرة. قال القشيري: الرزقُ الحَسَنُ: ما كان على حَدِّ الكفاية، لا نقصان فيه، ليضعف عن كفاية صاحبه، ولا زيادةَ فيه تَشْغَلهُ عن ربهم. هـ. بالمعنى. وسيأتي في الإشارة بقيته.
الإشارة: وكأيّن من قريةٍ من قرى القلوب عتت عن أمر ربها؛ عن تحمُّل أعباء العبودية؛ لأنّ القلب لا يحب إلا العلو والغنى والراحة، فإذا أراد العبد أن ينزل إلى الخمول والذل والفقر والتعب عَتَا وتَكَبَّر، وقد حكم اللهُ تعالى بالطبع على القلب المتكبّر، بقوله: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِرٍ جَبَّارٍ﴾ [غافر: ٣٥] في قراءة الإضافة، والمراد بالرسل: الواردات القهرية، فالقلب أيضاً شأنه الفرار منها؛ لأنها تهدم عليه عوائده، وحسابه تعالى لها إحصاؤه لخواطرها، وعتابه عليها، وتعذيبه بالجزع
75
والهلع، والحرص والطمع، وغم الحجاب وسوء الحساب، فهذا وبال القلوب المتكبِّرة على الله، وعلى أولياء الله، وعاقبتها حرمان نعيم الحضرة، ونسيم القربة. فاتقوا الله يا أولي الألباب: القلوب الصافية، أي: دُوموا على تقواكم، واحْذروا مما حلّ بالقلوب الخاربة، الذين آمنوا إيمان الخصوص، قد أنزل الله إليكم ذكرا، أي: مذكِّراً، رسولاً بعثه الله خليفةَ رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم، وهو الشيخ الداعي إلى الله، يتلو عليكم آياته، أي: شواهده الموصِّلة إليه، ليُخرج الذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحات، وهي آداب العبودية، من ظلمات الجهل والغفلة، وحس الكائنات إلى نور العيان، ومَن يُؤمن بالله، ويثق به في جميع أموره، (ويعمل صالحاً) يُعرض عما سوى الله، يُدخله جنات المعارف، يخلد فيها، قد أحسن اللهُ له رزقاً لقلبه وروحه وسره، من العلوم والمعارف والأسرار. قال القشيري بعد كلام: وكذلك أرزاقُ القلوب ـ أي: تكون على حد الكفاية، من غير زيادة ولا نقصان ـ ثم قال: وحسنها: أن يكون له من الأحوال ما يشتغلُ به في الوقت من غير نقصان يجعله يتعذّب بتعطُّشه، ولا تكون بزيادة، فيكون على خَطَرٍ من مغاليط لا يَخْرُجُ منها إلاّ بتأييدٍ من الله سماويٍّ. هـ.
76
سورة التحريم
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ ما أحلَّ اللهُ﴾. في سبب نزول هذه السورة روايتان؛ إحداهما: أنَّ رسول الله ﷺ جاء يوماً إلى بيت زوجه حفصة، فوجدها ذهبت لزيارة أبيها، فبعث إلى جاريته مارية، فقال معها في البيت، فجاءت حفصة، فقالت: يا رسول الله؛ أما كان في نسائك أهون مني، أتفعل هذا في بيتي، وعلى فراشي؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام: " أيُرضيك أن أُحَرِّمها "؟ فقالت: نعم، فقال: " إني قد حَرّمتها " زاد ابن عباس: وقال مع ذلك: " والله لا أطؤها أبداً "، ثم قال لها: " لاتُخبري بهذا أحداً، وأُبشرك أنَّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي " ثم إنِّ حفصة قرعت الجدار الذي بينها وبين عائشة، وأخبرتها، وكانتا مصادقتين، ولم ترَ في إفشائها حَرَجاً، واستكتمتها، فأوحى الله إلى نبيه بذلك. ورُوي أنه عليه السلام طلَّق حفصة، واعتزل نساءه، فمكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية، فنزل جبريلُ، وأمره برَدِّها، وقال له: إنها صوّامة قوّامة، وإنها من نسائك في الجنة، فردَّها.
والرواية الثانية: أنه عليه الصلاة والسلام كان يدخل على زوجه زينب بنت جحش، فتسقيه عسلاً، فاتفقت عائشةُ وحفصة وسودة على أن تقول له مَن دنا منهن: أكلتَ مغافير، وهو ضمغ العُرفُط، وهو حلو كريه الريح، ففعل ذلك، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " لا، ولكني شربتُ عسلاً "، فقُلن له: جَرَست نحلُه العُرفُط، أي: أكلت، ويقال للنحل: جراس، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا أشربه أبداً "، وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة، فدخل بعد ذلك على زينب، فقالت: ألاَ أسقيك من ذلك العسل؟ فقال: " لا حاجة لي به " فنزلت الآية عتاباً له على أن ضيَّق على نفسه تحريم الجارية والعسل. والرواية الأولى أشهر عند
79
المفسرين والثانية خرّجها البخاري في صحيحه.
فإن قلتَ: لِمَ عاتبه اللهُ على هذا التحريم، ولم يعاتب يعقوبَ على تحريم لحوم الإبل على ما ذكر في سورة آل عمران؟ قلتُ: رتبة نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ أرفع في المحبة والاعتناء، فلم يرضَ منه أن يُضيّق على نفسه، أرأيت إن كان لك ولد تُحبه، ووسعتَ عليه، ثم أراد أن يُضيّق على نفسه، فإنك لا ترضى له ذلك، محبةً فيه، وشفقة عليه. وانظر تفسير ابن عرفة.
قال ابن جزي: ولنتكلم على فقه التحريم: فأمّا تحريم الطعام والمال وسائر الاشياء ما عدا النساء فلا يلزم، ولا شيء عليه فيه عند مالك، وأوجب عليه أبو حنيفة كفارة اليمين، وأمّا تحريم الأَمة فإن نوى به العتق لزم، وإن لم ينو به ذلك لم يلزم، وكان حكمه ما ذكرناه في الطعام، وأمَا تحريم الزوجة، فاختلف الناس فيه على أقوال كثيرة، فقال أبو بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم: إنما يلزم فيه كفارة يمين. هـ. قلت: وظاهره: سواء قال لها: أنتِ حرام، أو حلف بالحرام واحداً أو ثلاثاً، وسواء كان منجّزاً أومعلّقاً، كما إذا قال: كل امرأة تزوجتُها عليكِ فهي حرام، مثلاً، فلا يلزم من ذلك شيء عَلَيَّ قول هؤلاء السادات رضي الله عنهم. ثم قال: وقال مالك في المشهور عنه: هي ثلاث تطليقات في المدخول بها وينوي في غيرها، وقال ابن الماجشون: هي ثلاث في الوجهين، ورُوي عن مالك: أنها طلقة بائنة ـ قلتُ: وبهذا جرى العمل اليوم ـ وقيل: رجعية. هـ.
﴿تبتغي مَرْضَاتَ أزواجِك﴾ : حال، أو استئناف مُبيّن للحال الداعي، أي: تطلب رضا أزواجك بالتضييق على نفسك، والمراد: رضا حفصة، وهذا يُؤيد أنها نزلت في تحريم الجارية، وأمّا تحريم العسل فلم يقصد به رضا أزواجه، وإنما تركه لرائحته. ﴿واللهُ غفور﴾ أي: غفور لك ما كان تركه أولى من الصدع بالحق من غير مبالاة بأحدٍ، ولا تُضيّق على نفسك، ﴿رحيم﴾ بك، حيث وسّع عليك، ولم يرضَ لك أن تُضيق على نفسك. قال القشيري: ظاهرُ هذا الخطاب عتابٌ على كونه حَرَّمَ على نفسه ما أحلّه اللهُ لمراعاة قلب امرأته، والإشارة فيه: وجوب تقديم حق الله على كل شيء في كل وقت. ثم قال تعالى، عنايةً بأمره: ﴿قد فرض اللهُ لكم تَحِلَّةَ أيمانكم﴾ وتجاوزاً عنه بما كان تركه أولى. هـ.
والحاصل: أنه تعالى غفر له ميله للسِّوى سهواً، والسهو قهرية الحق تعالى، قهر بها عبادَه ليتميّز ضعف العبودية من قوة الربوبية، وهو ليس بنقصٍ في حق البشر، لكنه لمّا
80
كان في الغالب لا يحصل إلاَّ مع عدم العزم عُدَّ تفريطاً وهفوة، كما قال تعالى في حق آدم: ﴿فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ [طه: ١١٥]، فالمغفرة في الحقيقة، وطلب التوبة من السهو، إنما هو لقلة العزم وعدم الحزم، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، ولا تصغ بأذنك إلى ما قاله الزمخشري ومَن تبعه من كون ما فعله عليه السلام زلة، حيث حرّم ما أحلّ الله، فإنه تجاسر على منصب النبوة، وقلة أدب. وقوله تعالى: ﴿ما أحلّ الله لك﴾ زيادة " لك " تَرُدّ ما زعمه الزمخشري، ولو كان كما قال لقال له: لِم تحرم ما أحل الله.
ثم قال تعالى: ﴿قد فَرَضَ اللهُ لكم تَحِلَّةَ أَيمانكم﴾ أي: شرع لكم تحليلها، وهو حل ما عقده بالكفَّارة، أو بالاستثناء متصلاً، والأول هو المراد هنا، وهل كفَّر عليه الصلاة والسلام؟ قال مقاتل: أعتق رقبةً، وقال الحسن: لم يُكفِّر؛ لأنه مغفور له. قال بعضهم: هذه التحلة إنما هي لليمين المقرونة بالتحريم، وقال بعضهم: بل هي لنفس التحريم، وبه تمسّك أبو حنيفة في تحريم الحلال، فأوجب كفارةَ اليمين. ﴿واللهُ مولاكم﴾ أي: سيدكم ومتولي أمورَكم، فلا يُحب ما ضيّق عليكم. قال في الحاشية الفاسية: ومَن تأمّل هذه السورة لاح له منزلةَ حبيب الله عند الله، وحقق معنى قول عائشة: " يا رسول الله؛ ما أرى ربك إلاّ يُسارع في هواك " الحديث متفق على صحته هـ ﴿وهو العليمُ﴾ بما يُصلحكم، فيشرعه لكم، ﴿الحكيمُ﴾ المتقن في أفعاله وأحكامه، فلا يأمركم ولا ينهاكم ألاَّ بما تقتضيه الحكمة البالغة.
الإشارة: هذا العتاب يتوجه لكل مَن سبقت له عند الله عناية وزلفى، إذا ضَيّق على نفسه فيما أحلّ اللهُ له، فلا يرضى منه ذلك، محبةً فيه، وقد صدر مني مثل هذا زمان الوباء، فحلفت لبعض أزواجي: أني لا أتزوج عليها، وسبب ذلك أنها كانت مصارِمة لي، في غاية الغضب والقطيعة، وقد كان غلب على ظني الموت، لِما رأيتُ من الازدحام عليه، فخفتُ أن نموت متقاطعَين، فلمّا حلفتُ لها رأى بعض الفقراء من أصحابنا: أنه يقرأ عليّ أو معي: ﴿يا أيها النبي لِمَ تُحرم... ﴾ الخ السورة، ففهمت الإشارة على أنّ اليمين لا تلزم، والله أعلم، لأنّ بساط اليمين كان غلبة ظن الموت، فلما تخلّف انحل اليمين، كقضية الرجل الذي وجد الزحام على اللحم، فحلف لا يشتري لحماً أبداً، ثم وجد الفراغ، فقال مالك: لا يلزمه شيء. هـ.
وقال الورتجبي: أدب نبيه عليه الصلاة والسلام ألاَّ يستبد برأيه، ويبتع ما يُوحى إليه. هـ. وجعل القشيري النبيَّ إشارة إلى القلب، أي: يا أيها القلب المتوجِّه لِمَ تُحرم ما أحل الله من حلاوة الشهود، تبتغي مرضاة نفسك وحظوظها، فتتبع هواها، وتترخّص في مباحات الشريعة، وهي تحجب عن أسرار الحقيقة، أو: لِمَ تُحرِّم ما أحل الله من
81
الاستغراق في سُكر بحر الحقيقة، تبتغي مرضاة بقاء نفسك، والشعور بوجودها. وكان ﷺ يقول: " لي وقت لا يَسعني فيه غير ربي " وكان يقول لعائشة حين يغلب عليه السُكْر والاضمحلال في الحق: " كلميني حركيني يا حميراء " وكذلك القلب إذا غلب عليه الوجد، وخاف من الاصطلام، أو مِن مَحق البشرية، يطلب مَن يبرد عليه مِن نفسه أو مِن غيره، وقد سَمِعْتُ مِن شيخ شيخنا رضي الله عنه أنه قال: كان يغلب عَلَيَّ الوجد والسكر، فكنت أذهبُ إلى مجالسة العوام ليبُرد عليّ الحال، خوفاً من الاصطلام أو المحق، وذلك بعد وفاة شيخه.
وقوله تعالى: ﴿والله غفور رحيم﴾ أي: فلا يؤاخذ العبدَ بهذا الميل اليسير إلى الحس، دواء لنفسه، قد فرض اللهُ لكم تحلةَ أيمانكم، أي: الميل اليسير إلى الرفق بالنفس؛ لأنها مطية القلب، بمجاهدتها يصل إلى كعبة الوصول، وهي حضرة الرب. وبالله التوفيق.
يقول الحق جل جلاله: ﴿وإِذ أَسَرَّ﴾ أي: واذكر أيها السامع حين أَسَرَّ ﴿النبيُّ إِلى بعض أزواجه﴾ يعني حفصة ﴿حديثاً﴾ ؛ حديث تحريم مارية، أو العسل، أو إمامة الشيخين، ﴿فلما نَبَّأَتْ به﴾ أي: أخبرت حفصةُ عائشةَ بالحديث وأفشته، فحذف المفعول، وهو عائشة، ﴿وأظْهَرَه اللهُ عليه﴾ أي: أطلع اللهُ تعالى نبيَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ على إفشاء حفصة على لسان جبريل عليه السلام، أو: أظهر الله عليه الحديث، من الظهور، ﴿عَرَّفَ بعضَه﴾ أي: عرَّف النبيُّ ﷺ حفصةَ بعض الحديث الذي أفشته، قيل: هو حديث الإمامة، رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال لها: " ألم أقل لك اكتمي عليّ "؟ قالت: " والذي بعثك بالحق ما ملكتُ نفسي " فرحاً بالكرامة التي خَصَّ اللهُ تعالى بها أباها.
﴿وأَعْرَضَ عن بعضٍ﴾ فلم يُخبرها تكرُّماً. قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الحسن: ما استقصى كريم قط. وقرأ الكسائي: " عَرَف " بالتخفيف، أي:
82
جازى عليه، من قولك للمسيء: لأعْرِفَنَّ لك ما فعلت، أي: لأجازينَّك عليه، فاجازاها عليه السلام بأن طلَّقها، وآلى من نسائه شهراً، وقعد في مشربة مارية حتى نزلت آية التخيير، وقيل: هَمَّ بطلاقها، فقال له جبريل: لا تُطلِّقها، فإنها صوّامة قوّامة. هـ. قيل: المعرّف: حديث الإمامة، والمعرَض عنه: حديث مارية. ﴿فلما نَبَّأها به﴾ أي: أخبر ﷺ حفصةَ بما عرفه من الحديث، قالت حفصة للنبي عليه السلام: ﴿مَن أنبأكَ هذا قال نبأنيَ العليمُ الخبيرُ﴾ الذي لا تخفى عليه خافية.
﴿إِن تتوبا إِلى الله﴾، الخطاب لحفصة وعائشة، على الالتفات للمبالغة في العتاب، ﴿فقد صَغَتْ قُلوبُكما﴾ ؛ مالت عن الواجب في مخالصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مِن حُب ما يُحبه، وكراهة ما يكرهه، وكان عليه الصلاة والسلام شقَّ عليه تحريم مارية وكَرِهَه، وهما فرحا بذلك. وجواب الشرط: محذوف، أي: إن تتوبا إلى الله فهو الواجب، فقد زالت قلوبكما عن الحق، أو: تُقبلْ توبتكما، أو هو: " فقد صغت " أي: إن تتوبا زاغب قلوبكما فاستوجبتما التوبة، أو: فقد كان منكما ما يقضي أن يُتاب منه. قال ابن عطية: وهذا الجواب للشرط، وهو متقدم في المعنى، وإنما نزلت جواباً في اللفظ. هـ. وقُرىء " زاغت " من الزيغ.
﴿
وإِن تَظَاهرا عليه﴾
أي: تتعاونا عليه بما يسوؤه، من الإفراط في الغيرة، وإفشاء سرّه، والفرح بتحريم مارية، ﴿فإِنَّ اللهَ هو مولاه﴾ ؛ وليُّه وناصره، وزيادة " هو " إيذان: أنّه يتولّى ذلك بذاته بلا واسطة، ﴿وجبريلُ﴾ أيضاً وليّه، الذي هو رئيس الملائكة المقرّبين، ﴿وصالحُ المؤمنين﴾ أي: ومَن صلح مِن المؤمنين، أي: كل مَن آمن وعمل صالحاً، وقيل: مَن برىء مِن النفاق، وقيل: الصحابة جملة، وقال ابن عباس: أبو بكر وعمر، ورُوي مرفوعاً، وبه قال عكرمة ومقاتل، وهو اللائق؛ لتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام، فإنه جمع بين التظاهر المعنوي والتظاهر الحسي، فجبريل ظاهَره عليه السلام بالتأييدات الإلهية، وهما وزيراه وظهيراه في أمور الرسالة، وتمشية أحكامها الظاهرة، ولأنَّ تظاهرهما له ﷺ أشد تأثيراً في قلوب ينتيْهما، وتوهيناً في حقهما، فكانا حقيقا بالذكر، بخلاف ما إذا أريد به جنس الصالحين، كما هو المشهور. قاله أبو السعود.
﴿والملائكةُ﴾ مع تكاثر عددهم وامتلاء السموات من جموعهم ﴿بعد ذلك﴾ أي: بعد نصرةِ الله عزّ وجل، وناموسه الأعظم، وصالح المؤمنين، ﴿ظهيراً﴾ أي: فوْج ظهير مُعاون له، كأنهم يد واحدة على مَن يعاديه، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على مَنْ هؤلاء ظُهراؤه؟ ولمّا كانت مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله، قال: ﴿بعد ذلك﴾ تعظيماً لنصرتهم ومظاهرتهم.
﴿عسى ربُّه إِن طَلَّقكُنَّ أن يُبْدِلَه﴾ بالتخفيف، والتشديد للتكثير، أي: يعطيه اللهُ
83
تعالى بدلكن ﴿أزواجاً خيراً منكن﴾، قال النسفي: فإن قلتَ: كيف تكون المبدّلات خيراً منهنَ، ولم يكن على وجه الأرض نساء خيراً من أمهات المؤمنين؟ قلتُ: إذا طلّقهنّ رسولُ الله ﷺ لإيذائهنّ إياه لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف خيراً منهن. هـ. وأجاب أبو السعود: بأنّ ما عُلّق بما لم يقع لا يجب وقوعه. هـ. وليس فيه ما يدل على أنه ﷺ لم يُطلِّق حفصة، فإنّ تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة.
ثم وصف المبدَلات بقوله: ﴿مُسلماتٍ مؤمناتٍ﴾ أي: مُقرّات مخلصات، أو: منقادات مصدّقات، ﴿قانتاتٍ﴾ ؛ طائعات، فالقنوت: هو القيام بطاعة الله، وطاعة الله في طاعة رسوله، ﴿تائباتٍ﴾ من الذنوب ﴿عابداتٍ﴾ ؛ متعبدات متذللات، ﴿سائحاتٍ﴾ ؛ صائمات، وقيل للصائم: سائح؛ لأنَّ السائح لا زاد معه، فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يُطعمه، فشبّه به الصائم في إمساكه إلى وقت إفطاره، أو: مهاجرات. قال زيد بن أسلم: لم يكن في هذه الأمة سياحة إلاَّ الهجرة، ﴿ثيباتٍ وأبكاراً﴾، إنما وسط العاطف بين الثيبات والأبكار، دون سائر الصفات؛ لأنهما صفتان متباينتان، وعَطْف الأبكار على الثيبات من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً... ﴾ [التوبة: ١٢١]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: توجه العتاب له ﷺ مرتين في تحريم الجارية، وفي إخفائه لذلك، إذ فيه بعض مراقبة الخلق، والعارف لا يُراقب إلاّ الحق، فهذا قريب من قوله تعالى: ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أّحَقُّ أَن تَخْشَاهُ﴾ [الأحزاب: ٣٧]، ففيه من التصوُّف: أنَّ العارف يكون الناس عنده كالموتى، أو كالهباء في الهواء، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: " لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يكون الناس عنده كالأباعر " إذا ليس بيدهم نفع ولا ضر.
وإشارة الآية على ما قال القشيري: وإذ أَسَرَّ القلبُ إلى بعض أزواجه، وهي النفس والهوى، حديث المخالفة، على طريق " شاوروهنّ وخالِفوهنّ " فلما نبأت النفسُ الهوَى لتفعلا ذلك، وأظهره الله عليه بوحي الإلهام، عَرَّف بعضَه وأعرض عن بعض، أي: عاتبهما على البعض، وسامحهما في الآخر، فلما نبأ القلبُ النفسَ بما أفشت للهوى، قالت: مَن أنبأك هذا.. الخ، إن تتوبا إلى الله، وتنقادا لحكمه فقد وقع منكما ما يوجب التوبة، وإن تظاهرا على القلب بتزيين المخالفة وتتبع الحظوظ والشهوات، فإنَّ الله هو مولاه، ينصره بالأجناد السماوية والأرضية، من التأييدات والواردات، عسى ربه إن طلقكن
84
وغاب عنكن أن يُبدله أخلاقاً طيبة، ونفوساً مطمئنة، مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ، عابداتٍ سائحاتٍ بأفكارها في ميادين الغيوب، وبحار التوحيد، ثيبات، أي: تأتي بعلوم الرسميات وأبكار الحقائق.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذين آمنوا قُو أنفسَكم﴾ أي: نَجُّوها من النار، بترك المعاصي وفعل الطاعات، ﴿وأهليكم﴾ بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم، أو بان تُعلِّموهم وتُرشدوهم. قال القشيري: أظهٍروا من أنفسكم الطاعات ليتعلموا منكم ويقتادوا بأفعالكم. هـ. وفي الحديث: " رحِم الله امرءاً قال: يا أهلاه، صلاتَكم صيامَكم مسْكينَكم، يتيمَكم " أي: الزموا ما ينفعكم، فمَن له أهل وأهملهم من التعلُّم والإرشاد عُوتب عليهم، أي: احملوهم على الطاعة، لتَقُوهُمْ ﴿ناراً وقُودُهَا الناسُ والحجارةُ﴾ أي: نوعاً من النار لا تتّقد إلاّ بالناس والحجارةن كما تتّقد غيرها بالحطب. قال ابن عباس: هي حجارة الكبريت، فهي أشد الأشياء حرًّا. ﴿عليها ملائكةٌ﴾ تلي أمرها والتعذيبَ بها، وهي الزبانية، ﴿غِلاظٌ شِدادٌ﴾ ؛ غلاظُ الأقوال، شِدادُ الأحوال، أو: غلاظُ الخلْق، شِداد الخُلُق، أقوياءُ على الأفعال الشديدة، لم يخلق اللهُ فيهم رحمة، ﴿لاَّ يَعْصُون اللهَ مَآ أَمَرَهم﴾ أي: لا يعصون أمره، فهو بدل اشتمال من " الله " أو: فيما أمرهم، على نزع الخافض، ﴿ويفعلون ما يُؤمرون﴾ من غير تراخ ولاتثاقل، وليست الجملتان في معنى واحد؛ إذ معنى الأولى: أنهم يمتثلون أمره ويلتزمونها، ومعنى الثانية: أنهم يُؤدون ما يُؤمرون به، ولا يتثاقلون عنه ولا يتوَانون فيه.
ويُقال للكفرة يوم القيامة عند دخولهم النار: ﴿يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليومَ﴾ إذ لا ينفعكم عذركم؛ حيث فرَّطتم في الدنيا، ﴿إِنما تُجْزَون﴾ اليوم ﴿ما كنتم تعملون﴾ في الدنيا من الكفر والمعاصي، بعدما نُهيتُم عنها، وأُمرتم بالإيمان والطاعة، فلا عُذر لكم قطعاً.
الإشارة: قُوا أنفسكم نارَ الحجبة والقطيعة، بتخليتها من الرذائل، وتحليتها بالفضائل، ليلحقوا بكم في درجاكم. ونار القطيعة وقودها الناس، أي: عامة الناس والقلوب القاسية، عليها ملائكة غِلاظ شِداد، وهم القواطع القهرية، فمَن كفر بطريق الخصوصية لا ينفعه يوم القيامة اعتذاره، حين يسقط عن درجة المقرَّبين الأبرار وبالله التوفيق.
85
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الذين آمنوا تُوبوا إِلى الله توبةً نَصوحاً﴾ أي: بالغة في النصح، وُصفت بذلك مجازاً، وهي وصف للتائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسَهم، فيأتوا بها على طريقتها، وذلك أن يتوبوا عن القبائح، لقبْحها، نادمين عليها، مغتمِّين أشد الاغتمام لارتكابها، عازمين على أنهم لا يعودون إلى قبيح من القبائح، وقيل: نصوحاً: صادقة، وقيل: خالصة، يُقال: عسل ناصح: إذا خلص من شمعه، وقيل: مِن نصاحة الثوب، أي: ترقيعه، لأنها ترقع خروقك في دينك وترمّ خللك، وقيل: توبة تنصح الناس، أي: تدعوهم إلى مثلها؛ لظهور آثارها في صاحبها، باستعمال الجد والعزيمة في العمل على مقتضياتها، ومَن قرأ بضم النون فمصدر، أي: ذات نصوح، أو تنصح نصوحاً. وفي الحديث: " التوبة النصوح أن يتوب، ثم لا يعود إلى الذنب إلى أن يعود اللبن في الضرع " وعن حذيفة: " بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه " وعن ابن عباس رضي الله عنه: " هي الاستغفار باللسان، والندم بالجنان، والإقلاع بالأركان ". ﴿عسى ربُّكم أن يُكَفِّرَ عنكم سيئاتِكم﴾، هذا على ما جرى به عادة الملوك من الإجابة بعسى ولعل، ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت. وقيل: عبّر بـ " عسى " للإشعار أنّ المغفرة تفضل وإحسان، وأنّ التوبة غير موجبة لها، ولِيَبقى العبد بين خوف ورجاء ولو عمل ما عمل. ﴿ويُدْخِلَكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهارُ يومَ لا يُخزي اللهُ النبيَّ﴾. هو ظرف لـ " يدخلكم " ﴿والذين آمنوا معه﴾ : عطف على " النبي "، و " معه ": ظرف لآمنوا، وفيه تعريض بمَن أخزاهم الله من الكفرة. ﴿نُورُهُمْ﴾ : مبتدأ، و ﴿يسعى﴾ خبره، أي: يُضيء ﴿بين أيديهم وبأَيمانهم﴾ أي: على الصراط وفي مواطن القيامة، ﴿يقولون﴾ حال، أي: قائلين حين ينطفىء نور المنافقين: ﴿ربنا أتمم لنا نورنا واغفرْ لنا إِنك على كل شيءٍ قديرٌ﴾، وقيل: يدعون بذلك تقرُّباً إلى الله مع تمام نورهم، وقيل: تتفاوت أنوارهم
بحسب أعمالهم، فيسألون إتمامه تفضُّلاً، وقيل: السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط، وبعضهم كالريح، وبعضهم كأجاود الخيل، وبعضهم حبواً، وزحفاً، وهم
86
الذين يقولون: ﴿ربنا أَتمم لنا نورنا﴾. وقد تقدّم: أنَّ مِن المقربين مَن تُقرّب لهم غُرف الجنات، فيركبون فيها، ويسرحون إلى الجنة، ومنهم مَن يطير في الهواء إلى باب الجنة، فيقول الخزنة: مَن أنتم؟ فيقولون: وحن المتحابُّون في الله، فيقول: اذهبوا فنِعْمَ أجر العاملين، ويقول بعضهم لبعض: أين الصراط الذي وُعدنه، فيُقال لهم: جزتموه ولم تشعروا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: توبةُ العامة من الذنوب، وتوبةُ الخاصة من العيوب، وتوبة خاصة الخاصة من الغيبة عن حضرة علاّم الغيوب، فهؤلاء أشد الناس افتقاراً إلى التوبة؛ إذ لا بُد للعبد من سهوٍ وسِنةٍ حتى يجول بقلبه في الأكوان، أو يميل عن الاعتدال، فيجب في حقهم الاستغفار منها، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يستغفر في المجلس الواحد سبعين أو مائة مرة. وقد تكلم السّلفُ عن التوبة النصوح دون ما تقدّم، فقال ابن جبير: هي التوبة المقبولة، ولا تُقبل إلا بثلاثة شروط: خوف ألاَّ تُقبل منه، ورجاء أن تُقبل، وإدمان الطاعة. وقال ابن المسيب: توبة تنصحون بها أنفسكم، وقال القرظي: يجمعها أربعة: الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وترك العود بالجنان، ومهاجرة سيىء الخلان. وقال الثوري: علامتها أربعة: القِلة، والعِلة، والذلة، والغربة. وقال الفضيل: هو أن يكون الذنب نصب عينيه. وقال الواسطي: تكون لا لعرض دنيوي ولا أخروي. وقال أبو بكر الورّاق: هي أن تضيق عليك الدنيا بما رَحُبتْ، كحالة الذين خُلِّفوا. وقال رُويم: أن تكون لله وجهاً بلا قفا، كما كنت عند المعصية قفا بلا وجه، وقالت رابعة: توبة لا ارتياب فيها، وقال السري: لا تصلح التوبة النصوح إلاّ بنصيحة النفس والمؤمنين؛ لأنَّ مَن صحّت توبته أَحبَّ أن يكون الناس مثله، وقال الجنيد: هي أن تنسى الذنب فلا تذكره أبداً؛ لأنَّ مَن أحب اللهَ نسي ما دونه. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها النبيُّ جاهِدِ الكفارَ﴾ بالسيف ﴿والمنافقين﴾ بالحجة، أو: بالقول الغليظ والوعظ البليغ، أو: بإقامة الحدود، ولم يؤمر بقتالهم لِتَسَتُّر ظاهرهم بالإسلام، " أُمرت أن أحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر "، {واغْلُظْ
87
عليهم} ؛ واستعمل الخشونة على الفريقين فيما تجاهدهما به من القتال والمخاصمة باللسان. ﴿ومأوَاهم جهنمُ﴾ يُباشرون فيها عذاباً غليظاً، ﴿وبئس المصيرُ﴾ جهنم، أو مصيرهم.
الإشارة: كُلُّ إنسان مأمور بجهاد أعدائه، من النفس، وَالهوى، والشيطان، وسائر القواطع، وبالغلاظ عليهم، حتى يُسلموا وينقادوا لحُكمه أو تقل شوكتهم، وهذا هو الجهاد الأكبر، لدوامه واتصاله، فمَن دام عليه حتى ظفر بعدوه، أو لقي ربه، كان مِن الصدّيقين، الذين درجتهم فوق درجة الشهداء، تلي درجة المرسَلين. وبالله التوفيق.
قلت: " مثلاُ ": مفعول ثان لضرب، أي: جعل، و " امرأةَ ": مفعول أول، أي: جعل امرأة نوح وامرأة لوط مثلاُ مضروباً للذين كفروا.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ضَرَبَ اللهُ مثلاً للذين كفروا﴾، ضَرْبُ المثل في أمثال هذه المواقع عبارة عن: إيراد حالة غريبة ليُعرف بها حالة أخرى، مشاكِلة لها في الغرابة، أي: ضرب الله مثلاً لحال الذين كفروا حيث يُعاقَبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين، ولا ينفعهم ما كان بينهم وبين المؤمنين من النسب والمصاهرة بهاتين المرأتين، ﴿امرأتَ نوحٍ وامرأتَ لوطٍ﴾ قيل: اسم الأولى: واهلة، والثانية: راعلة، ﴿كانتا تحت عبدين من عبادنا صَالِحَينِ﴾ أي: كانتا في عصمة نبييْن عظيميْن، متمكنين من تحصيل خير الدنيا والأخرة، وحيازة سعادتهما، ﴿فخانتاهما﴾ بإفشاء سرهما، أو بالكفر والنفاق، ﴿فلم يُغنيا عنهما من الله شيئاً﴾ أي: فلم يُغن الرسولان عن المرأتين بحق ما بينهما من الزواج شيئاً من الإغناء من عذاب الله تعالى، ﴿وقيل﴾ لهما عند موتهما، أو يومَ القيامة: ﴿ادخلا النارَ مع الداخلين﴾ أي: مع سائر الداخلين من الكفرة، الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء.
88
قال القشيري: لما سبقتً للمرأتين الفُرْقةُ يوم القِسْمة، لم تنفعهما القرابةُ يومَ العقوبة. هـ. قال ابن عطية: وقول مَن قال: إنَّ في المثلَين عبرة لأزواج النبي ﷺ بعيد. هـ. قلت: لا بُعد فيه لذكره إثر تأديب المرأتين، وليس فيه غض لجانبهنّ المعظم، إنما فيه إيقاظ وإرشاد لما يزيدهم شرفاً وقُرباً من تعظيم الرسول ﷺ وطاعته، وصيانة سِره، والمسارعة إلى ما فيه محبتُه ورضاه، وكل مَن نصحك فقد أحبّك، وكل مَن أهملك فقد مقتك.
﴿
وضَرَبَ اللهُ مثلاً للذين آمنوا﴾
في أنهم ينفعهم إيمانهم، ولو كانوا تحت قهرية الكفرة، حيث لم يميلوا عنه، ﴿امرأة فرعونَ﴾، وهي أسية بنت مزاحم، وهي عمة موسى عليه السلام، آمنت به فعذّبها بالأوتاد الأربعة، وتَدَ يديها ورجليها وألقاها في الشمس على ظهرها، وألقى عليها صخرةَ عظيمة، فأبصرت بيتَها في الجنة، من دُرة، وانتزع اللهُ روحَها، فلقيتها الصخرة بلا روح، فلم تجد ألماً، وقال سَلْمَان: كانت امرأة فرعون تُعذَّب بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة، وفيه بيان أنها لم تمِل عن الإيمان مع شدة ما قاست من العذاب، وكذا فليكن صوالح النساء، وأمر عائشة وحفصة أن يكونا كآسية هذه. هـ. من الثعلبي.
﴿إِذ قالتْ﴾ : ظرف لمحذوف، أي: ضرب مثلاً لحالها حين قالت: ﴿رَبِّ ابْنِ لي عندكَ﴾ أي: قريباً من رضوانك ﴿بيتاً في الجنة﴾ أو: في أعلى درجات المقربين، رُوي: أنها لَمّا قالت ذلك أُريت بيتها في الجنة. ﴿ونجِّني من فرعونَ وعملِهِ﴾ أي: من نفسه الخبيثة وعمله السيىء ﴿ونجني من القوم الظالمين﴾ أي: من القبط التابعين له في الظلم قال الحسن وابن كيسان: نجاها الله أكرمَ نجاةٍ، ورفعها إلى الجنة، فهي فيها تأكل وتشرب. هـ.
﴿ومريمَ ابنة عمرانَ﴾ : عطف على " امرأة فرعون " أي: وضرب اللهُ مثلا للذين آمنوا حالَها وما أُتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين، مع كون قومها كفاراً، ﴿التي أحْصَنَتْ فَرْجَها﴾ ؛ حفظته ﴿فنفخنا في مِن روحنا﴾ المخلوقة لنا، أو: من روح خَلقتُه بلا واسطة، ﴿وصدَّقتْ بكلماتِ ربها﴾ ؛ بصُحفه المنزلة، أو: بما أوحى اللهُ إلى أنبيائه، ﴿وكتابه﴾ أي: جنس الكتاب الشامل للكل، وقرأ البصري وحفص بالجمع، أي: كُتبه الأربعة، وقُرىء: " بكلمة الله وكتابه " أي: بعيسى وبالكتاب المنزَّل عليه الإنجيل، ﴿وكانت من القانِتين﴾ أي: من عدة المواظبين على الطاعة، والتذكير للتغليب، والإشعار بأنَّ طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال، حتى عُدت من جملتهم، أو كانت من نسل القانتين؛ لأنها من أعقاب هارون، أخي موسى عليهما السلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " كَمُل مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إلا أربع: آسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، وفضل عائشة على النساء كفضل
89
الثريد على سائر الطعام ". قال النسفي: وفي طيِّ هذين التمثيلين تعريض بأمَّيِّ المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله ﷺ بما كَرِهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه، وإشارة إلى أنّ مِن حقهما أن تكونا في الأخلاق كهاتين المؤمنتين، وألاّ تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى عليه وسلم. هـ. وفي الثعلبي: وقال ابن عباس وجماعة: قطع اللهُ بهذه الآية طمَعَ مَن ركب المعصية، ورجا أن ينفعه صلاح غيره، وأخبر أنّ معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعاً. هـ.
الإشارة: قال القشيري: المرأتان الكافرتان إشارة إلى النفس الأمّارة والهوى المتَّبع، أي: كانتا تحت القلب والروح، فخانتاهما، حيث غلبتا القلبَ والروحَ، وجذبتاهما إليهما، فمال القلب إلى الحظوظ الجسمانية، ومالت الروحُ إلى الحروف الظلمانية، كحب الجاه والرئاسة والكرامة، فلم تُغنيا عنهما من الله شيئاً، حيث فاتهما اليقين والمعرفة العيانية، والمرأتان المؤمنتان إشارة إلى النفس المطمئنة والقلب المطمئن، حيث غلبا النفس الأمّارة والهوى، لم يضرهما صحبتهما، فقالت النفس المطمئنة: ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والقلب لمّا حَفِظً نفسه من دخول العلل، نفخ الحقُّ فيه من روحه، فأحياه به، وأشْهَده أنوار قدسه، فصدّق بكلمات الله الدالة على ذاته، ثم ترقَّى إلى شهود المتكلِم، وكان من القانتين، فجمع بين شهود عظمة الربوبية وآداب العبودية. قال الورتجبي: ﴿فنفخنا فيه... ﴾ الآية، أي: ظهر فيه نور الفعل، ثم ظهر في نور الفعل نور الصفة، فظهر في نور الصفة نور الذات، فكان بنور الذات والصفات حيًّا موصوفاً بصفاته، ناظراً إلى مشاهدة نور ذاته، لم تنقطع عنه أنوار الذات والصفات والفعل أبداً. وهذه خاصية لمَن له أثر من روحه. قال بعضهم: نفخ من نوره في روح عبده، ليحيي بذلك الروح، ويحيى به، ويطلب النورَ ولا يغفل عن طلب المُنوِّر، فيعيش في الدنيا حميداً، ويُبعث في الآخرة شهيداً، فلمّا وجدت رَوحُ روحِ الله صدّقت بظهوره في العالم، وشبيه قلوب العالمين بأنه يكون مرآة الحق للخلق، وذلك قوله: ﴿وصَدَّقت بكلمات ربها﴾ ولمّا باشر أنوار القدس وروح الأنس كادت نفسها أن تميل إلى السكر في الأنانية، فسبق لها العناية، وأبقاها في درجة العبودية، حتى لا تسقط بالسُكر عن مقام الصحو، ألا ترى كيف قال: ﴿وكانت من القانتين﴾ أي: من المستقيمين في معرفتها بربها، ومعرفتها بقيمة نفسها أنها مُسَخَّرة عاجزة لربها. هـ. وبالله
التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
90
سورة الملك
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿تباركَ﴾ أي: تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين فالبركة: السمو والزيادة، حسية أو عقلية، وكثرة الخير ودوامه، والمعنى الأول أنسب للمقام، باعتبار تعاليه عزّ وجل عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله، وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك؛ فإنَّ ما لا يصح نسبته إليه تعالى من الصيغ، كالتكثُّر ونحوه، إنما يُنسب إليه تعالى باعتبار غاياتها. وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه تعالى على مخلوقاته من فنون الخيرات، أي: تعالى بالذات عن كل ما سواه. ﴿الذي بيده المُلك﴾ أي: بيده التصرُّف التام والاستيلاء على كل موجود، وهو مالك المُلك، يُؤتيه مَن يشاء، وينزعه عمن يشاء، واليد: مجاز عن القدرة التامة، والاستيلاء الكامل. ﴿وَهُوَ على كُلِّ شيءٍ﴾ من المقدورات، أو من الإنعام والانتقام ﴿قديرٌ﴾ ؛ مبالغ في القدرة يتصرف فيه على حسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحِكم البالغة.
والجملة: معطوفة على الصلة، مقرِّرة لمضمونها، مفيدة لجريان أحكام مُلكه تعالى في جلائل الأمور ودقائقها، دالة على العموم والشمول في أنه متصرف في أحوال المُلك
91
في إيجاد أعيان الأشياء؛ المتصرّف فيها وفي إيجاد عوارضها الذاتية. ولو اقتصر على قوله: ﴿بيده الملك﴾ لأوهم قصوره على تغيُّر أحوال المُلك فقط.
ثم أحال على ما هو مُشاهد من التصرُّف بقوله: ﴿الذي خلق الموتَ والحياةَ﴾ أي: موتكم وحياتكم أيها المكلّفون. ومعنى خلق الموت والحياة: إيجاد ما يصحح الإحساس وإعدامه. والموت عند أهل السنة: صفة وجودية مضادة للحياة، وأمّا ما رُوي عن ابن عباس: أنه تعالى خلق الموتَ في صورة كبش أملح، لا يمر بشيء ويجد ريحه إلاّ مات، وخلق الحياة في صورة فرس، لا يَمر والا يجد رائحتها شيء إلاّ حيى " فوارد على منهاج التمثيل والتصوير، ويجوز أن يكون حقيقة، إذ القدرة صالحة. وتقديم الموت لأنه أدعى لأحسن العمل، الذي هو حكمة خلق الموت والحياة، المشار إليه بقوله: ﴿ليبلوكم أَيُّكم أحسنُ عملا﴾ أي: خلق موتكم الذي يعمّ الأمير والأسير، والحياة التي لا تبقى لعليل ولا طبيب، ليُعاملكم معالمة مَن يختبركم أيكم أحسن عملاً؛ فيُجازيكم على مراتب متفاوتة، حسب طبقات علومكم وأعمالكم؛ فإنَّ العمل غير مختص بالجوارح، ولذلك فسَّره ﷺ بقوله: " أيكم أحسن عقلاً، وأردع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله "، وفي رواية: " أيكم أحسن عقلاً، وأشدكم له خوفاً، وأحسنكم في أمره ونهيه نظراً، ون كانوا أقلّكم تطوُّعاً " وقال ابن عباس وغيره: أيكم أزهد في الدنيا.
قال القشيري: كيف تكونوا في الصبر في المحنة، والشكر عند المنّة. وقال النسفي: ﴿أيكم أحسن عملاً﴾ : أخلصه وأصوبه، فالخالص: أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السُنَّة، والمراد: أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل، وسلّط عليكم الموت، الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، فما وراءه إلاّ البعث والجزاء، الذي لا بدّ منه، ولمّا قدّم الموت ـ الذي هو أثر صفة القهر ـ على الحياة ـ التي هي أثر صفة اللطف ـ قدّم صفة القهر على صفة اللطف بقوله: ﴿وهو العزيزُ﴾ : الغالب، الذي لا يُعجزه مَن أساء العمل، ﴿الغفور﴾ ؛ الستور، الذي لاييأس منه أهل الإساءة والزلل. هـ.
ثم استشهد على تمام قدرته بقوله: ﴿الذي خلق سبعَ سمواتٍ طِباقاً﴾ أي: متطابقة بعضها فوق بعض، من طباق النعلَ: أذا خصفها طبقاً على طبق، وهو مصدر وُصف به، أو: ذات طباق، أو: طوبقت طباقاً. وقوله تعالى: ﴿ما ترى في خَلْقِ الرحمنِ من تفاوتٍ﴾ صفة أخرى لسبع سموات، وضع فيها " خَلْق الرحمن " موضع الضمير للتعظيم، والإشعار بعلة الحكم، وبأنه تعالى خلقها بقدرته، رحمةً وتفضُّلاٍ، ولأنَّ في إبداعها نعماً جليلة. أو: استئناف. والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحدٍ يصلح للخطاب، و " مِن " لتأكيد
92
النفي، أي: ما ترى فيه شيئاً من تفاوت، أي: اختلاف وعدم تناسب أو اضطراب. وعن السدي: من عيْبٍ. وحقيقة التفاوت: عدم التناسب، كأنّ بعضاً يفوت بعضاً. وقرأ الأخوان: " تَفَوُّت " كالتعاهد والتعهّد، والبناء لواحد. ﴿فارجع البصرَ﴾ أي: ردَّه إلى السماء، حتى يصحَّ عندك ما أُخْبِرْت به معاينةً، حتى لا يبقى شُبهة. ﴿هل ترى من فطورٍ﴾ ؛ صدروع وشقوق، جمع: فَطَر، وهو الشقّ، يقال: فطره فانفطر.
﴿ثم ارجع البصرَ كرتينِ﴾ أي: كرّره رجعتين مع الأُولى، فتكون ثلاثاً، أو: بالأُولى، وقيل: لمَ يُرد الاقتصار على مرتين، بل أراد به التكرير بكثرةٍ، أي: كرر نظرك ودقّقه مراراً، هل ترى خللاً أو عيباً في السموات؟ وجواب الأمر: ﴿ينقلبْ﴾ ؛ يرجع ﴿إليك البصرُ خاسئاً﴾ ؛ ذليلاً، أو: بعيداً مما تريد، وهو حال من البصر، ﴿وهو حَسِيرٌ﴾ أي: كليل لطول المعاودة، وكثرة المراجعة، ولم يحصل ما قصد.
ثم بيَّن حُسنها وبهجتها، فقال: ﴿ولقد زيَّنا السماءَ الدنيا﴾ أي: القُربى منكم ﴿بمصابيحَ﴾ أي: بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السراج فيه، زينةً لسقف هذه الدار، من السيارة والثوابت، تتراءى كأنها كلها مركوزة فيها، مع أنَّ بعضها في سائر السموات، وما ذلك إلاَّ لأنَّ كل واحدة منها مخلوقة على نمط رائق، تحار في فهمه الأفكار، وطراز فائق تهيم في دركه الأنظار. قال الفخر: وليس في هذه الآية ما يدل على أنَّ الكواكب مركوزة في سماء الدنيا، وذلك لأنَّ السموات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في سماء الدنيا، أو في سماء أخرى فوقها، فهي لا بد أن تظهر في سماء الدنيا، وتلوح فيها، فعلى كِلا التقديرين فالسماء الدنيا مُزَيّنة بها. هـ.
﴿
وجعلناها رُجوماً للشياطين﴾
أي: وجعلنا فيها فائدة أخرى، هي: رجم أعدائكم الذي يُخرجونكم من النور إلى الظلمات، بانقضاض الشُهب المقتَبسة منها، فيأخذ المَلك شعلة من نار الكوكب، ويضرب بها الجني، فيقتله، أو يخبِّله، فيرجع غُولاً يُفزع الناسَ، وأمّا الكواكب فلا تزول عن أماكنها؛ لأنها قارّة في الفلك. قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث: زينة السماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمَن تأوّل فيها غير ذلك، فقد تكلّف ما لا علم له به. ﴿وأعتدنا لهم﴾ ؛ للشياطين ﴿عذابَ السعير﴾ بعد الإحراق في الدنيا بالشُهب. والله تعالى أعلم.
الإشارة: تبارك الذي بيده المُلك، الملُك الظاهري والمُلك الباطني، يُعطيهما مَن يشاء، ويمنعهما مَن يشاء، فالمُلك الظاهري عز يفنى والملك الباطني عز يبقى، وهما ضدان لا يجتمعان في شخص واحد، ولا يتفقان، بل أحدهما يغير من الآخر، والمراد بالملك الباطني: معرفة الشهود والعيان، فلا يناسبها إلاّ الخمول، ولا تقوم إلاّ به، ومهما ظهرت أخذ صاحبها وصدمته الحوافر. الذي خلق الموتَ في بعض القلوب والأرواح، فكانت ميتة جاهلة ذليلة حقيرة، والحياةَ في بعضها، فكانت حيّة عارفة مالكة عزيزة، فعل
93
ذلك ليبلوكم أيك أحسنُ عملاً بالإقبال على الله، والتوجٌّه بكليته إليه، أو بالإدبار عنه، والإعراض عن الداعي إليه. وقيل: أحسن العمل: نيسان العمل ورؤية الفضل. هـ. والمراد: أنه يجتهد في العمل، ويغيب عنه، ومَن جعل الموتَ نُصب عينيه لا محالة يجتهد، ولله در القائل:
وَفِي ذِكْرِ هولِ الموتِ والقَبْر والبلاَ
عَن الشغْل باللذَّاتِ للمرء زَاجِر
أَبَعْدَ اقْتِرابِ الأَربَعينَ تَربُّص
وشَيْب فَذاك مُنْذِرٌ لك ذَاعِر
فَكَمْ في بُطون الأرضِ بعد ظُهورها
مَحَاسِنهم فيها بوَالٍ دَوَاثِر
وأنت على الدنيا مُكب مُنَافِس
لِحُطَامِها فيها حَريص مُكاثر
علَى خطرٍ تُمسي وتُصبح لاَهِياً
أَتدْرِي بماذا لَوْ عقلت تُخاطِر
وَإِنْ أحد يَسعى لدُنياه جَاهداً
ويَذْهلُ عن أخراه لآ شَكَّ خاسِر
فَجدّ ولا تَغفَل، فَعَيشك زائِل
وأَنْتِ إِلى دارِ الْمَنِيَّةِ صَائِر
وهو العزيز يُعز مَن أقبل عليه، والغفور لمَن رجع بعد الإعراض إليه. الذي خلق سبعَ سموات الأرواح، وتقدّم قريباً تفسيرها، وعالم الأوراح في غاية الإتقان، ليس فيه خلل ولا تفاوت، ولقد زيَّنا السمآء الدنيا. قال القشيري: أراد بسماء الدنيا سماء القلب، لدنوه من سماء الروح، أي: زيّنا ونوّرنا سماء القلب بمصابيح العلم وأنوار الواردات القلبية، وسبحات الإلهامات الربانية، وجعلناها رجوماً للشياطين؛ الخواطر النفاسية، والهواجس الظلمانية الشيطانية، وأعتدنا لتلك الخواطر عذابَ السعير، فيحترق بالخواطر الملكية والرحمانية. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وللذين كفروا بربهم﴾ أي: ولكل مَن كفر بالله مِن الشياطين وغيرهم ﴿عَذابُ جهنم﴾ يُعذّبون بها جميعاً، ﴿وبئس المصيرُ﴾، المرجع جهنم. ﴿إِذا أُلقوا فيها﴾ ؛ طُرحوا في جهنم، كما يُطرح الحطب في النار، ﴿سَمِعُوا لها﴾ ؛ لجهنم ﴿شهيقاً﴾ ؛ صوتاً منكراً، كصوت الحمير. شبّه حسيسها المنكر الفظيع بالشهيق. ﴿وهي تفور﴾ ؛ تغلي بهم كغليان المِرُجَل بما فيه.
94
﴿تكاد تميَّزُ﴾ أي: تتميّز، يعني: تتقطّع وتتفرّق وينفصل بعضها من بعض ﴿من الغيظ﴾ وذلك حين تمد عنقها إليهم، لتستولي عليهم. وغيظها حقيقة بالإدراك الذي خلقه الله فيها. ﴿كلما أُلْقِي فيها فوجٌ﴾ ؛ جماعة من الكفار ﴿سألهم خزنتُها﴾ مالك وأعوانه من الزبانية توبيخاً لهم: ﴿ألم يأتكم نذير﴾ ؛ رسولٌ يُخوفكم من هذا العذاب الفظيع؟ ﴿قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نذيرٌ﴾، اعترفوا بعدل الله، وأنَّ الله أزاح عذرهم ببعث الرسل، وإنذارهم ما وقعوا فيه، تحسُّراً على ما فاتهم من السعادة، وتمهيداً لِما وقع منهم من التفريط تندُّماً اغتماماً على ذلك، ﴿فكذَّبنا﴾ ذلك النذير في كونه نذيراً من جهته تعالى: ﴿وَقُلْنَا مَا نزَّل اللهُ من شيءٍ﴾ مما يقولون من وعد ووعيد، وغير ذلك، ﴿إِن أنتم إِلاَّ في ضلالٍ كبير﴾ أي: قال الكفار للمنذِّرين: ما أنتم إلاّ في خطأ عظيم، بعيد عن الصواب.
وجمع ضمير الخطاب مع أنَّ مخاطب كل فوج نذيرُه؛ لتغليبه على أمثاله، مبالغةً في التكذيب، وتمادياً في التضليل، كما ينبىء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه، فإنه مُلوح لعمومه حتماً، أو: إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل. ويجوز أن يكون قوله: ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ في ضلال كبير﴾ من كلام الخزنة للكفار، على إرادة القول، ومرادهم بالضلال: الهلاك، أو: سمُّوا جزاء الضلال باسمه، كقوله: ﴿وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا﴾ [الشورى: ٤٠] مشاكلة، أو: يكون من كلام الرسل، حكوه للخزنة، اي: قالوا لنا هذا فلم نهتبله.
﴿
وقالوا﴾
أيضاً معترفين بتفريطهم: ﴿لو كنا نسمعُ﴾ الإنذار سماع طالب الحقّ ﴿أو نعقلُ﴾ شيئاً ﴿ما كنا في أصحاب السعير﴾ في عِددهم، ومن أتباعهم، من الشياطين وغيرهم، وفيه دليل على أنَّ مدار التكليف على أدلة السمع والعقل، وأنهما حجتان. ﴿فاعترَفوا بذنبهم﴾، الذي هو كفرهم وتكذيبهم الرسل في وقت لا ينفعهم، ﴿فسُحقاً لأصحابٍ السعير﴾ أي: أبعدهم من رحمته وكرامته، وهو مصدر مؤكد لعامله، أي: فسُحقوا سحقاً، أو: فأسحقهم الله سحقاً، بحذف الزوائد. وفيه معنى الدعاء.
الإشارة: وللذين كفروا بشهود ربهم في الدنيا عذابُ جهنم، وهو البُعد والحجاب، وبئس المرجع، حين يرجع المقربون إلى مقعد صدق، عند مليك مقتدر، إذا أُلقوا في الحُجبة والقطيعة سمعوا لها شهيقاً غيظاً عليهم، وسخطة بهم، وبصفاتهم المضلة، وهي تفور من قُبح أعمالهم. تكاد تميّز من الغيظ عليهم، كلما أُلقي فيها فوج من أهل الغفلة، قال لهم خزنتها وهم صور أعمالهم وهيئة أخلاقهم الردية: ألم يأتكم نذير؛ داع يدعوكم إلى الله، من العارفين بالله؟ فاعترفوا بأنهم أنكروهم وجحدوا خصوصيتهم، فماتوا محجوبين عن اللهِ، والعياذ بالله.
95
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ الذين يخشَون ربهم بالغيب﴾ أي: يخافون عذابه غائباً عنهم، أو: عن أعين الناس، أو: بالقلب؛ لأنّ القلب أمر غيبي، أو: يخشون ربهم ولم يروه معاينة، ﴿لهم مغفرة﴾ لذنوبهم ﴿وأجر كبير﴾ لا يُقادر قدره، الجنة وما فيها.
﴿وأسِرُّوا قولكم أو اجهروا به﴾، ظاهره: الأمر بأحد الأمرين؛ الإسرار والإجهار ومعناه: ليستوِ عندكم إسراركم وإجهاركم، فإنه في عِلْم الله سواء. كقوله: ﴿سَوَآءٌ مِنكُم مَّنْ أَسَرَ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ﴾ [الرعد: ١٠]، وكأنه تعالى لمّا قال: ﴿يخشون ربهم بالغيب﴾ ربما يتوهم أن الله تعالى يغيب عنه شيء، رفع ذلك. وقيل: إنَّ المشركين كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيُخبره جبريلُ عليه السلام بما قالوا فيه ونالوا منه، فقالوا فيما بينهم: أسِروا قولكم لئلا يسمع رب محمد فيخبره، فنزلت. وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم، ووقوع ما يحذرونه، وللمبالغة في شمول علمه تعالى، المحيط بجميع المعلومات، كأنَّ عِلْمَه تعالى بما يُسرونه أقدم منه بما يجهرونه، مع كونهما في الحقيقة على السواء، ولأنَّ مرتبة السر أقدم وجوداً؛ لأنّ ما يقع به الجهر يتقدّم التحدُّث به في النفس.
وقوله تعالى: ﴿إِنه عليمٌ بذات الصدور﴾ تعليل لِما قبله، أي: عليم بضمائر الصدور قبل أن تترجم الألسنة، فكيف لا يعلم ما تتكلم به. وفي صيغة " فعيل "، وتحلية " الصدور " بلام الاستغراق، ووصف الضمائر بصاحبتها من الجزالة ما لا غاية وراءه، كأنه قيل: إنه مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية، المستكنة في صدروهم، فكيف يخفى عليه ما يُبدونه؟ ويجوز أن يراد بـ ﴿ذات الصدور﴾ : القلوب التي في الصدور، أي: عليم بالقلوب وأحوالها، فلا يخفى عليه من أسرارها، ﴿ألا يعلم من خلق﴾ " مَنْ " فاعل بيعلم، ﴿وهو اللطيفُ الخبيرُ﴾ أنكر أن يكون مَن خلق الأشياء وأوجدها غير عالم بباطنها وظاهرها، وصفته أنه اللطيف، أي: العالِم بدقائق الأشياء الخبير؛ العالم بحقائقها. ويجوز أن يكون (مَن) مفعولاً، أي: ألاَ يعلم اللهُ مَن خلقه.
وفيه على الأول دليل على خلق أفعال العباد، وهو مذهب أهل السنة، ووجه الدليل: أنه تعالى لمّا قرر أنه عالم بالسر والجهر، وبكل ما في الصدور، قال بعده: ﴿ألا يعلم مَن خَلَقَ﴾، وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله إذا كان تعالى خالقاً لكل ما يفعلونه في السر والجهر، وفي القلوب والصدور، فأنه لو لم يكن خالقاً لها لم يكن قوله: ﴿ألا يعلم مَن خلق﴾ مقتضياً كونَه تعالى عالماً بتلك الأشياء، وهو خالق الأشياء وأحوالها، وعالم
96
بجميع ذلك، ولذلك عقَّب ذلك بقوله: ﴿وهو اللطيف الخبير﴾.
الإشارة: إنَّ الذين يخشون ربهم بالغيب، فراقَبوه وعبدوه، حتى عرفوه، فصار الغيب عندهم شهادة. قال الورتجبي: وصف الله معرفة العارفين به، قبل رؤيتهم مشاهدته، فإذا عاينوه استفادوا من رؤيته علم المعاينة، وهو المعرفة بالحقيقة، خشوا منه في غيبة منه، وهو خشية القلب، فلما رأوه على الخشية الإجلال، وهو علم الروح والسر. هـ.
وقوله تعالى: ﴿وهو اللطيفُ الخبير﴾، قال بعضهم: الحق تعالى منزّه عن الأين والجهة، والكيف، والمادة، والصورة، ومع ذلك لا يخلو منه أين ولا مكان، ولا كم، ولا كيف، ولا جسم، ولا جوهر، ولا عرض؛ لأنه للطفه سارٍ في كل شيء، ولنوريته ظاهر في كل شيء، ولإطلاقه وإحاطته متكيّف بكل كيف، غير متقيد بذلك، ومَن لم يذق هذا، أو لم يشهده، فهو أعمى البصيرة، محروم عن مشاهدة الحق. هـ. وقال الغزالي: إنما يستحق هذا الاسم ـ يعني اللطيف ـ مَن يطلع على غوامض الأشياء، وما دقّ منها وما لطف، ثم سلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العُنف، والخبير هو الذي لا يعزب عنه الأخبار الباطنة، فلا يجري في المُلك والملكوت شيء، ولا يتحرك ذرة ولا تسكن، ولا تضطرب نفس ولا تطمئن، إلاّ ويكون عنده خبرها. وهو بمعنى العلم، لكن العلم إذا أُضيف إلى الخفايا الباطنة يسمى خِبرة، ويسمى صاحبها خبيراً. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿هو الذي جعل لكم الأرضَ ذلولا﴾ ؛ مذلّلة ليّنة يسهل عليكم سلوكها. وتقديم (لكم) على مفعول الجعل؛ للاهتمام والتشويق، ﴿فامشُوا في مناكبها﴾ ؛ جوانبها، وهو تمثيل لفرط التذلُّل، فإنَّ منكب البعير أرقّ أعضائه وأصعبها على أن يطأها الراكب بقدميه، فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يتأتى المشي في مناكبها لم يبقَ منها شد لم يتذلّل، ﴿وكُلوا من رزقه﴾ أي: والتمسوا من رزق الله في سلوكها، أو إذا تعذّر العيس في أرضٍ فامشوا في مناكبها إلى أرض أخرى، كما قال الشاعر:
يا نفس مالكِ تهوي الإقامةَ في
أرض تعيش بين من ناواكِ بها
أما سمعتِ وعجز المرء منقصَةٌ
في محكم الوحي: فامشوا في مناكبها
97
أو: كُلوا من رزق الله الخارج منها، ﴿وإِليه النُشورُ﴾ أي: الرجوع بالبعث، فتُسألون عن شكر هذه النعم.
ثم هدَّد مَن لم يشكر فقال: ﴿أأمِنْتُم مَن في السماء﴾ من ملكوته وأسرار ذاته، وعبّر بها؛ لأنها منزل قضاياه، وتدبيراته ووحيه، ومسكن ملائكته وأوامره ونواهيه، فكل ما يظهر في الأرض إنما يقضي به في السماء، وحينئذ يبرز، فكأنه قال: أأمِنتم خالق السموات؟ وقال اللجائي: كل شيء علا فهو سماء، وسماء البيت: سقفه، وليس المقصود في الآية سماء الدنيا؛ ولا غيرها من السبع الطباق، وإنما المعنى: أأمِنتم مَن في العلو، وهو علو الجلال، وليس كون الله في سماء الحوادث من صفات الكمال، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. هـ. وسيأتي في الإشارة تحقيقة عند أهل التوحيد. أي: أأمِنتم مَن في السماء أسرار ذاته ﴿أن يخسف بكم الأرضَ﴾ كما خسف بقارون بعد ما جَعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها، وتأكلون من رزقه فيها، بحيث كفرتم تلك النعمة، فقلبها لكم ﴿فإِذا هي تمورُ﴾ ؛ تضطرب وتتحرّك.
﴿أم أَمِنْتُم مَن في السماء أن يُرسل عليكم حاصباً﴾ ؛ حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، أو: ريحاً فيها حجارة. و " أن ": بدل اشتمال في الموضعين. ﴿فستعلمون﴾ عن قريب ﴿كيف نذيرٍ﴾ أي: إنذاري عن مشاهدتكم للمنذَر به، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذٍ.
﴿
ولقد كذَّب الذين مِن قبلهم﴾
؛ من قبل كفار مكة، من كفار الأمم السابقة، كقوم نوح وعاد وأضرابهم، والالتفات إلى الغيبة؛ لإبراز كمال الإعراض عنهم، ﴿فكيف كان نكير﴾ ؛ إنكاري عليهم، بإنزال العذاب، أي: كان على غاية الهول والفظاعة، وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط، وفيه من المبالغة في تسلية الرسول ﷺ وتشديد التهويل ما لا يخفى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: هو الذي جعل لكم أرض البشرية مذلّلة للعبودية، والقيام بآداب الربوبية، فامشوا في مناكبها؛ فسيحوا بقلوبكم في جوانبها، تفكُّراً واعتباراً لِما فيهم من عجائب الإتقان، وبدائع الحِكم، فقد جمعت أسرار الوجود بأسره، وكُلوا من رزقه مما اكتسبه القلب بالنظر والتفكُّر، من قوة الإيمان، وهو قوت القلوب، وشهود الحق فيها، وهو قوت الأرواح والأسرار، وإليه النُشور ببعث الأرواح من موت الغفلة والجهل، إلى حياة اليقظة والمعرفة، أأمِنتم مَن في السماء أن يخسف بكم الأرض، أي: إذا أسأتم معه الأدب. واعلم أن ذات الحق ـ جلّ جلاله ـ عمّت الوجود، فليست محصورة في مكان ولا زمان، ﴿فأينما تُولوا فَثَمّ وجه الله﴾، فأسرار ذاته ـ تعالى ـ سارية في كل شيء، قائمة بكل شيء، كما تقدّم، فهو موجود في كل شيء، لا يخلو منه شيء، أسرار المعاني قائمة
98
بالأواني، وإنما خصّ الحق ـ تعالى ـ السماء بالذكر؛ لأنها مرتفعة معظّمة، فناسب ذكر العظيم فيها، وعلى هذا تُحمل الأحاديث والآيات الواردة على هذا المنوال. وليس هنا حلول ولا اتحاد؛ إذ ليس في الوجود إلاّ تجليات الحق ومظاهر ذاته وصفاته، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه، فما مثال الكون إلا كجبريل حين يتطوّر على صورة دحية، غير أنَّ رداء الكبرياء منشور على وجه ذاته وأسرار معانيه، وهو ما ظهر من حسن الكائنات، وما تلوّنت به الخمرة من أوصاف العبوية. ولا يفهم هذا إلاَّ أهل الذوق السليم. وبالله التوفيق.
يقول الحق جل جلاله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوُا﴾ أي: أَغَفلُوا ولم ينظروا ﴿إِلى الطيرِ﴾ ؛ جمع طائر ﴿فوقهم﴾ في الهواء ﴿صافاتٍ﴾ ؛ باسطاتٍ أجنحتها في الجو عند طيرانها ﴿ويقبِضْنَ﴾ ؛ ويضممنها إذا ضربن بها حيناً فحيناً، للاستظهار به على التحرُّك، وهو السر في إيثار (ويقبضن) الدال على تجدُّد القبض تارة بعد تارة على " قابضات "، فـ " يقبضن ": معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى، أي: يصففن ويقبضن، أو: صافات وقابضات. والطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والهواء للطائر كالماء للسابح، والأصل في السباحة: مدّ الأطراف وبسطها، وأمّا القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرُّك. ﴿ما يُمسِكُهُنَّ﴾ في الجو عند البسط والقبض على خلاف مقتضى الطبع ﴿إلاَّ الرحمنُ﴾ الواسع رحمته كل شيء، ومن جملتها: إمساكه الطير في الهواء بقدرته، وإلا فالثقيل يسفل طبعاً ولا يطفو، وكذلك لو أمسك حِفظَه وتدبيره للعالم لتهافت وتلاشى. ﴿إِنه بكل شيءٍ بصيرٌ﴾ يعلم كيفية إبداع المبدعات، وتدبير المصنوعات، ومن مبدعاته: أنَّ الطير على أشكال وخصائص هيّأهن للجري في الهواء.
﴿أمَّنْ هذا الذي هو جندٌ لكم ينصركم من دون الرحمن﴾، هو تبكيت لهم ينفي أن يكون لهم ناصر من عذابه غير الله، أي: لا ناصر لكم إلاّ الرحمن برحمته. " أم " منقطعة مقدرة ببل؛ للانتقال من توبيخهم على ترك التأمُّل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب قدرة الله تعالى إلى التبكيت بما ذكر من نفي نصرة غيره تعالى، والالتفات
99
للتشديد في ذلك، و (من) : مبتدأ و (هذا) : خبره، و (الذي) وما بعده: صفتهن وإيثار " هذا " تحقيراً له، و (ينصركم) : صفة لجُند، باعتبار لفظه، و (من دون) : إما حال من فاعل " ينصركم " أو لمصدر محذوف، أي: نصراً حاصلاً من دون الرحمن، أو: متعلق بينصركم، كقوله: ﴿مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللهِ﴾ [هود: ٣٠]، والمعنى: بل مَن هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم نصراً كائناً من دون نصرة الرحمن؟ ! ﴿إِنِ الكافرون إلاّ في غرورٍ﴾ أي: ما هم في زعمهم أنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم، لا بحفظه تعالى فقط، إلاّ في غرور عظيم، وضلال فاحش من الشيطان. والالتفات إلى الغيبة؛ للإيذان بافتضاح حالهم، والإعراض عنهم، وإظهار قبائحهم، والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر، وتعليل غرورهم به.
﴿
أمّنْ هذا الذي يرزقكم إِنْ أمسك﴾
اللهُ عزّ وجل ﴿رزقَه﴾ بإمساك المطر وسائر مبادئه، أي: مَن هذا الحقير الذي يقدر على إتيان رزقكم من آلهتكم إن أمسكه الله؟ ﴿بل لَجُّوا في عَتُوٍّ ونفورٍ﴾، إضراب عن مُقدّر يستدعيه المقام، كأنه قيل بعد تمام التبكيت والتعجيز: لم يتأثروا بشيء من ذلك، ولم يذعنوا للحق، ﴿بل لجُّوا﴾ أي: تمادوا ﴿في عتوٍّ﴾ أي: استكبار وطغيان ﴿ونفورٍ﴾ ؛ وشُرود عن الحق لِثقله عليهم. ثم ضرب مثلاً للمشرِك والموحِّد، فقال: ﴿أفمن يمشي مُكبًّا على وجهه﴾ أي: ساقطاً على وجهه ﴿أهْدى﴾، والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سواء حالهم، وسقوطهم في مهاوي الغرور، وركوبهم متن عشواء العتو والنفور. والمُكب: الساقط على وجهه، والمعنى: أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة، ويخرّ على وجهه في كل خطوة أهدى إلى المقصود ﴿أَمَّنْ يمشي سَوِياً﴾ أي: قائماً سالماً من الخبط والعِثار ﴿على صراط مستقيم﴾ مستوي الأجزاء لا عوج فيه، ولا انحراف؟ و " من " الثانية: معطوفة على الأُلى عطف المفرد. وقيل: المراد بالمكب: الأعمى، وبالسوي: البصير. وقيل: مَن يمشي مُكباً هو الذي يُحشر على وجهه إلى النار، ومَن يمشي سويًّا: الذي يُحشر على قدميه إلى الجنة.
﴿قل هو الذي أنشأكم﴾ إنشاءً بديعاً، ﴿وجعل لكم السمعَ﴾ لتسمعوا آيات الله، وتمتثلوا ما فيها من الأوامر والنواهي، وتتعظوا بمواعظها، ﴿والأبصارَ﴾ لتنظروا بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله تعالى، ﴿والأفئدةَ﴾ لتتفكروا بها فيما تسمعونه وتشاهدونه من الآيات التنزيلية والتكوينية؛ لتترقوا في معاريج الإيمان والمعرفة، ﴿قليلاً ما تشكرون﴾ باستعمالها فيما خُلقت له. و " قليلاً ": إما نعت لمحذوف، أو: ظرف، و (ما) : صلة لمحذوف، أي: شكراً قليلاً، أو: زمناً قليلاً. وقيل: القلة عبارة عن العدم. ﴿قل هو الذي ذرأكم في الأرض﴾ أي: خلقكم وكثَّركم فيها ﴿وإِليه تُحشرون﴾ للجزاء لا إلى غيره، فتهيؤوا للقائه.
الإشارة: أَوَلَم يَرَوا إلى طيور أفكار العارفين فوقهم منزلةً ورفعة، صافاتٍ، تجول
100
في ميادين الغيوب، ويقبضن عنانهن، عكوفاً في الحضرة، وسكوناً في النظرة، ما يُمسِكُهن فيها إلاَّ الرحمن الذي مَنَّ عليهم برحمته، فأسكنهم فيها، إنه بكل شيء بصير، فيُبصر مَن توجه إليه ومَن لا، أمَّنْ هذا الذي هو جند لكم ينصركم على طريق السلوك، ويُبلغكم إلى حضرة مالك المَلوك، من دون الرحمن؟ إنِ الكافرون بهذا إلاّ في غرور، حيث حسبوا أنَّ وصولهم بحسب جهادهم وطاعتهم، أمَّن هذا الذي يرزقكم إمداد قلوبكم من العلوم والمعارف واليقين الكبير، إن أمسك رزقه فلم يتوجه إليكم إلاَّ القليل، بل لجُّوا في عُتو ونفور، أفمن يمشي مُكبًّا على وجهه، حيث رام سلوك الطريق بلا شيخ ولا دليل عارف، أهدى أمَّنْ يمشي سويًّا سالماً من الانحراف، على صراط مستقيم، تُوصله إلى حضرة العيان، وهو مَن سلك الطريق على يد الخبير، بل مَن سلكه على يد الخبير أهدى وأصوب، قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم دلائل السلوك إلى معرفته، لتستدلوا عليه بالأدلة السمعية والعقلية، ثم تَتَرَقون إلى صريح معرفته، بسلوك الطريق على يد الخبير، قل هو الذي ذرأكم في أرض العبودية، وإليه تُحشرون بشهود عظمة الربوبية.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ويقولون﴾ مِن فرط عتوهم وعنادهم استهزاء: ﴿متى هذا الوعدُ﴾ أي: الحشر الموعود ﴿إن كنتم صادقين﴾ فيما تعدونه من مجيء الساعة؟ والخطاب للرسول ﷺ والمؤمنين المشاركين له عليه السلام في الوعد، وتلاوة الآيات المتضمنة له، وجواب الشرط: محذوف، أي: إن صدقتم فيه فبيَّنوا وقته؟ ﴿قل إِنما العلمُ﴾ أي: العلم بوقته ﴿عند الله﴾ تعالى، لا يطلع عليه غيره ﴿وإِنما أنا نذير مبينٌ﴾ أُنذركم وقوع الموعود لا محالة، وأمّا العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار.
﴿فلما رَأَوه﴾ أي: العذاب الموعود. والفاء فصيحة مُعربة عن تقدير جملة، كأنه قيل: قد أتاهم الموعود فلما رأوه... الخ، نزّل ما سيقع بمنزلة الواقع لتحقق وقوعه، و ﴿زُلفةً﴾ : حال من مفعول " رَأَوه " أي: قريباً منهم، وهو مصدر، أي: ذا زلفة، ﴿سِيئَتْ﴾ أي: تغيرت ﴿وجوهُ الذين كفروا﴾ بأن غشيها الكآبة ورهقها القَترُ والذلة. ووضع الموصول موضع ضميرهم؛ لذمهم بالكفر، وتعليل المساءة به. ﴿وقيل﴾ توبيخاً لهم، وتشديداً لعذابهم: ﴿هذا الذي كنتم به تَدَّعون﴾ ؛ تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه
101
إنكاراً واستهزاءً، وهو " تفتعلون " من الدعاء، وقيل: من الدعوى، أي: تدعون ألاَّ بعث ولا حشر. ورُوي عن مجاهد: أنَّ الموعود يوم بدر، وهو بعيد.
﴿قل أرأيتم﴾ أي: أخبروني ﴿إِن أهلكنيَ اللهُ﴾ أي: أماتني. والتعبير عنه بالهلاك لِما كانوا يدعون عليه ﷺ وعلى المؤمنين بالهلاك، ﴿ومَن معيَ﴾ مِن الْمُؤْمِنِين ﴿أو رَحِمَنا﴾ باخير آجالنا، فنحن في جوار رحمته متربصون إحدى الحسنيين ﴿فمَن يُجير الكافرين من عذاب أليم﴾ أي: لا يُنجيكم منه أحد، متنا أو بَقينا. ووضع " الكافرين " موضع ضميرهم؛ للتسجيل عليهم بالكفر، وتعليل نفي الإنجاء به، أي: لا بد من لحوق العذاب لكفركم، مُتنا أو بقينا، فلا فائدة في دعائكم علينا.
﴿
قل هو﴾
أي: الذي أدعوكم إليه ﴿الرحمن﴾ مولى النعم كلها، ﴿آمَنَّا به﴾ وحده؛ لعِلْمنا ألاَّ راحم سواه، ﴿وعليه توكلنا﴾ وحده؛ لعِلْمنا أنَّ ما عداه كائناً ما كان بمعزل عن النفع والضر. ﴿فستعلمون﴾ عن قريب ﴿مَن هو في ضلالٍ مبينٍ﴾ منا ومنكم، ﴿قل أرأيتم﴾ ؛ أخبروني ﴿إِن أصبحَ ماؤُكم غوراً﴾ ؛ غائراً في الأرض بالكلية، أو: لا تناله الدلاء ﴿فمَن يَأْتِيكُمْ بماءٍ مَّعِينٍ﴾ ؛ جارٍ أو ظاهر سهل المأخذ، يصل إليه مَن وصله؟. وفي القاموس: ماء معيون ومعين: ظاهر. هـ. وقال مكي: ويجوز أن يكون معين " فعيل " من مَعَن الماء: كثر، ويجوز أن يكون مفعولاً من العَين، وأصله: معيون، ثم أعل، أي: فمَن يأتيكم بماء يُرى بالعين. هـ. مختصراً.
وقرئت الآية عند مُلحدٍ، فقال: يأتي بالمعول والفؤوس، فذهبت عيناه تلك الليلة وَعمِيَ، وقيل: إنه محمد بن زكريا المتطبب، أعاذنا الله من سوء الأدب مع كتابه. قال ابن عرفة: ذكر ابن عطية في فضل السورة أربعة أحاديث، وقد تقرّر أنَّ أحاديث الفضائل لم تصح إلاَّ أحاديث قليلة، ليس هذا منها. هـ. وفي الموطأ: إنها تُجادل عن صاحبها.
الإشارة: ويقولون ـ أي: أهل الإنكار على المريدين ـ: متى هذا الوعد بالفتح إن كنتم صادقين في الوعد بالفتح على أهل التوجه؟ قل أيها العارف الداعي إلى الله: إنما العلمُ عند الله، وإنما أنا نذير مبين، أُنذر البقاء في غم الحجاب وسوء الحساب، فلما رأوه ـ أي رأوا أثر الفتح على المتوجهين، بظهور سيما العارفين على وجوههم، ونبع الحِكَم من قلوبهم على ألسنتهم ـ زلفةً، أي: قريباً، سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ بطريق الخصوص، وأنكروها ـ أي ساءهم ذلك حسداً أو ندماً، وقيل هذا الذي كنتم به تَدَّعون، أي: تدَّعون أنه لا يكون، وأنه قد انقضى زمانه، وأهل الإنكار لا محالة يتمنون هلاكَ أهل النِسبة، فيُقال لهم: أرأيتم إن أهلكنا الله بالموت، أو رَحِمَنا بالحياة، فمَن يُجيركم أنتم من
102
عذاب القطيعة والبُعد، أي: هو لا حق لكم لا محالة، متنا أو عشنا، قل هو، أي: الذي توجهنا إليه، الرحمن وضمّنا إليه، آمنّا به وعليه توكلنا في كفاية شروركم، فستعلمون حين يُرفع المقربون في أعلى عليين، ويسقط أهل الحجاب في الحضيض الأسفل من الجنة، مَن هو اليوم في ضلال مبين، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤكم ـ ماء حياة قلوبكم من الإيمان والتوحيد، غَوْراً، فمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ معين؟ أي: فمَن يُظهره لكم، ما يأتي به إلاَّ أهل العلم بالله.
والله تعالى أعلم. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
103
سورة القلم
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿نا﴾، هو من جملة الرموز، كـ ﴿ص﴾ و ﴿ق﴾، وكأنه ـ والله أعلم ـ يُشير إلى ما خصّ به نبيَّه من أسرار النبوة والخلافة، أي: نبأناك ونبَّهناك ونوّبناك خليفة عنا، أو نوّهنا بك في مُلكنا وملكوتنا، أو: أيها النبي المفخّم، والرسول المعظّم، وحق نون والقلم ما أنت بمجنون. وقيل: مختصر من نور وناصر ونصير، وقيل: من الرحمن، لكن ورد في الحديث: " أول ما خلق اللهُ القلم، ثم خَلَقَ النون "، وهو الدواة، وذلك قوله: ﴿ن والقلم﴾ فإن صَحّ الحديث فهو أولى في تفسير الآية، وقد رُوي عن ابن عباس وغيره، في تفسير الآية: أنه الدواة والقلم الذي بأيدي الناس، ورُوي عن ابن عباس أيضاً: أنه الحوت الأعظم، الذي عليه الأرضون السبع.
قال الكلبي ومقاتل: اسمه يهموت ـ بالياء ـ وقيل: ليُوثا، وقيل: باهوتا. رُوي: أنَّ الله تعالى لَمَّا خلق الأرض وفَتَقَها، بعث مِن تحت العرش ملكاً، فهبط إلى الأرض حتى دخل تحت الأرضين السبع، فوضعها على عاتقه، إحدى يديه بالمشرق، والأخرى بالمغرب، باسطتين، قابضتين على الأرضين السبع، فلم يكن لقدميه موضع قرار، فأهبط الله من الفردوس ثوراً، له أربعون ألف قرنٍ، وأربعون ألف قائمة، وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم تستقر قدماه، فأهبط الله ياقوتة خضراء من أعلى درجة في الفردوس، غلظها خمسمائة عام، فوضعها على سنام الثور إلى أذنه، فاستقرت قدما المَلك عليه، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض، ومنخاره في البحر، فهو يتنفس كل يوم
104
نفساً، فإذا تنفّس مدَّ البحرُ، وإذا هدأ نَفَسُه جزرَ البحر، فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار، فخلق الله صخرة خضراء، كغلظ سبع سموات وسبع أرضين، فاستقرت قوائم الثور عليها، وهي الصخرة التي قال لقمان لابنه: ﴿فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ﴾ [لقمان: ١٦] الآية، فلم تستقر الصخرة، فخلق الله نوناً ـ وهو الحوت العظيم ـ فوضع الصخرة على ظهره، وسائر جسده عارٍ، والحوت على البحر، والبحر على متن الريح، والريح على القدرة الأزلية، يُقلُّ الدنيا بما فيها حرفان " كن فيكون ". هـ. من الثعلبي، وهذا من باب عالَم الحكمة، وإلاَّ فما ثَمَّ إلا تجليات الحق وأسرار الذات، والصفات الأزلية. وتفسير ﴿ن﴾ بهذا الحوت ضعيف.
قال ابن جزي: ويُبطل قول مَن قال: إنه الحوت أو الدواة، بأنه لو كان كذلك لكان مُعرباً، ولَكَان في آخره تنوين، فكونه موقوفاً دليل على أنه حرف هجاء، نحو: ﴿الام﴾ وغيره. هـ.
ثم أقسم بالقلم، فقال: ﴿والقلم وما يسطرون﴾، قيل: هو القلم الذي كتب اللوح المحفوظ، فالضمير في ﴿يسطرون﴾ للملائكة، وقيل: القلم المعروف عند الناس، أقسم له بِما فيه من المنافع والحِكم. قال ابن الهيثم: من جلالة القلم أنه لم يكتب الله كتاباً إلا به، ولذلك أقسم به. الأقلام مطايا الفِطن ورسل الكرام، وقيل: البيان اثنان: بيان لسان، وبيان بَنَان، ومِن فضل بيان البنان أنَّ ما تبيَّنته الأقلام باق على الأيام، وبيان اللسان تدْرُسه الأعوام، ولبعض الحكماء: قِوام أمور الدين والدنيا: القلم، والسيف تحت القلم. وأنشد بعضهم في هذا المعنى:
قَلَمٌ مِنَ القَصَبِ الضَّعيف الأجْوفِ
أَمضَى من الرُّمْح الطويل الأهيَفِ
ومِن النِّصال إذا انْبَرَتْ لِقسِيِّها
ومِن المُهَنَّد في الصِّقال المُرْهَفِ
وأَشَدُّ إِقدَاماً من الليْثِ الذي
يَكْوِي القُلوبَ إذا بدا في الموقِفِ
وقال آخر:
قَوْمٌ إذا عَرَفوا عَداوةَ حَاسِدٍ
سَفَكُوا الدِّمَا بأَسِنَّةِ الأَقْلامِ
ولَضَرْبَةٌ مِن كاتبٍ بِبَنَانِهِ
أَمْضَى وأَبْلَغُ من رقيق حُسَامِ
فالضمير في ﴿يَسْطُرون﴾ على هذا لبني آدم، فالضمير يعود على الكتبة المفهومة من القلم اللازمة له.
ثم ذكر المقسَم عليه، فقال: ﴿ما أنت بنعمةِ ربك بمجنونٍ﴾ أي: ليس بك جنون كما يزعمه الكفرة، فـ (بنعمة ربك) : اعتراض بين " ما " وخبرها، كما تقول: أنت بحمد الله فاضل، وقيل: المجرور في موضع الحال، والعامل فيه معنى النفي، كأنه قيل: أنت بريء
105
من الجنون، ملتبساً بنعمة ربك، التي هي النبوة والرسالة. والتعبير بعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معاريج الكمال، مع الإضافة إلى ضميره ﷺ لتشريفه عليه السلام والإيذان بأنه تعالى يُتم نعمته عليه، ويُبلغه من العلو إلى غاية لا غاية وراءه، والمراد: تنزيهه عليه السلام عما كانوا ينسبونه من الجنون حسداً وعداوة ومكابرة، مع جزمهم بأنه ﷺ في غاية الغايات القاصية، ونهاية النهايات الثابتة من حصافة العقل، ورزانة الرأي. ﴿وإِنَّ لك﴾ في مقابلةِ مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم، وتحمُّلك لأعباء الرسالة ﴿لأجراً﴾ عظيماً لا يُقادَر قدره ﴿غيرَ ممنونٍ﴾ ؛ غير مقطوع، أو: غير ممنون به عليك من جهة الناس، بأن أعطاه تعالى لك بلا واسطة.
﴿
وإنك لعلى خُلُقِ عظيم﴾
لا يُدْرِك شأوَه أحدٌ مِن الخلق، ولذلك تَحْتَمِل من جهتهم ما لا يحتمله أحد من البشر. وسُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلقة صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خُلقه القرأن، ألست تقرأ القرآن: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ... ﴾ [المؤمنون: ١] الآية. وقيل: المراد: التأدُّب بآداب القرآن، بامتثال أمره واجتناب نهيه.
قال ابن جُزي: وتفصيل ذلك: أنَّ رسولَ الله ﷺ جمع كل فضيلة، وحاز كل خصلة جميلة، فمن ذلك: شرف النسب، ووفور العقل، وكثرة العلم والعبادة، وشدة الحياء، والسخاء، والصدْق، والشجاعة، والصبر، والشكر، والمروءة، والتوءدة، والاقتصاد، والزهد، والتواضع، والشفقة، والعدل، والعفو، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، وحُسن المعاشرة، وحسن التدبير، وفصاحة اللسان، وقوة الحواس، وحسن الصورة، وغير ذلك، حسبما ورد في أخباره وسِيرَه صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: " بُعثت لأتمم مكارمَ الأخلاق "، قال الجنيد: سُمي خُلقه عظيماً؛ لأنه لم تكن له همة سوى الله عزّ وجل. هـ. والخُلق: السجية والطبع. قال في القاموس: الخُلْق بالضم وبضمتين: السجية، والطبع، والمروءة والدين. هـ.
وعرَّف بعضهم حقيقة الخُلق، فقال: مَلكة للنفس، تصدر عنها الأفعال بسهولة، من غير فكر ولا رَوية، فخرج الصبر؛ لأنه بصُعوبة، والفكرة؛ لأنها تكون بروية، ثم ينظر في تلك الأفعال الصادرة عن تلك المَلكة؛ فإن كانت سيئة، كالغضب، والعَجَلة، والكِبر، والفظاظة، والغلظة، والقسوة، والبُخل، والجُبن، وغير ذلك من القبائح، سُمي خُلقاً سيئاً، وإن كانت تلك الأفعال حسنة، كالعفو، والحلم، والجود، والصبر، والرحمة، ولين الجانب، وتحمل الأذى، سُمي خلقاً حسناً، الذي اتصف به صلى الله عليه سلم على أكمل الوجوه، ومَدَحه بقوله: " ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإن صاحب حسن
106
الخلق يبلغ درجة الصائم القائم " وبقوله: " أفضل ما أُعطي المرء الخلق الحسن " في أحاديث كثيرة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد يُقال: أشار بقوله: ﴿ن﴾ إلى سرعة إنفاذ أمره بين الكاف والنون، ثم أقسم بالقلم على تنزيه نبيه من الجنون، ويُقال مثل ذلك لخلفائه، إذا رُمُوا بالجنون أو السحر أو سخافة العقل، ويُقال لهم في إرشاد الناس وتذكيرهم ما قيل لنبيّهم: ﴿وإِنَّ لك لأجراً غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم﴾، فحُسن الخلق دليل على ثبوت الخصوصية، وعدمه دليل على عدم وجودها؛ لأنّ الخمرة إذا دخلت القلب والروح هَذّبت أخلاقهما، وطهّرت أكدارهما، وما تُبقي إلاَّ الذهب الإبريز.
وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف: كان ﷺ على خُلقٍ عظيم؛ لشرح صدره بالنور، كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح: ١]، ولحديث شرح صدره وشقه وتطهيره، ونزع حظ الشيطان منه، ثم إفراغ الحكمة والنور فيه، حتى مُلىء بذلك، فكان شيئاً محضاً لله تعالى، لا تعلُّق له بغيره، فناسب القرأن، وصار خُلقاً له، منقوشاَ فيه، من غير روية، ولا تكسب في ذلك، بل طُبع على ذلك، وسرى فيه أمر الوحي، وجرى على مقتضاه في جميع أحواله، ولذلك تجد السُنة مشرعة من القرآن، وخارجة منه خروج اللبن من الضرع، والزبد من اللبن، فصار متخلّقاً بالقرآن، وفي الحقيقة متخلّقاً بخُلق الله، ومظهرَ أوصافه، ومجلاة سره وشأنه، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ﴾ [الفتح: ١٠] الآية، ومَن رآه فقد رأى الحق. والله أعلم. هـ. فعائشة رضي الله عنها احتشمت وسترت حيث عبّرت بالقرآن، ولم تقل كان خلقه خلق الرحمن.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فسَتُبْصِرُ﴾ يا محمد ﴿ويُبصرون﴾ أي: كفارُ قريش عاقبةَ أمرك
107
وأمرهم، أو: مَن هو المجنون منكم. قال ابن عباس رضي الله عنه: فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتبيّن الحق من الباطل. هـ. وقيل: في الدنيا بظهور عاقبة أمرك بظهور الإسلام، واستيلائك عليهم بالقتل والنهب، ويبصرونك مُهاباً معظّماً في قلوب العالمين، وكونهم أذلةً صاغرين. قال مقاتل: هذا وعيد بعذاب يوم بدر.
والباء في قوله: ﴿بأيِّكم المفتونُ﴾ قيل: زائدة، أي: تُبصرون أيكم المفتون، أي: المجنون، وقيل: غير زائدة، أي: بأيكم الفتنة، فالمفتون مصدر، كقولهم: ما لك معقول، أي: عقل، وقيل: الباء بمعنى " في "، أي: في أي فريق منكم المفتون، هل في فريق المؤمنين أم المشركين؟ والآية تعريض بأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وأضرابهما، وتهديد، كقوله تعالى: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ (٢٦) ﴾ [القمر: ٢٦].
﴿إِنَّ ربك هو أعلمُ بمَن ضلَّ عن سبيله﴾ تعليل لمضمون ما قبله، من ظهور جنونهم، بحيث لا يخفى على أحد، وتأكيد لِما فيه من الوعد والوعيد، أي: هو أعلم بمَن ضل عن طريقه الموصلة إلى سعادة الدارين، وبمن هو في تيه الضلال، متوجهاً إلى ما يسوقه إلى الشقاوة الأبدية، وهذا هو المجنون الذي لا يُفرّق بين الضرر والنفع، بل يحسب الضررَ نفعاً فيؤثره، والنفعَ ضرراً فيهجره، ﴿وهو أعلمُ بالمهتدين﴾ إلى سبيله، الفائزين بكل مطلوب، الناجين من كل مرهوب، وهم العقلاء المراجيح، فيجزي كُلاًّ من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب. وإعادة ﴿هو أعلم﴾ لزيادة التقرير.
وإذا تقرّر أنك على الهدى، ومُكَذَبوك على الضلال ﴿فلا تُطع المكذِّبين﴾، فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: دُم على ما أنت عليه، من عدم طاعتهم، وتَصَلّبْ في ذلك. وهذا تهييج للتصميم على عصيانهم، وقد أرادوه على أن يعبدوا الله مدة، ويعبد آلهتهم مدة، ويكفُّوا عنه غوائلهم، فنهاه عن ذلك، أو: نُهي عن مداهنتهم ومداراتهم، بإظهار خلاف ما في ضميره صلى الله عليه وسلم؛ استجلاباً لقلوبهم. ﴿وَدُّوا لو تُدْهِنُ﴾ ؛ لو تلين لهم ﴿فيُدْهِنُون﴾ ؛ فيلينون لك، ولم ينصب بإضمار " أن " مع أنه جواب التمني؛ لأنه عدل به إلى طريق آخر، وهو أن جعله خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم مدهنون، أي: فهم الآن يُدهنون لطمعهم في إدهانك، فليس داخلاً في حيّز تمنيهم؛ بل هو حاصل لهم، وفي بعض المصاحف: ﴿فيدهنوا﴾ على أنه جواب التمني.
﴿
ولا تُطعْ كلَّ حلاّفٍ﴾
؛ كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به زجراً لمَن يُكثر الحلف، ﴿مَهِينٍ﴾ ؛ حقير في الرأي والتدبير، من المهانة، وهي القلة والحقارة، أو: كذَّاب؛ لأنه صغير عند الناس، ﴿هَمَّازٍ﴾ ؛ عيّابٍ طعَّان مغتاب ﴿مشَّاء بنميم﴾ ؛ نقّال للحديث من قوم إلى قوم، على وجه السِّعاية والفساد بينهم، فالنميم والنميمة: السعاية في إفساد ذات البيْن، ﴿مناعٍ للخير﴾ ؛ بخيل، والخير: المال، أو: منّاع أهلَه من الخير، وهو الإسلام، والمراد: الوليد بن المغيرة، عند الجمهور، وكان يقول لبنيه العشرة: مَن أسلم منكم منعته رفدي. هـ ﴿مُعْتَدٍ﴾ ؛ مجاوز في الظلم حدّه، ﴿أثيمٍ﴾ ؛ كثير الإثم، ﴿عُتُلٍّ﴾ ؛ غليظ جافٍ، مِن عتله: إذا قاده بعنف وغلظةٍ، ﴿بعد ذلك﴾ ؛ بعدما عدّ له من المثالب
108
﴿زنيمٍ﴾ ؛ دَعِيّ، أي: ولد زنا، وكان الوليد دَعِياً في قريش، ليس من سِنْخهم، ادّعاه أبوه المغيرة بعد ثماني عشرة سنة من مولده، وقيل: بغَت أمه ولم يعرف حتى فضحته الآية: والنطفة إذا خبثت خبث الناشىء عنها. رُوي: أنه دخل على أمه، وقال لها: إنَّ محمداً وصفني بشعرة أوصاف، وجدت تسعة فِيّ، فأما الزنيم فلا علم لي به، فإن أخبرتني بحقيقته، وإلاّ ضربت عنقك، فقالت: إنَّ أباك عنّين، وخفتُ أن يموت، فيصل المال إلى غير ولده، فدعوت راعياً، فأنت من ذلك الراعي. هـ. وقيل: هو الأخنس بن شريق، أصله من ثقيف، وعِدادُه في بني زهرة.
﴿أن كان ذا مالٍ وبنينَ﴾ : متعلق بقوله: ﴿لا تُطع﴾ أي: لاتُطع مَن هذه مثالِبه لأن كان صاحب مال وبنينَ مستظهراً بهم، فإنه حظه من الدنيا، وقيل: متعلق بما بعده، أي: لأن كان ذا مال وبنين كذّب بآياتنا، يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿إذا تُتلى عليه آياتُنا﴾ أي: القرآن ﴿قال أساطيرُ الأولين﴾ أي: أكاذيب المتقدمين، ولا يعمل فيه " قال "؛ لأنّ ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله. ومَن قرأ بكسر " إن " فشرط حُذف جوابه، أي: إن كان ذا مال فلا تُطعه، والمعنى: لا تُطع كل حلاّف شارطاً يَسَارَه. قيل: لمّا عاب الوليدُ النبيَّ ﷺ كاذباً بأمر واحد، وهو الجنون، سمّاه اللهُ تعالى صادقاً بعشرة أسماء، فإذا كان مِن عدله أن يجزي المسيء إلى رسول الله ﷺ بعشر، كان من فضله أن يجزي المُصلِّي عليه أو المادح له بعشر فأكثر.
﴿سَنَسِمُه على الخرطوم﴾ ؛ سنعلِّمه على أنفه بالكي بالنار إهانةً له، وتخصيص الأنف بالذكر؛ لأنَّ الوسم عليه أبشع، وقيل: خطم بالسيف يوم بدر، فبقيت سمة على خرطومه، وفيه نظر إذا قلنا هو الوليد، فإنه مات قبل بدر، لأنه من المستنصرين الخمسة، وقد ماتوا كلهم قبل وقعة بدر، وقيل: سنعلمه يوم القيامة بعلامة يُشوه بها من بين سائر الكفرة.
الإشارة: فستُبصر أيها العارف، والمتوجّه إلى الله، ويُبصر أهل الانتقاد من أهل الغفلة، أيكم المفتون، هل أنتم حين اجتمعت قلوبكم بالله، وجعلتم الهموم هَمًّا واحداً، فكفاكم الله همّ دنياكم، أو: هُم الذين تفرّقت قلوبهم، وتشعّبت همومهم، حتى ماتوا في أودية الفتن، فلم يُبالِ الله بهم في أيّ أودية الدنيا هلكوا، كما في الأثر. إِنَّ ربك هو أعلم بمَن ضَلّ عن طريقه الموصلة إليه، وهو أعلم بالمهتدين إليها، السائرين فيها، حتى وصلوا إلى حضرة قدسه، فلا تُطع أيها المتوجّه المكذّبين لهذه الطريق، ودُّوا لو تلينون إليهم، وتشاركونهم فيما هم فيه من الحظوظ، فيميلون إليكم، طمعاً فيكم أن يصرفوكم
109
عن طريق الجد والاجتهاد، ولا تُطع كل حلاف مهين، قال القشيري: مّهين: هو الذي سقط من عيننا، فأقمناه بالبُعد عنا، همّاز مشاء بنميم، مُعذَّب بالوقيعة في أوليائنا. هـ.
قال بعضهم: بُحث عن النمَّام فلم يوجد إلا ابن الزنا، واستدل بالآية في قوله: ﴿بعد ذلك زنيم﴾. وقوله تعالى: ﴿منَّاعٍ للخير﴾، وضده من أخلاق الصوفية، وهو أن يكون وصّالاً للخير لعباد الله، حسًّا ومعنىً، ﴿معتد أثيم﴾ وضده: كثير الإحسان والطاعة، ﴿عُتل﴾ وضده: سهل لين، ﴿بعد ذلك زنيم﴾ أي: لقيط، لا أب له، وكل مَن لا شيخ له يصلح للتربية فهو لقيط، لا أب له، فلا يصلح للاقتداء كما لا يؤم الناسَ ابنُ الزنا، وقوله تعالى: ﴿أن كان ذا مال وبنين إِذا تُتلى عليه آياتنا قال... ﴾ الخ. أي: إنما حمله على التكذيب طغيانه بالمال، وهذه عادته تعالى: أنَّ المترفين لا ينالون من طريق السابقين شيئاً إلاَّ النادر. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّا بلوناهم﴾ ؛ أهل مكة، أي: امتحنّاهم بالقحط والجوع، حتى أكلوا الجِيفَ الرِّممَ، بدعاء النبي صلى الله عليه سلم حيث قال: " اللهم اشدُدْ وطأتَك على مُضَرَ، واجعلها عَلَيْهمَ سِنينَ كسِني يوسفَ " ﴿كما بلونا أصحابَ الجنةِ﴾، وهم قوم من أهل الصلاة، قيل: كانوا مؤمنين، أهل كتاب، بعد رفع عيسى عليه السلام وكانوا بـ " ضرْوان " على فراسخ من صنعاء اليمن. قال ابن جزي: كانوا من بني إسرائيل. هـ. والجنة، قال ابن عباس: هو بستان، يقال له: الضّروان، دون صنعاء بفرسخين، يطؤه أهل الطريق، كان غَرَسه رجل من أهل الصلاح، فورثه ثلاثة بنين، فإذا أصرموه كان للمساكين كل ما تعدّاه المنجل والقِطاف، فإذا طرح من فوق النخل إلى البساط، فكل شيء سقط عن البساط؛ فهو للمساكين، فكان أبوهم يتصدّق منها على المساكين، فكان يعيش من ذلك
110
في حياة أبيهم اليتامى والأرامل والمساكين، وفي رواية: كان يأخذ قوت سنة، ويتصدّق بالباقي، وكان ينادي على الفقراء وقت الصرام، فلما مات أبوهم؛ قالوا: لقد قلَّ المال، وكثر العيال، فتحالفوا بينهم ليغدوا غدوة قبل خروج الناس، ويصرمونه، ولا يشعر المساكين، وهو قوله تعالى:
﴿إِذْ أقسَموا﴾ ؛ حلفوا ﴿لَيَصْرِمُنَّهَا مصبحين﴾ ؛ ليقطفنّها داخلين في الصباح، قبل انتشار الفقراء، ﴿ولا يستثنون﴾ ؛ لا يقولون إن شاء الله، وسمي استثناء، وإن كان شرطاً صورةً؛ لأنه يؤدي مؤدّى الاستثناء؛ لأنّ قولك: لأخرجنّ إن شاء الله، و: لا أخرج إلا أن يشاء الله، واحدٌ، أو: لا يستثنون؛ حصة المساكين، كما كان يفعل أبوهم.
﴿
فطاف عليها﴾
أي: على الجنة ﴿طائف من ربك﴾ أي: نزل عليها بلاء من جهته تعالى، قيل: أنزل الله عليها ناراً فأحرقتها، وقيل: طاف بها جبريل، لأنه الموكل بالخسف، فاقتلعها، وطاف بها حول البيت، ثم وضعها بالطائف، وليس بمكة وما قرب منها بستان غيرها، وهي مدينة الطائف. انظر اللباب. ﴿وهم نائمون﴾ أي: في حال نومهم، أوَ: غافلون عما جرت به المقادير، ﴿فأصبحتْ﴾ أي: فصارت الجنة ﴿كالصَّرِيم﴾ ؛ كالبستان الذي صرمت ثماره، بحيث لم يبقَ فيها شيء، وقيل: كالليل المُظلم، احترقت فاسودّت، أو: كالصبح، أي: صارت أرضاً بيضاء بلا شجر. وفي القاموس: الصريم: الأرض المحصود زرعها، والصبح والليل. هـ.
﴿فَتَنَادَوا﴾ أي: نادى بعضُهم بعضاً ﴿مُصْبِحين﴾ ؛ داخلين في الصباح: ﴿أَنِ اغْدوا﴾ أي: اخرجوا غدوه ﴿على حَرْثِكم﴾ ؛ بستانكم وضيعتكم، وتعدية الغدو بـ " على " لتضمنه معنى الإقبال والاستيلاء، ﴿إِن كنتم صارمين﴾ ؛ قاصدين الصرم. ﴿فانطلقوا وهم يتخافتون﴾ ؛ يتساررون فيما بينهم بطريق المخافتة، لئلا يسمع المساكين ﴿أن لا يدخلنَّها﴾ أي: الجنة، و " أن " مفسرة، أي: قائلين في تلك المخافتة: لايدخلنها ﴿اليومَ عليكم مسكين﴾، والنهي عن دخول المساكين نهي عن التمكين على وجه المبالغة، أي: لا تُمكنوهم من الدخول. ﴿وغَدَوا على حَرْدٍ﴾ ؛ على جِدٍّ في المنع ﴿قادرين﴾ عند أنفسهم على المنع، كذا عن نفطوية، من قولهم: حردت الإبل إذا قلَّت ألبانها فمنعتها، و " حاردت السنة " إذا كانت شهباء، من قلة مطرها، أو: الحرد: القصد والسرعة، يقال: حَرَدَ حَرْده، أي: قصد قصده، قال الشاعر:
111
أقْبَلَ سَيْلٌ جاء من أَمْرِ الله
يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنةِ المُغِلَّهْ
أي: يقْصد قصدها، أي: وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين على صِرامها عند أنفسهم، وقيل: معنى الحرد: الغضب، يقال: حَرِدَ الرجل حَرْداً: غضب، أي: غدوا على غضبٍ على المسكين قادرين على المنع، أو على صِرامها في زعمهم، وقيل: الحرد: اسم للجنة، أي: غدوا على تلك الجنة قادرين على صِرامها عند أنفسهم.
﴿فلما رَأَوها﴾ أي: جنتهم محترقة ﴿قالوا إِنَّا لضالون﴾ أي: ضللنا جنتنا، وما هي بها، لِما رأوا من هلاكها، فلما تأمّلوا وعرفوا أنها هي، قالوا: ﴿بل نحن محرومون﴾ ؛ حُرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا، ﴿قال أوسطُهم﴾ أي: أعدلُهم وخيرُهم رأياً، أو: أكبرهم سنًّا: ﴿ألم أقل لكم لولا تُسبِّحون﴾ ؟ تذكرون الله وتتوبون إليه من خبث نياتكم، وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك: اذكروا الله، وتوبوا إليه من هذه الجريمة الخبيثة من فوركم، وسارِعوا إلى حَسْم شرها قبل حلول النقمة، فَعَصوه. وقيل: المراد بالتسبيح: الاستثناء؛ لأنه تعظيم لله تعالى في الجملة؛ لأنَّ الاستثناء تفويض إليه، والتسبيح تنزيه، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم، والأول أنسب بقوله: ﴿قالوا سبحان ربنا إِنَّا كنا ظالمين﴾ فيما عزمنا عليه من المنع، أو: في عدم الاستثناء، فتكلّموا بعد نزول العذاب بما كان يدعوهم إلى التكلُّم به قبل نزوله.
﴿
فأقبل بعضُهم على بعض يتلاومون﴾
أي: يلوم بعضُهم بعضاً بما فعلوا من الهرب من المساكين، ويُحيل كلُّ واحد منهم اللائمة على الآخر، ثم اعترفوا جميعاً بأنهم تجاوزوا الحد بقوله: ﴿قالوا يَا وَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظالمين﴾ ؛ متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء حقهم، وتَرْكِ الاستثناء، ﴿عسى ربُّنا أن يُبْدلنا خيراً منها﴾ أي: يعطينا خيراً من جنتنا ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة، ﴿إِنَّا إِلى ربنا راغبون﴾ ؛ طالبون منه الخير، راجون العفو منه. وعن مجاهد: ثابوا فأُبدلوا خيراً منها، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: بلغني أنهم أخلصوا، فأبدلهم الله جنة تُسمى الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً، وعن أبي خالد اليماني أنه رآها، ورأى كل عنقود منها كالرجُل الأسود القائم، وقد تقدّم أنهم مؤمنون، إمّا من بني إسرائيل أو غيرهم، فلا معنى لمَن توقف في قولهم: ﴿إِنَّا إِلى ربنا راغبون﴾ هل يكون إسلاماً أم لا؟ نعم، قد قيل: إنهم كانوا كفاراً، فيحتمل أن يكون قولهم هذا إسلاماً، أو يكون على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم شدة. قال تعالى: ﴿كذلك العذابُ﴾ أي: مثل ذلك العذاب الذي ذكرناه في حق أصحاب الجنة هو عذاب الدنيا لمَن تخالف أمرنا، ولم يشكر نِعمنا، ﴿ولَعذابُ الآخرة أكبرُ﴾ ؛ أعظم منه وأشد، ﴿لو كانوا يعلمون﴾ أنه أكبر لا حترزوا عما يؤديهم إليه.
قال الطيبي: قال الإمام ـ أي الفخر ـ: المقصود من القصة أنه تعالى قال: ﴿أن كان ذا مال وبنين إِذا تُتلى عليه آياتنا قال... ﴾ الخ؛ أي: لأجْل أن أعطاه الله المال والبنين كفر
112
بالله، إنما أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمّر الله عليه؛ لأنّ أصحاب الجنة لَمَّا أَتوا بهذا القدر اليسير من المعصية، دمَّر الله على جنتهم، فكيف حال مَن عاند الرسولَ، وأصرّ على الكفر والمعصية؟ أو: لأنَّ أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة، ويمنعوا الفقراء منها، فقلب الله عليهم القضية، فكذا أهل ممكة، حَردُوا إلى بدر أرادوا الكيد بمحمد وأصحابه ـ صلوات الله عليه ـ فأخلف الله ظنّهم، فقُتلوا وأُسروا. هـ.
الإشارة: مَن كان يفعل الإحسان، ويُوسع في العطاء، ثم قبض يده، فإنَّ الله يقبض فيضه عنه، كما قبض هو إحسانه عن عباده، فما دام يُوسّع فإنَّ الله يُوسّع عليه، فإذا قبض قبض الله عنه، ﴿سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٩]، وكذلك مَن خالف عادة أسلافه في العطاء وشدّ يده؛ فإنَّ الله يُخالف عنه ما كان يفعل مع أسلافه، من فَيْض الأرزاق الحسية أو المعنوية، فإن تاب ورجع إلى فعل ما كان عليه أسلافه؛ أعاد الله عليه إحسانه، كما فعل بأصحاب الجنة حين تابوا، وهذا صريح الآية، وتَصْدق أيضاً بمَن كان يُنفق من سعة علومه ومواهبه، ثم قبض ذلك من غير عذر، فإنَّ الله تعالى يقبض عنه زيادة المواهب، وربما يطوف على باطنه طائف من الله، فيُصبح خالياً من ثمار المواهب، حتى يتوب ويرجع إلى ما كان عليه، وبالله التوفيق.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبّهِمْ﴾ في الآخرة، أو: في جوار القدس ﴿جناتِ النعيم﴾ أي: جنات ليس فيها إلاَّ التنعُّم الخالص عن شائبة ما ينقصه من المكدّرات، وخوف الزوال، بخلاف جنات الدنيا ونعيمها، وقال بعضهم: لهم جنات النعيم، مِن صفتها: أنَّ العبد فيها مُقيم، والنبي فيها نديم، والمضيف فيها الكريم، والثواب فيها عظيم، والعطاء فيها جسيم، والحزن فيها عديم. هـ.
﴿أفنجعلُ المسلمين كالمجرمين﴾، تقرير لِما قبله من فوز المتقين بجنات النعيم، ورَدٌّ لما يقوله الكفرة عند سماعهم لحديث الآخرة، وما أعدّ للمسلمين، فإنهم كانوا يقولون: إن صحّ أنَّا نُبعث كما يزعم محمد ومَن معه، لم يكن حالنا وحالهم إلاَّ مثل ما هي في الدنيا، لم يزيدوا علينا، ولم يفضلونا، فرَدّ الله عليهم. والهمزة للإنكار، والعطف على مُقدّر يقتضيه المقام، أي: أنحِيفُ في الحُكم، فنجعل المسلمين الذين كابدوا مشاقَ
113
الطاعات، وترك المخالفات، كالكافرين الذين عُجِّلت طيباتهم في الحياة الدنيا، ثم قيل لهم بطريق الالتفات؛ لتأكيد الرد والتشديد: ﴿ما لكم كيف تحكمون﴾ هذا الحُكم الأعوج، وهو التسوية بين المطيع والعاصي، كأنَّ أمر الجزاء مُفوض إليكم، تحكمون فيه كيف شئتم! وهو تعجيب واستبعاد وإيذان بأنه لا يصدر عن عاقل. ﴿أم لكم كتاب﴾ نازل من السماء ﴿فيه تدرُسُون﴾ ؛ تقرؤون في ذلك الكتاب، ﴿إنَّ لكم فيه﴾ أي: في ذلك الكتاب ﴿لَمَا تخيَّرون﴾ أي: إن ما تختارونه وتشتهونه حاصل لكم! والأصل: تدرسون أنَّ لكم ما تتخيرون، بفتح " أنّ " لأنه مدروس، لوقوع الدرس عليه، وإنما كسرت لمجيء اللام في خبره، ويجوز أن يكون حكاية للمدروس بلفظه، كقوله: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الأَخِرِينَ سَلَام عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِين﴾ [الصافات: ٧٨، ٧٩] أي: تركنا عليه السلام على قولٍ. وتخيّر الشيء واختاره: أخذ خيره.
﴿
أم لكم أَيْمَانٌ علينا﴾
أي: عهود مؤكدة بالأيمان ﴿بالغةٌ﴾ ؛ متناهية في التوكيد ﴿إِلى يوم القيامة﴾ متعلق بالمقدّر في ﴿لكم﴾ أي: ثابتة لكم إلى يوم القيامة، أو: بـ " بالغة "، أي: تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه، وافرة لم تبطل منها يمين، إلى أن يحصل المقسَم عليه من التحكيم، ﴿إِنَّ لكم لَمَا تحكمون﴾ به لأنفسكم، وهو جواب القسم، لأنَّ معنى ﴿أم لكم أَيمان علينا﴾ : أم أقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد وقلنا والله إنَّ لكم لَمَا تحكمون ﴿سَلْهُمْ﴾ أي: المشركين، وهو تلوين للخطاب، وتوجيه له إلى رسول الله ﷺ بإسقاطهم عن رتبة الخطاب، أي: سَلْهم مبكتاً لهم: ﴿أَيُّهُم بذلك﴾ الحكم ﴿زعيمٌ﴾ ؛ كفيل بأنه لا بد أن يكون ذلك.
﴿أم لهم شركاءُ﴾ أي: ناس يُشاركونهم في هذا القو، ويذهبون مذهبهم فيه؟ ﴿فليأتوا بشركائهم إِن كانوا صادقين﴾ في دعواهم، إذ لا أقل من التقليد فيه، يعني: أنَّ أحداً لا يسلّم لهم هذا، ولا يساعدهم عليه، كما أنه لا كتاب لهم ينطق به، ولا عهد لهم بعد عند الله، ولا زعيم لهم يضمن لهم من الله هذا، وإنما هو اختلاق وأماني من أنفسهم. وقيل: المراد بالشركاء: الأصنام، أي: أم لهم أصنام يعبدونها تضمن لهم ذلك؟ فليحضروها حتى يسمعوا منهم ذلك، وهو تهكُّم به.
واذكر ﴿يومَ يُكشَفُ عن ساقٍ﴾، وجمهور المفسرين على أن الكشف عن ساق عبارة عن شدة الأمر، وصعوبة الخطب، أي: يوم يشتد الأمر ويصعب، وقيل: ساق الشيء: أصله الذي به قوامه، كساق الشجرة وساق الإنسان، أي: يوم يُكشف عن أصل الأمر، فتظهر حقائق الأمور وأصولها، بحيث تصير عياناً. وتنكيره للتهويل العظيم. قال النسفي: ولا كشف ثمَّ ولا ساق، ولكن كنّى به عن شدة الأمر؛ لأنهم إذا ابتلوا بالشدّة كَشفوا عن الساق، وقال: كشفت الحرب عن ساقها، وهذا كما تقول للشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثَمَّ ولا غل، وإنما هو كناية عن البخل، وأمّا مَن شبّه فلِضيق عِطفه وقلّة نظره في علم
114
البيان، ولو كان الأمر كما زعم المشبَّه؛ لكان من حقِّ الساق أن يُعرَّف؛ لأنها ساق معهودة عنده. هـ. قلت: انظر الثعلبي، فقد نقل أحاديث الحشر، وكلها تدل على أنَّ كشف الساق حقيقة، وذكر حديث أبي موسى أنَّ النبي ﷺ قال: " ﴿يوم يُكشف عن ساق﴾ قال: عن نور عظيم، يخرُّون له سجداً "، ثم ذكر حديث الحشر بتمامه، ومَن كحّل عينيه بإثمد التوحيد الخاص لم يصعب عليه أمثال هذه المتشابهات؛ إذ الحق جلّ جلاله غير محصور، بل يتجلّى كيف شاء، وقد ورد أنه يتجلّى لفصل عباده، فيجلس على كرسيه، وورد أيضاً في حديث كشف الساق: أنه يتقدّم أمامهم بعد كشف الساق وسجود المؤمنين له، ثم ينطلق بهم إلى الجنة. ذكر الحديث المنذري وغيره، ونقله المحشي الفاسي في سورة البقرة، عند قوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلآ أَن يَأْتِيَهُمُ اللهُ﴾ [البقرة: ٢١٠] الآية، وليس هذا تجسيم ولا حصر؛ إذا ما في الوجود إلاّ تجليات الحق، ومظاهر ذاته.
ثم قال تعالى: ﴿ويُدْعَون إِلى السجود﴾ توبيخاً وتعنيفاً على تركهم له في الدنيا، وتحسُّراً لهم على تفريطهم في ذلك، لا تكليفاً، إذ ليست دار تكليف، ﴿فلا يستطيعون﴾ ذلك؛ لأنَّ ظهورهم تصير كصياصي البقر، وفيه دلالة على أنهم يقصدون السجود فلا يتأتى منهم ذلك. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: تَفقُم أصلابهم، أي: تُرد عظماً بلا مفاصل، لا تثنى عند الرفع والخفض. وفي الحديث الصحيح: " يخرُّون لله سُجداً أجمعون، ولا يبقى أحد كان يسجد لله رياء وسمعة ونفاقاً إلاَّ صار ظهره طبقاً واحداً، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ". ﴿خاشعةً أبصارُهم﴾ أي: ذليلة، حال من الضمير في " يُدْعَون "، أي: يُدعون في حال خشوع أبصارهم، ونسبة الخشوع إلى الأبصار؛ لظهور أثره فيها، ﴿تَرْهَقهم﴾ أي: تلحقهم وتغشاهم ﴿ذلَّةٌ﴾ شديدة، ﴿وقد كانوا﴾ في الدنيا ﴿يُدْعَون﴾ على ألسنة الرسل ﴿إِلى السجود﴾، والأصل: إليه، وإنما أظهر لزيادة التقرير، أو: لأنَّ المراد به الصلاة بما فيها من السجود، والدعوة دعوة تكليف، ﴿وهم سالِمون﴾ متمكنون منه أقوى تمكُّن، فلا يُجيبون إليه ويأبونه، وإنما لم يذكره معه لظهوره.
الإشارة: إنَّ للمتقين ما سوى الله عند ربهم؛ في حضرة قدسه، جناتِ النعيم، وهي جنات المعارف في نعيم دوام الشهود والرؤية، أفنجعل المسلمين المنقادين لأحكامنا القهرية والتكليفية، كالمجرمين العاصين، ثم وبَّخ مَن سوَّى بينهم وطالبه بالحجة. وقوله تعالى: ﴿يوم يُكشف عن ساق﴾ أي: يوم يتجلّى لعباده بنور من نور ذاته، على صورة آدم، تشريفاً لهذا الآدمي، وفي الحديث: " إنَّ الله خلق آدم على صورته " أي: على
115
صورته التي يتجلّى بها لعباده في المحشر وفي الجنة، ولا يفهم هذا إلاَّ الغواصون في بحر الأحدية، وحسْب مَن لم يَبلُغ مقامهم التسليم ونفي التشبيه، فالعارفون يعرفون الله في جميع تجلياته، ولا ينكرونه في شيء منها، وأمّا ما ورد في حديث التجلِّي الأول لأهل المحشر فيُنكرونه، ويقولون: " حتى يأتينا ربنا "، فإنما يقول ذلك علماء الظاهر، أهل الدليل، وأما العارفون فقد عرفوه وأقرُّوه، وسكتوا ستراً للسر الذي عرّفهم به، ولذلك كتب ابن العربي الحاتمي إلى الفخر الرازي فقال: تعال نعرِّفك بالله اليوم، قبل أن يتجلّى لك يوم القيامة، فتُنكره فيمن يُنكره. هـ.
وقال الورتجبي: أخبر الله سبحانه أنه يكشف يوم الشهود لعشاقه وأحبابه ومُشتاقيه وعُرفائه عن بعض صفاته الخاصة، ويتجلّى منها لهم، وهو كشف في ستر الغَيرة عن أسرار القِدَم، فيُشاهدونها، فيُدعَون إلى السجود من حيث غشيتهم أنوار العظمة، حتى لا يحرقوا في كَشفِ سر الصفة؛ فإنها موضع العظمة والكبرياء، وبُدُوّ لطائف أنوار أسرار الذات تظهر في لباس الالتباس، حتى لا يفنيهم فناء لا بقاء بعده، والمقصود منه زوائد المحبة، والنظر إلى وجود العظمة. هـ. قلت: وحاصل كلامه: أن الحق تعالى إنما تجلّى لعباده في الصورة الآدمية، حتى كشف عن ساقه غِيرةَ على سر الربوبية أن يظهر، وهو المراد بقوله: يكشف لعشاقه عن بعض صفاته، ويتجلى منها ـ أي: من تلك الصورة ـ لهم، وهو كشف في ستر الغيرة. وأيضاً: لو كشف لهم عن أسرار جبروته بلا واسطة لاحترقوا، لكن تجلّى بأنوار صفاته ليطيقوا رؤيته، يظهر لهم في لباس الالتباس، وهو إظهار الصورة الآدمية، ليبقوا بين فناء وبقاء، بين سكر وصحو، ولو تجلّى بأسرار ذاته الأصلية لاحترقوا، أو سكروا بلا صحو، وفنوا بلا بقاء. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فَذَرْني ومَن يُكذِّب بهذا الحديث﴾ أي: القرآن، والمعنى: كِلّ أمره لي، وخلِّ بيني وبينه، فإني أكفيك أمره؛ لأني عليم بما يستحق من العذاب، ومطيق له. والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها من أحوالهم المحكية، أي: إذا كان حالهم في الآخرة كذلك فذرْني ومَن يُكَذِّب بالقرآن، وتوكل عليّ في الانتقام منه،
116
﴿سنستدرجُهم﴾ ؛ سنُدْنيهم من العذاب درجة درجة، يقال: استدرجه إلى كذا، أي: استنزله إليه درجة بدرجة حتى يورطه فيه، واستدراجه تعالى للعصاة أن يرزقهم الصحة والنعمة، فيجعلون رزقَ الله ذريعة إلى معاصيه. والجملة استئناف مسوق لبيان التعذيب المستفاد من الأمر إجمالاً في قوله: ﴿فذرني﴾ والضمير لـ " من "، والجمع باعتبار معناها، كما أنَّ الإفراد في " يُكذِّب " باعتبار لفظها، أي: سنسوقهم إلى العذاب ﴿من حيث لا يعلمون﴾ أي: من الجهة التي لا يشعرون أنه استدراج، قيل: كلما جدّدوا معصيةً جدّدنا لهم نعمة وأنسيناهم شكرها. قال صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيت الله تعالى يُنعم على عبد، وهو مقيم على معصية، فاعلم أنه مُستدرج " ثُم تَلا هذه الآية.
﴿وأُمْلِي لهم﴾ ؛ وأمهلهم ليزدادوا إثماً، وهم يظنون أنه لإرادة الخير بهم، ﴿إِنَّ كيدي متينٌ﴾ ؛ قوي شديد، لا يوقف عليه، فسمّى إحسانه وتمكينه كيداً كما سمّاه استدراجاً؛ لكونه في صورة الكيد، حيث كان سبباً للهلاك. والحاصل: أن معنى الكيد والمكر والاستدراج، هو الأخذ من جهة الأمن، ولا يجوز أن يُسمى الله كائداً وماكراً ومُسْتَدْرِجاً؛ لعدم التوقيف، وأسماؤه تعالى توقيفيه.
﴿أم تسألهم﴾ على تبليغ الرسالة ﴿أجراً﴾ دنيوياً ﴿فهم من مِغْرَمٍ﴾ أي: من أجل غرامة ﴿مثقَلُون﴾ ؛ مكلفون حملاً ثقيلاً، فيعرضون عنك لأجل ما تكلفهم به؟ والاستفهام بمعنى النهي. ﴿أم عندهم الغيب﴾ أي: اللوح المحفوظ، أو علم المغيبات، ﴿فهم يكتبون﴾ منه ما يحكمون به، فيستغنون عن علمه؟
﴿
فاصبرْ لحُكم ربك﴾
أي: ما حكم به، وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم؛ لأنهم وإن أُمهلوا لم يُهمَلوا، ﴿وَلاَ تَكُن كصاحِب الحوت﴾ ؛ يونس عليه السلام في العَجَلة والغضب على القوم حتى ابتلي ببلائه، ﴿إِذ نادَى﴾ في بطن الحوت ﴿وهو مكظوم﴾ مملوء غيظاً. والجملة حال من ضمير " نادى " وعليه يدور النهي، لا على النداءِ؛ فإنه أمر مستحسن، ولذلك لم يذكر المنادَى، و " إذ " منصوب بمضاف محذوف، أي: لا يكن حالك كحاله وقت ندائه، أي: لا يوجد منك ما وُجد منه من الضجر والمغاضبة فتُبتلى ببلائه، ﴿لولا أن تدارَكه نعمةٌ﴾ ؛ رحمة ﴿من ربه﴾ أي: لولا أنَّ الله أنعم عليه بإجابة دعائه، وقبول عذره، أو: لتوفيقه للتوبة وقبولها منه، ﴿لنُبذ بالعراءِ﴾ ؛ بالأرض الخالية من الأشجار ﴿وهو مذموم﴾ ؛ معاتَب بعجلته، لكنه رُحم، فنُبذ غير مذموم، بل مَرْضِي مقبول. ﴿فاجتباه ربُّه﴾ ؛ اصطفاه لرسالته ببركة دعائه وتسبيحه، فأعاد إليه الوحي، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون، وقيل: استنبأه، وكان لم يُنبأ قبل هذه الواقعة، ﴿فجعله من الصالحين﴾ ؛ من الكاملين في الصلاح، أو: من الأنبياء والمرسَلين. والوجه هو الأول؛ لأنه كان نبياً مرسَلاً قبل، لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إلىَ الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾
117
[الصافات: ١٣٩، ١٤٠] الخُ. رُوي أنها نزلت بأُحد، حين هَمّ رسولُ الله ﷺ أن يدعو على المنهزمين من المؤمنين، وهو ضعيف؛ لأنَّ السورة كلها مكية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ذَرني ومَن يُكذِّب بهذا الحديث؛ حديث أهل الخصوصية، وهو الكلام في علم أسرار التوحيد، الذي هو مدار علم الباطن، فمَن يُنكره أو يُنكر وجودَ أهله فهو مستدرَج مغرور، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، أي: ندرجهم إلى مقام البُعد درجة درجة، من حيث لا يشعرون، فهم يحسبون أنهم يصعدون، وهم يسقطون، يطنون أنهم يُرقِّقون الحجاب بينهم وبين الله، وهم يغلظونه. قيل: حقيقة الاستدراج هو السكون إلى اللذات، والتنعُّم بالنعمة، ونسيان ما تحت النِعم من النقم. هـ. وهذا حال مَن يُنكر وجود التربية، أو دخل فيها ولم يمتثل ما يُشير به عليه شيخُه. ويقال لمَن يدعو الناس إلى الله، وهم يفرُّون: أم تسألهم أجراً فهم من مَغرم مُثقلون، وإنما يثقل العطاء على مَن لم يذق، وأمّا مَن ذاق فلا يثقل عليه الوجود بأسره، بل يبذل مُهجته ورُوحه وماله، ويستصغره في جانب ما نال من أسرار المعرفة. ويقال له أيضاً حين يُؤذَى: فاصبر لحُكم ربك، ولا تستعجل حتى يجتبيك ربُّك، فتكون من الصالحين لحضرته، قال الواسطي: الاجتبائية أورثت الصلاح، لا الصلاح أورث الاجتبائية. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وإِن يكادُ الذين كفروا لَيُزْلِقُونك بأبصارهم﴾، يقال: زَلَقه زَلَقاً، وأزلقه إزلاقاً: أزاله عن مكانه، و " إن " مخففة، أي: وإن الشأن يقرب الذي كفروا من شدّة عداوتهم، ونظرهم إليك شزراً بعيون العداوة أن يزيلوك عن مكانك، ويزلقوا قدمك عن مكانه، أو: يهلكوك لشدة حنقهم عليك، وكانت في بني أسد عيانون، فكان الرجل منهم يجوع ثلاثة أيام، فلا يمر به شيء فيقول فيه: لم أرَ كاليوم مثله؛ إلاّ هلك، فأراد بعضُهم أن يَعين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فعصمه الله من ذلك، فنزلت. وفي الحديث: " العين حق، وإن العين لَتُدْخِل الجمل القِدر، والرجلَ القبر "، وهي من خصائص بعض النفوس. وعن الحسن: دواء الإصابة بالعين أن يقرأ هذه الآية. هـ.
و ﴿لمَّا سمعوا﴾ : ظرف ليُزلقونك، أي: يهلكونك وقت سماعهم ﴿الذكرَ﴾ أي: القرآن، أي: لاشتداد بغضهم وحسدهم وقت سماعه، ﴿ويقولون﴾ لغاية حيرتهم في
118
أمره صلى الله عليه وسلم، ونهاية جهلهم لِما في تضاعيف القرآن من عجائب الحِكَم وبدائع العلوم المحجوبة عن العقول: ﴿إنه لمجنونٌ﴾ أي: إنَّ محمداً لمجنون، حيرةً في أمره، وتنفيراً للناس عنه، ﴿وما هو﴾ أي: القرآن ﴿إِلاَّ ذكر للعالمين﴾ أي: وعظ وتذكير للجن والإنس، والجملة: حال، أي: يقولون ذلك، والحال أنه تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم، فإنَّ مَن أنزل ذلك، وهو مطَّلع على أسراره طرًّا، ومحيط بحقائقه خُبراً، عليم بما قالوه. وقيل: معناه: شرف وفضل، كقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف: ٤٤] وقيل: الضمير لرسول الله ﷺ وكونه مُذكِّراً وشرفاً للعالمين لا ريب فيه.
الإشارة: ما قيل للرسول صلى الله عليه وسلم، مع الكفرة من إرادة إزلاقه ببصرهم حسداً، ورميهم له بالجنون، يُقال في أهل الإنكار على الأولياء معهم، فهي سنّة ماضيه، ولذلك قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه في حزبه الكبير: ونعوذ بك من شر الحُسَّاد على ما أنعمت. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
119
سورة الحاقة
قلت: ﴿الحاقة﴾ : مبتدأ، وجملة الاستفهام خبر، والأصل: الحاقة ما هي؟ فوضع الظاهر موضع المضمر؛ تفخيماً لشأنها، وتهويلاً لأمرها، و " أدْرَى " يتعدى إلى مفعولين، علق عن الثاني بالاستفهام.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿الحاقةُ﴾ أي: الساعة الواجبة الوقوع، الثابتة المجيء، التي هي آتيةٌ لا ريب فيها، من: حقّ يحِقُّ: وجب، أو: التي يحق فيها الحقوق من الثواب والعقاب، أو: التي تحق فيها الحقائق وتُعرف، من: حقه: إذا عرف حقيقته، جعل الفعل لها مجازاً، وهو لِما فيها من الأمور، ﴿ما الحاقةُ﴾ أي: ما هي الحاقة، فهي من الأمور التي يُستفهم عنها؛ لغرابتها وهول مطلعها، وأكد كذلك بقوله: ﴿وما أدراك﴾ وأيّ شيءٍ أعلمك ﴿ما﴾ هي ﴿الحاقة﴾، يعني: أنك لا علم لك بكنهها؛ لخروجها عن دائرة علوم المخلوقات، على معنى: أن عظم شأنها، ومدى هولها وشدتها، بحيث لا يكاد يبلغه درايةُ أحد ولا وهمُه، وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك.
ثم ذكر وبال مَن كذّب بها، فقال: ﴿كذبت ثمودُ وعادٌ بالقارعة﴾ أي: بالحاقة. فوضعت القارعة موضعها لأنها من أسماء القيامة، كالحاقة. وسميت بذلك؛ لأنها تقرع الناسَ بفنون الأفزاع والأهوال، وتقرع السماءَ بالانشقاق والانفطار، والأرض والجبال
120
بالدك والنسف، والنجوم بالطمس والانكدار. قال أبو السعود: والجملة استئناف مسوق لإعلام بعض أحوال الحاقة له ﷺ إثر تقرير أنه ما أدراه بها أحد كما في قوله تعالى: ﴿وَمَآ أّدْرَاكَ مَاهِيَة نَارٌ حَامِيَةُ﴾ [القارعة: ١٠، ١١] ونظائره، خلا أن المبَّين هناك نفس المسؤول عنها، وها هنا حال من أحوالها، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيّلَةٌ الْقَدْرِ لَيّلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: ٢، ٣]، كما أن المبيَّن هناك ليس نفس ليلة القدر، بل فضلها وشرفها، كذلك المبيّن هاهنا هولُ الحاقة وعظم شأنها، وكونها بحيث يحق إهلاك مَن يُكَذِّب بها، كأنه قيل: وما أدراك ما الحاقة كذّب بها عاد وثمود فأُهلكوا. هـ.
﴿
فأمّا ثمودُ فأُهلكوا بالطَّاغية﴾
؛ بالوقعة المتجاوزة للحدّ في الشدة، وهي الصيحة أو الرجفة، وقيل: هي مصدر كالعاقبة، من المعاقبة، أي: بسبب طغيانهم وعصيانهم، والأول أنسب بقوله: ﴿وأمّا عادٌ فأُهلكوا بريحٍ صَرْصَرٍ﴾ أي: شديدة الصوت، لها صرصرة، أو شديدة البرد، تحرق ببردها، من الصِّر، كرّر بردها حتى أحرقهم، ﴿عَاتيةٍ﴾ ؛ شديدة الغضب، كأنها عتت على خُزّانها فلم يضبطوها بإذن الله، غضباً على أعداء الله. قال صلى الله عليه وسلم: " ما أرسل الله نسفة من ريح إلاّ بمكيال، ولا قطرة من ماء إلاّ بمكيال، إلاّ يوم عاد ويوم نوح، فإنَّ الماء طغى على الخُزان، وكذلك الريح، طغت على خُزانها " ثم قرأ الآية. أو طغت على عاد فلم يقدروا على ردها. ﴿سَخَّرَها عليهم﴾ أي: سلَّطها عليهم، وهو استئناف جيء به لبيان كيفية إهلاكهم بها، ﴿سَبْعَ ليالٍ وثمانيةَ أيام حُسوماً﴾ أي: متتابعات، جمع حاسم، كشهود وشاهد، تمثيلاً لتتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكيّ كرة بعد أخرى حتى ينحسم الداء، أو: محسمات، حسمت كل خير واستأصلته، أو قاطعات قطعت دابرهم، وهو حال، ويجوز أن يكون مصدراً، أي: تحسمه حسوماً، أي: تستأصلهم استئصالاْ، ويؤيده قراءة الفتح، وكانت العرب تُسمي هذه الأيام أيام العجوز، من صبيحة الأربعاء إلى غروب الأربعاء الآخر، وإنما سميت بذلك؛ لأنّ عجوزاً من عاد توارت في سِرب، فانتزعَتها الريحُ في اليوم الثامن، فأهلكتها. وقيل: سميت عجوزاً لأنها في عَجُز الشتاء، أي: آخره. وأسماؤها: الصِنُّ، والصنْبَرِ، والوَبْر، والآمر، والمُؤْتمر والمُعلِّل، ومُطْفىء الجمْر، واليوم الثامن مكفي الظُّعن.
﴿فترى القومَ﴾ إن كنت حاضراً حينئذ ﴿فيها﴾ أي: في تلك الليالي والأيام، أو في مهابَّها، أو في ديارهم ﴿صَرْعَى﴾ ؛ موتى هلكى، جمع صريع، ﴿كأنهم أعجازُ نخلٍ﴾ أي: أصول نخل، جمع نخلة، ﴿خاويةٍ﴾. ساقطة، أو بالية متآكلة الأجواف، وكانت أجسامهم طوالاً، تبلغ مائة ذراعٍ، أو مائتين، ولذلك شُبّهوا بالنخل، ﴿فهل ترى لهم من باقية﴾ أي: بقاء، فيكون مصدراً، كالطاغية، أو مِن نفس باقية. والله تعالى أعلم.
121
الإشارة: الحاقة هي تجلِّي الحقيقة الأحدية، وظهور الخمرة الأزلية، لقلوب العارفين؛ لأنها تُحق الحق وتُزهق الباطل، تظهر بها حقائق الأشياء على ما هي عليه في الأصل. قال الورتجبي: الحاقة يوم تحق حقائق الأمور عياناً، لا يبقى فيها ريب أهل الظنون، ينكشف الحق لأهل الحق، ولا معارضة للنفس فيها، ويتبين للجاهلين أعلام ولاية العارفين. هـ. ثم عظَّمها وهوَّل أمرها، فقال: ﴿ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة﴾ لا يدريها إلاّ الشجعان من الرجال الأقوياء، والكمَّال، كما قال الجيلاني رضي الله عنه:
وإيَّاكَ جَزعاً لا يَهُولُكَ أمْرُها
فَمَا نَالَها إلاَّ الشُّجَاعُ المُقَارعُ
ثم ذكر أنَّ مَن أنكرها أو كذّب بوجودها من النفوس العادية، والقلوب القاسية، يهلك في مهاوي الفروقات، برجفة الوساوس والخواطر، أو رياح الفتن الباطنة والظاهرة، سخّرها عليهم سبع ليالٍ على عدد الجوارح السبعة، وثمانية أيام. قال القشيري: أي: أيام كاشفات لسبع صفات الطبيعية، وهي: الغضب، والشهوة، والحقد، والحسد، والبُخل، والجُبن، والعجب، والشره، حُسوماً، أي: تحسم، وتقطع أمور الحق وأحكامه من الخيرات والمبرّات. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وجاء فرعونُ ومَنْ قبله﴾ أي: ومَن تقدمه. وقرأ البصري والكسائي: (ومَن قِبَلَهُ) بكسر القاف، أي: ومَن عنده من أتباعه وجنوده، ويؤيده أنه قُرىء " ومن معه ". ﴿والمؤتفكاتُ﴾ وهي قُرى قوم لوط؛ لأنها ائتفَكت، أي: انقلبت بهم، أي: وجاء أهل المؤتفكات ﴿بالخاطئة﴾ ؛ بالخطأ، أو بالفعلة، أو الأفعال الخاطئة، أي: ذات الخطأ، التي من جملتها: تكذيب البعث والقيامة. ﴿فَعَصَوا رسولَ ربهم﴾ أي: عصت كل أمة رسولها، حيث نهوهم عما كانوا يتعاطونه من القبائح، ﴿فأخَذّهم﴾ أي: الله عزّ وجل ﴿أخذةً رابيةً﴾ أي: زائدة في الشدة، كما زادت قبائحهم في القُبح، من: ربا الشيء إذا زاد.
﴿إِنَّا لَمَّا طغى الماءُ﴾ ؛ ارتفع وقت الطوفان، على أعلى جبل في الدنيا، خمسة عشر ذراعاً، بسبب إصرار قوم نوح على فنون المعاصي، ومبالغتهم في تكذيبه عليه السلام وما أوحي إليه من الأحكام، التي من جملتها أحوال الحاقة، ﴿حملناكم﴾ أي: في أصلاب آبائكم، محمولين ﴿في الجارية﴾ ؛ في سفينة نوح عليه السلام، والمراد: حملهم فيها أيام الطوفان، فالجار متعلق بمحذوف حال، لا صلة لحملنا، أي: رفعناكم فوق الماء، حال كونكم محمولين في السفينة بأمرنا وحفظنا. وفيه تنبيه على أنَّ مدار
122
حفظهم محض عصمته تعالى، وإنما السفينة سبب صوري.
﴿لِنجعلَها﴾ أي: الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين ﴿لكم تذكرةً﴾ ؛ عِبرة ودلالة على كمال قدرته تعالى وحكمته، وقوة قهره، وسعة رحمته ﴿وتَعِيَها﴾ أي: تحفظها. والوعي: أن تحفظ الشيء في نفسك، والإيعاء: أن تحفظه في غيرك، ﴿أُذنٌ واعيةٌ﴾ أي: أُذن مِن شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه، بتذكيره وإشاعته والتفكُّر فيه، ولا تضيعة بترك العمل به. والتنكير لدلالة قلتها. قال قتادة: الأذن الواعية هي التي عقلت عن الله، وانتفعت بما سمعت. وعن عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سألتُ الله تعالى أن يجعلها أذنَك يا علي " قال: فما سمعتُ من رسول الله ﷺ شيئاً ونسيته قط.
الإشارة: وجاء فرعون النفس، ومَن تقدمه من شواغل الدنيا، ووساوس الشيطان، أو مَن قِبَلَهُ من هامان الهوى، وقارون الحظوظ، والمؤتفكات: القلوب المُنَكَّسَةِ عن قبول الحق، أتت بالخاطئة، وهي الإصرار على الوقوف مع العوائد والحظوظ، فعَصَوا رسولَ ربهم، وهو مَن يدعوهم إلى الله، بالخروج عن عوائدهم، فأخذهم بالهلاك، والبُعد والطرد عن ساحة الحضرة، أخذةً رابية زائدة على قُبح فعلهم، لتأبُّدهم في غمِّ الحجاب. إنّا لما طغا الماء، وهو طوفان حب الدنيا، عَمَّ الناسَ وأغرقهم في بحر الهوى، حملناكم ـ يا معشر أهل النسبة، الذين أجابوا الداعي، ودخلوا في حصن تربيته في سفينة النجاة، ليَعْتبر بكم مَن تقدّم عنكم ومَن تأخر، أو: لمّا طغى الماء الغيبي وظهر، وانطبق بحر الأحدية عليكم، حملناكم في سفينة الشريعة؛ لئلا تصطلموا، أو: حملناكم في سفينة الأفكار الجارية في بحار الملكوت وأسرار الجبروت، لنجلعها لكم تذكرة وترقية، وتعيها أُذن واعية راسخة في علم الربوبية، فتدونَها في الكتب؛ لينتفع بها مَن يروم العوم في تلك البحار، وهذا شأن مَن غنَّى بتلك الأسرار، كالششتري وغيره، أو ألَّف فيها كابن عطاء الله وأمثاله، نفع الله ببركاتهم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فإِذا نُفخ في الصُّور نفخةٌ واحدةُ﴾، وهي النفخة الأولى، وتموت عندها الخلائق، والثانية يحيون عندها، ﴿وحُمِلتِ الأرضُ والجبالُ﴾ أي: قلعت
123
ورفعت عن أماكنها، بمجرد القدرة الإلهية، أو بتوسُّط الزلزلة، أو الريح العاصفة، ﴿فدُكَّتا دَكَّةً واحدةً﴾ أي: دقّتا وكسرتا، أي: ضُرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيباً مهيلاً وهباءً منثوراً، ﴿فيومئذٍ﴾، فحينئذ ﴿وقعت الواقعةُ﴾ أي: قامت القيامة بعدها، ﴿وانشقتِ السماءُ﴾ أي: فُتحت أبواباً لنزول الملائكة، ﴿فهي﴾ أي: السماء ﴿يومئذٍ واهيةٌ﴾ ؛ ضعيفة مسترخية، كالصوف أو القطن، بعدها كانت مُحْكَمة، ﴿والمَلَكُ﴾ أي: جنس المَلك، وهو بمعنى الجمع، فهو أعمّ من الملائكة، ﴿على أرجائها﴾ ؛ جوانبها، جمع رَجاً، مقصور، أي: تنشق السماءِ، التي هي مسكنهم، فيلتجئون إلى أكنافها وأطرافها، ﴿ويحملُ عرشَ ربك فوقهم﴾ أي: فوق الملَك الذين هم على الأرجاء، ﴿يومئذٍ ثمانيةٌ﴾ من الملائكة، واليوم تحمله أربعة، وزيدت أربعة أخرى يوم القيامة إمداداً لتلك الأربعة.
رُوي عن رسول الله ﷺ أنه قال: " هم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة قوّاهم الله تعالى بأربعة أخرى "، وقال ابن عباس: هي ثمانية صفوف من الملائكة، لا يعلم أحدٌ عِدتهم. وقال ابن زيدٍ: هم ثمانية أملاك، على هيئة الوعول. الوَعِلَ: تيسُ الجبل، وقيل: على هيئة الناس، أرجلهم تحت الأرض السابعة، وكواهلهم فوق السماء السابعة، والعرش فوق رؤوسهم، وهم مطرقون. وفي بعض الأخبار: أنَّ الأربعة التي تحمل العرش اليوم؛ أحدهم على صورة الإنسان، يطلب الرزق للأرض، والآخر على صورة الثور، يطلب الرزق للبهائم، والآخر على صورة النسر، يطلب الرزق للطيور، والآخر على صورة الأسد، يطلب الرزق للوحوش، وقيل: المراد بالآية: تمثيل لعظمة الله تعالى بما يُشاهَد من أحوال السلاطين، يوم خروجهم على الناس للقضاء العام، لكونها أقصى ما يتصور من العظمة والجلال، وإلاّ فشؤونه تعالى أجلَّ من كل ما يُحيط به فلك العبارة والإشارة.
﴿
يومئذٍ تُعرضون﴾
للسؤال والحساب، شبّه ذلك بعرض السلطان الجيشَ؛ ليعرف أحواله، رُوي " أن في القيامة ثلاث عَرْضَاتٍ، فأمّا عَرْضَتَان: فاعتذار واحتجاج، وأما الثالثة: ففيها تُنشر الكتب، فيأخذ الفائز كتابه بيمينه، والهالك بشماله "، وهذا وإن كان بعد النفحة الثانية لكن لمّا كان اليوم اسماً لزمان متسع يقع فيه النفحتان، والصعقة والنشور والحساب، وإدخال أهل الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، صحّ جعله ظرفاً للكل، وظاهر نظم الآية أنَّ نشر الموتى من القبور لا يكون إلاَّ بعد دك الأرض، وتسيير الجبال، فلا يقع النشر إلاّ على الأرض المستوية، لا ترى فيها عِوجاً ولا أمتاً، وأمّا انشقاق السماء فمؤخّر، يكون ـ والله أعلم ـ والناس في الموقف على ما في بعض أخبار الآخرة.
124
ثم قال تعالى: ﴿لا تخفى منكم خافيةٌ﴾ أي: سريرةٌ ولا حالٌ كانت تخفى في الدنيا. والجملة: حال من ضمير " تُعرضون " أي: تُعرضون غير خافٍ عليه تعالى السرائر، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم بالياء؛ لأن تأنيثها مجازي.
الإشارة: فإذا نُفخ في صور القلب الغافل، الخالي من الحياة الأبدية، نفخة واحدة، من همّة شيخ كامل، إما بوارد شوق مُقلق، أو خوف مُزعج، وحُملت أرض بشريته، وجبال عقله، فدُكتا دكةً واحدة، فغاب حس البشرية وانخنس، وغاب نور العقل عند سطوع أنوار شمس العرفان، فيومئذ وقعت الواقعة، أي: ظهرت الحقيقة العيانية، وبدلت الأرض غير الأرض، والسموات، فصار الجميع نوراً ملكوتياً، أو سرًّا جبروتيًّا، وانشقت سماء الأرواح، فظهرت أسرار المعاني خلف رداء الأواني، فهي ـ أي: الأواني الحسية ـ يومئذ واهية ضعيفة متلاشية، لا وجود لها من ذاتها، والمَلك، اي: الواردات الإلهية، والخواطر الملكية، على أرجائها: على أطراف سماء الأرواح، يُلهمها العلوم اللدنية، والأعمال الصافية، ويحمل عرش ربك، أي: عرش معرفة الرب، وهو القلب، فهو سرير سلطان المعرفة، ومحل التجليات الذاتية، ثمانية: الصبر، والشكر، والورع، والزهد، والتوكل، والتسليم، والمحبة، والمراقبة، وهو عرش المعرفة، يومئذ تُعرض الخواطر على القلب، لا يخفى عليه منها شيء، فيقبل الحسَن، ويرفع القبيح. والله تعالى أعلم. وذكر في الحاشية الفاسية ما فوق العرش الحسي، وما تحت الأرض السفلى، فقال ما نصُّه: وفي حديث " فوق السماء السابعة بحرٌ، بين أعلاه وأسفله، كما بين السماء والسماء، وفوفق ذلك ثمانية أَوْعَالٍ، بين أظلافهِنَّ ورُكبهنَّ ما بين سماءٍ إلى سماء، وفوق ظهورهن العرش، بين أسفله وأعلاه ما بين سماء إلى السماء، والله تبارك وتعالى فوق ذلك "، وفي حديث آخر: " عدد الأرضين سبع، بين كل واحدة والآخرى خمسمائة سنة، والذي نفس محمد بيده؛ لو أنكم دلّيتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله "، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالَّظاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ [الحديد: ٣]. هـ.
فتحصل من حديث سيد العارفين، وقدوة الواصلين، أنَّ الحق ـ جلّ جلاله ـ محيط بكل شيء، فأسرار ذاته العلية أحاطت بالوجود بأسره. فما فوق العرش هو عين ما تحت الثرى، فلو صعد أحد إلى ما فوق العرش لوجد الله، ولو هبط إلى ما تحت الأرض السفلى لوجد الله؛ إذ عظمته أحاطته بكل شيء، ومحت وجود كل شيء. واعلم أن الحق جلّ جلاله منفرد بالوجود، لا شيء معه، غير أنَّ عظمة الذات الخارجة عن دائرة قبضة
125
التكوين باقية على أصلها من اللطافة والكنزية، والعظمةَ الداخلة في القبضة حين دخلها التكثيف، وتحسّست ليقع بها التجلِّي، استترت وتردّت برداء الكبرياء، فظهر فيها الضدان؛ العبودية والربوبية، والحس والمعنى، والقدرة والحكمة، فاستترت الربوبية برداء الكبرياء، فكان من اصطلاح الوحي التنزيلي أن يُخبر عن العظمة الأصلية، وينعت أوصافها، ويسكت عن العظمة الفرعية، التي وقع بها التجلِّي، ستراً لسر الربوبية أن يظهر، إذ لو ظهر لفسد نظام عالم الحكمة، ولذلك قال سهل رضي الله عنه: للألوهية سر لو انكشف لبطلت النبوات، وللنبوات سر لو انكشف لبطل العِلم، وللعلم سر لو انكشف لبطلت الأحكام. هـ.
فَسِرُّ الألوهية هو قيامها بالأشياء، وظهورها بها، بل لا وجود للأشياء معها، فلو انكشف هذا السر لجميع الناس لاستغنوا عن العبادة والعبودية، ولبطلت أحكام النبوة، إذ النبوة إنما هي لبيان العبادة وآداب العبودية، وعند ظهور هذا السر يقع الاستغناء عن تلقي الوحي. وأيضاً، ليست القلوب كلها تقدر على حمل هذا السر، فلو تجلّى للقلوب الضعيفة لوقع لها الدهش والحيرة، وربما أدّاها إلى التلف. وسر النبوات هو سدل الحجاب بين الله وعباده، حتى يفتقر الناس إلى تلقي العلم بواسطة النبوة، فلو انكشف هذا الحجاب لوقع الاستغناء عن النبوة، لتلقِّيه حينئذ كشفاً بدونها من غير تكلُّف، وسر العلم هو إبهام العواقب، فلو انكشف هذا السر وعرف كل واحد مآله للجنة أو النار؛ لبطلت الأحكام؛ إذ مَن عرف أنه للجنة قطعاً استغنى عن العبادة، ومَن عرف أنه للنار قطعاً انهمك في المعاصي، فأخفى الله هذا السر ليعمل كل واحد على الرجاء والخوف. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: ﴿فأما مَن أُوتي كتابه بيمينه فيقول﴾ تبجُّحاً وابتهاجاً وسروراً، لِما يرى فيه من الخيرات خطاباً لجماعته: ﴿هاؤُمُ﴾ : اسم فعل، بمعنى خُذوا،
126
وفيه لغات، أجودهن المطابقة تقول: هاء يا رجل، وهاءِ يا امرأة، بهمزة مكسورة من غير ياء، وهاؤما يا رجلان وامرأتان، وهاؤم يا رجال وهاؤنّ يا نساء. ﴿اقرؤوا كتابيَهْ﴾، والأصل: هاؤم كتابي اقرأوا كتابيهْ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، والعامل في " كتابيه " اقرأوا، عند البصريين؛ لأنهم يُعملون الأقرب، والهاء في " كتابيه "، و " حسابيه "، و " ماليه "، و " سلطانيه " للسكت، وحقها أن تثبت في الوقف، وتسقط في الوصل، وقد استُحبّ إيثار الوقف إيثاراً لثباتها؛ لثبوتها في المصحف. ﴿إِني ظننتُ أني ملاقٍ حسابيهْ﴾ أي: علمت وتيقنت أني سألقى حسابي، ولعل التعبير بالظن للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية. قاله أبو السعود، وقد تقدّم سره في البقرة.
﴿فهو في عيشةٍ راضيةٍ﴾ أي: ذات رضا يرضى بها صاحبها. جعل الفعل لها مجازاً، وهو لصاحبها؛ لكونها صافية من الشوائب، دائمة، مقرونة بالتعظيم، ﴿في جنةٍ عاليةٍ﴾ ؛ مرتفعة المكان؛ لأنها في السماء السابعة، أو: رفيعة الدرجات، أو المباني والأشجار والقصور، وهو خبر بعد خبر، ﴿قُطوفها دانيةُ﴾ ؛ ثمارها قريبة من مريدها، ينالها القاعد والمضطجع كالقائم. قال ابن عرفة: هذه الجملة احتراس؛ لأنه تعالى وصفها بالعلو، وشأن المكان العالي أن تكون ثماره كذلك، فأزال ذلك بأنها مع علو ثمارها قريبة التناول، سهلة المأخذ. هـ. والقطوف جمع قطف، وهو ما يحثي بسرعة.
ويقال لهم: ﴿كُلُوا واشربوا هنيئاً﴾ أي: أكلاً وشُرباً هنيئاً، لا مكروه فيهما ولا أذىً، أو: هنئتم هنيئاً ﴿بما أسلفتم﴾ أي: بمقابلة ما قدّمتم من الأعمال الصالحة، ﴿في الأيام الخاليةِ﴾ أي: الماضية في الدنيا، وعن مجاهد: أيام الصيام، وقال ابن عباس: هي في الصائمين، أي: كلوا واشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل والشرب لوجه الله تعالى.
رُوي أنَّ الله تعالى يقول: " يا أوليائي، طالما نظرتُ إليكم في الدنيا، وقد قلَصَتْ شفاهكم عن الأشربة، وغارت أعينكم، وخمصت بطونكم، فكونوا اليوم في نعيمكم، وكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية " ولا تقصر الآية على الصوم، بل كل ما أسلف الإنسانُ من الأعمال الصالحة داخل في الآية، بدليل قوله تعالى: ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطور: ١٩ والمراسلات: ٤٣].
وهذه الآية وأمثالها هزّت قلوب المجتهدين، حتى عمَّروا أوقاتهم، وحافظوا على أنفاسهم؛ لئلا تضيع، وكان عمر رضي الله عنه يقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبُوا، فإنه أهون، أو أيسر لحسابكم، وزنوا أنفسكم قبل أن تُوزنوا وتجهّزوا للعرض الأكبر،
127
يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية. هـ.
﴿وأمَّا مَن أُوتي كتابه بشِماله﴾، ورأى ما فيه من قبائح الأعمال، ﴿فيقول يا ليتني لم أُوتَ كتابيهْ﴾ أي: لم أُعطَ كتابي، ﴿ولم أّدْرٍ ما حسابيهْ﴾ أي: يا ليتني لم أعلم حسابي، ولم أقف عليه، لِمَا شاهد من سوء العاقبة، ﴿يا ليتها﴾ : يا ليت الموتة التي متُّها ﴿كانت القاضيةَ﴾ أي: القاطعة لأمري، ولم أُبعث بعدها، ولم ألقَ ما لقيت، فضمير " ليتها " للموتة، ويجوز أن يكون لِما شاهده من الحالة، أي: يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قُضيت عليَّ؛ لأنه وجدها أَمَرّ من الموت، فتمناه عندها، وقد جوّز أن يكون للحياة الدنيا، أي: يا ليت الحياة الدنيا كانت الموتة ولم أُخْلَق حيًّا. ﴿ما أغنى عن مالِيَهْ﴾ أي: ما نفعني ما جمعتُ من الأموال شيئاً، فـ " ما " نافية، أو استفهامية للإنكار، أي: أيُّ شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار؟ ﴿هلك عني سلطانيهْ﴾ أي: مُلكي وعزي، وتسلُّطي على الناس، وبقيتُ فقيراً ذليلاً، أو: حُجتي التي كنت أحتجّ بها في الدنيا.
فيقول الله تعالى لخزنة جهنّم: ﴿خُذوه فغُلُّوه﴾ أي: فشُدُّوه بالأغلال، بأن تجمع يده إلى عنقه، ﴿ثم الجحيم صَلُّوه﴾ أي: أدخلوه، أي: لا تصلّوه إلاّ للجحيم، وهي النار العظيمة؛ ليكون الجزاء على وفق المعصية، حيث كان يتعاظم على الناس، ﴿ثم في سلسلة ذَرْعُها﴾ أي: طُولها ﴿سبعون ذراعاً﴾ بذراع الملَك، وقيل: لا يعرف قدرها إلاّ الله، ﴿فاسْلُكُوه﴾ أي: فأدْخِلوه فيها، وقيل: تدخل من دبره وتخرج من منخريه، وقيل: تدخل من قُبله وتخرج من دبره.
﴿
أِنه كان لا يُؤمن بالله العظيم﴾
، تعليل لاستحقاق العذاب، ووصفه تعالى بالعظيم؛ للإيذان بأنه المستحق للعظمة وحده، فمَن نَسَبَها لنفسه استحقّ أعظم العقوبات، ﴿ولا يَحُضُّ على طعام المسكين﴾ أي: لا يحث على بذل طعام غيره، فضلاً عن أن يبذل ماله، وقيل: ذكر الحض للتنبيه على أنَّ تارك الحضّ إذا كان بهذه المنزلة، فما ظنك بتاركه؟ وفيه دلالة على أنَّ الكفار مخاطبون بالفروع، وأنَّ أقبح العقائد الكفر، وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب، وفيه أيضاً إشارة إلى أنه كان لا يؤمن بالبعث، لأنَّ إطعام المساكين إنما يرجى جزاؤه يوم القيامة، فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم، وفيه دليل على عِظم جُرم حرمان المساكين؛ لأنّه عطفه على الكفر، وجعله دليلاً عليه وقرينَه.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يحضّ امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، ويقول: خلَعْنا نصفَ السلسلة بالإيمان، فلنخلع نصفها بهذا، أي: الصدقة.
قال النسفي: وهذه الآية ناطقة بأنَّ المؤمنين يُرحمون جميعاً، والكافرون لا يُرحمون؛ لأنه تعالى قسّم الخلق صنفين، فجعل صنفاً منهم أهل اليمين، ووصفهم بالإيمان بقوله: ﴿إني ظننتُ أني ملاقٍ حسابيه﴾، وصنفاً منهم أهل الشمال، ووصفهم
128
بالكفر بقوله: ﴿إنه كان لا يؤمن بالله العظيم... ﴾ الخ، وجاز أنَّ الذي يُعاقَب من المؤمنين إنما يعاقَب قبل أن يؤتَى كتابه بيمينه. هـ.
قال ابن عطية: والذين يُعطون كتابهم بأيْمانهم هم المخلَّدون في الجنة من أهل الإيمان، واختلف العلماء في الفرقة التي ينفذ فيها الوعيد من أهل المعاصي، متى تأخذ كتبها؟ فقال بعضهم: الأظهر أنها تأخذها مع الناس، وذلك يُؤنسُها مدة العذاب، قال الحسن: فإذا أعطي كتابه بيمينه لم يقرأه حتى يأذن الله له، فإذا أَذِنَ له قال: ﴿هاؤم اقرأوا كتابيه﴾، وقال آخرون: الأظهر أنها إذا خرجوا من النار، والإيمان يؤنسُهم وقت العذاب، قال: وهذا هو ظاهر الآية؛ لأنَّ مَن يسير إلى النار كيف يقول: ﴿هاؤم اقرأوا كتابيه﴾. ثم قال: والمخلَّدون في النار من أهل الكفر هم الذين يُؤتون كتابهم بشمالهم، وقال في آية الانشقاق: مَن ينفذ فيه الوعيد من العصاة، يُعطى كتابه عند خروجه من النار، وقد جَوّز قومٌ أن يُعطاه أولاً قبل دخوله النار، وهذه الآية ترد عليه. هـ. يعني قوله: ﴿وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً﴾ [الانشقاق: ٩].
قلت: والذي يظهر من الأحاديث التي في أخبار البعث: أنَّ الصحف تُنشر دفعة واحدة للطائع والعاصي، والمؤمن والكافر، فالمؤمن يأخذ كتابه بيمينه، فيُسرّ، فإن كان كاملاً فسُروره ظاهر، وإن كان عاصياً فرح أن مآله للجنة، ويجوز أن يُبهم الأمر عليه حينئذ، فيفرح لظنه النجاة، فإن مرَّ على الصراط زلّت قدمه لمكان معاصيه، فينفذ فيه الوعيد، ثم يخرج، وأمّا بعد خروجه من النار وحسابه حينئذٍ فبعيد جدًّا، لم يرد به نص.
قال الشيخ ابن أبي جمرة رضي الله عنه: عادته تعالى في التنزيل أن يذكر الكامل في الطاعة، والكامل في العصيان ـ أي: الكفرـ ويسكت عن المخلط، فدلَّ على أنه يرى من هذا ويرى من هذا. هـ. بالمعنى. فالذي يقول: ﴿هاؤم اقرأوا كتابيه﴾ هو الكامل، أو الذي حوسب وعُفي عنه، وأمّا العاصي الذي ينفذ فيه الوعيد، فلعله يسكت. والله تعالى أعلم، وسَتَرِد وتعلم.
ثم قال تعالى: ﴿فليس له اليومَ هاهنا حميمٌ﴾ أي: قريب يحميه ويدفع عنه؛ لأنَّ أولياءه الذين يتحامونه يفرُّون منه، ﴿ولا طعامٌ إِلاَّ من غِسْلِينٍ﴾ وهو غسالة أهل النار وصديدُهم، فِعْلِين، من الغَسْلِ، والنون زائدة، والمراد: ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم. وقال ابن عزيز: غِسْلين: غسالة أجواف أهل النار، وكل جرح أو دبر غسلته، فخرج منه شيء، فهو غِسلين. هـ. ﴿لا يأكُله إِلاّ الخاطئون﴾ ؛ الكافرون، أصحاب الخطايا العظام. من خَطِىء الرجل: إذا تعمَّد الذنب. أو من الخطأ، المقابل للصواب، وهو هنا: مَن أخطأ طريقَ التوحيد، وعن ابن عباس: هم المشركون. الإشارة: أهل اليمين مَن سبق لهم اليُمن في الأزل، وأهل الشمال مَن سبق لهم الشؤم كذلك. وفي الحديث: " إن الله قبض قبضة فقال: هؤلاء إلى الجنَّةِ ولا أبالي، ثم
129
قبض أخرى، وقال: هؤلاء إلى النار ولا أبالي " أي: لا أُبالي بما يعملون. وقال القشيري: في إشارة الآية ما نصه: يشير إلى قوله عليه السلام في أثناء حديث طويل: " قبض قبضة، فإذا فيها آدم وبنوه، فمسح بيده اليُمنى الجمالية اللطيفة على ظهره الأيمن الجمالي، فأخرج منها ذراريه، كالقبضة البيضاء، باليد الجمالية أصحاب اليمين، ثم مسح بيده اليسى الجلالية القهرية، على ظهره الأيسر الجلالي، فأخرج منه ذريته كالحمصة السوداء، باليد الجلالية، أصحاب الشمال " أول ما في معناه. وقوله: (كتابيه) يُشير إلى الكتاب الاستعدادي، المكتوب في الأزل، على لوح جبين كل واحد، بما يعمل إلى الأبد. هـ. فالكتاب الذي يُعطى يوم القيامة نسخة مما سُطِّر على لوح الجبين، الموافق للأزل، فحكمته قيام الحُجة في الظاهر، فمَنْ سبق له سهم العناية تبجّح به، ويقول: هاؤم اقرأوا كتابيه، إني تحققت في الدنيا أني ملاقٍ حسابيهْ. وعبَّر بالظن ستراً لأهل الظنون والخواطر، وتوسعة عليهم، فهم في الدارين في عيشة راضية، في الدنيا في روح الرضا ونسيم التسليم وجنة العرفان، وفي الآخرة في مقعد صِدق في جوار الرحمن، في جنة عالية، رفيعة القدر حسًّا ومعنىً، قُطوفها دانية. أمّا جنة المعارف فقطوفها ما يتجتنى من ثمار العلوم، وفواكه الحِكم، وتزايد الفهوم، وأمّا في الآخرة فزيادة الترقي والكشف أبداً سرمداً، ويُقال لهم: كُلوا من قوت أرواحكم وأشباحكم، واشربوا من خمرة قلوبكم وأسراركم، من كأس المحبة، والاجتباء، هنيئاً لا كدر فيه ولا تعب، بما أسلفتم في أيام مجاهدتكم الماضية، ومَن سبق لهم سهم الشقاء يقول: يا ليته لم يكن شيئاً، ويتمنى بقاءه في حيز العدم، ثم يَلقى من أنواع العذاب الجسماني والروحاني، من البُعد والطرد ما ذكره الحق تعالى في بقية الآية، نعوذ بالله من سوء القضاء، ومن السلب بعد العطاء.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فلا أُقسم﴾ أي: أُقسم، على أن " لا " مزيدة للتأكيد، كقوله: ﴿فَلاَ وَرَبِكَ﴾ [النساء: ٦٥] أي: احلف ﴿بما تُبصرون﴾ في عالم الشهادة، ﴿وما لا تُبصرون﴾ مما هو في عالم الغيب، أو بما تُبصرون من الأرض والسماء، والأجسام والأجرام، وما لا تُبصرون من الملائكة والأرواح، أو: ما تُبصرون من النعم الظاهرة، وما لا تُبصرون من النِعَم الباطنة. والتحقيق: أنه أقسم بالكل ﴿إِنه﴾ أي: القرآن ﴿لقولُ رسولٍ كريم﴾
130
على الله، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، أو جبريل عليه السلام، أي: يقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند الله عزّ وجل، ﴿وما هو بقولِ شاعرٍ﴾ كما تزعمون تارة، ﴿قليلاً ما تؤمنون﴾ أي: إيماناً قليلاً تؤمنون، ﴿ولا بقول كاهنٍ﴾ كما تزعمون ذلك تارة أخرى، والكاهن هو الذي يُخبر عن بعض المضمرات، فيُصيب بعضها ويخطىء أكثرها، ويزعم أنَّ الجن تُخبره بذلك، ويدخل فيه: مَن يُخبر عن المغيبات من جهة النجوم أو الحساب، ﴿قليلاً ما تذكّرون﴾، والقلة في معنى العدم، يقال: هذه أرض قلما تُنبت؛ أي: لا تنبت أصلاً، والمعنى: لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتّة.
وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون (ما) نافية؛ فينتفي إيمانهم ألبتة، ويحتمل أن تكون مصدرية، فيتصف إيمانهم بالقلة، ويكون إيماناً لغوياً؛ لأنهم صدّقوا بأشياء يسيرة، لا تغني شيئاً. هـ. فتحصل في (ما) ثلاثة أقوال؛ المشهور: أنها زائدة لتأكيد القلة. قال أبو السعود: قيل: ذكر الإيمان مع نفي الشاعرية؛ لأنّ عدم مشابهة القرآن للشِعر أمر بيِّن، لا يُنكره إلاَّ معاند، بخلاف مباينته للكهانة؛ فإنه يتوقف على تذكُّر أحواله ﷺ ومعاني القرآن المنافية لطريقة الكهنة، ومعاني أقوالهم، وأنت خبير بأنَّ ذلك أيضاً مما لا يتوقف على تأمُّل قطعاً. وقُرىء بالياء فيهما. هـ.
﴿
تنزيلٌ من رَبِّ العالمين﴾
أي: هو تنزيل، وهو تقرير لكنه قول رسول كريم، نزل عليه من رب العالمين، أنزله على لسان جبريل صلى الله عليه وسلم، ﴿ولو تقوَّل علينا﴾ محمد ﴿بعضَ الأقاويل﴾ أي: ولو ادّعى علينا شيئاً لم نَقُلْهُ افتراء علينا. سَمَّى الافتراء تقوُّلاً؛ لأنه قول متكلّف، والأقوال المفتراة أقاويل، تحقيراً لها، كأنها جمع أفعولة، من القوْل، كالأضاحيك، ﴿لأخذنا منه باليمين﴾ أي: لقتلناه صبراً، كما تفعل الملوك بمَن يَكذب عليهم، مُعاجلةً بالسخط والانتقام، فصوّر قتل الصبر بصورته؛ ليكون أهْول، وهو أن يأخذ بيده، وتصرب رقبته، وخصَّ اليمين؛ لأنَّ القتَّال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده، وهو أن يكفحه بالسيف ـ وهو أشد على المصبور؛ لنظره إلى السيف ـ أخذه بيمينه، ومعنى ﴿لأخذنا منه باليمين﴾ : لأخذنا بيمينه، ﴿ثم لقطعنا منه الوتينَ﴾ أي: لقطعنا وتينه، وهو نياط القلب، إذا قطع مات صاحبه. ﴿فما منكم﴾، الخطاب للناس، أو المسلمين، ﴿مِن أحدٍ﴾ " من " زائدة، ﴿عنه﴾ أي: عن القتل أو المقتول، ﴿حاجزين﴾ ؛ دافعين، وجمعَه، وإن كان وصفاً لـ " أحد "؛ لأنه في معنى الجماعة؛ لأنَّ النكرة بعد النفي تعم.
﴿وإِنه﴾ أي: القرآن ﴿لتذكرةٌ﴾ ؛ لَعِظةٌ ﴿للمتقين﴾ لأنهم المنتفعون به، ﴿وإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُكَذِّبِينَ﴾ فنُجازيهم على تكذيبهم، ﴿وإِنه لحسرةٌ على الكافرين﴾ عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين له، ﴿وإِنه لَحقُّ اليقين﴾ أي: محض اليقين الذي لا يحوم حوله ريب ما، وحق اليقين فوق عين اليقين على ما يأتي. ﴿فسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيمِ﴾ أي: فَسبِّح بذكر
131
اسمه العظيم، تنزيهاً عن التقوُّل عليه، شكراً على ما أوحي إليك، أي: قل سبحان الله العظيم شكراً لنعمة الوحي والاصطفاء.
الإشارة: أقسم تعالى بذاته المقدسة، ما وقع به التجلِّي وما لم يقع، أي: ما ظهر منها في عالَم الشهادة، وما لم يظهر، على حقيّة القرآن، وأنه خرج من حضرة الحق، إلى الرسول الحق، ناطقاً بالحق، على لسان السفير الحق، متجلِّياً من ذات الحق، واصلاً من الحق إلى الحق، مشتملاً على علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، فعلم اليقين: ما أدراك من جهة البرهان، وعين اليقين: ما أدراك بالكشف والبيان، وحق اليقين: ما أدراك بالشمول والبيان، ومثال ذلك تقريباً، وجود مكة مثلاً، فمَن لم يرها فقد حصل له بالإخبار علم اليقين، ومَن رآها، ولم يدخلها، فقد حصل له عين اليقين، ومَن دخلها وعرف أماكنها وأزقتها، فقد حصل له حق اليقين، وكذلك شهود الحق تعالى، فمَن تحقق بوجوده من جهة الدليل فعنده علم اليقين، ومَن كشف له عن حس الكائنات، وشاهد أسرار الذات، لكنه لم يتمكن من دوام شهودها، فعنده عين اليقين، ومَن تمكن مِن شهودها ورسخ في المعرفة، فعنده حق اليقين. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلّم.
132
سورة المعارج
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿سأل سائل﴾، قرأ نافع والشاميّ بغير همز، إمّا من السؤال، على لغة قريش، فإنهم يُسهّلون الهمز، أو مِن السّيلان، ويُؤيده أنه قُرىء " سَال سيْل " أي: سال وادٍ ﴿بعذابٍ واقعٍ للكافرين﴾ يوم القيامة، والتعبير بالماضي لتحقُّق وقوعه، أو في الدنيا، وهو عذاب يوم بدر، وقرأ الباقون بالهمز، من السؤال، أي: طَلَبَ طالب، وهو النضر بن الحارث، حيث قال استهزاءً: ﴿إِن كَانَ هّذاَ هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَآءِ﴾ [الأنفال: ٣٢] وقيل: أبو جهل، حيث قال: ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَآءِ﴾ [الشعراء: ١٨٧]، وقيل: هو الحارث بن النعمان الفهري، وذلك أنه لمّا بلغه قولَ رسول الله ﷺ في عَلِيّ: " مَن كنتُ مولاه فَعَلِيٌّ مولاه "، قال: اللهم إن كان ما يقول محمد حقًّا فأَمْطِر عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء، فما لبث حتى رماه الله بحَجَر، فوقع على دماغه، فخرج من أسفله، فهلك من ساعته.
133
وقوله تعالى: ﴿بعذاب﴾ إذا كان " سال " من السيلان، فالباء على بابها، أي: سال واد بعذاب للكافرين، وإذا كان من السؤال فالباء بمعنى " عن " كقوله تعالى: ﴿فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً﴾ [الفرقان: ٥٩] أي: سأل عن عذاب، أو ضَمَّن " سأل " معنى دعا، فعدّى تعديته، مِن قولك: دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، ومنه قوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ﴾ [الدخان: ٥٥] أي: دعا داع بعذابٍ واقع لا محالة، إما في الدنيا أو الآخرة، و " للكافرين ": صفة ثانية لعذاب، أي: بعذاب واقع حاصل للكافرين، أو متعلق بسَأل، أي: دعا للكافرين بعذاب واقع، ﴿ليس له﴾ أي: لذلك العذاب ﴿دافع﴾ ؛ راد ﴿من الله﴾ : متصل بواقع، أي: واقع من عند الله، أو بدافع، أي: ليس له دافع من جهته تعالى إذا جاء وقته، والجملة: صفة أخرى لعذاب، أو حال منه أو استئناف. ﴿ذي المعارج﴾ أي: ذي المصاعد، التي تصعد فيها الملائكة بالأوامر والنواهي، وهي السموات المترتبة بعضها فوق بعض، أو: ذي الفواضل العالية، أو معالي الدرجات، أو الدرجات التي يصعد فيها الكلم الطيب والعمل الصالح، أو: يرقى فيها المؤمنون في سلوكهم.
﴿
تعرُجُ الملائكةُ والرُّوحُ﴾
أي: جبريل عليه السلام، أُفرد بالذكر لتميُّزه وفضله، أو الروح: خلقٌ من الملائكة هم حفظة على الملائكة، كما أنَّ الملائكة حفظةٌ علينا، أو: أرواح المؤمنين عند الموت، فإنها تعرج إلى سدرة المنتهى، فتُحاسَب، ثم تدخل الجنة لترى مقعدها، ثم ترجع للسؤال في القبر، وقوله تعالى: ﴿إِليه﴾ أي: إلى عرشه ومهبط أمره ﴿في يوم كان مقدارُه خمسين ألفَ سنةٍ﴾ مما يعده الناس، وهو بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج وبُعد مداها، على منهاج التمثيل والتخييل. والمعنى: أنها من الارتفاع بحيث لو قدر قطعها في زمان؛ لكان ذلك الزمان مقدار خمسين ألف سنة من سِنيِّ الدنيا، وقيل: معناه: تعرج الملائكة والروح إلى عرشه تعالى في كل يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، أي: يقطعون في يوم ما يقطعه الإنسان في خمسين ألف سنة.
وقد تقدّم الجواب في سورة السجدة عن المعارضة بين ما هنا وبين قوله هناك: ﴿كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [السجدة: ٥]، وحاصله: أنَّ الحق تعالى موجود في كل زمان ومكان، فلا يخلو منه مكان ولا زمان، فحيث علّق العروج بتدبير الأمر قرَّب المسافة، وحيث علّقه بذاته، بحيث جعل العروج إليها، بعَّدها؛ تنبيهاً على علو شأنه وارتفاع عظمته. وقيل: هو من [صلة] قوله: ﴿واقع﴾ أي: يقع ذلك العذاب في يوم طويل، مقداره خمسون ألف سنة، وهو يوم القيامة، فإمّا أن يكون استطالته كناية عن شدته على الكفار، أو لأنه يطول حقيقة، فقد قيل: فيه خمسون موطناً، كل موطن ألف سنة، وما قّدْر ذلك على المؤمن إلاَّ كما بين الظهر والعصر أو أقل، على قدر التخفيف اليوم، وفي حديث أبي سعيد الخدري: قيل: يا رسول الله، ما أطول هذا اليوم؟ فقال عليه السلام:
134
" إنه ليخف على المؤمِنِ، حتى يكونَ أخف من صلاةٍ مكتوبة يُصلّيها في الدنيا ". وقال عبد الحق في العاقبة: إنَّ طول اليوم ذلك المقدار، ولكن مِن الناس مَن يطول قيامه وحبسه إلى آخر اليوم، ومنهم مَن ينفصل في مقدار يوم من أيام الدنيا، وفي ساعة من ساعته، وفي أقل من ذلك، يكون رائحاً في ظل كسبه، وعرش ربه، ومنهم مَن يؤمر به للجنة من غير حساب ولا عذاب، كما أنَّ منهم مَن يُؤمر به إلى النار في أول الأمر، من غير وقوف ولا انتظار، أو بعد يسير من ذلك. هـ. وقال القشيري ما معناه: يحاسب الخلق في يوم قصير ووقت يسير، ما لو كان الناس يشتغلون به لكان ذلك خمسين ألف سنة، والله يُجري ذلك ويُمْضِيه في يوم واحد. هـ. بعيد.
﴿
فاصبرْ﴾
يا محمد ﴿صبراً جميلاً﴾، وهو متعلق بـ " سأل سائل " لأنَّ استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله ﷺ والتكذيب بالوحي، وكان ذلك مما يؤذي الرسولَ ـ عليه الصلاة والسلام ـ فأُمر بالصبر عليه. والصبر الجميل: ألاَّ يصحبه جزع ولا شكوى. قال بعضهم: الأمر بالصبر الجميل مُحْكم في كل حال، فلا نسخ فيه، وقيل: نسخ بالقتال. ﴿إِنهم﴾ أي: الكفار ﴿يَرَوْنه﴾ أي: العذاب، أو يوم القيامة ﴿بعيداً﴾ ؛ مستحيلاً، ﴿ونراه قريباً﴾ ؛ كائناً لا محالة، فالمراد بالبعيد: البعيد من الإمكان، وبالقريب: القريب منه، أي: ونعلمه هيّناً في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذّر. ثم بيَّن وقته بقوله: ﴿يومَ تكونُ السماءُ كالمُهْل﴾، فهو متعلق بـ " قريباً " أي: يمكن ويقع في ذلك اليوم. قال أبو السعود: ولعل الأقرب أن قوله تعالى: ﴿سأل سائل﴾ حكاية لسؤالهم المعهود، على طريقة قوله تعالى: ﴿يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾ [الأعراف: ١٨٧والنازعات: ٤٢] وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ [يونس: ٤٨] ونحوه، إذ هو المعهود بالوقوع على الكافرين، لا ما دعا به النضر أو أبو جهل أو الفهري، فالسؤال بمعناه، والباء بمعنى " عن "، وقوله تعالى: ﴿ليس له دافع، من الله﴾ : استئناف مسوق لبيان وقوع المسؤول عنه لا محالة، وقوله تعالى: ﴿فاصبرْ صبراً جميلا﴾ مترتب عليه، أي: فاصبر فإنه يقع لا محالة. وقوله تعالى: ﴿إنهم يرونه بعيداً... ﴾ الخ تعليل للأمر بالصبر. وقوله تعالى: ﴿يوم تكون﴾ : متعلق بـ " ليس له دافع " أو: بما يدل عليه، أي: يقع يوم تكون السماء كالمُهل، وهو ما أذيب على مَهَل من النحاس والقار، وقيل: كدرديِّ الزيت. هـ. ﴿وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ﴾ ؛ كالصوف المصبوغ ألواناً؛ لأن الجبال ﴿جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ [فاطر: ٢٧]، فإذا بُسّت، وطُيِّرَتْ في الجو أشبهت العهن المنفوش
إذا أطارته الريح، ﴿وَلاَ يَسألُ حميمٌ حَمِيماً﴾ أي: لا يسأل قريب عن قريبه لاشتغاله بنفسه، ومَن قرأ بضم الياء فمعناه: لا يُسأل عنه، بل كلّ واحد يُسألُ عن نفسه، فلا يُطالب أحد بذنب أحد.
135
﴿يُبَصَّرُونَهم﴾ أي: يبصر الأحماءُ قرباءهم، فلا يخفون عنهم، وما يمنعهم من السؤال إلا اشتغالهم بحال أنفسهم. والجملة صفة لحميم، أي: حميماً مبصَّرين، أو: استئناف بياني، كأنه قيل: لعله لا يبصّر به، فقيل: يبصّرونهم ولكن لتشاغلهم لم يتمكنوا من التساؤل عنهم، وإنما جمع الضميران، وهما للحميمين لعموم الحميم، ولأن فعيلاً يقع على الجمع. ﴿يَودُّ المجرمُ﴾ أي: يتمنى الكافر، وقيل: كل مذنب، ﴿لو يفتدي من عذابِ يومئذٍ﴾ أي: العذاب الذي ابتلي به يومئذ. وقرأ نافع والكسائي بفتح الميم على البناء لإضافته إلى غير متمكّن، ﴿ببنيهِ وصاحبتهِ﴾ أي: زوجته ﴿وأخيه﴾، والجملة استئنافية، لبيان أنَّ اشتغال كل واحد منهم بنفسه بلغ إلى حيث يتمنى أن يفتدى بأقرب الناس إليه، و " لو " تمنية، أو مصدرية، أي: يود فداء ببنيه.. الخ ﴿وفَصِيلَتِه﴾ أي: عشيرته الأدنين، التي انفصل عنها، ﴿التي تُؤويه﴾ أي: تضمه في النسب، أو عند الشدائد، ﴿ومَن في الأرض جميعاً﴾ من الخلائقن يتمنى الافتداء بهم، ﴿ثم يُنجيه﴾ الافتداء، وهو عطف على " يفتدي " أي: يود لوم يفتدي ثم لو ينجيه الافتداء، و " ثم " لاستبعاد الإنجاء، يعني: يتمنى لو كان هؤلاء جميعاً تحت يده، وبذلهم في فداء نفسه، ثم ينجيه ذلك، وهيهات.
﴿
كلاًّ﴾
، ردع للمجرم عن الودادة، وتصريح بامتناع الافتداء، ﴿إِنها﴾ أي: النار، المدلول عليها بالعذاب، أو ضمير مبهم، ترجم عنه الخبر، أو ضمير القصّة، ﴿لَظَى﴾ علم للنار، منقول من اللظى ـ بمعنى اللهب، ﴿نزاعة لِلشَّوَى﴾ ؛ خبر بعد خبر، ومَن نصب فعلى الحال المؤكدة، أو على الاختصاص للتهويل. والشَّوى: أطراف الإنسان، كاليدين والرجلين، أو: جمع شواة، وهي جلدة الرأس، تنزعها النارُ نزعاً، فتفرّقها، ثم تعود إلى ما كانت. ﴿تَدعو﴾ أي: تجذبُ، وتخطف، أو: تدعوهم بأسمائهم: يا كافر يا منافق إليَّ، وقيل: تدعو المنافقين بلسان فصيح، ثم تلتقطهم التقاط الحب، أو: تُهْلِك، من قولهم: دعاك الله، أي: أهلكك، أو: لمّا كان مصيره إليها جُعلت كأنها دعته. وقيل: تدعو زبانيتها، ومفعول تدعو: ﴿مَنْ أدبرَ﴾ عن الحق ﴿وتولَّى﴾ ؛ أعرض عن الطاعة، ﴿وجمع﴾ المال ﴿فأوْعى﴾ ؛ جعله في وعاء، وكَنَزَه ولم يؤدِّ حق الله فيه، أو تشاغل به عن الدين، وزهى باقتنائه حرصاً وتأميلاً، عائذاً بالله من ذلك.
الإشارة: سال إلى قلوب أهل الغفلة والإنكار سايل من بحر الهوى، بعذاب واقع نازل بقلوبهم من الجزع والهلع والشكوك والخواطر، أو: سأ سائل عن عذاب واقع لأهل الإنكار، وهو غم الحجاب، وسوء الحساب، ليس له دافع من جهته تعالى؛ لأنه حكم به على أهل البُعد والإنكار. وهو تعالى ذو المعارج، أي: ذو المراقي، تترقى إليه الأرواح والأسرار، من مقام إلى مقام، من مقام الإسلام إلى الإيمان، ومن الإيمان إلى الإحسان، أو: من عالَمٍ إلى عالَمٍ، من عالَم المُلك إلى الملكوت، ومن عالَم الملكوت
136
إلى الجبروت، ومن عالَم الجبروت إلى الرحموت. تعرج الملائكة والروح إليه، أمّا الملائكة فتنتهي إلى الدهش والهيمان، وأما الروح الصافية فتنتهي إلى شهود الذات بالصحو والتمكين، وهذا مقام خاصة الخاصة من النبيين والصدِّيقين، تنتهي إلى هذا المقام في زمن يسير، إن سبقت العناية واتصل صاحبها بالخبير، وفي زمن طويل إن لم يتصل بالخبير، ولذلك قال تعالى: ﴿في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة﴾ أي: يقطع ذلك في يوم كان مقداره لو صار بنفسه خمسن ألف سنة.
واعلم أنَّ الحق تعالى لا يتصف بقُرب ولا بُعد، هو أقرب إلى كل شيء من كل شيء، وإنما بعّد النفوسَ جهلُها به تعالى ووهْمُها وغفلتها، فإذا ارتفع الجهل والوهم، وَجَدت الحقّ كان قريباً وهي لا تشعر. قال الورتجبي: ليس للحق مكان ومنتهى، حتى أن الخلق يعرجون إليه، بل إنَّ ظهور عزته وجلاله في كل ذرة عيانٌ، فإذا رَفَعْتَ القربَ والبُعدَ من حيث المسافة، وأدرجت الأوهام والأفهام؛ لم يكن بين الحق والروح فصل، وصول الحق لأهل الحق بأقل طرفة، فإنَّ الوصل منه، وهو قريب غير بعيد. هـ. فاصبر أيها السائر صبراً جميلاً؛ لتظفر بالوصل الدائم، إنهم ـ أي أهل الغفلة ـ يرونه بعيداً، ونراه قريباً لمن قربتُه عليه، يوم تكون السماء كالمُهل، أي: وقت الوصول هو حين تتلطّف العوالم وتذوب الكائنات، فيتصل بحر الأزل بما لم يزل، فلم يبقَ إلاَّ الأزل، قال بعض المحققين: حقيقة المشاهدة: تكثيف اللطيف، وحقيقة المعاينة: تلطيف الكثيف، فافهم. وَلاَ يَسْأَلُ حميمٌ حَمِيماً، أي: لا مودة بين أهل البُعد وأهل القرب، ولو كان مِن أقرب الناس إليه نسباً، وهذا مثل قوله: ﴿لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ ألآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللهَ وَرَسُولَهُ... ﴾ [المجادلة: ٢٢] الآية. يَوَدُّ المجرمُ، حين يرى ما خص اللهُ به أولياءه من العز والقُرب، لو يفتدي بجميع مَا يملك، بل بجميع أهل الأرض مما نزل به من عذابِ القطيعة والبُعد، كلاّ إنها، أي: نار القطيعة، لَظَى، نزاعةَ لرِفْعَةِ الرؤوس، بل تحطها عن مراتب المقربين، تدعوا مَن أدبر عن المجاهدة والتربية، وجَمَعَ الدنيا فأوعاها.
137
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ الإِنسانَ خُلق هَلُوعاً﴾، قال ابن عباس: الهلوع: الحريص على ما لا يجده، وعن الضحاك: هو الذي لا يشبع. وأصل الهلع: أشد الحرص وأسوأ الجزع، قال صلى الله عليه وسلم: " شر ما أعطي العبدُ شحٌّ هالع، وجُبن خالعٌ "، وأحسن تفاسيره: ما فسّره به الحق تعالى بقوله: ﴿إِذا مَسَّهُ الشرُّ جَزوعاً﴾ ؛ مبالغ في الجزع، ﴿وإِذا مسّه الخيرُ﴾ أي: السعة والعافية ﴿مَنوعاً﴾ ؛ مبالغاً في المنع والإمساك، وسُئل ثعلب عن الهلوع، فقال: قد فسّره اللهُ تعالى، ولا يكون تفسيرٌ أبين من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شرٌّ أظهر شدّة الجزع، وإذا ناله خيرٌ بخل ومنع، وهذا طبعه، وهو مأمور بمخالفة طبعه، وموافقة شرعه. والشرُّ: الضرُّ والفقر، والخير: السعة والغنى.
ثم استثنى مِن الإنسان؛ لأنَّ المراد به الجنس، فقال: ﴿إِلاَّ المُصَلِّين الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دائمون﴾ لا يشغلهم عنها شاغل؛ لاستغراقهم في طاعة الخالق، واتصافهم بالإشفاق على الخلق، والإيمان بالجزاء، والخوف من العقوبة، وكسر الشهوة، وإيثار الآجل على العاجل، على خلاف القبائح المذكورة، التي طبع عليه البشر. قال ابن جُزي: لأنَّ صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا، فلا يجزعون مِن شرها، ولا يبخلون بخيرها. هـ. وسيأتي في الإشارة تحقيقها إن شاء اللهُ. ﴿والذين في أموالهم حقٌّ معلومٌ﴾ يعني الزكاة؛ لأنها مقدّرةٌ معلومةٌ، أو صدقةٌ يوظفها الرجلُ على نفسه، يؤديها في أوقات معلومة، ﴿للسائلِ﴾ الذي يسأله، ﴿والمحرومِ﴾ الذي لا يسأله تعفُّفاً، فيظن أنه غني، فيُحرم.
﴿
والذين يُصَدِّقُونَ بيوم الدين﴾
أي: يوم الجزاء والحساب، فيتعبون أنفسَهم في الطاعات البدنية والمالية؛ طمعاً في المثوبة الأخروية، فيستدل بذلك على تصديقهم بيوم الجزاء. ﴿والذين هم من عذاب ربهم مشفقون﴾ ؛ خائفون على أنفسهم مع ما لهم من الأعمال الفاضلة، استقصاراً لها، واستعظاماً لجانبه عزّ وجل، كقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ... ﴾ [المؤمنون: ٦٠]، الخ ﴿إِنَّ عذابَ ربهم غيرُ مأمونٍ﴾، هو اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحدٍ أن يأمنَ مِن عذابه تعالى، ولو بلغ في الطاعة ما بلغ، بل ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء كجناحي الطائر.
﴿والذين هم لفروجهم حافظون إِلاَّ على أزواجهم﴾ ؛ نسائهم، ﴿أو ما ملكتْ أيمانُهم﴾ أي: إيمائهم ﴿فإِنهم غيرُ ملومين﴾ على ترك الحفظ، ﴿فمَن ابتغَى﴾ أي: طلب منكحاً ﴿وراءَ ذلك﴾ غير الزوجات والممولكات ﴿فأولئك هم العادُون﴾ ؛ المتعدُّون لحدود الله، المتجاوزون عن الحلال إلى الحرام. وهذه الآية تدل على حرمة المتعة ووطء
138
الذكران والبهائم، والاستمناء بالكف، لكنه أخف من الزنا واللواط.
﴿والذين هم لأماناتهِم﴾ وهي تتناول أمانات الشرع، وهي التكاليف الشرعية، وأمانات العباد، ﴿وعهدِهم﴾ أي: عهودهم، ويدخل فيه عهود الخلق، والنذور والأيمان، ﴿راعون﴾ ؛ حافظون، غير خائنين، ولا ناقضين، وقيل: الأمانات: ما تدل عليه العقول، والعهد: ما أتى به الرسولُ. ﴿والذين هم بشهادتهم قائمون﴾ يقيمونها عند الحُكّام بالعدل، بلا ميل إلى قريب وشريف، ولا ترجيح للقوي على الضعيف، وإظهار للصلابة في الدين، وإحياء لحقوق المسلمين، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الأمانات؛ لإبانة فضلها.
﴿والذين هم على صلاتهم يُحافظون﴾ ؛ يُراعون شرائطها، ويُكملون فرائضها وسننها ومستحباتها، وكرر ذكرها لبيان أنها أهمّ، أو: لأن إحداهما للفرائض، والأخرى للنوافل. وقيل: الدوام عليها: الاستكثار مِن تكررها، والمحافظة عليها: ألاّ تضيع عن أوقاتها، أو: الدوام عليها: أداؤها في أوقاتها، والمحافظة عليها: إتقانها وحفظ القلب في حضورها، أو: المراد بالأولى: صلاة القلوب، وهي دوام الحضور مع الحق، وبالثانية: صلاة الجوارح. وتكرير الموصولات تنزيلٌ لاختلاف الصفات منزلةَ اختلاف الذوات، إيذاناً بأن كل واحد من الصفات المذكورة نعت جليل على حِياله له شأن خطير، حقيق بان يفرد له موصوف مستقل، ولا يجعل شيء منها تتمة للآخر.
﴿
أولئك﴾
أي: أصحاب هذه الصفات الجليلة. وما فيه من معنى البُعد مع قُرب العهد بالمُشار إليه للإيذان بعلو شأنهم وبُعد منزلتهم في الفضل، ﴿في جناتٍ مُكرَمون﴾ أي: مستقرُّون في جناتٍ لا يُقادَر قدرها، ولا يدرك كنهها، معظَّمون فيها، منعَّمون، وهما خبران للإشارة، أو:: في جنات " متعلق بمكرَمون.
الإشارة: طبعُ الإنسان من حيث هو: الجزع والهَلع، لخراب الباطن من النور، إلاّ أهل التوجه، وهم مَن مَنَّ اللهُ عليهم بصُحبة أهل الغنى بالله، وهم الذين ذّكَرَ اللهُ بقوله: ﴿على صلاتهم دائمون﴾ أي: صلاة القلوب، وهي دوام الحضور مع الحق، باستغراق أفكارهم في أسرار التوحيد، وهو مقام الفناء في الذات، فهم الذين تطهَّروا من الهلع لِما باشر قلوبَهم من صفاء اليقين، فمَن لم يبلغ هذا لا ينفك طبعه عن الهلع والطمع، ولو بلغ ما بلغ. قيل لبعضهم: هل للقلوب صلاة؟ قال: نعم إذا سجد لا يرفع رأسه أبداً. هـ. أي: إذا واجهته أنوارُ المواجهة خضع لها على الدوام، ﴿والذين في أموالهم﴾ أي: فيما منحهم اللهُ من العلوم والأسرار، حق معلوم للسائل، وهو طالب الوصول، والمحروم، وهو طالب التبرُّك، لكثرة علائقه، أو: لضعف همته، أو: للسائل، وهو مَن دخل تحت تصرفهم، والمحروم: مَن لم يدخل في تربيتهم، فله حق، بإرشاده إلى ما يصلحه مما يقدر عليه وينفعه. والذين يُصدِّقون بيوم الدين، فيجعلونه نُصب أعينهم، فيجتهدون في الاستعداد له.
139
﴿والذين هم من عذاب ربهم﴾ وهو عذاب القطيعة ﴿مُشفقون إنّ عذاب ربهم غير مأمون﴾ ولو بلغ العبد من التمكين ما بلغ؛ لأنَّ الله مُقَلِّب القلوب ولا يأمن مكرَ الله إلاَّ القوم الخاسرون. ﴿والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم﴾ فإنهم ينزلون إلى القيام بحقهن بالإذن والتمكين، والرسوخ في اليقين، فمَن ابتغى وراء ذلك؛ بأن قصد شهوة المتعة، فأولئك هم العادون، تجب عليهم التوبة، والذين هم لأماناتهم، وهي أنفاس عمرهم، وساعات أوقاتهم، أو: الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، ﴿وعهدهم﴾ الذي أُخذ عليهم في عالم الذر، وهو الإقرار بالربوبية، والقيام بوظائف العبودية، ﴿راعون﴾، فهم يراعون أنفاسهم وساعاتِهم، ويُحافظون عليها من التضييع، ويُراعون عهودَهم السابقة واللاحقة، أي مع الله، ومع عباده، فيُوفون بها ما استطاعوا، والمراد نية الوفاء، لا الوفاء بالفعل، فمَن عقد عهداً ونيته الوفاء، ثم منعته الأقدار، فهو وافٍ به. والذين هم بشهادتهم لأنوار الربوبية قائمون بالأدب معها. والذين هم على صلاتهم الواجبة يحافظون، شكراً وأدباً. أولئك في جنات المعارف، مُكرَمون في الدنيا والآخرة.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فَمَالِ الذين كفروا﴾، وكُتب مفصولاً اتباعاً للمصحف، أي: أيُّ شيء حصل لهم حتى كانوا ﴿قِبلك﴾ أي: حولَك ﴿مُهطِعينَ﴾ مُسرعين، مادّين أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك، ﴿عن اليمين وعن الشمال﴾ أي: عن يمينك وشمالك ﴿عِزينَ﴾ ؛ متفرقين فرقاً شتّى. جمع: عِزَة، وأصلها: عِزوة، من العزو، فعُوِّضت التاء من الواو، كأنّ كل فرقة تُعزى إلى غير مَن تُعزى إليه الأخرى. والعزة: الفرقة القليلة، ثلاثة أو أربعة. كان المشركون إذا رأوا رسولَ الله ﷺ يصلي في الكعبة يقومون من مجالسهم مسرعين إليه، ويُحلِّقون حوله حِلقاً حِلقاً، وفِرقاً فِرقاً، يستمعون ويستهزئون بكلامه ﷺ ويقولون: شاعر، كاهن، مفتر، ثم يقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد، فلندخلنها قبلهم، فنزلت: ﴿أيَطْمَعُ كلُّ امرىءٍ منهم أن يُدخَلَ جنةَ نعيم﴾ بلا أيمان.
140
﴿كلاَّ﴾، ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ، وهو دخولهم الجنة بلا إيمان ﴿إِنَّا خلقناهم مما يعلمون﴾، تعليل للردع، أي: إنَّا خلقناهم من نطفةٍ مَذِرة، فلا يستأهل الكرامة إلاَّ مَن تحلّى بالإيمان والطاعة، وكسا لوث بشريته بنور إيمانه، وحلّها بالتقوى، التي بها العز والشرف والارتفاع في أوج القُربى والكرامة التي محلها الجنة، إنما تكون بمخالفة الطبيعة، وغلبة الروح على الطينة الأرضية، والفرض لعدم ذلك منهم، فلا يطمعون في كرامات الروحانية، مع تمحُّض الطينة الجسمانية، فإنه محال بمقتضى الحكمة. قال أبو السعود: وقيل معناه: إنّا خلقناهم من نطفة مذرة، فمن أين يتشرّفون ويدّعون التقدُّم، ويقولون: لَندخلن الجنةّ قبلهم؟ والفرض أنهم مخلوقون من نطفة قذرة، لا تُناسب عالم القدس، فمَن لم يستكمل الإيمان والطاعة، ولم يتخلّق بأخلاق الملائكة، لم يتأهّل لدخولها. ثم قال: ولا يخفى ما في الكل من التمحُّل، والأقرب: أنه كلام مستأنف، سيق تمهيداً لِما بعده مِن بيان قدرته تعالى، على أن يهلكهم، لكفرهم بالبعث والجزاء، واستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما نزل عليه من الوحي، وادعائهم دخول الجنة بطريقة السخرية، وينشىء بدلهم قوماً آخرين، فإنَّ قدرته على ما يعلمون من النشأة الأولى حجة بيِّنة على قدرته تعالى على ذلك، كما يُفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى: ﴿فلا أُقسم بربِّ المشارِق والمغاربِ﴾، والمعنى: إذا كان الأمر كما ذكرنا من أنّا خلقناهم مما يعلمون فأُقسم برب المشارق والمغارب ﴿إِنَّا لقادِرون على أن نُبدِّل خيراً منهم﴾ أي: نُهلكهم بالمرة، حسبما تقتضيه جنايتهم، ونأتي بدلهم بخلقٍ آخرين ليسوا على صفتهم. هـ. ﴿وما نحن بمسبوقين﴾ ؛ بعاجزين، أو بمغلوبين إن أردنا ذلك، لكن مشيئتَنا المبنية على الحِكمة البالغة اقتضت تأخير عقوبتهم.
﴿
فَذَرْهم﴾
؛ فدع المكذِّبين ﴿يخوضوا﴾ في باطلهم، التي من جملتها ما حكي عنهم، ﴿ويلعبوا﴾ في دنياهم ﴿حتى يُلاقوا يومَهم الذي يوعدون﴾، وهو يوم البعث عند النفخة الثانية، يدلّ عليه قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَخرجون من الأجدَاثِ﴾ ؛ القبور ﴿سِراعاً﴾ ؛ جمع سريع، وهو حال من ضمير " يَخرجون " أي: مسرعين إلى الداعي ﴿كأنهم إِلى نُصُبٍ﴾، وهو كل ما نُصب وعُبد من دون الله، وفيه السكون والفتح. ﴿يُوفضون﴾ ؛ يُسرعون، ﴿خاشعةً أبصارُهم﴾، ذليلة، لا يرفعونها خوفاً وذِلة، ﴿ترهقهم ذِلةٌ﴾ : يغشاهم هوان شديد، ﴿ذلك﴾ أي: الذي ذكر ما سيقع فيه من الأحوال الهائلة هو ﴿اليومُ الذي كانوا يُوعَدون﴾ في الدنيا، وهم يكذّبون به.
الإشارة: فما لأهل الإنكار والغفلة قِبَلك أيها الداعي مسرعين، يُحبون الخصوصية بلا مجاهدة، أيطمع كل امرىءٍ منهم أن يُدخل جنةَ نعيم الأرواح، وهي جنة المعارف، كلاً، إنّا خلقناهم مما يعلمون من الطينة الأرضية، فلا يطمع أحدٌ في الخصوصية، حتى تستولي روحانيتُه على بشريته، ومعناه على حسه، وتخنس الطينية الطبيعية تحت أنوار
141
الحقيقة القدسية. قال الورتجبي: امتنَّ اللهُ على أوليائه الصادقين أنه يلبغهم إلى جواره؛ لأنهم خُلقوا من تربة الجنة، وخُلقت أرواحهم من نور الملكوت، وإلى مواضعها ترجع، وللقائه خَلَقَهم، ومن نوره أوجدهم، وإنَّ أهل الخذلان خُلقوا من عالم الشهواني والشيطاني، ومنبعُهما النار، فيدخلون مواضعهم؛ لأنهم ليسوا من أهل جواره، ونحن لا ننظر إلى ما خلقنا منه من النطفة والطين، ولا نعتبر بهما، نحن نعتبر بالاصطفائية والخاصية في المعرفة، فإنَّ بهما نصل إلى جوار الله تعالى. هـ.
قلت: والتحقيق أنّ البشرية كلها من الطين، والروح كلها من النور الملكوتي، فمَن غلب منهما فالحُكم له، فإنْ غلبت الروحُ تنوّرت البشرية بأنوار الهداية، وأشرق الباطن بأسرار المعارف، وإن غلبت البشرية تظلّمت الروح، فتارة يبقى لها شعاع الإيمان، وهو مقام أهل اليمين، وتارة ينطمس عنها، وهو مقام الكفر، والعياذ بالله. وقوله: لأنهم خُلقوا من تربة الجنة، أي: من التربة التي رش عليها من ماء الجنة، حتى أضيفت إليها، وقد تقدّم عن القشيري. والله تعالى أعلم. ثم أقسم تعالى على أنه قادر على تبديل الأشباح فيبدل الخبيث إلى الطيب، وبالعكس، على حسب مشيئته، ثم قال: فذر أهل الغفلة يخوضوا في بواطنهم مع الخواطر، ويلعبوا في ظواهرهم في أمور دنياهم، حتى يُلاقوا ما يُوعدون، فيقع الندم حيث لا ينفع. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله.
142
سورة نوح
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّا أرسلنا نوحاً﴾ وهو أول أُلي العزم. قيل: معناه بالسريانية: الساكن، وقيل: سمي له لكثرة نوحه شوقاً إلى ربه، ﴿أنْ أَنْذِر قَوْمَكَ﴾ أي: بأن أنذر، فحذف الجار وأوصل الفعل، ومحله عند الخليل: الجر: وعند غيره: نصب، أو: " أنْ " مفسرة؛ لأنَّ الإرسال فيه معنى القول، فلا يكون للجملة محل، وقُرىء: " أنذر " بغير " أنْ "، أي: خوّف قومك ﴿مِن قبل أن يأتيهم عذابٌ أليم﴾ ؛ عذاب الآخرة، أو الطوفان، لئلا يبقى لهم عذر أصلاً.
﴿قال يا قوم﴾، أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة ﴿إِني لكم نذير مبينٌ﴾ ؛ مُنذِر موضّح لحقيقة الأمر، أُبين لكم رسالة ربي بِلُغةٍ تعرفونها، ﴿أنِ اعبدُوا اللهَ﴾ أي: وحّدوه، و " أنْ " هذه نحو " أن أنذر " على الوجهين، ﴿واتقوه﴾ ؛ واحذروا عصيانه، ﴿وأطيعونِ﴾ فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وإنما أضافه إلى نفسه؛ لأنَّ الطاعة تكون لغير الله بخلاف العبادة، وطاعته هي طاعة الله.
﴿يغفرْ لكم من ذنوبكم﴾ أي: بعض ذنوبكم، وهو ما سلف في الجاهلية، فإنَّ الإسلام يَجُبُّه، إلاّ حقوق العباد؛ فإنه يؤديها، وقيل: " مَن " لبيان الجنس، كقوله: ﴿فَاجْتَنِبُواْ الرِجْسَ مَنَ الأَوْثَآنِ﴾ [الحج: ٣٠]. قال ابن عطية: وكونها للتبعيض أبين؛ لكونه لو قال: يغفر لكم ذنوبكم؛ لعَمّ هذا اللفظ ما تقدّم به من الذنوب وما تأخر عن إيمانهم، والإسلام إنما يَجُب ما قبله. هـ. قال القشيري: ولأنه لو أخبرهم بغفران ما تقدّم وما تأخّر لكان إغراءً لهم، وذلك لا يجوز. هـ. ﴿ويُؤخِّرْكُم إِلى أَجَلٍ مُسَمَّى﴾ وهو وقت
143
موتكم، فتموتون عند انقضاء آجالكم الذي تعرفونه من غير غرق ولا هلاك استئصال، فإن لم تؤمنوا عاجَلَكم بالعذاب، فيكون هو آجالكم، ولمّا كان ربما يتوهم أنَّ الأجل قد يتقدّم، رَفَعَه بقوله: ﴿إنَّ أَجَلَ اللهِ﴾ وهو الموت عند تمام الأجل ﴿إِذا جاء لا يُؤخَّرُ لو كنتم تعلمون﴾ أي: لو كنتم تعلمون لسارعتم إلى الإيمان قبل مجيئه، فلا حُجة فيه للمعتزلة. وانظر ابن جزي.
الإشارة: قال القشيري: إنَّا أرسلنا الروح إلى قومه، وهم: النفس والهوى وصفاتهم الظلمانية الطبيعية؛ أن أنذرهم عن المخالفة الشرعية، مِن قبل أن يأتيهم عذاب القطيعة، قال: يا قوم إني لكم نذير بيِّن الإنذار، أن اعبُدوا الله، بأن تُحبوه وحده، ولا تُحبُّوا معه غيره، من الدنيا، وشهواتها وزخارفها، واتقوا بأن لا تروا معه سواه، وأطيعوني في أقوالي وأفعالي وأخلاقي وصفاتي، يغفر لكم ذنوب وجودكم، فيُغطيه بنور وجوده، ويُؤخركم إلى أجلٍ مسمى، بتسْمية الأزل، إنَّ أجل الله بالموت الحسي والمعنوي، لا يُؤخَّر، لو كنتم تعلمون، لكن انهماككم في حب الدنيا بعّد عنكم الأجل. هـ. بالمعنى.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿قال﴾ نوح شاكياً إلى الله تعالى: ﴿رَبِّ إِني دعوتُ قومي﴾ إلى الإيمان والطاعة ﴿ليلاً ونهاراً﴾ دائماً بلا فتور ولا توان، ﴿فلم يَزِدْهُم دعائي إِلاَّ فِراراً﴾ مما دعوتهم إليه، ونسب ذلك إلى دعائه لحصوله عنده، وإن لم يكن في الحقيقة سبباً للفرار، وهو كقوله: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا﴾ [التوبة: ١٢٥]، والقرآن لا يكون سبباً لزيادة الرجس، لكن لمّا حصل عنده نُسب إليه، وكان الرجل منهم يذهب بابنه إلى نوح عليه السلام ويقول له: احذر هذا، فلا يعرنّك، فإنّ أبي قد أوصاني بهذا. هـ.
﴿وإِني كلما دعوتُهم﴾ إلى الإيمان بك ﴿لتغفرَ لهم﴾ أي: ليؤمنوا فتغفر لهم، فاكتفى بذكر المسبَّب، ﴿جعلوا أصابعَهم فِي آذَانِهِم﴾ أي: سدُّوا مسامعهم لئلا يسمعوا كلامي، ﴿واستَغْشوا ثيابَهُم﴾ أي: وتغطُّوا بثيابهم لئلا يُبصروني، كراهة النظر إلى وجه مَن
144
ينصحهم في دين الله، ﴿وأصَرُّوا﴾ ؛ أقاموا على كفرهم ﴿واسْتَكْبَروا استكباراً﴾ أي: تعاظموا عن إجابتي تعاظماً كبيراً. وذِكْرُ المصدر دليل على فرط استكبارهم.
﴿ثم إِني دَعَوتهم جِهاراً﴾ أي: مجاهراً، فيكون حالاً، أو: مصدر " دعوت "، كقعد القرفصاء؛ لأنّ الجهار أحد نوعَي الدعاء. يعني: أظهرت الدعوة في المحافل والمجالس. ﴿ثم إِني أعلنتُ لهم وأَسررتُ لهم إِسراراً﴾ أي: جَمَعْتُ لهم بين دعاء العلانية والسر، فكنتُ أدعو كل مَن لقيت، فرداً وجماعة. والحاصل: أنه دعاهم ليلاً ونهاراً في السر، ثم دعاهم جِهاراً، ثم دعاهم في السر والعلن، وهكذا يفعل المذكِّر في الأمر بالمعروف، يبتدىء بالأهون فالأشد، افتتح بالمناصحة بالسر، فلما لم يُطيعوا ثنّى بالمجاهرة، فلما لم تؤثر ثلّث بالجمع بين الإسرار والإعلان. و " ثم " تدل على تباعد الأحوال؛ لأنَّ الجِهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.
﴿
فقلتُ استغفِروا ربكم﴾
بالتوبة من الكفر والمعاصي، فالاستغفار: طلب المغفرة، فإن كان المستغفِر كافراً فهو من الكفر، وإن كان مؤمناً فهو من الذنوب، ﴿إِنه كان غفَّاراً﴾ لم يزل غَفَّار الذنوب لمَن يُنيب إليه، ﴿يُرسل السماءَ﴾ بالمطر ﴿عليكم مِذراراً﴾ ؛ كثير الدُّرور، أي: البروز، و " مِفعال " يستوي فيه المذكر والمؤنث، ﴿ويُمددكم بأموال وبنينَ﴾ أي: يزدكم أمولاً وبنين على ما عندكم، ﴿ويجعل لكم جنات﴾ ؛ بساتين ﴿ويجعل لكم أنهاراً﴾ جارية لمزارعكم وبساتينكم. وكانوا يُحبون الأموال والأولاد، فحرّكوا بهذا على الإيمان، وقيل: لمّا كذّبوه بعد طول تكرار الدعوة حبس الله عنهم القطر، وأعقم نساءهم أربعين سنة، أو سبعين، فوعدهم نوح أنهم إن آمنوا رزقهم الله الخِصب، ورفع عنهم ما كانوا فيه. وعن عمر رضي الله عنه: أنه خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار، فمُطر، فقيل له: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد استقيت بمجاديح السماء التي لا تخطىء، ثم قرأ الآية. وفي القاموس: ومجاديح السماء: أنواؤها. هـ. وشكى رجلٌ إلى الحسن الجدوبة، فقال له: استغفِر الله، وشكى إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة غلة أرضه، فأمرهم كلّهم بالاستغفار، فقيل له في ذلك، فقال: ما قلت من عندي شيئاً، ثم تلا الآية.
﴿ما لكم لا ترجون لله وَقَاراً﴾ أي: لا تخافون لله عظمةً. قال الأخفش: الرجاء هنا: الخوف؛ لأنّ مع الرجاء طرفاً من الخوف واليأس. والوقار: العظمة. وقال أبو السعود: الرجاء هنا بمعنى الاعتقاد. وجملة (ترجون) : حال من ضمير المخاطبين، و " لله " متعلق بمضمر، حال من (وقارا)، ولو تأخر لكان صفة له، أي: أيُّ سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة للتعظيم بالإيمان والطاعة. هـ. أو: لا تأملون له توقيراً، أي: تعظيماً، والمعنى: ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيه تعظيم الله إياكم في دار الثواب، ﴿وقد خَلَقَكم أطواراً﴾ في موضع الحال، أي: ما لكم لا تؤمنون بالله، والحال أنكم على حال منافية لِما أنتم عليه بالكلية، وهي أنكم تعلمون أنه
145
خلقكم أطواراً، أي: أحوالاً مختلفة، خَلَقَكم أولاً نُطفاً، ثم خلقكم علقاً، ثم مُضغاً، ثم عظاماً ولحماً، ثم إنساناً، ثم خلقاً آخر، وبعد ظهوره إلى هذا العالم يكون شباباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، بالتقصير في توقير مَن هذه شؤونه من القدرة القاهرة والإحسان التام، مع العلم بها، مما لا يكاد يصدر عن العاقل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للداعي أن يكون على قدم أولي العزم، لا يمل من التذكير والدعاء إلى الله، ويكرر ذلك ليلاً ونهاراًن ولو قُوبل بالرد والإنكار، فلأن يهدي الله به رجلاً واحداً خير له مما طلعت عليه الشمس. وقوله تعالى: ﴿وأصَرُّوا واستكبروا﴾، قال القشيري: ويقال: لَمَّا دام إصرارهُم تَولَّدَ منه استكبارُهم، قال تعالى: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحديد: ١٦]. وقال الورتجبي: مَن أصرَّ على المعصية أورثه التمادي على الضلالة، حتى يرى قبيح أفعاله مستحسناً، فإذا رآه مستحسناً يستكبر، ويعلو على أولياء الله، ولا يقبل بعد ذلك نصحتهم. قال سهل: الإصرار على الذنب يورث الاستكبار، والاستكبار يورث الجهل، والجهل يورث التخطي في الباطل، وذلك يورث قساوة القلب، وهي تورث النفاق، والنفاق يورث الكفر. هـ.
وقوله تعالى: ﴿استغفِروا ربكم﴾ قال القشيري: ليعلم العاملون أنَّ الاستغفار قَرْعُ أبوابِ النعمة، ومَن وقعت له إلى الله حاجة فلا يَصِل إلى مرادِه إلاّ بتقديم الاستغفار. ويقال: مَن أراد التفضُّل فعليه بالعُذْر والتنصُّل. هـ. وقوله: ﴿ما لكم لا ترجون لله وقارا﴾ أي: ما لكم لا تعتقدون لله تعظيماً وإجلالاً، فلا تراقبونه، ولا تخافون سطوته، فإنَّ المشاهدة على قدر المراقبة، فمَن لم يُحْكِم أمر المراقبة لم يظفر بغاية المشاهدة. وقد خلقكم أطواراً، أي: درّج بشريتكم في أطوار مُختلفة، وهي سبعة: النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم الجنين، ثم الطفولية، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم يرتحل إلى دار الدوام، وكذلك الروح لها سبعة أطوار: التوبة ثم الورع، ثم الزهد، ثم التوكُّل، ثم الرضاء والتسليم، ثم المراقبة، ثم المشاهدة. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جل جلاله: ﴿ألم تَرَوْا كيف خلق اللهُ سبعَ سمواتٍ طباقا﴾ أي: متطابقة بعضها فوق بعض، والرؤية هنا علمية؛ إذ لا يُرى بالبصر إلاَّ واحدة، وعُلِّقت بالاستفهام، وعلمهم بذلك من جهة الوحي السابق، أو كانوا منجّمين، ﴿وجعلَ القمرَ فيهن نوراً﴾ أي:
146
يُنور وجه الأرض في ظلمة الليل، ونسبتُه إلى الكل مع أنه في سماء الدنيا؛ لأنَّ بين السموات ملابسة، من حيث إنها طباق، فجاز أن يقال: فيهن، وإن لم يكن في جميعهن، كما يُقال: في المدينة كذا، وهو في بعض جوانبها. وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: إن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السموات، وظهورهما مما يلي الأرض. فيكون نور القمر سارياً في جميع السموات؛ لأنها لطيفة لاتحجب نوره. ﴿وجعل الشمسَ سِراجاً﴾ ؛ مصباحاً يزيل ظلمة الليل، ويُبصر أهلُ الدنيا في ضوئها وجه الأرض، ويُشاهدون الآفاق، كما يُبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، وليس القمر بهذه المثابة، إنما هو نور في الجملة، فنور الشمس أقوى، ومنه يستمد نور القمر، وأجمعوا أنَّ الشمس في السماء الرابعة.
﴿واللهُ أنبتكم من الأرض نباتاً﴾ أي: أنشأكم منها، فاستغير الإنبات للإنشاء؛ لكونه أدل على الحدوث والتكوُّن من الأرض. و " نباتاً " إمّا مصدر مؤكد لأنبتكم، بحذف الزوائد، ويسمى اسم مصدر، وحكمة إجراء اللفظ فيه على غير فعله: التنبيه على تحتُّم القدرة وسرعة نفوذ حكمها، حتى كأنَّ إنبات الله تعالى نفس النبات، فقرَن أحدهما بالآخر، ونحوه قوله تعالى: ﴿أّنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ﴾ [الأعراف: ١٦] أي: فضرب فانبجست، فجعل الانبجاس مسبباً عن الايحاء، للدلالة على سرعة نفوذ حكم القدرة، أو: لفعل مترتب عليه، أي: أَنبتكم فنبتم نباتاً، ﴿ثُم يُعيدكم فيها﴾ بعد الموت ﴿ويُخرجكم﴾ يوم القيامة بالبعث والحشر ﴿إِخراجاً﴾ محققاً لا ريب فيه، ولذا أكّده بالمصدر.
﴿واللهُ جعل لكم الأرضَ بِساطاً﴾ تتقلبون عليها تقلُّبكم على بُسُطكم في بيوتكم. قال ابن عطية: وظاهر الآية أنَّ الأرض بسيطة غير كُروية، واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في الشرع، إلاّ أن يترتب على القول بالكوريّة قول فاسدٌ، وأما اعتقاد كونها بسيطة فهو ظاهر في كتاب الله، وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتةَ، واستدل ابن مجاهد على ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور، قال: لو كانت الأرض كروية لما استقر الماء عليها. هـ. المحشيّ الفاسي: وهو بعيد؛ لأنَّ أهل الهيئة يرون أنها مستقرة فيه ـ اي: في البحر ـ لا العكس، ولذلك أُرسيت بالجبال لتستقر، كما عُلم من الشرع. هـ. قلت: وإنما حَكَمَ الحقُّ تعالى ببساطتها باعتبار ما يظهر للعين في ظاهر الأمر. والله تعالى أعلم.
وتوسيط (لكم) بين الجعل ومفعوليه، مع أنَّ حقه التأخير، للاهتمام بشأن كون المجعول من منافعهم، وللتشويق إلى المؤخّر، فإنَّ النفس عند تأخُّر ما حقه التقديم تبقى متشوقة مترقبة، فيتمكن عند ورودها له فضل تمكُّن، أي: بسطها لكم في مرأى العين ﴿لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبلاً فِجاجاً﴾ أي: طُرقاً واسعة، جمع فج، وهو الطريق الواسع، وقيل: هو المسلك بين الجبلين، و " منها " متعلق بـ " تسلُكوا " لِما فيه من معنى الاتخاذ، أو:
147
بمضمر هو حال من " سُبلاً " أي: كائنة منها، ولو تأخر لكان صفة لهما. الإشارة: تقدّم تفسير سبع سموات الأرواح، والقمر قمر التوحيد البرهاني، والشمس: شمس المعرفة، والله أنبت بشريتكم من الأرض نباتاً، ثم يُعيدكم فيها بالبقاء بعد الفناء؛ لتقوموا برسم العبودية، ثم يُخرجكم منها إلى صعود عرش الحضرة، والله جعل لكم أرض العبودية بِساطاً؛ لتسلكوا منها إلى الله في طرق واسعة، قررها أئمة الطريق من الكتاب والسنّة وإلهام العارفين ومواجيد العاشقين. وبالله التوفيق.
يقول الحق جل جلاله: ﴿قال نوحٌ ربِّ﴾ أي: يارب ﴿إِنهم عَصَوْنِي﴾ أي: داموا على عصياني فيما أمرتهم، مع ما بلغت في إرشادهم بالعظة والتذكير، ولمّا كان عصيانهم مستبعداً لكونه منكراً فظيعاً؛ لأنَّ طاعة الرسول واجبة، فأصرُّوا على عصيانه، وعاملوه بأقبح الأحوال والأفعال، أكّد الجملة بإنَّ، ﴿واتَّبعوا﴾ أي: اتبع فقراؤهم ﴿مَن لم يزده مالُه وولدُه إِلاَّ خساراً﴾، وهم رؤساؤهم، أي: استمروا على اتباع رؤسائهم، الذين أبطرتهم أموالُهم، وغرّتهم أولادُهم، وصار ذلك سبباً لزيادة خسارهم في الآخرة، فصاروا أسوة لهم في الخسران. وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم إنما ابتعوهم لوجَاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد، لِما شاهدوا فيهم من شبهة مصحِّحة للاتباع في الجملة. ومَن قرأ بسكون اللام فجمع ولد، كأسَد، وأُسْد.
﴿ومَكَروا﴾ : عطف على صلة " مَنْ "، والجمع باعتبار معناه، كما أنَّ الإفراد في الضمائر الأُوَل باعتبار لفظها، والماكرون هم الرؤساء، ومكرهم: احتيالهم في الدين، وكيدهم لنوح، وتحريش الناس على أذاه، وصد الناس عن الميل إليه، ﴿مكراً كُبّاراً﴾ ؛ عظيماً في الغاية، وهو أكبر من " الكُبَار " بالتخفيف، وقُرىء به، والكُبَّار: أكبر من الكبير، وقُرىء شاذًّا بالكسر جمع كبير. ﴿وقالوا لا تَذَرُنَّ آلهتكم﴾ أي: لا تتركوا عبادتها على العموم إلى عبادة رب نوح، ﴿ولا تَذَرُنَّ وَدًّا﴾ بفتح الواو، وضمها لغتان: صنم على صورة رجل، ﴿ولا سُوَاعاً﴾ ؛ صنم على صورة امرأة، ﴿ولا يَغُوثَ﴾ ؛ صنم على صورة أسد،
148
﴿وَيَعُوقَ﴾ ؛ صنم على صورة فرس، وهما لا ينصرفان للتعريف ووزن الفعل إن كانا عربيين، والتعريف والعُجمة إن كانا عجميين، ﴿ونَسْراً﴾ ؛ صنم على صورة النسر، وخصُّوا بالذكر مع اندراجهم فيما سبق؛ لأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، وقد انتقلت هذه الأصنام عنهم إلى العرب، فكان وَدّ لكلب، وسُواع لهمدان، ويغوث لمَذْحِج، ويَعُوق لمُراد، ونَسْر لحمير. وقيل: هي أسماء رجال صالحين، كان الناس يقتدون بهم، بين آدم ونوح عليهما السلام، وقيل: أولاد آدم، فلما ماتوا، قال إبليس لمَن بعدهم: لو صوّرتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم، وتتبرّكون بهم، ففعلوا، فلمّا مات أولئك، قال لمَن بعدهم: إنهم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: أول ما عُبِدَ من الأصنام في زمن مَهْلائِل بن غَيْنَان بن أنوش بن شيت بن آدم عليه السلام، وذلك لمّا مات آدم جعله بنو شيت في مغارة بأرض الهند، في جبل سرنديب، لموضع يسمى نوره، وهو أخصب جبل في الأرض، ثم كانوا يزورونه، ويترحّمون عليه، ويُعطمونه، فلما قَتَل قابيلُ أخاه هابيل نفوه من الأرض، فكان بمعزل عنهم هو وبنوه، فجاء الشيطانُ في صورة رجل ناصح، فقال لهم: إنَّ بني شيت يتبرّكون بآدم، وأنتم لا تلحقونه، فانحتوا صورته، وتبرَّكوا بها، ففعلوا، ثم كان لشيت ولد صالح، اسمه يغوث، فتُوفي، فكانوا يتبرّكون بقبره، فنحتَ أولادُ قابيل على صورة يغوث صورة أخرى، ثم يعوق، ثم ود، ثم سواع، ثم نسر، كلهم من أولاد شيت قوم صالحون، كانوا يتبرّكون بهم في المحْيا والممات، ولم يكن لأولاد قابيل سبيل إليهم، فنحتوا صورهم، وصاروا يُعظِّمونها، ويتبرّكون بها مثلهم، فلما طال بهم الزمان صاروا يعبدونهم دون الله، إلى أن بعث الله نوح عليه السلام فنهاهم عنها، فلم ينتهوا، فلما أهلك الله الأرض ومَن عليها بالطوفان، قذف الطوفانُ تلك الأصنام إلى أرض جُدة وما والاها من مكة، وأخفتها الرمال هناك. قال الكلبي: وكان عَمرو بن لُحي كاهناً، يُكنّى أبا تمامة، وكان يتراءى له الجن، فتراءى له يوماً جنِّي، وقال له: عَجِّل أبا تمامة بالسعد والسلامة إلى صف جدة، واستخرج ما فيها من الأصنام، وأوردها ماء تهامة، ولا تسأم ولا تهب، وادْع العرب إلى عبادتها تُجَب، فأتى عمرُو بن لُحي ساحلَ جدة، حيث وصف له الجني، واستخرج الأصنام في خِفية عنهم، وأرودها ماء تهامة، فلما حضر الحج، واجتمع الناس إلى الموسم، دعا الناس إلى عبادتها، فأجابته العرب قاطبة، وأول مَ أجابته بنو عوف بن عُزرة، فدفع لهم ودًّا، فنصبوه بواد القرى بدومة الجندل، ولم يزل عندهم إلى الإسلام، فكسره خالد بن الوليد، لَمَّا بعثه الرسولُ ﷺ في غزوة
تبوك لهدم دومة الجندل، فحالت بينه وبينها العرب، فقاتلهم وكسَّر صنمهم. قال: الكلبي: قلت لمالك بن الحارث: صف
149
لي ودًّا، وكان قد رآها مراراً، قال: تمثال رجل أعظم ما يكون من الرجال، مؤتزر بحُلة، مرتدٍ بأخرى، مقلَّداً سيفاً، راكباً فرساً، وفي يده حربة فيها لواء، ومعه قوس، ونبل في جعبة. هـ. ثم دفع عمرو لمُضر سُواعاً، فعكفت على عبادته مع هُذيل، ثم فرّق تلك الأصنام على القبائل على حسب ما تقدّم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيتُ عمْرو بن لُحي ليلة أُسري بي رجلاً أحمر، قصيراً أزرق، وهو يَجُرُّ قُصْبَهُ في النار، لأنه أول مَن بَحَّرَ البَحيرة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام، وغيّر دين إسماعيل "، وهو من خزاعة، كان يسكن مكة، فولد بها أولاداً فكثروا، فنفوا مَن كان منها من العماليق. انظر اللباب.
ثم قال تعالى: ﴿وقدْ أَضلوا﴾ أي: الرؤساء، أو: الأصنام، كقوله: ﴿إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم: ٣٦] ﴿كثيراً﴾ أي: خلقاً كثيراً، ﴿وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضلالاً﴾، قال المحشي: وقد يقال: إن هذه الجملة مسببة عما قبلها فحقها الفاء، لكن تُركت لمكان الاستئناف، أي: البياني، كأنه قال: فما تريد بهذا القول؟ فقال: ولا تزد الظالمين. هـ. ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالظلم المفرط، وتعليل الدعاء عليهم به. والمراد بالضلال: الهلاك، كقوله: ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر: ٤٧].
﴿مما خطيئاتِهم﴾ أي: من أجل خطيئاتهم. " وما " مزيدة للتوكيد والتفخيم، ﴿أُغرقوا﴾ بالطوفان. وتقديم " مما " لبيان أن إغراقهم ودخولهم النار، إنما كان لأجل خطاياهم، لا لسبب آخر، ﴿فأُدْخِلوا ناراً﴾ عظيمة، والمراد: إمّا عذاب القبر؛ لأنه عقب الإغراق، أو حين كانوا في الماء، فقد رُوي أنهم كانوا يغرقون من جانب، ويُحرقون من جانب. أو: عذاب جهنم، والتعقيب لقربه باعتبار تحقُّق وقوعه. وتنكير " النار " إما لتعظيمها وتهويلها، أو لأنه تعالى أعدّ لهم نوعاً من العذاب على حسب خطيئاته، ﴿فلم يجدوا لهم من دون اللهِ أنصارا﴾ ينصرونهم ويمنعونهم من عذاب الله، وفيه تعريض بعدم نفع آلهتهم، وعدم قدرتهم على نصرهم. قيل: كان قوم نوح أهل وُسع في الزرق، فطَغوا، وكانوا يؤذون نوحاً، ويحرشون عليه ويضربونه، حتى ربما يغشى عليه، فإذا أفاق قال: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ". كما في الحديث.
﴿وقال نوحٌ رَبِّ لاَ تَذّرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين ديَّاراً﴾ أي: أحداً يدور في الأرض، وهو " فَيْعَالٌ " من الدّورِ، وهو من الأسماء المستعلمة في النفي العام، يقالك ما بالديار ديَّار وديّور، كقيّام وقيوم، أي: أحد، وأصله: دّيْوار، ففعل به ما فعل بسَيِّد. ﴿إِنك إِن تَذَرْهُم﴾ ولا تهلكهم ﴿يُضلُّوا عبادك﴾ عن طريق الحق، يدعوهم إلى الضلال، ﴿ولا يلدوا إِلاَّ فاجراً كفاراً﴾ أي: إلاّ مَن إذا بلغ جحد وكفر، وإنما قال ذلك؛ لاستحكام علمه بما يكون منهم
150
ومن أعقابهم، بعدما خبرهم واستقرأ أحوالهم قريباً من ألف سنة، أو: يكون بعد إخباره تعالى له بقوله: ﴿أَنَّهُ لِن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْءَامَنَ﴾ [هود: ٣٦].
﴿
رَبِّ اغفر لي ولوالدي﴾
وكانا مسلمَين، واسم أبيه: لَمَك بن مُتَوشْلح، واسم أمه: شمخاء بنت أنوش، وقيل: المراد: آدم وحواء. قال ابن عباس: لم يكفر بنوح والد بينه وبين آدم عليه السلام، وقُرىء: " ولولديّ " يريد ساماً وحاماً، ﴿ولِمَنْ دَخَلَ بيتي﴾ أي: منزلي، أو مسجدي، أو سفينتي ﴿مؤمناً﴾، ولعله قد علم أنَّ مَن دخل بيته مؤمناً لا يعد إلى الكفر، وبهذا القيد خرجت امرأته وابنه كنعان، ولم يجزم عليه السلام بخروجه إلاَّ بعدما قيل له: ﴿إِنَّهُ لِيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾ [هود: ٤٦]، ﴿وللمؤمنين والمؤمنات﴾ إلى يوم القيامة. خصَّ أولاً مَن يتصل به؛ لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عمَّم، ﴿ولا تزد الظالمين﴾ أي: الكافرين ﴿إلاَّ تباراً﴾ ؛ إهلاكاً. قال ابن عباس رضي الله عنه: دعا نوح عليه السلام بدعوتين، إحداهما: للمؤمنين بالمغفرة، وأخرى على الكفارين بالتبار، فاستجيب على الكافرين، فاستحال ألاَّ تُجاب دعوته في حق المؤمنين. واختلف في صبيانهم: هل أُغرقوا؟ فقيل: أعقم اللهُ أرحامَ نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة، فلم يكن منهم صبي حين أُغرقوا، وقيل: أهلك أطفالهم بغير عذاب، ثم أغرق كبارهم، وقيل: غرقوا معهم كما غرق سائر الحيوانات، وهو المشهور؛ لأنّ المصيبة تعم، ثم يُبعثون على نياتهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وقال نوحُ الروح، أي: شكت الروح إلى ربها، وقالت: إنَّ النفس وجنودها عَصَوني، واتبعوا حال المنهمكين في الدنيا، الفانين في أموالهم وأولادهم، فلم يزدهم ذلك إلاّ خساراً، ومكروا بي، حيث راموا مني الميل إليهم، مكراً كُبَّاراً، وقالوا: لا تَذَرُنَّ آلهتكم من الدنانير والدراهم، ولا تَذَرُنَّ ود الدنيا ومحبتها، ولا سُواع الهوى والحظوظ، ولا يغوث الرياسة والجاه، ولا يَعوق العلائق والشواغل، ولا طيور الهواجس والخواطر، يعني: لا تستعملوا ما يُخرجكم عن هذه الأشياء، مِن خرق العوائد، والزهد، والورع، بل أقيموا على تنمية دنياكم، وتوفير هواكم، وقد أضلُّوا كثيراً ممن يقتدي بهم. وقالت أيضاً: لا تزد الظالمين من هؤلاء إلاّ ضلالاً؛ هلاكها وانقطاعاً. مما خطيئاتهم أُغرقوا في بحر الدنيا، فأُدخلوا نار القطيعة، فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً، وقال نوح الروح أيضاً: لا تَذرْ على أرض البشرية من الكافرين من القواطع التي تقطعني عن السير بظلمتها ديّاراً ممن يدور بها، ويُقوي حسها، إنك إن تذرهم يدورون بها ويقطعونها عن السير، ويُضلوا عبادك عن الوصول إليك، ولا يلدوا منها إلاَّ خاطراً فاجراً كفّاراً. رَبِّ اغفر لي، خطابٌ من الروح ودعاء، ولوالدي من العقل الكلي، والنفس الكلي، وهو الروح الأعظم، ولِمن دخل بيتي، أي: تمسّك بطريقتي، ودخل في زمرتي، ولأرواح المؤمنين والمؤمنات، ولا تزد الظالين الخارجين عن طريقتي إلاَّ تباراً. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم.
151
سورة الجن
قلت: قد أجمعوا على فتح (أنه) ؛ لأنه نائب فاعل " أوحى "، و ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ﴾ [الجن: ١٦] و ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ﴾ [الجن: ١٨] للعطف على ﴿أنه استمع﴾ فـ " أن " مخففة، و ﴿أَن قَدْ أَبْلَغُواْ﴾ [الجن: ٢٨] لتعدّي " يعلم " إليها، وكسر ما بعد فاء الجزاء، وبعد القول، نحو: ﴿فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ [الجن: ٢٣] و ﴿قالوا إنّا سمعنا﴾ ؛ لأنه مبتدأ محكي بعد القول. واختلفوا في فتح الهمزة وكسرها من ﴿أنه تعالى جَدٌ ربنا﴾ إلى: ﴿وأنَّا منا المسلمون﴾، ففتحها الشامي والكوفيّ [غير] أبي بكر؛ عطفاً على ﴿أنه استمع﴾، أو على محلّ الجار والمجرور في ﴿آمنا به﴾ تقديره:
صدّقناه وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربنا ﴿وأنه كان يقول سفيهنا ﴾ إلى آخره، وكسرها غيرُهم عطفاً على ﴿إنّا سمعنا﴾، وهم يقفون على آخر الآيات.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿قل﴾ يا محمد لأمتك: ﴿أُوحي إِليَّ أنه استمع﴾ أي: الأمر والشأن استمع للقرأن ﴿نفر من الجن﴾، وهم جن نصيبين، كما تقدّم في
152
الأحقاف، وكانوا متمسكين باليهودية. والنفر ما بين الثلاثة والعشرة. والجن عاقلة خفية، يغلب عليهم الناري والهوائية، وقيل: روح من الأرواح المجرّدة. وفيه دلالة على أنه ﷺ لم يشعر بهم وباستماعهم، ولم يقرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته، فسمعوها، فأخبره الله تعالى بذلك، فهذه غير الحكاية التي حضر معهم، ودعاهم، وقرأ عليهم سورة الرحمن، كما في حديث ابن مسعود. ﴿فقالوا﴾ أي: المستمِعون حين رجعوا إلى قومهم: ﴿إِنَّا سمعنا قرآناً﴾ ؛ كتاباً ﴿عجباً﴾ ؛ بديعاً، مبايناً لكلام الناس في حُسن النظم ورقّة المعنى. والعجب: ما يكون خارجاً عن العادة، وهو مصدر وصف به للمبالغة.
﴿
يهدي إِلى الرُّشْد﴾
؛ إلى الحق والصواب، ﴿فآمنّا به﴾ أي: بذلك القرآن، ولمَّا كان الإيمان به إيماناً بالله وتوحيده، وبراءةً من الشرك، قالوا: ﴿ولن نُشْرِكَ بربنا أحداً﴾ من خلقه، حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد، ويجوز أن يكون الضمير في " به " لله تعالى؛ لأنَّ قوله: (بربنا) يُفسّره.
﴿وأنه تعالى جَدُّ ربِّنا﴾ أي: ارتفع أو تنَزّه عظمة ربنا، أو سلطانه، أو غناه، يُقال: جَدّ فلان في عيني إذا عَظُم، ومنه قول عمر: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ في عيننا، أي: عظم في عيوننا، ﴿ما اتخذَ صاحبةً﴾ ؛ زوجة ﴿ولا ولداً﴾ كما يقول كفار الجن والإنس، والمعنى: وصفوه بالاستغناء عن الصاحبة والولد؛ لعظمته وسلطانه، أو لغناه، وقُرىء " جَدًّا " على التمييز، أي: أنه تعالى ربنا جَداً، وقُرىء بكسر الجيم، أي: تنزّه صِدق ربوبيته، وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد، وذلك أنهم لمَّا سمعوا القرآن، واهتدوا للتوحيد والإيمان، تنبّهوا للخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيهه تعالى بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد، فاستعظموه ونزّهوه تعالى عنه. ﴿وأنه كان يقول سفيهُنا﴾ أي: جاهلنا من مردة الجن، أو إبليس؛ إذ ليس فوقه سفيه، ﴿على الله شططاً﴾ أي: قولاً ذا شطط، أي: بُعدٍ وجورٍ، وهو الكفر؛ لبُعده عن الصواب، من: شطت الدار: بَعُدت، أو: قولاً مجاوزاً للحدّ، بعيداً عن القصد، أو هو شطط في نفسه؛ لفرط بُعده عن الحق، وهو نسبة الصاحبة والولد لله تعالى. والشطط: مجاوزة الحدِّ في الظلم وغيره. ﴿وأنَّا ظننا أن لن تقول الإِنسُ والجنُّ على الله كذباً﴾ أي: قولاً كذباً أو مكذوباً فيه، أي: كان في ظننا أنَّ أحداً لن يكذب على الله بنسبة الصاحبة والولد، فكنا نصدقهم فيما أضافوا إليه حتى تبيّن لنا بالقرآن كذبهم.
﴿وأنه كان رجالٌ من الإِنس يعوذون برجالٍ من الجن﴾، كان الرجل من العرب إذا نزل بوادٍ قفرٍ وخافَ على نفسه، يقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد
153
الجن وكبيرهم، فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا: سُدنا الإنس والجنّ، وذلك قوله تعالى: ﴿فزادوهم﴾ ؛ زاد الإنسُ والجنَّ باستعاذتهم بهم ﴿رَهَقاً﴾ : طغياناً وسفهاً وتكبُّراً وعتواً، أو: فزاد الجنُّ والإنسَ رهقاً: إثماً وغيًّا؛ بأن أضلوهم، حتى استعاذوا بهم. ﴿وأنهم﴾ أي: الجن ﴿ظنوا كما ظننتم﴾ يا أهل مكة ﴿أن لن يبعثَ اللهُ أحداً﴾ بعد الموت، أي: إنَّ الجن كانوا يُنكرون البعث كإنكاركم يا معشر الكفرة، ثم بسماع القرآن اهتدوا، وأقرُّوا بالبعث، فهلاّ أقررتم كما أقرُّوا؟ ! أو: ظنوا ألن يبعث اللهُ رسولاً من الإنس. وبالله التوفيق.
الإشارة: كما كانت تسمع الجنُّ من الرسول ﷺ وتأخذ عنه، كذلك تسمع من خلفائه من الأولياء والعلماء الأتقياء، فهي تحضر مجالسَ الذكر والتذكير والعلم، على حسب ما يطلب كلُّ واحد منهم، وقد حدثني بعضُ أصحابنا أنه بات في موضع خالٍ، فأتاه رجلان من الجن وتحدّثا معه، وأخبره أنهما من الجن نازلان مع قومهما في ذلك الموضع، وقالا له: إنا لنحضر مجلس شيخكما ـ أي: مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه ـ ونسمع منه. هـ. ففيهم الأولياء، والعلماء، والقُراء، وسائر الطرائق، كما يأتي في قوله: ﴿طرائق قِدداً﴾. وقال الورتجبي: خلق اللهُ بعض أوليائه من الجن، لهم أرواح ملكوتية، وأجسام روحانية، وهم إخواننا في المعرفة، يُطيعون اللهَ ورسوله، ويُحبون أولياءه، ويستنُّون بسنّة نبينا صلى الله عليه وسلم، ويسمعون القرآن، ويفهمون معناه، وبعضهم شاهدوا النبي ﷺ وسمعوا كلام الحق منه شِفاهاً، وخضعوا له إذعاناً، واستبشروا برَوح الله، ورَوح قضائه استبشاراً. هـ. قلتُ: ومعرفة الآدمي أكمل؛ لاعتدال بشريته وروحانيته، والجن الغالب عليه الانحراف للطافة بشريته واحتراقها.
وقوله تعالى: ﴿يهدي إلى الرُشد﴾، قال الجنيد: يهدي إلى الوصول إليَّ الله، وهو الرشد. هـ. وقال الورتجبي: يهدي إلى معدن الرشد، وهو الذات القديم. هـ. وقوله تعالى: ﴿وأنه تعالى جَدُّ ربنا... ﴾ الخ، أي: تنزهت عظمة ربنا الأزلية، عن اتخاذ الصاحبة والولد، إنما اتخاذ الصاحبة والولد من شأن عالم الحكمة، ستراً لأسرار القدرة، فافهم. وقال الجنيد: ارتفع شأنه عن أن يتخذ صاحبة أو ولداً. هـ. والشطط الذي يقوله السفيه الجاهل هو وجود السوي مع الحق تعالى، وهو أيضاً الكذب الذين ظنّت الجن أن لن يُقال على الله، ولذلك قال الشاعر:
مُذْ عَرفْتُ الإِلَهَ لَمْ أَرَ غَيْراً
وكَذّا الْغَيْرُ عندنا مَمنوعُ
وقال بعضُ العارفين: لو كُلفت أن أشهد غيره لم أستطيع، فإنه لا شيء معه حتى أشهده. هـ. وكل مَن استعاذ بغير الله فهو ضال مضل، وكل مَن أنكر النشأة الأخرى فهو تالف ملحد.
154
يقول الحق جلّ جلاله، حاكياً عن الجن: ﴿وأنَّا لمسنا السماءَ﴾ أي: طلبنا بلوغ السماء، واستماع كلام أهلها، واللمس،: المسُ، استعير للطلب لأن الماسّ طالب متعرّف، ﴿فوجدناها مُلِئتْ حَرَساً﴾ أي: حُراساً، اسم جمع، كخدم، مفرد اللفظ، ولذلك قيل: ﴿شديداً﴾ أي: قوياً، أي: وجدنا جمعاً أقوياء من الملائكة يحرسونها، ﴿و﴾ ملئت أيضاً ﴿شُهباً﴾ : جمع شهاب، وهي الشعلة المقتبسة من نار الكواكب، ﴿وأنَّا كنا نقعُدُ منه﴾ أي: من السماء، قبل هذا الوقت، ﴿مقاعِدَ للسمعِ﴾، لاستماع أخبار السماء، يعني: كنَّا نجد بعض السماء خالية من الحرس والشُهب قبل المبعث، فنقعد نسترق، وقد فسّر في الحديث صفة قعود الجن، وأنهم كانوا واحداً فوق واحد، فمتى احترق الأعلى طلع الذي تحته مكانه، فكانوا يسترقون الكلمة، فيُلقونها إلى الكُهان، ويزيدون معها، ثم يزيد الكُهانُ للكلمة مائة كذبة.
هذا قبل المبعث، وأمّا بعده فأشار إليه بقوله: ﴿فمَن يستمعِ﴾ ؛ يريد الاستماع ﴿الآنَ﴾ بعد المبعث ﴿يجدْ له شِهَاباً رصداً﴾ أي: شهاباً راصداً له ولأجله، يصده عن الاستماع، أو هو اسم جمع لراصد، على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم، وهم الملائكة الذين يرجمونهم بالشُهب، ويمنعونهم من الاستماع، والجمهور على أن ذلك لم يكون قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان الرجم في الجاهلية، ولكن الشياطين كانت تسترق في بعض الأوقات، فمُنعوا من الاستراق أصلاً بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: وهذا هو الظاهر، وأنّ الرمي كان موجوداً قبل البعثة، إلاَّ أنه قليل، وأشعار الجاهلية محشوة بذلك. انظر الثعلبي. ورُوي في بعض الأخبار: أن إبليس كان يسترق السمع من السموات، فلما وُلد عيسى عليه السلام وبُعث، حُجبت الشياطين عن ثلاث سموات، فلما وُلد محمد ﷺ حُجبت عن السموات كلها، وقُذفت بالنجوم، هـ.
وذكر أبو جعفر العقيلي، بإسناد له إلى لهب بن مالك، قال: حضرت مع رسول الله ﷺ فذكرت عنده الكهانة، فقلت: بأبي أنت وأمي؛ نحن أول مَن عرف حراسة السماء، ورصد الشياطين، ومنعهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك أنا جئنا إلى كاهن لنا، يُقال له " خطل "، وكان شيخاً كبيراً، قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سننة، فقلنا: يا خطل؛ هل عندك علم بهذا النجوم التي يُرمى بها، فإنّا قد فزعنا منها، وخفنا سوءَ عاقبتها، فقال: ائتوني بسَحَر أُخبركم الخبر، ألِخَيْر أم ضرر، أم لأمن أو حذر،
155
فأتيناه غداً عند السحَر، فإذا هو قائم على قدميه، شَاخص إلى السماء بعينيه، فناديناه: يا خطل، فأومأ إلينا: أن أمسكوا، فأنقضّ نجم عظيم من السماء، وصرخ الكاهن رافعاً صوته: أصابه إصابة، خامره عقابه، عاجله عذابه، أحرقه شهابه، ثم قال: يا مَعشَرَ قحطان، أخبركم بالحق والبيان، أُقسم بالكعبة والأركان، لمُنع السمع عُتَاةٌ الجان، لِمولود عظيم الشأن، يُبعث بالتنزيل والقرآن، وبالهدى وفاصل الفرقان، يَمنع من عبادة الأوثان. فقلنا: ما ترى لقومك؟ فقال: أرى لقومي ما أرى لنفسي، أن يتبعوا خير نبي الإنس، برهانه مثل شعاع الشمس، يُبعث من مكة دارَ الحُمْس، يحكم بالتنزيل غير اللبس، فقلنا: وممَّن هو؟ فقال: والحياة والعيش، إنه لمن قريش، ما في حلمه طيش، ولا في خَلقه هيش، يكون في جيش، وأيّ جيش!! فقلنا: بَيِّن لنا مِن أي قريش هو؟ فقال: والبيت ذي الدعائم، والديار والحمائم، إنه لمن نجل هاشم، من معشرٍ أكارم، يُبعث بالملاحم، وقتلِ كل ظالم، هذا البيان، أخبرني به رئيس الجان، ثم قال: الله أكبر، جاء الحق وظهر، وانقطع عن الجن الخبر. هـ.
﴿وأنَّا لا ندري أَشَرٌّ أُريد بمَن في الأرض﴾ بحراسة السماء، ﴿أم أراد بهم ربُّهم رشداً﴾ ؛ خيراً ورحمة، ونسبة الخير إلى الله تعالى دون الشر من الآداب الشريفة القرآنية، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ [الشعراء: ٨٠] وقوله: ﴿مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ﴾ [النساء: ٧٩] بعد أن ذكر ما في نفس الأمر بقوله: ﴿قُلْ كُلٌ مِنْ عِندِ اللهِ﴾ [النساء: ٧٨].
الإشارة: إذا كان اللهُ تعالى قد حفظ السماء من استراق السمع، فقلوب أوليائه أولى بأن يحفظها من خواطر السوء، فإذا تَوَلَّى عبداً حَفِظ قلبه من طوارق الشك، وخواطر التدبير، وسوء الأدب مع الربوبية، فيملؤه باليقين والطمأنينة، ويهبُّ عليه برد الرضا ونسيم التسليم، فيخرج عن مراد نفسه إلى مراد مولاه، في كل وجهة وعلى كل حال. جعلنا الله مِن أهل هذا القبيل، بمنِّه وكرمه.
يقول الحق جلّ جلاله، في مقالة الجن: ﴿وأنَّا منا الصالحون﴾ أي: الموصوفون بصلاح الحال، في شأن أنفسهم مع ربهم، وفي معاملتهم مع غيرهم، ﴿ومنا دونَ ذلك﴾
156
أي: ومنا قوم دون ذلك، وهم المقتصدون في الصلاح، غير الكاملين فيه على الوجه المذكور، لا في الإيمان والتقوى، كما يتوهم، فإن هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن، كما يُعرب عنه قوله تعالى: ﴿كنا طرائِقَ قِدداً﴾ أي: مذاهب متفرقة، وأدياناً مختلفة، وأما حالهم بعد استماعهم، فسيحكي بقوله تعالى: ﴿وأنا لَمَّا سمعنا الهدى... ﴾ الخ، أي: كنا قبل هذا ذوي طرائق، أي: مذاهب ﴿قِدَداً﴾ أي: متفرقة مختلفة، جمع قِدّة، من: قَدَّ إذا شقّ، كقِطعة من قطع. قاله أبو السعود.
وقال الثعلبي: ﴿وأنَّا منا الصالحون﴾ السبعة الذين استمعوا القرآن، ﴿ومنا دون ذلك﴾ دون الصالحين، ﴿كنا طرائق قددا﴾ أهواء مختلفة، وفِرقاً شتى، كأهواء الإنس، قيل: وقوله: ﴿وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك﴾، يعنون بعد استماع القرآن، أي: منا بررة أتقياء، ومنا دون البررة، وهم مسلمون، وقيل: معناه: مسلمون وغير مسلمين، قال المسيب: كانوا مسلمين ويهوداً ونصارى، وقال السدي: ﴿طرائق قددا﴾ قال: في الجن مثلكم، قدرية، ومرجئة، ورافضة، وشيعة. هـ. والحاصل: أن " دون " صفة لمحذوف، وهي إمّا أن تكون بمعنى الأدون، فيكون الجميع مسلمين، لكنهم متفاوتون، أو بمعنى " غير " فيكون المعنى: منا المسلمون ومنا غير المسلمين، كنا مذاهب متفرقة؛ نصارى ويهود ومجوس كالإنس، والظاهر: أنه قبل استماع القرآن، بدليل ما يأتي في قوله: ﴿وأنَّا لمَّا سمعنا الهُدى... ﴾ الخ.
﴿وأنَّا ظننا﴾ أي: تيقَّنَّا ﴿أن لن نُّعْجِزَ اللهَ﴾ أي: أن الشأن لن نفوت الله ونسبقه، و ﴿في الأرض﴾ : حال، أي: لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ﴿ولن نُّعجِزَه هَرَباً﴾ : مصدر في موضع الحال، هاربين منها إلى السماء، أي: فلا مهرب منه تعالى إن طلبنا، لا في أرضه ولا في سمائه. ﴿وأنَّا لمَّا سمعنا الهُدى﴾ ؛ القرآن ﴿آمنا به﴾ ؛ بالقرآن، أو بالله تعالى، ﴿فمَن يؤمن بربه فلا يخافُ﴾ أي: فهو لا يخاف ﴿بَخْساً﴾ ؛ نقصاً ﴿ولا رَهَقَا﴾ أي: ولا ترهقه ذلة، كقوله: ﴿وَلآ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلآ ذِلَّةُ﴾ [يونس: ٢٦]، وفيه دليل على أنَّ العمل ليس من الإيمان، وأنَّ المؤمن لا يخلد في النار.
﴿
وأنَّا منا المسلمون﴾
؛ المؤمنون، ﴿ومنّا القاسِطون﴾ ؛ الجائرون عن طريق الحق، الذي هو الإيمان والطاعة، وهم الكفرة ﴿فمَن أسلم فأولئك تَحَروا رَشَداً﴾ ؛ طلبوا هدى. والتحرّي: طلب الأحرى، أي الأَولى، وجمع الإشارة باعتبار معنى " مَن "، ﴿وأمَّا القاسطون﴾ ؛ الحائدون عن الإسلام، ﴿فكانوا﴾ في علم الله ﴿لِجهنم حَطَباً﴾ ؛ وقوداً، وفيه دليل على أنَّ الجنِّي الكافر يُعذّب في النار وإن كان منها، والله أعلم بكيفية عذابه، وقد تقدّم أنّ المشهور أنهم يُثابون على طاعتهم بالجنة، قال ابن عطية: في قوله تعالى: ﴿فمَن أسلم..﴾ الخ، الوجه فيه: أن تكون مخاطبة مِن الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما بعده من الآيات. هـ.
157
﴿وأن لو استقاموا﴾ أي: القاسطون ﴿على الطريقة﴾ ؛ طريقة الإسلام ﴿لأسْقيناهم﴾ المطر ﴿ماءً غَدَقاً﴾ أي: كثيراً، والمعنى: لوسّعنا عليهم الرزق. وذكر الماء الغَدَق؛ لأنه سبب سعة الرزق، ﴿لِنفتنَهم فيه﴾ ؛ لنختبرهم فيه كيف يشكرون ما خُوِّلوا منه. وفي الحديث القدسي يقول الله عزّ وجل: " لَوْ أنَّ عِبادِي أطاعوني لأسْقَيتُهم المطرَ باللَّيْل، وأَطْلَعتُ عليهمُ الشمس بالنهار، ولم أًسمِعهم صوت الرعد "، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أّنَّ أّهْلَ الْقُرَىءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ﴾ [الأعراف: ٩٦]، وقيل: المعنى: وأن لو استقاموا على طريقة الكفر لأسقيناهم ماءً غدقاً، استدراجاً، ﴿لِنفتنَهم فيه﴾ فإذا لم يشكروا أهلكناهم، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَلَوْلآ أّن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةَ وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا... ﴾ [الزخرف: ٣٣] الخ. والأول أظهر، بدليل قوله: ﴿ومَن يُعرض عن ذكر ربه﴾ ؛ القرآن أو التوحيد أو العبادة، ﴿نسلكه﴾ ؛ ندخله، أو يدخله الله ﴿عذاباً صعداً﴾ ؛ شاقًّا صعباً، يعلو المعذّب ويغلبه ويصعد عليه، ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما تصَعَّدني شيءٌ ما تصعّدتني خِطبة النكاح، أي: ما شقَّ عليّ. وهو مصدرٌ وُصف به، مبالغة، فعلى قول ابن عطية أنَّ قوله تعالى: ﴿فمَن أسلم﴾ من مخاطبة الله لنبيه عليه السلام، فيكون قوله: ﴿وأن لو استقاموا﴾ من تتمة الخطاب، فلا تقدير، وإذا قلنا: هو من قول الجن، فالتقدير: وأوحي إليَّ أن لو استقاموا... الخ.
الإشارة: تقدّم أنَّ الجن فيهم الصالحون والعارفون، إلاّ أنَّ معرفة الآدمي أكمل؛ لاعتداله، وأما دوائر الأولياء من الأقطاب، والأوتاد، والنقباء، والنجباء، وغير ذلك، فلا تكون إلاّ من الإنس؛ لشرفهم. قوله تعالى: ﴿وأنا ظننا ألن نُعجز اللهَ في الأرض... ﴾ الخ، أي: تيقَّنا ألاّ مهرب منه، فرجعنا إليه اختباراً، فنحن ممن انقاد إليه بملاطفة الإحسان، لا بسلاسل الامتحان، ﴿وأنَّا لمّا سمعنا الهُدى آمنا﴾ أي: أجبنا الداعي بلا تلَعْثم ولا تردد، وكذا في كل داعٍ بعد الداعي الأكبر، فيكون السابقون في كل زمان، وهؤلاء سابِقو الجن ومقربوهم، فمَن يؤمن بربه، ويتوجه إليه، فلا يخاف نقصاً ولا ذُلاًّ، بل كمالاً وعِزًّا، من أي فريق كان، وأنّا منا المسلمون المنقادون لأحكامه تعالى، التكليفية والتعريفية، وهي الأحكام القهرية، فمَن استسلم ورَضِي فقد تحرّى رشداً، ومَن قنط وسخط كان لجهنم حطباً، وأن لو استقاموا على الطريقة المرضية بالرضا والتسليم، وترك الاختيار؛ لأسقيناهم من خمرة الأزل، ومن ماء الحياة، ماءً غدقاً، تحيا به قلوبهم وأرواحهم، فيتنعّمون في شهود الذات الأقدس في الحياة وبعد الممات. قال القشيري: الاستقامة تقتضي إكمالَ النعمةِ، وإكساب الراحة، والإعراضُ عن الله يُجب تَنَقُّصَ النعمة ودوام العقوبة. هـ.
158
وقوله: ﴿لِنفتنهم﴾ ؛ لنختبرهم، مَن يعرف قدرها فيشكر، أو لا يعرف قدرها فيُنكر، فيُسلب من حيث لا يشعر. والله تعالى أعلم.
﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ... ﴾
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وأنَّ المساجدَ لله﴾ أي: ومن جملة ما أُوحي إليَّ: أنَّ المساجد، أي: البيوت المبنية للصلاة فيها هي لله، وقيل: معناه: ولأنّ المساجد لله ﴿فلا تدعوا﴾، على أنَّ اللام متعلّقة بـ " تدعوا "، أي: فلا تدعوا ﴿مع الله أحدا﴾ في المساجد؛ لأنها خالصة لله ولعبادته، فلا تعبدوا فيها غيره تعالى، ولا تفعلوا فيها إلا ما هو عبادة. وقيل: المراد: المسجد الحرام، والجمع؛ لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة، أو لأنه قبلة المساجد، وقيل: الأرض كلها؛ لأن جُعلت للنبي ﷺ مسجداً وطهوراً، وقيل: أعضاء السجود السبعة التي يسجد عليها العبد، وهي: القدمان، والركبتان، واليدان، والوجه، يقول: هذه الأعضاء أنعم الله بها عليك، فلا تسجد عليها لغيره، فتجحد نِعَمه، ولا تذلها لغير خالقها. فإن جعلت المساجد المواضع، فواحدها مسجِد بكسر الجيم، وإن جعلت الأعضاء، فبفتح الجيم.
﴿
وأنه﴾
أي: ومما أوحي إليّ أن الشأن ﴿لمَّا قام عبدُ الله﴾، وهو محمد ﷺ ﴿يدعوه﴾ ؛ يعبده في الصلاة، ويقرأ القرآن في صلاة الفجر، كما تقدم في الأحقاف، ولم يقل: نبي الله، أو رسول الله؛ لأنَّ العبودية من أشرف الخصال، أو: لأنه لمّا كان واقعاً في كلامه ﷺ عن نفسِه جيء به على ما يقتضيه التواضع، أو: لأنَّ عبادة عبد الله ليست بأمر مستبعد حتّى يجتمعوا عليه، كما قال: ﴿كادوا﴾ أي: كاد الجن ﴿يكونون عليه لِبداً﴾ ؛ جماعات متراكبين من ازدحامهم عليه، تعجُّباً مما رأوا من عبادته، واقتداء أصحابه به، أو إعجاباً مما تلي من القرآن؛ لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا بنظيره. وقيل: معناه: لمَّا قام عليه السلام يعبد اللهَ وحدَه مخالفاً للمشركين، كادوا يزدحمون عليه متراكبين. واللبدّ: جمع لبدة، وهي ما تلبّد بعضه على بعض. وعن قتادة: تلبّدت الإنسُ والجنُّ على أن يُطفئوا نوره، فأبى اللهُ إلاَّ أن يُظهره على مَن ناوأه. قال ابن
159
عطية: قوله تعالى: (وأنه... ) إلخ، يحتمل أن يكون خطاباً من الله تعالى، وأن يكون إخباراً عن الجن.
﴿قال إِنما أدعو﴾ أي أعبد ﴿ربي ولا أُشرك به﴾ في عبادتي ﴿أحداً﴾، فليس ذلك ببدع ولا بمستنكر يوجب التعجُّب أو الإطباق على عداوتي، وقرأ عاصم وحمزه " قل " بالأمر، ثم تبرّأ من ملِك الضر والنفع لأحد ولا لنفسه، وأنَّ ذلك لله وحده، فلا يُعبد إلاَّ إياه، فقال: ﴿قل إِني لا أملك لكم ضرًّا ولا رَشَداً﴾، والأصل: لا أملك لكم ضرا ولا نفعاً، ولا غيًّا ولا رشداً، فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر، أو أراد بالضر: الغي، أي: لا أستطيع أن أضركم ولا أنفعكم؛ إذ ليس من وظيفتي إلاَّ الإنذار. ﴿قل إِني لن يُجيرني من الله أحدٌ﴾ أي: لن يدفع عني عذابه إن عصيته، كقول صالح عليه السلام: ﴿فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ﴾ [هود: ٦٣]، ﴿ولن أجد من دونه مُلتحداً﴾ ؛ مُلتجئاً ﴿إلا بلاغاً من الله﴾، استثناء من ﴿لا أملك﴾ أي: لا أملك لكم شيئاً إلا تبليغ الرسالة، و ﴿قل إني لن يجيرني﴾ : اعتراض لتأكيد نفي الاستطاعة عن نفسه، وبيان عجزه، وقيل: ﴿بلاغاً﴾ : بدل من ﴿ملتحداً﴾، أي: لن أجد من دونه ملجاً إلاّ أن أُبلّغ عنه ما أرسلني به، أي: لا ينجيني إلاَّ أن أُبلغ عن الله ما أُرسلت به فإنه ينجيني، وقوله: ﴿ورسالاته﴾ : عطف على " بلاغاً "، كأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات، أي: إلا أن أُبلغ عن الله، فأقول قال الله كذا، ناسباً قوله إليه، وأن أُبلّغ رسالاته التي أرسلني بها، بلا زيادة ولا نقصان و (مِن) ليست صلة للتبليغ، إنما هي بمنزلة (مِن) في قوله: ﴿بَرَآءَةٌ مِّنَ اللهِ﴾ [التوبة: ١] أي: بلاغاً كائناً من الله وتبليغ رسالاته، قاله النسفي. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وأنَّ مساجد الحضرة لله، والحضرة: شهود الذات الأقدس وحدها، فلا تدعوا مع الله أحدا، أي: لا تَروا معه غيره، فتخرجوا من حضرته، وأنه لما قام عبدُ الله، وهو الداعي إلى الله في كل زمان يدعوه، ويدعو إليه، كادوا يكونون عليه لِبداً، إمّا متعجبين منه، أو مقتبسين من أنواره، قال: إنما أدعو ربي ولا أُشرك به شيئاً، قل يا أيها الداعي لتلك اللبد، لا أملك لكم من الله غيًّا ولا رشداً، إلاَّ بلاغاً، أي إنذاراً وتبليغ ما كُلفت به، فإنما أنا أدعو، والله يهدي على يدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم، قل يا أيها الداعي: إني لن يُجيرني من الله أحد إن قَصّرت في الدعوة أو أسأت الأدب، ولن أجد من دونه ملتجأ. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وبال مَن ردّ الرسالة، فقال:
{... وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً حَتَّىا إِذَا
160
رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِيا أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيا أَمَداً عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىا كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}. يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ومَ يعص اللهَ ورسولَه﴾ في رد رسالته، وعدم قبول ما جاء به الرسول، ﴿فإِنَّ له نارَ جهنمَ﴾، وقُرىء بفتح الهمزة، أي: فحقه، أو فجزاؤه أنّ له نارَ جهنم، ﴿خالدين فيها﴾ أي: في النار ﴿أبداً﴾، وحّد في قوله " له " وجمع في " خالدين " للفظ (من) ومعناه. ﴿حتى إِذا رَأَوا ما يوعدون﴾، متعلق بمحذوف، يدل عليه الحال من استضعاف الكفار لأمره صلى الله عليه وسلم، واستقلالهم لعدده، كأنه قيل: لا يزالون على ما هم عليه، ﴿حتى إِذا رَأَوا ما يُوعدون﴾ من فنون العذاب في الآخرة ﴿فسيعلمون﴾ عند حلول العذاب بهم ﴿مَن أَضْعَفْ ناصراً وأقلُّ عدداً﴾ أهم أم المؤمنون؟ بل الكفار لا ناصر لهم يؤمئذ، والمؤمنون ينصرهم الله ويُعزّهم. وحُمل ﴿ما يوعدون﴾ على ما رأوه يوم بدر، ويُبعده قوله تعالى: ﴿قل إِن أدرِي أقريب ما تُوعَدُون﴾ من العذاب، ﴿أم يجعل له ربي أمداً﴾ ؛ غاية بعيدة، يعني: أنكم معذَّبون قطعاً، ولكن لا أدري أهو حالّ أم مؤجّل؟
﴿
عالِمُ الغيبِ﴾
أي: هو عالم الغيب، ﴿فلا يُظْهِر﴾ ؛ فلا يُطلع ﴿على غيبه أحدا إِلاّ مَن ارتضى من رسولٍ﴾ أي: إلاَّ رسولاً قد ارتضاه لِعلْمِ بعض الغيب؛ ليكون إخباره عن الغيب معجزةً له، والولي إذا أخبر بشيء فظهر فهو غير جازم به، وإنما أخبر به بناءً على رؤيا، أو بالفراسة، أو بتجلِّ قلبي، على أنّ كل كرامة لوليّ فهي معجزة لنبيه. قال بعضهم: وفي هذه الآية دلالة على تكذيب المنجّمة، وليس كذلك، فإنَّ فيهم مَن يَصدق خبره، وكذلك المتطببة، فإنهم يعرفون طبائع النبات، وذا لا يُعرف بالتأمُّل، فعلم بأنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره، وبقي علمه في الخلق. قاله النسفي. فتحصّل: أنّ إطلاع النبي على الغيب قطعي، وغيره ظني.
وقال أبو السعود: وليس في الآية ما يدل على نفي كرامات الأولياء المتعلقة بالكشف، فإنّ اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكشف بالرسل لا يستلزم عدم حصول مرتبةٍ ما من تلك المراتب لغيرهم أصلاًن ولا يدعي أحدٌ لأحدٍ من الأولياء ما في رتبة الرسل عليهم السلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح. هـ. وفيه تعريض بالزمخشري، فإنه استدل بالآية على نفي كرامات الأولياء، قال: لأنَّ الله خصّ الاطلاع على الغيب بالرسل دون غيرهم. قال بعض العلماء: ولا غرابة في إنكار معظم المعتزلة لكرامات الأولياء؛ إذ هم لم يُشاهدوا في جماعتهم الضالة المضلة ولياً لله تعالى قط، فكيف يعرفون الكرامة؟ !!. هـ.
161
﴿فإنه يَسْلُكُ﴾ ؛ يدخل ﴿مِن بين يديه﴾ أي: الرسول، ﴿ومِن خلفه﴾ عند إظهاره على غيبه، ﴿رَصَداً﴾ ؛ حفظة وحَرَساً من الملائكة يحفظونه من تعرُّض الشيطان، لما أظهره عليه من الغيوب، ويعصمونه من وساوسهم، وتخاليطهم حتى يُبلغ الوحي، ﴿ليعلم﴾ اللهُ عِلْمَ شهادة ﴿أن قد أَبلغوا﴾ أي: الرسل ﴿رسالات ربهم﴾ كاملة، بلا زيادة ولا نقصان، إلى المرسَل إليهم، أي: ليعلم ذلك على ظهور، وقد كان يعلم ذلك قبل وجوده. ووحّد الضمير في " يديه وخلفه "؛ مراعاة للفظ (مَن)، وجمع في (أَبلَغوا) لمعناه، و " أن " مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن، والجملة خبرها، ﴿وأحاط﴾ الله تعالى ﴿بما لديهم﴾ أي: بما عند الرسل من العلم ﴿وأحْصَى كُلَّ شيءٍ عَدَداً﴾، من القطر، والرمل، وورق الأشجار، وزبد البحر، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه وكلامه؟ ! و " عدداً ": حال، أي: علم كلّ شيءٍ معدوداً محصوراً، أو مصدر، أي: أحصاه إحصاءً.
الإشارة: ومَن يعص اللهَ ورسولَه، أو خليفته الداعي إلى الله بطريق التربية النبوية، فإنَّ له نار القطيعة، خالدين فيها أبداً، وقد كانوا في حال حياتهم يستظهرون عليه بالدعاوى الفارغة، وكثرة الأتباع، حتى إِذا رَأوا ما يُوعدون من أمارات الموت، فسيعلمون مَن أضعف ناصرا وأقل عددا، قل: إن أدري أقريب ما تُوعدون من الموت، أم يجعل له ربي أمداً، ولا بد أن ينتهي، ويقع الرحيل إلى دار تنكشف فيها السرائر، ويُفضح فيها الموعود. عالم الغيب، أي: يعلم ما غاب عن الحس من أسرار ذاته وأنوار ملكوته، أي: يعلم أسرار المعاني القائمة بالأواني، فلا يظهر على غيبه أحدا، أي: لا يكشف عن اسرار ذاته في دار الدنيا إلاّ لمَن ارتضى من رسول، أو نائبه، وهو العارف الحقيقي، فإنه يسلك مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خلفه رَصَداً، أي: يحفظه من جميع القواطع، من كل جهاته، حتى يوصله إلى حضرة أسرار ذاته، ليظهر أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ودعوا الناس إلى معرفة ذاته، وقد أحاط تعالى بكل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
162
سورة المزمل
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها المزَّمِّلُ﴾ أي: المتزمّل، وهو الذي تزمّل في ثيابه، أي: التفّ بها، بإدغام التاء في الزاي. قال السهيلي: المزمّل: اسم مشتق من الحال التي كان عليها ﷺ حين الخطاب، وكذلك المُدَّثِر. وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان: إحداهما الملاطفة؛ فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفةَ المخاطَب، وتَرْكَ عتابه، سَمَّوه باسم مشتق من حالته، كقوله ﷺ لعليّ حين غاضب فاطمة: " قم أبا تراب " إشعاراً له أنه غير عاتب عليه، وملاطفةَ له. والفائدة الثانية: التنبيه لكل متزمّل، راقد ليله، لينتبه إلى قيام الليل وذكرِ الله فيه؛ لأنّ الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه المخاطَب، وكل مَن عمل بذلك العمل، واتصف بتلك الصفة. هـ.
وكان ﷺ ذات ليلة متزمِّلاً في ثيابه نائماً، فنزل جبريل يأمره بقيام الليل بقوله: ﴿قَمْ الليلَ﴾ أي: قُم للصلاة بالليل، فـ " الليل " نصب على الظرفية، و ﴿إلاَّ قليلاً﴾ : استثناء من الليل، و ﴿نِصْفَه﴾ : بدل من " الليل " الباقي بعد الثنيا، بدل الكل، أي: قُم نصفه، أو: مِن " قليلاً "، والتعبير عن النصف المخرج بالقليل لإظهار كمال الاعتداد بشأن الجزاء المقارن للقيام، والإيذان بفضله، وكون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب.
163
﴿أو انقُصْ منه﴾ ؛ من النصف نقصاً ﴿قليلاً﴾ إلى الثلث، ﴿أو زِدْ عليه﴾، على النصف إلى الثلثين، فالمعنى: تخييره ﷺ بين أن يقوم نصفَه أو أقلّ منه أو أكثر. وقيل: " نصفه " بدل من " الليل "، و " إلاّ قليلاً " مستثنى من النصف، فالضمير في " منه " و " عليه " للنصف، والمعنى: التخيير بين أمرين، بين أن يقوم أقل من نصف على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين، وهما النقصان من النصف، والزيادة عليه، والذي يليق بجزالة التنزيل هو الأول. أنظر أبا السعود.
والجمهور: أن الأمر هنا للندب، وقيل: كان فرضاً وقت نزول الآية، وقيل: كان فرضاً على النبي ﷺ خاصة، وبقي كذلك حتى تُوفي.
﴿وَرَتِّلِ القرآن﴾ في أثناء قيامك بالليل، أي: اقرأه على تُؤدة وتبيين حروفٍ ترتيلاً بليغاً بحيث يتمكن السامع مِن عَدٍّها، من قولهم: ثغر رَتَل: إذا كان مفلّجاّ. وترتيلُ القرأن واجب، فمَن لم يرتِّله فهو آثم إذا أخلَّ بشيء من أداء التجويد، كترك الإشباع أو غيره. والمقصود من الترتيل: تدبُّر المعاني، وإجالة الفكر في أسرار القرآن. قال في الإحياء: واعلم أنّ الترتيل أشد تأثيراً في القلب من الهذرمة والاستعجال، والمقصود من القرآن: التفكُّر، والترتيلُ مُعين عليه. وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله.
﴿إِنَّا سنُلْقِي﴾ أي: سنُنزل ﴿عليك قولاً ثقيلاً﴾ وهو القرآن العظيم، المنطوي على تكاليف شاقة ثقيلة على المكلّفين، أو: ثقيلاً على المنافقين، أو: ثقيلاً لرزانة لفظه، ومتانة معناه، أو: ثقيلاً على المتأمِّل؛ لافتقاره إلى مزيد تأمُّل وتفرُّغ للسر، وتجريدٍ للنظر، أو ثقيلاً في الميزان، أو ثقيلاً تلقيه من جبريل، فقد كان عليه السلام ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البردِ، فَيَفْصِم عنه، وإنّ جبينه لَيتَفَصَّدُ عَرَقاً.
﴿إِن ناشئةَ الليلِ﴾ أي: قيام الليل، مصدر من " نشأ " إذا قام ونهض، على وزن فاعلة، كالعافية العاقبة، أو: إنَّ النفس التي تنشأ مِن مضجعها إلى العبادة، أي: تنهض، أو: إن العبادة التي تنشأ بالليل، أي: تحدث، أو: ساعات الليل؛ لأنها تنشأ ساعة فساعة، وكان زين العابدين يُصلّي بين العشاءين ويقول: هذه ناشئة الليل. قلت: وهذا وقت كان السلف يحرصون على عمارته بأنواع العبادات؛ لأنه يمحوا ظلمة النهار التي تُكتسب من شغل الدنيا. ﴿هي أشَدُّ وَطْأً﴾ أي: موافقة للقلب. وقرأ البصري والشامي (وِطاء) أي: وِفاقاً، أي: يوافق فيها القلبُ اللسانَ، وعن الحسن: أشدّ موافقة بين السر والعلانية؛ لانقطاع رؤية الخلائق وغيرها، أو: أشدّ ثباتَ قَدَم وكلفة، أي: أثقل على المصلي من صلاة النهار؛ لطرد النوم في وقته، من قوله عليه السلام: " اللهم اشْدُدْ وطْأَتَك على مُضَرَ " ﴿وأقْوَمُ قِيلاً﴾ أي: أصْوب مقالاً، وبه قرأ أنس، فقيل له: إنما هو
164
أقوم فقال: أقوم وأصوب واحد، وإنما كانت قراءة الليل أصوب قولاً؛ لقلة خطأ اللسان فيها؛ لتفرُّغه من ثقل الطعام، وقيل: المعنى: أثبت قراءةً؛ لحضور القلب؛ لهدوّ الأصوات، وانقطاع الحركات.
﴿
إِنّ لك في النهار سَبْحاً طويلاً﴾
أي: تصرُّفاً وتقلُّباً في مهمّاتك، واشتغالاً بتعليم أمتك، فتفرّغ بالليل لعبادة ربك. ﴿واذكر أسْمَ ربك﴾ أي: دُم على ذكره في الليل والنهار، على أي وجهٍ، من تسبيح وتهليل وتكبير، وقراءة قرآن، وتدريس علم. ﴿وتبتلْ إِليه﴾ أي: انقطع إلى عبادته عن كل شيءٍ، بمجامع الهمة، واستغراق العزيمة. والتبتُّل: الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره، وقيل: رفض الدنيا وما فيها، والتماس ما عند الله. وأكّده بقوله: ﴿تبتيلا﴾ زيادةً في التحريض، مع ما فيه من رعاية الفواصل.
﴿ربُّ المشرقِ والمعربِ﴾ أي: هو رب، أو: مبتدأ خبره: ﴿لاَ إِله إِلاَّ هُوَ﴾، ومَن قرأه بالجر فبدل من " ربك "، وقيل: على إضمار القسم، وجوابه: لاَ إله إِلاَّ هُوَ، أي: وربِّ المشرق لاَ إله إِلاَّ هُوَ، كقولك: والله لا أحد في الدار. ﴿فاتَّخِذْه وَكِيلا﴾ أي: وليًّا وكفيلاً بما وعدك من النصر والعز. والفاء لترتيب ما قبله، أي: إذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب، وأن لاَ إله إِلاَّ هُوَ، فاتخذه كفيلاً لأمورك. ﴿واصبرْ على ما يقولون﴾ في جانبي من الصاحِبة والولد، وفيك مِن الساحر والشاعر، ﴿واهجرهم هَجْراً جميلاً﴾ بأن تُجانبهم وتداريَهم ولا تجافهم، بل كِلْ أمرهم إلى ربهم، كما يُعرب عنه ما بعده، أون: جانبهم بقلبك، وخالطِهم بجسمك مع حسن المخالطة وترك المكافأة، وقيل: هو منسوخ بآية القتال.
الإشارة: يا أيها المتزمّل بالعلوم والمعارف والأسرار، قُم الليل شكراً لِما أُسدي إليك من النعم الغزار، ولذلك لمّا امتثل هذا الأمر بغاية جهده حتى تفطّرت قدماه، قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً "، وقيام الليل لا يخص بالصلاة، بل لكل مقام مقال، فقيام العُبَّاد والزُهَّاد للتهجد والتلاوة والأذكار والاستغفار بالأسحار، وقيام العارفين لفكرة الشهود والاستبصار، وهي صلاة القلوب الدائمة.
وقوله تعالى: ﴿ورتِّل القرآنَ ترتيلا﴾ خطاب لأهل التهجُّد، وهم ألوان مختلفة، فمنهم مَن يقطع الليل في سورة أو آية يُرددها، وهم أهل الخوف المزعِج، أو الشوق المقلِق، ومنهم مَن يختم القرآن في مدة قليلة، فمنهم مَن كان يختمه في كل ليلة في ركعة، ومنهم مَن كان يختمه في ليلة مرتين، ومنهم مَن كان يختمه بين الظهر والعصر، أو بين المغرب والعشاء. وكان أبو حنيفة والشافعي يختمانه في رمضان ستين مرة، وابن القاسم صاحب مالك تسعين مرة، وابن عباس مائة مرة، وكان سليمان بن عمير يختمه
165
ثلاث ختمات في كل ليلة، ويجامع أهله بعد كل ختمة. وكان رجل بالمشرق، يُقال له " أبو عيسى التلمساني "، يختم القرآن بين اليوم والليلة اثنتي عشرة ألف مرة، فذكر ذلك بمدينة سبتة، بحضور الفقيه العزفي، فقال الفقيه: لون كان يقول: القرآن القرآن ما أتمّ اثنتي عشر ألف مرة، فاغتاظ الرجل الذي نقل ذلك، فخرج إلى المشرق، فأتى ببينةٍ مُصحِّحة من قاض إلى قاض بصحة ذلك.
قلت: وهذا من باب الخوارق التي تكون للصالحين، تطوي لهم مسافة الكلام كما تُطوى لهم مسافة الزمان والمكان، وقد كان داود عليه السلام تُسرج له دابته، فيقرأ الزبور قبل أن تُسرج، كما في الصحيح، وذكر الفرغاني في شرح التائية: أنَّ رجلاً كان يختم القرآن بين الحِجر إلى الركن اليماني، فأنكر بعضٌ ذلك عليه، فأخذ بأذنه وقرأ فيها من الفاتحة إلى الختم، وهو يسمع حرفاً حرفاً، فسبحان القادر على كل شيء؟ !.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّا سنُلقي عليك قولاً ثقيلا﴾، قال القشيري: (ثقيلاً) أي: له خطْر، ويقال: لا يقوى عليه إلاَّ مَن أيّد بقوة سماوية، ورُبّي في حجر التقريب. هـ. قال الورتجبي: وكيف لا يثقل قولهُ سبحانه وهو قديم، وأجدر أن تذوب تحت سطوات عزيته الأرواح والأشباح والأكوان والحدثان، بل هو بذاته يحمل صفاته لا غير، وكان عليه السلام مؤيداَ بالاتصاف بالحق، فكان يحمل الحق بالحق. هـ. المراد منه. (إنَّ ناشئة الليل) أي: نشأة الفكرة في الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً، أي: موافقة، وغرقاً في بحر الذات، وتيار الصفات؛ لتفرغ القلب حينئذ من شواغل الحس. وكان الشيخ " أبو يزيد " يخرج كل ليلة إلى الصحراء، ويبيت واقفاً على أطراف قدميه، شاخصاً ببصره إلى السماء، فقال لمَن رآه كذلك: دَوَّرَني الحق تعالى في الفلك العلوي والسفلي، وأطلعني على عجائب ملكوته... الخ كلامه، وما كانت إلاَّ فكرته غاصت في بحر الذات، ودارت مع التجليات العلوية والسفلية، ووقوفه في ذلك لغلبة الحال، ولله رجال في زماننا هذا يقلبون الوجود، ويَدُورون معه، وهم على فُرشهم، لتمكُّنهم من الشهود بلا تعب.
وقوله تعالى: ﴿إن لك في النهار سَبْحاً طويلا﴾ السَبح هو العوم، أي: إنَّ لك في النهار عوماً طويلاً في بحار الأحدية، فاستغرق ليلك ونهارك في ذلك، واذكر اسم ربك بقلبك وروحك وسرك، وهو عين السَبْح المتقدم، وتبتّل إليه تبتيلاً في الظاهر والباطن، فبالتبتُّل يحصل الوصول، وبذكر الاسم باللسان يحصل الذكر للجنان، ثم يسبح في بحر العيان. رب المشرق والمغرب، أي: مشرق العيان ومغرب قمر الإيمان، بسطوع شمس العيان. لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وكيلاً، وثِقْ به كفيلاً يعطك عطاءً جزيلاً، ويمنحك فخراً جليلاً، واصبر على ما يقولون في جانبك، فإنَّ الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور. ﴿واهجرهم هجراً جميلاً﴾، قال القشيري: أي: عاشِرهم بظاهرك، وبايِنْهم بسرِّك وقلبك، ويُقال: الهجرُ الجميل: ما يكون بحق ربك، لا بحظِّ نفسك. هـ.
166
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وَذَرْنِي والمكذِّبينَ﴾ أي: دعني وإيّاهم، وكِلْ أمرَهم إليّ، فإني أكفيكهم، والمراد رؤساء قريش، و " المكذِّبين ": مفعول معه، أو: عطف على الياء. ﴿أُولِي النَّعْمَةِ﴾ أي: أرباب التنعُّم، وهم صناديد الكفرة، فالنَّعمة بالفتح: التنعُّم، وبالكسر: ما يتنعّم به، وبالضم: المسرة. ﴿ومَهِّلْهُمْ قليلاً﴾ أي: إمهالاً قليلاً، أو زمناً قليلاً إلى يوم بدر، أو يوم القيامة.
﴿إنَّ لَدَيْنا﴾ للكافرين يوم القيامة، ﴿أنكالاً﴾ ؛ قيوداً ثِقالاً، جمع نِكْل، ﴿وجَحيماً﴾ ؛ ناراً محرقة ﴿وطعاماً ذا غُصَّةٍ﴾ الذي ينشب في الحلوق فلا يُساغ، يعني: الضريع والزقوم. ﴿وعذاباً أليماً﴾ ؛ مؤلماً يخلص وجعه إلى القلب. رُوي أنه ﷺ قرأ الآية فصعق، وعن الحسن: أنه أمْسى صائماً، فأُتي بطعام، فعرضت له هذه الآية، فقال: ارفعه، ووُضع عنده الليلة الثانية فعرضت له، فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة، فأخبر ثابت البناني وغيره، فجاؤوا، فلم يزالوا به، حتّى شرب شربةً من سَّوِيق.
وهذا العذاب واقع ﴿يَوْمَ ترجُف الأرضُ والجبالُ﴾ أي: تتحرّك حركةً شديدة مع صلابتها وارتفاعها، فالظرف منصوب بما في " لدينا " من معنى الفعل، أي: استقر للكفار كذا وكذا يوم ترجف... الخ. ﴿وكانت الجبالُ كَثِيباً﴾ ؛ رملاً مجتمعاً. من: كثب الشيء إذ جمعه، كأنه فعيل بمعنى مفعول. ﴿مَّهِيلاً﴾ ؛ سائلاً بعد اجتماعه.
﴿إنَّا أرسلنا إِليكم﴾ يا أهل مكة ﴿رسولاً﴾ وهو محمد ﷺ ﴿شاهداً عليكم﴾ ؛ يشهد يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان، ﴿كما أرسلنا إِلى فرعون رسولاً﴾ وهو موسى عليه السلام، ﴿فعصى فرعونُ الرسولَ﴾ الذي أرسلنا إليه، أي: عصى ذلك الرسول؛ لأنَّ النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى. ومحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف، أي: أرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه، كما يُعرب عنه قوله تعالى: ﴿شاهداً﴾ إرسالاً كائناً كإرسال موسى لفرعون، فعصاه، ﴿فأخذناه أخذاً وَبيلاً﴾ ؛ شديداً غليظاً. وإنما خص موسى وفرعون؛ لأنَّ خبرهما كان منتشراً بين أهل مكة؛ لأنهم كانوا جيران اليهود.
167
﴿فكيف تتقون إِن كفرتم﴾ أي: بقيتم على كفركم ﴿يوماً﴾ أي: عذاب يوم ﴿يجعلُ الوِلْدان﴾ من شدة هوله، وفظاعة ما فيه من الدواهي ﴿شِيباً﴾ جمع أشيب، أي: شيوخاً، إمّا حقيقة، أو تمثيلاً، وذلك أنَّ الهموم والأحزان إذا تفاقمت على المرء ضعفت قواه وأسرع فيه الشيب، فإذا قلنا: هو من باب التمثيل، يكون كقولهم في اليوم الشديد: يوم تشيب فيه نواصي الأطفال، وإذا قلنا حقيقة، فلعله ممن بلغ الحلم، وصَحِبه تفريط، وهذا الوقت الذي يُشيب الولدان هو حين يُقال لآدم عليه السلام: " أخْرِج بعثَ النار من ذريتك... " الحديث، فـ " يوماً " مفعول بكفرتم، أي: جحدتم، أو: بـ " تتقون "، أي: كيف تتقون عذاب يوم كذا إن كفرتم بالله، أو: ظرف، أي: فكيف لكم التقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا، و " يجعل " صفة ليوم، والعائد محذوف، أي: فيه. ﴿السماءُ مُنفَطِر به﴾ أي: السماء على عِظمها وإحكامها منفطر به، أي: متشققة مِن هوله، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ والتذكير لتأويل السماء بالسقف، أو: لإجرائه على موصوف مذكّر، أي: شيء منفطر، وعبّر عنها بذلك؛ للتنبيه على أنها تبدّلت، حقيقتها، وزال عنها اسمها ورَسمها، ولم يبقَ منها إلا ما يُعبر عنه بشيء. والباء في " به " للآله، يعني: أنها تتفطّر لشِدّة ذلك اليوم وهوله، كما ينفطر الشيء بما يفطر به. ﴿كان وعدُه﴾ بالبعث ﴿مفعولا﴾ لا شك فيه، فالضمير لله عزّ وجل، والمصدر مضاف إلى فاعله أول إلى مفعوله، وهو اليوم، والفاعل هو الله عزّ وجل. ﴿إِنَّ هذه تذكرةٌ﴾ أي: إنَّ هذه الآيات المنطوية على القوارع المذكورة موعظة، ﴿فمَن شاء اتَّخَذِ إِلى ربه سبيلا﴾ أي: فَمن شاء اتعظ بها، واتخذ طريقاً إلى الله تعالى بالإيمان والطاعة، فإنه المنهاج الموصَّل إلى مرضاته.
الإشارة: قال القشيري: فذرني والمكذّبين، القائلين بكثرة الوجود وتعدده. هـ. أي: مع أنه متحد، كما قال الشاعر:
هَذّا الوُجودُ وإن تَعَدَّدَ ظَاهِراً
وحَيَاتكُم ما فِيه إلا أَنْتُمُ
أُولي النِّعمة: الترفُّه، فطلبُ اللذات والتنعُّم شَغَلهم عن التبتُّل، حتى افترقت قلوبُهم وأرواحهم، وأشركوا مع الله غيره، و " مَهِّلْهُم قليلاً " أي: زمن عمرهم؛ لأنه قليل وإن طالت مدته؛ إذ لا فائدة فيه. إنَّ لدينا أنكالاً، أي: قيوداً من العلائق والعوائق تعلقهم وتعوقهم عن الوصول إلى أسرار التوحيد، وطعاماً ذا غُصةٍ يغص الروح عن شراب الحمرة؛ لضيق مسلكه بوجود العوائق، وعذاباً أليماً: البُعد والطرد عن باب حضرتنا وجناب كبريائنا. يوم ترجف أرض البشرية بهزها بذكر الله، وجبال العقل بتجلِّي أنوار الذات، فيصير هباءً منثوراً. ﴿إنَّا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم﴾، وهو الداعي إلى
168
هذه الأسرار التفريدية، كما أرسلنا إلى فراعين كل زمان رسولاً يدعوهم إلى الله، فعصى فرعونُ كل زمان رسولَه، وهو الخليفة عن الله ورسولِه صلى الله عليه وسلم، فأخذناه أخذاً وبيلاً، فاختطفته المنية من سعة القصور إلى ضيق القبور، فكيف تتقون الله حق تقاته، إن كفرتم يوم وقوفكم بين يدي الواحد القهار؟ يوم تشيب فيه الولدان خجلاً من الملك الديّان. السماءُ منفطر مِن هوله، حين يُحال بين المرء وعملِه، إذ ليس محلّ العمل، وإنما هو محل إظهار كرامات العمل، وحِيل بينهم وبين ما يشتهون، إنَّ هذه تذكرة بالغة، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً يوصله إليه اليوم، قبل أن يُحال بينه وبينه بسور الموت. وبالله التوفيق.
169
سورة المدثر
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها المدَّثِّر﴾ أي: المتدثر، أُدغمت التاء في الدال، أي: المتلفّف في ثيابه، من الدِّثار، وهو كلُّ ما كان من الثياب فوق الشعار، والشعار: الثوب الذي يلي الجسد. قيل: هي أول سورة نزلت، والصحيح: أن أول ما نزل: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِكَ... ﴾ [العلق: ١] إلى قوله ﴿... عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: ٥] ثم فتر الوحي نحو سنتين، فحزن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حتى جعل يأتي شواهق الجبال، فيريد أن يتردَّى منها، فأتاه جبريلُ عليه السلام، وقال: إنك نبي الله، فرجع إلى خديجة، فقال: دثِّروني وصُبوا عليَّ ماءً بارداً، فنزل: ﴿يا أيها المُدَّثر﴾، وقيل: سمع من قريش ما كرهه، فاغتم، فتغطّى بثوبه متفكراً، كما يفعل المغتم، فأمر ألاّ يدع إنذارهم وإن آذوه، فقال: ﴿قُمْ﴾ أي: من مضجعك، أو قيام عزم وتصميم، ﴿فأنذِرْ﴾ أي: فَحذِّر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا، أو فافعل الإنذار من غير تخصيص، كما يُنبىء عنه قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ [سبأ: ٢٨].
﴿وربَّك فَكَبِّرْ﴾ أي: خُص ربك بالتكبير، وهو التعظيم قولاً واعتقاداً، فلا يَكْبُرُ في عينك إلاّ الله، وقل عندما يعروك من غيره: الله أكبر. رُوي أنه لمّا نزل، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر " فكبَّرت خديجة وفرحت، وأيقنت أنه الوحي. وقد يُحمل على تكبير الصلاة، والفاء بمعنى الشرط، كأنه قيل: أيّ شيء حدث فلا تدع تكبيره.
172
﴿وثيابَك فطهِّرْ﴾ مما ليس بطاهر، فإنه واجب في الصلاة، فلا تصح إلاّ بها، ووَصْفُ كمالٍ في غيرها، وذلك بصيانتها عن النجاسات، وغسلها بعد إصابتها، أو قَصِّرْها مخالفةً للعرب في تطويلهم الثياب، وجرهم الذيول كِبراً، فإنَّ طولها يؤدي إلى جرها على القاذورات، وهو أول ما أُمر به ﷺ من ترك العادات المذمومة، وقيل: المراد تطهير النفس مما يُستقبح من الأفعال، ويُستهجن من الأحوال، يُقال: فلان طاهر الذيل والرداء، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق، ولأنَّ مَن طهر باطنه ظاهره غالباً. قال ابن العربي في أحكامه: والذي يقول: إنها الثياب المَجازية أكثر. هـ. ومَن قال: إنها الحسية استدل بها على وجوب غسل النجاسة للصلاة، وبه قال الشافعي، ومالك، في أحدى الروايات عنه.
﴿
والرُّجزَ فاهجرْ﴾
أي: دم على هجرانها، قاله الزهري وغيره. وقال ابن عباس: أي: اترك المآثم التي توجب الرجز، وهو العذاب، وفيه لغتان: كسر الراء، وضمها، وقُرىء بهما معاً. قال الكسائي: الرُّجز ـ بالضم: الوثن، وبالكسر: العذاب. ﴿ولا تمننْ تستكثرُ﴾ أي: ولا تعطِ مُتكثِّراً، أي: رائياً لما تعطيه كثيراً، أو طالباً للكثير على ما أعطيت، فإنك مأمور بأجلّ الأخلاق، وأشرف الآداب، وهو من المنّ بمعنى الإنعام، يُقال: مَنَّ عليه إذا أعطاه وأنعم عليه، " وتستكثر ": حال، أي: لا تُعطِ حال كونك تُعد ما أعطيت كثيراً، أو طالباً أكثر مما أعطى. وقرأ الحسن بالجزم جواب النهي. ﴿ولربك فاصبِرْ﴾ أي: لوجه الله استعمل الصبر على أوامره ونواهيه، وعلى تحمُّل مشاق أعباء التبليغ وأذى المشركين.
﴿فإِذا نُقِرَ في الناقور﴾ أي: نُفخ في الصور، وهو فَاعُول من النقر، بمعنى التصويت، وأصله: القرع، الذي هو سبب الصوت، والفاء سببية، كأنه قيل: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم هائل، يلْقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى عاقبة صبرك، والعامل في " إِذا " قوله: ﴿فذلك يومئذٍ يومٌ عسيرٌ﴾، فإنَّ معناه: عسر الأمر على الكافرين إذا نُقر في الناقور، و " ذلك " إشارة إلى وقت النقر، وهو مبتدأ، و ﴿يومئذ﴾ : مرفوع المحل بدل منه، و ﴿يوم عسير﴾ : خبر، كأنه قيل: يوم النقر يوم عسير ﴿على الكافرين﴾، وأكّده بقوله: ﴿غيرُ يسير﴾ ؛ ليؤذن بأنه يَسيرٌ على المؤمنين، أو عسيرٌ لا يُرجى أن يرجع يسيراً، كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا. واختُلف في أن المراد به: يوم النفخة الأولى أو الثانية، والحق إنها الثانية؛ إذ هي التي يختص عسرها بالكافرين، وأما النفخة الأولى، فحكمها ـ الذي هو الإصعاق ـ يعم البر والفاجر، على أنها مختصة بمَن كان حيًّا عند وقوعها، وقد جاء في الأخبار: أن في الصور ثُقْباً بعدد الأرواح، وأنها تجمع في تلك الثُقب في النفخة الثانية، فتخرج عند النفخ من كل ثقبة روح، فترجع إلى الجسد الذي نزعت منه، فيعود الجسد كما كان حيًّا، بإذن الله تعالى.
173
الإشارة: يا أيها المتدثر بالعلوم والأسرار والمعارف؛ قُم فأنذر الناسَ، والخطاب للداعي الأكبر صلى الله عليه وسلم، ويتوجه لخليفته في كل زمان، وهو مَن وجَّهه الله لتذكير العباد ليحيي به الدين في أول كل عصر، كما في الأثر.
قال الورتجبي: يا أيها المدثر، أي: يا أيها الغريق في قَلزوم القِدم، قُم لدعوى محبتي، وأنذر أحبائي عن الاشتغال بغيري، وأَظْهِر جواهر حقائب بحر غيبي للمقبلين إلينا. ثم قال على قوله: (وربك فَكَبِّر)، عن الحُسيْن: عَظِّم قدره عن احتياجه إليك في الدعوة إليه، فإنَّ إجابة دعوتك ممن سبقت له الهداية مني. هـ. قال القشيري: كبِّر ربك عن احتياجه إلى تكبير أحد، فإنَّ كبرياءه ذاتيٌّ له، قائم بنفسه، لا بغيره من المكبِّرين. هـ. والمتبادر أنه أمَرَ الداعي بتعظيم الله وإجلاله دون غيره من سائر المنذرين، فلا تمنعه جلالة أحد من العظماء والمتكبرين عن التصدَّي لإنذاره وتذكيره.
وقوله تعالى: ﴿وثيابك فطهِّر﴾ أي: نَزّه ثياب إيمانك وعرفانك عن لوث الطمع في الخلق، وخصوصاً عند الدعوة، فلا تسأل عليه أجراً، ولا تؤمّل في جانبه عوضاً، فتُحرم بركة إنذارك، ويقلّ الانتفاع به. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: رأيت النبيَّ ﷺ في المنام، فقال: يا علي، طَهِّر ثيابك من الدنس، تَحْظَ بمدد الله في كل نَفَس، فقلتُ: وما ثيابي يا رسول الله؟ فقال: إنَّ الله كساك حُلة المعرفة، ثم حُلة المحبة، ثم حُلة التوحيد، ثم حُلة الإيمان، ثم حُلة الإسلام، فمَن عرف الله صَغُر لديه كل شيء، ومَن أحبّ الله هان عليه كل شيء، ومَن وحّد الله لم يشرك به شيئاً، ومَن آمن بالله أَمِن من كل شيء، ومَن أسلم لله قلّما يعصيه، وإن عصاه اعتذر إليه، وإذا اعتذر إليه قَبِل عُذره. قال: ففهمتُ حينئذ قوله تعالى: ﴿وثيابك فَطَهّر﴾. هـ. والرُّجز: كلُّ ما يشغل عن الله، فيُهجر اشتغالاً بالله، ولا تمنن ببذل مُهجتك على ربك، مستكثراً لذلك، فإنَّ قيمة وجودك لا تُساوي عُشر العشر من عظمة وجوده، الذي يمنحك بدلاً من وجودك الذي أعطيته، أو: ولا تمنن عليه بوجودك تطلب وجوده، فإنَّ وجوده إنما يُنال بكرمه، لا بشيء من العلل، ولربك فاصبر، أي: ولأجل الوصول إلى ربك فاصبر على مشاق السير، أو: ولربك فاصبر على إذاية الخلق في حال الدعوة. قال الورتجبي: ولربك فاصبر في بذل وجودك في جريان تقديره، أو مع ربك، وفي ربك، حين انكشف لك أنوار أسراره، وخاصيتُكَ في النظر إلى جلاله وجماله، ولا تنزعج، فتسقط عن درجة التمكين. وقال القاسم: ولربك فاصبر تحت القضاء والقدر. هـ. فإذا نُقر في الناقور: نُفخ في صور الفناء، فتندك السموات والأرض، بإظهار ما فيها من الأسرار، فتُطوى عن نظر العارف، فيفنى مَن لم يكن، ويبقى مَن لم يزل، فذلك يوم عسير على الكافرين بطريق الخصوص؛ إذ لا تنهدم
174
العوالم لعين البصيرة إلاَّ لمَن هدم عوائد نفسه، وخالف هواه. وبالله التوفيق.
يقول الحق جل جلاله: ﴿ذَرْنِي ومَنْ خلقتُ﴾ أي: كِلْ أمره إليَّ فأنا أكفيك أمره، وهو الوليد بن المغيرة، وقوله: ﴿وحيداً﴾ : حال من عائد الموصول، أي: خلقته منفرداً، لا مال له ولا ولداً، أو من الياء، أي: ذرني وحدي معه، فأنا أكفيكه، أو من التاء، اي: خلقته وحدي ولم يشاركني في خلقه أحد، والأول أنسب بقوله: ﴿وجعلتُ له مالاً ممدوداً﴾ ؛ مبسوطاً كثيراً، أو ممدوداً بالنماء، وكان له الزرع والضرع والتجارة، وعن مجاهد: له مائة ألف دينار، وكان له أرض بالطائف، لا تنقطع ثمارها صيفاً وشتاءً، ﴿وبنينَ شُهوداً﴾ ؛ حضوراً معه بمكة لغناهم، يتمتع بشهودهم، لا يفارقونه لعمل، لكونهم مكُفيين، أو حضوراً في الأندية والمحامل لوجاهتهم، واعتيادهم، وكانوا عشرة، وقيل: ثلاثة عشر، وقيل: سبعة، كلهم رجال، الوليد بن الوليد، وخالد، وعمار ة، وهشام، والعاصي، وقيس، وعبد شمس، أسلم منهم خالد وهشام وعمارة، وجعل السهيلي بدل عمارة الوليدَ بن الوليد، وهو الصحيح، وفيه قال عليه السلام: " اللهم أنج الوليد بن الوليد " حين كان يُعذّب بمكة على الإسلام، والوليد هذا كان سبب إسلام أخيه خالد، وكان خالد فارًّا منه صلى الله عليه وسلم، فسمع الوليدُ النبيَّ ﷺ يقول: " لو أتانا لاأكرمناه "، فكتب إليه، فوقع الإسلام في قلبه، وسمّاه سيفاً من سيوف الله، به فتح الله كثيراً من البلدان، وأما عُمارة فذكر غيرُ واحد أنه مات مشركاً عند النجاشي، ويروى أنَّ النجاشي قتله بسبب اختلافه إلى زوجته، ووشى به عَمْرُو بن العاص، كما ذكره الطيبي. انظر المحشي.
﴿ومَهَّدتُ له تمهيداً﴾ أي: بسطت له الجاه العريض، والرياسة، حتى كان يُلقَّب ريحانة قريش، فأتممت عليه نعمتَي الجاه والمال، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا، ﴿ثم يطمعُ أن أزيدَ﴾ على ما أوتيه من المال والولد والجاه من غير شكر، وهور استبعاد واستنكارٌ لطمعه وحرصه. وعن الحسن: يطمع أن أزيده الجنة، فأعطيه فيها مالاً وولداً، كما قال العاصي: ﴿لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا﴾ [مريم: ٧٧]، وكان من فرط جهله يقول: إن كان محمد صادقاً فما خُلقت الجنة إلاَّ ليَ.
﴿
كلاَّ﴾
: ردع وزجر عن طمعه الفارغ، وقطع لرجائه الخائب، أي: لا نجمع له بعد
175
اليوم بين الكفر والمزيد من النِّعم، فلم يزل بعد نزول الآية في نقصان من المال والجاه، وانتكاس، حتى هلك، ﴿إِنه كان لآياتنا﴾ ؛ القرآن ﴿عنيداً﴾ ؛ معانداً جاحداً، وهو تعليل للردع على وجه الاستئناف، كأنّ قائلاً قال: لِمَ لا يُزاد؟ فقال: إنه عاند آيات المنعِم، مع وضوحها، وكَفَرَ نعمته مع سُبُوغها، وهو مما يوجب حرمانها بالكلية، مع أن ما أوتيه إنما هو استدراج يوجب مزيد العذاب، كما قال تعالى: ﴿سأُرهقه صَعوداً﴾ ؛ سأُغشيه بدل ما يطمعه من الجنة عقبة شاقة المصْعد، وهو مثل لِما يلقى من العذاب الصعب الذي لا يُطاق، وفي الحديث: " الصعود: جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً، ثم يهوي فيه كذلك أبداً ". ثم علّل استحقاقه لهذا العذاب بقوله: ﴿إِنه فَكَّر﴾ ما يقول في شأن القرآن، ﴿وقَدَّر﴾ في نفسه ما يقوله وهياه، كأنه تعالى عاجله بالفقر والذل بعد الغنى والعز، لعناده، ويُعاقبه في الآخرة بأشد العذاب، لبلوغه بالعناد غايته، حيث قال في كلامه تعالى المعجِز: سحراً، وفي رسوله عليه السلام: ساحراً، ﴿فقُتل﴾ أي: لُعن ﴿كيف قَدَّر ثم قُتل كيف قَدَّر﴾ ؟ كرّر للتأكيد، و " ثم " للإشعار بأنَّ الدعاء الثاني أبلغ، وقيل: هو تعجيب من تقديره وإصابته فيه الغرض الذي كان ينتحيه قريش، قاتلهم الله، كما يقال: قاتله الله ما أشجعه، وأخزاه الله ما أشعره! رُوي أنه سمع النبي ﷺ يقرأ " حم " غافر، أو فُصلت، ثم رجع إلى بني مخزوم، فقال: والله لقد سمعتُ من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لَطلاوة، وإنَّ أعلاه لمُثمر، وإنَّ أسفله لمُغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، لتَصْبُوَنّ قريش كلها، فقال ابن أخيه أو جهل: أنا أكفيكموه، فانطلق إليه حزيناً، فقال له: ما لي أراك حزيناً؟ فقال: وما لي لا أحزن، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كِبر سنك، يزعمون أنك
زيّنت كلام محمد، تدخل على ابن أبي كبشة وأبي قحافة، لِتنال من طعامهم، فغضب الوليد، وقصدهم، وقال: تزعمون أنَّ محمداً مجنون، فهل رأيتموه يُخْنِقُ قط؟ قالوا: لا، قال: تزعمون أنه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالو: لا، قال: تزعمون أنه كاهن، فهل رأيتموه يتكهّن قط؟ قالوا: لا، قال: تزعمون أنه كذّاب، فهل جريتم عليه من الكذب قط؟ قالوا: اللهم لا، ثم قالوا له: فما هو؟ ففكَّر فقال: ما هو إلاَّ ساحر، أمّا رأيتموه يُفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه؟ وما الذي يقوله إلاّ سحر يأثره عن أهل بابل، فارتجّ النادي فرحاً، وتفرّقوا معْجبين بقوله متعجبين منه، وهذا معنى قوله: ﴿إنه فكَّر... ﴾ الخ.
176
﴿
ثم نَظَرَ﴾
أي: في القرآن مرة بعد مرة، أو نظر بأي شيء يَرُدُّ الحقَّ، أو فيما قدّر، ﴿ثم عَبَسَ﴾ ؛ قطَّب وجهه لمَّا لم يجد فيه مطعناً، ولم يدرِ ماذا يقول، وقيل: نظر في وجوه الناس، ثم قطَّب وجه، ﴿وبَسَرَ﴾ ؛ زاد في العبوسة والكلوح، ﴿ثم أدبرَ﴾ عن الحق، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿واستكبر﴾ عن اتباعه، و ﴿ثم نظر﴾ : عطف على (قَدَّر)، والدعاء اعتراض، وإيراد " ثم " في المعطوفات لبيان أنَّ بين الأفعال والمعطوفة تراخياً أو تفاوتاً، ﴿فقال إِنْ هذا إِلاّ سِِحْر يُؤثَرُ﴾ أي: يُروى ويُتعلم، والفاء للدلالة على أنَّ هذه الكلمة لمّا خطرت بباله تفوَّه بها من غير تَلعثم ولا تلبُّث، وقوله: ﴿إِنْ هذا إِلاَّ قولُ البشرِ﴾ تأكيد لِما قبله، ولذلك أخلى عن العاطف. قال تعالى: ﴿سأُصليه﴾ ؛ سأُدخله ﴿سَقَر﴾، وهو بدل من ﴿سأُرهقه صَعُوداً﴾ وسقر: علم لجهنم، ولم ينصرف للتعريف والتأنيث، ﴿وما أدراك ما سَقَرُ﴾، تهويل لشأنها، ﴿لا تُبقي ولا تَذرُ﴾، بيان لحالها، أي: لا تُبقي شيئاً يُلقى فيها إلاَّ أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يُعاد، أو: لا تُبقي لحماً، ولا تّذرُ عظماً، أو: لا تُبقي لحماً إلاّ أكلته، ولا تدع أن تعود عليه أشد ما كانت، وقال الضحاك: إذا أخذت فيهم لم تُبق منهم شيئاً، وإذا أُعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم، ولكل شيء فترة ومَلالة إلاّ جهنم. هـ.
﴿لوَّحاةٌ للبَشرِ﴾ أي: مغيّرة للجلود حتى تُسوّدها، تقول العرب: لاحته الشمس ولوَّحته، أي: غيَّرته، قيل: تلفح الجلد لفحة، فتدعه أشد سواداً من الليل، وقال الحسن: تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً، نظيره: ﴿وَبُرِزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾ [الشعراء: ٩١] والبشر: اسم، جمع بشرة، وهي ظاهر جلد الإنسان، ويجمع أيضاً على أبشار، ﴿عليها تسعةَ عشرَ﴾ أي: على أمرها تسعة عشر ملكاً، خزنتُها، وقيل: تسعة عشر صِنفاً من الملائكة، وقيل: صفًّا، وقيل: نقيباً. قيل: الحكمة في تخصيص هذا العدد لخزنة جهنم؛ أن ذكرهم الذي يتقوَّون به البسلمة، وذلك عدد حروفها. هـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: هذه الآية تَجُر ذيلها على كل مَن آتاه الله المالَ والجاه البنين، ثم جعل ينتقد على أولياء الله، ويحتقر أهل النسبة، بل على كل مَن يُطلق لسانه في أهل النسبة يناله ما نال الوليد؛ لأنه كان لآيات الله ـ وهم خاصة أوليائه ـ عنيداً جاحد القلب، وحاسداً، سأُرهقه صَعُوداً، أي: عذاباً متعباً له، في الدنيا بالحرص والطمع، وفقر القلب، وكذا العيش في الآخرة بسدل الحجاب، والطرد عن ساحة المقربين، إنه فَكَّر فيما يكيد به أولياءه، وقَدّر ذلك، فلُعن كيف قَدّر، ثم نظر إليهم فعبس وبسر. قلت: وقد رأيتُ بعض المتفقهة المتجمدين، إذا رأوا أحداً من أهل التجريد، عبسوا وقطَّبوا وجوههم، ولووا رؤوسهم، لشدة حَنقهم على هذه الطائفة، نعوذ بالله من الحرمان. وكل ما رُمي به ﷺ من السحر وغيره قد رُمي به خلفاؤه، فيُقال لمَن رماهم وعابهم: سأُصليه سقر، نار القطيعة والبُعد، لا تٌبقي له رتبة، ولا تذر له مقاماً ولا جاهاً عند الله، تُزيل عنه سيما العارفين
177
ومهجة المحبين وتغير بشريته بالكآبة والحسرة، والتأسُّف عن التخلُّف عن مقام المقربين، عليها، أي: على النار المحيطة بهم، تسعة عشر حجاباً؛ حجاب المعاصي القلبية والقالبية، ثم حجاب الغفلة، ثم حُب الدنيا، ثم حب الهوى، ثم الحسد، ثم الكفر، ثم الحقد، ثم الغضب، ثم حب الظهور، ثم حب الجاه، ثم الطمع، ثم الحرص، ثم خوف الفقر، ثم هَم الزرق، ثم خوف الخلق، ثم التدبير والاختيار، ثم العَجَلة، ثم الرعونة، ثم حجاب الحسد والوهم. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿وما جعلنا أصحابَ النار﴾ أي: خزنتها، المدبّرين لها، القائمين بتعذيب أهلها، ﴿إِلاَّ ملائكةً﴾ لأنهم خلاف جنس المعذّبين، فلا تأخذهم الرأفة والرقّة، ولأنهم أشد الخلقِ بأساً، فللواحد منهم قوة الثقلين، ونَعَتهم ﷺ فقال: " كَأَنَّ أعْيُنَهُمُ البَرقُ، وكأنَّ أفْواهَهم الصَّيَاصِي، يَجرُّون أشعَارَهم، لأحدِهم قوةُ الثَّقَلَيْنِ، يَسوقُ أحدُهُم الأُمَّةَ، وعَلَى رَقَبَتِهِ جَبَلٌ، فَيَرْمِيهم في النَّارِ، ويَرْمي الجبلَ عَلَيْهم " وفي رواية: " بيد كُلِّ واحدٍ منهم مِرْزَبَّة مِن حَديدٍ " وفي رواية عن كعب: " مَعَ كُلِّ واحد مِنْهم عَمودٌ وشعبتَان يَدْفع به الدَّفَع يصرع به في النَّارٍ سَبعمَائَة أَلْفٍ، وبَيْن مِنْكَبَي الخازِنِ مِن خزَنَتِها مسيرةُ مَائةِ سَنَة " وفي حديث آخر: " ما بَيْن منكبي أَحَدهِم كَما بَيْن المشرقِ والمغرب، وليس في قلوبِهِمْ رَحْمَةٌ، يَضْربُ أحدُهم الرجلَ ضَربةً، فيتْركه طَحيناً من لَدُن قَرْنِه إلى قَدَمِهِ " وعن كعب: " يؤمر بالرجل إلى النار، فيبتدره مائة ألف ملك " قال القرطبي: المراد بقوله: ﴿عليها تسعة عشر﴾ رؤساؤهم، وأما جملة الخزنة فلا يَعلم عددهم إلا الله تعالى. انظر البدور السافرة.
رُوي أنه لمّا نزل قوله تعالى: ﴿عليها تسعة عشر﴾ قال أبو جهل: أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم، وأنتم ألدَّهم، أي: الشجعان؟ فقال أبو الأشد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، اكفوني أنتم اثنين، فنزلت الآية، أي: وما جعلناهم رجالاً من جنسكم يُطاقون.
178
﴿وما جعلنا عِدَّتهم﴾ تسعة عشر ﴿إِلا فتنةً﴾ أي: ابتلاء واختباراً ﴿للذين كفروا﴾ حتى قال أبو جهل ما قال، أي: وما جعلنا هذا العدد إلاّ سبب افتتانهم، فعبّر بالأثر عن المؤثّر، وليس المراد جعل ذلك العدد في نفس الأمر فتنة؛ بل جعله في القرآن أيضاً كذلك، وهو الحُكم بانّ عليها تسعة عشر، إذ بذلك يتحقق افتتانهم، وعليه يدور ما سيأتي من استيقان أهل الكتاب، وازدياد المؤمنين إيماناً. انظر أبا السعود. وقالوا في تخصيص الخزنة بهذا العدد ـ مع أنّه لا يطلب في الأعداد العلل: أنّ ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار، وستة منهم يسوقونهم، وستة يضربونهم بمقامع من الحديد، والآخر خازن جهنّم، وهو مالك، وهو الأكبر. وقيل: في النار تسعة عشر دركاً، قد سلّط على كل درك مَلك، وقيل يُعذبون فيها بتسعة عشر لوناً من العذاب، وعلى كل لون ملك موكّل، وقيل غير ذلك.
﴿
لِيستيقنَ الذين أُوتوا الكتاب﴾
، لأنَّ عدتهم تسعة عشر في الكتابَيْن، فإذا سمعوا مثلها في القرآن تيقّنوا أنه مُنزَّل من عند الله، وهو متعلق بالجعل المذكور، أي: جعلناهم كذلك ليكتسبوا اليقين بنبوته صلى الله عليه وسلم، وصِدْقِ القرآن، لموافقته لِما في كتبهم، ﴿ويزداد الذين آمنوا﴾ بمحمد ﷺ ﴿إِيماناً﴾ لتصديقهم بذلك، كما صدّقوا بسائر ما أُنزل، فيزيدون إيماناً مع إيمانهم الحاصل، أو: يزداد إيمانهم تيقُّناً؛ لما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم، ﴿ولا يرتابَ الذي أوتوا الكتاب والمؤمنون﴾، تأكيد لِما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان، ونفي لما قد يعتري المستيقن من شُبهة ما، وإنما لم ينظم المؤمنين في سلك أهل الكتاب في الارتياب، حيث لم يقل: ولا يرتابوا؛ للتنبيه على تباين النفيين حالاً، فإنَّ انتفاء الارتياب عن أهل الكتاب مما ينافيه لِما فيه من الجحود، وعن المؤمنين لما يقتضيه من الإيمان، وكم بينهما؟ والتعبير عنهم باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المُنبئة عن الحدث؛ للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازدياده ورسوخهم في ذلك. قاله أبو السعود.
وعطف على ﴿يستيقن﴾ ايضاً قولَه: ﴿ولِيقولَ الذين في قلوبهم مرضٌ﴾ ؛ شك؛ لأنَّ أهل مكة كان أكثرهم شاكين، أو: نِفاق، فيكون إخباراً بما سيكون بالمدينة بعد الهجرة، ﴿والكافرون﴾ ؛ المشركون بمكة، المُصرُّون على الكفر: ﴿ماذا أراد اللهُ بهذا مثلاً﴾ ؟ أي: أيُّ شيءٍ أراد بهذا العدد المستغرَب استغراب المثل؟ وقيل: لمّا استبعدوه حسبوا أنه مَثَل مكذوب، أو: أيُّ حكمة في جعل الملائكة تسعة عشر، لا أكثر أو أقل؟ وإيراد قولهم هذا بالتعليل، مع كونه من باب فتنتهم؛ للإشعار باستقلاله بالبشاعة. و " مثلاُ ": تمييز، أو حال، كقوله: ﴿هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْءَايَةً﴾ [الأعراف: ٧٣]. ﴿كذلك يُضل اللهُ مَن يشاء ويهدي مَن يشاء﴾ أي: مثل ذلك الضلال وتلك الهداية يُضل اللهُ مَن يشاءُ إضلاله، بصرف اختياره إلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله الناطقة بالحق،
179
ويهدي مَن يشاء هدايته بصرف اختياره عند مشاهدته تلك الآيات إلى جانب الهُدى، فمحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف، أي: يُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء، إضلالاً وهدايةً كائنين مثل ما ذكر من الإضلال والهداية.
﴿وَمَا يعلمُ جنودَ رَبِّكَ﴾ أي: جموع خلقه، التي من جملتها الملائكة المذكورون، ﴿إلاّ هو﴾، إذ لا سبيل لأحد إلى حصر مخلوقاته، والوقوف على حقائقها وصفتها، ولو إجمالاً، فضلاً عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها، من كَم وكيف ونسبة، فلا يَعِز عليه جعلُ الخزنة أكثر مما هو عليه، ولكن في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها، ﴿وما هي إِلاّ ذِكرَى للبشر﴾ هذا متصل بوصف سقر، أي: ما سقر وصفتها إلاّ تذكرة للبشر؛ لينزجروا عن القبائح.
﴿
كَلاَّ﴾
؛ ردع لمَن أنكرها، أو نفي لأن يكون لهم تذكُّر، بعد أن جعلها ذِكرى، أي: لا يتذكرون لسبق الشقاء لهم، ﴿والقمرِ﴾، أقسم به لِعظم منافعه، ﴿والليلِ إِذْ أدبرَ﴾ أي: ذهب، يقال: أدبر الليل ودبر: إذا ولّى، ومنه قولهم: صاروا كأمس الدابر، وقيل: أدبر: ولّى، ودَبَر جاء بعد النهار، ﴿والصُبحِ إِذا أسفر﴾ ؛ أضاء وانكشف، وجواب القسم: ﴿إِنها﴾ أي: سقر ﴿لإِحدَى الكُبَرِ﴾ جمع كبرى، أي: لإحدى الدواهي أو البلايا الكُبْر، ومعنى كونها إحداهن: أنها من بينهن واحدة في العِظم لا نظيرة لها، كما تقول: هو أحد الرجال، وهي إحدى النساء. ﴿نذيراً للبشر﴾ : تمميز لإحدى، أي: إنها لإحدى الدواهي إنذاراً، كقولك: هي إحدى النساء جمالاً، أو حال مما دلّت عليه الجملة، أي: عظمت منذرة، ﴿لمَن شاء منكم أن يتقدَّم أو يتأخّر﴾ : بدل من " البشر "، بإعادة الجار، أي: نذيراً لمَن شاء منكم أن يسبق إلى الخير أو يتأخر عنه، وعن الزجاج: أن يتقدّم إلى ما أمر به، ويتأخر عما نهى عنه، وقيل: " لمَن شاء ": خبر، و " أن يتقدّم ": مبتدأ، فيكون كقوله تعالى: ﴿فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩]. قال المحَشي: وحاصله: أنّ العبد متمكن من كسب الخير وضده، ولذلك كلّفه؛ لأنه علّق ذلك على مشيئته، وليس حجة؛ لكونه مستقلاً غير مجبور؛ لأنَّ مشيئته مُعلقة على مشيئة الله، ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ﴾ [الإنسان: ٣٠] ﴿كَلاَّ إِنَهُ تَذْكِرَةُ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللهُ﴾ [المدثر: ٥٤-٥٦]، وما نبهت عليه من التمكُّن والاختيار في الظاهر هو فائدة بدل " لمَن شاء " من البشر. هـ.
الإشارة: من أسمائه تعالى الجليل والجميل، فوَكَّل بتنفيذ اسمه الجليل جنوداً يَجرُّون الناسَ إلى أسباب جلاله، من الكفر والعصيان، ووكَّل بتنفيذ اسمه الجميل جنوداً يَجرّون الناسَ إلى أسباب جماله من الهدى والطاعة، وما جعل ذلك إلاّ اختباراً واتبلاءً، لمن يُدبر عنه أو يُقبل عليه، وما جعلنا أصحابَ نار القطيعة إلاّ ملائكة، وهم حُراس الحضرة يملكون النفس، ويقذفونها في هاوية الهوى، وما جعلنا عدتهم تسعة عشر
180
حجاباً كما تقدّم، إلاّ فتنة لأهل الغفلة، الكافرين بوجود الخصوصية، اختباراً لمَن يقف معها، فتحجبه عن ربه، ولمَن يتخلّص منها، فينفذ إلى ربه، ليستيقن أهل العلم بالله حين يطَّهروا منها، ويزداد السائرون إيماناً بمجاهدتهم في التخلُّص منها، ولا يبقى في القلب ريب ولا وَهْم، وليقول الذين في قلوبهم مرض من ضعف اليقين: ماذا أراد الله بخلق هذه الأمراض في قلوب العباد؟ فيُقال: أراد بذلك إضلال قوم عن حضرته، بالوقوف مع تلك الحُجب، وهداية قوم، بالنفوذ عنها، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ القاطعة عنه بقهره تعالى، والموصلة إليه برحمته، إلا هو. وقال الورتجبي: جنوده: عظمته وكبرياؤه وسلطانه وقهره، الذي صدرت منه جنود السموات والأرض، وله جنود قلوب العارفين، وأرواح الموحِّدين، وأنفاس المحبين، التي يستهلك بها كل جبّار عنيد، وكل قهّار عتيد. قيل: قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: إنكم لا تقفون على المخلوقات، فكيف تقفون على الأسامي والصفات؟ !. هـ.
ثم حذَّر من سَقَر الحظوظ، والسقوط في مهاوي اللحوظ، وأقسم أنها من الدواهي الكُبَر لِمن ابتُلي بها، حتى سقط في الحضيض الأسفل من الناس، فمَن شاء فليتقدّم إلينا بالهروب منها، ومَن شاء فليتأخر بالسقوط فيها، والغرق في بحرها. والعياذ بالله.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿كلُّ نفس بما كسبتْ رهينةٌ﴾ أي: مرهونة، محبوسة عند الله تعالى بكسبها. ورهينة: فعلية، بمعنى مفعولة، وإنما دخلتها التاء، مع أن فعيلاً بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، تقول: رجل جريح، وامرأة جريح؛ لأنها هنا لم تتبع موصوفاً اصطلاحياً، ومَن قال: إنَّ الخبر في معنى الصفة فهي تابعة له، جعل " رهينة " اسماً بمعنى الرهن، كالشتيمة بمعنى الشتم، وقيل: إنَّ التاء في رهينة للنقل مع الوصفية للاسمية، لا للتأنيث، كما في نصيحة وذبيحة. هـ. فكل واحد مرهون بذنبه.
﴿إِلاَّ أصحابَ اليمين﴾ فإنهم فاكُّون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم، كما يفك
181
الراهن رهنه بأداء الدَّين، وقيل: هم أطفال المسلمين؛ لأنهم لا أعمال لهم يُرهنون بها، وقيل: هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، ﴿في جنات﴾، لا يُكتَنَهُ كُنهها، ولا يُدرك وصفها، أي: هم في جناتٍ، والجملة استئناف بياني، كأنه قيل: ما بالهم؟ فقال: هم ﴿في جناتٍ يتساءلون﴾ ؛ يسأَل بعضهم بعضاً ﴿عن﴾ أحوال ﴿المجرمين﴾، فيقول بعضهم لبعض: قد سألناهم فقلنا له: ﴿ما سلككم في سقرٍ﴾ ؟ فـ ﴿قالوا لم نك من المصلين... ﴾ الخ. قاله النسفي، ورده أبو السعود، فقال: وليس المراد بتساؤلهم أن يسأل بعضُهم بعضاً، على أن يكون كل واحد منهم سائلاً ومسؤولاً معاً، بل صدور السؤال عنهم مجرداً عن وقوعه عليهم، فإنَّ صيغة التفاعل وإن وضعت في الأصل للدلالة على صدور الفعل عن المتعدد، ووقوعه عليه معاً، بحيث يصير كل واحد فاعلاً ومفعولاً معاً، كما في قولك: تراءى القوم، أي: رأى كُلُّ واحد منهم الآخر، لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني، ويقصد بها الدلالة على الأول فقط، فيُذكر للفعل حينئذ مفعول، كما في قولك: تراءوا الهلال، فمعنى ﴿يتساءلون عن المجرمين﴾ : يسألونهم عن أحوالهم، وقد حذف المسؤول لكونه عيَّن المسؤول عنه، أي: يسألون المجرمين عن أحوالهم، وقوله تعالى: ﴿ما سلككم في سقر﴾ : مقول لقول هو حال من فاعل " يتساءلون " أي: يسألونهم قائلين: أيُّ شيء أدخلكم في سقر؟ فتأمل ودع عنك ما يتكلّف المتكلفون. هـ.
﴿
قالوا﴾
أي: المجرمين مجيبين للسائلين: ﴿لم نكُ من المصلِّين﴾ للصلوات الواجبة، ﴿ولم نك نُطعم المسكين﴾ كما يُطعم المسلمون، وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة، ﴿وكنا نخوض مع الخائضين﴾ أي: نشرع في الباطل مع الشارعين فيه، فنقول الباطل والزور في آيات الله، ﴿وكنا نُكذِّب بيوم الدين﴾ ؛ بيوم الجزاء والحساب. وتأخير ذكر جنايتهم هذه مع كونها أعظم من الكل؛ لتفخيمها، كأنهم قالوا: وكنا بعد ذلك مكذِّبين بيوم الدين، ولبيان كون تكذيبهم به مقارناً لسائر جناياتهم المعدودة مستمراً إلى آخر عمرهم، حسبما نطق به قوله تعالى: ﴿حتى أتانا اليقينُ﴾ ؛ الموت ومقدماته، ﴿فَمَا تَنفَعُهُمْ شفاعةُ الشافعين﴾ من الملائكة والنبيين والأولياء والصالحين، لأنها خاصة بالمؤمنين، وفيه دلالة على ثبوت الشفاعة للمؤمنين، وفي الحديث: " إن من أمتي مَن يدخل الجنة بشفاعته أكثر من ربيعة ومضر ". ﴿فما لهم عن الذكرةِ﴾ ؛ عن التذكير والوعظ بالقرآن ﴿معرِضين﴾ ؛ مولّين، والفاء لترتيب ما قبلها من موجبات الإقبال عليه، والاتعاظ به من سوء حال المعرضين، و " معرضين ": حال من الضمير الواقع خبراً لـ " ما " الاستفهامية، كقولك: ما لك قائماً؟ أي: فإذا كان حال المكذّبين به على ما ذكر من سوء الحال. فإيُّ شيء حصل لكم حال كونكم معرضين عن القرآن، مع تعاضد الدواعي إلى الإيمان؟ ﴿كأنهم حُمُرٌ﴾ ؛ أي حُمر الوحش
182
﴿مُستنفِرَةٌ﴾ ؛ شديدة النفار، كأنها تطلب النفار من نفوسها. وقرأ نافع والشامي بفتح الفاء، أي: استنفرها غيرُها، وجملة التشبيه حال من ضمير " معرضين " أي: مشبّهين بحُمر نافرة ﴿فرّتْ من قسورة﴾ أي: من أسد، فَعْولة من القَسر، وهو القهر، وقيل: هي جماعة الرماة الذين يصطادونها، شُبِّهوا في إعراضهم عن القرآن، واستماع ما فيه من المواعظ، وشرودهم عنه بحُمر حدث في نفارها ما أفزعها. وفيه مِن ذمهم وتهجين حالهم من تشبيههم بالحُمر ما لا يخفى.
﴿بل يُريد كل امرىءٍ منهم أن يُؤتَى صُحفاً مُنَشَّرةً﴾ : عطف على مُقدّر يقتضيه الكلام، كأنه قيل: لم يكتفوا بتلك التذكرة، ولم يَرضوا بها، بل يُريد كل امرىء منهم أن يُؤتى ﴿صُحفاً مُنشَّرة﴾ ؛ قراطيس تُنشر وتٌقرأ، وذلك أنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: لن نتبعك حتى تأتي كلَّ واحدٍ منا بكتاب من السماء، عنوانها: من رب العالمين إلى فلان بن فلان، يؤمر فيها باتباعك، وهذا كقوله: ﴿وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتَّى تُنَزِلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ﴾ [الإسراء: ٩٣]. وقيل: قالوا: إن كان محمد صادقاً فليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة، فيها براءته وأمنه من النار.
﴿
كَلاَّ﴾
، ردع لهم عن تلك الجرأة، وزجر عن اقتراح الآيات، ﴿بل لا يخافون الآخرة﴾ فلذلك يُعرضون عن التذكرة، لاَ لامتناع إيتاء الصُحف. ﴿كَلاَّ إِنه تذكرةٌ﴾ زجَرهم عن إعراضهم عن التذكرة، وقال: إن القرآن تذكرة بليغة كافية، ﴿فمَن شاءَ ذكرَه﴾ أي: فمَن شاء أن يذكره ذكره، وحاز سعادة الدارين، ﴿وما يَذْكُرُون﴾ بمنجرد مشيئتهم ﴿إِلاّ أن يشاء اللهُ﴾ هدايتهم فيذكرون، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي: وما يذكرون لِعلةٍ من العلل، وفي حال من الأحوال، إلاَّ أن يشاء الله ذلك، وهو تصريح بأنَّ أفعال العباد كلها بمشيئة الله تعالى، وقرأ نافع ويعقوب بتاء الخطاب للكفرة. ﴿هو أهلُ التقوى﴾ أي: حقيق با، يُتقى عقابه، ويؤمن به ويُطاع، ﴿وأهلُ المغفرةِ﴾ ؛ حقيق بأن يَغفر لمَن آمن به وأطاعه، وعنه عليه السلام في تفسيرها: " هو أهل أن يُتّقى، وأهل أن يغفر لمن اتقاه ". وفي رواية ابن ماجه والترمذي: " قال الله تعالى: أنا أهل أن أُتَّقَى، فلا يُجعل معي إله آخر، فمَن اتقى ذلك فأنا أهل أن أغْفر له " قال ذلك عليه السلام لَمّا قرأ الآية. هـ.
الإشارة: قال الورتجبي: قوله تعالى: ﴿كل نفس بما كسبتْ رهينة... ﴾ الخ، كلُّ واقفٍ مع حال، وملاحظ لمقام، فهو مرتهن، إلاّ مَن تجرّد مما دون الله، وهم أصحاب يمين مشاهدة الحق، فإنهم في جنان قُربه ووصاله. هـ. أي: كل نفس واقفة مع حالها أو مقامها مرتهنة معه، إلاّ مَن ينفذ إلى شهود الحق، إنه يكون من قبضة اليمين الذين اختارهم
183
الله بمحض الفضل، فهم في جنات المعارف يتساءلون عن الغافلين: ما سلككم في سقر السقوط من درجة القُرب والوصال؟ قالوا: لم نك من المُصلِّين الصلاة الدائمة، ولم نك نُطعم المسكين، بل كنا بُخلاء بأموالنا وأنفسنا، وكنا نخوض في أودية الدنيا مع الخائفين، وكنا نُكذّب بيوم الدين؛ لأنَّ أفعالهم كانت فعل مَن لا يُصدّق بيوم الحساب، حتى أتانا اليقين بعد الموت، فندمنا، فلم ينفع الندم وقد زلّت القَدَم، فما تنفع فيهم شفاعة الشافعين، حيث ماتوا غافلين؛ لأنَّ الشفاعة لا تقع في مقام القُرب والاصطفاء، فمَن مات بعيداً بسبب الغفلة لا يصير قريباً، ولو شفع فيه ألف نبي وألف وَلِيّ، إذ القُرب على قدر الكشف، وكشف الحجاب عن الروح إنما يحصل في هذه الدار، لقوله عليه السلام: " يموت المرء على ما عاش عليه، ويُبعث على ما مات عليه " وإنما تقع الشفاعة في النجاة، أو في الدرجة الحسية، والله تعالى أعلم. فما لهم، أي: لأهل الإعراض عن المذكِّر، عن التذكرة منه مُعرضين، كأنهم حُمر الوحش فرّت من قسورة، وتشبيههم بالحُمر في البلادة والجهل، وكل مَن طلب الكرامة من الأولياء فهو كاذب في الطلب، إذ لو صدق في الطلب لأراه الله الكرامات على أيديهم كالسحاب، كلاَّ بل لا يخافون الآخرة، ولو خافوها وجعلوها نُصب أعينهم لما توقّفوا على كرامة ولا معجزة، والأمر كله بيد الله، هو أهل التقوى وأهل المغفرة. وبالله التوفيق، وصلى الله سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
184
سورة القيامة
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿لا أُقسم﴾ أي: أُقسم. وإدخال " لا " النافية على فعل القسم شائع، كإدخاله على المقسم به في " لا وربك " و " لا والله "، وفائدتها: توكيد القسم، وقيل: صلة، كقوله: ﴿لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ﴾ [الحديد: ٢٥] وقيل: هي نفي وَرَدَ لكلام معهود قبل القسم، كأنهم أنكروا البعث، فقيل: لا، أي: ليس الأمر كذلك، ثم قال: أُقسم ﴿بيوم القيامة﴾ إنَّ البعث لواقع. وأيًّا ما كان ففي الإقسام على تحقيق البعث بيوم القيامة من الجزالة ما لا يخفى. وقيل: أصله: لأُقسم، كقراءة ابن كثير، على أنَّ اللام للابتداء، و " أٌقسم ": خبر مبتدأ مضمر، أي: لأنا أُقسم، ويُقويه أنه في الإمام بغير ألف ثم أشبع فجاء الألف.
﴿ولا أٌقسم بالنفس اللوّامة﴾، الجمهور على أنه قسم آخر، وقال الحسن: الثانية نفي، أي: أُقسم بيوم القيامة لا بالنفس اللوّامة، فيكون ذمًّا لها، وعلى أنه قسم يكون مدحاً لها، أي: أقسم بالنفس المتقية، التي تلوم صاحبها على التقصير، وإن اجتهدت في الطاعة. أو: بالنفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمّارة، وقيل: المراد الجنس، لِما رُوي أنه عليه السلام قال: " مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ ولا فَاجِرَةٍ إِلاَّ وتلُومُ نفسها يوم القِيامَة، إنْ عَملت خَيْراً، قالت: كيف لم أزدْ؟ ! وإِنْ عملت شرًّا، قالت: ليتني كُنتُ قصرتُ " وذكره
185
الثعلبي من كلام البراء: قال أبو السعود: ولا يخفى ضعفه؛ لأنِّ هذا القدر من اللوم لا يكون مدراراً للإعظام بالإقسام، وإن صدَر عن النفس المؤمنة المحسنة، فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس، وقيل: بنفس آدم عليه السلام، فإنها لا تزال تتلوَّم على فعلها الذي خرجت به من الجنة.
وجواب القسم: لتُبعثنّ، دليله: ﴿أيَحْسَبُ الإِنسانُ﴾ أي: الكافر المنكرِ للبعث ﴿ألَّن نجمعَ عِظامه﴾ بعد تفرّقها ورجوعها عظاماً رفاتاً مختلطاً بالتراب، أو: نسفَتْها الرياح وطيَّرتها في أقطار الأرض، أو: ألقتها في البحار. وقيل: إنَّ عَدِيّ بن ربيعة، خَتنَ الأخنس بن شريق، وهما اللذان قال فيهما النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم اكفني جارَيْ السوء، عَدياً والأخنس " قال ـ عَدِيّ ـ: يا محمد، حدِّثنا عن يوم القيامة متى يكون، وكيف أمرها وحالها؟ فأخبره عليه السلام، فقال: يا محمد؛ لو عاينتُ ذلك لم أصدقك، ولم أُومِنْ بك، أَوَيجمعُ الله هذه العظام؟ فنزلت. ﴿بلى﴾ أي: نجمعها حال كوننا ﴿قادرين على أن نُسَوّي بنانه﴾ أي: أصابعه كما كانت في الدنيا بلا انفصال ولا تفاوت مع صغرها، فكيف بكبار العِظام؟ ! ﴿بل يريد الإِنسانُ لِيَفجُر أمامه﴾ : عطف على ﴿أيحسب﴾ إمّا على أنه استفهام توبيخي، أضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا، أو: على أنه إيجاب انتقل إليه عن الاستفهام، أي: بل يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، وما يستقبله من الزمان، لا يرعوي عنه. قال القشيري: ﴿لِيفجُر أمامه﴾ أي: يعزم على أنه يستكثر من معاصيه في مستأنف وقته، ولا يحلّ عقدةَ الإصرار من قلبه، فلا تصحّ توبتُه؛ لأنّ التوبة من شرطها: العزم على أن لا يعودَ إلى مثل ما عَمِل، فإذا كان استحلى الزلّة في قلبه، وتفكّر في الرجوع إلى مثله فلا تصح ندامتُه. هـ. وقيل: ﴿ليفجُرَ أَمامَه﴾ أي: يكفر بما قُدامه، ويدل على هذا قوله: ﴿يسأل أيَّانَ يومُ القيامةِ﴾ أي: متى يكون؟ استبعاداً واستهزاءً.
﴿فإِذا بَرِقَ البصرُ﴾ أي: تحيَّر، من: برق الرجل: إذا نظر إلى البرق فدهش بصره، وقرأ نافع بفتح الراء، وهي لغة، أو من البريق، بمعنى لمع من شدة شخوصه، ﴿وخَسَفَ القمرُ﴾ ؛ ذهب ضوؤه أو غاب، من قوله: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ﴾ [القصص: ٨١] وقرىء: خُسف، بضم الخاء. ﴿وجُمعَ الشمسُ والقمرُ﴾ أي: جُمع بينهما، ثم يُكوّران ويُقذفان في النار، أو يُجمعان أسودين مكورين، كأنهما ثوران عقِيران. وفي قراءة عبد الله: " وجمع بين الشمس والقمر ". وقال عطاء بن يسار: يجمع بينهما يوم القيامة، ثم يقذفان في البحر، فيكونان نار الله الكبرى، أو: جمع بينهما في الطلوع من المغرب. ﴿يقول الإِنسانُ يومَئذٍ﴾ أي: حين تقع هذه الأمور العظام: ﴿أين المفَرُّ﴾ أي: الفرار من النار، يائساً منه، والمراد بالإنسان: الكافر، أو: الجنس، لشدة الهول. قال القشيري: وذلك حين تُقاد جهنم بسبعين ألف سلسلة، كل سلسلة بيد سبعين ألف مَلَك، فيقول الإنسان: أين المفر؟ فيقال:
186
لا مهرب من قضاء الله، " إلى ربك يومئذ المستقر "، أي: لا محيد عن حكمه. هـ. والمفر: مصدر، وقرأ الحسن بكسر الفاء، فيحتمل المكان أو المصدر.
﴿
كلاَّ﴾
؛ ردعٌ عن طلب المفرّ وتمنِّيه، ﴿لا وَزرَ﴾ ؛ لا ملجأ ولا حصن، وأصل الوَزر: الجبل الذي يمتنع فيه. قال السدي: كانوا إذا فزعوا تحصَّنوا في الجبال، فقال تعالى: لا جبل يعصمكم يومئذ مني، ﴿إِلى ربك يومئذ المستقَرُّ﴾ أي: إليه خاصة استقرار العباد، ومنتهى سيرهم، أو: إلى حُكمه استقرار أمرهم، أو: إلى مشيئته موضع قرارهم، يُدخل مَن يشاء الجَنة ومَن يشاء النار، ﴿يُنبّأُ الإِنسانُ يومئذٍ﴾ أي: يُخبر كل امرىء، برًّا كان أو فاجراً، عند وزن الأعمال ﴿بما قَدَّم﴾ من عمله خيراً كان أو شرًّا، فيُثاب على الأول، ويُعَاقب على الثاني، ﴿وما أخَّرَ﴾ أي: لم يعمله خيراً كان أو شرًّا، فيُعاقب بالأول ويثاب على الثاني، أو: بما قدم من حسنة أو سيئة قبل موته، وبما أَخَّرَ من حسنة أو سيئة سَنَّها فعُمل بها بعد موته، أو: بما قدّم في أول عمره، وأخَّرَ عمله في آخر عمره، أو: بما قَدَّم من أمواله أمامه، وأخَّرَ آخره لورثته، نظيره. ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ﴾ [الانفطار: ٥].
﴿بل الإِنسانُ على نفسِهِ بصيرةٌ﴾ أي: شاهِدٌ بما صدر عنه من الأعمال السيئة، كما يُعرب عنه التعبير بـ " على " وما سيأتي من الجملة الحالية، والتاء للمبالغة، كعلاّمة، أو: أنّثه لأنه أراد به جوارحه؛ إذ هي التي تشهد عليه، أو: هو حُجّة على نفسه، والبصيرة: الحُجة، قال الله تعالى: ﴿قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِكُمْ﴾ [الأنعام: ١٠٤] وتقول لغيرك: أنت حُجّة على نفسك. ومعنى " بل ": الترقي، أي: يُنبأ الإنسان بأعماله، بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله، شاهد على نفسه، لأنّ جوارحه تنطق بذلك. و " بصيرة ": مبتدأ، و " على نفسه ": خبر مقدّم، والجملة: خبر " الإنسان "، ﴿ولو أَلْقَى معاذِيرَه﴾ : حال من الضمير في " بصيرة "، أو: من مرفوع (ينبأ) أي: ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن نفسه أي: هو بصيرة على نفسه، تشهد عليه جوارحُه، ويُعمل بشهادتها، ولو اعتذر بكل معذرة، أو يُنبأ بأعماله ولو اعتذر.. الخ. والمعاذير: اسم جمع للمعذرة، كالمناكير اسم جمع للمنكَر، لا جمع؛ لأنّ جمعها معاذِر بالقصر، وقيل: جمع " مِعْذار " وهو: الستر، أي: ولو أرخى ستوره. وقيل: الجملة استئنافية، أي: لو ألقى معاذيره ما قُبلت منه، لأنَّ عليه مَن يُكذِّب عُذره، وهي جوارحه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد قرن الله تعالى قسَمَه بالنفس اللوّامة بِقسَمِه بيوم القيامة، لمشاركتها له في التعظيم، بل النفس اللوَّامة أعظم رتبة عند الله، لأنها تكون لوّامة تلوم صاحبها على القبائح، ثم تكون لهَّامة تُلهمه الخيرات والعلوم اللدنية، ثم تكون مطمئنة، حين تطمئن بشهود الحق بلا واسطة، بل تستدل بالله على غيره، فلا ترى سواه، فحينئذ ترجع إلى أصلها، وتُرجع الأشياء كلها إلى أصولها، وهو القِدَم والأبد، فيتلاشى الحادث ويبقى
187
القديم وحده، كما كان وحده. فالنفوس أربعة: أمّارة، ولوّامة، ولهّامة، ومطمئنة، وهي في الحقيقة نفس واحدة، تتطور وتتقلب من حالٍ إلى حال، باعتبار التخلية والتحلية، والترقية والتردية، فأصلها الروح، فلما تظلّمت سميت نفساً أمّارة، ثم لوّامة، ثم لهّامة، ثم مطمئنة.
قال القشيري: أيحسب الإنسان، أي: الإنسان المحجوب بنفسه وهواه، ألَّن نجمع عِظامه؛ أعماله الحسنة والسيئة، بلى قادرين على أن نُسَوِّي بنانه، أي: صغار أفعاله الحسنة والسيئة، بل يُريد الإنسان المحجوب لِيَفْجُرَ أمامه، بحسب الاعتقاد والنية، قبل الإتيان بالفعل، أي: يعزم على المعاصي في المستقبل قبل أن يفعل، يسأل أيَّان يوم القيامة؟ لطول أمله، ونسيان آخرته، ولو فُتحت بصيرتُه لَشَاهد القيامة في كل ساعة ولحظة، بتعاقب تجلي الإفناء والإبقاء. فإذا بَرِقَ البصرُ: تحيّر من سطوات أشعة سبحات التجلِّي الأحدي الجمعي، وخسَف القمر، أي: ستر نور قمر القلب بنور شمس الروح، وجُمع الشمس والقمر، أي: جُمع شمس الروح وقمر القلب، بالتجلِّي الأحدي الجمعي، يعني: فيغيب نور قمر الإيمان في شعاع شمس العرفان، يقول الإنسان يومئذ: أين المفر؟ من خوف الاضمحلال والاستهلاك، وليس عنده حينئذ قوة التمكين فيخاف من الاصطلام، إلى ربك يومئذ المستقر بالرسوخ والتمكين، بعد الفرار إلى الله، قال تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ﴾ [الذاريات: ٥٠]. هـ. بالمعنى.
يُنبأ الإنسانُ يومئذٍ بما قَدَّم من المجاهدة، حيث يرى ثمرتها، وما أَخَّرَ، حيث يرى شؤم تفريطه فيها، فالمشاهدة على قدر المجاهدة، فبقدر ما يُقَدِّم منها تعظم مشاهدته، وبقدر ما يُؤخِّر منها تَقِلّ. بل الإنسان على نفسه بصيرة، يرى ما ينقص من قلبه وما يزيد فيه، ويشعر بضعفه وقوته، إن صحّت بصيرته، وطهرت سريرته، فإذا فرط في حال سيره لا يقبل عذره، ولو ألقى معاذيره. وبالله التوفيق.
قلت: اختلف المفسرون في وجه المناسبة في هذه الآية، فقال بعضهم: ما تضمنه من الاقتدار على حفظه وإبقائه في قلبه، بإخراجه عن كسبه وإمساكه وحفظه، فالقادر على
188
ذلك قادر على إحياء الموتى وجمع عظامها، وتسوية بنانها. ونَقَل الطيبي عن الإمام الفخر: أنه تعالى لمّا أخبر عن الكفار أنهم يُحبون العاجلة، وذلك قوله: ﴿بل يُريد الإنسان لِيفجُر أَمامه﴾ بيَّن أنَّ العَجَلة مذمومة، ولو فيما هو أهم الأمور وأصل الدين، بقوله: ﴿لا تُحرِّكْ به لسانَك﴾ فاعترض به، ليؤكد التوبيخ على حب العاجلة بالطريق الأولى. هـ. وقيل: اعترض نزولُها في وسطِ السورة قبل أن تكمل، فوُضعت في ذلك المحل، كمَن كان يسرد كتاباً ثم جاء سائل يسأل عن نازلةٍ، فيطوي الكتابَ حتى يُجيبه، ثم يرجع إلى تمام سرده. انظر الإتقان.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿لا تُحرِّكْ به﴾ ؛ بالقرآن ﴿لسانَكَ لِتعجَلَ به﴾، وقد كان عليه الصلاة والسلام يأخذ في القراءة قبل فراغ جبريل، كراهة أن يتفلّت منه، فقيل له: لا تُحرك لسانك بقراءة الوحي، ما دام جبريل يقرأ، ﴿لِتعجَلَ به﴾ ؛ لتأخذه على عجلة، لئلا يتفلّت منك، ثم ضَمِنَه له بقوله: ﴿إِنَّ علينا جَمْعَه﴾ في صدرك، ﴿وقرآنه﴾ ؛ وإثبات قراءته في لسانك، فالمراد بالقرآن هنا: القراءة، وهذا كقوله: ﴿وَلآ تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ [طه: ١١٤]، ﴿فإِذا قرأناه﴾ على لسان جبريل ﴿فاتَّبعْ قرآنه﴾ أي: قراءته، ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بيانَهُ﴾ إذا أشكل عليك شيء مِن معانيه وأحكامه.
الإشارة: لا تُحرِّكْ بالواردات الإلهية لسانك لِتَعْجَل به حين الإلقاء، بل تمهّل في إلقائه ليُفهم عنك، إنَّ علينا جمعه وقرآنه، أي: حفظه وقراءته، فإذا قرأناه على لسانك في حال الفيض فاتبع قرآنه، ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ. وفي الحِكم: " الحقائق تَرِدُ في حال التجلي جملة، وبعد الوعي يكون البيان، ﴿فإذا قرأناه فاتبعْ قرآنه إنَّ علينا بيانه﴾ ". ولا شك أنَّ الواردات في حال الفيض تبرز مجملةً، لا يقدر على حصرها ولا تَفَهُّمِها، فإذا فَرَغَ منها قولاً وكتابة فتَدَبرها وجدها صحيحةَ المعنى، واضحةَ المبنى، لا نقص فيها ولا خلل، لأنها من وحي الإلهام، وكان بعض المشايخ يقول لأصحابه: إني لأستفيد مني كما تستفيدون أنتم، وكان الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه إذا فاض بالمواهب يقول: هلاَّ مَن يكتب عنا هذه الأسرار. إلى غير ذلك مما هو مُدوَّن عند أهل الفن. والله تعالى أعلم.
189
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿كلاَّ﴾ أي: انزجروا عما أنتم عليه من إنكار البعث والفجور، ﴿بل تُّحبون العاجلةَ وتَذَرون الآخرة﴾ أي: بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل، وجُبلتم عليه، تَعْجلون في كل شيء، ولذلك تُحبون العاجلة مع فنائها وسرعة ذهابها، ﴿وتذرون الآخرة﴾ مع بقائها ودوام نعيمها. قال بعضهم: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى، لا سيما والعكس، الآخرة من ذهب يبقى، والدنيا من طين يفنى. ومَن قرأ بالغيب فالكلام مع الكفرة.
﴿وجوه يومئذٍ ناضرةٌ﴾ أي: وجوه كثيرة، وهي وجوه المؤمنين المخلصين، يوم إذ تقوم القيامة، بهية متهللة، يشاهَدُ عليها نَضْرة النعيم، ﴿إِلى ربها ناظرةٌ﴾ أي: مستغرِقة في مشاهدة جماله، فتغيب عما سواه. ورؤيته تعالى يوم القيامة متفاوتة، يتجلّى لكل واحد على قدر ما يطيق من نور ذاته على حسب استعداده في دار الدنيا، فيتنعّم كل واحد في النظرة على قدر حضوره هنا، ومعرفته.
ورؤيته تعالى جائزة في الدنيا والآخرة، واقعة في الدارين عند العارفين، وهذه الآية شاهدة لذلك، وهي مخصَّصة لقوله: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ [الأنعام: ١٠٣] أي: لا تراه، على قولٍ. قال بعضُهم: هي واقعة للمؤمنين قبل دخول الجنة وبعده، حسبما ورد في الصحيح. وقوله في الحديث: " فيأتيهم الله في الصورة التي لا يعرفونها "، المراد بالصورة: الصفة، والمعنى: أنهم يرونه ثانياً على ما يعرفونه من صفاته العلية، وأهل المعرفة لا ينكرونه في حال من الأحوال.
والمقصود من الآية: تقبيح رأي حب العاجلة بذكر حسن عاقبة حب الآجلة، أي: كيف يذر العاقل مثل تلك المسرّة، التي ليس فوقها شيء، بدلاً من هذه اللذة الخسيسة الدنية، أم كيف يغتر بعروض هذا السرور وعاقبته الهلاك والثبور؟ انظر الطيبي. وحَمْل النظرعلى الانتظار لأمر ربها، أو لثوابها، لا يصح خلافاً للمعتزلة؛ لأنَّ الانتظار لا يُسْند إلى الوجه، وأيضاً: المستعمل بمعنى الانتظار لا يتعدّى بـ " إلى "، مع أنه لا يليق الانتظار في دار القرار.
﴿ووجوه يومئذٍ باسرٍةٌ﴾ أيك كالحة، شديدة العبوسة، وهي وجوه الكفار. ﴿تظن﴾ أي: يتوقع أربابُها ﴿أن يُفعل بها فاقِرة﴾ أي: داهية عظيمة، تقصم فقار الظهر. ﴿كلاَّ﴾، ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة، أي: ارتدعوا عن ذلك وتنبّهوا لِما بين أيديكم من الموت، الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلّدين، وذلك ﴿إِذا بلغتِ﴾ الروح ﴿التراقيَ﴾، ولم يتقدّم للروح ذكر؛ إلاَّ أنَّ السياق يدل عليها، والتراقي: العظام المكتنفة لحفرة النحر عن يمين وشمال، جمع: ترقوة، أي: إذا بلغت
190
أعالي الصدور، ﴿وقيلَ مَن راقٍ﴾ أي: قال مَن حضر المحتضر: مَن يرقيه وينجيه مما هو فيه من الموت؟ وهو من الرُقية، وقيل: هو من كلام ملائكة الموت، أي: أيكم يَرْقَى بروحه، ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟ من الترقِّي. ﴿وظنَّ أنه الفِراقُ﴾ أي: تيقّن المحتضرُ أنَّ ما نزل به هو الفِراق من دار الدنيا ونعيمها التي كان يحبها ﴿والتفَّتِ الساقُ بالساقِ﴾ أي: التوت ساقاه بعضها على بعض عند موته. وعن سعيد بن المسيِّب: هما ساقاه حين تُلفّان في أكفانه، وقيل: شدّة فراق الدنيا بشدّة إقبال الآخرة، على أنَّ الساق مَثَلٌ في الشدة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: هَمَّان: هَمٌّ الولد، وهَمُّ القدوم على الواحد الصمد. ﴿إِلى ربك يومئذٍ المساقُ﴾ أي: إلى الله وإلى حكمه يُساق، لا إلى غيره، إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار، وهو مصدر: ساقه مساقاً.
﴿فلا صدَّق﴾ ما يجب به التصديق، من الرسول والقرآن الذي نزل عليه، أو: فلا صدّق ماله زكاه، ﴿ولا صَلَّى﴾ مافُرض عليه، والضمير فيها للإنسان المذكور في قوله: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ﴾ [القيامة: ٣]، أو: إلى المحتضر المفهوم من قوله: ﴿إذا بلغت التراقي﴾، وهو أقرب. ﴿ولكن كذَّب﴾ بما ذكر من الرسول والقرآن ﴿وَتَولَّى﴾ عن الإيمان والطاعة، ﴿ثم ذهب إلى أهله يَتَمطَّى﴾ ؛ يبختر بذلك، وأصله: يتمطط، أي: يتمدّد؛ لأنّ المتبختر يَمُدُّ خطاه، فأبدلت الطاءُ ياءً؛ لاجتماع ثلاثة أحرف متماثلة، قال في النهاية: مِشْيةٌ مُطيْطاء، بالقصر والمد، أي: فيها تَبخْتُرن ويقال: مَطَوْتُ ومَطَطْتُ بمعنى مدَدْتُ، وهي من المُصَغَّراتٍ التي لم يُستعمل لها مُكَبَّرٌ. هـ. أو: من المطا، وهو الظَّهْر فإنه يلويه.
﴿
أَوْلَى لك فأَوْلَى﴾
أي: ويل لك، وأصله: أولاك الله ما تكره، واللام مزيدة، كما في قوله: ﴿رَدِفَ لَكُم﴾ [النمل: ٧٢] أو: أولى الهلاك لك فأولى، وقيل: هو مقلوب من الويل، وقيل: أولى بالعذاب وأحق به، وقيل: من الوَلى، وهو القرب، أي: قاربه ما يهلكه. ﴿ثم أَوْلَى لك فأَوْلَى﴾، كرر للتأكيد، كأنه قيل: ويل لك فويل لك ثم ويل لك فويل لك، وقيل: التكرير فيه، لأنه أراد بالأول: الهلاك الدنيوي وفي القبر والبرزخ، ثم في القيامة، ثم في النار. ﴿أيَحْسَبُ الإِنسانُ أن يُترك سُدىً﴾ ؛ أيظن الكافرُ أن يُترك مُهْمَلاً، لا يُؤمر ولا يُنهى ولا يُبعث ولا يُجازَى، ﴿ألم يكُ نطفة مِن مَنِيٍّ تُمنى﴾ ؟ أي: تُراق في الأرحام، ﴿ثم كان علقةً﴾ أي: صار المَنِي قطعة دم جامد، بعد أربعين يوماً ﴿فخَلَقَ فسَوّى﴾ أي: فخلق الله منها بشراً سويًّا؟ ﴿فجعل منه﴾ ؛ من الإنسان، أو: من المَنِي ﴿الزوجين﴾ ؛ الصنفين ﴿الذكرَ والأُنثى﴾ لحكمه بقاء النسل، ﴿أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى﴾ وهو أهون من البدء في قياس العقول؟ كان عليه السلام إذا قرأها يقول: " سبحانك! بلى ".
191
الإشارة: قال في الإحياء: اعلم أنَّ رأس الخطايا والمهِلكة هو حب الدنيا، ورأس أسباب النجاة هو: التجافي بالقلب عن دار الغرور. ثم قال: واعلم أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلاَّ بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا، ولا تحصل المحبة إلاَّ بالمعرفة، ولا تحصل المعرفة إلاَّ بدوام الفكر، ولا يحصل الأنس إلاَّ بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسَّر المواظبة على الذكر إلاَّ بإقلاع حب الدنيا من القلب، ولا يقع ذلك إلاّ بترك لذات الدنيا وشهواتها، ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات، ولا تنقمع الشهوات بشيءٍ كما تنقمع بنار الخوف المحرقة للشهوات. هـ. على نقل صاحب الجواهر.
ومَن أسعده الله بلقاء شيخ التربية هان عليه معالجة النفس من غير تعب، في أقرب وقت، بحيث يُغيّبه عنها، ويزُجه في الحضرة، في أقرب زمان، فيدخل في قوله تعالى: ﴿وجوده يومئذ ناضرةٌ إِلى ربها ناظرةٌ﴾ فتحصل له النضرة والنظرة في الدنيا والآخرة، فيفنى عن نظره حسُّ الكائنات، وتظهر أسرار الذات الأزلية للعيان بادية، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى سواه، وينشد ما قال الشاعر:
فَلم يَبْق إلا الله لم يبقَ كائن
فما ثَمَّ موصولٌ ولا ثَمَّ بائِنُ
بِذَا جاء بُرهانُ العَيانِ فما أرى
بِعَيني إلاَّ عينَه إذْ أُعايِنُ
قال القشيري: قوله تعالى: ﴿وجوه يومئذٍ ناضرةٌ... ﴾ الخ، يُقال: هذه الآية دليل على أنهم بصفة الصحو، ولا يداخلهم حيرة ولا دهش، لأنَّ النضرة من أمارات البسط، والبقاء في حال اللقاء أتم من اللقاء، والرؤية عند أهل التحقيق تقتضي بقاء الرائي.. الخ كلامه. ﴿ووجوه يومئذ باسِرة﴾ وهي وجوه أهل الغفلة، المحجوبين في الدنيا عن شهود الحق، تظن أن يُفعل بها داهية فاقرة، لِما فرّطت في جنبه ـ تعالى ـ من عدم التوجه إليه، كلاَّ، فلترتدع اليوم، ولتنهض قبل فوات الإبان، وهو إذا بلغت الروحُ التراقي، وقيل: مَن راقٍ؟ والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق، فيحصل الندم، وقد زلت القدم، فلا صدّق بوجود الخصوصية عند أربابها، فيصحبهم ليزول عنه الغين والمرض، أي: غين الحجاب ومرض الخواطر والشكوك، ولا صلَّى صلاةَ القلوب، ولكن كذَّب بوجود الطبيب، وتولِّى عنه مع ظهوره، ثم ذهب إلى هواه ودنياه يتمطى، أَوْلَى لك فأَوْلى، أي: أبعدك الله وطردك، ثم أَوْلَى لك فأوْلى، أيحسب الإنسانُ أن يتركه الحقُ سدىً، من غير أن يُرسل له داعياً يدعوه إلى الحق؟ ألم يك نطفة مهينة، ثم صوَّره ونفخ فيه من روحه، أليس ذلك بقادرٍ على أن يُحيي الموتى؟ أي: القلوب والأرواح الميتة، بالعلم والمعرفة، بلى وعزة ربنا إنه لَقادر، " مَن استغرب أن يُنقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وَكَانَ الله على كُلِّ شيء مقتدراً " وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله.
192
سورة الإنسان
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿هل أتى على الإِنسان﴾، والاستفهام للتقرير والتعريف، أو بمعنى " قد "، أي: قد مضى على الإنسان قبل زمانٍ قريبٍ ﴿حِينٌ من الدهر﴾ أي: طائفة محدودة كائنة من الزمن الممتد ﴿لم يكن شيئاً مذكوراً﴾ بل كان شيئاً منسياً غير مذكور بالإنسانية أصلاً، كالعنصر والنطفة وغير ذلك. والجملة المنفية: حال من الإنسان، أي: مضى عليه زمان غير مذكور، أو صفة لـ " حين " على حذف العائد، أي: لم يكن فيه شيئاً، والمراد بالإنسان: الجنس.
والإظهار في قوله: ﴿إِنَّا خلقنا الإنسانَ﴾ لزيادة التقرير، أو: يراد آدم عليه السلام، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة، فقد أتى عليه حين من الدهر، وهو أربعون سنة مصوَّراً قبل نفخ الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف، وفي رواية الضحاك عنه: أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة، ثم من حمأ مسنون، فأقام أربعين سنة، ثم من صلصال، فأقام أربعين، ثم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. هـ. قلت: جمهور المؤرخين أنَّ آدم صُوِّر في السماء، ويقال: كان على باب الجنة، تمر به الملائكة وتتعجب منه، ويمكن أن يكون صُوّر في الأرض، ثم رُفع إلى السماء، القدرة صالحة. والله تعالى أعلم بما كان.
وقال بعضهم: المراد بالإنسان الأول: آدم عليه السلام، وبالثاني: أولاده، أي: خلقنا نسل الإنسان ﴿من نُطفةٍ أمشاجٍ﴾ أي: أخلاط، من: مشجت الشيء: إذا خلطته ومزجته، وصف به النطفة؛ لأنها مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة، ولكل منهما أوصاف مختلفة، من اللون، والرقّة، والغلظ، وخواص متباينة، فإنَّ ماء الرجل أبيض غليظ، فيه
193
قوة العصب، وماء المرأة أصفر رقيق، فيه قوة الانعقاد، وتخلّق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فمِن ماء المرأة. قال القرطبي: وقد رُوي هذا مرفوعاً. وقيل: إذا علا ماءُ الرجل أشبهه الولد، وإذا علا ماء المرأة أشبهها. وقيل: إذا سبق أحدهما فالشبه له. وقيل: " أمشاج " مفرد غير جمع، كبَرْمة أعشار، وثوب أخلاق. وقيل: أمشاج: ألوان وأطوار، فإنَّ النطفة تصير علقة ثم مضغة إلى تمام الخلقة. وقال ابن السكيت: الأمشاج: الأخلاط؛ لأنها ممتزجة من أنواع الأغذية من نبات الأرض، فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة. هـ.
﴿
نبتليهِ﴾
حال، أي: خلقناه مبتلين له، أي: مريدين ابتلاءه بالأمر والنهي في المستقبل، ﴿فجعلناه سميعاً بصيراً﴾ ليتمكن من سماع الآيات التنزيلية، ومشاهدة الآيات التكوينية، فهو كالمسبب عن الابتلاء، فلذلك عطف على الخلق بالفاء، ورتّب عليه قوله: ﴿إِنَّا هديناه السبيلَ﴾ ؛ بيَّنَّا له الطريق، بإنزال الآيات، ونصب الأدلة العقلية والسمعية، ﴿إِمَّا شَاكِراً وإِمَّا كَفُوراً﴾ : حال من مفعول ﴿هديناه﴾، أي: مكّنّاه وأقدرناه على سلوك الطريق الموصل إلى البُغية، في حالتي الشكر والكفر، أي: إن شكر أو كفر فقد هديناه السبيل في الحالين، فإن شكر نفع نفسه، وإن كفر رجع وبال كفره عليه، أو: حال من " السبيل "، أي: عرفناه السبيل، إمّا سبيلاً شاكراً، وإمّا سبيلاً كفوراً. ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز، والمراد: سالكه.
الإشارة: قد أتى على الإنسان حين من الدهر، وهو قبل وقوع التجلِّي به، لم يكن شيئاً مذكوراً، بل كان شيئاً معلوماً موجوداً في المعنى دون الحس، غير مذكور في الحس، فلمّا وقع به التجلِّي صار شيئاً مذكوراً، يذكر بالخطاب والتكليف، ويمكن أن يكون الاستفهام إنكارياً، أي: هل أتى عليه زمان لم نذكره فيه، بل لم يأتِ عليه وقت إلاَّ وكان مذكوراً لي. ويُقال: هل غفلتُ ساعة عن حفظك؟ هل ألقيتُ ساعة حبلك على غاربك؟ هل أخليتك ساعة من رعاية جديدة، وحماية مزيدة. هـ. من الحاشية.
ثم بيَّن كيفية التجلِّي به فقال: ﴿إنَّا خلقنا الإنسان﴾ أي: بشريته ﴿من نُطفة أمشاج﴾ أي: من نطفة من أخلاط الأرض، فلذلك كانت تنزع إلى أصلها، وتخلد إلى أرض الحظوظ والهوى، نبتليه بذلك، ليظهر الصادق في طلب الحق بمجاهدة نفسه في إخراجها عن طبعها الأصلى، والمُعرض عن الطلب باسترساله مع طبعها البشري، ويقال: خلقته من أمشاج النطفتين فينزع طبعُ الولد إلى الإغلب منهما، فإن غَلَبَ ماء الرجل نزع إلى طبع أبيه، خيراً كان أو شرًّا، وإن غلب ماء المرأة، نزع إلى طبع أمه كذلك، ابتلاء من الله وقهرية، فلا بد أن يغلب الطبع، ولو جاهد جهده، ولذلك قال عليه السلام: " إذا سمعتم أنَّ الجبال انتقلت فصَدِّقوا، وإذا سمعتم أنَّ الطباع انتقلت فلا تُصَدِّقوا " وفائدة الصُحبة
194
والمجاهدة: خمود الطبع وقهر صولته، لا نزعه بكليته، فيقع الرجوع إلى الله من الطبع الدنيء، ولا يقدح في خصوصيته إن رجع إلى الله في الحين، ولذلك تلونت أحوال الأولياء بعد مجاهدتهم ورياضتهم. والله تعالى أعلم. فجعلناه سميعاً بصيراً، ونفخنا فيه روحاً سماوية وقدسية، تحن دائماً إلى أصلها، فمنها مَن غلبت عليه النطفةُ الطينية، فأخلدت بها إلى الأرض، فبقيت مسجونة في هيكلها، محجوبة عن ربها، ومنها: مَن غلبت روحانيتها على الطينية، فعرجت بها إلى الحضرة القدسية، حتى رجعت إلى أصلها وإلى هذا أشار بقوله: ﴿إنا هديناه السبيل﴾ أي: بيَّنَّا له الطريق الموصل إلى الحضرة، فصار إمّا شاكراً بسلوكها أو كافراً بالإعراض عنها، وعدم الدخول تحت تربية العارف بها.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّا أعتدْنا﴾ ؛ أعددنا ﴿للكافرين سلاسلاً﴾ يُقادون بها إلى النار ﴿وأغلالاً﴾ يُقيَّدون بها ﴿وسعيراً﴾ يُحرقون بها. و " سلاسل " لا ينصرف؛ لصيغة منتهى الجموع، ومَن صرفه فليناسب أغلالاً، إذ يجوز صرف غير المنصرف للتناسب. وتقديم وعيد الكفرة مع تأخرهم في الجمع على طريق اللف والنشر المعكوس، كقوله: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ... ﴾ [آل عمران: ١٠٦] الآية ليتخلّص إلى الكلام على الفريق الأول بطريق الإطناب، فقال:
﴿إِنَّ الأبرارَ﴾ جمع بر وبار، كرب وأرباب، وشاهد وأشهاد، وهو مَن يبر خالقه، أي: يُطيعه، وقيل: الأبرار هم الصادقون في الإيمان، أو: الذين لا يؤذون الذر، ولا يعمدون الشر. ﴿يشربون من كأس﴾ وهو الزجاجة إذا كان فيها خمر، ويُطلق على نفس الخمر، فـ " مِن " على الأول ابتدائية، وعلى الثاني تبعيضية، ﴿كان مِزاجُها﴾ أي: ما تمزج به ﴿كافوراً﴾ أي: ماءٌ كافورٌ، وهو عين في الجنة، ماؤها في بياض الكافور ورائحتِه وبردِه. وفي القاموس: الكافور: نبت طيب، نَوره كنَور الأُقحوان، وطِيب معروف، يكون
195
من شجر بجبال بحر الهند والصين، يُظل خلقاً كثيراً، وتألفه النمور، وخشبه أبيض هش، ويوجد في أجوافه الكافور، وهو أنواع، ولونها أحمر، وإنما يبيّض بالتصعيد، والتصعيد: الإذابة. هـ. وقوله تعالى: ﴿عيناً﴾ : بدل من " كافور "، وعن قتادة: تمزج لهم بالكافور، وتختم لهم بالمسك، وقيل: يخلق فيها رائحة الكافور وبياضه ويرده، فكأنها مزجت بالكافور، وهذا أنسب بأحوال الجنة، فـ " عيناً " على هذين القولين: بدل من محل (من كأس) على حذف مضاف، أي: يشربون خمر عين، أو: نصب على الاختصاص، وقوله تعالى: ﴿يشرب بها عبادُ الله﴾ : صفة لعين، أي: يشربون منها، أو: الباء زائدة، ويعضده قراءة ابن أبي عبلة: " يشربها "، أو: هو محمول على المعنى، أي: يتلذذون بها، أو يروون بها، وإنما عبّر أولاً بحرف " من " وثانياً بحرف الباء؛ لأنَّ الكأس مبتداً شرابهم وأول غايته، وأمّا العين فيها يمزجون شرابهم. قاله النسفي. وقيل: الضمير للكأس، أي: يشربون العين بتلك الكأس، ﴿يُفجِّرُونها تفجيراً﴾ أي: يُجْرُونَها حيث شاؤوا من منازلهم إجراءاً سهلاً، لا يمتنع عليهم، بل يجري جرياً بقوة واندفاع.
﴿
يُوفُون بالنَّدْرٍ﴾
بما أَوجبوا على أنفسهم من الطاعات، وهو استئناف مسوق لبيان ما لأجله رُزقوا ما ذكر من النعيم، كأنه قيل: ماذا كانوا يفعلون حتى نالوا تلك الرتبة العالية؟ فقال: يُوفون بما أوجبوا على أنفسهم، فكيف بما أوجبه اللهُ عليهم؟ ﴿ويخافون يوماً كان شَرُّه﴾ ؛ شدائده أو عذابه ﴿مُسْتَطِيراً﴾ ؛ منتشراً فاشياً في أقطار الأرض غاية الانتشار، من: استطار الفجر: انتشر. ﴿ويُطعِمون الطعامَ على حُبه﴾ أي: كائنين على حب الطعام والحاجة إليه، كقوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران: ٩٢] أو: على حب الإطعام، بأن يكون ذلك بطيب النفس، أو: على حب الله، وهو الأنسب بقوله: ﴿لوجه الله﴾، ﴿مسكيناً﴾ ؛ فقيراً عاجزاً عن الاكتساب، أسكنه الفقرُ في بيته، ﴿ويتيماً﴾ ؛ صغيراً لا أب له، ﴿وأسيراً﴾ أي: مأسوراً كافراً. كان عليه السلام يؤتى بالأسير، فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول له: " أحسِن إليه " أو: أسيراً مؤمناً، فيدخل فيه المملوك والمسجون، وقد سمى رسولُ الله ﷺ الغريم أسيراً فقال: " غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك ". ثم علّلوا إطعامهم فقالوا: ﴿إِنما نُطعمكم لوجه الله﴾ أي: لطلب ثوابه، أو: هو بيان من الله تعالى عما في ضمائرهم من الإخلاص، لأنَّ الله تعالى عَلِمه منهم، فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئاً، وفيه نظر؛ إذ لو كان كذلك لقال: " يطعمهم " بضمير الغيب، فالجملة على الأول محكية بقول محذوف، حال من فاعل " يُطعمون " أي: قائلين بلسان الحال أو المقال؛ لإزاحة توهم المنّ المبطل للصدقة، وتوقع المكافآت المنقصة للأجر: ﴿إنما نُطعمكم... ﴾ الخ. وعن الصدّيقة ـ رضي الله عنها ـ كانت تبعث بالصدقة، ثم تسأل الرسولَ ما قالوا، فإذا ذكر دعاءهم دعت لهم بمثله، ليبقى لها ثواب الصدقة خالصاً. {لا
196
نُريد منكم جزاء ولا شُكوراً} أي: لا نطلب على طعامنا مكافأة هدية ولاثناءً، وهو مصدر: شكر شكراً وشُكوراً.
﴿إِنَّا نخافُ من ربنا﴾ أي: إنا لا نُريد منكم المكافأة لخوف عذاب الله على طلب المكافأة في الصدقة، أو: إنا نخاف من ربنا فنتصدّق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف، ﴿يوماً عَبُوساً قمْطريراً﴾، وصف اليوم بصفة أهله، نحو: نهاره صائم. والقمطرير: الشديد العبوس، الذي يجمع ما بين عينيه، أي: نخاف عذاب يوم تعبس فيه الوجوه أشد العبوسة.
﴿
فوقاهم اللهُ شَرَّ ذلك اليوم﴾
؛ صانهم من شدائده، لسبب خوفهم وتحفُّظهم منه، ﴿ولَّقاهم﴾ أي: أعطاهم بدل عبوس الفجار ﴿نضرةً﴾ ؛ حُسناً في الوجوه ﴿وسُروراً﴾ في القلب، ﴿وجزاهم بما صبروا﴾ ؛ بصبرهم على مشاق الطاعات، ومهاجرة المحرمات، وإيثار الغير بالعطاء في الأزمات، ﴿جنةً﴾ ؛ بستاناً يأكلون منه ما يشاؤون ﴿وحَرِيراً﴾ يلبسونه ويتزينون به.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنّ الحسن والحسين ـ رضي الله عنهما ـ مَرِضا فعادهما النبيُّ ﷺ في أّناس معه، فقالوا لعليّ رضي الله عنه: لو نذرت على ولدك، فنذر عليّ وفاطمةُ وجاريتهما ـ يقال لها: فِضة ـ إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام، فشُفيا، فاستقرض عليّ من يهودي ثلاث أصُوع من الشعير، فطحنت ـ رضي الله عنها ـ صاعاً، واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني، أطعمكم اللهُ من موائد الجنة، فآثروه، وباتوا لم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياماً، فلما أمسوا وضعوا الطعام بين أيديهم، فوقف عليهم يتيم، فأثروه، ثم وقف عليهم في الثالثة أسير، ففعلوا مثل ذلك، فلما أصبحوا أخذ بيد الحسن والحسين، وأقبلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أبصرهم وهم يرتعشون، كالفراخ من شدة الجوع، قال عليه السلام: " ما أشد ما يسوؤني مما أرى بكم "، وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبريلُ عليه السلام وقال: يا محمد هنّاك الله في بيتك، فأقرأه السورة. هكذا ذكر القصة الزمخشري وجمهور المفسرين، وأنكر ذلك الترمذي الحكيم في نوادره، وجزم بعدم صحتها لمخالفتها لأصول الشريعة، وعدم جريه على ما تقتضيه من إنفاق العفو، وكذا " ابْدَأ بمَن تَعُولُ " و " كفى بالمرء إثماً أن يَضيّع مَن يقوت "، وغير ذلك. هـ.
197
قلت: ويُجاب بأنَّ هذا من باب الأحوال، وللصحابة في الإيثار أحوال خاصة بهم؛ لشدة يقينهم رضي الله عنهم، وقد خرج الصدّيق رضي الله عنه عن ماله مِراراً، وقال: (تركت لأهلي الله ورسوله)، وكذلك فعل الصحابي الذي قال لامرأته: نوِّمِي صبيانك ليتعشّى ضيف رسول الله ﷺ الذي نزل فيه، ﴿وَيُؤْثِرُون عَلَى أَنفُسِهِمْ... ﴾ [الحشر: ٩] الآية، وصاحب الأحوال معذور، غير أنه لا يُقتدى به في مثل تلك الحال، فإنكار الترمذي بما ذَكَر غير صحيح.
﴿
متكئين فيها﴾
؛ في الجنة، حال من " جزاهم "، والعامل جزاء، ﴿على الأرائك﴾ ؛ على الأسِرة في الحجال، ﴿لا يَرَون فيها شمساً ولا زمهريراً﴾ لأنه لا شمس فيها ولا زمهرير ـ أي: بردٌ ـ فظِلها دائم؛ وهواها معتدل، لا حرَّ شمس يحمي، ولا شدّة بردٍ يؤذي، فالزمهرير: البرد الشديد، وقيل: القمر، في لغة طيء، أي: الجنة مضيئة لا يُحتاج فيها إلى شمس ولا قمر. وجملة النفي إمّا حال ثانية، أو: من المستكن في (متكئين).
﴿ودانيةً﴾ : عطف على (جنة)، أي: وجنة أخرى دانية ﴿عليهم ظِلالها﴾ ؛ قريبة منهم ظلال أشجارها؛ قال الطيبي: إنما قال: (دانية عليهم) ولم يقل " منهم "؛ لأنَّ الظلال عالية عليهم. هـ. فظلالها فاعل بدانية، كأنهم وُعدوا جنتين؛ لأنهم وُصفوا بالخوف، وقد قال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: ٤٦]، ﴿وذًللت قُطوفُها تذليلا﴾ أي: سُخَّرت ثمارها للقائم والقاعد، والمتكىء، وهو حال من " دانية " أي: تدنو عليهم ظلالها في حال تذليل قطوفها. وقال في الحاشية: جملة فعلية معطوفة على جملة ابتدائية؛ وفيه لطيفة: أنَّ استدامة الظل مطلوبة هناك، وأمّا الذليل للقطْف فهو على التجدًّد شيئاً بعد شيء، كلما أرادوا أن يقطعوا شيئاً منها ذل لهم، ودنا لهم، قعداً كانوا أو مضطجعين. هـ. وظاهر كلامه: أنَّ " ظلالها " مبتدأ، و " عليهم " خبر، وظاهر كلام الطيبي: أنه فاعل. والقطوف: جمع قِطْف، وهو ما يجتنى من ثمارها.
﴿ويُطاف عليهم بآنيةٍ من فضةٍ﴾ أي: يدير عليهم خَدَمُهم كؤوس الشراب، وكأنه تعالى لَمَّا وصف لباسهم، وهيئة جلوسهم، وطعامهم، ذكر شرابهم، ثم يذكر خدمهم، وما هيأ لهم من المُلك الكبير، و (آنية) : جمع إناء، وهو: وعاء الماء، ﴿وأكواب﴾ أي: مِن فضة، جمع كوب، وهو الكوز العظيم الذي لا أُذن له ولاعروة، ﴿كانت قواريراً﴾ " كان " تامة، أي: كُونت فكانت قوارير بتكوين الله. و (قواريرَ) : حال، أو: ناقصة، أي: كانت في علم الله قوارير، ﴿قواريرا من فِضةٍ﴾ : بدل من الأول، أي: مخلوقة من فضة، قال ابن عطية: يقتضي أنها من زجاج ومن فضة، وذلك ممكن؛ لكونه من زجاج في شفوفه، ومن فضة في جوهره، وكذلك فضة الجنة شفافة. هـ. فهي جامعة لبياض الفضة وحُسنها، وصفاء القوارير وشفيفها، حتى يُرى ما فيها من الشراب من خارجها. قال ابن عباس: قوارير كل أرض من تربتها، وأرض الجنة فضة. هـ. و " قوارير " ممنوع من
198
الصرف، ومَن نَوّنه فلتناسب الآي المتقدّمة والمتأخّرة، ﴿قدَّروها تقديراً﴾ ؛ صفة للقوارير، يعني: أنَّ أهل الجنة قدَّروها في أنفسهم، وتمنوها، وأرادوا أن تكون على مقادير وأشكال معينة، موافقة لشهواتهم، فجاءت حسبما قدَّروها، تكرمةً لهم، أو: السُّقاة جعلوها على قّدْر ريّ شاربها؛ لتكون ألذّ لهم وأخف عليهم. وعن مجاهد: لا تُفيض ولا تَغيض، أو: قَدَّروها بأعمالهم الصالحة، فجاءت على حسبها.
﴿
ويُسقون فيها كأساً﴾
؛ خمراً ﴿كان مِزَاجُهَا زَنجبِيلاً﴾ أي: ما يشبه الزنجبيل في الطعم والرائحة. وفي القاموس: الزنجبيل: الخمر، وعُروق تسري في الأرض، ونباته كالقصب والبرد، له قوة سخنة هاضمة ملينة.. الخ. قلت: وهو السكنجيبر ـ بالراء ـ ولعل العرب كانت تمزج شرابها به للرائحة والتداوي. وقوله تعالى: ﴿عيناً﴾ : بدل من " زنجبيلا "، ﴿فيها﴾ أي: في الجنة ﴿تُسمى سلسبيلا﴾، سُميت العين زنجبيلاً؛ لأنَّ ماءها فيه رائحة الزنجبيل، والعرب تستلذه وتستطيبه، وسميت سلسبيلاً لسلاسة انحدارها، وسهولة مساغها، قال أبو عُبيدة: ماء سلسبيل، أي: عذب طيب. هـ. ويقال: شراب سلسبيل وسَلسَال وسلَسيل، ولذلك حُكم بزيادة الباء، والمراد: بيان أنها في طعم الزنجبيل، وليس فيها مرارة ولا زعقة، بل فيها سهولة وسلاسة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إِنَّا أعتدنا للكافرين بطريق الخصوص، وهم أهل الحجاب سلاسل الأشغال والعلائق، وأغلال الحظوظ والعوائق، فلا يرحلون إلى الله وهم مكبّلون بشهواتهم، مغلولون بعوائقهم. وأعتدنا لهم سعير القطيعة والطرد. إنَّ الأبرارَ، وهم المطهرون من درن العيوب، المتجرَّدون من علائق القلوب، يشربون من كأس خمر المحبة كان مزاجها كافورَ بردِ اليقين، عيناً يشرب منها عبادُ الله المخلصون، يُفجِّرونها على قلوبهم وأرواحهم وأسرارهم تفجيراً، فتمتلىء محبةً ويقيناً، يُوفون بما عقدوا على أنفسهم من المجاهدة والمكابدة إلى وضوع أنوار المشاهدة، ويخافون يوماً كان شرُّه مستطيراً، إذ فيه يفتضح المدّعون، ويظهر المخلصون، ويُطعمون طعام الأرواح والأسرار من العلوم والمعارف، على حُبه، إذ لا شيء أعز منه عندهم، إذ هو الإكسير الأكبر، والغنى الأوفر، مسكيناً، أي: ضعيفاً من اليقين، ويتيماً لا شيخ له، وأسيراً في أيدي العلائق والحظوظ، وإنما نفعل ذلك لوجه الله، لا يريدون بذلك جزاء، أي: عِوضاً دنيوياً ولا أخروياً، ولا شكوراً؛ مدحاً أو ثناءً؛ إذ قد استوى عندهم المدح والذم، والمنع والعطاء، قائلين: إنا نخاف من ربنا، إن طلبنا عوضاً، أو قَصَّرنا في الدعاء إلى الله، يوماً شديداً تُعبّس فيه وجوه الجاهلين، وتُشرق وتتهلّل وجوه العارفين. فوقاهم اللهُ شرَّ ذلك اليوم، فصبروا قليلاً، واستراحوا كثيراً، ولقَّاهم نضرةً؛ بهجة في أجسادهم، وسُروراً دائماً في قلوبهم وأسرارهم. وجزاهم بما صبروا في أيام سيرهم جنة المعارف والزخارف، متكئين فيها على الأرائك؛ على أَسِرة القبول، وفُرُش الرضا وبلوغ المأمول، لا يَرون فيها حَرّ التدبير
199
والاختيار ولا زمهرير الضعف والانكسار؛ لأنَّ العارف باطنه قوي على الدوام، لأنَّ مَن عنده الكنز قلبه سخين به دائماً.
وقال القشيري: لا يؤذيهم شمس المشاهدة؛ لأنَّ سطوة الشهود ربما تفني صاحبها بالكلية، فيغلب عليه السُكْر، فلا يتنعّم بلذة الشهود، ولا زمهرير الحجاب والاستتار. هـ. باختصار. ودانية، أي: وجنة أخرى دانية، وهي جنة البقاء، والأُولى جنة الفناء، عليهم ظلالها، وهي روح الرضا ونسيم التسليم، وذُللت قُطوفها من الحِكَم والمواهب، تذليلاً، فمهما احتاجوا إلى علم أو حكمة أجالوا أفكارهم، فتأتيهم بطرائف العلوم وغرائب الحِكَم، ويُطاف عليهم بأواني الخمرة الأزلية، فيشربون منها في كل وقت وحين، كيف شاؤوا وحيث شاؤوا. جعلنا الله مِن حزبهم، آمين.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ويطوفُ عليه ولدان﴾ أي: غلمان ينشئهم اللهُ لخدمة المؤمنين. أو: ولدان الكفرة يجعلهم الله تعالى خدماً لأهل الجنة. ﴿مخلَّدون﴾ لا يموتون، أو: دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء، ﴿إِذا رأيتهم حَسِبْتَهُم لؤلؤاً منثوراً﴾ لحُسْنهم، وصفاء ألوانهم، وإشراق وجوههم، وانبثاثِهم في مجالسهم ومنازلهم. وتخصيص المنثور لأنه أزين في المنظر من المنظوم.
﴿وإِذا رأيتَ ثَمَّ﴾ أي: وإذا وقعت منك رؤية هناك، فـ " رأيت " هنا: لازم، ليس له مفعول لا ملفوظ ولا مُقدّر، بل معناه: أنَّ بصرك أينما وقع في الجنة ﴿رأيتَ نعيماً﴾ عظيماً ﴿ومُلكاً كبيراً﴾ أي: هنيئاً واسعاً. وفي الحديث: " أَدْنَى أهل الجنةِ منزلا مَن ينظرُ في مُلكه مَسيرة ألف عام، ويَرَى أقصاهُ كما يرى أدناه "، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أدنى أهل الجنة منزلاً الذي يركبُ في ألف ألف من خَدَمه من الولدان، على خيل من ياقوت أحمر، لها أجنحة من ذهب "، ثم قرأ عليه السلام: ﴿وإذا رأيت ثَمَّ... ﴾ إلخ. وقيل: مُلكاً لا يعقبه زوال، وقال الترمذي: مُلك التكوين، إذا أرادوا شيئاً كان هـ. وقيل: تستأذن عليهم الملائكة استئذان الملوك. رُوي: إنَّ الملائكة تأتيهم بالتُحف، فتستأذن عليهم، حاجباً بعد حاجب، حتى يأذن لهم الآخر، فيدخلون عليهم من كل بابٍ بالتُحف والتحية والتهنئة. هـ.
200
ثم وصف لباس أهل الجنة فقال: ﴿عَالِيَهُم ثِيَابُ سُندُسٍ﴾ فمَن نصبه جعله حالاً من الضمير في " يطوف عليهم " أي: يطوف عليهم ولدان عالياً للمطوف عليهم ثيابُ سندس، ومَن قرأه بالسكون فمبتدأ، و " ثياب " خبر، أي: الذي يعلوهم من لباسهم ثياب سندس، وهو رقيق الديباج، ﴿خُضْرٌ﴾ ؛ جمع أخضر، ﴿وإِستَبرقٌ﴾ ؛ غليظ الديباج، فمَن رفعهما حملهما على الثياب، ومَن جَرَّهما فعلى سندس. ﴿وحُلُّوا أساوِرَ من فضةٍ﴾ وفي سورة الملائكة: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً﴾ [فاطر: ٣٣]، والجمع بينهما: بأنه يجمع في التحلية بينهما. قال ابن المسيب: (لا أحدٌ من أهل الجنة إلاّ وفي يده ثلاثة أسْوِرة، واحد من فضة، وآخر من ذهب، وآخر من لؤلؤ) أو: يختلف ذلك باختلاف الأعمال، فبعضهم يُحلّى بالفضة، وبعضهم بالذهب، وبعضهم باللؤلؤ.
﴿
وسقاهم ربُّهم﴾
، أضيف إليه تعالى للتشريف والتخصيص، وقيل: إنَّ الملائكة يعرضون عليهم الشراب، فيأبون قبولَه منهم ويقولون: قد طال أخْذُنا مِن الوسائط، فإذا هم بكاساتٍ تُلاقِي أفواههم بغير أكفٍّ من غيبٍ إلى عَبْدٍ. هـ. قلت: ولعل هؤلاء كانوا محجوبين في الدنيا، وأمّا العارفون فالوسائط محذوفة في نظرهم مع وجودنا. فيسقيهم ﴿شراباً طهوراً﴾ أي: ليس برجْسٍ كخمر الدنيا، لأنَّ كونها رجساً بالشرع لا بالعقل، أو: لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضِرة، وتدوسه الأرجل الوسخة، والوضر: الوسخ. قال البيضاوي: يريد به نوعاً آخر، يفوق النوعين المتقدمين، ولذلك أسند سقيه إلى الله، ووصفه بالطهورية، فإنه يطهر شاربه عن الميل إلى اللذات الحسية، والركون إلى ما سوى الحق، فيتجرّد لمطالعة جماله، ملتذًّا بلقائه، باقياً ببقائه، وهو منتهى درجات الصدِّيقين، ولذلك خُتِم به ثواب الأبرار. هـ. ويُقال لأهل الجنة: ﴿إِنَّ هذا﴾ أي: الذي ذكر من فنون الكرامات ﴿كان لكم جزاء﴾ في مقابلة أعمالكم الحسنة، ﴿وكان سعيُكم مشكوراً﴾ ؛ مرضياً مقبولاً عندنا، حيث قلتم للمسكين واليتيم والأسير: لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً.
الإشارة: ويطوف على قلوبهم وأسرارهم جواهر العلوم، ويواقيت الحِكَم كأنها اللآلىء المنثورة، وإذا رأيتَ ثَمَّ إذا جالت فكرتك، وعامت في بحار الأحدية، رأيت ببصيرتك نعيماً من نعيم الأرواح، وهي لذة الشهود والفرح برؤية الملك الودود، ومُلكاً كبيراً، وهي عظمة الذات الأولية والآخرية، والظاهرة والباطنة. وإذا رأيتَ ذلك كان الوجود كله تابعاً لك، ينبسط ببسطك، وينقبض بقبضك، وحكمه حكمك، وأمره عند أمرك، تتصرف بهمتك على وفق إرادة مولاك، عاليَهم ثياب العز والبهاء، وثياب الهيبة والجلال؛ وحُلُّوا أساورَ من مقامات اليقين، وَسَقَاهُمْ ربُّهم شَرَاباً طَهُوراً، وهو شراب الخمرة، فإنها تطهر القلوب والأسرار من البقايا والأكدار.
وقال القشيري: ويقال: يُطهرهم من محبة الأغيار، ويقال: من الغلِّ والغِشِّ
201
والدعوى. ثم قال ويقال: مَن سقاه اليوم شرابَ محبَّتِه لا يستوحِش في وقته من شيء، ومن مقتضى شُرْبه بكأسِ محبته أن يجودَ على كل أحدٍ بالكونين من غير تمييز، لا يَبْقَى على قلبه أثرٌ للأخطار، ومَن آثر شربه بذل كله لكل أحدٍ لأجل محبوبه؛ فيكون لأصغرِ الخَدم تُرَابَ القَدَم، لا يتحرك فيه للتكبُّر عرقٌ، وقد يكون من مقتضى ذلك الشراب أيضاً في بعض الأحيان أن يَتِيه على أهل الدارين، وأن يَمْلِكَه سرورٌ، ولا يَتَمَالَكُ معه عن خَلْع العذارِ، وإلقاء قناع الحياء وإظهار ما به من المواجيد. ومن موجبات ذلك السُكْر: سقوطَ الحشمة، فيتكلم بمقتضى البسط، أو بموجب لطف السكون بما لا يستخرج منه في حال صَحْوه شُبهة بالمناقيش، ، وعلى هذا قول موسى: ﴿رَبِّ أَرِنِيا أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ [الأعراف: ١٤٣] قالوا: سَكِرَ مِن سماع كلامه، فَنَطَقَ بذلك لسانُه، وأمّا حين يسقيهم شرابَ التوحيد فينتفي عنهم شهود كلِّ غَيْرٍ، فيهيمون في أودية العِزِّ، ويتيهون في مفاوزِ الكبرياء، وتتلاشى جملتُهم في هوى الفردانية، فلا عقلَ ولا تمييز، ولا فهمَ ولا إدراك. والعبد يكون في ابتداء الكشفِ مستوعباً، ثم يصير مستغرقاً، ثم يصير مُسْتَهلَكاً ﴿وَأَنَّ إِلَىا رَبِّكَ الْمُنتَهَىا﴾ [النجم: ٤٢]. هـ. وقال الورتجبي: فتلك الكائنات المروقات عن علل الحجاب والعتاب دارت عليها في الدنيا حتى ترجع إلى معادنها من الغيب. ثم قال: فإذا شَرِبوا تلين جلودُهم وقلوبهم إلى ذكر الله، سقاهم ذلك في الدنيا، في ميدان ذكره، بكأس محبته، على منابر أُنسه بمخاطبة الإيمان، وسقاهم في الآخرة، في ميدان قربه، بكأس رؤيته، عَلَى مَنَابِرَ مِن نورٍ بمخاطبة العيان. هـ. قلت: تفريقه بين الدنيا والآخرة غير لائق بمقام المحقِّقين من العارفين، فالعارف لم تبقَ له دنيا ولا آخرة، لم يبقَ له إلاّ الله، تتلوّن تجلياته، فما هناك هو حاصل اليوم، لولا تكثيف الحجاب. ثم يُقال لأهل التمكين: إنَّ هذا
كان لكم جزاء على مجاهدتكم وصبركم، وكان سعيكم مشكوراً، وحضكم منه موفوراً. وبالله التوفيق.
202
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّا نحن نزَّلنا عليك القرآن تنزيلا﴾ أي: مفرّقاً منجماً، شيئاً فشيئاً، لحِكَم بالغة مقتضية لتفريقه، لا غيرنا، كما يُعرب عنه تكرير الضمير مع " إن "، فهو تأكيد لاسم إن، أو: ضمير فصل لا محل له ﴿فاصبر لِحُكم ربك﴾ في تأخير نصرك، فإنّ له عاقبة حميدة، أو: اصبر لتبليغ الرسالة، وتحمل الأذى؛ فإن العاقبة لك، ﴿ولا تُطِعْ منهم آثماً أو كفوراً﴾ أي: لا تُطع الآثم في إثمه، ولا الكافر في كفره، أي: لا تُطع كل واحد من مرتكب الإثم الداعي لك إليه، أو من الغَالي في الكفر الداعي إليه، و " أو " للدلالة على أنهما سيان في استحقاق العصيان والاستقلال به، باعتبار ما يدعون إليه، فإنَّ ترتيب الوصف على الوصفين مشعر بعليتهما، فلا بد أن يكون النهي عن الإطاعة في الإثم والكفر، لا فيما ليس بإثم ولا كفر.
وقيل: الآثم: عُتبة، فإنه كان ركّاباً متعاطياً لأنواع الفسوق، والكفور: الوليد، فإنه كان غالياً في الكفر، شديد الشكيمة في العتو. والظاهر: أنّ المراد كل آثم وكافر، اي: لا تُطع أحدهما، وإذا نهى عن طاعة أحدهما لا بعينه، فقد نهى عن طاعتهما معاً، ولو كان بالواو لجاز أن يُطيع أحدهما؛ لأن الواو للجمع، فيكون منهياً عن طاعتهما، لا عن طاعة أحدهما.
﴿واذكر اسمَ ربك بُكرةً وأصيلا﴾ اي: دُم على ذكره في جميع الأوقات. وتخصيص الوقتين لشرفهما. قيل: لمّا نهى حبيبه عن طاعة الآثم والكفور، وحَثه على الصبر على آذاهم وإفراطهم في العداوة؛ عقّب ذلك بالأمر باستغراق أوقاته في ذكره وعبادته، فهو كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَكَ يَضِيقُ صَدْرَكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ... ﴾ [الحجر: ٩٧، ٩٨] الآية، وفي إقباله راحة له من وحشته؛ لجهلهم بأنسه بربه، وقرّة عينه به. وفي ذلك أمُره بالإفراد لربه بطاعته، دون مَن يدعوه، لخلاف ذلك من ألإثم والكفور. هـ. من الحاشية. أو: بكرة: صلاة الفجر، وأصيلاً: الظهر والعصر، ﴿ومن الليل فاسجدْ له﴾ ؛ وبعض الليل فصلِّ صلاة العشاءين، ﴿وسبِّحه ليلاً طويلاً﴾ أي: تهجّد له قِطْعاً من الليل طويلاً؛ ثلثه أو نصفه أو ثلثيه. وتقديم الظرف في (مِن الليل) لِما في صلاة الليل من مزيد كلفة وخلوص.
﴿
إِنّ هؤلاء﴾
الكفرة ﴿يُحبون العاجلةَ﴾ وينهمكون في لذاتها الفانية، ويؤثرونها على الآخرة، فلا يلتفتون إلى ذكرٍ ولا صلاة، ﴿ويذرون وراءهم﴾ ؛ قدّامهم، فلا يستعدُّون له، أو: ينبذونه وراء ظهورهم، ﴿يوماً ثقيلاً﴾ ؛ شديداً لا يعبؤون به، وهو يوم القيامة؛ لأنّ شدائده تثقل على الكفار. ووصفه بالثقل لتشبيه شدته وهوله بثقل شيء فادح، وهو كالتعليل لِما أمر به ونَهَى عنه.
﴿نحن خلقناهم﴾ لا غيرنا، ﴿وشَدَدْنا أسْرَهُم﴾ أي: قوّينا خِلقتهم حتى صاروا أقوياء، يُقال: رجل حسن الأسر: الخلق، وفرس شديد الأسر، أي: الخلقة، ومنه
203
قوله لبيد:
ساهِمُ الوجه شديدٌ أسْرُهُ
مُشرِفُ الحاركِ محبوكُ الكَتَدْ
أو: أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب، أو: أخذنا ميثاقهم على الإقرار، ﴿وإِذا شئنا بدّلنا أمثالهم تبديلاً﴾ أي: إذا شئنا إهلاكهم أهلكناهم وبدّلنا أمثالهم في الخلقة ممن يطيع ولا يعصي. أو: بدلنا أمثالهم تبديلاً بديعاً لا ريب فيه، وهو البعث كما ينبىء عنه كلمة (إذا) لدلالتها على تحقُّق القدرة وقوة الداعية.
﴿إِنَّ هذه تَذْكِرةُ﴾، الإشارة إلى السورة، أو الآيات القريبة، أي: هذه موعظة بليغة، ﴿فمَن شاء اتخذ إِلى ربه سبيلاً﴾ بالتقرُّب إليه بالطاعة واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ﴿وما تشاؤون﴾ اتخاذَ السبيل إلى الله، أو: مايشاء الكفرة ﴿إِلاّ أن يشاء الله﴾، وهو تحقيق للحق، ببيان أنَّ مجرد مشيئَتهم غير كافية في اتخاذ السبيل، ولا يقدرون على تحصيله في وقت من الأوقات، إلاَّ وقت مشيئته في تحصيله لهم، إذ لا دخل لمشيئة العبد إلاّ في الكسب، وإنما التأثير لمشيئة الله تعالى، ﴿إِنَّ الله كان عليما حكيماً﴾ ؛ عليماً بما يكون منهم من الأحوال، حكيماً مصيباً في الأقوال والأفعال، وهو بيان لكون مشيئته تعالى مبنية على أساس العلم والحكمة، أي: هو تعالى مبالغ في العلم والحكمة، فيعلم ما يستأهله كل أحد، فلا يشاء لهم إلاّ ما يستدعيه علمه وتقضيه حكمته.
وقوله تعالى: ﴿يُدخل من يشاء في رحمته﴾، بيان لأحكام مشيئته، المترتبة على علمه وحكمته، أي: يُدخل في رحمته مَن يشاء أن يدخله فيها، وهو الذي يصرف مشيئته نحو اتخاذ سبيل الله تعالى، حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة. ﴿والظالمين﴾ وهم الذين صرفوا مشيئَتهم إلى خلاف ما ذكر ﴿أعدَّ لهم عذاباً أليماً﴾ متناهياً في الإيلام، و " الظالمين " منصوب بمضمر يُفسره معنى ما بعده، أي: أهان الظالمين أعد لهم عذابا أليما.
الإشارة: إنّا أنزلنا عليك أيها الخليفة القرآن، أي: الجمع على ربك في قلبك وسرك، تنزيلاً مترتباً شيئاً فشيئاً على حسب التهذيب والتدريب، فاصبرْ لحُكم ربك، أي: ما حَكَم به عليك من قهرية الجلال، وارتكاب الأهوال، ومقاسات الأحوال، فإنَّ العاقبةَ
204
شهودُ الكبير المتعالي، وبذلُ المُهج والأرواح قليل في حقه، ولا تُطع في حال سيرك آثماً يريد أن يميلك عن قصد السبيل، أو كفوراً بطريق الخصوص يريد أن يصرفك عنها، واذكر اسم ربك، أي: استغرق أنفاسك في ذكر اسمه الأعظم، وهو الاسم المفرد؛ الله الله، فتكثر منه بكرة وأصيلاً، وآناء الليل والنهار، ومن الليل فاسجدْ له وسبَّحه ليلاً طويلاً، أي: ومن أجل ليل القطيعة اخضع وتضرَّع وسَبِّح في الأسحار، خوفاً من أن يقطعك عنه، فيظلم عليك ليل وجودك، فتحجب به عن ربك، إنَّ هؤلاء المحجوبين بوجودهم وحظوظِ نفوسهم، يُحبون العاجلة، فيؤثرون هواهم على محبة مولاهم، ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً، يوم يُساق أهل التخفيف من المريدين إلى مقعد صدق زُمراً، ويتخلّف أهل النفوس في موقف الحساب. إنَّ هذه تذكرة لمَن فتحت بصيرته وأبصر الحق وأهله، فمَن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً، بإيثار صحبته أهل الحق والتحقيق، حتى يردون به حضرة التحقُّق، لكن الأمر كله بيد الله، وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله، فمَن شاء عنايته أدخله في رحمة هدايته، ومَن شاء خذلانه سلك به مسلك الضلالة، والعياذ بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
205
سورة المرسلات
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والمُرسلاتِ﴾ أي: والملائكة المرسلات ﴿عُرْفاً﴾ أي: بالمعروف من الأمر والنهي، وانتصابه بإسقاط الخافض، أو: فضلاً وإنعاماً، فيكون نقيض المنكر، وانتصابه على العلة، أي: أرسلهن للإنعام والإحسان، أو: متتابعة، وانتصابه على الحال، أي: يتلو بعضها بعضاً، وفي القاموس: عُرفاً، أي: بعضٌ خلف بعض. هـ. ﴿فالعاصفاتِ عَصْفاً﴾ أي: تعصفن في مُضِيهنّ عصف الرياح، ﴿والناشراتِ﴾ أجنحتها في الجو ﴿نَشْراً﴾ عند انحطاطها بالوحي، أو: الناشرات للشرائع نشراً في الأقطار، أون: الناشرات للنفوس الميتة بالكفر والجهل بما أوحين من الإيمان والعلم. ﴿فالفارقات﴾ بين الحق والباطل ﴿فرقاً﴾، ﴿فالملقيات﴾، إلى الأنبياء ﴿ذِكْراً عُذْراً﴾ للمحقّين ﴿أو نُذْراً﴾ للمبطلين، ولعل تقديم النشر على الإلقاء؛ للإيذان بكونه غاية للإلقاء، فهو حقيق بالاعتناء به.
أو: والرياح المرسلات متتابعة، فتعصف عصفاً، وتنشر السحاب في الجو نشراً، وتفرّق السحاب فرقاً على المواضع التي أراد الله إن يُمطر عليها، فيلقين ذكراً، أي: موعظة وخوفاً عند مشاهدة آثار قدرته تعالى، إمّا عذراً للمعتذرين إلى الله تعالى برهبتهم وتوبتهم، وإمّا نُذراً للذين يكفرونها وينسبونها إلى الأنواء. أو يكون تعالى أقسم بآيات القرآن المرسلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعصفن سائر الكتب بالنسخ، ونشرن آثار الهدى في مشارق الأرض ومغاربها، وفرقن بين الحق والباطل، فألقين الحق في أكناف العالمين، عذراً للمؤمنين، ونُذراً للكافرين. قال ابن جزي: والأظهر في المرسلات والعاصفات: أنها الرياح؛ لأنَّ وصف الريح بالعصف حقيقة، والأظهر في الناشرات والفارقات:
206
أنها الملائكة؛ لأنَّ الوصف بالفارقات أليق بهم، ولذلك عطف المتجانسين بالفاء، ثم عطف ما ليس من جنسهما بالواو. هـ مختصراً.
ثم ذكر المُقْسَم عليه، فقال: ﴿إِنَّ ما تُوعدون﴾ أي: إن الذي تُوعدونه من مجيء يوم القيامة ونزول العذاب بكم ﴿لواقع﴾ لا محالة.
الإشارة: أقسم تعالى بنفوس العارفين، المرسَلة إلى كل عصر، بما يُعرف ويُستحس شرعاً وطبعاً، من التطهير من الرذائل والتحلية بالفضائل، فعصفت البدعَ والغفلة من أقطار الأرض عصفاً، ونشرت الهداية في أقطار البلاد، وحييت بهم العباد، ففرقت بين الحق والباطل، وبين أهل الغفلة واليقظة، وبين أهل الحجاب وأهل العيان، فألقت في قلوب مَن صَحبها ذكراً حتى سرى في جميع أركانها، فأظهرت عُذراً للمنتسبين الذاكرين، ونُذراً للمنكرين، الغافلين. قال البيضاوي: أو أقسم بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها، فعصفن ما سوى الحق، ونشرن أثر ذلك في جميع الأعضاء، وفرقن بين الحق بذاته، والباطل في نفسه، فرأوا كل شيء هالكاً إلاّ وجهه، وألقين ذكراً، بحيث لا يكون في القلوب والألسنة إلاّ ذكر الله تعالى. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فإِذا النجومُ طُمِستْ﴾ ؛ مُحيت ومُحقت، أو ذُهب بنورها. وجواب " إذا " محذوف، وهو العامل فيها، أي: وقع الفصل ونحوه، أو: وقع ما وُعدتم به. و " النجوم ": فاعل بمحذوف يُفسره ما بعده، ﴿وإِذا السماءُ فُرِجَتْ﴾ ؛ فُتحت، فكانت أبواباً لنزول الملائكة، ﴿وإِذا الجبال نُسِفَتْ﴾ ؛ قُطعت من أماكنها، وأُخذت من مقارها بسرعة، فكانت هباءً منبثاً، ﴿وإِذا الرُسل أُقِتَتْ﴾ أي: وُقتت وعُين لهم الوقت الذي يحضرون للشهادة على أممهم، فَفَجَأن ذلك الوقت، وجُمعت للشهادة على أممهم، أي: وإذا الرسل عاينت الوقت الذي كانت تنتظره، ﴿لأيَّ يوم أُجِّلَتْ﴾ أي: ليوم عظيم أخّرت وأُمهلت، وفيه تعظيم لليوم، وتعجيب من هوله. والتأجيل من الأجل، كالتوقيت من الوقت.
ثم بيّن ذلك اليوم، فقال: ﴿ليوم الفصْلِ﴾ أي: أُجِّلت ليوم يفصل فيه بين الخلائق، وقال ابن عطاء: هو اليوم الذي يفصل فيه بين المرء وقرنائه وإخوانه وخِلاّنه، إلاّ ما كان منها لله وفي الله. هـ. وهو داخل في الفصل بين الخلائق، وجزء من جزئياته، ﴿وما أدراك ما يومُ الفصل﴾ أي: أيُّ شيء جعلك دارياً ما هو يوم الفصل، فوضع الظاهر موضع
207
الضمير، تهويل وتفظيع لشأنه، ﴿ويل يومئذٍ للمكذِّبين﴾ بذلك اليوم، أي: ويل لهم في ذلك اليوم الهائل، و " ويل " أصله: مصدر منصوب بفعل سدّ مسده، لكن عدل به إلى الرفع على الابتداء، للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعوّ عليه، و " يومئذ " ظرف له، و " للمكذِّبين " خبره، أي: الويل في ذلك اليوم حاصل لهم. قال ابن عطية: وأمّا تكرير قوله تعالى: ﴿ويل يومئذ للمكذِّبين﴾ في هذه السورة، فقيل: لمعنى التأكيد فقط، وقيل: بل في كل آية منها ما يقتضي التصديق، فجاء الوعيد على التكذيب بذلك. هـ. وهذا الآخر هو الصواب، وسيأتي التنبيه عليه في كل آية.
الإشارة: إذا أشرقت شموس العرفان، وبدت أسرارُ الذات للعيان، انطمس نور نجوم علم الفروقات الكونية، والفروعات الوهمية، ولم يبقَ إلاّ علم الوحدة الذاتية ومعنى انطماسها: الغيبة عنها والفناء عنها بما هو أمتع وأحلى منها، من شهود الذات الأقدس، والاستغراق في شهود أنوارها وأسرارها. وإذا السماء، أي: سماء الأرواح فُرجت عنها ظُلمة الحس، فظهرت للعيان. واعلم أنَّ أرض الأشباح وسماء الأرواح محلهما واحد، وإنما تختلف باختلاف النظرة، فَمَن نَظَر الأشياءَ بعين الفرق في محل الحدوث تُسمى في حقه عالم الأشباح، ومَن رآها بعين الجمع في مقام القِدَم، تسمى في حقه عالم الأرواح، والمظهر واحد. وإذا الجبال؛ جبال الوهم والخيالات، أو: جبال العقل الأصغر، نُسفت، أي: تلاشت وذهبت، وإذا الرسل أي: الدعاة إلى الله من أهل التربية، أُقتت: عُين لها وقت وقوع ذلك، وهو يوم الفتح الأكبر بالاستشراف على الفناء في الذات، وأي يوم ذلك، وهو يوم لقاء العبد ربه في دار الدنيا، وهو يوم الفصل، يفصل فيه بين الخصوص والعموم، بين المقربين وأهل اليمين، بين أهل الشهود والعيان، وأهل الدليل والبرهان، ويل يومئذ للمكذِّبين بطريق هذا السر العظيم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ألم نُهلِكِ الأولينَ﴾ كقوم نوح وعاد وثمود، لتكذيبهم بذلك اليوم، وقُرىءَ بفتح النون، من: هلكه بمعنى أهلكه، ﴿ثم نُتبِعُهم الآخِرِين﴾ أي: ثم نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بهم، لأنهم كذّبوا مثل تكذيبهم. و " ثم " وما بعده: استئناف، تهديد لأهل مكة، وقُرىءَ بالجزم عطف على " نُهلك " فيكون المراد بالآخرين المتأخرين هلاكاً من المذكورين، كقوم لوط وشعيب وموسى عليه السلام،
208
﴿كذلك﴾ أي: مثل ذلك الفعل الفظيع ﴿نفعل بالمجرمين﴾ أي: بكل مَن أجرم من كل أمة، ﴿ويل يومئذٍ﴾ أي: يوم وقوع الهلاك بهم ﴿للمكذِّبين﴾ بما أوعدنا.
﴿ألم نَخْلُقْكُمْ من ماءٍ مهينٍ﴾ ؛ حقير، وهو النطفة، ﴿فجعلناه في قرارٍ مكينٍ﴾ أي: مقرّ يتمكّن فيه، وهو الرحم، ﴿إِلى قَدَرٍ معلوم﴾ ؛ إلى مقدار معلوم من الوقت، قدّره اللهُ تعالى في أزله، لا يتقدّم عليه ولا يتأخر عنه، وهو تسعة أشهر في الغالب، أو أكثر أو أقل على حسب المشيئة، ﴿فقدّرنا﴾ ذلك تقديراً لا يتبدل، أو: فَقَدرْنا على ذلك ﴿فَنِعْمَ القادرون﴾ أي: المقدِّرون له نحن، أو: فنعم القادرون على أمثال ذلك، ﴿ويل يومئذ للمُكذِّبين﴾ لقدرتنا على ذلك، أو: على الإعادة، أو: بنعمة الفطرة من النشأة الدالة على صدق الوعيد بالبعث.
﴿ألم نجعل الأرضَ كِفَاتاً﴾ ؛... وجامعة، والكِفَات: اسم ما يَجمع ويضم، من: كَفَتَ شعره: إذا ضمه بخرقة، كالضمام والجماع لما يَضُمّ ويجمع، أي: ألم نجعلها كفاتاً تكفت ﴿أحياءً﴾ كثيرة في ظهرها ﴿وأمواتاً﴾ غير محصورة في بطنها. ونظر الشعبي إلى الجبانة فقال: هذه كِفَاتُ الموتى، ثم نظر إلى البيوت فقال: هذه كِفَات الأحياء. هـ. ولمّا كان القبر كفاتاً كالبيت قُطع مَن سَرق منه. و " أحياء وأمواتاً " منصوبان بـ " كِفاتاً " لأنه في معنى اسم الفاعل، أي: كافتة أحياء وأمواتاً، أو: بفعل محذوف، أي: تكفت على الحال، أي: تكفتهم في حال حياتهم ومماتهم.
﴿
وجعلنا فيها رواسيَ﴾
، أي: جبالاً ثوابت ﴿شامخاتٍ﴾ ؛ طوالاً شواهق، ووصْفُ جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد، وتنكيرها للتفخيم، وللإشعار بأنَّ فيها ما لم يُعرف، ﴿وأسقيانكم ماءً﴾ بأن خلقنا فيها أنهاراً ومنابع ﴿فُراتاً﴾ ؛ عذباً صافياً ﴿ويل يومئذ للمُكذِّبين﴾ بأمثال هذه النِعم العظيمة.
الإشارة: ألم نُهلك الجبابرة الأولين، المتكبرين على الضعفاء والمساكين، ثم نُتبعهم الآخرين، كذلك نفعل بالمجرمين في كل زمان، أو: ألم نُهلك الغافلين المتقدمين والمتأخرين، بموت قلوبهم وأرواحهم، بالانهماك في الشهوات، كذلك نفعل بالطغاة المتكبرين، ويل يومئذ للمكذِّبين الشاكّين في وقوع هذا الوعيد. ألم نخلقكم من مآء مهين حقير؟ فكيف تتكبّرون وأصلكم حقير، وآخركم لحم منتن عقير؟ ولعليّ كرّم الله وجهه: مَا لابن آدم والفخر، وأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وهو فيما بينهما يحمل العذرة. هـ. هذا في الصورة البشرية، وأمّا الروح السارية فيها، فأصلها عز وشرف، فمَن غلبت روحُه على بشريته، وعقله على هواه، التحق بالملائكة الكرام في الشرف والنزاهة، ومَن غلبت بشريتُه على روحانيته، وهواه على عقله، التحق بالبهائم في الخسة والدناءة.
209
ألم نجعل أرض البشرية جامعة للقلوب والأرواح والأحياء بالعلم والمعرفة، حين غلبت الروح والعقل على البشرية والهوى، وللنفوس والقلوب الميتة، حين غلب الهوى. وجعلنا فيها رواسي من العقول الثابتة، لتميز بين النافع الضار، وأسقيانكم من ماء العلوم التي تحيا به القلوب والأرواح، ماءً عذباً لمَن وفّقه اللهُ لشُربه على أيدي الرجال. ويل يومئذ للمكذِّبين بها، فإنه يعيش ظمآناً، ويموت عطشاناً، والعياذ بالله.
يقول الحق جلّ جلاله للكفرة المكذِّبين: ﴿انطلِقوا﴾ أي: سيروا ﴿إِلى ما كنتم به تُكَذِّبون﴾ من النار المؤبَدة عليكم، ﴿انطلقوا إِلى ظِلًّ﴾ ؛ دخان جهنم ﴿ذي ثَلاثٍ شُعَبٍ﴾، يتشعّب لِعظَمه ثلاث شعب، كما هو شأن الدخال العظيم، تراه يتفرّق ذوائب، وقيل: يخرج لسان من النار يحيط بالكفار كالسرداق، ويتشعّب من دخانها ثلاث شُعب، فتُظلم حتى يفرغ من حسابهم، والمؤمنون في ظل العرش. قيل: الحكمة في خصوصية الثلاث: أن حجاب النفس عن أنوار القدس ثلاث، الحس والخيال والوهم، وقيل: إنّ المؤدِّي إلى هذا العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية، الحالة في الدماغ، والقوة الغضبية التي عن يمين القلب، والقوة الشهوانية البهيمية التي عن يساره، ولذلك قيل: تقف شُعبة فوق الكافر، وشُعبة عن يمينه، وشُعبة عن يساره.
ثم وصف ذلك الظل بقوله: ﴿لا ظليلٍ﴾ أي: لا مُظِلّ من حرّ ذلك اليوم أو من حرّ النار، ﴿ولا يُغنِي من اللهب﴾ أي: وغير مغنٍ عن حر اللهب شيئاً لعدم البرودة فيه، وهذا كقوله: ﴿وَظِلٍ مِن يَحْمُومٍ لاَّ بَارٍدٍ َولآ كَرِيمٍ﴾ [الواقعة: ٤٣، ٤٤]، ﴿إِنها ترمي بشَرَرٍ﴾ وهو ما تطاير من النار ﴿كالقَصْرِ﴾ في العِظم، أي: كل شررة كقصر من القصور في العِظم. وقيل: هو الغليظ من الشجر، الواحدة: قَصْرةٌ، كجمْر وجمرة، ﴿كأنه جمالاتٌ﴾ جمع جَمَلَ. وقرأ أهل الكوفة، غير شعبة " جِمَالةٌ " وهو أيضاً جمع جَمَل، وجمالات جمع الجمع. ﴿صُفرٌ﴾ فإنَّ الشرار لِما فيه من النار يكون أصفر، وقيل: سود؛ لأنَّ سواد الإبل يضرب إلى الصفرة، والأول تشبيه لها في العِظم، وهذا في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط. وقيل: الضمير في " إنه " يعود إلى القصر، فيذهب به إلى تصوير عجيب وتطوير غريب. شبهت الشرارة حين تنقض من النار في العظم بالقصر، ثم شبّه القصر
210
المشبّه به، حين يأخذ في الارتفاع والانبساط، بأن ينشق عن أعداد لا نهاية لها بالجمالات المتكاثرة، فيتصوّر فيها حينئذٍ العِظَم أولاً، والانشقاق مع الكثرة والصُفرة والحركة ثانياً، فيبلغ بالتشبيه إلى الذروة العليا. هـ. من الحاشية.
﴿
ويل يومئذٍ للمكذّبين﴾
بنارٍ هذه صفتها مع شواهد القدرة على ذلك وعلى أكبر منه، ﴿هذا يومُ لاَ يَنطِقُونَ﴾، الإشارة إلى وقت دخولهم النار، أي: هذا يوم لاينطقون فيه بشيءٍ، إمَّا لأنَّ السؤال والجواب والحساب قد انقضت قبل ذلك، ويوم القيامة طويل، له مواطن ومواقيت، فينطقون في وقتٍ دون وقتٍ، فعبّر عن كل وقت بيوم، أو: لا ينطقون بشيءٍ ينفعهم، فإنَّ ذلك كلا نُطق. وقُرىءَ بنصب اليوم، أي: هذا الذي ذكروا وقع يومَ لاَ يَنطِقُونَ، ﴿وَلاَ يُؤذَنُ لهم﴾ في الاعتذار ﴿فيعتذِرُون﴾ : عطف على " يُؤذَن " منخرط في سلك النفي، أي: لا يكون لهم إذن ولا اعتذار يتعقب له، وليس الإذن سبباً للأعتذار وإلاّ لنصب. قال الطيبي عن صاحب الكشف: التقدير: هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ بمنطق ينفعهم، ولا يعتذرون بعذرٍ يدفع عنهم، فـ " يعتذرن " داخل في النفي، ولو حملناه على الظاهر لتَنَاقض؛ لأنه يصير: هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ فيعتذرون؛ لأن الاعتذار نُطق أيضاً. هـ. ﴿ويل يومئذٍ للمكذِّبين﴾ بالبعث وما بعده.
﴿هذا يومُ الفَصْلِ﴾ بين الحق والباطل، أو: بين المُحق والمُبطل، ﴿جمعناكم﴾ فيه، والخطاب لأمة محمد ﷺ ﴿والأولينَ﴾ من الأمم، فيقع الفصل بين الخلائق، ﴿فإِن كان لكم كَيْدٌ﴾ هنا كما كان في الدنيا ﴿فكِيدُونِ﴾ فإنَّ جميع مَن كنتم تُقلدون وتقتدُون بهم حاضرون معكم. وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا، وإظهار لعجزهم هناك، ﴿ويل يومئذٍ للمكذِّبين﴾ بهذا، حيث أظهر ألاَّ حِيلة لهم في الخلاص من العذاب.
الإشارة: انطلِقوا إلى ضد ما كنتم به تُكذِّبونن مِن رفع درجات المجتهدين المقربين وسقوط درجة البطالين، فانحطوا إلى نار البُعد والحجاب. وتكذيبهم بذلك هو من حيث لم يعملوا بمقتضاه. انطلقوا إلى ظل الحجاب، ذي ثلاث شُعب، تشعب عليه الحجاب، وانسدل عليه ثلاث مرات، ظِل حجاب الغفلة، وظِل حجاب الهوى، وظِل حجاب حس الكائنات. لا ظليل؛ ليس فيه نسيم القُرب، ولا برد الرضا والتسليم، ولا يُغني من لهب حر القطيعة والبُعد، أو حرّ التدبير والاختيار، إنها ترمي بشررٍ، مَن كان باطنه في نار القطيعة رمَى بشررها على ظاهره، فيظهر منه الغضب والقسوة والغِلظة والفظاظة. قال القشيري: يُشير إلى ما يترتب على هذه الشُعب من الأوصاف البهيمية والسبُعية والشيطانية، وأنَّ كل صفة منها بحسب الغلظة والشدة، كالقصور المرتفعة، والبروج المشيّدة، كأنه جمالات عظيمة الهيكل، طويلة الأثر، صُفر من شدة قوة النارية في ذلك الشرر، وهي القوة الغضبية. ويل يومئذ للمكذِّبين بهذه التشبيهات اللطيفة والإشعارات الظريفة، المنبئة عن الحقائق والدقائق. هـ.
211
هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ من شدة تحيرهم، وقوة دهشهم، وَلاَ يُؤذن لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ عن بطالتهم وتقصيرهم وقلة استعدادهم لهذا اليوم. ﴿ويل يومئذ للمكذِّبين﴾ قال القشيري: لأنهم أفسدوا الاستعداد، بالركون إلى الدنيا وشهواتها، والميل عن الآخرة ودرجاتها. هـ. هذا يوم الفصل بين أهل الجد والاجتهاد، وأهل البطالة والفساد، أو بين أهل القرب والوصال، وبين أهل البُعد والانفصال، أو بين أهل الشهود والعيان وأهل الدليل والبرهان، أو: بين المقربين وعامة أهل اليمين، جمعناكم والأولين، فيقع التمييز بين الفريقين من المتقدمين والمتأخرين، فإن كان لكم كيد وحيلة ترتفعون بها إلى درجات المقربين، فكيدونن ولا قُدرة على ذلك، حيث فاتهم ذلك في الدنيا. ويل يومئذ للمكذَّبين بهذا الفصل والتمييز.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ المتقين﴾ الكفرَ والتكذيب ﴿في ظلالٍ﴾ ممدودة ﴿وعيون﴾ جارية ﴿وفواكهَ مما يشتهون﴾ ؛ مما يستلذون من فنون الترفُّه وأنواع التنعُّم. يقال لهم: ﴿كُلوا واشربوا﴾، فالجملة: حال من الضمير المستقر في الظرف، أي: هم يستقرُّون في ظلالٍ مقولاً لهم: ﴿كلوا واشربوا هنيئاً﴾ لا تباعة عليه ولا عتاب، ﴿بما كنتم تعملون﴾ في الدنيا من الأعمال الصالحة، ﴿إنَّا كذلك﴾ أي: مثل هذا الجزاء العظيم ﴿نجزي المحسنينَ﴾ في عقائدهم وأعمالهم، فأحسِنوا تنالوا مثل هذا أو أعظم. ﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ بهذا، حيث نال المؤمنون هذا الجزاء الجزيل، وبقوا هم في العذاب المخلَّد الوبيل.
ويُقال لهم في الدنيا على وجه التحذير: ﴿كُلوا وتمتعوا﴾ كقوله: ﴿اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] أو: في الآخرة، أي: الويل ثابت لهم، مقولاً لهم ذلك، تذكيراً لهم بحالهم في الدنيا، بما جَنوا على أنفسهم من إيثارهم المتاع الفاني عن قريب على التمتُّع الخالد، أي: تمتّعوا زمناً ﴿قليلاً﴾ أو متاعاً قليلاً، لأنَّ متاع الدنيا كله قليل، ﴿إِنكم مجرمون﴾ أي: كافرون، أي: إنَّ كلّ مجرم يأكل ويتمتّع أياماً قلائل، ثم يبقى في الهلاك الدائم. ﴿ويل يومئذ للمكذِّبين﴾، زيادة توبيخ وتقريع، أو: ويل يومئذ للمكذِّبين الذين كذَّبوا.
﴿وإِذا قيل لهم اركعوا﴾ أي: أطيعوا الله واخشعوا وتواضعوا لله، بقبول وحيه واتباع رسوله، وارفضوا هذا الاستكبار والنخوة، ﴿لا يركعون﴾ ؛ لا يخشعون ولا يقبلون ذلك،
212
ويُصرون على ماهم عليه من الاستكبار. وقيل: وإذا أُمروا بالصلاة لا يفعلون، إذ رُوي أنها نزلت حين أمر رسولُ الله ﷺ ثقيفاً بالصلاة، فقالوا: لا ننحني، فإنها خسّة علينا، فقال صلى الله عليه وسلم: " لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود " وقيل: هو يوم القيامة، حين يُدْعَوْن إلى السجود فلا يستطيعون.
﴿
ويل يومئذ للمكذِّبين﴾
بأمره ونهيه. وفيه دلالة على أنَّ الكفار مخاطبون بالفروع. ﴿فبأيِّ حديث بعده﴾ أي: بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين، وأخبار النشأتين، على نمط بديع، ولفظ بليغ مُعجِز، مؤسس على حُجج قاطعة، وأنوار ساطعة، فإذا لم يؤمنوا به ﴿فبأي حديثٍ بعده يؤمنون﴾ أي: إن لم يؤمنوا بالقرآن، مع أنه آية مبصرة، ومعجزة باهرة، من بين الكتب السماوية، فبأي كتاب بعده يؤمنون؟ فينبغي للقارىء أن يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
الإشارة: إنَّ المتقين ما سوى الله في ظلال التقريب، وبرد التسليم، ونسيم الوصال، فما أطيب نسيمهم، وما ألذ مشربهم، كما قال الشاعر:
يا نسيمَ القُرب ما أطيبكا
ذاق طعم الأُنس مَن حَلَّ بكا
أيُّ عيشٍ لأناس قُرِّبوا
قد سُقوا بالقدس من مشربكا
﴿وعيون﴾ أي: مناهل الشرب من رحيق الوجدان، وفواكه النظر، مما يشتهون، أي: وقت يشتهون، كُلوا من رزق أرواحكم وأسراركم، وهو الترقي في معاريج العرفان، وأشربوا من رحيق أذواقكم، هنيئاً بما كنتم تعملون أيام مجاهدتكم، إنَّا كذلك نجزي المحسنين المتقين علومَهم وأعمالَهم. ويل يومئذ للمكذِّبين بطريق هذا المقام الرفيع، يُقال لهم: كُلوا وتمتّعوا وانهمكوا في الشهوات أياماً قلائل، إنكم مجرمون، وسيندم المفرّط إذا حان وقت الحصاد. وإذا قيل لهم: اخضعوا لمَن يُربيكم ويُرقيكم إلى تلك المراتب العلية المتقدمة للمتقين، لا يخضعون، فالويل لهم على تكذيبهم، فبأي حديث وأيّ طريق بعد هذا يؤمنون، وأيّ طريق يسلكون، وبأيّ كتاب يهتدون؟ إن حادوا عن طريق السلوك على أيدي الرجال، فماذا بعد الحق إلاّ الضلال. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم.
213
سورة النبأ
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿عَمّ يتساءلون﴾، وأصله: " عمّا " فحذفت الألف، كما قال في الألفية:
وما في الاسْتِفهامِ إن جُرَّت حُذِفْ
أَلِفهَا وأَوْلهَا الها إنْ تَقْفِ
وحذفها إمّا للفرق بين الاستفهامية والموصولة، أو للتخفيف، لكثرة الاستعمال، وقُرىء بالألف على الأصل، أي: عن شيءٍ يتساءلون. والضمير لأهل مكة، وكانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم، يسأل بعضُهم بعضاً، ويخوضون فيه إنكاراً واستهزاءً، وليس السؤال عن حقيقته، بل عن وقوعه، الذي هو حال من أحواله، ووصف من أوصافه، فإنَّ " ما " كما يُسأل بها عن الحقيقة يُسأل بها عن الصفة، فتقول: ما زيد؟ فيقال: عالم أو طبيب.
وقيل: النبأ العظيم هو القرآن، عجب من تساؤلهم واختلافهم وتجادلهم فيه. والاستفهام للتفخيم والتهويل والتعجيب من الجدال فيه، مع وضوح حقه وإعجازه الدالّ على صدق ما جاء به، وأنه من عند الله، فكان ينبغي ألاّ يجادل فيه، ولا يتساءل عنه، بل يقطع به ولا يشك فيه، وقد قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ نَبَؤاْ عَظِيمُ﴾ [صا: ٦٧] الآية. وقال الورتجبي: النبأ العظيم: كلامه القديم، عظيم بعظم الله القديم، لا يَنال بركته إلاّ أهل الله وخاصته. هـ. وقيل: كانوا يسألون المؤمنين، فالتفاعل قد يكون من واحد متعدد، كما في قولك: تراؤوا الهلال. انظر أبا السعود.
214
وقوله: ﴿عن النبأ العظيم﴾ يتعلق بمحذوف، دلّ عليه ما قبله، فيوقف على " يتساءلون " ثم ليستأنف " عن النبأ... " الخ، أي: يتساءلون عن الخبر العظيم، وهو البعث وما بعده، أو القرآن، فتكون المناسبة بين السورتين قوله: ﴿فَبِأَيْ حَدِيِث بَعْدَهُ يُؤْمِنُون﴾ [المرسلات: ٥٠] مع قوله: ﴿عن النبأ العظيم﴾، والأحسن: أنه كل ماجاءت به الشريعة من البعث والتوحيد والجزاء وغير ذلك.
قال ابو السعود: هو بيان لشأن المسؤول عنه، إثر تفخيمه بإبهام أمره، وتوجيه أذهان السامعين نحوه، وتنزيلهم منزلة المستفهمين، لإيراده على طريقة الاستفهام من علاّم الغيوب، للتنبيه على أنه لعدم نظيره خارج عن دائرة علم الخلق، حقيق بأن يُعتنى بمعرفته ويُسأل عنه، كأنه قيل: عن أي شيء يتساءلون، هل أُخبركم به، ثم قيل بطريق الجواب: عن النبأ العظيم، على منهاج قوله تعالى: ﴿لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: ١٦] فـ " عن " متعلقة بما يدل عليه المذكور، وحقه أن يُقَدَّر مؤخراً، مسارعة إلى البيان، هذا هو الحقيق بالجزالة التنزيلية، وقد قيل: هي متعلقة بالمذكور، و " عَمَّ " متعلق بمضمر مفسَّر به، وأيّد ذلك بأنه قُرِىء " عمَّه "، والأظهر: أنه مبني على إجراء الوصل مجرى الوقف، وقيل: " عن " الأولى للتعليل، كأنه قيل: لِمَ يتساءلون عن النبأ العظيم؟ والنبأ: الخبر الذي له شأن وخطر. هـ.
﴿
الذين هم فيه مختلفون﴾
، فمنهم مَن يقطع بإنكاره، ومنهم مَن يشك، فمنهم مَن يقول: ﴿مَاهِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا﴾ [الجاثية: ٢٤] ومنهم مَن يقول: ﴿مَّا نَدْرِى مَا السَّاعَةُ﴾ [الجاثية: ٣٢] ومنهم مَن يُنكر المعادين معاً، كهؤلاء، ومنهم مَن يُنكر المعاد الجسماني، كبعض أهل الكتاب. أو: في القرآن، فمنهم مَن يقول: سحر، ومنهم مَن يقول: كهانة، ومنهم مَن يقر بحقيّته، ويُنكره حسداً وتكبُّراً. والضمير في " هم فيه " للتأكيد، وفيه معنى الاختصاص، ولم يكن لقريش اختصاص بالاختلاف، لكن لمّا كان خوضهم فيه أكثر، وتعقبهم له أظهر، جعلوا كأنهم مخصوصون به. هـ. قاله الطيبي. فـ " فيه " متعلق بـ " مختلفون "، قُدِّم اهتماماً به ورعاية للفواصل، وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات، أي: هم راسخون في الاختلاف، وقيل: المراد بالاختلاف: مخالفتهم للنبي ﷺ في إثباته، حيث أنكروه، فيحمل الاختلاف على صدور الفعل من متعدد، لا علَى مخالفة بعضهم لبعض من الجانبين، لأنَّ الكل وإن استحق الردع والوعيد، لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر، إذ لا حقيّة في شيء منهما حتى يستحق مَن يخالفه المؤاخذة، بل لمخالفته له ﷺ في إثباته. هـ. انظر أبا السعود.
﴿كلاَّ﴾، ردع عن الاختلاف والتساؤل بالمعنى المتقدم، ﴿سيعلمون﴾ عن قريبٍ حقيقة الحال إذا حلّ بهم العذاب والنكال، ﴿ثمَّ كلاَّ سيعلمون﴾، تكرير للردع والوعيد للمبالغة في التأكيد والتشديد. والسين للتقريب والتأكيد. و " ثم " للدلالة على أنَّ الوعيد
215
الثاني أبلغ وأشد، وقيل: الأول عند النزع، والثاني عند القيامة، وقيل: الأول للبعث، والثاني للجزاء. وقُرىء " ستعلمون " بالخطاب على نهج الالتفات، تشديداً للردع والوعيد، لا على تقدير: قل لهم؛ للإخلال بجزالة النظم الكريم.
الإشارة: إن ظهرت أنوار الطريق، ولاحت أسرار أهل التحقيق، كثر الكلام بين الناس فيها، والتساؤل عنها، فيُقال في شأنهم، عمَّ يتساؤلون عن النبأ العظيم، الذي هو ظهور الحق وشهوده، الذي هم فيه مختلفون، فمنهم مَن يُنكره رأساً، ومنهم مَن يُقره في الجملة، ويقول: هم لقوم أخفياء لا يعرفهم أحد، كلاَّ سيعلمون يوم تحق الحقائق وتبطل الدعاوى، ويندم المفرط، حيث لا ينفع الندم وقد زلّت به القدم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ألم نجعل الأرضَ مِهاداً﴾ أي: بساطاً وفراشاً، فرشناها لكم حتى سكنتموها. وقُرىء " مَهْداً " تشبيهاً لها بمهد الصبي، وهو ما يمهّد له لينام عليه، تسمية للممهود بالمصدر. ولمّا أنكروا البعث قيل لهم: ألم يَخلُق مَن أضيف إليه البعث هذه الخلائق العجيبة، فلِمَ تُنكرون قدرته على البعث؟ وما هو إلا اختراع مثل هذه الاختراعات، أو: قيل لهم: لِمَ فعل هذه الأشياء، والحكيم لا يفعل شيئاً عبثاً، وإنكارُ البعث يؤدّي إلى أنه عابث في كل ما فعل؟ ومن هنا يتضح أنَّ الذي وقع عنه التساؤل هو البعث، لا القرآن أو نبوة النبي ﷺ كما قيل. والهمزة للتقرير. والالتفات إلى الخطاب على القراءة المشهورة للمبالغة في الإلزام والتبكيت.
﴿والجبالَ أوتاداً﴾ للأرض، لئلا تميد بكم، فأرساها بها كما يُرسى البيت بالأوتاد، ﴿وخلقناكم أزواجاً﴾ ذكراً وأنثى، ليسكن كل من الصنفين إلى الآخر، وينتظم أمر المعاشرة والمعاش، ويتيسر التناسل. وقيل: خلقناكم أصنافاً وأنواعاً في ألوانكم وصوركم وألسنتكم، وهو عطف على المضارع المنفي، داخل في حكم التقرير، فإنه في قوة: إنما جعلنا الأرض.. الخ.
﴿وجعلنا نَومكم سُباتاً﴾ أي: راحة لكم، أو: قطعاً للأعمال والتصرُّف، فتريحون أبدانكم به من التعب. والسبْت: القطع. أو: موتاً؛ لِما بينهما من المشاكلة التامة في انقطاع أحكام الحياة، وعليه قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ﴾ [الأنعَام: ٦٠] وقوله: ﴿اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾ [الزمر: ٤٢].
216
﴿وجعلنا الليلَ لباساً﴾ يستركم بظلامه، كما يستركم اللباس، شبّهه بالثياب التي تلبس، لأنه يستر عن العيون، وقيل: المراد به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه. ﴿وجلعنا النهارَ معاشاً﴾ أي: وقت حياة تتمعشون فيه من نومكم، الذي هو أخو الموت، كقوله: ﴿وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً﴾ [الفرقان: ٤٧] أي: تنتشرون فيه من نومكم، أو تطلبون فيه معاشكم، وتتقلبون في حوائجكم، على حذف مضاف، أي: ذا معاش.
﴿
وبنينا فوقكم سَبْعاً شِداداً﴾
أي: سبع سموات، قوية الخلق، محكمة البناء، لا يؤثّر فيها مرّ الدهور، ولا المرور والكرور. والتعبير عنها بالبناء مبني على تنزيلها منزلة القبة المضروبة على الخلق، وهو يؤيد كونها الأفلاك المحيطة. ﴿وجعلنا﴾ فيها ﴿سِراجاً وهَّاجاً﴾ أي: مضيئاً وقّاداً، أي: جامعاً للنور والحرارة، وهو الشمس، والوهَّاج: الوقّاد المتلألىء، من: وهجت النار إذا أضاءت، أو البالغ في الحرارة، من: الوهج، وهو الحر. والتعبير عنها بالسراج مناسب للتعبير عن السموات بالبناء، فالدنيا بيت وسراجه الشمس بالنهار والقمر والنجوم بالليل. والجعل هنا بمعنى الإنشاء والإبداع، كالخلق، غير أنَّ الجعل مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية.
﴿وأنزلنا من المُعْصِرات﴾ أي: السحاب إذا أعصرت، أي: شارفت أن يعصرها الرياح فتمطر، ومنه: أعصرت الجارية: إذا دنت أن تحيض، والرياح: إذا حان لها أن تعصر السحاب، وقد جاء: أنَّ الله تعالى يبعث الرياح، فتحمل الماء إلى السحاب فتعصره كما يعصر الماء من الجفافة، أي: أنزلنا من السحاب ﴿ماءً ثَجَّاجاً﴾ أي: منصباً بكثرة، يقال: ثج الدم، أي: أساله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الحج العجّ والثج " أي: رفع الصوت بالتلبية، وصب دم الهَدْي.
﴿لنُخرج به﴾ ؛ بذلك الماء ﴿حباً﴾ يُقتات به، كالحنطة والشعير، ونحوهما ﴿ونباتاً﴾ يُعلف، كالتبن والحشيش. قال الطيبي: النبات أريد به النابت. وتقديم الحب مع تأخره في الإخراج لشرفه؛ لأنَّ غالبة قوت الإنسان. ﴿وجناتٍ﴾ ؛ بساتين، من: جنّة إذا ستره، فالجنة تطلق على ما فيه النخل والشجر المتكاثف، لأنه يستر الأرض بظل أشجاره، وقال الفراء: الجنة ما فيه النخل، والفردوس مافيه الكرم. و ﴿ألفافاً﴾ صفة، أي: ملتفّةَ الأشجار، واحدها: " لِفّ " ككِن وأكنان، أو: لَفيف، كشريف وأشراف، أو: لا واحد له، كأوْزاع وأضياف، أو جمع الجمع، فألفاف جمع " لُفّ " بالضم، و " لُفّ " ـ جمع " لَفَّاء " كخُضر وخضراء، واللِّفُ: الشجر الملتف.
قال أبو السعود: اعلم أنَّ فيما ذكر تعالى من أفعاله ـ عزّ وجل ـ دلالة على صحة البعث من ثلاثة أوجه:
217
الأول: باعتبار قدرته تعالى، فإنَّ مَن قَدَر على إنشاء هذه الأفعال البديعة، من غير مثالٍ يُحتَذِيه ولا قانون ينتحيه، كان على الإعادة أقدر وأقوى.
الثاني: باعتبار علمه وحكمته، فإنَّ مَن أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع، مستتبع لغايات جليلة، ومنافع جميلة، عائدة إلى الخلق، يستحيل أن يخليها من الحكمة بالكلية، ولا يجعل لها عاقبة باقية.
والثالث: باعتبار نفس الفعل، فإنَّ في اليقظة بعد النوم أنموذجاً للبعث بعد الموت، يشاهدونها كل يوم، وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض الميتة، يعاينونه كل حين، شاهد على إخراج الموتى من القبور بعد الفناء والدثور، كأنه قيل: ألم يفعل هذه الأفعال الآفاقية والأنفسية، الدالة بفنون الدلالات على حقيّة البعث، الموجبة للإيمان به، فما لكم تخوضون فيه إنكاراً، وتتساؤلون عنه استهزاءً؟ هـ.
الإشارة: ألم نجعل أرضَ البشرية مِهاداً للعبودية والقيام بآداب الربوبية، وجبالَ العقل أوتاداً، يسكنونها لئلا يميلها الهوى عن الاعتدال في الاستقامة وخلقناكم أزواجاً أصنافاً؛ عارفين وعلماء، وعُبَّاداً وزُهَّاداً، وصالحين وجاهلين، وعصاة وكافرين، وجعلنا نومَكم، اي: سِنَتكم عن الشهود، بالميل إلى شيء من الحس في بعض الأوقات، سُباتاً، أي: راحة للقلوب، لأنَّ دوام التجلَّي يمحقُ البشرية، وفي الأثر: " رَوِّحوا قلوبكم بشيءٍ من المباحات " أو كما قال عليه الصلاة والسلام. أو: نومَكم الحسي راحة للأبدان، لتنشط للعبادة، وجعلنا ليل القطيعة لباساً ساتراً عن الشهود، وجعلنا نهارَ العيان معاشاً؛ حياة للأرواح والأسرار، وبنينا فوقكم سبعَ مقامات شِداداً صعاباً، فإذا قطعتموها وترقيتم عنها أفضيتم إلى فضاء الشهود، وهي التوبة النصوح، والورع، والزهد، والصبر على مجاهدة النفس، وخرق عوائدها، والتوكُّل، والرضا، والتسليم، وجعلنا في قلوبكم بعد هذه المقامات سِراجاً وهّاجاً، وهي شمس العرفان لا تغرب أبداً، وأنزلنا من سماء الغيوب ماء ثجّاجاً، تحيى به الأوراح والأسرار، وهو ماء الواردات الإلهية، والعلوم اللدنية، لنُخرج به حبًّا؛ حِكماً لقوت الأرواح، ونباتاً؛ علوماً لقوت النفوس، وجنات: بساتين التوحيد، مشتملة على أشجار ثمار الأذواق وظلال التقريب.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ يومَ الفَصْلِ﴾ بين الخلائق، فيتميز المحسن من المسيء، والمحقّ من المبطل، ﴿كان﴾ في علم الله تعالى وتقديره ﴿ميقاتاً﴾ ؛ وقتاً محدوداً، ومُنتهى معلوماً لوقوع الجزاء، أو: ميعاداً لجمع الأولين والآخرين، وما يترتب عليه من الجزاء ثواباً وعقاباً، لا يكاد يتخطاه بالتقدُّم ولا بالتأخُّر، وهو ﴿يوم ينفخ في الصور﴾ نفخة ثانية، فـ " يوم " بدل من " يوم الفصل "، أو عطف بيان له، مفيد لزيادة تخفيمه وتهويله في تأخير الفصل، فإنه زمان ممتد، في مبدئه النفحة، وفي بقيته الفصل وآثاره. والصُور: القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل. عن أبي هريرة رضي الله عنه إن رسول الله ﷺ قال: " لَمَّا خَلَقَ الله السموات والأرض خلق الصور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضع له على فيه، شاخص ببصره إلى العرش، حتى يؤمر بالنفخ فيه، فيؤمر به، فينفخ نفخةً لا يبقى عندها في الحياة غير ما شاء الله، وذلك قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّماواتِ... ﴾ [الزمر: ٦٨] الآية، ثم يؤمر بأخرى، فينفخ نفخه لا يبقى معها ميت إلاَّ بُعث وقام، وذلك قوله تعالى: ﴿ثُمََّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر: ٦٨]. " والفاء في قوله تعالى: ﴿فَتَأْتُونَ﴾ فصيحة تفصح عن جملة حُذفت ثقةً بدلالة الحال عليها، وإيذاناً بغاية سرعة الإتيان، كما في قوله تعالى: ﴿أّنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ﴾ [الشعراء: ٦٣] أي: فتبعثون من قبوركم فتأتون عقب ذلك من غير لبث ﴿أفواجاً﴾ ؛ جماعات مختلفة الأحوال، متباينة، الأوضاع، حسب اختلاف أعمالكم وتباينها، مِن راكب، وطائر، وماش خفيف وثقيل، ومكب على وجهه، وغير ذلك من الأحوال العظيمة، أو: أمماً، كل أمة مع رسولها، كما في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُناَسِ بِإِمَامِهْم﴾ [الكهف: ٤٧].
﴿
وفُتِحت السماءُ﴾
أي: تشققت لنزول الملائكة، وصيغة الماضي لتحقُّق وقوعه، ﴿فكانت أبواباً﴾ ؛ فصارت ذات أبواب وطرق وفروج، وما لها اليومَ من فُروج. ﴿وسُيْرت الجبالُ﴾ في الجو على هيئتها بعد قلعها من مقارها، ﴿فكانت سَرَاباً﴾ ؛ هباءً، تخيل الشمس أنها سراب، وهَل هذا التسيير قبل البعث، فلا يقع إلاَّ على أرض قاع صفصف، وهو ما تقتضيه ظواهر الآيات، كقوله: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ﴾ [الكهف: ٤٧] وقوله: ﴿وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ [الحاقة: ١٤، ١٥] والفاء تقتضي الترتيب، أو لا يقع إلاّ بعد البعث، وهو ظاهر الآية هنا وسورة القارعة. وهو الذي اقتصر عليه أبو السعود، قال: يُبدل اللهُ الأرض، ويُغيّر
219
هيئاتها، ويُسَيّر الجبال على تلك الهيئة الهائلة عند حشر الخلائق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها. هـ. والله أعلم بحقيقة الأمر.
ثم شرع في تفصيل أحكام الفصل بعد بيان هوله، وقدَّم بيان حال الكفرة ترهيباً، فقال: ﴿إنَّ جهنم كانت مِرْصَاداً﴾ أي: موضع الرصد، وهو الارتقاب والانتظار، أي: تنتظر الكفار وترتقبهم ليدخلوا فيها، أو طريقاً يمر عليه الخلق، فالمؤمن يمر عليها، والكافر يقع فيها، أي: كانت في علم الله وقضائه موضع رصد يرصد فيه الخزنةُ الكفارَ ليعذبوهم فيها، ﴿للطاغين مآباً﴾ : نعت لمرصاد، أي: كائناً للطاغين مرجعاً يرجعون إليه لا محالة، ﴿لابثين فيها﴾، ماكثين فيها، وهو حال مُقدَّرة من المستكن في الطاغين. وقرأ حمزة (لبثين)، وهو أبلغ من " لابثين " لأنَّ اللابث مَن يقع منه مطلق اللَّبْث، واللَّبِث مَن شأنه اللبث والمقام، و ﴿أحقاباً﴾ : طرف للبثهم، جمع حُقب، كقُفْل وأقفال، وهو الدهر، ولم يرد به عدداً محصوراً، بل كلما مضى حُقب تبعه حقب، إلى غير نهاية، ولا يستعمل الحُقب إلاّ حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها. وقيل: الحقب ثمانون سنة، ورُوي عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه ثلاثون ألف سنة. وقال الحسن: ليس للأحقاب عدة إلاّ الخلود.
﴿لا يَذُوقون فيها بَرْداً ولا شَراباً﴾ : حال من ضمير " لابثين " أي: غير ذائقين فيها ﴿برداً﴾ أي: نسيماً بارداً، بل لهباً حاراً، ﴿ولا شراباً﴾ بارداً، ﴿إلاَّ حميماً﴾ ؛ ماءً حاراً، استثناء منقطع، أي: لا يذوقون في جهنم، أو في الأحقاب، برداً، ولا ينفس عنهم غم حر النهار، أو: نوماً، فإنَّ النوم يطلق عليه البرد، لأنه يبرد سَوْرة العطش، ولا شراباً يُسكن عطشهم، لكن يذوقون فيها ماءً حاراً، يحرق ما يأتي عليه، ﴿وغسَّاقاً﴾ أي: صديداً يسيل من أجسادهم. وفي القاموس: وغَساق كسَحاب وشدّاد: البادرُ المنتن. وقال الهروي عن الليث: (وغساقاً) أي: مُنتناً، ودلّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم: " لو أنَّ دلواً من غساق يُهرَاقُ في الدنيا، لأنتَنَ أهلُ الدنيا "، وقيل: ما يسيل من أعينهم من دموعهم يسقون به مع الحميم، يقال: غسقت عينه تغْسَق، إذا سالت. ثم قال: ومَن قرأ بالتخفيف، فهو البارد الذي يُحرق ببرده. هـ.
﴿
جزاءً وِفاقاً﴾
أي: جُوزوا بذلك جزاءً موافقاً لأعمالهم الخبيثة، مصدر بمعنى الصفة، أو: ذا وفاق. ﴿إِنهم كانوا لا يرجون حِساباً﴾ أي: لا يخافون محاسبة الله إياهم، أو: لا يؤمنون بالبعث فيرجعوا حسابه، ﴿وكذّبوا بآياتنا﴾ الناطقة بذلك ﴿كِذَّاباً﴾ أي: تكذيباً مفرطاً، ولذلك كانوا مصرِّين على الكفر وفنون المعاصي. و " فعّال " في باب فعّل فاش. ﴿وكلَّ شيءٍ﴾ من الأشياء، ومِن جملتها أعمالهم الخبيثة، ﴿أحصيناه﴾ أي: حفظناه وضبطناه ﴿كِتاباً﴾، مصدر مؤكد لأحصينا؛ لأنَّ الإحصاء والكتابة من وادٍ واحد،
220
أو: حال بمعنى مكتوب في اللوح المحفوظ، أو في صحف الحفظة، والجملة اعتراض، وقولة تعالى: ﴿فذُوقوا فلن نزيدكم إِلاَّ عذاباً﴾ مسبب عن كفرهم بالحساب، وتكذيبهم بالآيات، أي: فذوقوا جزاء تكذيبكم والالتفات شاهد على شدّة الغضب. روي عنه ﷺ أنه قال: " إنَّ هذه الآية أشدُّ ما في القرآن على أهل النار ". الإشارة: إنَّ يوم الفصل بين العمومية والخصوصية، أو تقول: بين الانتقال من مقام أهل اليمين إلى مقام المقربين، كان في علم الله ميقاتاً، أي: مؤقتاً، وهو يوم انتقاله من شهود الأكوان إلى شهود المكوِّن، أو من مقام البرهان إلى مقام العيان. يوم يُنفخ في صور الأرواح التي سبقت لها العناية، فيُزعجها شوق مقلق أو خوف مزعج، فتأتون إلى حضرة القدس، تسيرون إليها على يد الخبير أفواجاً، وفُتحت سماء الأرواح ليقع العروج إليها من تلك الأرواح السائرة، فكانت أبواباً، وسُيرت جبال العقل حين سطوع أنوار الحقائق، فكانت سراباً، فلا يبقى من نور العقل إِلاّ ما يميز به بين الحس والمعنى، وبين الشريعة والحقيقة. إنَّ جهنم البُعد كانت مِرصاداً، للطاغين المتكبرين عن حط رؤوسهم للخبير، الباقين مع عامة أهل اليمين، مآباً لا يبرحون عنها، لابثين فيها أحقاباً مدة عمرهم وما بعد موتهم، لا يذوقون فيها برد الرضا، ولا شراب نسيم التسليم، إلاَّ حميماً: حر التدبير والاختيار، وغساقاً: نتن حب الدنيا وهمومها، جزاءً موافقاً لميلهم إلى الحظوظ والهوى، إنهم كانوا لا يرجون حِساباً، فلم يحاسبوا نفوسهم، ولا التفتوا إلى إخلاصها، وكذّبوا بأهل الخصوصية، وهم الأولياء الدالون على الله، ثم يقال لهم: ذّوقوا وبال القطيعة، فلن نزيدكم إلاّ تعباً وحرصاً وجزعاً. عائذاً بالله من سوء القضاء، وشماتة الأعداء.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ للمتقين مفازاً﴾ أي: فوزاً ونجاة من كل مكروه، وظفراً بكل محبوب، وهو مَفْعَلٌ من الفوز، يصلح أن يكون مصدراً ومكاناً، وهو الجنة، ثم أبدل البعض من الكل، فقال: ﴿حدائقَ﴾ ؛ بساتين فيها أنواع الشجر المثمر، جمع حديقة، وأبدل من المفرد، لأنَّ المصدر لا يجمع، بل يصلح للقليل والكثير، ﴿وأعناباً﴾، كرر لشرفه، لأنه يخرج منه أصناف مِن النِعم، ﴿وكواعبَ﴾ ؛ نساء نواهِد، وهي مَن لم تسقط ثديها لصغرٍ، ﴿أتراباً﴾ أي: لَدَاتٍ مستوياتٍ في السنّ، ﴿وكأساً دِهاقاً﴾ ؛ مملوءة.
221
﴿لا يسمعون فيها﴾ ؛ في الجنة، حال من ضمير خبر " إن "، ﴿لَغْواً﴾ ؛ باطلاً، ﴿ولا كِذَّاباً﴾ أي: لا يكذّب بعضهم بعضاً، وقرأ الكسائي بالتخفيف، من المكاذبة، أي: لا يُكاذبه أحد، ﴿جزاءً من ربك﴾ : مصدر مؤكد منصوب، بمعنى: إنَّ للمتقين مفازاً، فإنه في قوة أن يقال: جازى المتقين بمفاز جزاء كائناً من ربك. والتعرُّض لعنوان الربوبية، المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره ﷺ مزيد تشريف له عليه الصلاة والسلام، ﴿عَطاءً﴾ أي: تفضُّلاً منه تعالى وإحساناً، إذ لا يجب عليه شيء، وهو بدل مِن " جزاء "، ﴿حِساباً﴾ أي: مُحسِباً، أي: كافياً، على أنه مصدر أقيم مقام الوصف، أو بولغ فيه، من: أحسبه إذا كفاه حتى قال حسبي، أو: على حسب أعمالهم.
﴿ربِّ السماواتِ والأرضِ وما بينهما﴾ بدل من " ربك "، ﴿الرحمن﴾ : صفة له، أو للأول، فمَن جَرَّهما فبدل من " ربك ". ومَن رفعهما فـ " رب " خبر متبدأ محذوف، أو متبدأ خبره " الرحمن "، أو " الرحمن " صفة، و " لا يملكون " خبر، أو هما خبران، وأيًّا ما كان ففي ذكر ربوبيته تعالى للكل ورحمته الواسعة إشعار بمدار الجزاء المذكور، ﴿لا يملكون﴾ أي: أهل السماوات والأرض ﴿منه خِطاباً﴾ ؛ معذرة أو شفاعة أو غيرهما إلاَّ بإذنه، وهو استئناف مقرر لما أفادته الربوبية العامة، من غاية العظمة والكبرياء، واستقلاله تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء، من غير أن يكون لأحد قدرة عليه، والتنكير في للتقليل والنوعية. قال القشيري: كيف يكون للمكوَّن المخلوق المسكين مُكْنةٌ أن يملك منه خِطاباً، أو يتنفَّسَ بدونه نفساً؟ كلاَّ، بل هو الله الواحدُ الجبّار. ثم قال: إنما تظهر الهيبةُ على العموم لأهل الجمع في ذلك اليوم. وأمّا الخصوص فهم أبداً بمشهدِ العز بنعت الهيبة. هـ.
﴿
يومَ يقومَ الرُّوحُ﴾
؛ جبريل عليه السلام عند الجمهور، وقيل: مَلكٌ عظيم، ما خلق الله تعالى بعد العرش أعظم منه، يكون وحده صفًّا، ﴿والملائكةُ صفاً﴾ : حال، أي: مصْطفين ﴿لا يتكلمون﴾ أي: الخلائق خوفاً، ﴿إِلاَّ مَن أّذِنَ له الرحمنُ﴾ في الكلام أو الشفاعة، ﴿وقال صَواباً﴾ أي: حقًّا. قال الطيبي عن الإمام: فإن قيل: لَمَّا أذن له الرحمن في التكلم عَلِمَ أنه حق وصواب، فما الفائدة في قوله: ﴿وقا صواباً﴾ ؟ فالجواب من وجهين، أحدهما: أنَّ التقدير: لا ينطقون إلاَّ بعد ورود الإذن والصواب، ثم يجتهدون في ألاَّ ينطقوا إلاَّ بالحق والصواب، وهذا مبالغة في وصفهم بالطاعة. وثانيهما: أنَّ التقدير: لا يتكلمون إلاَّ في محضر إذن الرحمن في شفاعته والمشفوع له ممن قال صواباً، وهو قول لا إله إلا الله. هـ. قلت: والمعنى: أن يُراد بالصواب: استعمال الأدب في الخطاب، بمراعاة التعظيم، كما هو شأن الكلام مع الملوك.
ثم قال تعالى: ﴿ذلك اليومُ الحق﴾ أي: الثابت المحقَّق لا محالة، من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه. والإشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور، وما فيه من معنى البُعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو درجته، وبُعد منزلته في الهول والفخامة.
222
وهو مبتدأ، و " اليوم " خبره، أي: ذلك اليوم العظيم الذي يقوم الروح والملائكة مصطفين، غير قادرين على التكلم عنهم ولا عن غيرهم من الهيبة والجلال، هو اليوم الحق، ﴿فمَن شاء اتخذ إَلى ربه مآباً﴾ ؛ مرجعاً بالعمل الصالح. والفاء فصيحة تفصح عن شرط محذوف، أي: إذا كان الأمر كذلك من تحقُّق اليوم المذكور لا محالة، فمَن شاء أن يتخذ إلى ربه مرجعاً، أي: إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم، فليفعل ذلك بالإيمان والطاعة، و " إلى ربه " يتعلق بـ " مآب " قُدّم اهتماماً وللفواصل.
﴿إِنَّا أنذرناكم﴾ بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث وما بعده من الدواعي، أو بسائر القوارع الواردة في القرآن، أي: خوفناكم ﴿عذاباً قريباً﴾ هو عذاب الآخرة، وقُربه لتحقُّق وقوعه، وكل آتٍ قريب، ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ [النازعات: ٤٦]، وعن قتادة هو قتل قريش يوم بدر ويأباه قوله تعالى: ﴿يوم ينظر المرء ما قدمت يداه﴾ فإنه بدل من " عذاب " أو ظرف لمُضمر هو صفة له، أي: عذاباً كائناً يوم ينظر المرء، أي: يُشاهد ما قدَّمه من خير وشر. و " ما " موصولة، والعائد محذوف، أو استفهامية، أي: ينظر الذي قدمته يداه، أو: أي شيء قدمت يداه وقيل: المراد بالمرء: الكافر.
وقوله: ﴿ويقول الكافرُ يَا لَيْتَنِي كنتُ ترابا﴾، وضع الظاهرَ موضع الضمير، لزيادة الذّم، أي: يَا لَيْتَنِي كنتُ تُرَابًا لم أُخلق ولم أُكلّف، أو: ليتني كنت تراباً في هذا اليوم فلم أُبعث. وقيل: يحشر اللهُ تعالى الحيوان حتى يقتص للجماء من القرناء، ثم يرده تراباً، فيود الكافرُ أن يكون تراباً مثله، وقيل: الكافر: إبليس يرى آدم وولده وثوابهم، فيتمنى أن يكون من الشيء الذي احتقره حين قال: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [الأعراف: ١٢ وصا: ٧٦]. قال الطيبي: والعموم في المرء هو الذي يساعده النظم. ثم قال عن الإمام: فإن قلتَ: لِمَ خُصَّ بعد العموم قول الكافر دون المؤمن؟ قلت: دلّ قول الكافر على غاية التحسُّر، ودلّ حذف قول المؤمن على غاية التبجُّح ونهاية الفرح بما لا يَحصُره الوصف. هـ. قال المحشي: والظاهر أنه اقتصر على قول الكافر بعد العموم في المرء، لأنه المناسب للنذارة التي اقتضاها المقام. هـ. قلتُ: ولو ذكر قول المؤمن لقال: ويقول المؤمن هاؤم اقرؤوا كتابيه، تبجُّحاً وفرحاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إنَّ للمتقين الله حق تقاته مفازاً، وهو التخلُّص من رؤية الأكوان، والإفضاء إلى رؤية الشهود والعيان، وهو دخول حدائق العرفان، واقتطاف ثمار الوجدان، ونكاح أبكار الحقائق، وهنّ أتراب، لاستوائها غالباً في لذة الشهود لمَن تمكن منها. ويشربون كأس الخمرة الأزلية، لا يسمعون في حضرة القدس لغواً ولا كِذاباً، لغاية أدبهم، جزاء من ربك على مكابدتهم في أيام سيرهم، عطاءً كافياً مغنياً من الرحمن، لا يملكون منه خِطاباً، لغاية هيبتهم، وهذا لقوم أقامهم مقام الهيبة، وثَمَّ آخرون أقامهم مقام البسط والإدلال،
223
وهم المتمكنون في معرفته، ينبسطون معه، ويشفعون في عباده في الدارين. قال الورتجبي: مَن كان كلامه في الدنيا من حيث الكشف والمعاينة، فهو مأذون في الدنيا والآخرة، يتكلم مع الحق على بساط الحرمة والهيبة، يُنقذ الله به الخلائق من ورطة الهلاك. هـ.
يوم يقوم الروح، أي: جنس الروح، وهي الأرواح الصافية، التي التحقت بالملائكة، فتقوم معهم صفاً في مقام العبودية التي شرفت بها، لا يتكلمون هيبةً لمقام الحضرة، إلاَّ مَن أّذِنَ له الرحمنُ في الشفاعة، على قدر مقامه، وقال صواباً، أي: استعمل الأدب في مخاطبته فإذا استعمل الأدب شفع، ولو قصر مقامه عن عدد المشفوع فيه. حُكي أنَّ بعض الأولياء قال عند موته: يا رب شفِّعني في أهل زماني، فقال له الهاتف مِنْ قِبل الله تعالى: لم يبلغ مقامك هذا، فقال: يا رب إذا كان ذلك بعملي واجتهادي فلعَمري إنه لم يبلغ ذلك، وإذا كان ذلك بكرمك وَجُودك، فهو أعظم من ذلك، فشَفَّعه الحقُّ تعالى في الوجود. هكذا سمعتُ الحكاية من شيخنا الفقيه العالم، سيدي " التاودي بن سودة " رحمه الله، فحُسن خطاب هذا الرجل بلّغه ما لم يبلغه قدره.
ذلك اليوم الحق، تحِق فيه الحقائق، وتبطل فيه الدعاوى، ويفتضح أهلها، فمَن شاء اتخذ إلى ربه مآباً، يرجع به إلى ربه، وهو حُسن التوجه إليه، برفض كل ما سواه. ﴿إنَّا أنذرناكم عذاباً قريباً﴾ قال القشيري: أي: عذاب الالتفات إلى النفس والدنيا والهوى، يوم ينظر المرءُ ما قدَّمت يداه من الإساءة والإحسان هـ. ويقول الكافر الجاحد لطريق الخصوصية، حتى مات محجوباً: يَا لَيْتَنِي كنتُ تُراباً، تحسُّراً على ما قاته من مقام المقربين. وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
224
سورة النازعات
فإنَّ جواب القسم: لتُبعثن ثم لتعذِّبن.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والنازعاتِ﴾ أي: والملائكة التي تنزع الأرواح من أجسادها، كما قال ابن عباس، أو أرواح الكفرة، كما قاله هو أيضاً وابن مسعود، ﴿غَرْقاً﴾ أي: إغراقاً، من: أَغرق في الشيء: بالغ فيه غايةً، فإنها تُبالغ في نزعها فتخرجها من أقاصي الجسد. قال ابن مسعود: تنزع روح الكافر مِن جسده من تحت كل شعرة، ومِن تحت الأظافر، ومن أصول القدمين، ثم تفرقها في جسده، ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج تردها في جسده، فهذا عملها بالكفار دون المؤمنين. أو: تُغرقها في جهنم، فهو مصدر مؤكد.
﴿والناشطاتِ نشطاً﴾ أي: ينشطونها ويخرجونها من الجسد، من: نَشط الدلو من البئر: أخرجها. ﴿والسابحاتِ سَبْحاً﴾ أي: يسبحون بها في الهوى إلى سدرة المنتهى. شبّه سرعة سيرهم بسبح الهوام، أو يسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج من البحر ما يخرج، ﴿فالسابقاتِ سبقًا﴾ فيسبقون بأرواح الكفرة إلى النار، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة، ﴿فالمُدبراتِ أَمْراً﴾ تُدبر أمر عقَابها وثوابها، بأن تهيئها لإدراك ما أعدّ لها من الآلام والثواب، أو السابحات التي تسبح في مضيها، فتسبق إلى ما أمروا به، فتدبر أمراً من أمور العباد، مما يصلحهم في دينهم ودنياهم كما رُسم لهم.
225
أو: يكون تعالى أَقْسَم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب، غرقاً في النزع، بأن تقطع الفلك حتى تنحطّ في أقصى المغرب، وتنشط من برج إلى برج، أي: تخرج، من: نَشط الثور: إذا خرج من بلد إلى بلد، وتَسْبح في الفلك، فتسبق بعضها بعضاً، فتُدبر أمراً نِيط بها، كاختلاف الفصول، وتقدير الأزمنة، وتدبير مواقيت العبادة، وحيث كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب قسرية ـ أي: قهرية - وحركاتها من برج إلى برج ملائمةً، عبَّر عن الأولى بالنزع، وعن الثانية بالنشط.
أو: بأنفس الغُزاة، أو: بأيديهم التي تنزع القِسي، بإغراق السهام، وينشطون بالسهم إلى الرمي، ويَسْبحون في البر والبحر، فيسبقون إلى حرب العدو، فيُدبرون أمرها، أو: بصفات خيلهم، فإنها تنزع في أعنّتها نزعاً تغرق فيه الأعنّة لطول أعناقها، لأنها عراب، وتخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب، وتَسْبح في جريها، فتسبق إلى العدو، فتدبر أمر الظفر والغلبة. وسيأتي في الإشارة أحسن هذه الأقوال إن شاء الله.
وانتصاب " نشطاً " و " سَبْحاً " و " سبقاً " على المصدرية، وأما " أمراً " فمفعول به، وتنكيره للتهويل والتفخيم. والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير العنواني منزلة المتغاير الذاتي؛ للإشعار بأنَّ كل واحدٍ من الأوصاف المعدودة من معظّمات الأمور، حقيق بأن يكون حياله مناطاً لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام بالإقسام من غير انضمام أوصاف الآخر إليه. والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتيبهما على ما قبلهما بلا مهلة. والمقسم عليه محذوف، تعويلاً على إشارة ما قبله من المقسم به إليه، ودلالة ما بعد من أحوال القيامة عليه، فإنَّ الإقسام بمَن يتولى نزع الأرواح، ويقوم بتدبيرها، يلُوح بكون المقسم عليه مِن قبل تلك الأمور لا محالة، ففيه من الجزالة ما لا يخفى.
أي: لتُبعثن ﴿يومَ ترجُفُ الراجِفةُ﴾، فالعامل في الظرف هو الجواب المحذوف. والرجف: شدة الحركة. والراجفة: النفخة الأولى، وُصفت بما حدث عندها لأنها تضطرب لها الأرض حتى يموت مَن عليها، وتزلزل الجبال وتندك الأرض دكاً، ثم ﴿تتبعها الرادِفةُ﴾ ؛ النفخة الثانية، لأنها تردف الأولى، وبينهما أربعون سنة، والأولى تُميت الخلق والثانية تُحْييهم.
﴿قلوبٌ يومئذٍ﴾، وهي قلوب منكري البعث، ﴿واجفةٌ﴾ ؛ مضطربة، من: الوجيف، وهو الاضطراب، ﴿أبصارُها﴾ أي: أبصار أصحابها ﴿خاشعةٌ﴾ ؛ ذليلة لهول ما ترى، ﴿يقولون﴾ أي: منكرو البعث في الدنيا استهزاءً وإنكاراً للبعث: ﴿أئنا لمردودون في الحافرة﴾، استفهام بمعنى الإنكار، أي: أنُردّ بعد موتنا إلى أول الأمر، فنعود أحياءً كما كنا؟ والحافرة: الحالة الأولى، يُقال لمَن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه: رجع إلى حافرته، أي: إلى حالته الأولى، يُقال: لمَن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه: رجع إلى حافرته، أي: إلى حالته الأولى، ويُقال: رجع في حافرته، أي: طريقته التي جاء فيها، فحفر فيها، أي: أثر فيها بمشيه، وتسميتها حافرة مع أنها محفورة، كقوله: {عيشة
226
راضية} [الحاقة: ٢١] على تسمية القابل بالفاعل.
أنكروا البعث ثم زادوا استبعاداً فقالوا: ﴿أئذا كنا عظاماً نخرةً﴾ ؛ بالية. ونخرة أبلغ من ناخرة؛ لأنَّ " فَعِلٌ " أبلغ من فاعل، يقال: نَخِرَ العظم فهو نَخِرٌ وناخر: بِلَى، فالنَخِر هو البالي الأجوف الذي تمر به الريح فيسمع له نخير، أي: أنُرد إلى البعث بعد أن صرنا عظاماً بالية؟. و " إذا " منصوب بمحذوف، وهو: أنُبعث إذا كنا عظاماً بالية مع كونها أبعد شيء في الحياة.
﴿قالوا﴾ أي: منكروا البعث، وهو حكاية لكفر آخر، متفرع على كفرهم السابق، ولعل توسيط " قالوا " بينهما للإيذان بأنّ صدور هذا الكفر عنه ليس بطريق الاطراد والاستمرار، مثل كفرهم الأول المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم، حسبما يُنبىء عنه حكايته بصيغة المضارع، أي: قالوا بطريق الاستهزاء، مُشيرين إلى ما أنكروه من الرد في الحافرة، مشعرين بغاية بُعدها من الوقوع: ﴿تلك إِذاً كرةٌ خاسرةٌ﴾ أي: رجفة ذات خسران، أو خاسر أصحابها، والمعنى: أنها إن صحّت وبُعثنا فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا بها، وهذا استهزاءُ منهم.
قال تعالى في إبطال ما أنكروه: ﴿فإِنما هِي زجرةٌ وَاحدَةٌ﴾ أي: لا تحسبوا تلك الكرّة صعبة على الله، بل هي أسهل شيء، فما هي إلاّ صيحة واحدة، يُريد النفخة الثانية، من قولهم: زَجَر البعير: إذا صاح عليه. ﴿فإِذا هم بالسَّاهرةِ﴾ أي: فإذا هم أحياء على وجه الأرض، بعدما كانوا أمواتاً في جوفها. والساهرة: الأرض البيضاء المستوية، سُميت بذلك، لأنَّ السراب يجري فيها، من قولهم: عين ساهرة جارية، وفي ضدها: عين نائمة، وقيل: إنَّ سالكها لا ينام خوف الهلكة، وقيل: أرض بعينها بالشام إلى جنب بيت المقدس، وقيل: أرض مكة. وقيل: اسم لجهنّم. وعن ابن عباس: أنَّ الساهرة: أرض مِن فضة، لم يُعص اللهَ تعالى عليها قط، خلقها حينئذ. وقيل: أرض يُجددها اللهُ تعالى يوم القيامة. وقيل: الأرض السابعة، يأتي الله بها يوم القيامة فيُحاسب عليها الخلائق، وذلك حين تُبدل الأرض غير الأرض، وقيل: الساهرة: أرض صحراء على شفير جهنم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: والأرواح النازعات عن ملاحظة السِّوى غرقاً في بحار الأحدية. والناشطات من علائق الدنيا ومتابعة الهوى نشطاً، والسابحات بأفكارها في بحر أنوار الملكوت، وأسرار الجبروت، سبحاً، فالسابقات إلى حضرة القدس سبقاً، فالمدبرات أمر الكون، بالتصرُّف فيه بالنيابة عن الحق، وهو مقام القطبانية، أو النازعات عن الحظوظ والشهوات غرقاً في التجرُّد إلى العبادات بأنواع الطاعات. وهذه أنفس العُبّاد، والناشطات عن الدنيا، وأهلها فراراً إلى الله نشطاً، وهي أنفس الزُهّاد، والسابحات بعقولها في أسرار العلوم، فتستخرج من الكتاب والسنة درراً ويواقيت، يقع النفع بها إلى يوم الدين، وهي
227
أنفس العلماء الجهابذة، فالسابقات إلى الله بأنواع المجاهدات والسير في المقامات، حتى أفضت إلى شهود الحق عياناً، سبقاً، وهي أنفس الأولياء العارفين، فالمُدبرات أمر الخلائق بقسم أرزاقها وأقواتها ورتبها، وهي أنفس الأقطاب والغوث. وقال البيضاوي: هذه صفات النفوس، وحال سلوكها، فإنها تنزع من الشهوات، وتنشط إلى عالم القدس، فتسْبَح في مراتب الارتقاء، فتسبق إلى الكمالات، حتى تصير من المكمِّلات، زاد الإمام: فتُدبْر أمر الدعوة إلى الله. وقال الورتجبي: إشارة النازعات إلى صولات صدمات تجلي العظمة، فتنزع الأرواح العاشقة عن معادن الحدوثية. ثم قال: والناشطات: الأرواح الشائقة تخرج من أشباحها بالنشاط، حين عاينت جمال الحق بالبديهة وقت الكشف. ثم قال: والسابحات تسْبَح في بحار ملكوته وقاموس كبرياء جبروته، تطلب فيها أسرار الأولية والآخرية والظاهرية والباطنية، فالسابقات في مصاعدها عالم الملكوت، وجنات الجبروت، تُسابق كل همة، فالمدبِّرات هي العقول القدسية تُدَبّر أمور العبودية بشرائط إلهام الحقيقة. هـ.
والمقسَم عليه: ليبعَثن اللهُ الأرواحَ الميتة بالجهل والغفلة، حين تنتبه إلى السير بالذكر والمجاهدة، فإذا حييت بمعرفة الله كانت حياة أبدية. وذلك يوم ترجف النفس الراجفة، وذلك حين تتقدّم لخرق عوائدها ومخالفة هواها، تتبعها الرادفة، وهي ظهور أنوار المشاهدة، فحينئذ تُبعث من موتها، وتحيا حياة لا موت بعدها، وأمّا الموت الحسي فإنما هو انتقال من مقام إلى مقام. قلوب يومئذ ـ أي: يوم المجاهدة والمكابدة ـ واجفة، لا تسكن حتى تُشاهد الحبيب، أبصارُها في حال السير خاشعة، لا يُخلع عليها خلعُ العز حتى تصل. يقول أهل الإنكار لهذه الطريق: أئِنا لمردودون إلى الحالة الأولى، التي كانت الأرواح عليها في الأزل، بعد أن كنا ميتين بالجهالة، مُرْمى بنا في مزابل الغفلة، كعِظام الموتى، قالوا: تلك كرة خاسرة، لزعمهم أنهم إذا صاروا إلى هذا المقام لم يبقَ لهم تمتُّع بشيء أصلاً، مع أنَّ العارف إذا تحقق وصوله تمتع بالنعيمين؛ نعيم الأشباح ونعيم الأرواح. قال تعالى في رد ما استحالوه: فَإِنَّمَا هِي زَجْرَةٌ وَاحدَةٌ من همة عارف، أو نظرة وليّ كامل، فإذا هم في أرض الحضرة القدسية. قال الشيخ أو العباس: والله ما بيني وبين الرجل إلاَّ أن أنظر إليه وقد أغنيته. قلت: والله لقد بقي في زماننا هذا مَن يفوق أبا العباس والشاذلي وأضرابهما في الإغناء بالنظرة والملاحظة، والحمد لله.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿هل أتاك حديثُ موسى﴾، تشويقاً لما يُلقى إليه مِن خبره، أي: هل أتاك حديثه، أنا أُخبرك به، إن كان هذا أول ما أتاه من حديثه. وإن كان تقدّم قبل هذا حديثه، وهو المتبادر، فالمعنى: أليس قد آتاك حديثه. وقوله: ﴿إِذْ ناداه رَبُّه﴾ : ظرف للحديث لا للإتيان، لاختلاف وقتهما، أي: هل وصلك حديثه ناداه ربه ﴿بالوادِ المقدّس﴾ ؛ المبارك المطهّر، اسمه: ﴿طُوى﴾ بالصرف وعدمه. فقال في ندائه له: ﴿اذهبْ إِلى فرعون إِنه طَغَى﴾ ؛ تجاوز الحدّ في الكفر والطغيان، ﴿فقلْ﴾ له بعد أن تأتيه: ﴿هل لك إِلى أن تزكَّى﴾ أي: هل لك رغبة وتَوَجُّه إلى التزكية والتطهير من دنس الكفر والطغيان بالطاعة والإيمان. قال ابن عطية: " هل " هو استدعاء حسن. قال الكواشي: يقال: هل لك في كذا؟ وهل لك إلى كذا؟ كقولك: هل ترغب في كذا، وهل ترغب إلى كذا. قال: وأخبر تعالى أنه أمر موسى بإبلاغ الرسالة إلى فرعون بصيغة الاستفهام والعرض، ليكون أصغى لأذنه، وأوعى لقلبه، لِما له عليه من حق التربية. هـ. وأصله: " تتزكى "، فحذف إحدى التاءين، أو: أدغمت، فيمن شدّد الزاي.
﴿وأهْدِيَكَ إِلى ربك﴾ ؛ وأهديك إلى معرفته، بذكر دلائل توحيده وصفات ذاته، ﴿فتخشَى﴾، لأنَّ الخشية لا تكون إلاَّ مع المعرفة، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُاْ﴾ [فاطر: ٢٨] أي: العلماء بالله. وقال بعض الحكماء: اعرفوا الله، فمَن عرف الله لم يقدر أن يعصيه طرفةَ عين. فالخشية ملاك الأمر، فمَن خشي الله أتى منه كل خير، ومَن أَمِنَ اجترأ على كل شر. ومنه الحديث: " مَن خشي أدلج، ومَن أدلج بلغ المنزل " قال النسفي: بدأ مخاطبته بالاستفهام، الذي معناه العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟ وأردفه الكلامَ الرقيق، ليستدعيه باللطف في القول، ويستنزله بالمداراة من عتوّه، كما أمر بذلك في قوله: ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِِّناً﴾ [طه: ٤٤] هـ.
﴿
فأراه الآيةَ الكبرى﴾
، الفاء: فصيحة تفصح عن جملة قد طويت تعويلاً على تفصيلها في السور الأخرى، فإنه عليه السلام ما أراه إياها عقب هذا الأمر، بل بعدما جرى بينه وبينه من المحاورات إلى أن قال: ﴿إِن كُنتَ جِئْتَ بِئَايَةٍ فَأْتِ﴾ [الأعراف: ١٠٦]. والآية الكبرى: العصا، أو: هي واليد، لأنهما في حُكم آية واحدة. ونسبتُها إليه عليه السلام بالنسبة إلى الظاهر، كما أنّ نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُءَايَاتِنَا كُلَّهَا﴾ [طه: ٥٦] بالنظر إلى الحقيقة ﴿فكذَّب وعَصَى﴾ أي: كذَّب موسى عليه السلام. وسمَّى معجزته سحراً، وعصى اللهَ عزّ وجل بالتمرُّد، بعدما عَلِمَ صحة
229
الأمر ووجوب الطاعة، أشد العصيان وأقبحه، حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأساً. وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عزّ وجل، وترك القولة العظيمة التي يدّعيها الطاغية، ويقبلها منه الفئة الباغية، لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر فقط. قاله أبو السعود.
﴿ثم أّدْبَر﴾ أي: تولَّى عن الطاعة، أو: انصرف عن المجلس ﴿يسعَى﴾ في معارضة الآية، أو: أدبر هارباً من الثعبان، فإنه رُوي أنه عليه السلام لمّا ألقى العَصا انقلب ثعباناً أشعر، فاغراً فاه، بين لحييه ثمانون ذرعاً، فوضع لحيه الأسفل على الأرض، والأعلى على القصر، فتوجه نحو فرعون، فهرب وأحدَثَ، وانهزم الناسُ مُزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً من قومه وقيل: إنها ارتفعت في السماء قدر ميل، ثم انحطت مقبلة نحو فرعون، وجعلت تقول: يا موسى مُرني بما شئت، وجعل فرعون يقول: بالذي أرسلك إلاّ أخذته، فأخذه فعاد عصا..
﴿فحشَرَ﴾ أي: فجمع السحرة، كقوله: ﴿فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ﴾ [الشعراء: ٥٣] أو: جمع الناس، ﴿فنادَى﴾ في المقام الذي اجتمعوا فيه، قيل: قام خطيباً، ﴿فقال أنا ربكم الأعلَى﴾ لا رب فوقي، وكان لهم أصنام يعبدونها. وهذه العظيمة لم يجترىء عليها أحد قبله. قال ابن عطية: وذلك نهاية في المخارقة، ونحوُها باقٍ في ملوك مصر وأتباعهم. هـ. قيل: إنما قال ذلك ابنُ عطية لأنَّ ملك مصر في زمانه كان إسماعيليًّا، وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية ملوكهم. وكان أول مَن ملكها منهم: المعتز بن المنصور بن القاسم بن المهدي عبيد الله، وآخرهم العاضد. وقد طهَّر الله مصر من هذا المذهب، بظهور الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذا رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيراً. هـ. من الحاشية.
﴿
فأخَذَه اللهُ نكال الآخرةِ والأُولى﴾
بالإغراق، فالنكال: مصدر بمعنى التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم، وهو التعذيب الذي ينكل مَن رآه أو سمعه، ويمنعه من تعاطي ما يُفضي إليه. وهو منصوب على أنه مصدر مؤكد، كوعْدَ الله وصبغةَ الله، وقيل: مصدر لـ " أخذ "، أي: أخذه الله أخذ نكال الآخرة، وقيل: مفعول من أجله، أي: أخذه الله لأجل نكال الآخرة. وإضافته إلى الدارين باعتبار وقوع بعض الأخذ فيهما، لا باعتبار أنَّ ما فيه من المنع والزجر يكون فيهما، فإنَّ ذلك لا يتصور في الآخرة، بل في الدنيا، فإنَّ العقوبة الأخروية تنكل مَن يسمعها، وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها لا محالة. وقيل: المراد بالآخرة والأولى: قوله: ﴿أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعْلَى﴾ وقوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَاهٍ غَيْرِى﴾ [القصص: ٣٨]. قيل: كان بين الكلمتين أربعون سنة، فالإضافة إضافة المسبب إلى السبب.
﴿إِنَّ في ذلك﴾ أي: فيما ذكره من قصة فرعون وما فعل به ﴿لَعِبرةً﴾ عظيمة ﴿لِمن﴾ شأنه أن ﴿يَخْشَى﴾ وهو مَن عرف الله تعالى وسطوته.
230
الإشارة: جعل القشيري موسى إشارة إلى القلب، وفرعون إشارة إلى النفس، فيُقال: هل أتاك حديث القلب حين ناداه ربه بالحضرة المقدسة، بعد طي الأكوان عن مرآة نظره، فقال له: اذهب إلى فرعون النفس إنه طغى. وطغيانها: إرادتها العلو والاستظهار، فقل له: هل لك إِلى أن تَزَكَّى وتتطهر من الخبائث، لتدخل الحضرة، فأَهديك إلى معرفة ربك فتخشى، فإنما يخشى اللهَ مَن عرفه. فأراه الآية الكبرى مِن خرق العوائد ومخالفة الهوى، فكَذَّب وعصى، حين رأى عزم القلب على مجاهدته، فحشر جنوده مِن حب الدنيا والرئاسة، وإقبال الناس والحظوظ والشهوات، فنادى، فقال: أنا ربكم الأعلى، فلا تعبدوا غيري. هذا قول فرعون النفس، فأخذه اللهُ نكال الآخرة والأولى، أي: استولى جند القلب عليه، فأغرقه في قلزوم بحر الفناء والبقاء. إنَّ في ذلك لعبرة لمَن يخشى، ويسلك طريق التزكية، فإنه يصل إلى بحر الأحدية. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
يقول الحق جلّ جلاله: مخاطباً أهلَ مكة، المنكرين للبعث، بناء على صعوبته في زعمهم، وتوبيخاً وتبكيتاً، بعدما بيّن سهولته على قدرته بقوله: ﴿فَإِنَّمَا هِي زَجْرَةٌ وَاحدَةٌ﴾ ﴿أأنتم أشدُّ خَلْقاً﴾ أي: أَخَلْقُكم بعد موتكم أشق وأصعب في تقديركم ﴿أم السماءُ﴾ أي: أم خلق السماء على عِظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها، وهذا كقوله: ﴿أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىا أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى﴾ [يَس: ٨١]. ثم بيَّن كيفية خلقها فقال: ﴿بناها﴾ أي: الله، وفي عدم ذكر الفاعل، فيه وفيما عطف عليه، من التنبيه على تعينه وتفخيم شأنه عزّ وجل ما لا يخفى.
﴿رَفَعَ سَمْكَها﴾ أي: أعلى سقفها من الأرض، وذهب بها إلى سمت العلوّ مدًّا رفيعاً مسيرة خمسمائة عام ﴿فسوّاها﴾ أي: فعدّلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوت ولا فطور، أو: تممها بما جعل فيها من الكواكب والدراري، وغيرها مما لا يعلمه إلاَّ الخلاَّق العليم، من قولهم: سوَّى فلان أمره: إذا أصلحه.
﴿وأغْطشَ ليلها﴾ أي: أظلمه، ويُقال: غطش الليل وأغطشه الله، كما يُقال: ظلُم وأظلمه الله. ﴿وأخرج ضحاها﴾ أي: أبرز نهارها، عبّر عنه بالضُحى، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها، فكان أحق بالذكر في مقام الامتنان. ويجوز أن يكون أضاف الضحى إليها
231
بواسطة الشمس، أي: أبرز ضوء شمسها. والتعبير بالضُحى لأنه وقت قيام سلطانها وكما إشراقها.
﴿والأرضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَآ﴾ أي: بسطها ومهّدها لسكْنى أهلها وتقلُّبهم في أقطارها، وكانت حين خُلقت كورة غير مدحوةٍ، فدحيت من تحت مكة بعد خلق السماء بألفي عام. ثم فسّر الدحو فقال: ﴿أخرج منها ماءها﴾ بتفجير عيونها وإجراء أنهارها، ﴿ومرعاها﴾ ؛ كلأها، وهو ما ترعاه البهائم، وهو في الأصل: موضع الرعي، أو: مصدر ميمي بمعنى المفعول، وتجريد الجملة من العاطف إِمّا لأنها تفسير لدحاها، أو تكملة له، فإنَّ السكنى لا تتأتى لمجرد البسط، بل لا بد من تهيئة أمر المعاش من المأكل والمشرب حتماً، أو: لأنها حال بإضمار " قد " عند الجمهور، أو بدونه عند الكوفيين.
﴿
والجبالَ أرساها﴾
أي: أثبتها وأثبت بها الأرض أن تميد بأهلها، وإرساء الجبال لها من باب الحكمة، وإلاَّ فالقدرة هي الحاملة للكل. وانتصاب الأرض والجبال بفعل يُفسره ما بعده. ولعل تقديم إخراج الماء والمرعى ذكراً مع تقديم الإرساء عليه وجوداً؛ لإبراز كمال الاعتناء بأمر المأكل والمشرب. وهذا كما ترى يدل بظاهره على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء وما فيها، كما يروى عن الحسن: من أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس، كهيئة الفِهْر، عليه دخان ملزق بها، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات، وأمسك الفِهْرَ في موضعها وبسط منها الأرض، وذلك قوله تعالى: ﴿كَانَتَا رَتْقاً... ﴾ [الأنبياء: ٣٠]. وفي القاموس: الفِهْرُ بالكسر: الحَجَرُ قَدْرَ ما يدق به الجَوْزُ، أو ما يملأ الكفَّ. هـ.
والتحقيق في المسألة: أنَّ أول ما خلق اللهُ العرش من القبضة النورانية المحمدية، ثم خلق ياقوتة صفراء، فذابت من هيبته تعالى فصارت ماء، ثم اضطرب الماء فعلته زبدة، فخلق منها الأرض، ثم علا منه دخان فخلق منه السماء، ثم دحا الأرض وهيّأ فيها أقواتها للناس والأنعام وغيرهما، كما قال تعالى: ﴿متاعاً لكم ولأنعامكم﴾ أي: فجعل ذلك تمتيعاً لكم ولأنعامكم، فهو مفعول لأجله؛ لأنَّ فائدة البسط والتمهيد وإخراج الماء والمرعى واصلة للإنسان والأنعام، أو: مصدر من غير لفظه، فإنَّ قوله تعالى: ﴿أخرج منها ماءها ومرعاها﴾ في معنى: متّعكم بذلك.
﴿فإذا جاءت الطامةُ الكبرى﴾ أي: الداهية العُظمى التي تطمّ على سائر الدواهي، أي: تعلوها وتغلبها، من قولك: طمّ الأمر: إذا علا وغلب، وهي القيامة، أو النفخة الثانية، أو: الساعة التي يُساق فيها الخلائق إلى محشرهم، أو: التي يُساق فيها أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، ﴿يوم يتذكَّرُ الإِنسانُ ما سعَى﴾ أي: يتذكر فيه كل واحد ما عمله من خير وشر، بأن يُشاهده مدوناً في صحيفته، وقد كان نسيه مِن فرط الغفلة، وطول الأمل، كقوله تعالى: ﴿أحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ﴾ [المجادلة: ٦]. و " يوم ": بدل من " إذا "
232
والأحسن: أنه مفعول بفعل محذوف، أي: أعني. ﴿وبُرّزَت الجحيمُ﴾ أي: أظهرت إظهاراً بيناً لا يخفى على أحد ﴿لمن يرى﴾ كائناً مَن كان، فلا تتوقف رؤيتها إلاّ على وجود حاسة البصر، ولا مانع من الرؤية ولا حاجب. يُروى أنه يُكشف عنها فتلتظي نيرانها كل ذي بصر.
﴿فأمَّا مَن طَغَى﴾ أي: جاوز الحدّ في العصيان ﴿وآثر الحياةَ الدنيا﴾ الفانية، فانهمك فيما متع به فيها، ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة، ﴿فإِنَّ الجحيم﴾ التي ذكر شأنها ﴿هي المأوى﴾ أي: مأواه. فاللام سادّة مسد الإضافة للعلم بأنَّ صاحب المأوى هو الطاغي، وجملة " فأمّا ": جواب " إذا " على طريقة: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّى هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَاىَ... ﴾ [البقرة: ٣٨]، وقيل: جواب " إذا " محذوف، وهي تفصيل له، أي: إذا جاءت انقسم الناس على قسمين، فأمّا مَن طغى.. الخ، والذي يستدعيه فخامة التنزُّل، ويقتضيه مقام التهويل؛ أنَّ الجواب المحذوف تقديره: يكون من عظائم الشؤون ما لم تُشاهده العيون، ثم فصَّل أحوال الناس بقوله: فأمّا.. الخ.
﴿
وأمّا مَن خافَ مَقامَ ربه﴾
أي: مُقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى، يوم يتذكر الإنسانُ ما سعى. ﴿وَنَهَى النفسَ عَنِ الْهَوَى﴾ المُرْدِيِّ، أي: زجرها عن اتّباع الشهوات الفانية، ولم يعتد بمتاع الحياة الدنيا وزهرتها، ولم يغتر بزخارفها وزينتها، علماً منه بوَخَامة عاقبتها، وقيل: هو الرجل يهم بالمعصية فيتذكّر مقامه للحساب فيتركها. والهوى: ميل النفس إلى ما تهوى من غير تقييد بالشريعة، ﴿فإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأوَى﴾ له لا لغيره، وسيأتي تحقيقه في الإشارة.
الإشارة: فإذا جاءت الطامة، وهو التجلَّي الجلالي الذي لايعرفه فيه إلاّ الرجال، يومئذ يتذكر الإنسان ما سعى فيه من علم التوحيد، فمَن كان عارفاً بالله في جميع الأشياء عرفه في جميع التجليات، كيفما تلوّنت، ومَن كان قاصراً في المعرفة في البعض وأنكره في البعض، كما في حديث القيامة، حيث يتجلّى لبعض عباده في صورة لا يعرفونها، فيُنكرونه، ويقولون، هذا موضعنا حتى يأتينا ربنا، ثم يتجلّى لهم في صورة يعرفونها، فيُقرونه، وهذا لقصورهم في المعرفة، ولو عرفوا الله في جميع تجلياته ما أنكروه في شيء منها، وبُرّزت الجحيم لمَن يرى، أي: وبُرّزت حينئذ نار القطيعة لمَن يرى. قال القشيري: أي: ظهرت جحيم الحجاب لمَن يراه غيرَ الأشياء، فإنه عين الأشياء في جميع التجليات، الجمالية والجلالية، العلوية والسفلية، الصورية والمعنوية. هـ.
فأمَّا مَن طغى وتبع هواه، وآثر الحياة الدنيا، والاشتغال بها عن الإقبال على الله، فإنَّ الجحيم هي المأوى، أي: جحيم الحرمان عن مشاهدة الرحمن، وأمّا مَن خافَ مقامَ ربه، أي: قيام ربه بالأشياء، أو على الأشياء، واطلاعه عليها، أو قيامه بين يدي الله غداً للحساب، فالأول لأهل المشاهدة، والثاني لأهل المراقبة، والثالث لأهل المحاسبة، وَنَهَى
233
النفسَ عن الهوى، عن كل ما يشغل عن الله، ويُقسي القلبَ عن ذكر مولاه، مما تهواه النفوس، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأوَى، جنة المعارف لمَن ترك ما تهوى نفسُه من المباحات، وجنة الزخارف لمَن ترك ما تهواه من المحرّمات.
قال الورتجبي: خاطب تعالى العبادَ بهذه الآية في أوائل مقاماتهم، حين وجب عليهم ترك النفوس، وشرَه هواها، والميل إلى حظوظها، لأنهم في وقت قصودهم إلى الله لا يجوز لهم الرخص والرفاهية، فقد وجب عليهم الإعراض عن حظوظ أنفسهم، خوفاً من الاحتجاب عن الوصول إلى الله تعالى، ولعلمهم بأنه محيط بحركات شهوات نفوسهم الخفية، حين تميل بخفاياها إلى مرادها دون الله، فإذا جادوها وقهروها بتأييد الله أوصلهم الله مقامَ مشاهدته، وهي جنة العارفين، فإذا ترقُّوا إلى درجات المعرفة لم يحتاجوا إلى قهر النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ نفوسهم وأجسامهم وشياطينهم صارت روحانية، فجانست الأرواح الملكوتية، فشهوات نفوسهم هناك من تواثير حلاوة أرواحهم في مشاهدة الحق، فتشتهي الأنفسُ ما تشتهي الأرواحُ في الغيوب والعقول والقلوب، فيضطرهم هناك إلى كل شيء يكون للنفوس والأرواح، جنات تظهر فيها أنوار شهود الحق، وأين الكافر والمعطِّل والمدّعِي من هذا المقام؟ وهم خلقوا من الجهالة، فيموتون في الضلالة، وأصحاب القلوب والمعارف عيش أرواحهم عيش الربانيين، وعيش نفوسهم عيش الجنّانيين ـ أي أهل الجنة الحسية ـ والله قادر بذلك يختص برحمته مَن يشاء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " أسلم شيطاني " وقال: " نحن معاشر الأنبياء أجسادنا روح " ثم قال عن سهل: لا يَسلم من الهوى إلاَّ الأنبياء وبعض الصدّيقين، ليس كلهم، وإنما يسلم من الهوى مَن ألزم نفسه الأدب. هـ. قلت: الذي يُلزم نفسه الأدب هو الذي ينزل إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ بالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين، وقليل ما هم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يسألونك عن الساعةِ أيَّان مُرْسَاها﴾ أي: متى إرساؤها، أي: إقامتها، يُريدون: متى يُقيمها الله تعالى ويكوّنها، وقيل: إيّان منتهاها ومستقرها، كما أنّ مرسى السفينة المحل التي تنتهي إليه وتستقر فيه، ﴿فِيمَ أنتَ مِن ذِكراها﴾ أيّ: في أي شيء أنت مِن أن تذكر وقتها لهم وتعلمهم به؟ أي: ما أنت من ذكراها وتبيين وقتها لهم في شيءٍ حتى يسألونك بيانها، إنما أنت نذير بها، كقولك: ليس فلان من العلم في شيءٍ وهو إنكار ورد لسؤال المشركين عنها، لأنَّ علمها مما استأثر به علاّم الغيوب
234
وقيل: كان رسولُ الله ﷺ لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت، فكفّ، فهو على هذا تعجيب من كثرة ذكره لها، أي: أنت في شُغل وأي شغل أنت من الاهتمام بالسؤال عنها.
وقالت عائشة رضي الله عنها: كان ﷺ يسأل عن الساعة كثيراً، فما نزلت هذه الآية انتهى عن ذلك. ولا يرده قوله: ﴿كَأَنَّكَ حَفِيُّ عَنْهَا﴾ [الأعراف: ١٨٧] أي: إنهم يزعمون أنك مُبالغ في السؤال عنها حتى علمتها ولست كما يزعمون، لأنّا نقول هذه الآية نزلت قبل تلك، وأنه كان أولاً يسأل عنها حتى نُهي بهذه الآية فانتهى، كما ذكر في الحديث المذكور، فنزلت تلك مخبرة عن حاله بعد انتهائه. والله أعلم. قال القشيري: من أين لك علمها ولم نعلمك بذلك، وقيل: يوقف على قوله: " فِيمَ " أي: هذا السؤال الذي يسألونك فيم، أي: في أي شيء هو، فيكون إنكاراً لسؤالهم، ثم ابتدأ: " مِن ذكراها " أي: إن ظهورك وبعثك وأنت خاتم النبيين من جملة ذكراها، أي: أشراطها وعلامتها، ومؤذن بقيامها، فلا حاجة لسؤالهم عنها، ويرده: عدم الإتيان بهاء السكت، ويجاب: بأنه ليس بلازم، وإنما تَلزمُ فيما جرّ بإضافة اسم، لبقائه على حرف واحد، كما هو مقرر في محله، مع عدم ثبوته في المصحف.
ثم أومأ تعالى إلى أنه مختص بحقيقة علمها، فقال: ﴿إِلى ربك منتهاها﴾ ؛ منتهى علمها متى يكون، لا يعلمها غيره، ﴿إِنما أَنتَ منذرُ مَن يخشاها﴾ أي: لم تُبعث لتُعلمهم وقت الساعة، وإنما بُعثت لتُخوّف مِن أهوالها مَن يخاف شدائدها، ﴿كأنهم يوم يرونها﴾ أي: الساعة ﴿لم يَلبثوا﴾ في الدنيا ﴿إِلاَّ عشيةً أو ضُحاها﴾ أي: ضحى العشية، استقلُّوا مدّة لبثهم في الدنيا لما عاينوا من الهول، كقوله: ﴿لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾ [الأحقاف: ٣٥] وإنما صحّ إضافة الضحى إلى العشية للملابسة، لاجتماعهما في نهارٍ واحد، والمراد: أن مدة لبثهم لم تبلغ يوماً كاملاً، ولكن أحد طرفي النهار عشية يومٍ واحدٍ أوضحاه.
وقال أبو السعود: الآية إما تقرير وتأكيد لما يُنبىء عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذَر به، أي: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلاّ عشية يوم واحد أو ضحاه، فلما ترك اليوم أضيف ضحاه إلى عشيته. وإمّا رد لما أدمجوه في سؤالهم، فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستهزاء مسعجلين لها، فالمعنى: كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلا عشية أو ضُحاها، واعتبار كون اللبث في القبور أو في الدنيا لا يقتضيه المقام، وإنما الذي يقتضيه اعتبار كونه بعد الإنذار، أو بعد الوعيد، تحقيقاً للإنذار، وردًّا لاستبطائهم. والجملة على الأول: حال من الموصول، فإنه على تقدير الإضافة وعلى عدمها مفعول لمُنذر، كما أنَّ قوله تعالى: ﴿كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِنَ النَّهَارٍ﴾ [يونس: ٤٥] حال من الضمير في " نحشرهم " أي: نحشرهم مشبّهين بمَن لم يلبث في الدنيا إِلا ساعة من النهار، خلا أن التشبيه هناك في الأحوال الظاهرة من الزي والهيئة، وفيما نحن فيه من الاعتقاد، كأنه قيل:
235
عِدْهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد بمَن لم يلبث بعد الإنذار بها إلاّ تلك المدة اليسيرة، وعلى الثاني: مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. هـ.
الإشارة: يسألونك أيها العارف عن الساعة التي يفتح الله فيها على المتوجِّه بالدخول في مقام الفناء في الذات، أيَّان مُرْساها، إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشى فواتها، أي: إنما أنت مُبَيّن الطريق التي توصل إليها، وتُخوِّف من العوائق التي تعوق عنها، وليس مِن وظيفتك الإعلام بوقتها، لأنها موهبة من الكريم الوهّاب، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها، أي: يستصغرون مدة مجاهدتهم وسيرهم في جانب عظمها. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم.
236
سورة عبس
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿عَبَسَ﴾ أي: كلح ﴿وتَوَلَّى﴾ ؛ أعرض ﴿أن جاءه﴾ أي: لأن جاءه ﴿الأعمَى﴾، وهو عبد الله ابن أمِّ مكتوم، وأمُّ مكتوم: أمُّ أبيه، وأبوه: شريح بن مالك بن ربيعة الفهري، وذلك أنه أتى رسولَ الله ﷺ وعنده صناديد قريش، عُتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل، والعباس بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام، رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرُهم، فقال: يا رسول الله، علِّمني مما علمك الله، وكرر ذلك، وهو لا يعلم تشاغله ﷺ بالقوم، فَكَرِه رسولُ الله ﷺ قطعه لكلامه، وعبس وأعرض عنه، فنزلت، فكان رسول الله ﷺ يُكرمه، ويقول إذا رأه: " مرحباً بمَن عاتبني فيه ربي "، ويقول: " هل لك من حاجة "، واستخلفه على المدينة مرتين.
ولم يُواجهه ـ تعالى ـ بالخطاب، فلم يقل: عبستَ وتوليتَ؛ رفقاً به وملاطفة؛ لأنَّ مواجهة العتاب من رب الأرباب من أصعب الصعاب، خلافاً للزمخشري وابن عطية ومَن وافقهما. و " أن جاءه ": علة لـ " تولَّى "، أو " عبس "، على اختلاف المذهبين في التنازع، والتعرُّض لعنوان عماه إمّا لتمهيد عذره في الإقدام على قطع كلامه عليه السلام بالقوم،
237
والإيذان باستحقاقه بالرفق والرأقة، وإمّا لزيادة الإنكار، كأنه تولَّى عنه لكونه أعمى. قاله أبو السعود.
﴿وما يُدْرِيك﴾ أي: أيّ شيء يجعلك دارياً بحال هذا الأعمى حتى تُعرض عنه ﴿لعله يَزَّكَّى﴾ ؛ لعل الأعمى يتطهّر بما سمع منك من دنس الجهل، وأصله: يتزكَّى، فأدغم. وكلمة الترجي مع تحقق الوقوع وارد على سنن الكبرياء، أو: على أنّ الترجّي بالنسبة إليه عليه السلام للتنبيه على أنَّ الإعراض عنه عند كونه مرجواً للتزكِّي مما لا ينبغي، فكيف إذا كان مقطوعاً بالتزكِّي، وفيه إشارة إلى أنَّ مَن تصدّى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى لهم التزكّي والتذكُّر أصلاً. وقوله تعالى: ﴿أو يذَّكَّرُ﴾ : عطف على " يزّكى "، داخل في حكم الترجي، قوله: ﴿فتَنفَعه الذِكرَى﴾ : عطف على " يذَّكَّر "، ومَن نصبه فجواب الترجي، أي: أو يتذكر فتنفعه موعظتك إن لم يبلغ درجة التزكي التام، أي: إنك لا تدري ما هو مترقَب منه مِن تزكٍّ أو تذكُّر، ولو دريت لَمَا فرط ذلك منك.
﴿
أمَّا مَن استغنى﴾
أي: مَن كان غنياً بالمال، أو: استغنى عن الإيمان، أو عما عندك من العلوم والمعارف التي انطوى عليه القرآن ﴿فأنت له تَصَدّى﴾ ؛ تتصدى وتتعرض له بالإقبال عليه، والاهتمام بإرشاده واستصلاحه. وفيه مزيد تنفير له ﷺ عن مصاحبتهم، فإنّ الإقبال على المدبِر ليس من شأن الكرام، أهل الغنى بالله. ﴿وما عليك ألاَّ يزَّكَّى﴾ أي: وليس عليك بأس في ألاَّ يزَّكّى بالإسلام حتى تهتم بأمره، وتُعرض عمن أسلم وأقبل إليك، وقيل: " ما " استفهامية، أي: أيُّ شيء عليك في ألاّ يزكّى هذا الكافر.
﴿وأمّا مَن جاءك يسعى﴾ أي: حال كونه مسرعاً طالباً لِما عندك من أحكام الرشد، وخصال الخير، ﴿وهو يخشى﴾ الله تعالى أو الكفار، أي: أذاهم في إتيانك، أو: الكبوة، أي: السقطة، كعادة العميان، ﴿فأنت عنه تَلَهَّى﴾ ؛ تتشاغل، وأصله: تتلهى. رُوي: أنه ﷺ ما عبس بعدها في وجه فقير قط، ولا تصدَّى لغَني بعدُ.
﴿كلاَّ﴾ أي: لا تَعُدْ إلى مثلها. وحاصل العتاب: ترجيح الإقبال على مَن فيه القبول والأهلية للانتفاع، دون مَن ليس كذلك ممن فيه استغناء، وإن كان قصده عليه السلام صالحاً، ولكن نبَّهه اللهُ ـ تعالى ـ على طريق الأولى في سلوك الدعوة إليه، وأنّ مظنة ذلك الفُقراء؛ لتواضعهم، بخلاف الأغنياء، لتكبُّرهم وتعاظمهم. ولذلك لم يتعرض ﷺ لغَنِي بعدها، ولم يُعرض عن فقير، وكذلك ينبغي لفضلاء أمته من العلماء الدعاة إلى الله، وقد كان الفقراء في مجلس الثوري أُمراء. ثم قال تعالى: ﴿إِنها تذكرةٌ﴾ ؛ موعظة يجب أن يُتعظ بها، ويُعمل بموجبها، وهو تعليل للردع عما ذكر ببيان رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه مَن تصدّى له، ﴿فمَن شاءَ ذّكَرَه﴾ أي: فمَن شاء اللهُ أن يذكره ذكره. أي: ألهمه الله الاتعاظ به، أو: مَن شاء حفظه واتعظ به، ومَن رغب عنها، كما فعله المستغني، فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره.
238
وذكّر الضمير؛ لأنَّ التذكرة في معنى الذكر والوعظ. وقال أبو السعود: الضميران للقرآن، وتأنيث الأول لتأنيث خبره، وقيل: الأول للسورة، أو للآيات السابقة، والثاني للتذكرة؛ لأنها في معنى الذكر والوعظ، وليس بذلك؛ فإنَّ السورة والآيات وإن كانت متصفة بما سيأتي من الصفات الشريفة، لكنها ليست مما ألقي على المستغنى عنه، واستحق بسبب ذلك ما سيأتي من الدعاء عليه، والتعجب مِن كفره المفرط، لنزولها بعد الحادثة، وأمّا مَن جَوْز رجوعهما إلى العتاب المذكور، فقد أخطأ وأساء الأدب، وخبط خبطاً يقضي منه العجب، فتأمّل. هـ.
وحاصِلُ المعنى: أنَّ هذه الآيات ـ أي آيات القرآن ـ تذكرة، فمَن شاء فليتعظ بها، حاصلة ﴿في صُحُفٍ﴾ منتسخة من اللوح، ﴿مُكَرَّمةٍ﴾ عند الله عزّ وجل، ﴿مرفوعةٍ﴾ في السماء السابعة، أو: مرفوعة المقدار والمنزِلة، ﴿مُطَهَّرةٍ﴾ عن مساس أيدي الشياطين، أو: عما ليس من كلام الله تعالى أو: مِن خللٍ في اللفظ أو المعنى، ﴿بأيدي سَفَرَةٍ﴾ أي: كَتَبَة من الملائكة، يستنسخون الكتبَ من اللوح، على أنه جمع: " سافِرٍ "، من السَّفْر، وهو الكتب، وقيل: بأيدي رسل من الملائكة يَسْفِرون بالوحي، بينه تعالى وبين أنبيائه، على أنه جمع " سفير " من السِفارة، وحَمْل " السَفَرة " على الأنبياء ـ عليهم السلام ـ أو على القُراء، لأنهم يقرؤون الأسفار، أو على الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بعيد؛ لأنَّ هذه اللفظة مختصة بالملائكة، لا تكاد تُطلق على غيرهم، وقال القرطبي: " المراد بقوله تعالى في الواقعة: ﴿لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة: ٧٩] هؤلاء السَفَرة ". ﴿كِرام﴾ عند الله تعالى، أو: متعطفين على المؤمنين يكلؤونهم ويستغفرون لهم، ﴿بررةٍ﴾ ؛ أتقياء، أو: مطيعين لله تعالى، من قولهم: فلان يبر خالقه، أي: يُطيعه، أو: صادقين، من قولهم: برّ في يمينه: صدق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للداعي إلى الله أن ينبسط عند الضعفاء، ويُقبل عليهم بكليته ويواجههم بالبشاشة والفرح، سواء كانوا ضعفاء الأموال، أو ضعفاء الأبدان، كالعُميان والمحبوسين والمرضى، أو: ضعفاء اليقين، إن أقبلوا إليه، فقد كان الشيخ أبو العباس المرسي يحتفل بملاقاة أهل العصيان والجبابرة أكثر مِن غيرهم، فقيل له في ذلك، فقال: هؤلاء يأتونا فقراء منكسرين، بخلاف غيرهم من العلماء والصالحين. قلت: وكذلك رأيتُ حال أشياخنا ـ رضي الله عنهم ـ يَبرون بالجبابرة وأهل العصيان، ليجرُّوهم بذلك إلى الله تعالى، قالوا: يأتينا الرجل سَبُع فنهلس عليه فيرجع ذئباً، ثم نهلس عليه فيرجع قِطاً، ثم نجعل السلسلة في عنقه ونقوده إلى ربه. نَعَم إن تزاحم حق الفقراء وحق الجبابرة في وقت واحدٍ قدّم حقَّ الفقراء؛ لشرفهم عند الله، إلاّ إن كانوا راسخين، فيُقَدِّم عليهم غيرهم؛ لأنهم حينئذ يحبون الإيثار عليهم.
قال الورتجبي: بيَّن الله تعالى هنا ـ يعني في هذه الآية ـ درجةَ الفقر، وتعظيم أهله،
239
وخِسّة الدنيا، وتحقير أهلها، وأنَّ الفقير إذا كان بنعت الصدق والمعرفة والمحبة كان شرفاً له، وهو من أهل الصُحبة، ولا يجوز الاشتغال بصُحبة الأغنياء، ودعوتهم إلى طريق الفقراء، إذا كان سجيتهم لم تكن بسجية أهل المعرفة، فإذا كان حالهم كذلك لا يأتون إلى طريق الحق بنعت التجريد، فالصُحبة معهم ضائعة، إلا ترى كيف عاتب الله نبيَّه بهذه الآية بقوله: ﴿أمّا مَن استغنى..﴾ الآية، كيف يتزكَّى مَن خُلق على جبِلة حب الدنيا والعمى عن الآخرة والعُقبى. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿قُتِلَ الإِنسانُ﴾ أي: لُعن، والمراد: إمّا مَن استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نُعُوته الجليلة، الموجبة للإقبال عليه، والإيمان به، وإمّا الجنس باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده، وقيل: المراد: أُميّة أو: عُتبة بن ربيعة. ﴿ما أكْفَرَه﴾، ما أشد كفره! تعجبٌ من إفراطه في الكفران، وبيانٌ لاستحقاقه الدعاء عليه، وقيل: " ما " استفهامية، توبيخي، أي: أيُّ شيء حَمَلَه على الكفر؟ ! ﴿من أي شيءٍ خَلَقهُ﴾ أي: من أيِّ شيءٍ حقيرٍ خلَقَه؟ ثم بيّنه بقوله: ﴿من نطفةٍ خَلَقَه﴾ أي: مِن نطفة مذرة ابتداء خلقه، ﴿فقدَّره﴾ ؛ فهيّأه لِما يصلح له، ويليق به من الأعضاء والأشكال، أو: فقدّره أطوراً إلى أن تَم خلقه.
﴿ثم السبيلَ يَسَّرهُ﴾ أي: يَسّر له سبيل الخروج من بطن أمه، بأن فتح له فم الرحم، وألهمه أن يتنكّس ليسهل خروجه. وتعريف " السبيل " باللام للإشعار بالعموم، أو: يَسْر له سبيل الخير أو الشر، على ماسبق له، أو يَسْر له سبيل النظر السديد، المؤدِّي إلى الإيمان، وهو منصوب بفعل يُفسره ما بعده.
﴿ثم أماته فأقْبَره﴾ أي: جعله ذا قبرٍ يُوارَى فيه تكرمةً، ولم يجعله مطروداً على وجه الأرض تأكله السباع والطير، كسائر الحيوان. يُقال: قبرتَ الميت: إذا دفنته، وأقبرته: أمرت بدفنه. وعدّ الإماتة من النِعم؛ لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم، ولأنها سبب وصول الحبيب إلى حبيبه. ﴿ثم إِذا شاء أنْشَرَهُ﴾ أي: إذا شاء نَشْرَه، على القاعدة المستمرة مِن حذف مفعول المشيئة، أي: ثم ينشره في الوقت الذي شاء، وهو يوم القيامة، وفي تعلُّق الإنشار بمشيئته ـ تعالى ـ إيذان بأنّ وقته غير متعين، قال ابن عرفة: تعليق المعاد بالمشيئة جائز، جارٍ على مذهب أهل السنة؛ لأنهم يقولون: إنه جائز
240
عقلاً، واجب شرعاً، وأمّا المعتزلة فيقولون بوجوبه، بناء على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين. هـ.
﴿
كلاَّ﴾
، ردع للإنسان عما هو عليه، ثم بيَّن سبب الردع فقال: ﴿لمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ﴾ أي: لم يقضِ العبد جميع ما أمَرَه اللهُ به؛ إذ لا يخلوا العبد من تقصيرٍ ما، فإن قلت: " لَمَّا " تقتضي توقع منفيها، وهو هنا متعذر كما قلتَ؟. قلتُ: الأمر الذي أمر الله به عبادَه في الجملة: هو الوصول إلى حضرة الشهود والعيان، وهو ممكن عادة، متوقع في الجملة، وقد وصل إليه كثير من أوليائه تعالى، فمَن وصل إليه فلا تقصير في حقه، وإن كانت المعرفة غير متناهية، ومَن لم يصل إليه فهومُقصِّر، غير أنَّ عقابه هو احتجابه عن ربه. والله تعالى أعلم.
ثم أَمَرَ بالتفكُّر في نِعم الله، ليكون سبباً للشكر، الذي هو: صرف كلية العبد في طاعة مولاه، فلعله يقضي ما أَمَرَه فقال: ﴿فلينظر الإِنسانُ إِلى طعامه﴾ أي: فلينظر إلى طعامه الذي هو قِوام بدنه، وعليه يدور أمر معاشه، كيف صيَّرناه، ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الماءَ﴾ أي: الغيث ﴿صَبًّا﴾ عجيباً، فمَن قرأ بالفتح فبدل اشتمال من الطعام، وبالكسر استئناف. ﴿ثم شققنا الأرضَ﴾ بإخراج النبات، أو: بالحرث، وهو فعل الله في الحقيقة؛ إذ لا فاعل سواه، ﴿شَقًّا﴾ بديعاً لائقاً بما يشقها من النبات، صِغراً أو كِبراً، وشكلاً وهيئة، أو: شقاً بليغاً؛ إذ لا ينبت بمطلق الشق، وإذا نبت لا يتم عادة. و " ثم " للتراخي التي بين الصبّ والشق عادة، سواء قلنا بالنبات أو بالكَراب، وهو الحراثة.
﴿فأنبتنا فيها حَبًّا﴾ كالبُر والشعير وغيرهما مما يتغذّى به. قال ابن عطية: الحب: جمع حبة ـ بفتح الحاء، وهو: كل ما يتخذه الناس ويُرَبونه، والحِبة ـ بكسر الحاء: كل ما ينبت من البذور ولا يُحْفل به ولا هو بمتخَذ. هـ. ﴿وعِنباً﴾ أي: ثمرة الكَرْم، وهذا يؤيد أن المراد بالشق: حفر الأرض بالحرث أو غيره، لأنَّ العنب لا يشق الأرض في نباته، وإنما يغرس عوداً. وقال أبو السعود: وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيّد به المعطوف عليه، فلا ضرر في في خُلُو نبات العنب عن شق الأرض. هـ. ﴿وقَضْباً﴾ وهو كل ما يقضب، أي: يُقطع ليُؤكل رطباً من النبات، كالبقول والهِلْيَوْن ونحوه مما يُؤكل غضاً، وهو جملة النِعَم التي أنعم الله بها، ولا ذكر له في هذه الآية إلاّ في هذه اللفظة. قاله ابن عطية. والهِلْيَوْن ـ بكسر الهاء وسكون اللام: جمع هليونة، وهو الهِنْدَبا. قاله ابن عرفة اللغوي، وقيل: هو الفِصْفَصَة، وهو ضعيف؛ لأنها للبهائم، وهي داخلة في الأَبْ.
﴿
وزيتوناً ونخلا﴾
، الكلام فيهما كما تقدّم في العنب، ﴿وحدائقَ﴾ ؛ بساتين ﴿غُلْباً﴾ : جمع غلباء، أي: غلاظ الأشجار مع نعومتها، وصفَ به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها، ﴿وفاكهةً﴾ أي: ما تتفكهون به من فواكه الصيف والخريف، ﴿وأبًّا﴾ أي:
241
مرعَى لدوابكم، من: أبَّه: إذا أمَّه، أي قصده، لأنه يُؤم وينتجع، اي: يُقصد، أو: من أب لكذا: إذا تهيأ له؛ لأنه مُتهيأ للرعي، أو: فاكهة يابسة تُؤب للشتاء.
وعن الصِّدِّيق رضي الله عنه أنه سُئل عن الأب، فقال: أيُّ سماء تُظلني، وأيّ أرض تُقلني إذا قلتُ في كتاب الله ما لا علم لي به. وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية، فقال: كل هذا قد عرفناه، فما الأبُّ؟ ثم رفع عصاً كانت بيده، فقال: هذا لعَمْرُ الله التكلُّف، وما عليك يا ابن أمر عمر، ألاَّ تدري ما الأبُّ؟ ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم وما لا فلتَدعُوه. هـ. وهذه اللفظة من لغات البادية، فلذلك خفيت على الحواضر. ﴿متاعاً لكم ولأنعامكم﴾ أي: جعل ذلك تمتيعاً لكم ولمواشيكم، فإنّ بعض هذه المذكورات طعام لهم، وبعضها علف لدوابهم، و ﴿متاعاً﴾ : مفعول لأجله، أو: مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد، أي: متّعكم بذلك متاعاً، والالتفات لتكميل الامتنان، والله تعالى أعلم.
الإشارة: قُتل الإنسان؛ لُعن الغافل عن ذكر الله، لقوله عليه السلام: " الدنيا مَلعونَةٌ، ملعونٌ ما فيها، إلاَّ ذِكْرُ الله وما وَالاهُ، وعالماً ومُتَعلِّماً "، فلم يخرج من اللعنة إلاّ الذاكر والعالِم والمتعلم إذا أخلصا، ثم عجب تعالى من شِدة كفره لنِعمه، حيث لم يُشاهد المُنعِّم في النِعم، فيقبض منه، ويدفع إليه، ثم ذكر أول نشأته ومنتهاه، وما تقوم به بِنْيتِه فيما بينهما؛ ليحضه على الشكر. قال القشيري: ﴿من أيّ شيء خلقه..﴾ الخ، يعني: ما كان له ليكفر، لأنّا خلقناه من نطفة الوجود المطلق وهيأناه لمظهرية ذاتنا وصفاتنا، وأسمائنا. هـ.
ثم قال: ﴿ثم السبيل يَسَّره﴾ أي: سهلنا عليه سبيل الظهور لِمَظاهر الأسماء الجلالية والجمالية، ثم أماته عن أنانيته، فأقبره في قبر الفناء عن رؤية الفناء، ثم إذا شاء أنشره بالبقاء بعد الفناء. كلاَّ لِيرتدع عن كفرانه لنِعمنا، وليستغرق أحواله في شهود ذاتنا، ليكون شاكراً لأنعُمنا، لمَّا يقضِ مَآ اَمَرَه، وهو الوصول إلى حضرة العيان. فكل مَن وصل إلى حضرة الشهود بالفناء والبقاء فقد قضى ما أَمَرَه به مولاه، وكل مَن لم يصل إليها فهو مُقَصِّر، ولو أعطي عبادة الثقلين. قال القشيري: ويُقال: لم يقضِ الله له أمره به، ولو قضى له ما أمره به لَمَا عصاه. هـ. وقال الورتجبي: لم يفِ بالعهد الأول، حين خاطبه الحق بقوله: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى﴾ [الأعراف: ١٧٢] ولم يأتِ بمراد الله منه، وهو العبودية الخالصة. هـ. قلت: يعني مع انضمام شهود عظمة الربوبية الصافية.
وقوله تعالى: ﴿فلينظر الإنسانُ إلى طعامه﴾ أي: الحسي والمعنوي، وهو قوت القلوب والأرواح، أنَّا صببنا الماء صبًّا، أي: صببنا ماء العلوم والواردات على القلوب
242
الميتة فحييت. قال القشيري: صَبَبْنا ماءَ الرحمة على القلوب القاسية فَلاَنتْ للتوبة، وماء التعريف على القلوب الصافية فنبتت فيها أزهار التوحيد وأنوارُ التجريد. هـ. ثم شققنا أرض البشرية بأنواع العبادات والعبودية، شقًّا، فأنبتنا فيها: في قلبها حَبَّ المحبة، وكَرْمَ الخمرة الأزلية، وقَضْب الزهد في زهرة الدنيا وشهواتها، وزيتوناً يشتعل بزيتها مصابيح العلوم، ونخلاً يجنى منها ثمار حلاوة المعاملة، وحدائق، أي: بساتين المعارف متكاثفة التجليات، وأبًّا، أي: مرعى لأرواحكم، بالفكرة والنظرة في أنوار التجليات الجلالية والجمالية، فيأخذ النصيب من كل شيء، ويعرف الله في كل شيء، كما قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن المجذوب رضي الله عنه:
الخلقُ نَوَّارٌ، وَأَنا رَعَيْتُ فيهم
هم الحجب الأكبر والمدخل فيهم
متاعاً لكم، أي: لقلوبكم وأرواحكم، بتقوية العرفان في مقام الإحسان، ولأنعامكم أي: نفوسكم بتقوية اليقين في مقام الإيمان. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فإِذا جاءت الصَّاخةُ﴾ أي: صيحة القيامة، وهي في الأصل: الداهية العظيمة، وسُميت بذلك لأنَّ الخلائق يَصخون لها، اي: يُصيخون لها، مِن: صَخَّ لحديثه: إذا أصاخ له واستمع، وُصفت بها النفخة الثانية لأنَّ الناس يصخون لها، وقيل: هي الصيحة التي تصخ الآذان، أي: تصمها، لشدة وقعها. وجواب (إذا) : محذوف أي: كان من أمر الله ما لا يدخل تحت نطاق العبارة، يدل عليه قوله: ﴿يومَ يفرُّ المرءُ مِنْ أخيه﴾، فالظرف متعلق بذلك الجواب، وقيل: منصوب بأعني، وقيل: بدل من " إذا " أي: يهرب من أخيه لاشتغاله بنفسه، فلا يلتفت إليه ولا يسأل عنه، ﴿و﴾ يفرُّ أيضاً من ﴿أُمهِ وأبيهِ﴾ مع شدة محبتهم فيه في الدنيا، ﴿وصاحبتهِ﴾ أي: زوجته ﴿وبنيهِ﴾، بدأ بالأخ ثم بالأبوين؛ لأنهما أقرب منه، ثم بالصاحبة والبنين؛ لأنهم أحبُّ، فالآية من باب الترقي. وقيل: أول مَن يفرُّ من أخيه: هابيل، ومن أبويه: إبراهيم، ومن صاحبته: نوح ولوط، ومن ابنه: نوح. ﴿لكل امرىءٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغْنيه﴾ أي: لكل واحد من المذكورين شغل شاغل، وخطب هائل، يكفيه في الاهتمام به، ويشغله عن غيره.
ثم بيَّن أحوال المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء، بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء، فقال: ﴿وجوه يومئذٍ مُسْفِرةٌ﴾ أي: مضيئة متهللة، من: أسفر الصبح: إذا
243
أضاء، قيل: ذلك مِن قيام الليل، وقيل: مِن إشراق أنوار الإيمان في قلوبهم، ﴿ضاحكةٌ مستبشرةٌ﴾ بما تُشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة. ﴿ووجوه يومئذٍ عليها غبرةٌ﴾ أي: غبار وكدور، ﴿تَرهقها﴾ أي: تعلوها وتغشاها ﴿قَتَرَةٌ﴾ أي: سواد وظُلمة ﴿أولئك هم الكفرةُ﴾، الإشارة إلى أصحاب تلك الوجوه. وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتهم في السوء، أي: أولئك الموصوفون بسواد الوجوه وغبرتها هم الكفرة ﴿الفجرةُ﴾ أي: الجامعون بين الكفر والفجور، ولذلك جمع الله لهم بين السواد والغبرة. نسأل الله السلامة والعافية.
الإشارة: فإذا جاءت الصاخة، أي: النفحة الإلهية التي تجذب القلوب إلى الحضرة القدسية، فتأنّست القلوب بالله، وفرتْ مما سواه فترى الرجل حين تهب عليه هذه النفحة، بواسطة أو بغير واسطة، يفر من الخلق، الأقارب والأجانب، أُنساً بالله وشُغلاً بذكره، لا يزال هكذا حتى يصل إلى مولاه، ويتمكن من شهوده أيَّ تمكُّن، فحينئذ يخالط الناسَ بجسمه، ويفارقهم بقلبه، كما قالت رابعة العدوية رضي الله عنها:
إِنَّي جَعلتُكَ في الفُؤَادِ مُحَدّثي
وأَبَحْتُ جسمي مَنْ أراد جُلوسي
فَالْجِسْمُ مني لِلْجَلِيس مُؤَانِس
وحبيبُ قَلْبي في الفُؤادِ أنِيسي
قال القشيري: قالوا: الاستقامة أن تشهد الوقت قيامة، فَما مِن وَلِيًّ وعارفٍ إلاّ وهو اليومَ يَفرُّ بقلبه من الجميع؛ لأنّ لكل شأناً يُغنيه، فالعارفُ مع الخَلْق لا بقلبه، ثم ذكر شعر رابعةُ. وقال الورتجبي: أكّد الله أمر نصيحته لعباده ألاّ يعتمدوا إلى مَن سواه في الدنيا والآخرة، وأنَّ ما سواه لا ينقذه مِن قبض الله حتى يفرّ مما دون الله إلى الله. هـ. وقال في قوله تعالى: ﴿لكل امرىء منهم يومئذ شأن يُغنيه﴾ : لكل واحدٍ منهم شأن يشغله، وللعارف شأن مع الله في مشاهدته، يُغنيه عما سِوَى الله. هـ.
قوله تعالى: ﴿وجوه يومئذٍ مُسْفِرة ضاحكة مستبشِرة﴾ كل مَن أَسفر عن ليل وجوده ضياءُ نهار معرفته، فوجهه يوم القيامة مُسْفِر بنور الحبيب، ضاحك لشهوده، مستبشر بدوام إقباله ورضوانه. وقال أبو طاهر: كشف عنها سُتور الغفلة، فضحكت بالدنو من الحق، واستبشرت بمشاهدته. وقال ابن عطاء: أسفر تلك الوجوه نظرُها إلى مولاها، وأضحكها رضاه عنها. هـ. قال القشيري: ضاحكة مستبشرة بأسبابٍ مختلفة، فمنهم مَن استبشر بوصوله إلى حبيبه، ومنهم بوصوله إلى الحور، ومنهم، ومنهم، وبعضهم لأنه نظر إلى ربِّه فرأه، ووجوه عليها غبرة الفراقُ، يرهقها ذُلُّ الحجاب والبعاد. هـ.
قال الورتجبي: ﴿وجوه يومئذ مُسْفِرة﴾، وجوه العارفين مُسْفرة بطلوع إسفار صبح تجلِّي جمال الحق فيها، ضاحِكة مِن الفرح بوصولها إلى مشاهدة حبيبها، مستبشرة بخطابه
244
ووجدان رضاه، والعلم ببقائها مع بقاء الله. ثم وصف وجوه الأعداء والمدّعين فقال: ﴿ووجوه يومئذٍ عليه غبرةُ﴾ الفراقِ يوم التلاق، وعليها قَتر ذل الحجاب، وظلمة العذاب ـ نعوذ بالله من العتاب ـ قال السري: ظاهر عليها حزن البعاد؛ لأنها صارت محجوبة، عن الباب مطرودة، وقال سَهْلٌ: غلب عليها إعراض الله عنها، ومقته إياها، فهي تزداد في كل يوم ظلمة وقترة. هـ.
اللهم أسفر وجوهنا بنور ذاتك، وأضحكنا وبَشِّرنا بين أوليائك في الدنيا والآخرة، إِنك على كل شيءٍ قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.
245
سورة التكوير
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِذا الشمسُ كُوِّرتْ﴾ أي: ذُهب بضوئها، من كوَّرت العمامة: إذا لففتها، أي: يُلفّ ضوؤها لفًّا، فيذهب انبساطه وانتشاره، أو: ألقيت عن فلكها، كما وصفت النجوم بالانكدار، من: طعنَة فكوّره: إذا ألقاه على الأرض. وعن أبي صالح: كُوِّرت: نُكّست، وعن ابن عباس رضي الله عنه: تكويرها: إدخالها في العرش. ﴿وإِذا النجومُ انكَدرَتْ﴾ أي: انقضّت وتساقطت، فلا يبقى يومئذٍ نجمٌ إلاّ سقط على الأرض. قال ابن عباس رضي الله عنه: النجوم قناديل معلّقة بسلاسل من نور بين السماء والأرض، بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات مَن في السموات ومَن في الأرض قطعت من أيديهم، وقيل: انكدارها: انطماس نورها، ويُروى: أن الشمس والنجوم تُطرح في جهنم، ليراها مَن عبدها، كما قال: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨].
﴿وإِذا الجبال سُيِّرتْ﴾ عن أماكنها بالرجعة الحاصلة، فتسير عن وجه الأرض حتى تبقى قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فيها عِوجاً ولا أمتاً. ﴿وإِذا العِشَار﴾ جمع: عُشَرَاء، وهي الناقة التي مرّ على حملها عشرة أشهر، وهو اسمها إلى أن تضع لتمام سنة، وهي أنْفس ما يكون عند أهلها، وأعزّها عليهم، ﴿عُطِّلَتْ﴾ ؛ تُركت مهملة؛ لاشتغال أهلها بأنفسهم، وكانوا يحبسونها إذا بلغت هذا الحال، فتركوها أحبّ ما تكون إليهم، لشدة الهول، فيحتمل أن يكون ذلك حقيقة، تُبعث كذلك فيغيبون عنها لشدة الهول، ويحتمل: إن يكون كناية عن
246
شدة الأمر. ﴿وإِذا الوحوشُ حُشِرت﴾ أي: جُمعت من كل جانب، وقيل: بُعثت للقصاص، قال قتادة: يُحشر كلُّ شيءٍ حتى الذباب للقصاص، فإذا قضى بينها رُدّت تراباً، فلا يبقى منها إلاّ ما فيه سرور لبني آدم، كالطاووس ونحوه. ﴿وإِذا البحار سُجّرتْ﴾ أي: أُحميت، أو مُلئت وفُجر بعضها إلى بعض، حتى تصير بحراً واحداً، كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ﴾ [الأنفطار: ٣]، من سَجر التنّور: إذا ملأه بالحطب، وقيل: يُقذف بالكواكب فيها، ثم تُضرم فتصير نيراناً، فمعنى " سُجِّرتْ " حينئذ: قُذف بها في النار، وقد ورد أنّ في النار بحاراً من نار.
﴿
وإِذا النفوس زُوِّجتْ﴾
أي: قُرنت بأجسادها، أو: قرنت بشكلها، الصالح مع الصالح في الجنة، والطالح مع الطالح في النار، أو: بكتابها، أو بعملها، أو: نفوس المؤمنين بالحُور، ونفوس الكافرين بالشياطين. ﴿وإِذا الموؤدةُ﴾ أي: المدفونة حية، وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق، أو لخوف العار بهم من أجلهن، وقيل: كان الرجل إذا وُلد له بنت ألبسها جبة من صوف أو شعر، حتى إذا بلغت ست سنين ذهب بها إلى الصحراء، وقد حفر لها حفرة، فيلقيها فيها، ويهيل عليها التراب. وقيل: كانت الحامل إذا اقترتب، حفرت حفرة، فتمتخض عليها، فإذا ولدت بنتاً رمت بها، وإذا ولدت ابناً ضَمّته، فإذا كان يوم القيامة ﴿سُئِلَتْ بأيّ ذنبٍ قُتلتْ﴾، وتوجيه السؤال لها لتسليتها، وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها، وإسقاطه عن درجة الخطاب، والمبالغة في تبكيته. وفيه دليل على أنَّ أطفال المشركين لا يُعذّبون، وأنَّ التعذيب لا يكون بغير ذنب.
﴿وإِذا الصُحفُ نُشِرَتْ﴾ أي: صُحف الأعمال، فإنها تُطوى عند الموت وتُنشر عند الحساب، قال صلى الله عليه وسلم: " يُحشرُ الناس يوم القيامةِ حُفَاةً عراة " فقالت أمُ سلمة: فكيف بالنساء؟ ! فقال: " شُغِل الناسُ يا أم سلمة " فقالت: وما شغلهم؟ فقال: " نَشْرُ الصُّحُفِ، فيها مثاقيلُ الذرِّ، ومثاقيلِ الخَرْدل " وقيل: نُشرت: فُرقت على أصحابها، وعن مرثد بن وَداعة: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصُحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية، وتقع صحيفة الكافرين في يده في سموم وحميم، أي: مكتوب فيها ذلك، وهذه صحف غير الأعمال.
﴿وإِذا السماءُ كُشِطَتْ﴾، قُطعت وأزيلت، كما يُكشط الجلد عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء المستور، ﴿وإِذا الجحيمُ سُعِّرتْ﴾ أي: أوقدت إيقاداً شديداً، غضباً على العصاة، ﴿وإِذا الجنة أُزْلِفَتْ﴾ أي: قُربت من المتقين، كقوله تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ [قَ: ٣١].
عن ابن عباس رضي الله عنه: إن هذه ثِنتا عشرة خصلة، ستٌّ في الدنيا، فيما بين
247
النفختين، وهن من أول السورة إلى قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجرتْ﴾ على أنَّ المراد بحشر الوحوش: جمعها من كل ناحية، لا حشرها للقصاص، وستٌّ في الآخرة، أي: بعد النفخة الثانية. والمشهور من أخبار البعث: أنَّ تلك الخصال كلها بعد البعث، فإنَّ الشمس تدنو من الناس في الحشر، فإذا فرغ من الحساب كُوِّرت، والنجوم إنما تسقط بعد انشقاق السماء وطيها، وأمّا الجبال ففيها اختلاف حسبما تقدّم، وأمّا العِشار فلا يتصور إهمالها إلاَّ بعد بعث أهلها.
وقوله تعالى: ﴿علمتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ﴾ : جواب " إذا "، على أنَّ المراد زمان واحد ممتد، يسع ما في سياقها وسياق ما عطف عليها من الخصال، مبدؤه، النفخة الأولى، ومنتهاه: فصل القضاء بين الخلائق، أي: تيقنت كلُّ نفس ما أحضرت من أعمال الخير والشر، والمراد بحضورها: إمّا حضور صحائفها، كما يُعرب عنه نشرُها، وإمّا حضور أنفسها، على أنها تُشكّل بصورة مناسبة لها في الحُسن والقُبح، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: ٤٩، العنكبوت: ٥٤]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى... ﴾ [النساء: ١٠]، الآية، وقوله عليه السلام في حق مَن يشرب في آنية الذهب: " إنما يُجَرْجرُ في بطنه نار جهنم " ولا بُعد في ذلك، ألا ترى أنَّ العِلم يظهر في عالم الخيال على صورة اللبن، كما لا يخفى على مَن له خبرة بأحوال الحضرات الخمس، وقد رُوي عن عباس رضي الله عنه أنه قال: " يُؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة، فتوضع في الميزان "، وأيًّا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله عزّ وجل، كما نطق به قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً..﴾ [آل عمران: ٣٠] الآية؛ لأنها لمّا عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف، ومعنى علمها بها حنيئذ: أنها تُشاهد جزاءها، خيراً كان أو شرًّا.
الإشارة: اعلم أنَّ النفس والروح والسر أسماء لمسمَّى واحد، وهو اللطيفة اللاهوتية السارية في الأبدان، فما دامت تميل إلى المخالفة والهوى سُميت نفساً، فإذا تطهرت بالتقوى الكاملة سُميت روحاً فإذا تزكّت وأشرقت عليها أسرار الذات سُميت سرًّا، فالإشارة في قوله: ﴿إذا الشمس كُورت﴾ إلى تكوير النفس وطيها، حين انتقلت إلى مرتبة الروح، وإذا النجوم: نجوم علم الرسوم، انكدرت حين أشرقت عليها شمس العرفان، فلم يبقَ منها للعارف إلاّ ما يحتاج إليه من إقامة رسم العبودية، يعني يقع الاستغناء عنها، فإذا تنزل إليها حققها أكثر من غيره، إذا الجبال؛ جبال العقل، سُيرت؛ لأنّ نوره ضعيف كنور القمر مع طلوع الشمس، وإذا العِشارُ عُطلتْ، أي: النفوس الحاملة أثقال الأعمال والأحوال، وأعباء التدبير والاختيار، فيقع الغيبة عنها بأثقالها، وإذا الوحوش، أي:
248
الخواطر الردية حُشرتْ وغرقتْ في بحر الأحدية، وإذا البحارُ بحار الأحدية سُجرتْ، أي: فُجرت وانطبقت على الوجود، فصارت بحراً واحداً متصلاً أوله بآخره، وظاهره بباطنه، وإذا النفوس، أي: الأرواح، زُوجتْ بعرائس المعرفة في البقاء بعد الفناء، على سُرر التقريب والاجتباء. وقال سهل: تآلفت نفس الطبع مع نفس الروح، ففرحت في نعيم الجنة، كما كانتا متآلفتين في الدنيا على إدامة الذكر. هـ.
وإذا الموؤودة سُئِلَتْ بأيّ ذنبٍ قُتلتْ، أي: فكرة القلوب التي عطلت وأُميتت بحب الدنيا والفناء فيها، حتى انصرفت إلى التفكُّر في خوضها، وتدبير شؤونها، فتُسأل بأي ذنب قُتلت، حتى تعطّلت فكرتها في أسرار التوحيد؟ وقال القشيري: هي الأعمال المشوبة بالرياء، المخلوطة بالسمعة والهوى. هـ. وإذا الصُحف؛ الواردات الإلهية نُشرتْ على القلوب القدسية، فظهرت أنوارُها على الألسنة بالعلوم اللدنية، وعلى الجوارح بالأخلاق السنية، وإذا السماءُ كُشطتْ، إي سماء الحس تكشطت عن أسرار المعاني، وإذا الجحيم، نار القطيعة، سُعّرتْ لأهل الفرق، وإذا الجنة جنة المعارف، أُزلفت لأهل الجمع والوصال، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ من المجاهدة عند كشف أنوار المشاهدة. وبالله التوفيق.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فلا أُقسم﴾، " لا " صلة، أي: أُقسم ﴿بالخُنَّس﴾ أي: بالكواكب الرواجع، مِن: خَنَس إذا تأخر، وهي ما عدا النيرين من الدراريّ الخمسة، وهي: بهرام [المريخ]، وزحل، وعطارد، والزُّهرة، والمشتري، فترى النجم في آخر البرج إذا كرَّ راجعاً إلى أوله، ﴿الجَوَارِ﴾ أي: السيّارة ﴿الكُنَّس﴾ أي: المستترة، جمع كانس وكانسة، وذلك أنَّ هذه النجوم تجري مع الشمس والقمر، وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس، فخنوسها: رجوعها، وكنوسها: اختفاؤها تحت ضوئها، من كُنس الوحش: إذا دخل كناسه، أي: بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر، وقيل: هي جميع الكواكب، تختنس بالنهار، فتغيب عن العيون، وتكنس بالليل، أي: تطلع في أماكنها.
﴿والليلِ إِذا عسعس﴾ ؛ أقبل بظلامه، أو: أدبر، فهو من الأضداد، وقال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى عسعس: أدبر، تقول العرب: عسعس الليل وسَعْسع: إذا
249
أدبر ولم يبقَ منه إلاّ اليسير، قال الشاعر:
حَتَّى إذا الصُّبحُ لها تَنَفَّسَا
وانجابَ عنها ليلُها وعَسْعسا
والحاصل: أنهما يرجعان إلى شيء واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله وإدباره في آخره، ﴿والصبح إّذا تنفس﴾ ؛ امتدّ ضوؤه وارتفع حتى يصير نهاراً، ولمّا كان إقبال النهار يلازمه الروح والنسيم جعل ذلك نفساً له مجازاً، فقيل: تنفس الصبح.
وجواب القسم: ﴿إِنه﴾ أي: القرآن ﴿لقولُ رسولٍ كريم﴾ على ربه، وهو جبريل عليه السلام ـ قاله عن الله ـ عزّ وجل، وإنما أضيف القرآن إليه؛ لأنه هو الذي نزل به.
﴿ذي قوةٍ﴾ ؛ ذي قدرة على ما كلف به، لا يعجز عنه ولا يضعف، ﴿عند ذي العرش مكينٍ﴾ أي: عند الله ذا مكانة رفيعة ورتبة عالية، ولمّا كانت المكانة على حسب حال الممكن قال: ﴿عند ذي العرش﴾ ليدل على عظم منزلته ومكانته، والعندية: عندية تشريف وإكرام، لا عندية مكان. ﴿مطاعٍ ثَمَّ﴾ أي: في السموات يُطيعه مَن فيها، أو عند ذي العرش تُطيعه ملائكتُه المقربون، يصدون عن أمره، ويرجعون إليه، وقال بعضهم: ومن طاعتهم له: فتحوا أبواب السموات ليلة المعراج باستفتاحه لرسول الله ﷺ وفتح خزنةُ الجنة الجنةَ لمحمدٍ حتى دخلها، وكذا النار حتى نظر إليها. هـ. ﴿أمين﴾ على الوحي.
﴿
وما صاحِبُكم﴾
هو الرسول ﷺ ﴿بمجنونٍ﴾ كما تزعم الكفرة، وهو عطف على جواب القسم، مدخول في المقسَم عليه، ﴿ولقد رآه﴾ أي: رأى محمدٌ ﷺ جبريلَ على صورته التي خلقه اللهُ عليها، ﴿بالأُفق المبين﴾ أي: بمطلع الشمس الأعلى، وقال ابن عباس: قال النبي ﷺ لجبريل: " إني أُحب أن أراك في الصورة التي تكون عليها في السماء " قال: أتقدر على ذلك؟ قال: " بلى " قال: فأين تشاء؟ قال: " بالأبطح "، قال: لا يسعني، قال: " بمِنىً "، قال: لا يسعني، قال: " فبعرفات " قال: ذلك بالحري أن يسعني، فواعده، فخرج النبي ﷺ للوقت، فإذا هو قد أقبل من جبال عرفات بخشخشة وكلكلة، قد ملأ ما بين المشرق والمغرب، ورأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فلما رآه النبيُّ ﷺ خرّ مغشيًّا عليه، فتحوّل جبريلُ في صورته، فضمّه إلى صدره، وقال: لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش، ورجلاه في التخوم السابعة، وإنَّ العرش لعلى كاهله، وإنه ليتضاءل أحياناً من مخافة الله تعالى حتى يصير مثل الوصع أي: العصفورـ حتى ما يحمل عرش ربك إلاّ عظمته. هـ.
أو: ولقد رأى جبريلَ عليه السلام ليلة المعراج. أو: لقد رآى ربه، وكان محمد ﷺ بالأُفق الأعلى.
﴿وما هو على الغيبِ﴾ أي: وما محمد على الوحي، وما يخبر به من الغيوب
250
﴿بضنين﴾ ؛ ببخيل، على قراءة الضاد، من: ضنَّ بكذا: بخل به، أي: لا يبخل بالوحي كما يبخل الكهان رغبة في الحُلْوان، بل يُعلّمه لكل مَن يطلبه ولا يكتم شيئاً منه، أو: بمتهم على قراءة: المشالة، من الظنة وهي التهمة، أي: لا ينقص شيئاً مما أوحى إليه أو يزيد فيه، ﴿وماهو بقول شيطان رجيم﴾ ؛ طريد، وهو كقوله: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ﴾ [الشعراء: ٢١٠] أي: ليس هو بقول المسترقة للسمع، وهو نفي لقولهم: إنه كهانة أو سحر.
﴿فأين تذهبون﴾ وتتركون الحقَّ الواضح؟ وهو استضلال لهم، كما يقال لتارك الجادة وذهب في التيه: أين تذهب، مُثَّلت حالهم في تركهم الحقّ، وعدولهم عنه إلى الباطل، بمَن ترك طريق الجادة، وسلك في غير طريق. وقال الزجاج: معناه: فأيُّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيَّنْتُ لكم؟ وقال الجنيد: فأين تذهبون عنا، وإن من شيء إلاَّ عندنا: هـ. والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: لظهور أنه وحي مبين، وليس مما يقولون في شيء فأين تذهبون عنه؟ ﴿إِن هو إِلاّ ذِكْرٌ للعالَمين﴾ أي: موعظة وتذكير للخلق ﴿لمَن شاء منكم﴾ : بدل من العالمين بإعادة الجار، ﴿إن يستقيم﴾ : مفعول " شاء " أي: القرآن تذكير وموعظة لمَن شاء الاستقامة، يعني: إن الذي شاؤوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم، ﴿وما تشاؤون﴾ الاستقامة ﴿إِلاّ أن يشاء الله﴾.
ولمّا نزل قوله تعالى: ﴿لمَن شاء منكم أن يستقيم﴾ قال أبو جهل: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى: ﴿وما تشاؤون إِلاّ أن يشاء اللهَ ربَّ العالمين﴾ أي: مالك الخلق ومربيهم أجمعين، قال ابن منبه: قرأت بضعاً وثمانين كتاباً مما أنزل الله، فوجدتُ فيها: مَن جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر. وقال الواسطي: أعجزك في جميع أوصافك، فلا تشاء إلاّ بمشيئته، ولا تعمل إلاّ بقوته، ولا تطيع إلاّ بفضله، ولا تعصي إلاّ بخذلانه، فماذا يبقى لك، وبماذا تفتخر من أفعالك، وليس لك منها شيء؟. هـ.
وقال الطيبي عن الإمام: إنَّ مشيئة الاستقامة موقوفة على مشيئة الله؛ لأن مشيئة العبد محدثة، فلا بد لحدوثها من مشيئة أخرى، ثم قال: وقول المعتزلة: إن هذه المشيئة مخصوصة بمشيئة القهر والإلجاء ضغيف؛ لأنَّا بيَّنَّا أنّ المشيئة الاختيارية حادثة، ولا بد من محدث يحدثها. هـ.
الإشارة: فلا أُقسم بالخُنَّس؛ الحواس الخمس، وهي: السمع والبصر والشم والذوق والوجدان الباطني، فإنها تخنس، أي: تتأخر عند سطوع حلاوة الشهود، وهي الجوار الكُنَّس؛ لأنها تجري في تحصيل هواها عند الغفلة أو الفترة، وتستتر عند الذكر أو اليقظة، والليل إذا عسعس، أي: ليل القطيعة إذا أظلم على العبد برؤية وجوده ووقوفه مع
251
عوائده، والصُبح، أي: صُبح الاستشراف على نهار المعرفة، إذا تنفَّس ثم تطلع شمسه شيئاً فشيئاً، إنه، أي: الوحي الإلهامي لَقَولُ رسول كريم واراد رباني، ذي قوة؛ لأنه يأتي من حضرة قهّار قوي متين، فلا يُصادم شيئاً من المساوىء إلاّ دمغه، عند ذي العرش مكين، ولذلك تَمَكَّن صاحبه مع الحق، واكتسب مكانة عنده، حيث كان من المقرَّبين السابقين؛ مطاع ثَمَّ أمين؛ لأنّ الوارد الإلهي تجب طاعته؛ لأنه يتجلّى من حضرة الحق، وهو أمين على ما يأتي به من العلوم، وما صاحبكم بمجنون، يعني العارف صاحب الواردات الألهية، ولقد رآه، أي: رأى ربه بعين البصيرة والبصر، بالأُفق المبين، وهو على الأسرار والمعاني، حيث عرج بروحه من عالم الحس إلى عالم المعنى، أو: من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، وماه هو على الغيب بضنين، أي: ليس العارف الذي يُخبر عن أسرار التوحيد الخاص بمُتَّهَم، ولا بخيل، بل يجود به على مَن يستحقه، وما هو بقول شيطان رجيم، إذ لم يبقَ لهم شيطان حتى يخلط وسوسته بواردات قلوبهم، فأين تذهبون عن اتباع طريقة الموصلة إلى حضرة الحق، إن هو إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين، أي: ما جعله الله في كل زمان إلاّ ليُذَكِّر أهل زمانه، لمَن شاء أن يستقيم على طريق العبودية ويفضي إلى مشاهدة الربوبية، ولكن الأمر كله بيد الله، وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله رب العالمين. اللهم شِئنا بفضلك، واقصدنا بعنايتك، وخصنا برعايتك، واجعلنا ممن سبقت لهم العناية الكبرى، آمين.
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
252
سورة الانفطار
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِذا السماءُ انفطرتْ﴾ أي: انشقت لنزول الملائكة، كقوله: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً﴾ [النبأ: ١٩]، ﴿وإِذا الكواكبُ انتثرتْ﴾ أي: تساقطت متفرقة، ﴿وإِذا البحار فُجِّرتْ﴾ ؛ فُتح بعضها إلى بعض، فاختلط العذب بالأُجاج، وزال ما بينها من البرزخ والحاجز، وصارت البحار بحراً واحداً. رُوي: أنَّ الأرض تنشق، فتغور تلك البحار، وتسقط في جهنم، فتصير نيراناً، وهو معنى التسجير المتقدم عند الحسن. ﴿وإِذا القبورُ بُعْثرِتْ﴾ أي: قُلب ترابها، وأُخرج موتاها، يقال: بعثرت الحوض وبحثرته: إذا جعلت أسفله أعلاه، وجواب " إذا ": ﴿عَلِمَتْ نفسٌ مَّا قدَّمتْ وأخَّرَتْ﴾ أي: إذا كانت هذه الأشياء قرأ كلُّ إنسان كتابه، وجُوزي بعمله، لأنَّ المراد بها زمان واحد، مبدأه: النفخة الأولى، ومنتهاه: الفصل بين الخلائق ونشر الصُحف، لا أزمنة متعددة حسب تعددها، وإنما كررت لتهويل ما في حيّزها من الدواهي، ومعنى " ما قَدَّم وأخَّر ": ما سلف مِن عملٍ؛ خير أو شر، مَن سَنّ سُنة حَسَنةٌ أو سيئة يُعمل بها بعده، قاله ابن عباس وابن مسعود. وعن ابن عباس أيضاً: ما قدّم من معصية وأخّر من طاعة، وقيل: ما قدَّم من أمواله لنفسه، وما أخَّر لورثته، وقيل: ما قدَّم من فرض، وأخّر منه عن وقته، وقيل: ما قدمتْ من الأسقاط والأفراط، وأخّرت من الأولاد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا سماء المعاني انفطرت، أي: تشققت وظهرت من أصداف الأواني، وإذا نجوم على الرسوم انتثرت عند طلوع شمس العيان، وإذا بحار الأحدية فُجِّرتْ وانطبقت على الكائنات فأفنتها، وإذا القلوب الميتة بُعثت وحييت بالمعرفة، عَلِمَتْ نفسٌ مَّا
253
قدّمت من المجاهدة، وما أخَّرت منها؛ إذ بقدر المجاهدة في خرق العوائد تكون المشاهدة، وبقدر الشكر يكون الصحو، وبقدر الشُرب يكون الرّي، فعند النهاية يظهر قدر البداية، البدايات مجلاة النهايات " فمَن أشرقت بدايته، أشرقت نهايته ". وبالله التوفيق.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الإِنسانُ مَا غرّكَ بِرَبِّكَ الكريم﴾ ؛ أيّ شيءٍ خدعك وجرّأك على عصيانه، وقد علمتَ ما بين يديك من الدواهي التامة، والعواطب الطَامّة، وما سيكون حينئذ من مشاهدة ما قَدَّمتَ من أعمالِك، وما أخّرت؟ والتعرُّض لعنوان كرمه تعالى للإيذان بأنه مما لا يصلح أن يكون مداراً للاغترار، حسبما يغويه الشيطان، ويقول: افعل ما شئتَ فإنَّ ربك كريم، قد تفضّل عليك في الدنيا، وسيفعل مثله في الآخرة، فإنه قياس عقيم، وتمنية باطلة، بل هو مما يُوجب الإقبال على الإيمان والطاعة، والاجتناب عن الكفر والعصيان، كأنه قيل: ما حملك على عصيان ربك، الموصوف بالصفات الزاجرة عنه، الداعية إلى خلافه.
رُوي أنه ﷺ لمّا قرأها قال: " غرَّه جهلُه " وعن عمر رضي الله عنه: غرّه حُمقه، وقال قتادة: غرّه عدوه المسلّط عليه ـ يعني الشيطان ـ وقيل للفضيل: لو أقامك اللهُ تعالى يوم القيامة بين يديه فقال لك: ﴿مَا غرَّك بِرَبِّكَ الكريم﴾ ماذا كنتَ تقول؟ قال: أقول: ستُورك المرخاة، لأنَّ الكريم هو الستّار وأنشدوا:
يا كاتِمَ الذنْب أّمَا تَسْتَحِي
واللهُ في الخلوة رَائِيكَا
غَرَّكَ مِنْ رَبِّك إمْهَالُه
وسترُه طولَ مسَاوِيكا
وقال مقاتل: غرّه عفو الله حين لم يعجل عليه العقوبة، وقال السدي: غرّه رفق الله به، وقال يحيى بن معاذ: لو أقامني بين يديه، فقال لي: ما غرك بي؟ لقلتُ: غرّني بك بِرّك سالفاً وآنفاً، وقال آخر: أقول: غرّني حلمك، وقال أبو بكر الورّاق: لو قال لي: ما غرَّك بي؟ لقلتُ: غرّني بك كرم الكريم. وهذا السر في التعبير بالكريم، دون سائر الصفات، كأنه لقَّنه الإجابة حتى يقول: غرّني كرم الكريم، وهكذا قال أبو الفضل العابد:
254
غرّني تقييد تهديدك بالكريم، وقال منصور بن عمّار: لو قيل لي: ما غرّك؟ قلت: ما غرّني إلا ما علمتُه من فضلك على عبادك، وصفحك عنهم. هـ.
﴿
الذي خَلَقك فَسَوَّاكَ﴾
أي: جعلك مستوي الخلْقِ، سالم الأعضاء مُعَدّة لمنافعها، ﴿فعدلك﴾ ؛ فصيّرك معتدلاً متناسب الخَلق، غير متفاوت فيه، ولم يجعل إحدى اليدين أطول، ولا أحدى العينين أوسع، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضه أسود، أو: جعلك معتدلاً تمشي قائماً، لا كالبهائم. وقراءة التخفيف كالتشديد، وقيل: معنى التخفيف: صَرَفك إلى ما شاء من الهيئات والأشكال، فيكون من العدول. ﴿في أيّ صورةٍ ما شاء رَكَّبَك﴾ أي: رَكَّبك في أيّ صورة شاءها من الصور المختلفة، و " ما ": مزيدة، و (شاء) : صفة لصورة، أي: ركَّبك في أيّ صورة شاءها واختارها من الصور العجيبة الحسنة، كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيا أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: ٤] وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها؛ لأنها بيان لـ " عدلك ". ﴿كلاَّ﴾، ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى، وجعله ذريعة إلى الكفر المعاصي، مع كونه موجباً للشكر والطاعة. والإضرابَ في قوله تعالى: ﴿بل تُكذِّبون بالدين﴾ عن جملة مقدّرة ينساق إليها الكلام، كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض: وأنتم لا ترتدعون عن ذلك، بل تجترئون على أقبح من ذلك، وهو تكذيبكم بالجزاء والبعث، أو بدين الإسلام، الذي هو من جملة أحكامه، فلا تُصدقون به، ﴿وإِنَّ عليكم لَحافِظين﴾ : حال مفيدة لبطلان تكذيبهم، وتحقيق ما يُكذِّبون به، أي: تُكذِّبون بالجزاء، والحال أنَّ عليكم مِن قِبلنا لحافظين لأعمالكم، ﴿كِراماً﴾ عندنا ﴿كاتبين﴾ لها، ﴿يعلمون ما تفعلون﴾ من الخير والشر، قليلاً أو كثيراً، ويضبطونه نقيراً أو قطميراً. وفي تعظيم " الكاتبين "، بالثناء عليهم؛ تفخيم لأمر الجزاء، وأنه عند الله من جلائل الأمور، حيث يستعمل فيها هؤلاء الكِرام.
الإشارة: يا أيها الأنسان، ما غرَّك بالله حتى لم تنهض إلى حضرة قدسه؟ ! غرّه جهله ومتابعة هواه، أو قناعته من ربه، والقناعة من الله حرمان، أو غلطه، ظن أنه كامل وهو ناقص من كل وجهٍ، أو ظنّ أنه واصل، وهو ما رحل عن نفسه قدماً واحداً، ظنّ أنه في أعلى عليين باق في أسفل سافلين، وهذا الغلط هو الذي غَرّ كثيراً من الصالحين، تراموا على مراتب الرجال، وهم في مقام الأطفال، سبب ذلك عدم صُحبتهم للعارفين، ولو صَحِبوا الرجالَ لرأوا أنفسهم في أول قدم مِن الإرادة، وهذا هو الجهل المركّب، جَهلوا، وجهلوا أنهم جاهلون. ثم شوّقه إلى السير إليه بالنظر إلى صورة بشريته، فإنه عدلها في أحسن تقويم، ثم نفخ فيه روحاً قدسية سماوية من روحه القديم، ثم لمّا زجر عن الاغترار لم ينزجروا، بل تمادوا على الغرور، وفعلوا فعل المكذِّب بالبعث والحساب؛ مع أنّ عليهم من الله حفظة كِراماً، يعلمون ما يفعلون، فلم يُراقبوا الله جلّ جلاله، المُطَّلع على سرهم وعلانيتهم، ولم يحتشموا من ملائكته المُطَّلعين على
255
أفعالهم. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ الأبرارَ﴾ أي: المؤمنين ﴿لَفِي نعيم﴾ عظيم، وهو نعيم الجنان ﴿وإِنَّ الفُجَّار﴾ أي: الكفار ﴿لَفِي جحيم﴾ كذلك، وفي تنكيرهما من التفخيم والتهويل ما لا يخفى، ﴿يَصْلَونها يومَ الدِّين﴾ يُقاسون حرها يوم الجزاء، وهو استئناف بياني منبىء عن سؤال نشأ عن تهويلها، كأنه قيل: ما حالهم فيها؟ فقال: يحترقون فيها يوم الدين، الذي كانوا يُكذِّبون به، ﴿وما هم عنها بغائبين﴾ طرفة عين بعد دخولها، وقيل: معناه: وما كانوا عنها غائبين قبل ذلك، بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم، حسبما قال صلى الله عليه وسلم: " القَبْر رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الجَنَّة، أو حُفْرة مِنْ حُفَرِ النَّار ". ﴿وما أدراك ما يومُ الدين ثم ما أدراك ما يومُ الدين﴾، هو تهويل وتفخيم لشأن يوم الدين الذي يُكذِّبون به، ببيان أنه خارج عن دائرة دراية الخلق؛ فعلى أيّ صورة تصوروه، فهو فوقها، وكيفما تخيلوه فهو أهم من ذلك وأعظم، أي: أيُّ شيء جعلك دارياً ما هو يوم الدين؟ على أنَّ " ما " الاستفهامية خبر " يوم "، كما هو رأي سيبويه، لما مَرّ من أنّ مدار الإفادة هو الخبر لا المبتدأ، ولا ريب أنّ مناط إفادة التهويل والفخامة هنا هو: ما يوم الدين أيّ شيء عجيب هو في الهول والفضاعة؟ انظر أبا السعود. قال ابن عباس رضي الله عنه: كل ما في القرآن من قوله تعالى: ﴿وما أدراك﴾ فقد دراه، وكل ما فيه من قوله: ﴿وما يدريك﴾ فقد طوي عنه. هـ. وينتقض بقوله تعالى: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىا﴾ [عبس: ٣].
ثم بيَّن شأن ذلك اليوم إجمالاً، فقال: ﴿يومَ لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئاً﴾ أي: لا تستطيع دفعاً عنها، ولا نفعاً لها بوجه، وإنما تملك الشفاعة به بالإذن، و (يوم) : مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من (يوم الدين)، ومَن نصب؛ فبإضمار " اذكر "، كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وشويقه ﷺ إلى معرفته: اذكر يوم لا تملك نفس إلى آخره، فإنه يُدريك ماهو، ﴿والأمرُ يومئذ لله﴾ لا لغيره، فهو القاضي فيه وحده دون غيره، ولا شك أنَّ الأمر لله في الدارين، لكن لمّا كان في الدنيا خفياً، لا يعرفه إلاَّ العلماء بالله، وأمّا في الآخرة فيظهر المُلك لله لكل أحدٍ، خصّه به هناك. والله تعالى أعلم.
256
الإشارة: قال القشيري: إنَّ الأبرار لفي نعيم الشهود والحضور، وإنَّ الفجار لفي جحيم الحجاب والغيبة، يَصْلونها يومَ الدين، يحترقون بنار الحجاب، ونيران الاحتجاب يوم الجزاء والثواب، وما أدراك ما يومُ الدين، ثم ما أدراك ما يومُ الدين، يُشير إلى التعجُّب من كُنه أمره، وشأن شأنه، يوم لا تملك نفسٌ لنفس شيئاً، لفناء الكل، ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً. هـ. ﴿والأمر يومئذ لله﴾، قال الواسطي: الأمر اليوم ويومئذ ولم يزل ولا يزال لله، لكن الغيب بحقيقته لا يُشاهده إلاّ الأكابر من الأولياء، وهذا خطاب للعموم، إذا شاهدوا الغيب تيقّنوا أنَّ الأمر كله لله. فأما أهل المعرفة فمُشَاهَد لهم الأمر كمشاهدتهم يومئذٍ، لا تزيدهم مشاهدة الغيب عياناً على مشاهدته لهم تصديقاً، كعامر بن عبد القيس، حين يقول: لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً. هـ. وقاله أيضاً عليّ رضي الله عنه. وقال القشيري: الأمر يومئذ لله وقبله وبعده، ولكن تنقطع الدعاوى ذلك اليوم، ويتضح الأمر، وتصير المعارف ضرورية. هـ. وقال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه في رسائله الكبرى، بعد كلام: وليت شعري، أيُّ وقت كان المُلك لسواه حتى يقع التقييد بقوله: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ﴾ [الحَجّ: ٥٦] وقوله: ﴿والأمر يومئذ لله﴾ لولا الدعاوَى العريضة من القلوب المريضة. هـ. وقال الورتجبي: دعا بهذه الآية العبادَ إلى الإقبال عليه بالكلية بنعت ترك ما سواه، فإنَّ المُلك كله لله في الدنيا والآخرة، يُضل مَن يشاء، ويهدي مَن يشاء. هـ. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
257
سورة المطففين
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ويل للمطفيين﴾، الويل: شديد الشر، أو: العذاب الأليم، أو: واد في جهنم يهوي الكافر فيه أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره، وقيل: كلمة توبيخ وعذاب، وهو مبتدأ، سوّغ الابتداء به معنى الدعاء. والتطفيف: البخس في الكيل والوزن، وأصله: من الشيء الطفيف، وهو القليل الحقير، رُوي أنَّ رسول الله ﷺ قَدِمَ المدينة فوجدهم يُسيئون الكيل جدًّا، فنزلت، فأحْسَنوا الكيلَ، وقيل: قدمها وبها رجل يُعرف بأبي جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، وقيل: كان أهل المدينة تُجاراً، يطففون، وكانت بياعتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت، فخرج رسولُ الله ﷺ فقرأها عليهم، وقال صلى الله عليه وسلم: " خَمْسٌ بخمس، ما نَقَض قومٌ العهد إلاّ سلَّط الله عليهم عدوّهم، ولا حَكَموا بغير ما أنزل الله إلاَّ فَشَى فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشى فيهم الموت، ولا طَفّفوا الكيل إلاَّ مُنِعُوا النبات، وأُخذوا بالسنين، ولا
258
مَنَعُوا الزكاة إلاَّ حبس اللهُ عنهم المطر ". ثم فسّر التطفيف الذي استحقوا عليه الذم والدعاء عليهم بالويل، فقال: ﴿الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفُون﴾ أي: إذا أخذوا بالكيل من الناس بالشراء ونحوه يأخذون حقوقهم وافية تامة، ولمّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرّهم، ويتحامل فيه عليهم؛ أبدل " على " مكان " مِنْ " للدلالة على ذلك، ويجوز أن يتعلّق " على " بـ " يستوفون "، وتقدّم المفعول على الفعل لإفادة الاختصاص، أي: يستوفون على الناس خاصة، وقال الفراء: " مِنْ " و " على " يتعاقبان في هذا الموضع؛ لأنه حقّ عليه، فإذا قال: اكتلت عليه، فكأنه قال: أخذت ما عليه، وإذا قال: اكتلت منه، فكأنه قال: استوفيت منه. هـ.
﴿
وإِذا كالوهم أو وزنوهم﴾
أي: كالوا لهم أو وزنوا لهم في البيع ونحوه، فحذف الجار وأوصل الفعل، ﴿يُخْسِرون﴾ ؛ ينقصون، يقال: خَسر الميزان وأخسره: إذا نقصه. وجعلُ البارز تأكيداً للمستكن مما لا يليق بجزالة التنزيل، ولعل ذكر الكيل والوزن في صور الإخسار، والاقتصار على الاكتيال في صورة الاستيفاء لِما أنهم لم يكونوا متمكنين من الاحتيال عند الاتزان تمكُّنهم منه عند الكيل؛ لأنهم في الكيل يزعزعون ويحتالون في الملء بخلاف الوزن، ويحتمل أنّ المطففين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويوزن إلاّ بالمكاييل لتمكّنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرف، كما تقدّم، وهذا بعيد، وإذا أعطوا كالُوا ووزنوا، لتمكّنهم من البخس في النوعين.
﴿ألاَ يظنُ أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم﴾ وهو يوم القيامة، وهو استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والتعجُّب من اجترائهم عليه. وأدخل همزة الاستفهام على (ألاَ) توبيخاً، وليست " ألا " هذه للتنبيه، و " أولئك " إشارة إلى المطففين، ووضعه موضع ضميرهم؛ للإشعار بمناط الحُكم الذي هو وصفهم، فإنَّ الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه، وأمّا الضمير فلا يتعرّض لوصفه، وللإيذان بأنهم مُمازون بذلك الوصف القبيح أكمل امتياز، وما فيه من معنى البُعد للإشارة إلى بُعد درجتهم في الشرارة والفساد، أي: ألاَ يظنُّ أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع أنهم مبعوثون ليوم عظيم ولا يقادَر قدره، ويُحاسبون فيه على قدر الذرّة والخردلة، فإنَّ مَن يظن ذلك وإن كان ظنًّا ضعيفاً لا يكاد يتجاسر على تلك القبائح، فكيف بمَن يتيقنه؟ وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابياً قال له: قد سمعتَ ما قال الله في المطفّفين ـ أراد بذلك أنَّ المُطَفف قد توجّه عليه الوعيد العظيم الذي سمعتَ به ـ فما ظنّك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن؟ !. ﴿يومَ يقومُ الناسُ﴾، منصوب بـ " مبعوثون "، أي: يُبعثون يومَ يقوم الناس {لرب
259
العالمين} أي: لحكمِه وقضائه، أو لجزائه بعقابه وثوابه، وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه السورة، فلمّا بلغ هنا بكى نحيباً، وامتنع من قراءة ما بعده.
﴿كلاَّ﴾ ردع وتنبيه، أي: ارتدعوا عما كنتم عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب، وتنبّهوا أنه مما يجب أن يُنتهى به ويُتاب منه، ثم علل الردع المذكور، فقال: ﴿إِنَّ كتابَ الفُجَّار﴾ أي: صحائف أعمالهم ﴿لفي سِجّينٍ﴾، جمهور المفسرين أنَّ " سِجين " موضع تحت الأرض السابعة، كما أنَّ " علِّيين " موضع فوق السماء السابعة، وفي القاموس: عليون جمع " عِلِّيّ " في السماء السابعة، تصعد إليه أرواح المؤمنين، و " سجّين " موضع في كتاب الفجار، ووادٍ في جهنم، أو حجر في الأرض السابعة. هـ. وفي حديث أنس ﷺ قال: " سجين أسفل سبع أرضين " وقال أبو هريرة: قال صلى الله عليه وسلم: " الفلق: جُب في جهنم مغطى، وسِجين: جُب في جهنم مفتوح " والمعنى: إنّ تاب أعمال الفجار مثبت في سجين. هو علم منقول من الوصف " فعيل " من السجن؛ لأنَّ أرواح الكفرة تسجن فيه، وهو منصرف لوجود سبب واحدٍ فيه، وهو العلميّة، لأنه علم لموضع.
ثم عَظَّم أمره فقال: ﴿وما أدراك ما﴾ هو ﴿سِجّينٌ﴾ أي: هو بحيث لا يبلغه دراية أحد، وقوله تعالى: ﴿كتاب مرقوم﴾، قال الطيبي: هو على حذف مضاف، أي: موضع كتاب مرقوم. هـ. أو: فيه كتاب مرقوم، وهو بدل من " سِجّين " أو: خبر عن مضمر، بحذف ذلك المضاف، وأمّا مَن جعله تفسيراً لسجّين، بأن جعل سجيناً هو نفس الكتاب المرقوم؛ فلا يصح؛ إذ يصير المعنى حينئذ: إنَّ كتاب الفجار لفي كتاب، ولا معنى له. ﴿ويل يومئذٍ للمكَذّبين﴾ هو متصل بقوله: ﴿يوم يقوم الناسُ لرب العالمين﴾ وقيل: ويل يوم يخرج ذلك المكتوب للمكذّبين ﴿الذين يُكَذِّبون بيوم الدين﴾ ؛ الجزاء والحساب، ﴿وما يُكَذِّب به﴾ ؛ بذلك اليوم ﴿إِلاَّ كُل معتدٍ﴾ ؛ مجاوِز للحدود التي حدّتها الشريعة، أو مجاوِز عن حدود النظر والاعتبار حتى استقصر قدرة الله على إعادته، ﴿أثيمٍ﴾ ؛ مكتسب للإثم منهمك في الشهوات الفانية حتى شغلته عما وراءها من اللذة الباقية، وحملته على إنكارها، ﴿إِذا تُتلى عليه آياتُنا﴾ التنزيلية الناطقة بذلك ﴿قال﴾ : هي ﴿أساطيرُ الأولين﴾ أي: أحاديث المتقدمين وحكايات الأولين، والقائل: قيل: الوليد بن المغيرة، وقيل: النظر بن الحارث، وقيل: عام لمَن اتصف بالأوصاف المذكورة.
﴿كلاَّ﴾ ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له، ﴿بَلْ رانَ عَلَى قُلُوبِهِم ما كانوا يكسِبون﴾، هو بيان لما أدّى بهم إلى التفوُّه بهذه العظيمة، أي: ليس في آياتنا ما يصحح أن يُقال فيها هذه المقالات الباطلة، بل رانت قلوبهم وغشّاها ما كانوا
260
يكسبون من الكفر والجرائم حتى صارت عليهم كالصدأ للمرآة، فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إن العبد كلما أذنب ذنباً حصل في قلبه نكتة سوداء، حتى يسوّد قلبه.. " الحديث، أي: ولذلك قالوا ما قالوا. والرين: الصدأ، يقال: ران عليه الذنب وغان ريناً وغيناً.
﴿كلاَّ﴾ ردع وزجر عن الكسب الرائن ﴿إِنهم عَن رَّبِّهِمْ يومئذٍ لمحجوبون﴾ لَمَّا رانت قلوبهم في الدنيا حُجبوا عن الرؤية في الآخرة، بخلاف المؤمنين، لَمّا صفت مرآة قلوبهم حتى عرفوا الحق كشف لهم يوم القيامة عن وجهه الكريم. قال مالك: لَمّا حجب الله أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رأوه. هـ. وقال الشافعي: في هذه الآية دلالة على أنَّ أولياء الله يرونه. هـ. وقال الزجاج: في هذه الآية دليل أن الله يُرى يوم القيامة، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولمَا خصّصت منزلة الكفار بأنهم محجوبون عن الله. انظر الحاشية. ﴿ثم إِنهم لصالُو الجحيم﴾ أي: داخلو النار، و " ثم " لتراخي الرتبة، فإنّ صَلي الجحيم أشد من الإهانة، والحرمان من الرؤية والكرامة. ﴿ثم يُقال﴾ لهم: ﴿هذا الذي كنتم به تُكَذِّبون﴾ في الدنيا فذُوقوا وباله. وبالله التوفيق.
الإشارة: التطفيف يكون في الأعمال والأحوال، كما يكون في الأموال، فالتطفيف في الأعمال عدم إتقانها شرعاً، ولذلك قال ابن مسعود وسلمان رضي الله عنهما: الصلاة مكيال، فمَن وَفَّى وُفِّي له، ومَن طفَّف فقد علمتم ما قال الله في المطففين. هـ. فكل مَن لم يُتقن عملَه فعلاً وحضوراً فهو مطفف فيه. والتطفيف في الأحوال: عدم تصفية القصد فيها، أو بإخراجها عن منهاج الشريعة، قال تعالى: ﴿ويل للمطفيين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون... ﴾ الخ، قال القشيري: يُشير إلى المقصّرين في الطاعة والعبادة، الطالبين كمال الرأفة والرحمة، الذين يستوفون من الله مكيال أرزاقهم بالتمام، ويكيلون له مكيال الطاعة بالنقص والخسران، ذلك خسران مبين، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم المشهد، مهيب المحضر، فلذلك فسدت أعمالهم واعتقادهم. هـ. يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم يكثر فيه الهول، ويعظم فيه الخطب على المقصّرين، وتظهر فيه كرامة المجتهدين ووجاهة العارفين.
﴿كلاَّ﴾ ليرتدع المقصّر عن تقصيره؛ لئلا ينخرط في سلك الفجار، ﴿إن كتاب الفجّار لفي سجين﴾ المراد بالكتاب هنا: كتاب الأزل، وهو ما كتب لهم من الشقاوة قبل كونهم، قال صلى الله عليه وسلم: " السعيد مَن سعد في بطن أمه، والشقي مَن شقي في بطن أمه "
261
و ﴿وما أدراك ما سجين﴾ فيه ﴿كتاب مرقوم﴾ لأهل الشقاء شقاوتهم. ﴿ويل يومئذ للمُكَذِّبين﴾ بالحق وبالدالين عليه، ﴿الذين يُكَذِّبون بيوم الدين﴾ وهم أهل النفوس المقبلين على الدنيا بكليتهم، ﴿وما يُكَذِّب به إلاّ كل معتد أثيم﴾ ؛ متجاوز عن الذوق والوجدان، محروم من الكشف والعيان، ﴿إذا تُتلى عليه آياتنا﴾ الدالة علينا ﴿قال أساطيرُ الأولين﴾ أي: إذا سمع الوعظ والتذكير من الدالين على الله قال: خرافات الأولين. وسبب ذلك: الرانُ الذي ينسج على قلبه، كما قال تعالى: ﴿كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يومئذ لمحجوبون﴾ لمّا رانت قلوبهم، وتراكمت عليها الحظوظ والهوى، حُجبوا عن شهود الحق في الدنيا، ودام حجابهم في العقبى إلاَّ في أوقات قليلة، قال الحسن بن الفضل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته. هـ. قال الواسطي: الكُفار في حجابٍ لا يرونه البتة، والمؤمنون في حجاب يرونه في وقتٍ دون وقتٍ. هـ. أي: والعارفون يرونه كل وقت، ثم قال: ولا حجاب له غيره، وليس يسعه سواه، ما اتصلت بشريةٌ بربوبيته قط، ولا فارقت عنه. هـ.
وقال في الإحياء: النزوع إلى الدنيا يَحجب عن لقاء الله تعالى، وعند الحجاب تتسلط عليهم نار جهنم، إذ النار غير متسلطة إلاّ على محجوب، قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالو الجحيم﴾ فرتَّب العذاب بالنار على ألم الحجاب، وألم الحجاب كافٍ من غير عِلاوة النار، فكيف إذا أضيفت العلاوة إليه! هـ. وقد رتَّب الحجاب على الران والصدأ المانع من كشف الحقيقة، فكل من طهّر قلبه من ران الهوى، وغسله بأنوار الذكر والفكر لاحت له أنوار المشاهدة وأسرار الحضرة، حتى يشاهد الحق في الدنيا والآخرة، ويكون من المقربين أهل عليين، وكل مَن بقي مع حظوظ هواه حتى غلب على قلبه رانُ الشهوات بقي محجوباً في الدارين من عامة اليمين. وأنواع الران التي تحجب عن الشهود ست: ران الكفر، وران العصيان، وران الغفلة، وران حلاوة الطاعات، وران حس الكائنات، فإذا تصفّى من هذه كلها أفضى إلى مقام العيان، ولا طريق لرفع الران بالكلية إلاَّ بصُحبة المشايخ العارفين. وبالله التوفيق.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿كلاَّ﴾، ردع للمكذبين، ثم بيّن حال الأبرار، فقال: ﴿إنَّ كتاب الأبرارِ﴾ أي: ما كتب من أعمالهم، والأبرار: المؤمنون المطيعون، لأنه ذُكر في
262
مقابلة الفُجَّار، وعن الحسن: البرّ: الذي لا يؤذي الذرّ، ﴿لفي عليين﴾، قال الفراء: هو اسم على صيغة الجمع لا واحد له، وقيل: واحده " عِلِّيّ "، و " علِّيه " وأيًّا ما كان فهو موضع في أعلى الجنة، يسكنه المقربون. قال ابن عمر رضي الله عنه: إنّ أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كوى، فإذا أشرف رجل أشرقت له الجنة، وقالوا: قد اطلع علينا رجل من أهل عليين، وقال في البدور: " إنَّ الرجلَ مِنْ أهلِ عليين ليخرج فيسير في ملكه، فلا تبقى خيمة من خيام الجنة إلا ويدخلها ضوء من وجهه، حتى إنهم يستنشقون ريحه ويقولون: واهاً لهذه الريح الطيبة.. " الحديث.. وتقدّم قوله صلى الله عليه وسلم: " أكثر أهل الجنة البُله، وعليون لذوي الألباب " وانظره في سورة المجادلة، وفي حديث البراء: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " عليون في السماء السابعة تحت العرش " وفيه ديوان أعمال السعداء، فإذا عمل العبدُ عملاً صالحاً عرج به وأثبت في ذلك الديوان، وقد رُوي في الأثر: " أن الملائكة تصعد بصحيفةٍ فيها عمل العبد، فإن رضيه الله قال: اجعلوه في عليين وإن لم يرضه قال: اجعلوه في سجين ". ثم نوّه بقَدْره فقال: ﴿وما أدراك ما عليون كتابٌ مرقومٌ﴾ أي: موضع كتاب، أو فيه كتاب مرقوم ﴿يشهده المقربون﴾ أي: الملائكة المقربون، أو أرواح المقربين؛ لأنَّ عليين محل الكروبيين وأرواح المقربين. ﴿إِنَّ الأبرار﴾ من أهل اليمين ﴿لفي نعيمٍ﴾ عظيم، ﴿على الأرائك﴾ ؛ على الأسِرة في الحِجال، ﴿ينظرون﴾ إلى كرامة الله ونِعمه التي أولاهم، أو: إلى أعدائهم يعذّبون في النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدْراك، ﴿تعرف في وجوههم نضرةَ النعيم﴾ أي: بهجة التنعُّم وطراوته ورونقه. والخطاب لكل أحد مما له حظ من الخطاب للإيذان بأنَّ حالهم من أثر النعمة وأحكام البهجة، بحيث لا يختص برؤيته راءٍ دون راءٍ.
﴿
يُسقون من رحيقٍ﴾
؛ شراب خالص لا شوب فيه، وقيل: هو الخمر الصافية، ﴿مختومٌ﴾ ؛ مغلق عليه، ﴿ختامه مِسْكٌ﴾ أي: مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين، كما يفعل أهل الدنيا بأوانيهم إذا أرادوا حِفظها وصيانتها، ولعله تمثيل لكمال نفاسته، أو: أخره وتمامُه مسك، أي: يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك. وقُرىء " خاتِمَه " بكسر التاء وفتحها. ﴿وفي ذلك﴾ الرحيق أو ما تقدّم من نعيم الجنان ﴿فليتنافس المتنافسون﴾ ؛ فليرغب الراغبون، وليجتهد المجتهدون، أو فليسبق المستبقون، وذلك بالمبادرة إلى الخيرات، والكفّ عن السيئات. وأصل التنافس: التغالب في الشيء النفيس، وهو من النفس لعزتها، وقال البغوي: وأصله: من الشيء النفيس الذي تحرص عليه النفوس، ويريده كل أحد لنفسه، وينفَسُ به على غيره، أي: يضِنُّ به.
263
قوله تعالى: ﴿ومِزَاجُه من تسنيمٍ﴾ : عطف على (خِتامه) صفة أخرى للرحيق، وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته، أي: ما يمزَج به ذلك الرحيق هو من ماء التسنيم، والتسنيم اسم لعين بعينها في الفردوس الأعلى، سُميت بالتسنيم الذي هو مصدر من " سنّمه " إذا رفعه، لأنها أرفع شراب في الجنة، ثم فسّرها بقوله: ﴿عيناً﴾، فهو منصوب على المدح أو الاختصاص، أو على الحال مع جمودها لوصفها بقوله: ﴿يشربُ بها﴾ أي: منها ﴿المقربون﴾، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: فيشربها المقربون صِّرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين. هـ. والمقربون هم أهل الفناء في الذات، أهل الشهود والعيان، والأبرار أهل الدليل والبرهان، وهم أهل اليمين، وذلك أنَّ المقربين لَمّا أخلصوا محبتهم لله، ولم يُحبوا معه شيئاً من الدنيا خلُصَ لهم الشراب في الآخرة، وأهل اليمين، لَمّا خلطوا في محبيتهم خلّط شرابهم، فالدنيا مزرعة الآخرة، فمن صَفّا صُفيَ له، ومَن كَدّر كُدّر عليه.
فإن قلتَ: لِمَ أمر بالتنافس في الرحيق، ولم يأمر به في التسنيم، مع كونه أرفع؟ قلتُ: قال بعضهم: إشارة إلى أن شربه لا يُنال بسبب، بل بالسابقة، وقيل: إنه مُقدّم من تأخير، وإن التنافس حاصل في الجميع، أو يؤخذ بالأحْرى؛ لأنه إذا أمرَ بالتنافس في المفضول كان التنافس في الأفضل أحرى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال الورتجبي: كتاب الأبرار كتابٌ مرقوم برقم الله، رقمه بسعادتهم الأزلية، وولايتهم الأبدية، وذلك الكتاب عنده لا يطلع عليه إلاَّ المقربون المخاطبون بحديثه وكلامه، المكاشفون بالحقائق الغيبية، قال أبو عثمان المغربي: الكتاب المرقوم: هو ما يُجري اللهُ على جوارحك من الخير والشر، رقمها بذلك، وهو لا يخاف ما رقم به، وذلك الرقْم معلّق بالقضاء والقدر عن القدرة بمشيئته تعالى عليه، ولا نزوع عن ذلك ولا حيلة له فيه، فهو في ذلك معذور في الظاهر، غير معذور في الحقيقة، هذا لعوام الخلق، وأمّا للخواص والأولياء وأهل الحقائق فإنه رقْم الله على كل شيء أوجده، لم يُشْرف على ذلك الرقْم إلاَّ المقربون، فهم أهل الإشراف، فمَن شاهد ذلك الرقْم من المقربين عرف صاحبه بما رقم به من الولاية والعداوة، فيُخبر عنه، وهو الإشراف والفراسة، كما كان لعُمر حين أخبر عنه ﷺ بقوله: " كان في الأمم مُكلَّمون... " الحديث، أي: فعُمر ممن أشرف على حقائق الرقْم، وعلى معاني الكتاب المرقوم، فمَن كان بذلك الحال فهو المكلّم من جهة الحق بلا واسطة. قال الجريري: رقْمٌ رَقَم اللهُ به قلوبَ عباده بما قضى عليهم في الأزل من السعادة والشقاوة، وبذلك الرقْم خَفي في أسرار العباد، وظهر على هياكلهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له ".
264
والحاصل: أنَّ الكتاب المرقوم: هو ما سطر لكل أحد في الأزل، فإن رقم له بالسعادة جعلَ في عليين، إشارة إلى أنَّ صاحبه يلحق به، وإن رقم بالشقاوة جعل في سجين، إشارة إلى لحوق صاحبه به. وقوله تعالى: ﴿يشهده المقربون﴾ أي: يشهدونه بعلوم أفكارهم ومكاشفة أسرارهم، وقد ينطقون بذلك في حال الفيض أو الجذب، وهؤلاء هم المكلَّمون، وفي الحديث: " قد كان في الأمم مكلَّمون، وإن يكُن في أمتي فعُمر " والمقربون هم أهل الفناء والبقاء.
ثم قال تعالى: ﴿إنَّ الأبرار لفي نعيم﴾ لذة الطاعات وحلاوة المناجاة، على أرائك المقامات ينظرون ما يفعل الله بهم. وقال القشيري: ينظرون في روضات الجنان الروحية والسرية والقلبية، لكل منهم روضة مخصوصة. هـ. ولعل نظرهم علمياً لا ذوقياً، لأنَّ الذوق للمقربين، تَعْرِفُ في وجوههم نضرة النعيم، وهو ما يظهر على وجوههم من بهجة المحبة ونضرة القُربة، ولعل المراد بالأبرار هنا السائرون، ولذلك قال: ﴿يُسقَون من رحيق﴾ خمرة المحبة الأزلية، الصافية من كدر الهوى، مختوم عليه في قلوب العارفين. قال القشيري: أواني ذلك الشراب هي قلوب الأصفياء والأولياء، خِتامه مسك، وهو محبة الحق، لا يشرب من تلك الأواني المختومة إلاَّ الطالبون الصادقون في طريق السلوك إلى الله. هـ. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، فمَن فاته حظه من هذه الخمرة فهو محروم، كما قال ابن الفارض:
علَى نَفْسِه فَلْيبْك مَن ضاعَ عُمْرُه
وليسَ لَهُ مِنْها نَصيبٌ ولا سَهْمٌ
وقال القشيري: وتنافسهم فيه بالمبادرة إلى الأعمال الصالحة، وتعليق القلب بالله، والانسلاخ من الأخلاق الدنية، وجولان الهمم في الملكوت، واستدامة المناجاة. هـ. ومِزاجه من تسنيم، وهو عين بحر الوحدة الصافية، التي قال فيها القطب ابن مشيش رضي الله عنه: وأغرقني في بحر الوحدة.. الخ، ولذلك فسّرها تعالى بقوله: ﴿عيناً يشرب بها المقربون﴾ فالمقربون يشربونه صرفاً في الدنيا والآخرة، ويمزج لغيرهم، قال بعضهم: لأنه ليس مَن احتمل حمل الصفات كمن قَوِي على مشاهدة الذات، وشربها المقربون صرْفاً لحملهم الذات والصفات جميعاً. هـ. ولأنهم صفّوا محبتهم في الدنيا من شوائب الهوى، فصفّى شرابهم في دار البقاء، وفي هذا المقام ينبغي التنافس الحقيقي، كما قال الشاعر:
فروحي وريحاني إذا كنت حاضراً
وإن غبتَ فالدنيا عليّ محابسُ
إذا لم أنافس في هواك ولم أغر
عليكَ ففي مَن ليت شعري أنافس
فلا تمقتن نفسي فأنت حبيبُها
فكل امرىء يصبو إلى مَن يجانس
فتنافس الأبرار في حيازة النعيم، وتنافس المقربين في حيازة المنعِم، تنافسُ الأبرار
265
في نعيم الأشباح وتنافس المقربين في نعيم الأرواح، وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ، ذلك هو الفوز العظيم، جعلنا الله مِن أهل التنافس فيه وفي شهوده، آمنين.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ الذين أجرموا﴾ ؛ كفروا، كأبي جهل والوليد والعاص بن وائل وأضرابهم، ﴿كانوا من الذين آمنوا﴾ كعمَّار وصُهيب وخبَّاب وبِلال ﴿يضحكون﴾ استهزاء بهم، ﴿وإِذا مَرُّوا بهم يتغامزون﴾ ؛ يُشير بعضهم إلى بالعين طعناً فيهم وعيباً لهم، وقيل: جاء عليٌّ في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا وتغامزوا، وقالوا: أترون هذا الأصلع؟ فنزلت قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكون الآية على هذا مدنية، ﴿وإِذا انقلبوا إلى أهلهم﴾ أي: إذا رجع الكفار إلى منازلهم ﴿انقلبوا فاكهين﴾، متلذذين بذكرهم بالسوء، أو متعجبين، وقرأ حفص: ﴿فكهين﴾ بالقصر، أي: أشرين أو فرحين، وقال الفراء: هما سواء كطاعن وطعن.
﴿وإِذا رَأَوهم﴾ أي: رأى الكافرون المؤمنين ﴿قالوا إِنَّ هؤلاء لضالُّون﴾ أي: مخدوعون، أي: خدع محمدٌ هؤلاء فضلُّوا وتركوا اللذّات لما يرجونه في الآخرة من الكرامات، فقد تركوا العاجل بالآجل، والحقيقة بالخيال، وهذا عين الضلال، ولم يشعر هؤلاء الكفرة أنَّ ما اغترُّوا به وانهمكوا فيه هو عين الضلال، قال تعالى: ﴿وما أُرسلوا عليهم حافظين﴾ أي: وما أرسل الكفّار على المسلمين، يحفظون أعمالهم، ويرقبون أحوالهم. والجملة حال، أي: قالوا ذلك والحال أنهم ما أُرسلوا من جهة الله تعالى موكّلين بهم، مهيمنين على أعمالهم، يشهدون برُشدهم وضلالهم، بل أُمروا بإصلاح أنفسهم، فاشتغالهم بذلك أولى من تتبُّع عورات غيرهم.
﴿فاليومَ الذين آمنوا من الكفارِ يضحكون﴾، حين يرونهم مغلولين أذلاء، قد غشيتهم فنون العذاب والصغَار بعد العزة والاستكبار، وهم ﴿على الأرائك﴾ آمنون، ووجه ذلك: أنهم لمَّا كانو أعداءهم في الدنيا جعل لهم سروراً في تعذيبهم، وقال كعب: بين الجنة والنار كُوَىً، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوه الذي كان له في الدنيا نظر إليه، دليله: ﴿فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٥٥] فضحكوا منهم في الآخرة كما كانوا يضحكون منهم في الدنيا جزاءً وفاقاً. ﴿على الأرائك ينظرون﴾ حال، أي: يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال، وقيل: يُفتح إلى الكفار باب إلى
266
الجنة، فيُقال لهم: هَلمُّوا إليها، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم، يفعل ذلك بهم مراراً، ويضحك المؤمنون، ويأباه قوله تعالى: ﴿هل ثُوِّب الكفارُ ما كانوا يفعلون﴾ فإنه صريح في أنَّ ضحك المؤمنين منهم جبراً لضحكهم منهم في الدنيا، فلا بد من المجانسة والمشاكلة. والتثويب والإثابة: المجازاة، أي: ينظرون هل جُوزي الكفار بما كانوا يفعلون من السخرية بالمؤمنين أم لا؟
ويحتمل أن يكون مفعول: " ينظرون " محذوفاً، أي: ينظرون إلى أعدائهم في النار، أو إلى ما هم فيه من نعيم الجنان، ثم استأنف بقوله: ﴿هل ثُوِّب الكفارُ ما كانوا يفعلون﴾ أي: هل جُوزوا بذلك إذا فعل بهم هذا العذاب المهين، و " هل " على هذا للتقرير، قال الرضي: وتختص " هل " بحكمين دون الهمزة، وهما: كونها للتقرير في الإثبات، كقوله تعالى: ﴿هل ثوب الكفار﴾ أي: ألم يَثوبوا، وإفادتها للنفي حتى جاز أن يجيء بعدها " إلاَّ " قصداً للإيجاب، كقوله تعالى: ﴿هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ﴾ [الرحمن: ٦٠] وقول الشاعر:
وهل أنا إلاّ مِن غُزَيّةَ إن غوت
غَويتُ، وإن تُرشَدْ غزية أرشد
الإشارة: ما قاله الكفرة في ضعفاء المسلمين قاله أهل الغفلة في المنتسبين الذاكرين، حرفاً بحرف، وما أُرسلوا عليهم حافظين، فإذا تحققت الحقائق، ورُفع الذاكرون مع المقربين، وبقي أهل الغفلة مع الغافلين في أهل اليمين، يضحكون منهم كما ضحكوا منهم في الدنيا. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى الطريق، وصلّى الله عليى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
267
سورة الانشقاق
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِذا السماءُ انشقتْ﴾ أي: تشقّقت أبواباً لنزول الملائكة في الغمام، أو: انشقت وطُويت كطي السجل للكتاب، ﴿وأَذِنَتْ لربها﴾ أي: استمعت، وفي الحديث: " ما أَذِنَ اللهُ لشيءٍ إذنه لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن " أي: ما استمع، أي: انقادت وأذعنت لتأثير قدرته تعالى حين تعلّقت إرادته بانشقاقها، ولم تأبَ ولم تمتنع، ﴿وحُقَّتْ﴾ أي: وحقَّ لها أن تسمع وتطيع لأمر ربها، إذ هي مصنوعة مربوبة لله تعالى.
﴿وإِذا الأرضُ مُدَّتْ﴾ ؛ بُسطت وسُويت باندكاك جبالها وكِّل أمتٍ فيها حتى تصير كالصحفية الملساء، عن أبن عباس: تُمدّ مَدَّ الأديم العُكاظي، منسوب إلى عكاظ سوق بين نخلة والطائف، كانت تعمره الجاهلية في ذي القعدة، عشرين يوماً، تجمع فيه قبائل العرب، فيتعاكظون، أي: يتغامزون ويتناشدون، قاله في القاموس. ﴿وألقتْ ما فيها﴾ أي: رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز، كقوله تعالى: ﴿وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ [الزلزلة: ٢]. ﴿وتخلتْ﴾ منها فلم يبقَ في جوفها شيء، وذلك ما يُؤذن بعِظَم الأمر، كما تلقي الحامل ما في بطنها قبل الوضع. ﴿وأَذِنَتْ لربها﴾ أي: استمعت في إلقاء ما في بطنها، وتخليتها عنه، ﴿وحُقتْ﴾ أي: وهي حقيقة بأن تنقاد لربها ولا تمتنع، ولكن لا بُعد إن لم تكن كذلك، بل في نفسها وحَد ذَاتِها، من قولهم: هو محقوق بكذا، أو حقيق به، والمعنى: انقادت لربها وهي حقيقة بذلك مِن ذاتها، وكذلك يقال في انشقاق السماء. انظر أبا السعود. وجواب (إذا) محذوف، ليذهب المقدِّر كلَّ مذهب، أي: كان من الأمر
268
الهائل ما يقصر عنه الوصف، أو حذف اكتفاءً بما تقدّم في سورة التكوير والانفطار، أو ما دلّ عليه ﴿فملاقيه﴾ أي: إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدْحَهُ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا السماء، أي: سماء الأرواح انشقت عن ظلمة الأشباح انشقاق الفجر عن ظلمة الليل، فتغيب ظلمة الأشباح في نور عالَم الأرواح، فحينئذ تظهر حقائق الأشياء على ما كانت عليه في الحقيقة الأزلية، فينتفي الحدث ويبقى القِدم. قال الورتجبي: إذا أراد الله قلع الكون، يلقي على السموات والأرض أثقال هيبة عظمته وكبريائه، فتنشق السماء، وتمد الأرض من عكس تجلي عظمته وكبريائه، وحق لهما أن تتصدّعا، لِما عليهما من أثقال قهريات جبروته، حيث يشققهما، وهما طائعتان لربهما، وكيف لا تكون منهما طاعة، وهما في قبضة قهر جلاله أقل من خردلة، ألا ترى كيف قال صلى الله عليه وسلم: " الكونُ في يمين الرحمن أقلِّ من خَردلةٍ " وكذلك يتجلّى لسماء أرواح العارفين وأرض قلوب المحبين بنعت العظمة والكبرياء، فتنشق الأرواح وتزلزل القلوب من وقوع نور هيبته عليها، وبهذا الوصف وصف قلوب المقرّبين عند نزول خطاب الهيبة، قال الله تعالى: ﴿حَتَّىا إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ... ﴾ [سبأ: ٢٣] الآية. قال بعضهم: خطاب الأمر إذا وقع على الهياكل فهي بين مطيع وعاصٍ، وخطاب الهيبة إذا وردت تفني وتُعجز الإقرار معه كقوله: ﴿إذا السماء انشقت﴾ وَرَدَ عليها صفةُ الهيبة فانشقت وأذِنَتْ لربها وأطاعت وانقادت، وحُق لها ذلك، وهو الذي أوجدها. هـ وإذا الأرض أرض البشرية مُدت، أي: بُسطت ولانت لأحكام الربوبية بالمجاهدة والرياضة، وألقت ما فيها من الخبائث والعيوب، وتخلّت عنها، وأذنت لربها في أحكام العبودية والعبادة، وحُقَّتْ بذلك؛ لأنَّ في ذلك شرفَها وعزَّها، وجواب " إذا " محذوف، أي: كان من الأسرار والأنوار والمعارف ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تحيط به الإشارة.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿يا أيها الإِنسانُ﴾ خطاب الجنس ﴿إِنك كادِحٌ إِلى ربك كَدْحاً فمُلاقِيهِ﴾ أي: جاهدٌ جادٌّ في السير إلى ربك. فالكدح في اللغة: الجد والاجتهاد، أي: إنك في غاية الاجتهاد في السير إلى ربك، لأنَّ الزمان يطير طيراً وأنت في كل لحظة تقطع حظًّا من عمرك القصير، فإنك سائر مسرع إلى الموت، ثم تلاقي ربك. قال الطيبي عن الإمام: في الآية نكتة لطيفة، وهي: أنها تدل على انتهاء الكدح والتعب للمؤمن بانتهاء
269
هذه الحياة الدنيوية، ويحصل بعد ذلك محض سعادته وراحته الأبدية. هـ.
قلتُ: إن كان كدحه في طلب مولاه؛ حصل له بعد موته دوام الوصال، وصار إلى روح وريحان، وجنات ورضوان، وإن كان كدحه في طلب الحُور والقصور، بُشّر بدوام السرور، وربما اتصلت روحه بما كان يتمنى، وإن كان كدحه في طلب الدنيا مع إقامة الدين أفضى إلى الراحة من تعبه، وإن كان في طلب الحظوظ والشهوات مع التقصير، انتقل من تعب إلى تعبٍ، والعياذ بالله. وقال أبو بكر بن طاهر: إنك تُعامل ربك معاملة ستعرض عليك في المشهد الأعلى، فاجتهد ألاَّ تخجَل من معاملتك مع خالقك. أهـ.
ثم فصّل ما يلقى بعد اللقاء فقال: ﴿فأما مَن أُوتي كتابه بيمينه﴾ أي: كتاب عمله ﴿فسوف يُحاسب حساباً يسيراً﴾ ؛ سهلاً هيناْ، وهو الذي يُجازي على الحسنات ويتجاوز عن السيئات. وفي الحديث: " مَن يحاسَب عُذِّب " فقيل له: فأين قوله تعالى: ﴿فسوف يُحاسب حساباً يسيراً﴾ فقال: " ذلكم العرض، مَن نُوقش الحساب عُذِّب " والعرض: أن يُقال له: فعلتَ كذا وفعلتَ كذا، ثم يُقال له: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. ﴿وينقلبُ إِلى أهله﴾ أي: إلى عشيرته إن كانوا مؤمنين، أو: إلى فريق المؤمنين، أو: إلى أهله في الجنة من الآدمية أو الحور والغلمان، أو: إلى مَن سبقه من أهله أو عشيرته، إن قلنا: إنَّ الكتاب يُعطى بمجرد اللقاء في البرزخ، فإنَّ الأرواح بعد السؤال تلحق بأهلها وعشيرتها، حسبما تقدّم في الواقعة. وقوله تعالى: ﴿مسروراً﴾ أي: مبتهجاً بحاله، قائلاً: ﴿هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ﴾ [الحاقة: ١٩] أو: مسروراً بلقاء ربه ودوام وصاله.
تنبيه: الناس في الحساب على أقسام، منهم مَن لا حساب عليهم ولا عتاب، وهم العارفون المقربون، أهل الفناء في الذات، ومنهم مَن يُحاسب حساباً يسيراً، وهم الصالحون الأبرار، ومنهم مَن يُناقش ويُعذِّب ثم ينجو بالشفاعة، وهم عصاة المؤمنين ممن ينفذ فيهم الوعيد، ومنهم مَن يُناقش ويخلد في العذاب، وهم الكفرة، وإليهم أشار بقوله:
﴿وأمَّا مَن أُوتي كتابَه وراء ظهره﴾، قيل: تغلّ يُمناه إلى عنقه، وتُجعل شماله وراء ظهره. وقيل: يثقب صدره وتخرج منه إلى ظهره، فيعطى كتابه بها وراء ظهره، ﴿فسوف يَدعو ثبُوراً﴾ يقول: واثبوراه. والثبور: الهلاك، ﴿ويَصْلَى سعيراً﴾ أي: يدخلها، ﴿إِنه كان﴾ في الدنيا ﴿في أهله﴾ أي: معهم ﴿مسروراً﴾ بالكفر، يضحك على مَن آمن بالبعث. وقيل: كان لنفسه متابعاً، وفي هواه راتعاً، ﴿إِنه ظن أن لن يَحُورَ﴾ ؛ لن يرجع إلى ربه، تكذيباً بالبعث. قال ابن عباس: ما عرفتُ تفسيره حتى سمعت أعرابية تقول لبنتها: حُوري. أي: ارجعي. ﴿بلى﴾ جواب النفي، أي: يرجع لا محالة، ﴿إِنَّ ربه كان به بصيراً﴾ أي: إنَّ ربه الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء " بصيراً " بحيث لا تخفى
270
عليه منها خافية، فلا بد من رجعه وحسابه عليها حتماً.
الإشارة: يا أيها الإنسان الطالب الوصول، إنك كادح إلى ربك كدحاً بالمجاهدة والمكابدة فمُلاقيه بالمشاهدة المعاينة في مقام الفناء والبقاء، فأمّا مَن أُوتي كتابه السابق له في الأزل " بيمينه " بكونه من أهل اليمين والسعادة " فسوف يُحاسب حساباً يسيراً " فيُؤدب في الدنيا إن وقع منه سوء أدب، " وينقلب إلى أهله " إخوانه في الله " مسروراً " بوصوله إلى مولاه. قال الورتجبي: مسروراً بلقاء ربه، وما نال من قُربه ووصاله، وهذا للمتوسطين، ومَن بلغ إلى حقيقة الوصال وصار أهلاً له لا ينقلب عنه إلى غيره. هـ. وأمَّا مَن أُوتي كتابه السابق بخذلانه في الأزل، وراء ظهره، بحيث غفل عن التوجه إلى الله، واتخذه وراء ظهره، فسوف يدعو ثبوراً، فيتمنى يوم القيامة أن لم يكن شيئاً، ويصلى سعير القطيعة والبُعد إنه كان في أهله مسروراً منبسطاً في الدنيا، مواجَهاً بالجمال من أهله وعشيرته، ليس له مَن يؤذيه، وهذا من علامة الاستدراج، ولذلك لا تجد وليًّا إلاَّ وله مَن يُؤذيه، يُحركه إلى ربه، قال بعض الصوفية: قَلَّ أن تجد وليًّا إلاَّ وتحته امرأة تؤذيه. هـ. " إنه " أي: الجاهل ظن أن لن يحور إلى ربه في الدنيا ولا في الآخرة، بل يرده اللهُ ويُحاسبه على النقير والقطمير، إنه كان به بصيراً بظاهره وباطنه.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فلا أُقسم بالشفقِ﴾ وهي الحُمرة التي تُشاهد في أفق المغرب بعد الغروب، أو: البياض الذي يليها، سمي به لرقَّته، ومنه: الشفقة التي هي رقة القلب. ﴿والليلِ وما وَسَقَ﴾ ؛ وما جمع وضمَّ، يقال: وسقه فاتسق، أي: جمعه فاجتمع، أي: وما جمعه من الدواب وغيرها، أو: ما جمعه من الظلمة والكواكب، وما عمل فيه من التهجد، ﴿والقمرِ إِذا اتَّسَقَ﴾ أي: اجتمع ضوؤه وتمّ نوره ليلة أربع عشرة.
﴿لتَرْكَبُنَّ طبقاً عن طبق﴾ ؛ لتُلاقُن حالاً بعد حال، كل واحدة منها مطابقة لأختها في الشدّة والفظاعة، كأحوال شدائد الموت، ثم القبر، ثم البعث، ثم الحشر، ثم الحساب، ثم الميزان، ثم الصراط. أو: حالاً بعد حال، النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم الجنين، ثم الخروج إلى الدنيا، ثم الطفولة، ثم الكهولة، ثم الشيخوخة، ثم الهرم، ثم الموت.. وما ذكر بعده آنفاً إلى دخول الجنة أو النار. وقال بعض الحكماء: يشتمل الإنسان من كونه نطفة إلى أن يَهرم على نيف وثلاثين اسماً: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة،
271
ثم عظاماً، ثم خلقاً آخر، ثم جنيناً، ثم وليداً، ثم رضيعاً، ثم فطيماً، ثم يافعاً، ثم ناشئاً، ثم مترعرعاً، ثم مزوِّراً، ثم مراهقاً، ثم محتلماً، ثم بالغاً، ثم حَمَلاً، ثم ملتحياً، ثم مستوفياً، ثم مصعَداً، ثم مجتمعاً ـ والشباب يجمع ذلك ـ ثم مَلْهوراً، ثم كهلاً، ثم أشمط، ثم شيخاً، ثم أشيب، ثم حَوْقلاً، ثم مُقتاتاً، ثم هما، ثم هرماً، ثم ميتاً. وهذا معنى قوله: ﴿لتَرْكَبُنَّ طبقاً عن طبق﴾. هـ. من الثعلبي. أو: لتركبن سنن مَن قبلكم، حالاً بعد حال.
هذا على مَن قرأ بضم الباء، وأمّا مَن قرأ بفتحها فالخطاب إمّا للإنسان المتقدم، فيجري فيه ما تقدّم، أو: للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: لتركبَن مكابدة الكفار حالاً بعد حال، أو: لتركبَن فتح البلاد شيئاً بعد شيء، أو: لتركبَن السماوات في الإسراء، سماء بعد سماء. أو: لتركبَن أحوال أيامك، حالاً بعد حال، حال البعثه، ثم حال الدعوة، ثم حال الهجرة، ثم حال الجهاد وفتح البلاد، ثم حال الحج وتوديع العباد، ثم حال الرحيل إلى دار المقام، ثم حال الشفاعة، ثم حال المقام في دار الكرامة. فالطبق في اللغة يُطلق على الحال، كما قال الشاعر:
الصبر أجمل والدنيا مفجعةٌ
مَن ذا الذي لم يزوّر عيشه رنقا
إذا صفا لك من مسرورها طبق
أهدى لك الدهر من مكروهها طبقا
ويطلق على الجيل من الناس يكون طباق الأرض، أي: ملأها، ومنمهم قول العباس في النبي صلى الله عليه وسلم:
تَنقَّل من صَالبٍ إلى رَحمٍ
إذا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
ومحل (عن طبق) : النصب، على أنه صفة لطبق، أي: طبقاً مجاوزاً لطبق، أو: حال من الضمير في " لتركبن " أي: مجاوزين لطبق. ﴿فما لهم لا يؤمنون﴾، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، من أحوال يوم القيامة وأهوالها، أي: إذا كان الأمر يوم القيامة كما ذكر، فأيّ شيء حصل لهم حال كونهم غير مؤمنين، أي: أيّ شيء يمنعهم من الإيمان، وقد تعاضدت موجباته؟ ﴿وإِذا قُرىءَ عليهم القرآنُ لا يسجدون﴾ ولا يخضعون، وهي أيضاً جملة حالية، نسقاً على ما قبلها، أي: أيّ: مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم واستكانتهم عند قراءة القرآن؟. قيل: قرأ النبي ﷺ ذات يوم: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب﴾ [العلق: ١٩] فسجد هو ومَن معه من المؤمنين، وقريش تُصَفِّق فوق رؤوسهم وتُصفِّر، فنزلت. وبه احتجّ أبو حنيفة على وجوب السجدة وعن ابن عباس: " ليس في المفصل سجدة "، وبه قال مالك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سجد فيها، وقال: " والله ما سجدت إلاّ بعد أن رأيت النبي ﷺ سجد
272
فيها "، وعن أنس رضي الله عنه: " صليتُ خلف أبي بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ فسجدوا ". ولعلهم لم يبلغهم نسخ سجدتها.
﴿بل الذين كفروا يُكذّبون﴾ بالقرآن الناطق بما ذكر من أحوال القيامة وأهوالها، مع تحقُّق موجبات تصديقهم، ولذلك لا يخضعون عند تلاوته ﴿واللهُ أعلم بما يُوعدون﴾ ؛ بما يُضمرون في قلوبهم، ويُخفون في صدورهم من الكفر والحسد والبغي والبغضاء، أو: بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء، ويدّخرون لأنفسهم من أنواع العذاب، ﴿فبشَّرهم بعذابٍ أليمٍ﴾ ؛ أخبرهم يظهر أثره على بشرتهم، ﴿إِلاَّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحات﴾، استثناء منقطع، ﴿لهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ﴾ ؛ غير مقطوع، أو غير ممنونٍ به.
الإشارة: أقسم تعالى بنور بداية الإيمان ونهايته، وما اشتمل عليه ليل الحجاب من أنواع العُمال، فقال تعالى " فلا أُقسم بالشفق "؛ بنور بداية الإيمان، الذي هو كبياض الشفق، " والليل وما وسق "؛ وليل الحجاب، وما اشتمل عليه من العُبّاد والزُهّاد والأبرار والعلماء الأتقياء، وقمر الإيمان إذا جنح نوره، وقَوِيَ دليله " لتَركبُن " أيها السالكون، طبقاً عن طبق؛ حالاً بعد حال، حتى تنتهوا إلى شمس العيان، فأول الأحوال: حال التوبة، ثم حال اليقظة، ثم حال المجاهدة في خرق عوائد النفس، ثم حال المراقبة، ثم حال الاستشراف، على الحضرة، ثم حال المشاهدة، ثم حال المعاينة، ثم حال المكالمة، ثم حال الترقِّي إلى ما لا نهاية له. فما لهم، أي: لأهل الإنكار، لا يؤمنون بسلوك هذا الطريق، وإذا قُرىء عليهم القرآن الدالّ على هذا المنهاج لا يخضعون ولا يتدبرونه حق تدبيره، بل الذين كفروا بطريق الخصوص، يُكّبون بها. والله أعلم بما يوعون في قلوبهم من الأمراض والعيوب، أو من الإنكار، فبشِّرهم بعذاب البُعد والحجاب، إلاَّ الذين آمنوا وصدَّقُوا بطريق الخصوص، وسَلَكوها معهم، لهم آجر، وهو مقام الشهود، غير ممنون؛ غير مقطوع، بل تترادف الأنوار والأسرار والكشوفات إلى غير نهاية، أو: غير ممنون به، بل مواهب من الله بلا مِنّة. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
273
سورة البروج
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والسماءِ ذات البروج﴾ الأثني عشر، وهي الحَمَل، والثور، والجَوْزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. شُبهت بالقصور لأنها تنزلها السيارة، وتكون فيها الثوابت ومنازل القمر، أو: عُظْم الكواكب، سُميت بروجاً لظهورها، من: التبرُّج، أي الظهور، أو: أبواب السماء، فإنَّ النوازل تخرج منها، ﴿واليومِ الموعودِ﴾ أي: يوم القيامة.
﴿وشاهدٍ ومشهودٍ﴾ أي: وشاهد في ذلك اليوم ومشهود فيه، والمراد بالشاهد: مَن يشهد فيه من الخلائق كلهم، وبالمشهود فيه: ما في ذلك اليوم من عجائبه وأهواله، إذا أُريد بالشهود: الحضور، وإذا أريد الشهادة، فيُقَدّر المعمول، أي: مشهود عليه أو مشهود به. وقد اضطربت الأقوال في الشاهد والمشهود، فقيل: الشاهد: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمشهود: سائر الأمم؛ لأنه يشهدون عليهم كما تقدّم وقيل: الشاهد: عيسى
276
عليه السلام، والمشهود: أمته، لقوله: ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ [المائدة: ١١٧]، وقيل: الشاهد: جميع الأنبياء، والمشهود: أممهم، وقيل: الشاهد: الملائكة الحفظة، والمشهود: الناس، لأنهم يشهدون عليهم يوم القيامة. وقيل: الشاهد: الجوارح، والمشهود عليهم: أصحابها وقيل: الشاهد: الله والملائكة وأولو العلم، والمشهود به: الوحدانية، لقوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ﴾ [آل عمران: ١٨] الخ. وقيل: الشاهد: جميع المخلوقات، والمشهود به: وجود خالقها وإثبات صفاته من الحياة والقدرة... وغير ذلك.
وقيل: الشاهد: النجم، للحديث: " لا صلاة بعد العصر حتى يطلع الشاهد " أي: النجم والمشهود: الليل، لأن النجم يشهد بانقضاء النهار ودخول الليل. وقيل: الشاهد: الحجر الأسود، والمشهود: الناس يحجون، لأنه يشهد عليهم يوم القيامة لمَن قَبّله أو لمسه. وقيل: الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، لأنَّ يوم الجمعة يشهده بالأعمال، ويوم عرفة يشهده الناس، وهذا مروي عنه صلى الله عليه وسلم. وقيل: الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم النحر. قاله عليّ رضي الله عنه، انظر ابن جزي. وقيل: الشاهد: الأيام والليالي، والمشهود: بنو آدم، للحديث " ما من يوم إلاَّ وينادي: أنا يوم جديد، وعلى ما يُفعل به شهيد، فاغتنمني " وكذلك تقول الليلة، وأنشدوا:
مضى أمْسُك الماضي شهيداً معدّلاً
وخُلّفتَ في يوم عليك شهيدُ
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة
فَثَنهْ بإحسانٍ وأنت حميدُ
ولا تُرْج فعْل الخير يوماً إلى غدٍ
لعل غداً يأتي وأنت فقيدُ
فيومُك إن أتعبتَه نفعه غدا
عليك وماضي العَيْش ليس يعودُ
وجواب القسم إمّا محذوف يدلّ عليه: ﴿قُتل... ﴾ الخ، كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أنّ كفار قريش ملعونون كما لُعن ﴿أصحابُ الأخدود﴾ أو: هو قتل بعينه على حذف اللام، لطول الكلام، أي: لقد قُتل أصحاب الأخدود، والمراد: تثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان، وتصبيرهم على أذى الكفرة، وتذكيرهم بما جرى على مَن تقدمهم من التعذيب، وصبرهم على ذلك، حتى يأنسوا ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أنَّ هؤلاء الكفرة بمنزلة أولئك، ملعونون مثلهم. والأخدود: الخد في الأرض، أي: الشق.
275
رُوي في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: " كان لبعض الملوك ساحر، فلمّا كبر، قال للملك: قد كبرتُ فابعث إليّ غلاماً أعلّمه السحر، فضمّ إليه غلاماً ليعلّمه، وكان في طريق الغلام راهبٌ، فسمع منه وأعجبه، وكان يحتبس عنده، فيضربه الساحرُ، فقال له الراهبُ: إذاخشيت الساحرَ، فقل له: حبسني أهلي، وإذا خشيتَ أهلك، فقل: حبسني الساحرُ، فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس، وقيل: كانت أسداً، وقيل: ثُعباناً، فأخذ حجراً، وقال: اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر فاقتلها، فقتلها، وكان الغلام تعلَّم من الساحر اسم الله الأعظم، فكان الغلام يُبرىء الأكمه والأبرص، ويشفي من الأدواء، فعمي جليس الملكُ فأبراه، وأبصره الملكُ، فقال: مَن ردَّ عليك بصرك؟ فقال: ربي، فغضب، فعذّبه، فدلّ على الغلام، فعذّبه، فدلّ على الراهب، فلم يرجع عن دينه، فقدّ بالمنشار، وأبى الغلامُ، فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا، فرجف بالقوم، فطاحوا، ونجا، فذهب به إلى قُرْقُورة ـ وهي السفينة ـ فلجَجوا به ليغرقوه، فدعا، فانكفأتْ بهم السفينةُ، فغرقوا، ونجا، فقال للملك: لستَ بقاتلي حتى تجمع الناسَ في صعيد، وتصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، وتقول: بسم الله ربّ الغلام، ثم ترميني به، فرماه فوقع في صدغه، فوضع يده عليه ومات. فقال الناس: آمنا بربّ الغلام، فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر، فخدّ أخدوداً، فملأها ناراً، فمَن لم يرجع عن دينه طرحه فيها، حتى جاءت امرأة معها صبيٌّ، فتقاعست، فقال الصبيّ: يا أماه! اصبري، فإنك على الحق، فاقتحمت بصبيها. وقيل لها: قعي ولا تنافقي، ما هي إلاّ غميضة " والحديث في صحيح مسلم.
واسم الغلام: عبد الله بن الثامر، واسم الراهب: فيميون، واسم الملك: ذو نواس. وقد ذكر القصة الكلاعي بتمامها. وقيل: تعددت قضية الأخدود، فكانت واحدة بنجران باليمن، والأخرى بالشام، والأخرى بفارس، فنزل القرآن في الذي بنجران. انظر التثعلبي. قال سعيد بن المسيب: كنا عند عمر، إذ ورد عليه أنهم وجدوا ذلك الغلام حين حفروا خربة، وأُصْبعه على صُدْغِه كما قتل، فكلما مدت يده رجعت مكانها، فكتب عمر: أن واروه حيث وجدتموه. هـ.
وقوله تعالى: ﴿النارِ﴾ ؛ بدل اشتمال من " الأخدود " فحذف الضمير، اي: فيه، وقيل: قاعدة الضمير أغلبية، و ﴿ذات الوقود﴾ وصَفٌ لها بغاية العظم، وارتفاع اللهب، وكثرة ما يوجبه من الحطب وأبدان الناس، ﴿إِذ هم عليها قعودٌ﴾ ؛ ظرف لقُتل، أي: لُعنوا حين حرّقوا المؤمنين بالنار، قاعدين عليها في مكان مشرف عليها من جنبات الأخدود،
276
﴿وهم معلى ما يفعلون بالمؤمنين﴾ من الإحراق ﴿شُهودٌ﴾ يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنَّ أحداً منهم لم يُقَصِّر فيما أمر به، وفوّض إليه من التعذيب، أو:: إنهم ﴿شهود﴾ يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم القيامة، يوم تشهدُ عليهم ألسنتُهم، وقيل: " على " بمعنى " مع " أي: وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور، ولا يَرقّون لهم، لغاية قسوة قلوبهم. وهذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم، وتنطق به الروايات المشهورة.
وقد رُوي أنَّ الجبابرة لمّا ألقوا بالمؤمنين في النار، وهم قعود عليها، علقت بهم النار، فاحترقوا، ونجّا اللهُ المؤمنين سالمين، وإلى هذا القول ذهب الربيعُ بن أنس والواحدين وعلى ذلك حملا قوله تعالى: ﴿ولهم عذاب الحريق﴾.
﴿وما نَقَمُوا منهم﴾ أي: وما عابوا منهم وأنكروا عليهم، يقال: نقم ـ بالفتح والكسر: عاب، أي: عابوا منهم ﴿إِلاَّ أن يؤمنوا بالله﴾ وهذا كقول الشاعر:
ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ
بِهِنَّ فُلولٌ مِنْ قِرَاع الكتائبِ
وكقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: ٤٠] وعبّر بلفظ المضارع، ولم يقل: إلاَّ أن آمنوا، مع أنَّ القصة قد وقعت، لإفادة أنَّ التعذيب إنما كان دوامهم على الإيمان، ولو كفروا بالرجوع عن الإيمان في المستقبل لم يعذبوهم. وقوله تعالى: ﴿العزيزِ الحميدِ﴾، ذكر الأوصاف الذي يستحقّ بها أن يؤمن به، وهو كونه عزيزاً غالباً قادراً، يُخشى عقابه، حميداً منعماً، يجب له الحمد على نعمته ويرجى ثوابه، ليقرر أنَّ وصف الإيمان الذي عابوا منهم وصف عظيمٌ، له جلالة، وأنَّ مَن رام صاحبه بالانتقام والعيب كان مبطلاً مبالغاً في الغي، يستحق أن ينتقم منه بعذابٍ لا يُقادر قدره.
﴿
الذي له ملكُ السمواتِ والأرضِ﴾
فكل مَن فيها يحق عليه عبادته والخضوع له، ﴿واللهُ على كل شيءٍ شهيدٌ﴾ وعيد لهم شديد، يعني: أنه تعالى عَلِمَ بما فعلوا وسيجازيهم عليه.
﴿إِنَّ الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات﴾ أي: محقوهم في دينهم ليرجعوا عنه، والمراد بهم: إمّا أصحاب الأخدود خاصة، وبالمفتونين: المطروحين في الأخدود، وإمّا الذين بَلوْهم في ذلك بالإذاية والتعذيب على الإطلاق، وهم داخلون في جملتهم دخولاً أولياً. قال ابن عطية: الأشبه أنَّ المراد بهؤلاء قريش، حيث طانوا يُعَذَّبون مَن أسلم، ويقويه بعض التقوية: قوله تعالى: ﴿ثم لم يتوبوا﴾ لأنه رُوي: أنّ أصحاب الأخدود ماتوا على كفرهم، وأمّا قريش فكان منهم مَن تاب بعد نزول الآية. هـ. مختصراً. {فلهم عذابُ
277
جهنَّمَ} في الآخرة لكفرهم، ﴿ولهم عذابُ الحريق﴾ في الدنيا لِما تقدّم أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم، أو: عذاب الحريق: نار أخرى عظيمة تحرقهم في الآخرة، لسبب فتنتهم للمؤمنين. والجملة: خبر " إن " ودخلت الفاء لتضمين المبتدأ معنى الشرط، ولا ضَرَرَ في نسخة بـ " إنَّ " وإن خالف في ذلك الأخفش. الإشارة: والسماء ذات البروج، أي: سماء الحقائق، صاحبة المنازل التي تنزل فيها السالك في ترقِّبه إليها، مَن أرض الشرائع، كمقام التوبة، ثم الصبر، ثم الورع، والزهد، ثم التكُّل، ثم الرضا والتسليم، ثم المراقبة، ثم المشاهدة، واليوم الموعود يوم الفتح الأكبر، وهو وقت الخروج من شهود الكون إلى شهود المكوِّن، وشاهد هو الذي يشهد ذات الحق عياناً، ومشهود، هو عظمة الذات العلية وأسرارها وأنوارها. وقال الورتجبي: الشاهد هو والمشهود هو، يرى نفسه بنفسه، أي: لا يراه أحد بالحقيقة سواه، وأيضاً: الشاهد هو، إذا تجلّى بتجلِّي الجمال والحس، والمشهود قلوب العارفين شاهَدَها بنعت الكشف، وأيضاً: اشاهد هو قلوب المحبين، والمشهود لقاؤه، وهو شاهدهم وهو مشهودهم، هو شاهد العارف والعارف شاهده. هـ. قُتل أصحابُ الأخدود، وهم الصادُّون عن طريق الحق أينما كانوا وكيف كانوا، المعذِّبون لأهل التوجه، وما نقموا منهم إلاّ طلب كمال الإيمان، وتحقيق الإيقان. إنّ الذي فتنوا أهل التوجه ثم لم يتوبوا فلهم عذاب البُعد ولهم عذاب الاحتراق بالحرص والتعب والخوف والجزع.
ثم ثنى بأضدادهم، فقال:
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنّ الذين آمنوا﴾ وصبروا على الإيمان ﴿وعَمِلوا الصالحات﴾ من المفتونين وغيرهم ﴿لهم﴾ بسبب ذلك الإيمان والعمل الصالح ﴿جناتٌ تجري من تحتها الأنهارُ﴾، إن أُريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أُريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جريها الظاهرة، فإنَّ أشجارها ساترة لساحتها، كما يعرب عنه اسم الجنة. ﴿ذلك هو الفوزُ الكبير﴾ الذي تصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها، والفوز: النجاة من الشر والظفر بالخير. والإشارة إمّا إلى الجنة الموصوفة بما ذكر، والتذكير لتأويلها بما ذكر، وإمّا إلى ما يفيده قوله: ﴿لهم جنات... ﴾ الخ، من حيازتهم لها، فإنَّ حصولها لهم مستلزم لحيازتهم لها قطعاً، وما فيه
278
من البُعد للإيذان بعلو درجته، وبُعد منزلته في الفضل. ومحله: الرفع، وخبره: ما بعده.
﴿إِنَّ بطشَ ربك لشديدٌ﴾، البطش: الأخذ بعنف، فإذا وُصف بالشدة فقد تفاقم وتعاظم أمره. والمراد: أخذ الظلمة والجبابرة بالعذاب والانتقام، وهو استئناف، خواطب به النبي ﷺ إيذاناً بأنَّ لكفار قوهه نصيباً موفوراً من مضمونه، كما يُنبىء عنه التعرُّض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره صلى الله عليه وسلم. ﴿إِنه هو يُبدىء ويُعيد﴾ أي: هو يُبدىء الخلق وهو يُعيده، من غير دخلٍ لأحد في شيء منها. ففيه مزيد تقرير لشدة بطشه، فقد دلّ باقتداره على البدء والإعادة على شدة بطشه، أو: هو يُبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ويُعيده في الآخرة. ﴿وهو الغفورُ﴾ الساتر للعيوب، الغافر للذنوب، ﴿الودودُ﴾ المحب لأوليائه، أو: الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود، من إعطائهم ما أرادوا، ﴿ذو العرش﴾ أي: خالقه ومالكه، وقيل: المراد بالعرش: المُلك، أي: ذو السلطة القاهرة ﴿المجيدُ﴾ بالجر صفة للعرش، وبالرفع صفة لذُو، أي: العظيم في ذاته، فإنه واجب الوجود، تام القدرة ﴿فعَّالٌ لما يُريد﴾ بحيث لا يتخلّف عن إرادته مراد من أفعاله تعالى وأفعال عباده، ففيه دلالة على خلق أفعال العباد، وهو خبر عن محذوف.
﴿
هل أتاك حديثُ الجنود﴾
أي: قد أتاك حديث الطاغية والأمم الخالية. وهو استفهام تشويق مقرر لشدّة بشطه تعالى بالظَلَمة العصاة، والكفرة العتاة. وكونه فعال لما يُريد مع تسليته ﷺ بأنه سيصيب قومه ﷺ ما أصاب تلك الجنود. ﴿فرعونَ وثمودَ﴾ ؛ بدل من الجنود؛ لأنَّ المراد بفرعون هو وقومه. والمراد بحديثهم: ما صدر منهم من التمادي على الكفر والضلال، وما حلّ بهم من العذاب والنكال، أي: قد أتاك حديثهم، وعرفت ما فعل بهم، فذكّر قومك ببطش الله تعالى، وحذّرهم أن يُصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم.
﴿بل الذين كفروا في تكذيبٍ﴾، إضراب عن مماثلتهم، وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان، كأنه قيل: ليسوا مثلهم في ذلك، بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب العقاب، فإنهم مستقرُّون في تكذيبٍ شديد للقرآن الكريم، أو كأنه قيل: ليست جنايتهم مجرد عدم التذكُّر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم، بل هم مع ذلك في تكذيب شديدٍ للقرآن الناطق بذلك، لكن لا أنهم يكذبون بوقوع تلك الحادثات، بل لكون ما نطق به قرآناً من عند الله تعالى مع وضوح أمره، وظهور حاله، بالبينات الباهرة. ﴿واللهُ من ورائهم محيط﴾ ؛ عالم بأحوالهم، قادر عليهم، لا يفوتونه. وهو تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوات المحاط المحيط.
﴿بل هو قرآن مجيد﴾ أي: بل هذا الذي كذّبوا به قرآن شريف عالي الطبقة في الكتب السماوية، وفي نظمه وإعجازه، وهو رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم، وتحقيق للحق، أي: ليس الأمر كما قالوا، بل هو كتاب شريف ﴿في لوح محفوظ﴾ من التحريف والتبديل. وقرأ نافع بالرفع صفة للقرآن، والباقي بالجر صفة للوح، أي: محفوظ من
279
وصول الشياطين إليه. واللوح عند الحسن: شيء يلوح للملائكة يقرؤونه، وعن ابن عباس رضي الله عنه: هو من درّة بيضاء، طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، قلمه نور، وكل شيءٍ فيه مسطور. قال مقاتل: هو عن يمين العرش، وقيل: أعلاه معقود بالعرش، وأسفله في حِجْرِ ملَك كريم هـ.
الإشارة: إنَّ الذين آمنوا إيماناً حقيقيًّا شهوديًّا، وعملوا الصالحات بأيدي القلوب والأرواح والأسرار، يعني العمل الباطني، لهم جنات المعارف، تجري من تحتها أنهار العلوم والحِكم، ذلك هو الفوز الكبير والسعادة العظمى. إنَّ بطش ربك بأهل الإنكار الجاحدين لأهل الخصوصية لَشَدِيد، وهو غم الحجاب وسوء الحساب، إنه هو يُبدىء ويُعيد، يُبدىء الحجاب للمحجوبين، ويُعيد الشهود للعارفين، وهو الغفور للتائبين المتوجهين، الودود للسائرين المحبين. قال الورتجبي: الغفور للجنايات، الودود بكشف المشاهدات. هـ. ذو العرش: ذو السلطة القاهرة على العوالم العلوية والسفلية. قال الورتجبي: وصف نفسه بإيجاد العرش، ثم وصف نفسه بالشرف والتنزيه، أي: بقوله: ﴿المجيد﴾ إعلاماً بأنه كان ولا مكان، والآن ليس في المكان، إذ جلاله وجماله منزَّه عن مماسة المكان، والحاجة إلى الحدثان. هـ. قال القشيري: ويجوز أن يكون المراد بالعرش: قلب العارف المستَوي للرحمن، كما جاء الحديث: " قلب العارف عرش الله " هـ.
فعّال لما يُريد، يُقرِّب البعيد ويُبعد القريب إن شاء. قال القشيري: إنْ أراد أن يجعل أرباب الأرواح من أرباب النفوس فهو قادر على ذلك، وهو عادل في ذلك، وإن أراد عكس ذلك فهو كذلك. هـ. فلذا كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره، هل أتاك حديث الجنود، أي: جنود النفس التي تُحارب به الروح لتهوي بها إلى الحضيض الأسفل، ثم فسّرها بفرعون الهوى، وثمود حب الدنيا، والطبع الدني. بل الذين كفروا بطريق الخصوص في تكذيب، لهذا كله، فلا يُفرقون بين الروح والنفس، ولا بين الفرق والجمع، والله من ورائهم محيط، لا يفوته شيء، لإحاطة المحيط بالأشياء ذاتاً وصفاتاً وفعلاً، بل هو ـ أي: ما يوحي إلى الأسرار الصافية، والأرواح الطاهرة ـ قرآن مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظِ عن الخواطر والهواجس الظلمانية، وهو قلب العارف. والله تعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
280
سورة الطارق
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والسماءِ والطارقِ﴾، عظّم تعالى قَدْر السماءِ في أعين الخلق؛ لكونها معدن رزقهم، ومسكن ملائكته، وفيها خلق الجنّة، فأقسم بها وبالطارق، والمراد: جنس النجوم، أو جنس الشهُب التي يُرجم بها، لعِظم منفعتها، ثم عظَّمه ونوّه به، فقال: ﴿وما أدراك ما الطارقُ﴾ بعد أن فخّمه بالإقسام به، تنبيهاً على رفعة قدره بحيث لا يناله إدراك الخلق، فلا بد من تلقَّيه من الخلاّق العليم، أي: أيّ شيء أعلمك بالطارق، ثم فسّره بقوله: ﴿النجمُ الثاقبُ﴾ ؛ المضيء، فكأنّه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، ووصف بالطارق لأنه يبدو بالليل، كما يُقال للآتي ليلاً: طارق، أو: لأنه يطرق الجنِّيَّ، أي: يُصكّه. وقيل: المراد به كوكب معهود، قيل: هو الثريا، وقيل زُحل، وقيل الجدي.
ثم ذكر المقسَم عليه، فقال: ﴿إِن كُلُّ نفسٍ لمَّا عليها حافظٌ﴾، " إن " نافية، و " لَمَّا " بمعنى " إلاّ " في قراءة مَن شدّدها، وهي لغة هذيل، يقولون: " نشدتك الله لمّا قمت " أي: إلاّ قمت، أي: ما كل نفس إلاّ عليها حافظ مهيمن رقيب، وهو الله عزّ وجل، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً﴾ [الأحزاب: ٥٢] أو: مَن يحفظ عملها، ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (١٠) ﴾ [الانفطار: ١٠] أو: مَن يحفظها من الآفات، ويذب عنها، كما في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ
281
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: ١١]، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " وكِّل بالمؤمن ستون ومائة ملك، يذبون عنه ما لم يُقدّر عليه، كما يذب عن قصعة العسل الذبابَ، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين " ثم قرأ صلى الله عليه وسلم: ﴿إن كل نَفْس..﴾ الخ. و " ما ": صلة في قراءة من خفف، أي: إنه، أي: الأمر والشأن كل نفس لعليها حافظ.
﴿
فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق﴾
، لمّا ذكر أنَّ على كل نفسٍ حافظاً، أمره بالنظر في أوّل نشأته، وبالتفكُّر فيها حق التفكُّر، حتى يتضح له أنَّ مَن قَدَر على إنشائه من موادٍ لم تشم رائحة الحياة قط، فهو قادر على إعادته، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ما ينفعه يومئذٍ ويُجزى به، ولا يملي على حافظه ما يُرديه، فالفاء فصيحة تُنبىء عن هذه الجُمل، أي: إذا علم أنَّ على كل إنسان حفظة يحفظونه من الآفات، أو يكتبون أعماله، خيره وشرها، دقيقها وجليلها، وأنه لم يُخلَق عبثاً، ولم يُترك سُدى، فلينظر في أول نشأته حتى يتحقق أنَّ له صانعاً، فيعبده ولا يشرك به شيئاً، ثم فسَّر أصل نشأته فقال: ﴿خُلق من ماء دافقٍ﴾، فهو استئناف بياني، كأنه قيل: مِمَّ خُلق؟ فقال: خُلق من ماء دافق، والدفق: صبٌّ فيه دفعٌ وسرعة، والدفق في الحقيقة لصاحبه، والاستناد إلى الماء مجاز، ولم يقل: من ماءين؛ لامتزاجهما في الرحم واتحادهما. ﴿يَخرج مِن بَيْنِ الصُلب والترائب﴾ أي: صُلب الرجل وترائب المرأة، وهي عِظام صدرها، حيث تكون القلادة، وقيل: العظم والعصب من الرَجل، واللحم والدم من المرأة، وقال بعض الحكماء: إنَّ النظفة تتولد من فضل الهضم الرابع، وتنفصل عن جميع الأعضاء، حتى تستعد لأنّ يتولّد منها مثل تلك الأعضاء ومقرها عروق مُلتف بعضها على بعض عند البيضتيْن، فالدماغ أعظم معونة في توليدها، ولذلك كان الإفراط في الجماع يُورث الضعف فيه، وله خليفة هو النخاع، وهو في الصلب، وفيه شُعب كثيرة نازلة إلى الترائب، وهما أقرب إلى أوعية المَني، فلذا خُصّا بالذكر، فالمعنى على هذا: يخرج من بين صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها، وهو الأحسن، وبه صدر ابن جزي.
﴿إِنه﴾ أي: الخالق، لدلالة " خُلِق " عليه، أي: إنَّ الذي خلق الإنسانَ ابتداء من نُطفة، ﴿على رَجْعِه﴾ ؛ على إعادته بعد موته ﴿لقادرٌ﴾ بيّن القدرة. وجِيء بـ " إنّ " واللام وتنكير الخبر ليدل على رد بليغ على مَن يدّعي أنه لا حشر ولا بعث، حتى كأنه لا تتعلق القدرة بشيء إلاَّ بإعادة الأرواح إلى الأجساد، ﴿يومَ تُبلى السرائرُ﴾ أي: تكشف ويُتصفَّح ما فيها من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفي من الأعمال، ويتبين ما طاب منها وما خبث. والسرائر: القلوب، هو ظرف لـ " رَجْعِه "، أي: إنه لقادر على رده بالبعث في هذا
282
اليوم الذي تُفضح فيه السرائر، ﴿فما له مِن قوةٍ﴾ في نفسه يمتنع بها ﴿ولا ناصرٍ﴾ ينتصر به ويدفع عنه غير الله تعالى. ولمّا كان رفع المكان في الدنيا إمّا بقوة الأنسان، وإمّا بنصر غيره له، أخبر الله بنفيهما يوم القيامة.
الإشارة: أقسم تعالى بقلب العارف، لأنه سماءٌ لشمس العرفان وقمرِ الإيمان ونجوم العلم، وبما يطرقه من الواردات الإلهية والنفحات القدسية، ثم نوّه بذلك الطارق، فقال: ﴿وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب﴾ أي: هو نجم العلم الثاقب لظلمة الجهل، إمّا جهل الشرائع أو جهل الحقائق. إن كُلُّ نفس لما عليها حافظ، وهو الله، فإنه رقيب على الظواهر والبواطن، ففيه حث على تدقيق المراقبة ظاهراً وباطناً. فلينظر الإنسانُ مِمَّ خُلق في عالم الحكمة من جهة بشريته، خُلق من ماء دافق، يخرج من محل البول ويقع في محل البول، فإذا نظر إلى أصل بشريته تواضع وانكسر، وفي ذلك عِزُّه وشرفُه، مَن تواضع رفعه الله. وفيه روح سماوية قدسية، إذا اعتنى بها وزكّاها، نال عز الدارين وشرف المنزلين " مَن عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربه " فالإنسان من جهة بشريته أرضي، ومن جهة روحانيته سماوي، والحُكم للغالب منهما. إنه على رجعه: أي: رده إلى أصله، حين برز من عالم الغيب، بظهور روحه، لقادر، فيصير روحانيًّا سماويًّا، بعد أن كان بشريًّا أرضيًّا، وذلك يوم تُبلى السرائر بإظهار ما فيها من المساوىء، ليقع الدواء عليها، فتذهب، فمَن لم يَفضح نفسه لم يظفر بها، فما لها من قوةٍ على جهادها وإظهار مساوئها بين الأقران إلاّ بالله، ولا ناصر ينصره على الظفر بها إلاَّ مِن الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والسماءِ ذات الرجع﴾ أي: المطر، لأنه يرجع حيناً بعد حين، وسمَّته العرب بذلك تفاؤلاً، ﴿والأرضِ ذات الصَّدْع﴾ أي: الشق، لأنها تنصدع عن النبات والأشجار، لا بالعيون كما قيل، فإنَّ وصف السماء بالرجع، والأرض بالشق، عند الإقسام بها على حقيّة القرآن الناطق بالبعث؛ للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده، وهو السر في التعبير عنه بالرجع والصدع، لأنَّ في تشقُّق الأرض بالنبات محاكاة للنشور، حسبما ذكر في مواضع من القرآن، لا في تشققها بالعيون. ﴿إِنه﴾ أي: القرآن ﴿لَقَولٌ فَصْلٌ﴾ ؛ فاصل بين الحقّ والباطل، كما قيل له: فرقاناً، وصفَه بالمصدر، كأنه نفس الفعل، ﴿وما هو بالهزلِ﴾ أي: ليس في شيء منه شائبة هزل، بل كله جد محض، ومِن حقه ـ حيث وصفه الله بذلك ـ أن يكون مُهاباً في الصدور، معظماً في القلوب، يرتفع به قارئه وسامعه، ويهتدي به الغواة، وتخضع له رقاب العُتاة.
283
﴿إِنهم﴾ أي: أهل مكة ﴿يَكيدون﴾ في إبطال أمره، وإطفاء نوره ﴿كيداً﴾ على قدر طاقتهم ﴿وأكيدُ كيداً﴾ أي: أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده، فأسْتدرجهم إلى الهلاك من حيث لا يعلمون. فسمي جزاء الكيد كيداً، كما سمي جزاء الاعتداء والسيئة اعتداءً وسيئة، وإن لم يكن اعتداءً وسيئة، ولا يجوز إطلاق هذا الوصف على الله تعالى إلاَّ على وجه المشاكلة، كقوله: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢] إلى غير ذلك ﴿فَمَهِّل الكافرين﴾ أي: لا تدع بهلاكهم، ولا تشغل بالانتقام منهم، بل اشتغل بالله يكفِك أمرهم ﴿أمهِلهم رُويداً﴾ أي: إمهالاً يسيراً، فـ " أمهِلهم ": بدل من " مَهِّل "، وخالف بين اللفظتين لزيادة التسكين والتصبير. و " رويداً ": مصدر أرود، بالترخيم، ولا يتكلم به إلاَّ مصغراً، وله في الاستعمال وجهان آخران: كونه اسم فعل، نحو رُويد زيداً، وكونه حالاً، نحو: سار القوم رويداً، أي: متمهلين.
الإشارة: اعلم أنَّ الحقيقة سماء، والشريعة أرض، والطريقة سُلّم ومعراج يصعد إليها، فمَن لا طريقة له لا عروج له إلى سماء الحقائق، فأقْسَم تعالى بسماء الحقائق، وأرض الشرائع، على حقيّة القرآن، ووصف الحقيقة بالرجع، لأنه يقع الرجوع إليها بالفناء، ووصف أرض الشريعة بالصَدْع؛ لأنها تتصدّع عن علوم وأنوار تليق بها، ووصف القرآن بالفصل بين الحق والباطل، فمَن طلب الحق من غيره أضلّه الله. ووصفه أيضاً بالجدّ غير منسوب لشيء من الهزل، فينبغي للقارىء عند تلاوته أن يكون على حال هيبة وخشوع، لا يمزج قراءته بشيء من الهزل أو الضحك، كما يفعله جهلة القراء.
ثم أمر بالغيبة عن الأعداء، والاشتغال بالله عنهم بقوله: ﴿فَمَهِّل الكافرين أمهلهم رويداً﴾، قال بعض العارفين: لا تشتغل قط بمَن يؤذيك، واشتغل بالله يرده عنك، فإنه هو الذي حرَّكه عليك ليختبر دعواك في الصدق، وقد غلط في هذا خلق كثير، اشتغلوا بإذاية مَن آذاهم، فدام الأذى مع الإثم، ولو أنهم رجعوا إلى الله لكفاهم أمرهم. هـ.
وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
284
سورة الأعلى
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿سَبّح اسمَ ربك﴾ أي: نزّه اسمه تعالى عن الإلحاد فيه، بالتأويلات الزائغة، وعن إطلاقه على غيره بوجهٍ يوجب الاشتراك في معناه، فلا يُسمى به صنم ولا وثن ولا شيء مما سواه تعالى، قال تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً﴾ [مريم: ٦٥] فلا يُقال لغيره تعالى: رب وإله، وإذا كان أَمَر بتنزيه اللفظ فتنزيه الذات أحرى، أو: نزّه اسمه عن ذكره لا على وجه الإجلال والإعظام، أو: نزّه ذاته المقدَّسة عما لا يليق بها، فيكون " اسم " صلة. و " الأعلى " صفة لرب، وهو الأظهر. وعُلوه تعالى: قهريته واقتداره، أو: تعاليه عن سمة الحدوث وعن مدارك العقول، فلا يُحيط به وصف واصف أو علم عارف، لا علو مكان. أو صفة للاسم، وعلوه بعلو مسماه، وقيل: قل: سبحان ربي الأعلى. لمّا نزل: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤) ﴾ [الواقعة: ٧٤] قال صلى الله عليه وسلم: " اجعلوه في ركوعكم " فلما نزل: ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ قال: " اجعلوه في سجودكم " وكانوا يقولون في الركوع: لك ركعت، وفي السجود: لك سجدت، فجعلوا هذا مكانه.
﴿الذي خلق فسَوَّى﴾ أي: خلق كل شيء فسَوَّى خلقه، ولم يأتِ به متفاوتاً غير متلائم، ولكن على إحكام وإتقان، دلالةً على أنه صادر عن عالم حكيم، أو: سَوَّاه على ما يتأتى به كماله ويتيسّر به معاشه، ﴿والذي قَدَّر فهدى﴾ أي: قّدَّر الأشياء في أزله، فهدى
285
كل واحد إلى ما سبق له من شقاوة وسعادة، ورزقٍ وأجل، أو: ما قَدَّر لكل حيوان ما يُصلحه، فهداه إليه، وعرَّفه وجه الانتفاع به، فترى الولد بمجرد خروجه من بطن أمه يلتمس غذاه، وكذا سائر الحيوانات، فسبحان المدبِّر الحكيم: ﴿الذي أخرج المرعى﴾ أي: أنبت ما ترعاه الدواب غضًّا طريًّا، ﴿فجعله﴾ بعد ذلك ﴿غُثاءً﴾ يابساً هشيماً ﴿أحوى﴾ ؛ أسود، فـ " أحوى " صفة لغُثاء، وقيل: حال من المرعى، أي: أخرجه أحوى من شدة الخضرة، فمضت مدة، فجعله غثاءً يابساً. وهذه الجمل الثلاث صفة للرب. ولمّا تغايرت الصفات وتباينت أتى لكل صفة بموصول. وعطف على كل صلة ما يترتب عليها.
﴿
سنُقرئك فلا تنسى﴾
أي: سنعلمك القرآن فلا تنساه، وهو بيان لهدايته تعالى الخاصة برسوله صلى الله عليه وسلم، إثر بيان هدايته العامة لكافة مخلوقاته، وهي هدايته ﷺ لتلقي الوحي، وحفظ القرآن الذي هو أهدى للعالمين، مع ضمانه له. والسين إمّا للتأكيد، وإمّا لأنَّ المراد إقراء ما أوحي إليه حنيئذٍ وما سيوحى إليه، فهو وعد كريم باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء، أي: سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل عليه السلام، أو: سنجعلك قارئاً فلا تنسى أصلاً، من قوة الحفظ والإتقان مع أنك أُمِّي لا تدري ما الكتاب وما القراءة، ليكون ذلك آية أخرى لك، مع ما في تضاعيف ما تقرأ من الآيات البينات من حيث الإعجاز، ومن حيث الإخبار بالمغيبات. وقوله تعالى: ﴿إلاَّ ماشاء اللهُ﴾ : استثناء مفرغ من أعم المفاعيل، أي: فلا تنسى شيئاً من الأشياء إلاَّ ما شاء الله أن تنساه؛ بأن ننسخ تلاوته، وهذا إشارة من الله لنبيه أن يحفظ عليه الوحي، فلا يتفلت منه شيءٌ، إلاَّ ما شاء الله نسخه، فيذهب به عن حفظه، ويرفع حُكمه وتلاوته. قال الكواشي: إلاَّ ما شاء اللهُ أن ننسيكه على سبيل النسخ، أو تنساه ثم تذكره بعد. رُوي أنه ﷺ أسقط آية في الصلاة، فظنّ أُبي أنها نُسخت، فسأله، فقال: " نسيتها "، قال الشيخ السنوسي: والمحققون على منع النسيان لشيءٍ من الأقوال البلاغية قبل التبليغ، لإجماع السلف، وأما بعد التبليغ، فجائز؛ لأنه من الأعراض البشرية. هـ. وفي الحديث: " إنما أنا بشَرٌ، أنسى كما تَنْسَوْن، فإذا نسيتُ فذكِّروني " الحديث. فالسهو في حق الأنبياء جائز، لأنه من قهرية الربوبية، لتتميز به العبودية من الربوبية، فليس بنقصٍ في حقهم، بل كما، ليحصل التشريع والاقتداء. وقيل: " لا " ناهية، وإثبات الألف للفاصلة، كقوله: ﴿السَّبِيلاْ﴾ [الأحزاب: ٦٧] أي: لا تغفل عن قراءته وتكراره فتنساه، إلاَّ ما شاء الله أن ينسيك
برفع تلاوته، وهو ضعيف.
﴿إِنه يعلم الجهرَ وما يخفى﴾ أي: يعلم ما ظهر وما بطن، التي من جملتها ما أوحى
286
إليك، فينسى ما شاء اللهُ إنساءه، ويبقى محفوظاً ما شاء إبقاءه، أو: يعلم جهرك بالقراءة مع قراءة جبريل مخافة التفلُّت، وما في نفسك مما يدعوك إلى الجهر، أو: ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان، وما تجهر به، أو: يعلم ما أعلنتم وما أسررتم من أقوالكم وأفعالكم، وما ظهر وما بطن من أحوالكم. قال الورتجبي: السر والعلانية عنده تعالى سواء، إذا هو يبصرهما ببصره القديم، ويعلمهما بالعلم القديم، وليس في القِدم نقص، بحيث يتفاوت عنده الظاهر والباطن؛ إذ هناك الظاهر هو الباطن، والباطن هو الظاهر؛ لأنَّ الظاهر ظهر من ظاهريته، والباطن من باطنيته. هـ.
﴿
ونُيسّرك لليُسرى﴾
، معطوف على " سنقرئك " وما بينهما اعتراض، أي: ونوفّقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل، وهي الشريعة السمحة التي هي أسهل الشرائع، أو: نوفّقك توفيقاً مستمراً للطريقة اليسرى في كل بابٍ من أبواب الدين، علماً وتعليماً، هداية واهتداءً، فيندرج فيه تلقي الوحي والإطاحة بما فيه من الأحكام التشريعية السمحة، والنواميس الإلهية، مما يتعلق بتكميل نفس ﷺ وتكميل غيره، كما يفصح عنه قوله: ﴿فذَكِّر..﴾ الخ. وتخصيص التيسير به عليه السلام، مع أنه يسري إلى غيره، للإيذان بقوة تمكنه ﷺ من اليسرى والتصرُّف فيها، بحيث صار ذلك ملكة راسخة له، كأنه عليه السلام جُبل عليها. قاله أبو السعود.
الإشارة: نزِّه ربك أن ترى معه غيره، وقدِّسه عن الحلول والاتحاد، قال القشيري: أي: سبِّح ربك بمعرفة أسمائه، واسبَح بسرّك في بحر عطائه، واستخرج من بواهر علوه وسناه ما ترفع به عند مدحه من ثنائه. هـ. قال الورتجبي: أي: نزِّه اسمه عن أن يكون له سميًّا، من العرش إلى الثرى، حتى يكون بقدس اسمه مقدساً عن رؤية الأغيار، ويصل بقدس اسمه إلى رؤية قدس الصفات، ثم إلى رؤية قدس الذات. هـ. (الأعلى) فوق كل شيء، والقريب دون كل شيء، فهو عليٌّ في قربه، قريب في علوه، ليس فوقه شيء، وليس دونه شيء، الذي خلق؛ أظهر الأشياءَ فسوَّى صورتها، وأتقن خلقها. والذي قدّر المراتب، فهدى إلى أسباب الوصول إليها، والذي أخرج المرعى، أي: ما ترعى في بهجته وحسن طلعته الأرواح من مظاهر الذات، وأنوار الصفات، فجعله غثاءً أحوى، فتلوّن من طلعة الجمال إلى قهرية الجلال. قال القشيري: أخرج المرعى: أي: المراتع الروحانية لأرباب الأرواح والأسرار والقلوب، لِيَرْعَوا فيها أعشاب المواهب الإلهية والعطايا اللاهوتية، وأخرج المراتع الجسمانية لأصحاب النفوس الأمَّارة والهوى المتبع، ليرتعوا فيها من كلأ اللذات الحيوانية الشهوانية. هـ. سنقرك: سنلهمك من العلوم والأسرار ما تعجز عنه العقول، فلا تنسى، إلاّ ما شاء اللهُ أن تنساه، إنه يعلم الجهر، أي: ما يصلح أن تجهر به من تلك العلوم، وما يخفى وما يجب إخفاءه عن غير أهله. ونُيسرك للطريقة اليُسرى، التي تُوصل إلى الحضرة الكبرى. قال القشيري: أي: طريق السلوك إلى
287
الله وهي الجذبة الرحمانية التي توازي عمل الثقلين. هـ. فحينئذ تصلح للدعاء إلى الله والتذكير به.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فَذَكِّرْ﴾ الناسَ حسبما سَيّرناك له بما يُوحى إليك من الحق الهادي إلى الحق، واهدهم إلى ما فيه سعادتهم الأبدية، كما كنت تفعل، أي: دُم على تذكيرك. وتقييد التذكير لِمَا أنَّ رسول الله ﷺ طالما كان يُذَكرِّهم ويستفرغ جهده في وعظهم، حرصاً على إيمانهم، فما كان يزيد ذلك لبعضهم إلاَّ نفوراً، فأمر عليه السلام أن يخص الذكر بمظان النفع في الجملة، بأن يكون مَن يُذَكِّره ممن يُرجَى منه التذكُّر، ولا يتعب نفسه في تذكير مَن لا ينفعه ولا يزيده إلاّ عتوًّا ونفوراً، ممن طَبع اللهُ على قلبه، فهو كقوله: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [قَ: ٤٥] وقوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىا عَن ذِكْرِنَا﴾ [النجم: ٢٩] وقيل المعنى: ذَكّر إن نفعت وإن لم تنفع، فحذف المقابل، كقوله: ﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل: ٨١]، واستبعده ابن جُزي؛ لأنَّ المقصود من الشرط استبعاد إسلامهم، كقوله: عظ زيد إن سمع منك، تريد: إن سماعه بعيد، ونسب هذا ابن عطية لبعض الحُذَّاق، قلت: الأَوْلى حمل الآية على ظاهرها، وأنه لا ينبغي الوعظ إلاّ لمَن تنفعه وتؤثر فيه، وأمّا مَن تحقّق عناده فلا يزيده إلاّ عناداً، والقرائن تكفي في ذلك.
﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى﴾ ؛ سيتعظ ويقبل التذكرة مَن يخشى الله تعالى ﴿ويَتجنَّبُها﴾ أي: يتأخر عنها ولا يحضرها ولا يقبلها ﴿الأشقى﴾ الذي سبق له الشقاء، أو: أشقى الكفرة لتوغُّله في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم. قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. ﴿الذي يَصْلَى النارَ الكبرى﴾ أي: الطبقة السفلى من طبقات جهنم، وقيل: الكبرى نار جهنم، والصغرى: نار الدنيا، لقوله عليه السلام: " ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم "، ﴿ثُمَّ لاَ يموتُ فِيهَا﴾ حتى يستريح ﴿ولا يحيا﴾ حياة تنفعه، و " ثم " للتراخي في مراتب الشدة؛ لأنَّ التردُّد بين الموت والحياة أفظع من الصليِّ.
﴿
قد أفلحَ﴾
أي: نجا من كل مكروه وظفر بكل ما يرجوه ﴿مَن تَزَكَّى﴾ أي: تطهّر من الكفر المعاصي بتذكيرك ووعظك، ﴿وذَكَرَ اسمَ ربه﴾ بقلبه ولسانه ﴿فصَلَّى﴾ ؛ أقام الصلوات الخمس، أو: أفلح مَن زكَّى ماله، وذكر الله في صلاته، كقوله: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ
288
لِذِكْرِيا} [طه: ١٤] فيكون تفعَّل من الزكاة، أو: أفلح مَن تزكّى: أخرج زكاة الفطر، وذكر اسم ربه في طريق خروجه إلى أن يخرج الإمام، فصَلّى صلاةَ العيد، وقد روي هذا عن النبي ﷺ فتكون الآية مدنية، أو: إخباراً بما سيكون، إذ لم تُشْرَعْ زكاة الفطر، ولا صىلا العيد إلاَّ بالمدينة.
﴿بل تُؤْثِرون الحياةَ الدنيا﴾ على الآخرة، فلا تفعلون ما به تفلحون، وهو إضراب عن مُقَدَّر ينساق إليه الكلام، كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح: فلا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية، فتسعون لتحصِيلها، وتشتغلون بذلك عن التزوُّد للأخرة، ﴿والآخرةُ خير وأبقى﴾ أي: خير في نفسها، لنفاسة نعيمها، وخلوصه من شوائب التكدير، وأدوم لا انصرام له ولا تمام. والخطاب للكفرة. بدليل قراءة الغيب، وإيثارها حينئذ: نسيانها بالكلية، والإعراض عنها، أو: للكل، فالمراد بإيثارها: هو ما لا يخلوا الناس منه غالباً، من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي، إلاّ القليل. قال الغزالي: إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان، قَلَّ مَن ينفك عنه، ولذلك قال تعالى: ﴿بل تؤثرون الحياة الدنيا﴾. وجملة: ﴿والآخرة... ﴾ الخ: حال من فاعل ﴿تُؤثرون﴾ مؤكد للتوبيخ والعتاب، أي: تؤثرونها على الآخرة والحال أنها خير منها وأبقى، قال بعضهم لو كانت الدنيا من ذهب يفنى، والآخرة من طين يبقى، لكان العاقل يختار ما يبقى على ما يفنى، لا سيما والأمر بالعكس. هـ.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هذا لفي الصُحف الأُولى﴾ الإشارة إلى قوله: ﴿قد أفلح مَن تزكى﴾ إلى قوله: ﴿وأبقى﴾، قال ابن جزي: الإشارة إلى ما ذكر قبلُ من الترهيب من الدنيا، والترغيب في الآخرة، أو: إلى ما تضمنته السورة، أو: إلى القرآن، والمعنى: إنه ثابت في كتب الأنبياء المتقدمين. هـ. وقوله تعالى: ﴿صحف إِبراهيمَ وموسى﴾ بدل من " الصُحف الأُولى ".
وفي حديث أبي ذر: قلت: يا رسول الله: كم كتاباً أنزل اللهُ؟ قال: " مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان " قال: قلت: يا رسول الله: ما كانت صُحف إبراهيم عليه السلام؟ قال: " كانت أمثالاً كلها، أيها الملك المسل‍ّط المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكن بعثتك لِتَرُدّ على دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو من كافر. وكان فيها: وعلى العاقل أن تكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يُحاسب فيها نفسه، وساعة يُفكر في صنع الله عزّ وجل إليه، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألاَّ يكون ظاعناً إلا لثلاث: تزور لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومَن حسب
289
كلامه من عمله قَلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه " قلت: يا رسول الله؛ فما كانت صُحف موسى عليه السلام؟ قال: " كانت عِبَراً كلها؛ عجبت لمَن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبت لمَن أيقن بالقدر ثم هو ينصب ـ أي يتعب، عجبت لمَن رأى الدنيا وتقلُّبها بأهلها ثم اطمأن إليها، وعجبت لمَن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل " قلت: يا رسولَ الله؛ وهل في الدنيا شيء مما كان في يدي إبراهيم وموسى، مما أنزل الله عليك، قال: " نعم، اقرأ يا أبا ذر: ﴿قد أفلح مَن تزكى..﴾ الآية إلى السورة " ثم قال: قلت: يا رسول الله، أوصني. قال: " أوصيك بتقوى الله عزّ وجل، فإنه رأس أمرك " قلت: زدني، قال: " عليك بتلاوة القرآن وذكرِ الله عزّ وجل، فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض " قلت: يا رسول الله؛ زدني، قال: " إياك وكثرة الضحك، فإنه يُميت القلب، ويذهب بنور الوجه "، قلت: يا رسول الله؛ زدني، قال: " عليك بالجهاد، فإنه رهبانية أمتي "، قلت: يا رسول الله؛ زدني، قال: " عليك بالصمت إلاَّ مِن خير، فإنه مطردة للشيطان، وعون لك على أمر دنياك " هـ.
وعن كعب الأحبار أنه قال: قرأتُ في العشر صحف التي أنزل اللهُ على موسى عليه السلام سبعة اسطار متصلة، أول سطر منها: مَن أصبح حزيناً على الدنيا أصبح ساخطاً على الله، الثاني: مَن كانت الدنيا أكبر همه نزع اللهُ خوف الآخرة من قلبه، الثالث: مَن شكى مصيبة نزلت به كأنما شكى الله عزّ وجل، الرابع: مَن تواضع لِمَلِك مِن ملوك الدنيا ذهب ثلث دينه، الخامس: مَن لا يبالي من أي الأبواب أتاه رزقه لم يُبال اللهُ من أي أبواب جهنم يدخله ـ يعني من حلال أو حرام، السادس: مَن أتى خطيئَة وهو يضحك دخل النار وهو يبكي، والسابع: مَن جعل حاجته إلى آدمي جعل اللهُ الفقر بين عينيه. هـ.
الإشارة: فَذكِّرْ أيها العارف الدالّ على الله إن نفعت الذكرى؛ إن رجوتَ أو توهمتَ نفع تذكيرك، فإن تحققتَ عدم النفع فلا تتعب نفسك في التذكير، فربما يكون بطالة، كتذكير العدو الحاسد لك، أو المعاند، أو المنهمك في حب الرياسة، فتذكير هؤلاء ضرب في حديد بارد. وينبغي للمذَكِّر أن يكون ذا سياسة وملاطفة، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلِىا سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ... ﴾ [النحل: ١٢٥] الخ، والحكمة: هي أن تٌقر كلَّ واحد في حكمته، وتدسه منها إلى ربه، فأهل الرئاسة تقرهم فيها وتدلهم على الشفقة والرحمة بعباد الله، وأهل الدنيا تُقرهم فيها وتدلهم على بَذلها، وأهل العلم تُقرهم في علمهم وتحضهم على الإخلاص وبذل المجهود في نشره، وأهل الفقر تقرهم فيه وتُرغبهم في الصبر... وهكذا، فإن رأيتَ أحداً تشوّف إلى مقام أعلى مما هو فيه فدُلّه عليه، وأهل التذكير لهم عند الله جاه كبير، فأحَبُّ الخَلْقِِِ إلى اللَّهِ أَنفَعُهُم لعياله، كما في الحديث. وفي
290
حديث آخر: " إنَّ أودَّ الأوِدَّاءِ إليَّ مَن يحبني إلى عبادي، ويحبِّب عبادي إليّ، ويمشي في الأرض بالنصيحة " أو كما قال عليه السلام:
﴿سَيذَّكَّر مَن يخشى﴾ أي: ينتفع بتذكيري مَن يخشى الله، وسبقت له العناية، ويتجنّبها الأشقى: أي: ويعرض عنها مَن سبق له الشقاء. قال القشيري: الشقي: مَن يعرف شقاوته، والأشقى: مَن لا يعرف شقاوته، الذي يصلى النار الكبرى، وهي الخذلان والطرد والهجران، والنار الصغرى: تتبع الحظوظ والشهوات. هـ. ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى، أي: لا تموت نفسه عن هذا، ولا تحيا روحه بشهود هؤلاء. قد أفلح مَن تَزَكَّى، أي: فاز بالوصول مَن تطهَّر مِن هوى نفسه، بأن طَهَّر نفسه من المخالفات، وقلبه من الغفلات والدعوات، وروحه من المساكنات إلى الغير، وسره عن الأنانية، بل تُؤثرون الحياة الدنيا عن التوجُّه إلى الحضرة القدسية، والدار الآخرة التي يدوم فيها الشهود خير وأبقى، وهذا الأمر، وهو التزهيد في الدنيا، والتشويق إلى الله، في صُحف الرسل والأنبياء، قال القشيري: لأنَّ التوحيد والوعد والوعيد لا يختلف في الشرائع. هـ. وقال الورتجبي: (إنَّ هذا) أي: الخروج عما سوى الله بنعت التجريد، في صحف إبراهيم، كما قال: ﴿إِنِّي بَرِياءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ٧٨] والإقبال على الله، بقوله: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ﴾ [الأنعام: ٧٩] الخ. وفي صحف موسى: سرعة الشوق إلى جماله والندم على الوقوف في المقامات: بقوله: ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٣]. هـ. أي: وبقوله: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىا﴾ [طه: ٨٤]. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
291
سورة الغاشية
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿هل أتاك حديثُ الغاشيةِ﴾ أي: قد أتاك، والأحسن: أنه استفهام أُريد به التعجُّب مما في حيّزه، والتشويق إلى استماعه، وأنه من الأحاديث البديعة التي من حقها أن تتناولها الرواية، ويتنافس في تلقيها الوعاة من كل حاضر وباد. والغاشية: الداهية الشديدة التي تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها، من قوله تعالى: ﴿يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ﴾ [العنكبوت: ٥٥] الخ.
ثم فصّل أحوالَ الناس فيها، فقال: ﴿وجوه يومئذٍ خاشعةٌ﴾، فهو استئناف بياني نشأ عن سؤال من جهته صلى الله عليه وسلم، كأنه قيل: ما أتاني حديثها فما هو؟ فقال: ﴿وجوه يومئذ﴾ أي: يوم إذ غشيت ﴿خاشعة﴾ ؛ ذليلة، لما اعترى أصحابها من الخزي والهوان، و ﴿وجوه﴾ متبدأ، سوّغه التنويع، و (خاشعة) خبر، و ﴿عاملة ناصبة﴾ : خبران آخران، أي: تعمل أعمالاً شاقة في النار، تتعب فيها مِن جرّ السلاسل والأغلال، والخوض في النار خوض الإبل في الوحل، والصعود والهبوط من تلال النار ووهادها، وقيل: عملت في الدنيا أعمال السوء، والتذّت بها، فهي يومئذ ناصبة منها، ﴿تَصلى﴾ أي: تدخل ﴿ناراً حامية﴾ ؛ متناهية في الحر مُدداً طويلة، ﴿تُسْقَى من عينٍ آنيةٍ﴾ أي: من عين ماء متناهية في الحرّ، والتأنيث في هذه الصفات والأفعال راجع إلى الوجوه، والمراد أصحابها، بدليل قوله: ﴿ليس لهم طعامٌ إِلاّ من ضريع﴾، وهو نبت يقال لِرَطْبِه: الشَّبرِق على وزن زِبْرج، تأكله الإبل رطباً فإذا يبس عافته، وهو الضريع، وهم سمٌّ قاتل، وفي الحديث: " الضريع شيء
292
في النار، أمرُّ من الصبر، وأنتن من الجيفه، وأشد حَرًّا من النار "، وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون منه ويذلّون، ويتضرعون إلى الله تعالى طلباف للخلاص منه. وقال أبو الدرداء والحسن: يقبح اللهُ وجوهَ أهل النار يوم القيامة، تشبيهاً بأعمالهم الخسيسة في الدنيا، وإنَّ الله تعالى يُرسل على أهل النار الجوع، حتى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون، فيُغاثون بالضريع، ثم يَستغيثون فيُغاثون بطعام ذي غُصّة، فيذكرون أنهم كانوا يحيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون، فيعطشهم ألف سنة، ثم يسقون من غين آنية شديدة الحر، لا هنيئة ولا مريئة، فكلما أدنوه من وجوههم سلخ جلودَ وجوههم وشواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها، قال تعالى: ﴿فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ﴾ [محمد: ١٥] هـ. والعذاب ألوان، والمعذّبون طبقات؛ فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم آكلة الضريع.. فلا تناقض.
ولمَّا نزلت هذه الآية؛ قال المشركون: إنَّ إبلنا لتسمن من الضريع، فنزلت: ﴿لا يُسمن ولا يُغني من جوع﴾ أي: ليس مِن شأنه الإسمان والإشباع، كما هو شأن طعام أهل الدنيا، وأنما هو شيء يضطرون إلى أكله دفعاً لضرورتهم، والعياذ بالله من سخطه.
الإشارة: الغاشية هي الدنيا، غشيت القلوب بظلمات محبتها، ومودتها بحظوظها وشهواتها، وجوه فيها يومئذ خاشعة، بذُلّ طلبها، عاملة بالليل والنهار في تحصيلها، ناصبة في تدبير شؤونها، لا راحة لطالبها أبداً حتى يأخذ الموت بعُنقه، تصلى نار القطيعة والبُعد تُسقى من عين حر التدبير والاختيار، ليس لطُلابها طعام لقلوبهم وأرواحهم إلاّ من ضريع شبهاتها أو حُرماتها، لا يُسمن القلب عن هزال طلبها، بل كلما زاد منها شيئاً، زاد جوعه إليها، ولا يغني الروح من جوع منها.
يقول الحق جلّ جلاله في بيان حال أهل الجنة، بعد بيان حال أهل النار، ولم يعطفهم عليهم، بل أتى بالجملة استئنافية؛ إيذاناً بكمال تباين مضمونيهما، فقال: ﴿وجوه يومئذٍ ناعمةٌ﴾ أي: ذات بهجة وحُسن، كقوله تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) ﴾ [المطففين: ٢٤]، ﴿لسعيها راضية﴾ أي: لأجل سعيها في الدنيا هي راضية في الآخرة بما
293
أعطاها عليه من الثواب الجسيم، أو: رضيت بعملها وطاعتها لما رأت ما أداهم إليه من الكرامة والثواب، ﴿في جنةٍ عالية﴾ علو المكان أو المقدار، ﴿لا تسمع فيها لاغية﴾ أي: لغو، أو كلمة ذات لغو، أو نفسٌ لاغية، فإنَّ كلام أهل الجنة كله أذكار وحِكم، أو: لا تسمع يا مخاطَب، فيمن بناه للفاعل.
﴿فيها عين جاريةٌ﴾ أي: عيون كثيرة تجري مياهها، كقوله: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾ [التكوير: ١٤] أي: كل نفس، ﴿فيها سُررٌ مرفوعة﴾ رفيعة السمْك أو المقدار، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله رَبُّه من المُلك والنعيم، ﴿وأكواب موضوعة﴾ بين أيديهم ليتلذذوا بالرؤية إليها، أو موضوعة على حافات العيون مُعَدّة للشرب، ﴿ونمارقُ﴾ ؛ وسائد ومرافق ﴿مصفوفة﴾ بعضها إلى جنب بعض، بعضها مسندة، وبعضها مطروحة، أينما أراد أن يجلس جلس على وسادة، وأستند إلى أخرى، ﴿وزرابيّ﴾ أي: بُسُط فاخرة، جمع " زِرْبيَّة "، ﴿مبثوثةٌ﴾ ؛ مبسوطة، أو مُفرّقة في المجالس.
ولمّا أنزل الله هذه الآيات، وقرأها النبي ﷺ فسّرها بأنَّ ارتفاع السرير يكون مائة فرسخ، والأكواب الموضوعة لا تدخل تحت حساب، لكثرتها، وطول النمارق كذا، وعرض الزاربيِّ كذا، أنكر المشركون ذلك، وقالوا: كيف يصعد على هذا السرير؟ وكيف تكثر الأكواب هذه الكثرة، وتطول النمارق هذا الطول، وتُبسط الزاربي هذا الانبساط، ولم نشهد ذلك في الدنيا؟ ! ذكَّرهم الله بقوله: ﴿أفلا ينظرون إِلى الإِبل كيف خُلقت﴾ طويلة عالية، ثم تبرك حتى تُركب؛ ويحمل عليها، ثم تقوم، وكذا السرير يطأطىء للمؤمن كما تطأطىء الإبل حتى يركب عليها، أو: أفلا ينظرون إلى الإبل التي هي نُصب أعينهم، يستعملونها كل حين، كيف خُلقت خلقاً بديعاً معدولاً عن سَنَن سائر الحيوانات، في عظم جثتها وشدّة قوتها، وعجيب هيئاتها اللائقة بتأتي ما يصدر منها من الأفاعيل الشاقة، كالنوْء بالأوقار الثقيلة، وحمل الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة، وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى إنَّ ضمأها ليبلغ العشْر فصاعداً، واكتفائها باليسير، ورعيها كل ما تيسّر من شوك وشجر، وانقيادها إلى كل صغير وكبير، حتى إن فأرة أخذت بزمام ناقة فجرته إلى غارها، فتبعتها الناقة إلى فم الغار. وفي الإبل خصائص أُخر تدل على كمال قدرته تعالى، كالاسترواح مع الحَدَّاء إذا عيت، إلى ما فيها من المنافع من اللحوم والألبان والأوبار والأشعار، وغير ذلك، والظاهر ما قاله الإمام، وتبعه الطيبي، من أنه احتجاج بشواهد قدرته تعالى على فاتحة السورة من مجيء الغاشية، وأنَّ المخبر بها قادر عليها، فيتوافق العقل والنقل. هـ. قاله المحشي.
﴿
وإِلى السماء كيف رُفعت﴾
رفعاً بعيداً بلا عُمُد ولا مُسَّاك، أو بحيث لا ينالها فَهم ولا إدراك، ﴿وإِلى الجبال﴾ التي ينزلون في أقطارها، وينتفعون بمياهها وأشجارها في رعي تلك الإبل وغيرها ﴿كيف نُصبت﴾ نصباً رصيناً، فهي راسخة لا تميل ولا تميد،
294
﴿وإِلى الإرض كيف سُطحت﴾ سطحاً بتوطئة وتمهيد وتسوية حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق.
قال الجلال: وفي الآية دليل على أنَّ الأرض سطح لا كرة، كما قال أهل الهيئة، وإن لم ينقض ركناً من أركان الشرع. هـ. وفي ابن عرفة، في قوله تعالى: ﴿يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ... ﴾ [الزمر: ٥] أنَّ الآية تدل على أنَّ السماء كروية، قال: لأنَّ من لوازم تكويرهما تكوير محلهما لاستحالة تعلقهما دون مكان. هـ. وفي الأبي: الذي عليه الأكثر من الحكماء وغيرهم أنَّ السموات والأرض كرتان. هـ.
الإشارة: وجوه يومئذ ناعمة بلذة الشهود والعيان، لأجل سعيها بالمجاهدة، راضية، حيث وصَّلتها إلى صريح المشاهدة، في جنة عالية، جنان المعارف، لا تسمع فيها لاغية؛ لأنَّ أهلها مقدّسون من اللغو والرفث، كلامهم ذكر، وصمتهم فكر، فيها عين جارية من قلوبهم بالعلوم والحِكم، فيها سُرر المقامات مرفوعة، يرتفعون منها إلى المعرفة، وأكواب موضوعة؛ كِيسَان شراب الخمرة، وهي محافل الذكر والمذاكرة، ونمارق مصفوفة، وسائد الرّوح والريحان حيث سقطت عنهم الكلف، ورموا حِملهم على الحي القيوم، وزرابي مبثوثة؛ بُسط الأنس في محل القدس، أفلا يستعملون الكفرة والنظرة، حتى تقيم أرواحهم في الحضرة، فإنَّ الفكرة سِراج القلب، فإذا ذهبت فلا إضاءة له، وهي سير القلب إلى حضرة الرب، فينظرون إلى الإبل كيف خُلقت، فإنه تجلي غريب، وإلى السماء كيف رُفعت به، وإلى الأرض كيف سُطحت من هيبته، وقال: القشيري: الإبل: النفوس الأمّارة، لقوله عليه السلام: " النّاسُ كإبلٍ مِائةٍ لا تكادُ تَجِدُ فيها رَاحِلةَ " هـ وإلى الأرواح كيف رُفعت؛ لأنها محل أفكار العارفين، وإلى جبال العقل كيف نُصبت لتمييز الحس من المعنى، والشريعة من الحقيقة، وإلى الأرض البشرية كيف سُطحت، حيث استولت عليها الروحانية، وتصرفت فيها.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فَذَكِّر﴾ الناس بالأدلة العقلية والنقلية، ﴿إنما أنت مُذكِّّر﴾ ليس عليك إلاَّ التبليغ ﴿لستَ عليهم بمصيطرٍ﴾ ؛ بمسلط، كقوله: ﴿وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ﴾ [قَ: ٤٥]، وفيه لغات: السين، وهي الأصل، والصاد، والإشمام. ﴿إِلاَّ مَن تولَّى وكَفَرَ فيعذبه اللهُ العذابَ الأكبر﴾، الاستثناء منقطع، أي: لست بمُسلط عليهم، تقهرهم على
295
الإيمان، لكن مَن تولى وكفر، فإنَّ لله الولاية والقهر، فهو يعذبه العذاب الأكبر، وهو عذاب جهنم، وقيل: متصل من قوله: (فذكر) أي: فذَكِّر إلاَّ مَن انقطع طمعك من إيمانه وتولَّى، فاستحق العذاب الأكبر، وما بينها اعتراض.
﴿إِنَّ إِلينا إِيابهم﴾ ؛ رجوعهم، وفائدة تقديم الظرف: التشديد في الوعيد، وأنَّ إيابهم ليس إلاَّ للجبّار المقتدر على الانتقام، ﴿ثم إِنَّ علينا حسابهم﴾ فنُحاسبهم على أعمالهم، ونجازيهم جزاء أمثالهم، و " على " لتأكيد الوعيد لا للوجوب، إذ لا يجب على الله شيء. وجمع الضمير في إيابهم وحسابهم، باعتبار معنى " من "، وإفراده فيما قبله باعتبار لفظها، و " ثم " للتراخي في الرتبة لا في الزمان، فإنَّ الترتيب الزماني إنما هو بين إيابهم وحسابهم لا بين كون إيابهم إليه تعالى وحسابهم. انظر أبا السعود.
الإشارة: ما قيل للرسول يُقال لخلفائه من أهل التذكير، ومَن تولَّى منهم يُعذَّب بعذاب الفرق والحجاب وسوء الحساب. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
296
سورة الفجر
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والفجر﴾، إمّا وقته، أقسم به لشرفه، كما أقسم بالصُبح، لِمَا في ذلك من الاقتدار، أو: صلاته؛ لكونها مشهودة، ﴿وليالٍ عشر﴾ ؛ عشر ذي الحجة، أو العشر الأُول من المحرم، أو الأواخر من رمضان، ونُكِّرت للتفخيم، ﴿والشفع والوتر﴾ أي: شفع كل الأشياء ووترها، أو: شفع هذه الليالي ووترها، أو: شفع الصلوات ووترها، أو: يوم النحر، لأنه اليوم العاشر، ويوم عرفة لأنه التاسع، أو الخلق والخالق، او صلاة النافلة والوتر بعدها، أو الأعداد؛ لأنَّ منها شفعاً ومنها وتراً، والمختار العموم، كأنه تعالى أقسم بكل شيء؛ إذ لا يخلو شيء من أن يكون شفعاً وهو الزوج، أو وتراً وهو الفرد، والوتر بالفتح والكسر لغتان.
ولمَّا أقسم بالليالي المخصوصة، أقسم بالليالي على العموم، فقال: ﴿والليلِ إِذا يَسْرِ﴾ إذا ذهب، أو: يسري فيه السائر، وقيل: أُريد به ليلة القدر، وحُذفت الياء في الوصل؛ اكتفاءً بكسرتها، وسُئل الأخفش عن سقوطها، فقال للسائل: لا أجيبك حتى تخدمني سنة، فسأله بعد سنة، فقال: الليل لا يسري، وإنّما يُسرى فيه، فلمّا عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقةً. هـ. ويرد عليه: أنها حُذفت في كلمات كثيرة، ليس فيها هذه العلة.
﴿هل في ذلك﴾ أي: فيما أقسمت به من هذه الأشياء ﴿قَسَمٌ﴾ أي: مٌقسم به، أو
297
إقسام، والمعنى: مَن كان ذا لُبٍّ عَلِمَ أنَّ ما أقسم الله به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية، فهو حقيق بان يُقسم به، وهذا تفخيم لشأن المقسَم بها، وكونها أموراً جليلة حقيقة بالإقسام بها لذوي العقول، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) ﴾ [الواقعة: ٧٦] وتذكير الإشارة لتأويلها بما ذكر، وما فيها من معنى البُعد للإيذان ببُعد مرتبة المشار إليه، وبُعد منزلته في الشرف والفضل، ﴿لذي حِجْرٍ﴾ ؛ لذي عقل؟ سُمِّي به لأنه يحجر عن التهافت فيما لا ينبغي، كما سُمِّي عقلاْ ونُهْيَةً لأنه يعقل صاحبه وينهاه عن الرذائل؛ والمعنى: هل يحقُّ عند ذوي العقول أن تُعَظَّم هذه الأشياء بالإقسام بها؟ أو: هل في إقسامي بها إقسام لذي حجر، أي: هل هو قسم عظيم يؤكّد بمثله المقسَم عليه؟ أو: هل في القسم بهذه الأشياء قسم مُقنع لذي لُب وعقل؟ والمقسَم عليه محذوف، أي: لتهلكنّ يا معشر الكفار ثم لتبنؤن بالحساب، يدلّ عليه قوله تعالى:
﴿
ألم تَرَ كيف فعل ربُّك بعادٍ﴾
فإنه استشهاد بعلمه ﷺ بما فعل بعاد وأضرابهم المشاركين لقومه ﷺ في الطغيان والفساد، أي: ألم تعلم علماً يقيناً كيف عذَّب ربُّك عاداً ونظائرهم، فيُعذّب هؤلاء أيضاً لاشتراكهم فيما يوجبه من الكفر والمعاصي، والمراد بعاد: أولاد عادٌ بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام قوم هود عليه السلام، سُمُّوا باسم أبيهم، وقد قيل لأوائلهم: عاد الأولى، ولآخرهم عاد الآخرة، وقوله تعالى: ﴿إِرَمَ﴾ عطف بيان لعاد؛ للإيذان بأنهم عاد الأولى بتقدير مضاف، أي: سبط إرم، أو: أهل إرم، على ما قيل: من أنَّ إرم اسم بلدتهم أو أرضهم التي كانوا فيها، كقوله: ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢]، ويؤيده قراءة ابن الزبير بالإضافة، ومنعت الصرف للتعريف والتأنيث، قبيلةً، كانت أو أرضاً. وقوله تعالى: ﴿ذاتِ العماد﴾ صفة لإِرم، فإذا كانت قبيلة فالمعنى: أنهم كانوا بدويين أهل عمد، أو: طِوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة، وإن كانت صفة للبلدة، فالمعنى: أنها ذات عماد طِوال لخيامهم على قدر طول أجسامهم، رُوي: أنها كانت من ذهب، فلما أرسل اللهُ عليهم الريح دفنتها في التراب، أو ذات أساطين.
رُوي: أنه كان لعاد ابنان شدّاد وشديد، فمَلَكا وقَهَرا، ثم مات شديد وخلص الأمر لشدّاد، فملك الدنيا، ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها، فبنى إرم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينةٌ عظيمةٌ، قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار، ولمَّا تمَّ بناءها سار إليها بأهل مملكته، فلمّا كان منها على مسيرة يوم وليلةٍ، بعث اللهُ عليه صيحة من السماء فهلكوا، وقيل: غطتها الريح بالرمل فما غمًّا عليها. وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل ما قدر عليه ممّا ثمَّ، فبلغ خبره معاوية، فاستحضره فقصَّ عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر، قصير، على حاجبه
298
خال، وعلى عنقه خال، يرخج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة، فقال: هذا واللهُ ذلك الرجل. انظر الثعلبي.
﴿التي لم يُخْلَق مثلُها في البلاد﴾ أي: مثل عادٍ في قوتهم، كان الرجل منهم يحمل الصخرة، فيجعلها على الحق فيهلكهم، وطُولِ قامتهم، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، أو: لم يُخلق مثل مدينة " شدّاد " في جميع بلاد الدنيا، ذكر في القوت: أنَّ بعض الأولياء قال: دخلتُ مائة مدينة، أصغرها إرم ذات العماد، ثم قال: وقوله تعالى على هذا: ﴿لم يخلق مثلها في البلاد﴾ أي: بلاد اليمن. هـ.
﴿
وثمودَ الذين جابوا الصَّخْرَ بالوادِ﴾
أي: قطعوا صخر الجبال، واتخذوا فيها بيوتاً، قيل: أوّل مَن نحت الجبال والصخور ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينةٍ كلها من الحجارة، والمراد بالواد وادي القُرى، وقيل غيره. والوادي: ما بين الجبلين، وإن لم يكن فيه ماء.
﴿وفرعونَ ذي الأوتاد﴾ أي: وكيف فعل بفرعون صاحب الأوتاد، أي: الجنود الكثيرة، وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي كانوا يضربونها في منازلهم إذا نزلوا، وقيل: كان له أوتاد يُعذّب الناسَ بها، كما فعل بآسية. ﴿الذين طَغَوا في البلاد﴾ ؛ تجاوزوا الحدّ، والموصول إمّا مجرور صفة للمذكورين، أو منصوب، أو مرفوع على الذم، أي: طغى كل طائفة منهم في بلادهم، وكذا قوله تعالى: ﴿فأكثَرُوا فيها الفسادَ﴾ بالكفر القتل والظلم، ﴿فصبَّ عليهم ربُّك﴾ أي: أنزل إنزالاً شديداً على كل طائفة من أولئك الطوائف عقب ما فعلت من الطغيان والفساد ﴿سوطَ عذابٍ﴾ أي: عذاباً شديداً لا يُدرك غايته، وهو عبارة عما حلَّ بكل واحدٍ منهم من فنون العذاب التي بُينت في سائر السور الكريمة، وتسميته سوطاً؛ للإشارة إلى أنَّ ذلك بالنسبة إلى ما أعدّ لهم في الآخرة بمنزلة السوط عند السيف، والتعبير بالصب، للإيذان بشدته وكثرته، واستمراره، أي: عُذِّبوا عذاباً دائماً مؤلماً، والعياذ بالله من أسباب المحن.
الإشارة: أقسم تعالى بأول فجر نهار الإحسان، وتمام قمر نور الإيمان، ليلة العشر، وشفعية الأثر، ووتر الوحدة، لتُسْتَأصلَن القواطع عمن توجه إليه بالصدق والإخلاص، ألم ترَ كيف فعل ربك بعاد النفس الأمّارة العاتية، الشبيهة بعاد إرم ذات العماد في العتو، التي لم يُخلق مثلُها في البلاد؛ في بلاد القواطع، إذ هي أقبح من سبعين شيطاناً، وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي. القشيري: يشير إلى ثمود القوة الشهوانية القاطعة لصخرات الشهوات الجثمانية، وفرعون ذي الأوتاد، يُشير إلى فرعون القوة الغضبية، وكثرة تباعته، وأنواع عقوباته وتشدداته. هـ. فأكثَروا فيها الفساد، أي: مدينة القلب، فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب بأنواع المجاهدات والرياضات، ممن أراد الله تأييده وولايته.
299
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ ربك لبالمرصاد﴾، قال ابن عباس: بحيث يرى ويسمع فلا يعزب عنه شيء، ولا يفوته أحد، فتجب مراقبته لا الغفلة عنه في الانهماك في حب العاجلة، كما أشار إليه بقوله: ﴿فأمّا الإنسان..﴾ الخ، فإنه بضد المراد مما تقتضيه حال المراقبة لمَن بالمرصاد. هـ. وأصل المرصاد: المكان الذي يترقّب فيه الرَّصَد، أي: الانتظار، مفعال، من: رصَده، كالميقات من وقته، وهذا تمثيل لإرصاده تعالى بالعصاة، وأنهم لا يفوتونه، قال الطيبي: لمّا بيّن تعالى ما فعل بأولئك الطغاة من قوم عاد وثمود وفرعون، حيث صَبَّ عليهم سوط العذاب، أتبعه قوله: ﴿إِنَّ ربك لبالمرصاد﴾ تخلُّصاً، أي: فعل بأولئك ما فعل، وهو يرصد هؤلاء الكفار الذين طغوا على أفضل البشر وسيد الرسل، مما جاء به من الأمر بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، والنهي عن سفسافها، ورذائلها، فيصب عليهم في الدنيا سوط عذاب، ويُعذبهم في الآخرة عذاباً فوق كل عذاب، كما قال: ﴿لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾ [الفجر: ٢٥].
ثم فصل أحوال الناس بعد أن أعلم أنه مطلع عليهم، فقال: ﴿فأمّا الإِنسانُ﴾، فهو متصل بما قبله، كأنه قيل: إنه تعالى بصدد مراقبته أحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيراً أو شرًّا ﴿فأمّا الإنسان﴾ الغافل فلا يهمه ذلك، وإنما مطمح نظره ومرصد أفكاره الدنيا ولذائذها، ﴿إِذا ما ابتلاه ربُّه﴾ أي: عامله معاملة مَن يبتليه ويختبره ﴿فأكْرَمَه ونَعَّمه﴾، الفاء تفسيرية، فالإكرام والتنعُّم هو عين الابتلاء، ﴿فيقول ربي أكرمنِ﴾ أي: فضّلني بما أعطاني من الجاه والمال حسبما كنت أستحقه، ولا يخطر بباله أنه أعطاه ذلك ليبلوه أيشكر أم يكفر، وهو خبر المتبدأ الذي هو " الإنسان "، والفاء لما في " أمَّا " من معنى الشرط، والظرف المتوسط على نية التأخُّر، كأنه قيل: فأمّا الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام، وإنما قدّمه للإيذان من أول مرة بأنّ الإكرام والتنعُّم بطريق الابتلاء. ونقل الرضي أن " إذا " هنا جزائية، فقال: وقد تقع كلمة الشرط مع الشرط في جملة أجزاء الجزاء، ثم استشهد بالآية، وقال: والتقدير: فمهما يكن من شيء فإذا ابتلاه يقول. هـ. وقال المرادي: إذا توالى شرطان دون عطف فالجواب لأولهما، والثاني مقيد للأول، كتقييده بحال واقعة موقعه، ثم استشهد بما حاصله في الآية: فأمّا الإنسان حال كونه مبتلى فيقول... الخ، فالشرط الثاني في معنى الحال، والحال لا تحتاج إلى جواب. هـ. مختصراً انظر الحاشية الفاسية.
300
﴿وأما إِذا ما ابتلاه فَقَدَرَ عليه رزقَه﴾ أي: ضَيّق عليه رزقُه، وجعله بمقدار بلغته، حسبما تقتضيه ميشئته المبينة على الحِكَم البالغة، ﴿فيقول ربي أهاننِ﴾، ولا يخطر بباله أنَّ ذلك لِيبلوه أيصبر أم يجزع، مع أنه ليس من الإهانة في شيءٍ بل التقتير قد يُؤدي إلى كرامة الدارين، والتوسعة قد تفضي إلى خسرانهما، فالواجب لمَن علم أنَّ ربه بالمرصاد منه أن يسعى للعاقبة، ولا تَهمّه العاجلة، وهو قد عكسن فإذا امتحنه ربه بالنعمة والسعة ليشكر قال ربي أكرمني، وفضّلني بما أعطاني، فيرى الإكرام في كثرة الحظّ من الدنيا، وإذا امتحنه بالفقر، فَقَدَر عليه رزقه ليصبر، قال: ربّي أهانني، فيرى الهوان في قلة الحظ من الدنيا؛ لأنه لا يهمه إلاَّ العاجلة، وهو ما يلذّه وينعِّمه فيها، وإنما أنكر قوله: ﴿ربي أكرمن﴾ مع أنه أثبته بقوله: ﴿فأكرمه ونعَّمه﴾، لأنه قاله على قصد خلاف ما صحّحه الله عليه وأثبته، وهو قصده إلى أن الله أعطاه إكراماً له لاستحقاقه، كقوله: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِيا﴾ [القصص: ٧٨] وإنما أعطاه الله ابتلاءً من غير استحقاق منه، فردّ تعالى عليه زعمه بقوله: ﴿كلاَّ﴾ أي: ليس الإكرام والإهانة في كثرة المال وقلّته، بل الإكرام في التوفيق للطاعة، والإهانة في الخذلان فـ " كلا " ردع للإنسان عن مقالته، وتكذيب له في الحالتين، قال ابن عباس: المعنى: لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقر لهوانه عليّ، بل ذلك بمحض القضاء والقدر.
وقوله تعالى: ﴿بل لا تُكرِمون اليتيمَ﴾ انتقال من بيان سوء أقواله إلى بيان سوء أفعاله، والالفتات إلى الخطاب؛ للإيذان بمشافهته بالعتاب، تشديداً للتقريع، وتأكيداً للتشنيع، والجمع باعتبار معنى الإنسان، إذ المراد به الجنس، أي: بل لكم أحوال أشد شرًّا مما ذكر، وأدل على تهالككم على المال، حيث يُكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبّرة به.
﴿ولا تَحاضُّون على طعام المسكين﴾ أي: يحض بعضُكم بعضاً على إطعام المساكين، ﴿وتأكلون التراثَ﴾ أي: الميراث، وأصله الوُراث، فقلبت الواو تاء، ﴿أكلاً لمّا﴾ أي: ذا لَمّ، وهو الجمع بين الحلال والحرام، فإنهم كانوا لا يُورِثون النساء والصبيان، ويأكلون أنصباءهم، ويأكلون كل ما تركه المُورّث من حلال وحرام، عالمين بذلك، ﴿وتُحبون المالَ حباً جماً﴾ أي: كثيراً شديداً، مع الحرص ومنع الحقوق، ﴿كَلاًّ﴾ ردعٌ عن ذلك، وإنكارٌ عليهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إنَّ ربك لبالمرصاد، المطلع على أسرار العباد، العالم بمَن أقبل عليه أو أدبر عنه، ثم يختبرهم بالجمال والجلال، فأمّا الإنسان إذا ما ابتلاه ربُّه فأكْرَمه ونَعَّمَه في الظاهر، فيقول ربي أكرمني، ويبطر ويتكبّر، وأمّا إذا ما ابتلاه فقَدَر عليه رزقه فيقول ربي أهانني، ويقنط ويتسخّط، كَلاَّ لِينزجرا عن اعتقادهما وفعلهما، وليعلما أنه اختبار من الحق، فمَن شكر النِعم، وأطعم الفير والمسكين، وأبرّ اليتيم والأيم، كان من الأبرار،
301
وإن عكس القضية كان من الفُجّار، ومَن صبر على الفقر، ورضي بالقسمة، وفرح بالفاقة، فهو من الأولياء، ومَن عكس القضية كان من البُعداء، فَمن نظر الإنسان القصير ظنُ النقمة نعمة، والنعمة نقمة، فبسطُ الدنيا على العبد قبل معرفته بربه هوانٌ، وقبضها عنه أحسان، وفي الحكم: " ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك ". ثم زجر الحقُّ تعالى عن التمتُّع الشهواني البهيمي، وعن محبة المال الفاني، وهو من فعل أهل الانهماك في الغفلة.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿كلا إِذا دُكَّتِ الأرْضُ﴾ أي: زُلزلت ﴿دَكاً دَكاً﴾ أي: دكاً بعد دكّ، أي: كرّر عليها الدكّ حتى صارت هباءً منبثاً، أو قاعاً صفصفاً، ﴿وجاء ربُّك﴾ أي: تجلّى لفصل قضائه بين عباده، وعن ابن عباس: أمره وقضاؤه، ﴿والمَلكُ صفاً صفاً﴾ أي: نزل ملائكة كل سماء فيصفون صفاً بعد صف محدقين بالإنس والجن، ﴿وجيء يومئذٍ بجهنمَ﴾، قيل: بُرِّزت لأهلها، كقوله: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (٩١) ﴾ [الشعراء: ٩١] وقيل: يجاء بها حقيقة، وفي الحديث: " يؤتى بجهنم يومئذٍ، لها سبعونَ ألفَ زمامٍ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجرُّونها، حتى تنصب عن يسار العرش، لها لغيط وزفير " رواه مسلم.
﴿يومئذ يتذكّرُ الإِنسانُ﴾ أي: يتّعظ، وهو بدل من (إذا دُكت) والعامل فيه: (يتذكّر) أي: إذا دُكت الأرض ووقع الفصل بين العباد يتذكر الإنسان ما فرّط فيه بمشاهدة جزائه، ﴿وأنَّى له الذِّكْرَى﴾ أي: ومن أين له الذكرى؟ لفوات وقتها في الدنيا، ﴿يقول يا ليتني قدمتُ لحياتي﴾ هذه، وهي حياة الآخرة، أي: يا ليتني قدّمتُ الأعمالَ الصالحة في الدنيا الفانية لحياتي الباقية.
﴿فيومئذٍ لا يُعَذِّبُ عذابَه أحدٌ﴾ أي: لا يتولّى عذاب الله أحد؛ لأن الأمر لله وحده في ذلك اليوم، ﴿ولا يُوثِقُ وثاقه أحدٌ﴾، قال صاحب الكشف: لا يُعدِّب بالسلاسل والأغلال أحدٌ كعذاب الله، ولا يوثِق أحدٌ أحداً كوثاق الله. وقرأ الأخوان بفتح الذال والثاء، بالبناء للمفعول، قيل: وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إليها أبو عمرو في آخر عمره، والضمير يرجع إلى الإنسان الموصوف، وهو الكافر. وقيل: هو أُبيّ بن خلف،
302
أي: لا يُعذِّب أحدٌ مثل عذابه، ولا يوثق بالسلاسل مثل وثاقه؛ لتناهيه في كفره وعناده.
ثم يقول الله تعالى للمؤمن: ﴿يا أيتها النفسُ﴾ يخاطبه تعالى إكراماً له بلا واسطة، أو على لسان ملك، ﴿المطمئنةِ﴾ بوجود الله، أو بذكره، أو بشهوده، الواصلة إلى بَلَج اليقين، بحيث لا يخالطها شك ولا وهم، وقيل: المطمئنة، أي: الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن، ويؤيده: قراءة مَن قرأ: يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة. ويقال لها هذا عند البعث، أو عند تمام الحساب، أو عند الموت: ﴿ارجعي إِلى ربك﴾ إلى وعده، أو: إلى إكرامه، ﴿راضيةً﴾ بما أُوتيت من النعيم ﴿مرضيةً﴾ عند الله عزّ وجل، ﴿فادخلي في عبادي﴾ أي: في زمرة عبادي الصالحين المخلصين، وانتظمي في سلكهم، ﴿وادخلي جنتي﴾ معهم. وقال أبو عبيدة: أي: مع عبادي وبين عبادي. أي: خواصّي، كما قال: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: ١٩]. وقيل: المراد بالنفس: الروح، أي: وادخلي في أجساد عبادي، لقراءة ابن مسعود: " في جسد عبادي " ولمّا مات ابن عباس بالطائف جاء طائر لم يُرَ على خلقته، فدخل في نعشه، فلما دُفن تُليت هذه الآية على شفا قبره، ولم يُدْرَ مَن تلاها، وقيل: نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وقيل: في خُبيْب بن عدي، الذي صلبه أهلُ مكة، والمختار: أنها عامة في المؤمنين؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. الإشارة: إذا دُكت أرض الحس، باستيلاء المعنى عليها، أو أرض البشرية، باستيلاء الروحانية عليها، دكاً بعد دكٍّ، بالتدريج والتدريب، حتى يحصل التمكين من أسرار المعاني، وجاء ربك، أي: ظهر وتجلّى للعيان، والملَك صفا صفا، أي: وجاءت الملائكة صفوفاً، وجيء يومئذٍ بجهنم، أي: بنار البُعد لأهل الفرق، يومئذ يتذكّر الإنسانُ ما فاته من المجاهدة وصُحبة أهل الجمع، وأنَّى له الذكرى مع إقامته في الفَرْق طول عمره، يقول: يا ليتني قدمتُ لحياتي؛ رُوحي بالمشاهدة بعد المجاهدة، فيومئذٍ يتولى الحق تصرُّفه في عباده بقدرته، فيُعَذِّب أهل الحجاب بسلاسل العلائق
والشواغل، ويُقيدهم بقيود البين، ثم يُنادي روح المقربين أهل الأرواح القدسية: يا أيتها النفس المطمئنة، التي اطمأنت بشهود الحق، ودام فناؤها وبقاؤها بالله، ارجعي إلى ربك؛ إلى شهود ربك بعد أن كنت عنه محجوبة، راضية عن الله في الجلال والجمال، مرضية عنده في حضرة الكمال، وعلامة الطمأنينة: أنَّ صاحبها لا ينهزم عند الشدائد وتفاقم الأهوال، لأنَّ مَن كانت يده مع الملك صحيحة لا يبالي بمَن واجهه بالتخويف أو التهديد. وقال الورتجبي: النفس المطمئنة هي التي صدرت مِن نور خطاب الأول الذي أوجدها من العدم بنور القِدم، واطمأنت بالحق وبخطابه ووصاله، فدعاها الله إلى معدنها الأول، وهي التي ما نالت من الأول إلى الآخر غير مشاهدة الله، راضية من الله بالله، مرضية عند الله بالاصطفائية الأزلية. هـ. والنفوس ثلاثة: أمّارة، ولوّامة، ومطمئنة، وزاد بعضهم: اللاّمة. والله تعالى أعلم، صلّى الله على سيدنا محمد وآله.
303
سورة البلد
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿لا أُقسم بهذا البلد﴾ ؛ أَقسم تعالى بالبلد الحرام، وما عطف عليه على أنّ الإنسان خُلق مغموراً بمقاساة الشدائد ومعاناة المشاقّ. واعترض بين القسم وجوابه بقوله: ﴿وأنت حِلّ بهذا البلد﴾، أي: وأنت حالّ ساكن به، فهو حقيق بأن يُقسم به لحلولك به، أو: وأنت حِل، أي: تُستحل حرمتُكَ، ويُؤذيك الكفرةُ مع أنَّ مكة لا يَحل فيها قتل صيد ولا بشر، ولا قطع شجر، وعلى هذا قيل: " لا أٌقسم " نفي، أي: لا أقسم بهذا وأنت تلحقك فيه إذاية، وهذا ضعيف، أو: وأنت حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت مِن قتل كافر وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك، وهذا هو الأظهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ هذا البلد حرام، حرّمه اللهُ يومَ خَلَقَ السموات والأرض، لم يَحِلَّ لأحدٍ قبلي، ولا يحل لأحد بعدي، وإنما أُحل لي ساعة من نهارٍ "، يعني: فتح مكة، وفيه أَمَرَ ﷺ بقتل ابن خَطَل، وهو متعلّق بأستار الكعبة.
فإن قلتَ: السورة مكية، وفتح مكة كان سنَة ثمان من الهجرة؟ قلتُ: هو وعد بالفتح وبشارة. انظر ابن جزي. وكثير من الآيات نزلت بمكة ولم يتحقق مصداقها إلاّ بعد الهجرة، كقوله تعالى: ﴿وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [فصلت: ٦، ٧] وقوله تعالى: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيا إِسْرَائِيلَ عَلَىا مِثْلِهِ﴾ [الأحقاف: ١٠] وغير ذلك.
304
﴿ووالدٍ وما وَلَد﴾ أي: وآدم وجميع ولده، أو نوح وولده، أو إبراهيم وولده، أو إسماعيل ونبينا صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أنه حَرَمُ إبراهيم ومنشأ إسماعيل، ومسكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو محمد ﷺ وولده، أو جنس كل والد ومولود. ﴿لقد خلقنا الإِنسانَ﴾ أي: جنسه ﴿في كبدٍ﴾ ؛ في تعب ومشقة، فإنه لا يزال يُقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها، يُكابد مشاق التعلُّم، ثم مشاق القيام بأمور الدين وأمور معاشه وهموم دنياه وآخرته، ثم يكابد نزع روحه، ثم سؤاله في قبره، ثم تعب حشره، ومقاساة شدائد حسابه، ثم مروره على الصراط، فلا راحة له إلاّ بعد دخول الجنة لتكون حلوة عنده، هذا في عموم الناس، وأمّا خواص العارفين فقد استراحوا حين وصلوا إلى معرفة الحق، فأسقطوا عنهم الأحمال؛ لتحققهم أنهم محمولون بالقدرة الأزلية، فلما أَسقطوا حِمْلَهم قام الله بأمرهم، لقوله: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: ٣]، يقال: كَبِدَ الرجل كَبَداً: إذا وجعت كبده من مرض أو تعب.
﴿
أَيَحْسَبُ أن لَّن يَقْدِر عليه أَحدٌ﴾
أي: أيظن الإنسان الكافر أن لن يقدر على بعثه أحد، أو: أيظن بعض الإنسان ألن يغلبه أحدٌ، فعلى هذا نزلت في مُعَيّن، قيل: هو أبو الأشدّين الجمحي، رجل من قريش كان شديد القوة، مغترًّا بقوته، كان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه، ويقول: مَن أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً، ولا تزال قدماه، وقيل: عَمْرو بن عبد ود، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة، وقتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. ﴿يقولُ أهلكتُ مالاً لُّبَداً﴾ أي: كثيراً، جمع لُبْدَة وهو ما تلبّد بعضه على بعض، يريد كثرة ما أنفقه، مما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي، رياءً وفخراً. ﴿أيَحْسَبُ أن لمْ يَرَه أحدٌ﴾ ؟ حين كان ينفق ما ينفق رياءً وسُمعةً، وأنه تعالى لا يُحاسبه ولا يجازيه، يعني: أنَّ الله كان يراه وكان عليه رقيباً فيُجازيه عليه.
ثم ذكر نِعمه عليه، فقال: ﴿ألم نجعل له عينين﴾ يُبصر بهما المرئيات، ﴿ولساناً﴾ يُعَبِّرُ به عما في ضميره، ﴿وشفتين﴾ يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النُطق والأكل والشرب والنفخ وغيرها، ﴿وهديناه النجدين﴾ أي: طريقي الخير والشر المُفضيان إلى الجنة أو النار، فهو كقوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ... ﴾ [الإنسان: ٣] الآية. وليس المراد بالهدى معنى الإرشاد، بل معنى الإلهام، أو: الثديين، وأصل النجد: المكان المرتفع، ومنه سُميت نجد، لارتفاعها عما انخفض من الحجاز.
الإشارة: أقسم تعالى ببلد المعاني، التي هي أسرار الذات، ووالد، وهو الروح الأعظم وما تولّد منه من الأرواح الجزئيات، لقد خلق الإنسانَ في كبد: في تعب الظاهر والباطن إلاّ مَن رجع إلى أصله، أعني: روحانيًّا قدسيًّا، فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع. قال الكواشي: عن بعضهم: الإنسان في كبد ما دام قائماً بطبعه، واقفاً بحاله، فإنه في ظلمة وبلاء، فإذا فني عن أوصاف إنسانيته، بفناء طبائعه عنه، صار في راحةٍ. هـ.
305
والحاصل: أنَّ الإنسان كله في تعب إلاَّ مَن عرف الله تعالى معرفة العيان، فإنه في روح وريحان، وجنات ورضوان. أَيَحْسَب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ، فلذلك أتعب نفسه في تدبير شؤونه، بلى نحن قادرون على حَمل حمله إن أسقطه توكلاً علينا. ألم نجعل له عينين، فلينظر بهما مَن حَمل السمواتِ والأرض، أليس ذلك بقادرٍ على حمل أثقاله؟ فليرح نفسه من تعب التدبير، فما قام به عنه غيرُه لا يقوم به هو عن نفسه، وجعلنا له لساناً يشكر به نِعَمَ مولاه، وشفتين يصمت بهما عما لا يعنيه، وهديناه الطريقين؛ الشريعة والحقيقة، فإذا سلكهما وصلناه إلينا.
أَيَحْسَبُ أن لَّن يَقْدِر عليه أَحدٌ} أي: أيظن الإنسان الكافر أن لن يقدر على بعثه أحد، أو: أيظن بعض الإنسان ألن يغلبه أحدٌ، فعلى هذا نزلت في مُعَيّن، قيل: هو أبو الأشدّين الجمحي، رجل من قريش كان شديد القوة، مغترًّا بقوته، كان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه، ويقول: مَن أزالني عنه فله كذا، فيجذبه عشرة فيتقطع قطعاً، ولا تزال قدماه، وقيل: عَمْرو بن عبد ود، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة، وقتله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه. ﴿يقولُ أهلكتُ مالاً لُّبَداً﴾ أي: كثيراً، جمع لُبْدَة وهو ما تلبّد بعضه على بعض، يريد كثرة ما أنفقه، مما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ومعالي، رياءً وفخراً. ﴿أيَحْسَبُ أن لمْ يَرَه أحدٌ﴾ ؟ حين كان ينفق ما ينفق رياءً وسُمعةً، وأنه تعالى لا يُحاسبه ولا يجازيه، يعني: أنَّ الله كان يراه وكان عليه رقيباً فيُجازيه عليه.
ثم ذكر نِعمه عليه، فقال: ﴿ألم نجعل له عينين﴾ يُبصر بهما المرئيات، ﴿ولساناً﴾ يُعَبِّرُ به عما في ضميره، ﴿وشفتين﴾ يستر بهما فاه، ويستعين بهما على النُطق والأكل والشرب والنفخ وغيرها، ﴿وهديناه النجدين﴾ أي: طريقي الخير والشر المُفضيان إلى الجنة أو النار، فهو كقوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ... ﴾ [الإنسان: ٣] الآية. وليس المراد بالهدى معنى الإرشاد، بل معنى الإلهام، أو: الثديين، وأصل النجد: المكان المرتفع، ومنه سُميت نجد، لارتفاعها عما انخفض من الحجاز.
الإشارة: أقسم تعالى ببلد المعاني، التي هي أسرار الذات، ووالد، وهو الروح الأعظم وما تولّد منه من الأرواح الجزئيات، لقد خلق الإنسانَ في كبد: في تعب الظاهر والباطن إلاّ مَن رجع إلى أصله، أعني: روحانيًّا قدسيًّا، فإنه حينئذ يستريح من تعب الطبع. قال الكواشي: عن بعضهم: الإنسان في كبد ما دام قائماً بطبعه، واقفاً بحاله، فإنه في ظلمة وبلاء، فإذا فني عن أوصاف إنسانيته، بفناء طبائعه عنه، صار في راحةٍ. هـ.
305
والحاصل: أنَّ الإنسان كله في تعب إلاَّ مَن عرف الله تعالى معرفة العيان، فإنه في روح وريحان، وجنات ورضوان. أَيَحْسَب الجاهل أن لن يقدر على حمل أثقاله أحدٌ، فلذلك أتعب نفسه في تدبير شؤونه، بلى نحن قادرون على حَمل حمله إن أسقطه توكلاً علينا. ألم نجعل له عينين، فلينظر بهما مَن حَمل السمواتِ والأرض، أليس ذلك بقادرٍ على حمل أثقاله؟ فليرح نفسه من تعب التدبير، فما قام به عنه غيرُه لا يقوم به هو عن نفسه، وجعلنا له لساناً يشكر به نِعَمَ مولاه، وشفتين يصمت بهما عما لا يعنيه، وهديناه الطريقين؛ الشريعة والحقيقة، فإذا سلكهما وصلناه إلينا.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿فلا اقتحم العقبةَ﴾، الاقتحام: الدخول بشدة ومشقة، والعقبة: كل ما يشق على النفس من الأعمال الصالحات، و " لا " هنا إمّا تحضيضية، أي: هلاَّ اقتح العقبة، وإمّا نافية، أي: فلم يشكر تلك الأيادي والنِعم، من البصر وما بعده، بالأعمال الصالحة من فك الرقاب وما سيذكره، فإن قلت: " لا " النافية إذا دخلت على الماضي ولم تكن دعائية وجب تكرارها؟ فأجاب الزمخشري: بأنها مكررة في المعنى، أي: فلا اقتحم ولا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً.. الخ.
ثم عظَّم تلك العقبة بقوله: ﴿وما أدراك ما العقبةُ﴾ أي: أي شيءٍ أعلمك ما هي العقبة التي أُمر الإنسان باقتحامها، أو نفي عنه اقتحامها؟ ثم فسّرها بقوله: ﴿فَكُ رقبةٍ﴾ أي: هي إعتاق رقبة، أو إعانة في أداء كتابتها. قال ابن جُزي: وفك الأسارى من الكفار أعظم أجراً من العتق؛ لأنه واجب ولو استغرقت فيه أموال المسلمين، ولكنه لا يجزي في الكفارات. هـ.
﴿أو إِطعامٌ في يومٍ ذي مَسْغَبةٍ﴾ أي: مجاعة ﴿يتيماً ذا مقربةٍ﴾ أي: قرابة، ﴿أو مِسكيناً ذَا متربةٍ﴾ ؛ ذا فقر، يقال: ترِب فلان: إذا افتقر والتصق بالتراب، ومَن قرأ " فكَ " و " أطعمَ " بصيغة الماضي فبدل من " اقتحم "، ﴿ثم كان من الذين آمنوا﴾ اي: دام على إيمانه، أو: ثُم كان حين فعل ما تقدّم من المؤمنين فيحنئذ ينفعه ذلك، وإنما جاء بـ " ثم " لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة، لا في الوقت، إذ الإيمان هو السابق على غيره، إذ لا يقبل عمل صالح إلاّ به، ﴿وتَوَاصَوا بالصبرِ﴾ عن المعاصي وعلى الطاعات، أو: المحن التي يُبتلى بهما المؤمن، ﴿وتَوَاصَوا بالمرحمةِ﴾ ؛ بالتراحم
306
فيما بينهم. ﴿أولئك أصحابُ الميمنةِ﴾ أي: الموصوفون بهذه الصفات هم أصحاب اليمين واليمْن، ﴿والذين كفروا بآياتنا﴾ ؛ بما نصبناه دليلاً على الحق من كتاب وحجة، أو بالقرآن ﴿هم أصحابُ المشئمةِ﴾ أي: الشمال أو الشؤم، ﴿عليهم نار موصدة﴾ ؛ مُطْبَقة، من أوصدت الباب وآصدته: إذا أغلقته.
الإشارة: هلاَّ اقتحم مريد الوصول العقبةَ، وهي سلوك الطريق، بخرق عوائد النفس وترك هواها، وجَرِّها إلى مكروهها، وعن الحسن رضي الله عنه: عقبة ـ والله ـ شديدة، يُجاهد الإنسانُ نفسَه وهواه، وعدوه الشيطان. هـ. ثم فسَّرها بفك الرقبة، أي: رقبة نفسه يفكها من أن يملكه السِّوى، أو: يفكها من الذنوب والعيوب، أو فكها من رِقّ الطمع في الخلق، فإنه بذر شجرة الذل، أو: فكها من سجن الأكوان إلى فضاء شهود المكوِّن، أو: فك رقبة الغافل الجاهل من رِقّ نفسه بتذكيره ووعظه أو تربيته، أو إطعام روح جائعة من اليقين، إمّا يتيماً لا أب له روحاني، أي لا شيخ له، فتذكِّره بما يتقوّى به إيقانه، أو فقيراً من أسرار التوحيد ترابيًّا أرضيًّا، فترقّيه إلى سماء الأسرار، ثم كان ممن آمن بطريق الخصوص، وتواصَى بالصبر على مشاق السير، والتراحم والتوادد والتواصل، كما هو شأن أهل النسبة، فهؤلاء هم أهل اليُمْن والبركة، وضدهم ممن جحدوا أهل الخصوصية هم أهل الشؤم. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
307
سورة الشمس
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والشمسِ وضُحاها﴾ أي: وَضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها، ﴿والقمرِ إِذا تلاها﴾ ؛ تبعها في الضياء والنور، وذلك في النصف الأول من الشهر، يخلف القمرُ الشمسَ في النور، ﴿والنهارِ إِذا جلاَّها﴾ أي: جلّى الشمسَ وأظهرها للرائين، وذلك عند افتتاح النهار وانبساطه؛ لأنَّ الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء، وقيل: الضمير للظلمة، أو الأرض، وإن لم يجر لها ذكر، كقوله: ﴿مَا تَرَكَ عَلَىا ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ﴾ [فاطر: ٤٥]، ﴿والليلِ إِذا يغشاها﴾ أي: يستر الشمس ويُظْلِمُ الأفاق، والواو الأولى في هذه الأشياء للقسم باتفاق، وكذا الثانية عند البعض، وعند الخليل: الثانية للعطف؛ لأنَّ إدخال القسم على القسم قبل تمام الأول لا يجوز، ألا ترى: أنك لو جعلت مرضعها كلمة الفاء أو " ثم " لكان المعنى على حاله، وهما حرفا عطف، وكذا الواو، ومَن قال: إنها للقسَمَ احتجّ بأنها لو كانت للعطف لكان عطفاً على عاملين، لأنَّ قوله: ﴿وَالْلَّيْلِ﴾ [الليل: ١]ـ مثلاً ـ مجرور بواو القسم، ﴿إِذا يغشى﴾ منصوب بالفعل المقدّر الذي هو أقسم، فلو جعلت الواو التي في ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىا﴾ [الليل: ٢] للعطف لكان النهار معطوفاً على الليل جرًّا، و ﴿إذا تجلى﴾ معطوفاً على " يغشى " نصباً، وكان كقولك: إنَّ في الدار زيداً، والحُجرة عَمْراً، وأجيب بأنّ واو القسم تنزّلت منزلة الباء والفعل، حتى لم يجز إبراز الفعل معها، فصار كأنها العاملة جرًّا ونصباً، وصارت كعاملٍ واحد له معمولان، وكلُّ عامل له عملان يجوز أن يعطف على معموليه بعاطف واحدٍ بالاتفاق، نحو: ضرب زيدٌ
308
عمراً وأبو بكر خالداً، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام العامل.
﴿والسماءِ وما بناها﴾ أي: ومَن بناها، وإيثار " ما " على " مَنْ " لإرادة الوصفيّة تفخيماً، كأنه قيل: والقادر العظيم الذي بناها، وجعلُها مصدرية مخلّ بالنظم الكريم، وكذا في قوله: ﴿والأرضِ وما طحاها﴾ أي: بسطها من كل جانب، كـ " دحاها ".
﴿
ونفسٍ وما سوَّاها﴾
أي: والحكيم الباهر الحكمة الذي سوّاها وأتقن صورتها، مستعدة لكمالاتها، والتنكير للتفخيم، على أنَّ المراد نفس آدم عليه السلام أو للتكثير، وهو الأنسب للجواب، أي: ومَن سوّى كلَّ نفس، ﴿فألْهَمَها فجورَها وتقواها﴾ أي: ألهمها طاعتها ومعصيتها، وأفهمها قبح المعصية وحسن الطاعة، أو عَرَّفها طرق الفجور والتقوى، وجعل لها قوة يصح معها اكتساب أحد الأمرين، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى " أو " كقوله: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان: ٣] أي: ألهم مَن أراد شقاوتها فجورها فسعت إليه، وألهم مَن أراد سعادتها تقواها، فسعت إليه. ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاها﴾ أي: فاز بكل مطلوب، ونجا مِن كل مكروه مَن طَهَّرَها وأصلحها وجعلها زكيةً بالإيمان والطاعة، ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دسَّاها﴾ ؛ أغواها، قال عكرمة: " أفلحت نفس زكّاها اللهُ، وخابت نفس أغواها الله " ويجوز أن تكون التدسية والتطهير فعل العبد. والتدسية: النفس والإخفاء، أي: خسر مَن نقصها وأخفاها بالفجور، وأصل دس‍ّى: دسّس، كتقضى وتقضض، فأبدل من الحرف الثالث ياء، قال في الكافية:
وثَالِثَ الأمثال أبدلنه ياء
نحو تظنا خالد تظنينا
وجواب القسم محذوف، والتقدير: ليهلكنّ الله مَن كفر من قريش ويُدمدم عليهم كما دمدم على ثمود، وقيل: " قد أفلح " وليس بشيء، وقيل: " كذبت ثمود " على إضمار " قد " والأول أحسن، والله تعالى أعلم.
الإشارة: والشمس شمس العرفان، وابتداء ضُحاها في أول الفناء، والقمر قمر الإيمان، إذا تلاها بالرجوع للأثر بالتنزُّل لعالم الحكمة كمالاً وتكميلاً، والنهار نهار التمكين إذا جلاّها، أي: ظلمة حس الكائنات، وقلعها مِن أصلها بشهود المكوِّن، والليل؛ ليل القطيعة، إذا يغشاها بقهرية الحق اختباراً، هل يضطرب ويفزع فيُردّ عليه، أو يتسلّى فيُسلب، أو نهار البسط إذا جلاّها، أي: ظلمة القبض، وليل القبض إذا يغشاها، أي: شمس نهار البسط، أقسم تعالى بتعاقبهما والسماء سماء الأرواح، وما بناها؛ رفعها، والأرض أرض الأشباح، وما طحاها، أي: بسطها للعبودية، ونفسٍ وما سوّاها؛ ألقى صورتها وهيّأها للقُرب والبُعد، فألهمها فجورها وتقواها بما أعطاها من نور العقل، قال الورتجبي: سوّاها بتسوية الصِفة، ورقمها بنور الآزلية، ثم بيَّن أنه تعالى عرّفها طرق لطيفات الذات، وقهرية الصفات بنفسه بلا واسطة بقوله: ﴿فألهمها فجورها وتقواها﴾ عرّفها أولاَ طريق القهر حتى عرفت المهلكات، ثم عرَّفها طريق اللطف حتى عرفت
309
معالجتها من المنجيات، والمقصود منها: عرفانها عند الحق بطريق القهر واللطف، حتى تكمل معرفةُ صانعها. هـ.
قال القشيري: فألهمها فجورها وتقواها: بأن خَذَلَها ووَفَّقَها، ويقال: فجورها: حركتها في طلب الرزق، وتقواها: سكونها لحُكْم التقدير. ثم قال: ويُقال: أفلح مَن طهَّرها من الذنوب والعيوب، ثم عن الأطماع في الأَعواض، ثم العبد نفسه عن الاعتراض على الأنام، وعن ارتكاب الحرام، وقد خاب مَن خان نفسه وأهملها عن المراعاة، ودسَّها بالمخالفات، وفي نوادر الأصول ما حاصله: أنَّ دسّاها بمنزلة مَن دسّ شيئاً في كوة، يمنع من دخول الضوء، كذلك الهوى والشهوة سد‍ّ وغلّق على القلب من حصول ضوء القربة والوصلة. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿كذبتْ ثمودُ﴾ صالحاً ﴿بطغواها﴾ أي: بسبب طغيانها، إذ الحامل لهم على التكذيب هو طغيانهم، وفيه وعظ لأمثالهم، وتهديد للحاضرين الطاغين؛ لأنَّ الطغيان أجرم الجرائم الموجبة للهلاك والخيبةِ في الدنيا والآخرة. ﴿إِذ انبعث أشقاها﴾، منصوب بـ " كذبتْ "، أي: حين قام أشقى ثمود، وهو: قُدّار بن سالف، أو: هو ومَن تصدّى معه للعقر من الأشقياء، فإنَّ أفعل التفضيل إذا أضيف يصلح للواحد والمتعدد، والمذكر والمؤنث. وفضل شقاوتهم على مَن عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به.
﴿فقال لهم﴾ أي: لثمود ﴿رسولُ الله﴾ صالح عليه السلام، عبَّر عنه بعنوان الرسالة إيذاناً بوجوب طاعته، وبياناً لغاية عتوهم، وهو السر في إضافة الناقة إليه تعالى في تقوله: ﴿ناقةَ الله﴾ أي: احذروا عقرها، أو احفظوها، ﴿و﴾ الزموا ﴿سُقياها﴾ فلا تُدَوروها في نوبتها، وهما منصوبان على التحذير. ﴿فكذّبوه﴾ فيما حذّرهم به من نزول العذاب بقوله: ﴿وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُواءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الأعراف: ٧٣]، ﴿فعقروها﴾، أسند الفعل إليهم، وإن كان العاقر واحداً، لقوله: ﴿فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىا فَعَقَرَ (٢٩) ﴾ [القمر: ٢٩] لرضاهم به. قال قتادة: بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم. وذكرانهم وإناثهم ". ﴿فَدَمْدَمَ عليهم ربُّهم﴾ ؛ فأطبق عليهم العذاب حتى استأصلهم. قال الهروي: إذا كررت الإطباق قلت: دمدمت عليه، أي: أدمت عليه الدمدمة، وقيل: فدمدم عليهم: عَضِبَ عليهم، ﴿بذنبهم﴾ ؛ بسبب ذنبهم، وصّرح به مع دلالة الفاء عليه للإيذان بأنه عاقبة كل ذنب ليعتبر
310
به كل مذنب. ﴿فسوَّاها﴾ أي: الدمدمةّ بينهم، لم يفلت منهم أحد من صغيرهم وكبيرهم، أو فسوّى ثمود بالأرض بتسوية بنائها وهدمه، ﴿وَلآ يَخَافُ عُقْبَآهَا (١٥) ﴾ [الشمس: ١٥] أي: عاقبتها وتَبِعَتها، كما يخاف سائر المعاقِبين أي: فعل ذلك غير خائف أن يلحقه تبعة مِن أحد، كما يخاف مَن يعاقب مِن الملوك وغيرهم، لأنه تصرف في ملكه، ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣) ﴾ [الأنبياء: ٢٣]. ومَن قرأ بالواو فهو للحال، أو الاستئناف.
الإشارة: قال القشيري: كذبت ثمودُ النفس بسبب طغيانها على القلب بالشهوات الحيوانية، واللذات الجسمانية، إذ انبعث أشقاها، هو الهوى المتبع، الساعي في قتل ناقة الروح، فقال لهم رسول الله؛ القلب الصالح: ناقةَ الله، أي: اتركوا ناقةَ الله ترعى في المراتع الروحانية، من المكاشفات والمشاهدات والمعاينات، فكذّبوه؛ فكذبت ثمود النفس وجنودُها رسولَ القلب، فعقروها، أي: الروح بالظلمة النفسانية والشهوة الحيوانية، فَدَمْدَم عليهم ربُّهم؛ على ثمود النفس وقومها عذاب البُعد والطرد، بذنبهم، فسوّاها، أي: فسوّى الدمدمة، وهي الإطباق على النفس وجنودها، فلا يخاف عقباها لغناه عن العالمين. هـ. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
311
سورة الليل
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والليلِ إِذا يغشى﴾ أي: حين يغشى الشمس، كقوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤) ﴾ [الشمس: ٤] أو: كل ما يواريه بظلامه. وقال القشيري: إذا يغشى الأفق وما بين السماء والأرض فيستره بظلمته. ﴿والنهارِ إِذا تَجَلَّى﴾ أي: ظهر وأسفر ووضح، ﴿وماخَلَقَ الذكَرَ والأُنثى﴾ أي: والقادر الذي خلق الذكر والأنثى من كل ما له توالد مِن ماءٍ واحد، وقيل: هما آدم وحواء، و " ما " بمعنى " من " أو مصدرية. وقُرىء " والذكر والأنثى " وقرىء " الذي خلق الذكر والأنثى ". جواب القسم: ﴿إِنَّ سعيَكم﴾ أي: عملكم ﴿لشتَّى﴾ ؛ لمختلف، جمع شتيت، أي: إنّ مساعيكم لأشتات مختلفة.
ثم فصّله فقال: ﴿فأّمَّا مَن أعطى﴾ حقوق ماله ﴿واتقى﴾ محارمَ الله التي نهى عنها، ﴿وصدَّق بالحسنى﴾ ؛ بالخصلة الحُسنى، وهي الإيمان، أو بالكلمة الحسنى، وهي كلمة التوحيد، أو بالملة الحسنى، وهي الإسلام، أو بالمثوبة الحسنى، وهي الجنة، والتصديق هو أن يرى أنَّ ما وعده اللهُ به يوصله إليه، ولا يجري على قلبه خاطر شك، ﴿فسَنُيَسِّره لليُسرى﴾ ؛ فسنهيئه للطريقة التي تؤدي إلى الراحة واليُسر، كدخول الجنة ومبادئه. قال ابن عطية: معناه: سنظهر عليه تيسيرنا إياه بما يتدرج فيه من أعمال الخير، وحَتْم تيسيره كان في علم الله أزلاً. هـ. يقال: يسَّرَ الفرس، إذا أسرجها وألجمها.
﴿وأمّا مَن بَخِلَ﴾ بماله، فلم يبذله في سبيل الخير، ﴿واستغنَى﴾ أي: زهد فيما عند الله تعالى، كأنه مستغنٍ عنه فلم يتقه، أو: استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة،
312
﴿وكَذَّب بالحُسنى﴾ أي: بالخصلة الحسنى، على ما ذكر من معانيها، ﴿فسَنُيَسِّره للعُسرى﴾ أي: للخصلة المؤدّية إلى العسر والشدة، كدخول النار ومقدماته، لاختياره لها. وقال الإمام ـ أي الفخر ـ: كل ما أدّت عاقبته إلى الراحة والأمور المحمودة، فذلك اليسرى، وهو وصف كل الطاعات، وكل ما أدّت عاقبته إلى التعب والردى، فذلك العُسرى، وهو وصف كل المعاصي. هـ. ﴿وما يُغني عنه مالُه﴾ الذي بَخِلَ به، أي: لا ينفعه شيئاً ﴿إِذا تَرَدَّى﴾ ؛ هَلَكَ، تفعّل، من الردى، أو تردَّى في حفرة القبر، أو في قعر جهنّم، والعياذ بالله.
الإشارة: أقسم تعالى بليل الحجاب، إذا يغشى القلوبَ المحجوبة، ونهار التجلِّي إذا يغشى القلوب الصافية، وكأنه تعالى أقسم بقهر جلاله، ولُطف جماله، وقدرته على خلق أصناف الحيوانات، إنَّ سعي الناس لشتى، فأمّا مَن أعطى مالَه ونفسَه، واتقى كلَّ ما يشغله عن المولى، فَسنُيَسِّره لسلوك الطريق اليُسرى، التي توصل إلى حضرة المولى. وقال الورتجبي: سهّل له طريقَ الوصول إليه، ويرفع عنه الكلفة والتعب في العبودية. وقال القشيري: نُسَهِّلُ عليه الطاعات، ونُكَرِّه إليه المخالفات، ونهيىء له القُربَ، ونُحَبِّبُ له الإيمان، ونُزَيِّن في قلبه الإحسان. هـ. وأمَّا مَن بَخِلَ بماله ونفسه، واستغنى عن معرفة ربه معرفة العيان، وقنع بمقام الإيمان، فسَنُيسره للعُسرى، وهي طريق البُعد والحجاب، كاشتغاله بحب الدنيا، وجمع المال، وما يُغني عنه ماله إذا تردى في مهاوي البُعد والردى.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ علينا لَلْهُدى﴾ ؛ إنَّ علينا الإرشاد إلى الحق بنصب الدلائل، وتبيين الشرائع، أو: إن علينا بموجب قضائنا المَبْنيِّ على الحِكَم البالغة، حيث خلقنا الخلق للعبادة، أن نُبيّن لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه، وقد فعلنا ذلك مما لا مزيد عليه، حيث بَيَّنَّا حال مَن سلك كلا الطريقين، ترغيباً وترهيباً، فتبيّن أنَّ الهداية هي الدلالة على ما يوصل إلى البُغية، لا الدلالة الموصلة إليها حتماً. قاله أبو السعود.
﴿وإِنَّ لنا للآخرة والأُولى﴾ أي: التصرُّف الكلي فيهما، كيفما نشاء، فنفعل فيهما ما نشاء، فنُعطي الدنيا لمَن نشاء، والآخرة لمَن نشاء، أو نجمع له بينهما، أو نحرمه منهما، فمَن طلبهما مِن غيرنا فقد أخطأ، أو: إنَّ لنا كُلَّ ما في الدنيا والآخرة، فلا يضرنا ترككم الاهتداء بهُدانا.
313
﴿فَأّنْذَرتكم﴾ ؛ خوَّفتكم ﴿ناراً تلضى﴾ ؛ تتلهب، ﴿لا يَصْلاها إِلاّ الأشقى﴾ ؛ لا يدخلها للخلود فيها إلاّ مَن سبق له الشقاء، ﴿الذي كذَّب وتَوَلَّى﴾ أي: الكافر الذي كذّب الرسولَ صلى الله عليه وسلم، وتَوَلى عن الإيمان، ﴿وسَيُجنبها﴾ ؛ وسيبعِّدها ﴿الأتقى﴾ ؛ المؤمن المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي، فلا يحوم حولها، فضلاً عن دخولها، وأمّا مَن دونه ممن يتقي الكفر دون المعاصي فلا يبعد هذا البُعد، وذلك لا يستلزم صليها بالمعنى المذكور، فلا يُنافي الحصر المذكور. ﴿الذي يُؤتى مالَه﴾ للفقراء ﴿يتزكَّى﴾ أي: يطلب أن يكون عند الله زاكياً، لا يُريد به رياءً ولا سمعةً، من: الزكا، وهو الزيادة، أو: تفعّل من الزكاة، أو: يتطهر من الذنوب والعيوب، وهو حال من ضمير " يؤتى ". ﴿وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تُجزى﴾ أي: ليس لأحدٍ عنده نعمة من شأنها تجزى وتكافأ، ﴿إِلاَّ ابتغاءَ وجه ربه﴾ : استثناء منقطع، أي: لكن يفعل ذلك ابتغاء وجه ربه ﴿الأعلى﴾ أي: الرفيع بسلطانه، المنيع في شأنه وبرهانه.
والآية نزلت في أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه حين اشترى بلالاً في جماعة كان المشركون يؤذونهم، فأعتقهم. ولذلك قالوا: المراد بالأشقى: أبو جهل وأمية بن خلف. وعن ابن عباس رضي الله عنه: عذَّب المشركون بلالاً، وبلالٌ يقول: أَحَدٌ أَحَدٌ، فمرّ به النبيُّ ﷺ فقال: " ينجيك أحد أحد " ثم أخبر النبيُّ ﷺ أبا بكر، وقال له: " إنَّ بلالاً يُعذَّب في الله " فعرف مراده، فاشتراه برطل من ذهب، وقيل: اشتراه بعبدٍ كان عنده اسمه " نسطاس " وكان له عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري، وكان مشركاً، فقال له الصدِّيق: أسْلِم ولك جميع مالك، فأبى، فدفعه لأمية بن خلف، وأخذ بلالاً، فأعتقه، فقال المشركون: ما أعتقه إلا ليدٍ كانت له عنده، فنزلت. رُوي أنه اشتراه، وهو مدفون بالحجارة، يُعَذَّب على الإسلام، قال عروة: أَعتق أبو بكر سبعة، كلهم يُعذب في الله، بلال وعامر بن فهيرة، والنجدية وبنتها، وزِنِّيرة، وبيرة، وأم عُبيس، وأمة بني المؤمِّل. قال: وأسْلَم وله أربعون ألفاً، فأنفقها كلها في سبيل الله. وقال ابن الزبير: كان أبو بكر يشتري الضعفة فيعتقهم، فقال له أبوه: لو كنت تبتاع مَن يمنع ظهرك، فقال: مَنْعَ ظهري أريد، فنزلت فيه: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (١٧) ﴾ [الليل: ١٧] الآية. واسمه: عبد الله بن عثمان، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، فسمّاه الرسولُ ﷺ عبد الله.
وقوله تعالى: ﴿ولسوف يرضى﴾ جواب قسم مضمر، أي: والله لسوف نُجازيه فيرضى، وهو وعد كريم لنيل جميع ما يبتغيه على أفضل الوجوه وأكملها، إذ به يتحقق رضاه، وهو كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىا (٥) ﴾ [الضحى: ٥].
الإشارة: إنّ علينا لبيان الطريق لِمن طلب الوصول إلى عين التحقيق، فإنا أنزلنا كتاباً ما فرطنا فيه من شيء، وبعثنا رسولاً يهدي إلى الرشد، وجعلنا له خلفاء في كل زمان،
314
يهدون بأمرنا إلى حضرة قدسنا، وإنَّ لنا للآخرةَ لِمن طلبها، والأوُلى لِمن طلبها، وأظهرنا أسرار ذاتِنا لمَن طلبها، فأنذرتكم ناراً تلظى، وهي نار البُعد لا يصلاها إلا الأشقى، الذي سبق له البُعد منا. ﴿الذي كذَّب وتولَّى﴾، قال القشيري: أي كذَّب الحق في مظاهر الأولياء والمشايخ وأرباب السلوك، وأعْرَض عن قبول إرشادهم ونصائحهم، وعن استماع معارفهم ومواجيدهم الكشفية الشهودية، وسيُجنبها الأتقى، أي: يُجنب طريق البُعد ونار الحجاب مَن اتقى السِّوى، الذي يؤتى ماله تقرُّباً إلى الله ليتزكّى من العيوب والأنانية، ﴿وما لأحدٍ عنده من نعمة تُجزى﴾ أي: ليس إحسانه في مقابلة حرف ﴿إلاّ ابتغاء وجه ربه الأعلى﴾ أي: إلاّ طلب معرفة ذاته العلية، ﴿ولَسَوف يَرضى﴾ بدوام شهود الذات الأقدس. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
315
سورة الضحى
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والضُحى﴾، المراد به: وقت الضحى، وهو حدود النهار حتى ترتفع الشمس، وإنما خُصّ بالإقسام به لأنه الساعة التي كلّم الله فيها موسى عليه السلام، والتي وقع فيها السحرة ساجدين، أو: النهار كلّه؛ لمقابلته بالليل في قوله: ﴿والليلِ إِذا سجى﴾ ؛ سَكَن، المراد: سكون الناس والأصوات فيه، أو ركد ظلامه، من: سجا البحر إذا سكنت أمواجه، وقيل: المراد بالضحى: ساعة مناجاة موسى، وبالليل: ليلة المعراج.
وجواب القسم: ﴿ما ودّعَكَ ربُّك﴾ أي: ما تركك منذ اختارك، ﴿وما قَلَى﴾ أي: وما أبغضك منذ أحبك، والتوديع: مبالغةٌ في الودْع، وهو الترك؛ لأنَّ مَن ودّعك مفارقاً فقد بالغ في تركك. رُوي أنَّ الوحي تأخّر عن رسول الله ﷺ أياماً، فقال المشركون: إنَّ محمداً ودَعَهُ ربُّه وقلاه، فنزلت ردًّا عليهم، وتبشيراً له ﷺ بالكرامة الحاصلة. وحذف الضمير من " قَلَى " إمّا للفواصل، أو للاستغناء عنه بذكره قبل، أو: للقصد إلى نفس صدور الفعل عنه تعالى، مع قطع النظر عما يقع عليه الفعل بالكلية، وحيث تضمّن ما سبق من نفي التوديع، والقَلى أنه تعالى يُواصله بالوحي والكرامة في الدنيا بَشَّر ﷺ بأنّ ما سيؤتاه في الآخرة أجلّ وأعظم بذلك، فقيل: ﴿وللآخرةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولى﴾، لأنَّ ما فيها من النِعم
316
صافية من الشوائب على الإطلاق، وهذه فانية مشوبة بالمضار، وما أوتي ﷺ من شرف النبوة، وإن كان مما لا يُعادله شرف، ولا يُدانيه فضل، لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض الشاقة على النفس.
ووجه اتصال الآية بما قبلها: أنه لمَّا كان في ضمن نفي التوديع والقَلي أنَّ الله يُواصلك بالوحي إليك، وأنك حبيب الله، ولا ترى كرامة أعظم من ذلك، أخبر أن ما له في الآخرة أعظم وأشرف، وذلك لتقدُّمه على الأنبياء في الشفاعة الكبرى، وشهادة أمته على الأمم، ورفع درجات المؤمنين، وإعلاء مراتبهم بشفاعته، وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تُحيط بها العبارة.
وقوله تعالى: ﴿ولَسَوْفَ يُعطيك ربُّك فَتَرْضى﴾ وَعْد كريمٌ شاملٌ لِما أعطاه الله تعالى في الدنيا، من كما اليقين، وعلوم الأولين والآخرين، وظهور أمره، وإعلاء دينه بالفتوح الواقعة في عصره صلى الله عليه وسلم، وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من الملوك الإسلامية، وفشو الدعوة، وإعلاء منار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، ولِما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها إلاَّ الله عزّ وجل، وقد أنبأ ابنُ عباسٍ عن شيء منها، حيث قال: " أعطي في الجنة ألف قصر من لؤلؤ أبيض، ترابه المسك ". وفي الحديث: لَمَّا نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: " أنا لا أرضى وواحد من أمتي في النار " قال بعضهم: هذه أرجى آيةٍ في القرآن. ودخل ﷺ على فاطمة، وعليها ثياب من صوف وشعر، وهي تطحن وتُرضع ولدها، فدمعت عيناه، وقال: " يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة " ثم تلا: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾. واللام للقسم، وإنما لم تدخل نون التوكيد لفصل السين بين القسم والفعل.
الإشارة: قال القشيري: يُشير إلى القسم بضحوة نهار قلب الرسول، عند انتشار شمس روحه على بشريته، وبِلَيل بشريته عند أحكام الطبيعة وسلوك آثار البشريه لغلبة سلطان الحقيقة، ما ودَّعك ربك بقطع فيض النبوة والرسالة عن ظاهرك، وما قَلَى بقطع فيض الولاية عن قلبك، ﴿وللآخرةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى﴾ يعني: أحوال نهايتك أفضل وأكمل من أحوال بدايتك، لأنه ﷺ لا يزال يطير بجناحي الشريعة والطريقة في جو سماء الحقيقة، ويترقّى في مقامات القٌرب والكرامة. هـ. ويمكن الخطاب بالسورة الكريمة لخليفته من العارفين، الدعاة إلى الله. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿أَلمْ يَجِدْكَ يتيماً﴾ من أبويك ﴿فآوى﴾ أي: ضمَّك إلى جدك، ثم إلى عمك أبي طالب. رُوي أنَّ أباه مات وهو جنين، قد أتت عليه ستة أشهر، وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين، فكلفه أولاً جدُّه عبد المطلب، فلما مات جده كَفَلَه عَمُّه أبو طالب، فأحسن تربيته، وذلك إيواؤه، وقال القشيري: ويُقال: بل آواه إلى ظل كَنَفِه، وربَّاه بلطف رعايته. هـ.
والحكمة في يُتمه صلى الله عليه وسلم: ألاّ يكون عليه منّة لأحدٍ سوى كفالة الحق تعالى. وقيل: هو من قول العرب: دُرة يتيمة إذا لم يكن لها مِثل، أي: ألم يجدك وحيداً في شرفك وفضلك، لا نظير لك فآواك إلى حضرته.
﴿وَوَجَدَك ضالا﴾ ؛ غافلاً عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول، ﴿فَهَدَى﴾ ؛ فهداك إليها، كقوله: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ﴾ [الشورى: ٥٢]. وقال القشيري: أي: ضالاًّ عن تفصيل الشرائع فهديناك إليها، وعَرَّفناك تفصيلَها. هـ. أو: ضالاً عما أنت عليه اليوم من معالم النبوة، ولم يقل أحد من المفسرين: ضالاًّ عن الإيمان. قاله عياض: وقيل: ضلّ في صباه في بعض شِعاب مكة، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب، وقيل: ضلّ مرة أخرى، وطلبوه فلم يجدوه، فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعاً، وتضرّع إلى الله، فسمعوا هاتفاً يُنادي من السماء: يا معشر الناس، لا تضجُّوا، فإنَّ لمحمدٍ ربَّا لا يخذله ولا يُضيّعه. وأنَّ محمداً بوادي تهامة عند شجرة السمر، فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل، فإذا النبي ﷺ قائم تحت شجرة، يلعب بالإغصان والأوراق. وقيل: أضلته مرضعته حليمة عند باب الكعبة حين فطمته، وجاءت به لترده على عبد المطلب، وقيل: ضلّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، يُروى أن إبليس أخذ بزمام ناقته في ليل ظلماء، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريلُ عليه السلام، فنفخ إبليسَ نفخة وقع منها إلى أرض الهند، وردّه إلى القافلة. وقوله تعالى: ﴿فَهَدَى﴾ أي: فهداك إلى منهاج الشرائع المنطوية في تضاعيف ما يُوحى إليك من الكتاب المبين، وعلَّمك ما لم تكن تعلم. ﴿ووجدك عائلاً﴾ ؛ فقيراً من حس الدنيا، ﴿فأَغْنَى﴾ ؛ فأغناك به عما سواه، وزوّجك خديجة، فقامت بمؤونة العيش، أو بما أفاء عليك من الغنائم، قال صلى الله عليه وسلم:
" جعل رزقي تحت ظل رمحي ". ﴿فأمَّا اليتيمَ فلا تقهرْ﴾، قال المفسرون: أي: لا تغلبه على ماله وحقه، لأجل ضعفه، وأذكر يتمك، ولا تقهره بالمنع من مصالحه، ووجوه القهر كثيرة، والنهي يعم جميعها، أي: دُم على ما أنت عليه من عدم قهر اليتيم. وقد ورد في الوصية باليتيم
318
أحاديث، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا وكافلُ اليتيم في الجنة كهاتين إذا اتقى الله " وأشار بالسبابة والوُسطى، وقال صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي؛ مَن أبكى هذا اليتيم الذي غيبتُ أباه في التراب؟ فتقول الملائكة: ربنا أنت أعلم، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي فإني أُشهدكم أنَّ لمن أسكته وأرضاه أنْ أُرضيه يوم القيامة "، فكان عمر إذا رأى يتيماً مسح رأسه وأعطاه شيئاً. وقال أنس: " مَن ضمّ يتيماً، فكان في نفقته، وكفاه مؤنته، كان لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّار يوم القيامة، ومَن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة ".
﴿وأمَّا السائِلَ فلا تنهرْ﴾ أي: لا تزجره ولا تعبس في وجهه، ولا تغلظ له القول، بل ردّه ردًّا جميلاً، قال إبراهيم بن أدهم: نِعم القوم السُؤَّال يحملون زادنا إلى الآخرة. وقال إبراهيم النخعي: السائل بريد الآخرة، يجيء إلى باب أحدكم فيقول: أتبعثون إلى أهليكم بشيء. وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يمنعنّ أحدُكم السائلَ وإن في يديْه قُلْبَين، من ذهب " أي: سوارين. وقال أيضاً: " أَعْطِ السائِلَ ولو على فرسه " وقال صلى الله عليه وسلم: " إذا رددت السائل ثلاثاُ فلم يرجع عليك أن تَزْبُرَه " وقال الحسن: المراد بالسائل هنا: السائل عن العلم.
﴿وأمَّا بنعمةِ ربك فحدِّث﴾ بشكرها وإشاعتها وإظهار آثارها، يرد ما أفاضه الله تعالى عليه من فنون النِعَم، التي من جملتها المعدودة والموعودة، والنبوة التي آتاه الله تأتي على جميع النِعم، ويَدخل في النِعم تعلُّم العلم والقرآن، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " التحدُّث بالنِعَم شكر " ولذلك كان بعض السلف يقول: لقد أعطاني الله كذا، ولقد صلَّيتُ البارحة كذا، وهذا إنما يجوز إذا ذكره على وجه الشكر، أو ليُقتدى به، فأمّا على وجه الفخر والرياء فلا يجوز. هـ.
319
انظر كيف ذكر الله في هذه السورة ثلاث نعم، ثم ذكر في مقابلتها ثلاث وصايا، فقال في قوله: ﴿ألم يجدك يتيماً﴾ بقوله: ﴿فأمّا اليتيم فلا تَقْهَر﴾ وقابل قولَه: ﴿ووجدك ضالاً﴾ بقوله: ﴿وأمّا السائل فلا تَنْهَر﴾ على مَن قال: إنه طالب العلم، وقابل بقوله: ﴿وأمّا بنعمة ربك فَحَدِّث﴾ على القول الآخر، وقابل قوله: ﴿ووجدك عائلاً فأَغْنَى﴾ بقوله: ﴿وأما السائل فلا تَنْهر﴾ على القول الأظهر، وقابله بقوله: ﴿وأمَّا بنعمة ربك فحدِّث﴾ على القول الآخر هـ. من ابن جزي.
ولمَّا قرأ ﷺ سورة الضحى كبّر في آخرها، فسُنَّ التكبير آخرها، وورد الأمر به خاتمتها وخاتمة كل سورة بعدها في رواية البزي.
الإشارة: ألم يجدك يتيماً فرداً من العلائق، مجرداً مما سوى الله، فآواك إليه، وهي طريقة كل متوجه، لا يأويه الحق إليه حتى يكون يتيماً من الهوى، بل بقلبٍ مُفرد، فيه توحيد مجرد. قال القشيري: ويُقال فآواك إلى بساط القربة، بحيث انفردْتَ بمقامِك، فلم يُشاركك فيه أحد. هـ. ﴿ووجدك ضالاًّ﴾ قيل: متردداً في معاني غوامض المحبة، فهداك بلطفه لها، أو: وجدك مُتحيراً عن إدراك حقيقتنا، فكملناك بأنوار ربوبيتنا حتى أدركتنا بنا، وفي هذا ملاءمة لمعنى الافتتاح. قال القشيري: ويُقال: ضالاًّ عن محبتي لكن فعرَّفْتُك أني أُحبك، ويقال: جاهلاً شرفَك فعرَّفْتُك قَدْرَكَ. هـ. ووجدك عائلاً فقيراً مما سواه، فأغناك به عن كل شيء، إلاّ طلب الزيادة في العلوم والعرفان، فلا قناعة من ذلك، ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ [طه: ١١٤]. وفي القوت: إنما أغناه بوصفه، لا بالأسباب، وهو أعز على الله من أن يجعل غناه من الدنيا أو يرضاها له. هـ. وكما أنَّ الله تعالى غَنِيّ بذاته، لا بالأعراض والأسباب، فالرسول ﷺ غَنِيّ بربه لا بالأعراض. قاله في الحاشية. قلت: وكذلك الأولياء ـ رضي الله عنهم ـ سَرَى فيهم اسمه تعالى " الغَنيِّ " فصاروا أغنياء بلا سبب، وما وصّى به الحقٌّ تعالى نبيه ﷺ يُوصَّى به خلفاؤه من قوله: ﴿فأمّا اليتيم فلا تقهر... ﴾ الخ. وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
320
سورة الشرح
يقول الحق جلاّ جلاله: ﴿أَلَمْ نشرحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ أي: ألم نوسعه ونفسحه حتى حوى عالَم الغيب والشهادة، وجمع بين ملَكتي الاستفادة والإفادة، فما صدتك الملابسة بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملِكات الروحانية، وما عاقك التعلُّق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شهود الحق، وقيل: المراد شرح جبريل صدرَه في حال صباه، حين شقّه وأخرج منه علقة سوداء، أو ليلة المعراج فملأه إيماناً وحكمة. والتعبير عن الشرح بالاستفهام الإنكاري للإيذان بأن ثبوته من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن يُجِيب عنه بغير " بلى ".
وزيادة " لك " وتوسُّطه بين الفعل ومفعوله للإيذان بأنَّ الشرح من منافعة ﷺ ومصالحة، مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه ﷺ وتشويقاً إلى ما يعقبه، ليتمكن عنده وقتَ وروده فضل تمكُّن. وقال في الوجيز: هو استفهام معناه التقرير، أي: ألم نفتح ونُوسِّع لك قلبك بالإيمان والنبوة والعلم والحكمة. قال في الحاشية الفاسية: والظاهر أنه
321
إيثار بما طلبه موسى عليه السلام بقوله: ﴿رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾ [طه: ٢٥]، وأنه بادَاه به من غير طلب، وهو قَدْر زائد على مطلق الرسالة، متضمن حمل ثقل تبليغها، لكونه في ذلك بربه، ويناسبه ما بعده من وضع الوزر، وهو لغة: الحمل الثقيل، كما في الوجيز، وشرح الصدر: بسطه بنور إلهي. هـ.
﴿ووضعنا عنك وِزْرَكَ﴾، عطف على مدلول الجملة السابقة، كأنه قيل: قد شرحنا لك صدرك ووضعنا عنك وزرك، أي: حططنا عنك عبأك الثقيل، ﴿الذي أَنْقَضَ ظهرك﴾ أي: أثقله حتى سمع له نقيض، وهو صوت الانتقاض، أي: خففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها، أو: يُراد ترك الأفضل مع إتيان الفاضل، والأنبياء يعاتبون بمثلها، ووضعه عنه: أن يغفر له. قال ابن عرفة: التفسير السالم فيه: أن يتجوّز في الوضع بمعنى الإبعاد، أو يتجوّز في الوزر، فإن أريد بالوزر حقيقته فيكون المعنى: أبعدنا عنك ما يتوهم أن يلحقك من الوزر اللاحق لنوعك، وإن أريد بالوزر المجازي، وهو ما يلحقه قِبَل النبوة من الهم والحزن بسبب جهلك ما أنت الآن عليه من الأحكام الشرعية، فيكون الوضع حقيقة، والوزر مجازاً. هـ. قلت: والظاهر: أنَّ كل مقام له ذنوب، وهو رؤية التقصير في القيام بحقوق ذلك المقام، فحسنات الأبرار سيئات المقربين، فكلما علا المقام طُولب صاحبه بشدة الأدب، فكأنه ﷺ خاف ألاّ يكون قام بحق المقام الذي أقامه الحق فيه، فاهتمّ من أجله، وجعل منه حملاً على ظهره، فأسقطه الحق تعالى عنه، وبشَّره بأنه مغفور له على الإطلاق؛ ليتخلّى من ذلك الاهتمام.
وزاده شرفاً بقوله: ﴿ورفعنا لك ذِكرك﴾ أي: نوّهنا باسمك وجعلناه شهيراً في المشارق والمغارب، ومِن رَفْعِ ذكره ﷺ أن قرن اسمَه مع اسمِه في الشهادة والأذان والإقامة والخُطب والتشهُّد، وفي مواضع من القرآن: ﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ﴾ [النساء: ٥٩] ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [النساء: ١٣] ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢]، وتسميته رسول الله، ونبي الله، وقد ذكره في كتب الأولين. قال ابن عطية: رَفْعُ الذكر نعمة على الرسول، وكذا هو جميل حسن للقائمين بأمور الناس، وخمول الذكر والاسم حسن للمنفردين للعبادة. هـ. قلت: والأحسن ما قاله الشيخ المرسي رضي الله عنه: مَن أحبَّ الظهور فهو عبد الظهور، ومَن أحبّ الخفاء فهو عبد الخفاء، ومَن أحبّ الله فلا عليه أخفاه أو أظهره. هـ. والخمول للمريد أسلم، والظهور للواصل أشرف وأكمل.
ثم بشّر رسولَه وسلاَّه عما كان يلقى من أذى الكفار بقوله: ﴿فإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسراً﴾ أي: إنّ مع الشدة التي أنت فيها من مقاساة بلاء المشركين يُسراً بإظهاره إياك عليهم حتى تغلبهم. وقيل: كان المشركون يُعيّرون رسول الله والمسلمين بالفقر، حتى سبق إلى وهمه أنهم رَغِبُوا عن الإسلام لافتقار أهله، فذكّره ما أنعم به عليه من جلائل النعم، ثم قال:
322
﴿فإِنَّ مع العسكر يُسراً﴾ كأنه قال: خوّلناك ما خوّلناك فلا تيأس من فضل الله، ﴿إِنَّ مع العسر﴾ الذي أنتم فيه ﴿يُسراً﴾، وجيء بلفظ " مع " لغاية مقارنة اليسر للعسر؛ زيادةً في التسلية وتقوية لقلبه صلى الله عليه وسلم، وكذلك تكريره، وإنما قال ﷺ عند نزولها: " لن يغلب عسر يسرين " لأنَّ العسر أعيد مُعرّفاً فكان واحداً، لأنّ المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى، واليُسر أعيد نكرة، والنكرة إذا أُعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى، فصار المعنى: إنَّ مع العُسر يسريْن، وبعضهم يكتبه بياءين، ولا وجه له.
﴿فإِذا فرغتَ﴾ من التبليغ أو الغزو ﴿فانصبْ﴾ ؛ فاجتهد في العبادة، وأَتعب نفسك شكراً لما أولاك من النِعم السابقة، ووعدك من الآلاء اللاحقة، أو: فإذا فرغت من دعوة الخلق فاجتهد في عبادة الحق، وقيل: فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء، أو: إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب في الشفاعة، أي: في سبب استحقاق الشفاعة، ﴿وإِلى ربك فارغبْ﴾ في السؤال، ولا تسأل غيره، فإنه القادر على إسعافك لا غيره. وقُرىء: " فرغِّب " أي: الناس إلى ما عنده.
الإشارة: ما قيل للرسول ﷺ من تعديد النعم عليه واستقراره بها، يُقال لخليفته العارف الداعي إلى الله، حرفاً بحرف، فيقال له: ألم نُوسع صدرك لمعرفتي، ووضعنا عنك أوزارك حين توجهتَ إلينا، أو: وضعنا عنك أثقال السير، فحملناك إلينا، فكنت محمولاً لا حاملاً، ورفعنا لك ذكرك حين هيأناك للدعوة، بعد أن أخملنا ذكرك حين كنت في السير لئلا يشغلك الناسُ عنا، فإنَّ مع عسر المجاهدة يُسر المشاهدة، فإذا فرغت من الدعوة والتذكير، فأَتْعِب نفسك في العكوف في الحضرة، أو: فإذا فرغت مِن كمالك فانصب في تكميل غيرك، وارغب في هداية الخلق. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
323
سورة التين
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والتينِ والزيتونِ﴾، أقسم بهما تعالى لِما فيهما من المنافع الجمّة. رُوي أنه ﷺ أُهْدِي له طبقٌ من تينٍ فأكل منه، وقال لأصحابه: " كُلوا، فلو قلتُ إنَّ فاكهةً نزلت من الجنة لقُلتُ هذه، لأن فاكهة الجنة، بلا عَجَمِ، فكلوها فإنها تقْطَعُ البواسير، وتنفَعُ من النقْرسِ ". وهو أيضاً فاكهة طيبة لا فضل له، وغذاء لطيف سريع الهضم، كثير النفع، ملين الطبع، ويحلل البلغم، ويُطهر الكليتين، ويزيل ما في المثانة من الرمل، ويسمن البدن، ويفتح سُرد الكبد والطحال. وعن عليّ بن موسى الرضا: التين يزيل نكهة الفم، ويطيل الشعر، وهو أمان من الفالج. هـ.
وأمّا الزيتون فهو فاكهة وإدام ودواء، ولو لم يكن له سوى اختصاصه بدُهن كثير المنافع لكفى به فضلاً. وشجرته هي الشجرة المباركة، المشهود لها في التنزيل. ومرّ معاذُ بن جبل بشجرة الزيتون، فأخذ منها قضيباً واستاك به. وقال: سمعتُ النبي ﷺ يقول: " نعم السواك الزيتون، هي الشجرة المباركة، يطيب الفم، ويذهب بالحفرة " وقال: " هو سواكي وسواك الأنبياء قبلي " وعن ابن عباس: هو تينكم هذا، وزيتونكم هذا. وقيل: هما جبلان بالشام ينبتانهما.
﴿وطُورِ سينينَ﴾، أضيف الطور وهو الجبل إلى " سينين " وهو البقعة، وهو الجبل
324
الذي ناجى موسى عليه السلام ربَّه عليه، ويُقال له: سينين وسيناء. ﴿وهذا البلد الأمين﴾ وهو مكة، شرّفها الله، وأمانتها أنها تحفظ مَن دخلها كما يحفظ الأمين ما يُؤتمن عليه. ووجه الإقسام بهاتين البقعتين المباركتين المشحونتين بخيرات الدنيا والآخرة غني عن الشرح والتبيين.
وجواب القسم: ﴿لقد خلقنا الإِنسانَ﴾ أي: جنس الإنسان ﴿في أحسن تقويمٍ﴾ أي: كائناً في أحسن ما يكون من التقويم والتعديل صورةً ومعنى، حيث جعله اللهُ مستوي القامة، متناسب الأعضاء، متصفاً بصفات البارىء تعالى من القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ الله خلق آدم على صورته "، وفي رواية: " على صورة الرحمن " على بعض الأقوال. وشرح عجائب الإنسان يطول.
﴿
ثم رددناه أسفلَ سافلين﴾
أي: جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح، وأسفل من كل سافل، لعدم جريانه على موجب ما خَلَقَه عليه من الصفات، التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين. وقيل: رددناه إلى أرذل العمر، وهو الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القدرة، كقوله تعالى: ﴿وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ﴾ [يَس: ٦٨] أي: ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتعديل أسفلَ مَن سفُلَ في حُسن الصورة والشكل حيث ننكسه في خلقه، فقوَّس ظهره بعد اعتداله، وابْيَضَّ شعره بعد سواده، وتكمش جلده، وكَلّ سمعه وبصره. ﴿إِلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾، استثناء متصل على التفسير الأول، ومنقطع على الثاني، ﴿فلهم أجرٌ غيرُ ممنونٍ﴾ أي: رددناه أسفل السافلين إلاَّ مَن آمن، أو: لكن الذين آمنوا وكانوا صالحين من الهرمى، فلهم ثواب غير منقطع، لطاعتهم وصبرهم على الشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاقّ والقيام بالعبادة، خصوصاً وقت الكبر. وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفّف الله حسابه، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة، فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء، فإذا بلغ ثمانين كُتبت حسناته وتجاوز الله عن سيئاته، فإذا بلغ تسعين غُفرت ذنوبه، وشفع في أهل بيته، وكان أسير الله في أرضه، فإذا بلغ مائة ولم يعمل كتب له ما كان يعمله في صحته وشبابه ". ودخلت الفاء هنا دون سورة الانشقاق للجمع بين المعنيين هنا. قاله النسفي. والخطاب في قوله: ﴿فما يُكَذِّبُك بعدُ بالدين﴾ للإنسان، على طريقة الالتفات، أي: فما سبب تكذيبك بعد هذا البيان القاطع، والبرهان الساطع بالجزاء، والمعنى: إنَّ خلق الإنسان من نطفةٍ، وتسويته بشراً سويًّا، وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي،
325
ثمّ تنكيسه إلى أن يبلغَ أرذلَ العمر، لا ترى دليلاً أوضح منه على قدرة الخالق، وأنَّ مَن قدر على خلق الإنسان على هذا النمط العجيب لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك بالجزاء؟ ! أو: بالرسول صلى الله عليه وسلم: أي: فمَن ينسبك إلى الكذب بعد هذا الدليل القاطع؟
﴿أليس اللهُ بأحكم الحاكمين﴾ وعيد للكفار، وأنّه يحكم عليهم بما هو أهله، وهو من الحُكم والقضاء، أي: أليس الله بأفضل الفاصلين فيفصل بينك وبين مكذِّبِيك. وقيل: مِن الحِكمة، بمعنى الإتقان، أي: أليس مَن خلق الإنسان وصوّره في أحسن تقويم بأحكم الحكماء. وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال: " بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين ". الإشارة: حاصل ما ذكره القشيري: أنه تعالى أقسم بأربعة أشياء، لغاية شرفها؛ الأولى شجرة القلب التينية المثمِرة للعلوم اللدنية الخالصة عن نوى الشكوك العقلية والشبهة الوهمية، والثانية: شجرة الروح المستضيئة من نور السر لكمال استعدادها، وإليه الإشاره بقوله: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِياءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ [النور: ٣٥] الخ. والثالثة: شجرة السر، الذي هو طور التجلِّي محل المشاهدة والمكالمة والمناجاة. والرابعة: البلد الأمين، الذي هو حال التلبيس والخفاء، بعد التمكين، وهو الرجوع للأسباب، قياماً بآداب الحكمة ورسم العبودية، وهو مقام الكملة. والمقسَم عليه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أحسن تقويم﴾ قال القشيري: أي: في المظهر الأكمل والأتم، والمحل الأعم، حامل الأمانة الإلهية، وصاحب الصورة الرحمانية، روحانيته أُم الروحانيات، وطبيعته أجمع الأمزجة وأعدلها، ونشأته أوسع النشآت وأشملها. هـ. قلت: وإليه أشار الششتري بقوله:
وفيك يطوى ما انتشر من الأواني
وقول الشاعر:
يا تَائهاً في مهمهٍ عَنْ سِرِّه
انْظُرْ تجِدْ فِيكَ الوجودَ بأَسْره
أنْتَ الكمَالُ طَرِيقَةً وحَقِيقَةً
يا جَامِعاً سِرَّ الإلّهِ بأسره
وقال في لطائف المنن، حاكياً عن شيخة أبي العباس المرسي: قرأتُ ليلة ﴿والتين والزيتون﴾ إلى أن انتهيت إلى قوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين﴾ ففكرتُ في معنى الآية، فكشف لي عن اللوح المحفوظ، فإذا فيه مكتوب: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى أحسن تقويم روحاً وعقلاً، ثم رددنا أسفل سافلين نفساً وهوى. هـ. فقوله تعالى: ﴿إلاّ الذين آمنوا..﴾ الخ؛ هم أهل الروح والعقل، الباقون في حسن التقويم، وغيرهم أهل النفس والهوى، والله تعالى أعلم. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
326
سورة العلق
يقول الحق جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم، في أول الوحي: ﴿اقرأ باسم ربك﴾ أي: اقرأ هذا القرآن مفتتحاً باسم ربك، أو مستعيناً به، فالجار في محل الحال. ويحتمل أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو باسم ربك، كأنه قيل له: اقرأ هذا اللفظ. والتعرُّض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئاً فشيئاً مع الإضافة إلى ضميره ﷺ للإشعار بتبليغه عليه السلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية والروحانية بإنزال الوحي المشتمل على نهاية العلوم والحكم. وقوله تعالى: ﴿الذي خلقَ﴾ صفة للرب، ولم يذكر له مفعولاً؛ لأنَّ المعنى: الذي حصل منه الخلق، واستأثر به، لا خالق سواه، أو تقديره: خلق كلَّ شيء، فتناول كلَّ مخلوق؛ لأنه مطلق، فليس بعض المخلوقات بتقديره أولى من البعض.
وقوله تعالى: ﴿خَلَق الإِنسانَ﴾ بتخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله لشرفه، ولأنَّ التنزيل إنما هو إليه، ويجوز أن يُراد: الذي خلق الإنسان، إلاَّ أنه ذكر مبهماً، ثم فسّر تفخيماً لخلقه، ودلالةً على عجيب فطرته. قيل: لمَّا ذكر فيما قبل أنه خلق الإِنسَانَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثم ذكر ما عرض له بعد ذلك، ذكره هنا منبهاً على شيءٍ من أطواره، وذكر نعمته عليه، ثم ذكر طغيانه بعد ذلك، وما يؤول إليه حاله في الآخرة، فإنه تفسير لقوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيا أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين: ٤، ٥]، ثم ذكر أصل نشأته بقوله: ﴿مِن علقٍ﴾ ولم يقل من علقة؛ لأنَّ الإنسان في معنى الجمع. وفيه
327
إشارة إلى أنَّ ابتداء الدين كابتداء خلق الإنسان، كان ضعيفاً ثم تقوّى شيئاً فشيئاً حتى انتهى كماله.
ثم كرّر الأمر بالقراءة بقوله: ﴿اقرأْ﴾ أي: افعل ما أُمرتَ به، تأكيداً للإيجاب وتمهيداً لقوله: ﴿وربُّك الأكرمُ﴾ فإنه كلام مستأنف، وارد لإزاحة ما أظهر عليه السلام من العُذر بقوله: " ما أنا بقارىء " يريد أنّ القراءة من شأن مَن يكتب ويقرأ، وأنا أمي، فقيل له: ﴿وربك﴾ الذي أمرك بالقراءة مستعيناً باسمه هو ﴿الأكرم﴾ أي: مِن كل كريم، يُنعم على عباده بغاية النعم، ويحلم عنهم إذا عصوه، فلا يعاجلهم بالنقم، فليس وراء التكرُّم بهذه الفوائد العظيمة تكرُّم. ﴿الذي عَلَّم﴾ الكتابة ﴿بالقلم عَلَّم الإِنسانَ مَا لَمْ يعلم﴾ فدلّ على كمال كرمه بأنه علَّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم. ونبّه على فضل علم الكتابة لِما فيه من المنافع العظيمة، وما دُوّنت العلوم ولا قُيّدت الحِكم ولا ضُبِطت أخبار الأولين، ولا كُتب الله المنزّلة، إلاَّ بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى دليل إلاّ أمر القلم والخطّ لكفى به وفي ذلك يقول ابن عاشر الفاسي:
لله في خلقه مِن صنعه عجبُ
كادت حقائقُ في الوجود تنقلب
كلم بعين تُرى لا الأذنُ تسمعها
خطابُها حاضر وأهلها ذهبوا
الإشارة: اقرأ بربك لتكون به في جميع أمورك، الذي أظهر الأشياء ليُعرف بها، وأظهر المظهر الأكبر ـ وهو الإنسان ـ من علقة مهينة، ثم رفعه بالعلم إلى أعلى عليين، فرفعه من حضيض النطفة الخبيثة إلى ارتفاع العلم والمعرفة، ولذلكم قال: (اقرأ وربك الأكرم) الذي تكرَّم عليك وعَلَّمَكَ ما لم تكن تعلم، الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان مَا لَمْ يكن يعلم. والله تعالى أعلم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿كلاَّ﴾، هو ردع لمحذوف، دلّ الكلام عليه، كأنه قيل: خلقنا الإنسان من علق، وعلّمته ما لم يعلم ليشكر تلك النعمة الجليلة، فكفر وطغى، كلا لينزجر عن ذلك ﴿إِنَّ الإِنسان ليطغى﴾ ؛ يجاوز الحد ويستكبر عن ربه. قيل: هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل بعد زمان، وهو الظاهر. وقوله: ﴿أن رآه استغنى﴾ مفعول له،
328
أي: ليطغى لرؤية نفسه مستغنياً، على أنَّ " استغنى " مفعول لرأى، لأنه بمعنى عَلِم، ولذلك شاع كون فاعله ومفعوله ضميريْ واحد كما في " ظننتني وعَلِمتني " وإن جوّزه بعضهم في الرؤية البصرية أيضاً، وجعل من ذلك قول عائشة رضي الله عنها: " رأيتني مع رسول الله ﷺ وما لنا طعام إلا الأسودان، الماء والتمر "، والمشهور أنه خاص بأفعال القلوب. وحاصل الآية: أن سبب طغيان الإنسان هو استغناؤه بالمال، وسبب تواضعه هو فقره.
ثم هدّد الإنسان وحذّره من عاقبة الطغيان، على طريق الالتفات، فقال: ﴿إِنَّ إِلى ربك الرُّجعى﴾ أي: الرجوع، فيجازيك على طغيانك. ﴿أرأيت الذي ينهَى عبداً إِذا صلَّى﴾ أي: أرأيت أبا جهل ينهى محمداً ﷺ عن الصلاة، وهو تشنيع بحاله، وتعجيب منها، وإيذان بأنه من البشاعة والغرابة بحيث يراها كل مَن يأتي منه الرؤية. رُوي أنَّ أبا جهل كان في ملأ من قريش، فقال: لئن رأيت محمداً لأطأنّ عنقه، فرأه ﷺ في الصلاة، فجاءه، ثم نكص على عقبيه، فقالوا: مالك؟ فقال: حال بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة، فنزلت، فقال صلى الله عليه وسلم: " لو دنا من لاختطفته الملائكة ". وتنكير العبد تفخيم لشأنه صلى الله عليه وسلم، والرؤية هنا بصرية، وأمّا في قوله: ﴿أرأيت إن كان على الهدى أو أّمَرَ بالتقوى﴾ وفي قوله: ﴿أرأيتَ إِن كَذَّب وتولَّى﴾ فعلمية، أي: أخبرني فإنَّ الرؤية لمَّا كانت سبباً للإخبار عن المرائي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها. والخطاب لكل مَن يصلح للخطاب.
قال في الكشاف: قوله تعالى: (الذي ينهى) هو المفعول الأول لقوله: (أرأيت) الأول، والجملة الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني، وكررت (أرأيت) بعد ذلك للتأكيد، فلا تحتاج إلى مفعول. وقوله: ﴿أَلَمْ يَعْلَم بأنَّ الله يرى﴾ هو جواب قوله: ﴿إن كذَّب وتولى﴾، وجواب قوله: ﴿إن كان على الهدى﴾ محذوف، يدل عليه جواب قوله: ﴿إن كذَّب وتولى﴾ فهو في المعنى جواب للشرطين معاً. والضمير في قوله: ﴿إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى﴾ للناهي، وهو أبو جهل، وكذا في قوله: ﴿إن كذَّب وتولَّى﴾، والتقدير على هذا: أخبرني عن الذي ينهى عبداً إذا صلّى إن كان هذا الناهي على الهدى أو إن كَذّب وتولّى، أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى جميع أحواله، فمقصود الآية: تهديد له وزجر، وإعلام بأنّ الله يراه. وخالفه ابن عطية في الضمائر، فقال: إنَّ الضمير في قوله: ﴿إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى﴾ للعبد الذي صلَّى، وأنّ الضمير في قوله: ﴿إن كذَّب وتولى﴾ للناهي، وخالفه في جعل " أرأيت " الثانية مكررة للتأكيد، فقال: " أرأيت " في المواضع الثلاثة توقيف، وأنّ جوابها في المواضع الثلاثة: قوله: {أَلَمْ يَعْلَم
329
بأن الله يرى} فإنه يصلح مع كل واحدة منها، ولكنه جاء في آخر الكلام اقتصاراً. انظر ابن جزي. وما قاله ابن عطية أظهر، فكأنه تعالى حاكِمٌ قد حضره الخصمان، يُخاطب هذا مرة والآخر أخرى، وكأنه قال: يا كافر إن كانت صلاته هُدى ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى، ثم أقبل على الآخر، فقال: أرأيت إن كذَّب. الخ.
وقال الغزنوي: جواب ﴿إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى﴾ محذوف، تقديره: أليس هو على الحق واتباعه واجب، يعني: فكيف تنهاه يا مكذّب، متولي عن الهدى، كافر، ألم تعلم أن الله يراك. هـ.
﴿كلاَّ﴾، ردع للناهِي عن عبادة الله ﴿لئن لم ينتهِ﴾ عما هو عليه ﴿لَنَسْفعاً بالناصيةِ﴾ ؛ لنأخذن بناصية ولنسحبنّه بها إلى النار. والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدة. وكَتْبُها في المصحف بالألف على حكم الوقف. واكتفى بلام العهد عن الإضافة للعلم بأنها ناصية المذكور، ثم بيّنها بقوله: ﴿ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ﴾ فهي بدل، وإنما صَحّ بدلها من المعرفة لوصفها، ووصفها بالكذب والخطأ على المجاز، وهما لصاحبهما. وفيه من الجزالة ما ليس في قوله: ناصية كاذب خاطىء.
﴿فَلْيَدْعُ ناديَه﴾، النادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم. رُوي أنَّ أبا جهل مرّ بالنبي ﷺ وهو يُصلّي، فقال: ألم أَنْهكَ؟ فأغلط له النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟ فنزلت. ﴿سَنَدْعُ الزبانية﴾ ليجروه إلى النار. والزبانية: الشُّرَطِ، واحدة: زِبْنِيَّة أو زِبْنى، من الزبن، وهو الدفع. عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لَوْ دَعَا نَادِيهُ لأخَذَتْه الزَّبانِيةُ عِياناً ". ﴿كلاَّ﴾، ردع لأبي جهل ﴿لا تُطِعْهُ﴾ أي: أثبت على ما أنت عليه من عصيانه، كقوله: ﴿فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) ﴾ [القلم: ٨] ﴿واسجدْ﴾ ؛ واظب على سجودك وصلاتك غير مكترث ﴿واقترب﴾ ؛ وتقرّب بذلك إلى ربك.
الإشارة: كل مَن أنكر على المتوجهين، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دائمون، يُقال في حقه: أرأيت الذي يَنهى عبدا إذا صلّى.. إلى آخر الآيات. ويُقال للمتوجه: لا تُطعه واسجد بقلبك وجوارحك، وتقرّب بذلك إلى مولاك، حتى تظفر بالوصول إليه. وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
330
سورة القدر
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر﴾، نوّه بشأن القرآن، حيث أسند إنزاله إليه بإسناده إلى نون العظمة، المنبىء عن كمال العناية به، وجاء بضميره دون اسمه الظاهر للإيذان بغاية ظهوره، كأنه حاضر في جميع الأذهان، وقيل: يعود على المقروء المأمور به في قوله: ﴿اقْرَأْ﴾ [العلق: ١] فتتصل السورة بما قبلها. وعظَّم الوقت الذي أنزله فيه بقوله: ﴿وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ليلةٌ القَدْر﴾ لِما فيه من الدلالة على أنَّ علو قدرها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يدريها إلاّ علاَّم الغيوب، كما يُشعر به قوله تعالى: ﴿ليلةُ القدر خيرٌ مِنْ ألف شهرٍ﴾ أي: ليس فيها ليلة القدر، فإنه بيان إجمالي لشأنها إثر تشويقه ﷺ إلى درايتها، فإنَّ ذلك مُعْرِب عن الوعد بإدرائها على ما تقدّم. وفي إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التفخيم ما لا يخفى.
والمراد بإنزاله: إمّا إنزاله كله إلى سماء الدنيا، كما رُوي أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزل نجوماً في ثلاثٍ وعشرين سنة، وإمّا ابتداء نزوله، وهو الأظهر. وسُميت ليلة القدر لتقدير الأمور فيها، وإبراز ما قضى تلك السنة، لقوله تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) ﴾ [الدخان: ٤]، فالقَدْر بمعنى التقدير، أو لشرفها على سائر الليالي، فالقَدْر بمعنى الشرف، وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان على المشهورِ. لما رُوي أنَّ أُبي بن كعب كان يحلف أنها ليلة السابع والعشرين، وقيل غير ذلك ومظان التماسها في الأوتار من العشر الأواخر. ولعل السر
331
في إخفائها تعرض مَن يريدها للثواب الكثير بإحياء الليالي في طلبها، وهذا كإخفاء الصلاة الوسطى، واسمه الأعظم، وساعة الجمعة، ورضاه في الطاعات، وغضبه في المعاصي، وولايته في خلقه ليحسن الظن بالجميع.
وتخصيص الألف بالذكر إمّا للتكثير، أو لما رُوي عنه ﷺ أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأُعطوا ليلةَ القدر هي خيرٌ من عمل ذل الغازي. وقيل: أن النبي ﷺ أري أعمار الأمم كافة، فاستقصر أعمار أمته، فخاف ألاّ يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم، فأعطاه الله ليلة القدر، جعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم. وقيل: كان مُلك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فجعل الله هذه الليلة لِمن قامها خيراً من ملكيهما.
ثم بيّن وجه فضلها، فقال: ﴿تَنزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها﴾، والروح إمّا جبريل عليه السلام، أو خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلاّ تلك الليلة، أو الرحمة. والمراد بتنزلهم: نزولهم إلى الأرض يُسلمون على الناس ويؤمِّنون على دعائهم، كما في الأثر. وقيل: إلى سماء الدنيا. وقوله: ﴿بإِذنِ ربهم﴾ يتعلق بـ " تنزلُ "، أو بمحذوف هو حال من فاعله، أي: ملتبسين بأمر ربهم، أو: ينزلون بإذنه، ﴿من كل أمرٍ﴾ أي: من أجل كل أمر قضاه الله تعالى لتلك السنة إلى قابل، رُوي أنَّ الله تعالى يُعْلِم الملائكة بكل ما يكون في ذلك العام كله، وقيل: يَبرز ذلك مِن علم الغيب ليلة النصف من شعبان، ويُعْطَى الملائكةً ليلة القدر، فلما كان أهم نزولهم هذا الأمر جعل نزولهم لأجله، فلا ينافي كون نزولهم للتسليم على الناس والتأمين، كما قال تعالى: ﴿سلامٌ هيَ﴾ أي: ما هي إلاَّ سلام على المؤمنين، جعلها نفس السلام لكثرة ما يُسلِّمون على الناس، فقد رُوي أنهم يُسلِّمومن على كل قائم وقاعد وقارىء ومُصَلِّ، أو: ما هي إلاِّ سلامة، أي: لا يُقَدِّر الله تعالى فيها إلاّ السلامة والخير، وأمّا في غيرها فيقضي سلامةً وبلاء، وقال ابن عباس: قوله: (هي) إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين؛ لأنّ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات السورة.
ثم ذكر غايتها، فقال: ﴿حتى مطلَعِ الفجر﴾ أي: تنتهي إلى طلوع الفجر، أو: تُسلِّم الملائكة إلى مطلع الفجر، أو: تنزل الملائكة فوجاً بعد فوج إلى طلوع الفجر. و " مَطْلَع " بالفتح: اسم زمان، وبالكسر مصدر، أو اسم زمان على غير قياس؛ لأنّ ما يضم مضارعه أو يفتح يتحد فيه الزمان والمكان والمصدر، يعني " مَفْعَل " في الجميع.
الإشارة: أهل القلوب من العارفين، الأوقاتُ كلها عندهم ليلة القدر، والأماكن عندهم كلها عرفات، والأيام كلها جمعات، لأنّ المقصود من تعظيم الزمان والمكان هو باعتبار ما يقع فيه من التقريب والكشف والعيان، والأوقات والأماكن عند العارفين كلها سواء في هذا المعنى، كما قال شاعرهم:
332
لولا شهودُ جمالكم في ذاتي
ما كنتُ أَرْضَى ساعة بِحَياتي
ما ليلةُ القدرُ المعظَّم شأنُها
إلاَّ إذا عمرَتْ بكُم أوقَاتِي
إنَّ المحبَّ إذا تمكَّنَ في الهَوَى
والحب لم يَحْتَجْ إلى ميقاتِ
وقال آخر:
وكل الليالي ليلةُ القدر إن بدا
كما كلُّ أيام اللقا يومُ جمعةِ
وسعيٌ له حجٌّ، به كلُّ وقفةٍ
على بابه قد عادلت ألف وقفةِ
وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: نحن ـ والحمد الله ـ أوقاتنا كلها ليلة القدر. هـ. لأنَّ عبادتهم كلها قلبية، بين فكرة واعتبار، وشهود واستبصار، و " فكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة "، كما في الأثر، بل فكرة العيان تزيد على ذلك، كما قال الشاعر:
كلُّ وَقتٍ مِنْ حَبيبيِ
قَدْرُه كَأَلْفِ حَجَّهْ
وقد يقال: ثواب هذه العبادة كشف الحجاب، وشهود الذات الأقدسن هو لا يقاس بمقياس. وبالله التوفيق. وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
333
سورة البينة
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: بالرسول وبما أنزل عليه ﴿من أهل الكتاب﴾ اليهود والنصارى، ﴿والمشركين﴾ ؛ عبَدة الأصنام ﴿منفكِّين﴾ منفصلين عن الكفر، وحذف لأنَّ صلة " الذين " يدل عليه، ﴿حتى تأتِيَهم البَيِّنَةُ﴾ الحجة الواضحة، وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم. يقول: لم يتركوا كفرهم حتى بُعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلمّا بُعِثَ أسلم بعض، وثبت على الكفر بعض. أو: لم يكونوا منفكين، أي: زائلين عن دينهم حتى تأتيَهم البَينة ببطلان ما هم عليه، فتقوم الحجة عليهم. أو: لم يكونوا لينفصلوا عن الدنيا حتى بَعَثَ اللهُ محمداً فقامت عليهم الحجة، وإلاّ لقالوا: ﴿لَوْلاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً... ﴾ [طه: ١٣٤] الآية.
وتلك البينة هي ﴿رسولٌ من الله﴾ أي: محمد ﷺ وهو بدل من " البينة " ﴿يتلو﴾ يقرأ عليهم ﴿صُحفاً﴾ كتباً ﴿مُطَهَّرةً﴾ من الباطل والزور والكذب، والمراد: يتلو ما يتضمنه المكتوب في الصحف، وهو القرآن، يدل على ذلك أنه ﷺ كان يتلو القرآن عن ظهر قلبه، ولم يكن يقرأ مكتوباً؛ لأنه كان أُميًّا لا يكتب ولا يقرأ الصحف، ولكنه لَمَّا كان تالياً معنى ما في الصُحف فكأنه قد تلى الصُحف. ثم بيّن ما في الصُحف، فقال: ﴿فيها﴾ أي: في الصُحف ﴿كُتب قَيِّمةٌ﴾ مستقيمة ناطقةٌ بالحق والعدل. ولَمّا كان القرآن جامعاً لِما في الكتب المتقدمة صدق أنَّ فيه كُتباً قيمة.
334
﴿وما تَفَرَّقَ الذين أُوتوا الكتاب إِلاَّ مِن بعد ما جاءتهم البينةٌ﴾ أي: وما اختلفوا في نبوة محمد ﷺ إلاَّ مِن بعد ما عَلِموا أنه حق، فمنهم مَن أنكر حسداً، ومنهم مَن آمن. وإنّما أفرد أهل الكتاب بعدما جمع إولاً بينهم وبين المشركين؛ لأنهم كانوا على علمٍ به؛ لوجوده في كتبهم، فإذا وُصفوا بالتفرُّق عنه كان مَن لا كتاب له أدخل في هذا. وقيل: المعنى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل الكتاب والمشركين منفكين، أي: منفصلين عن معرفة نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى بعثه الله.
﴿
وما أُمروا إِلاَّ ليعبدوا اللهَ﴾
أي: ما أُمروا في التوراة والإنجيل إلاّ لأجل أن يعبدوا الله وحده من غير شرك ولا نفاق، ولكنهم حرّفوا وبدّلوا. وقيل: اللام بمعنى " أن " أي: إلاّ بأن يعبدوا الله ﴿مخلصين له الدينَ﴾ أي: جاعلين دينَهم خالصاً له تعالى، أو: جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين. قال ابن جُزي: استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء، وهو بعيد؛ لأنَّ الإخلاص هنا يُراد به التوحيد وترك الشرك، أو ترك الرياء. انظر كلامه، وسيأتي بعضه في الإشارة. ﴿حنفاءَ﴾ مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام، ﴿ويُقيموا الصلاةَ ويُؤتوا الزكاةَ﴾ إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة، فالأمر ظاهر، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم بالدخول في شريعتنا، ﴿وذلك دِينُ القيِّمة﴾ أي: الملة المستقيمة. والإشارة إلى ما ذكر من عبادة الله وحده وإقَام الصَّلاةِ وإيتَاءِ الزَّكاة، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعُلو رتبته وبُعد منزلته.
الإشارة: لم يكن الذين جحدوا وجودَ أهل الخصوصية من العلماء والجهّال منفكين عن ذلك حتى جاءتهم الحُجة القائمة عليهم، وهو ظهور شيخ التربية خليفة الرسول، يتلو كتابَ الله العزيز على ما ينبغي، وما تَفَرَّقوا في التصديق إلاّ بعد ظهوره. وما أُمروا إلاّ بالإخلاص وتطهير سرائرهم، وهو لا يتأتى إلاّ بصُحبته. وتكلم ابنُ جزي هنا على الإخلاص، فقال: اعلم أنَّ الأعمال على ثلاثة أنواع: مأمورات ومنهيات ومباحات؛ فأمّا المأمورات فالإخلاص فيها عبارة عن: خلوص النية لوجه الله، بحيث لا يشوبها أُخرى، فإن كانت كذلك فالعمل خالص، وإن كانت لغير وجه الله من طلب منفعة دنيوية أو مدح أو غير ذلك، فالعمل رياء محض مردود، وإن كانت النية مشتركة؛ ففي ذلك تفصيل، فيه نظر واحتمال. قلت: وقد تقدّم كلام الغزالي في سورة البقرة عند قوله: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨]، وحاصله: أنَّ الحكم للغالب وقوة الباعث. انظر لفظه.
ثم قال ابن جزي: وأمَّا المنهيات فإنْ تَرَكها دون نية خرج عن عهدتها ولم يكن له أجر في تركها، وإن تركها بنية وجه الله خرج عن عهدتها وأُجر. وأمَّا المباحات، كلأكل والشرب، والنوم والجماع وغير ذلك، فإن فَعَلَها بغير نية لم يكن له فيها أجر، وإن فَعَلَها
335
بنية وجه الله فله فيها أجر، فإنَّ كُلَّ مباح يمكن أن يصير قُربة إذا قصد به وجه الله، مثل أن يقصد بالأكل القوة على العبادة، ويقصد بالجِمَاع التعفُّف عن الحرام، وشبه ذلك. هـ.
ودرجات الإخلاص ثلاث: الأولى: أن يعبد الله لطلب غرض دنيوي أو أخروي من غير ملاحظة أحد من الخلق، والثانية: أن يعبد الله لطلب الآخرة فقط، والثالثة: أن يعبد الله عبودية ومحبة.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنّ الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين﴾ المتقدمين في أول السورة، ﴿في نارَ جهنم خالدين فيها أولئك هم شَرُّ البريَّةِ﴾ أي: الخليقة؛ لأنّ الله بَراهم، أي: أوجدهم. قُرىء بالهمزة، وهو الأصل، ويعدمه مع الإدغام، وهو الأكثر.
﴿إِنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خيرُ البريَّةِ﴾ لا غيرهم، ﴿جزاؤُهم عند ربهم جناتُ عدنٍ﴾ إقامة، ﴿تجري من تحتها الأنهارُ خالدين فيها أبداً رضى الله عنهم ورَضُوا عنه﴾ حيث بلغوا من الأماني قاصيها، وملكوا من المآرب ناصيتها، وأتيح لهم ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ﴿ذلك لِمَنْ خَشِيَ ربَّه﴾، فإنَّ الخشية التي هي مِن خصائص العلماء به مناطاة بجميع الكمالات العلمية والعملية، المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية. والتعرُّض لعنوان الربوبية، المعربة عن المالكية والتربية؛ للإشعار بعلو الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية. قاله ابو السعود.
وقوله: ﴿خير البرية﴾ يدل على فضل المؤمنين من البشر على الملائكة. وفيه تفصيل تقدّم ذكره في النساء. قال القشيري: قوله تعالى: ﴿خير البرية﴾ يدل على أنهم أفضل من الملائكة. هـ. قال في الحاشية: أي: في الجملة، ثم ذكر حكاية الرجل الذي أحياه الله بعد موته بدعوة عيسى، فقال: إنه كان في الجنة، وأنه مرّ بملأ من الملائكة، وهم يقولون: إنَّ من بني آدم لَمَنْ هو أكرم على الله من الملائكة. ثم ذكر عن نوادر الأصول: أنَّ المؤمن أكرم على الله من الملائكة المقربين، فانظره. وقال بعضهم: الملائكة عقل بلا شهوة، والبهائم شهوة بلا عقل، والآدمي فيه عقل وشهوة، فمَن غلب
336
عقلُه على شهوته كان كالملائكة أو أفضل، ومَن غلبت شهوتُه على عقله كان كالبهائم أو أضلّ. هـ.
الإشارة: مَن كفر بأهل الخصوصية مِن أهل العلم وغيرهم لهم نار الحجاب والقطيعة، ومَن آمن بهم، ودخل تحت تربيتهم، له جنات المعارف خالداً فيها، رضي الله عنهم حيث قرَّبهم إليه، ورَضُوا عنه حيث سلّموا الأمر إليه، وخشوا بعُده وطرده. قال الإمام الفخر: اعلم أنَّ العبد مُركَّب من جسد وروح، فجَنّة الجسد هي الموصوفة في القرآن، وجنة الروح هي رضا الرب. والأُولى مبدأ أمره، والثانية منتهى أمره.
وقال الورتجبي: عن الواسطي: الرضا والسخط نعتان قديمان، يجريان على الأبد بما جرى في الأزل، يظهران الوسْم على المقبولين والمطرودين. فقد بانت شواهد المقبولين بضيائها عليهم، كما بانت شواهد المطرودين بظلمتها عليهم. ثم قال عن سهل: الخشية سر والخشوع ظاهر. هـ. فالخشية محلها البواطن، والخشوع ظهور أثر الخشية في الظاهر. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.
337
سورة الزلزلة
سورة الزلزلة
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِذا زُلزلت الأرضُ﴾ أي: حُركت تحريكاً عنيفاً مكرراً متداركاً، ﴿زِلزالها﴾ أي: الزلزلة المخصوصة بها على مقتضى المشيئة الإلهية، وهو الزلزال الشديد الذي لا غاية وراءه، أو: زلزالها العجيب الذي لا يُقادر قدره. قال ابن عرفة: المراد: الأرض الأولى؛ لأنّ الثانية ليس فيها أموات. ولكن السموات عند المنجِّمين متلاصقة بعضها مع بعض، وكذلك الأرضون، وعندنا يجوز أن يكون بينهما تخلُّل، وهو ظاهر حديث الإسراء. هـ.
وذلك عند النفخة الثانية لقوله تعالى: ﴿وأخرجت الأرضُ أثقالها﴾ أي: ما في جوفها من الأموات والدفائن، جمع: ثِقُل، وهو: متاع البيت، جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها. وإظهار الأرض في موضع الإضمار لزيادة التقرير، أو: للإيماء إلى تبدُّل الأرض غير الأرض. ﴿وقال الإنسانُ﴾ أي: كل فرد مِن أفراده، لِما يدهمهم من الطامة التامة، ويبهرهم من الداهية العامة: ﴿ما لها﴾ زُلزلت هذه الزلزلة الشديدة، وأخرجت ما فيها من الأثقال، استعظاماً لِما شهدوه من الأمر الهائل، وقد سُيرت الجبال وفي الجو فصارت هباءً. وهذا قول عام يقوله المؤمن بطريق الاستعظام، والكافر بطريق التعجًّب.
338
﴿يومئذٍ تُحَدِّثُ أخبارَها﴾ يوم إذا زلزلت الأرض تُحَدِّث الناس أخبارها بما وقع على ظهرها، قيل: يُنطقها اللهُ وتُحدِّث بما وقع عليها خيرٍ وشر، رُوي عنه صلى الله عليه وسلم: " أنها تشهد على كل أحدٍ بما عمل على ظهرها " ﴿بأنّ ربك أوْحى لها﴾ أي: بسبب أنَّ ربك أوحى لها بأن تُحَدِّث، أي: أَمَرَها بذلك. والحديث يستعمل بالباء وبدونها، يقال: حدثت كذا وبكذا، و " أوحى " يتعدى باللام وبـ " إلى ".
﴿يومئذٍ﴾ أي: يوم إذ يقع ما ذكر ﴿يَصْدُر الناسُ﴾ من قبورهم إلى موقف الحساب ﴿أشتاتاً﴾ متفرقين طبقات، منهم بِيض الوجوه آمنين، ومنهم سُود الوجوه فزعين، كما في قوله تعالى: ﴿فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً﴾ [النبأ: ١٨] وقيل: يصدرون غن الموقف أشتاتاً، ذات اليمين إلى الجنة، وذات الشمال إلى النار، ﴿لِيُرَوا أعمالَهم﴾ أي: جزاء أعمالهم، خيراً أو شراً.
﴿
فمَن يعمل مثقالَ ذرةٍ خيرا يَرَهُ﴾
، والذرة: النملة الصغيرة. وقيل: ما يُرى في شعاع الشمس من البهاء. و " خيراً ": تمييز، ﴿ومن يعمل مثقالَ ذرةٍ شرا يَرَهُ﴾ قيل: هذا في الكافر، والأُولى في المؤمنين. وقال ابن عباس رضي الله عنه: ليس مؤمن ولا كافر، عَمِلَ خيراً ولا شرًّا في الدنيا إلاّ يراه في الآخرة، فأمّا المؤمن فيرى حسناته وسيئاته، فيغفر اللهُ سيئاته ويُثيبه بحسناته، وأمّا الكافر فيَرُدُّ اللهُ حسناته ويُعذبه بسيئاته. وقال محمد بن كعب: الكافر يرى ثوابه في الدنيا، في أهله وماله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير، والمؤمن يرى عقوبته في الدنيا، في نفسه وأهله وماله، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر. وفي الحديث: " إذا تاب العبدُ عن ذنبه أَنْسَى الله الحفظةَ ذنوبه، وأنسى ذلك جوارحه ومعالمه من الأرض، حتى يلقى الله وليس عليه شاهد بذنب ". قال ابن جُزي: هو على عمومه في الكافر، وأمّا المؤمنون فلا يُجْزَون بذنوبهم إلاَّ بستة شروط؛ أن تكون ذنوبهم كِبار، وأن يموتوا قبل التوبة منها، وألاَّ يكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها، وألاّ يُشفع فيهم، وألاّ يكونوا ممن استحق المغفرة بعملٍ، كأهل بدر، وإلاّ يعفو الله عنهم، فإنّ المؤمن العاصي في مشيئة الله، إن شاء عذَّبه، وإن شاء غَفَرَ له. هـ.
الإشارة: إذا زُلزلت أرضُ النفوس زلزالها اللائق بها، وحُركت بالواردات والأحوال، وتحققت الغيبة عنها بالكلية، أشرقت شمس العرفان، فغطّت وجودَ الأكوان، كما قال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه مُنشِداً:
339
فلوا عَايَنتْ عَينَاكَ يومَ تزلزلتْ
أَرضْ النفُوس ودُكت الأجْبَالُ
لرأيتَ شَمسَ الحقِّ يسطعُ نورها
يوم التزلزل والرجال رجال
وأخرجت حينئذ ما فيها من العلوم، يومئذ تُحَدِّث أخبارها: أخبار الأسرار الكامنة فيها، بأنّ ربك أوحى لها إلهاماً. يومئذ يَصْدُر الناسُ من الفناء إلى البقاء، أشتاتاً، فمنهم الغالب حقيقته، ومنهم الغالب شريعته، ومنهم المعتدل. أو: فمنهم الغالب عليه القبض والقوة، ومنهم الغالب عليه البسط والليونة، وهذا أعم نفعاً. والله أعلم. وذلك لِيُروا أعمال مجاهدتهم بالتنعُّم في مشاهدتهم، فمَن يعمل مثقال ذرة خيرا ـ بأن ينقص من نفسه عادةً في سيره ـ يرَ جزاء ذلك، ومَن يعمل مثقال ذرة شرًّا ـ بأن يزيد من الحس شيئاً في الظاهر ـ يره، فإنه ينقص من معناه في الباطن، إلاّ إذا تمكّن من الشهود. وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
340
سورة العاديات
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والعادياتِ ضَبْحاً﴾، أقسم تعالى بخيل الغزاة تعدو فتضبَح، والضبح: صوت أنفاسها إذا عَدَون، وحكى صوتها ابنُ عباس، فقال: أحْ، أحْ. وانتصاب " ضبحاً " على المصدر، أي: يضبحن ضبحاً، أو: بالعاديات، فإنَّ العَدْو يستلزم الضبح، كأنه قيل: والضابحات ضبحاً، أو: حال، أي: ضابحات. ﴿فالمُورِيات قَدْحاً﴾، الإيراء: إخراج النار، والقدح: الصكّ، يقال: قدح فأوْرى، أي: فالتي تُوري النارَ من حوافرها عند العَدْو. وانتصاب " قدحاً " كانتصاب ضبحاً. ﴿فالمُغيراتِ﴾ التي تغير على العدوّ، ﴿صُبْحاً﴾ أي: وقت الصبح، وهو المعتاد في الغارات، يعدون ليلاً لئلا يشعر بهم العدو، ويهجمون عليهم صباحاً ليروا ما يأتون وما يذرون. وإسناد الإغارة ـ التي هي متابعة العدو، والنهب والقتل والأسر ـ إلى الخيل، وهي حال الراكب عليها، إيذاناً بأنها العمدة في إغارتهم.
وقوله تعالى: ﴿فأثَرْنَ به نَقْعاً﴾ أي: غباراً، عطف على الفعل الذي دلّ عليه اسم الفاعل، إذا المعنى: واللاتي عدون فأَوْرَين فأغرن فأثرن، أي: هيّجن به غباراً، وتخصيص إثارته بالصُبح لأنه لا تظهر إثارته بالليل، كما أنَّ الإيراء الذي لا يظهر بالنهار واقع بالليل. والحاصل: أنّ العَدْو كان بالليل وبه يظهر أثر القدح من الحوافر، ولا يظهر النقع إلاّ في الصبح. ﴿فَوسَطْنَ به﴾ أي: فوسطن بذلك الوقت ﴿جَمْعاً﴾ من جموع الأعداء، والفاء
341
لترتيب ما بعد كل على ما قبله، فإنَّ توسط الجمع مترتب على الإثارة المترتب على الإغارة، المترتبة على الإيراء، والمترتب على العدْو.
وجواب القسم: قوله تعالى: ﴿إِنَّ الإِنسانَ لِربه لَكَنُود﴾ أي: لَكفور، من: كند النعمة: كَفَرها. وقيل: الكنود هو الذي يمنع رفده، ويأكل وحده، ويضرب عبده. وقيل: اللوّام لربه، يَعْد المحنَ والمصائبَ، وينسى النعم والراحات. وعلى كل حالٍ فلا يخرج عن أن يكون فسقاً أو كفراً أو تقصيراً في شكر الله على نعمه، وتقصيراً وتفريطاً في الاستعداد للقائه، وفي التعظيم لجنابه، وبالجملة فهو القليل الخير، ومنه: الأرض الكنود، التي لا تُنبت شيئاً. قال: في الحاشية الفاسية: والظاهر من سياق السورة أنّ الكنود هو مَن اهتمامه بدنياه دون آخرته، ولذلك كان حريصاً على المال، ويرتكب المشاق في جمعه، ولا يُبالي بآخرته، ولا يستعد لمآله ولا لآخرته، ولا يُقَدِّم لها، وذلك لغفلته وجهله بربه وما أراده منه، وطلبه من السعي للآخرة، وقد ضَمِنَ له رزقه، فلذلك بعد أن عدّد مذامّه هدّده ورهّبه بقوله: ﴿أفلا يعلم... ﴾ الآية. هـ.
والآية إمّا في جنس الإنسان إلاَّ مَن عصمه الله، وهو الأظهر، أو في مُعَيَّن، كالوليد أو غيره. قيل: إنّ رسول الله ﷺ بعث إلى أُناس من بني كنانة سرية، واستعمل عليها المُنذر بنَ عَمرو الأنْصاريّ، وكان أحد النقباء، فأبطأ خبره عنه ﷺ شهراً، فقال المنافقون: إنهم قُتلوا، فنزلت السورة بسلامتها، بشارةً له ﷺ ونعياً على المرجفين وهذا يقتضي أن السورة مدنية، وهو خلاف قول الجمهور، كما تقدّم. ﴿وإِنه﴾ أي: الإنسان ﴿على ذلك﴾ أي: على كنوده ﴿لَشَهِيدٌ﴾ يشهد على نفسه بالكنود، لظهور أثره عليه، ﴿وإِنه لِحُبّ الخير﴾ أي: المال ﴿لَشَدِيدٌ﴾ أي: قويٌّ مُطيق مُجد في طلبه، متهالك عليه، وقيل: لشديد: لبخيل، أي: وإنه لأجل حب المال وثقل إنفاقه عليه لبَخِيل مُمْسِك، ولعل وصفه بهذا الوصف اللئيم بعد وصفه بالكنود للإيماء إلى أنَّ مِن جملة الأمور الداعية المنافقين إلى النفاق حب المال؛ لأنهم بما يُظهرون من الإيمان يعصمون أموالهم، ويحوزون من الغنائم نصيباً.
ثم هدّد الكَنود، فقال: ﴿أفلا يعلمٌ إِذا بُعْثِر ما في القبور﴾ أي: بُعث فيها، و " ما " بمعنى " من "، ﴿وحُصِّلَ ما في الصدور﴾ ؛ مُيِّز ما فيها من الخير والشر، أي: أفلا يعلم مصيره، وأنَّ الله مُطلع عليه، في سيرته وسريرته، فيُجازيه على تفريطه في جنبه وطاعته واتباع هواه وشهواته، فآثر العاجلةَ على الآخرة، وحظوظَه، على حقوق ربه والقيام بعبوديته. ﴿إِنَّ ربهم بهم يومئذٍ لَخبير﴾ أي: عالم بظواهر ما عمِلوا وباطنه، عِلماً موجباً للجزاء، متصلاً به، كما يُنبىء عنه تقييده بذلك اليوم، إلاَّ فعلمه سبحانه مطلق محيط بما كان وما سيكون. وقوله: " بهم " و " يومئذ " يتعلقان بـ " بخبير " قُدما لرعاية الفواصل، واللام غير قادحة، وذلك لما يغتفر في المجرورات، وقرأ ابن السمّاك: " أن ربهم بهم يومئذ خبير ".
342
الإشارة: أقسم تعالى بأرواح المتوجهين، التي تعدو على الخواطر الردية، فتمحوها بقهرية المراقبة، وتقدح من زند القلب نور الفكرة والنظرة، وتُغِير على أعدائها من الدنيا والهوى والنفس والشيطان، فتقهرهم بسيوف المخالفة عند سطوع المشاهدة، وتُثير غبار المساوىء والذنوب بريح الهداية والتوبة، فيذهب في الهواء، وتوسط جمعاً من العلوم والأسرار، فتحوزهم في خزانة قلبها وسِرها، غنيمةً وذخيرةً، وجوابه: إنّ الإنسان لربه لكنود، مع أنه مغروق في النعم، وهو لا يشعر ولا يشكر، لغفلته وعدم تفكُّره، وهذا الإنسان هو الغافل الجاهل.
قال الورتجبي: الإنسانُ لا يعرف ما أعطاه الله من نعمه بالحقيقة، وإنه لكفور إذ لا يعرف مُنعمه، ثم قال عن الواسطي: الكنود يعدّ ما مِنه من الطاعات، وينسى ما مّن الله به عليه من الكرامات. هـ. وإنه على ذلك لشهيد؛ يشهد كفره وعصيانه وبُخله بحسب جبلته، وإنه لِحُب الخير لشديد، يأثره على معرفة مولاه، فخسر خسراناً مبيناً، أفلا يعلم ما يحلّ به إذا بُعثر ما في القبور، فتظهر الأبطال من الأرذال، وحُصِّل ما في الصدور من المعارف وأنواع الكمال، إنّ ربهم بهم يومئذ لخبير، فيُجازي أهلَ الإحسان وأهل الخذلان، كُلاًّ بما يليق به. وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
343
سورة القارعة
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿القارعةُ ما القارعةُ﴾ القرع هو الضرب باعتماد، بحيث يحصل منه صوت شديد، وهي القيامة التي مبدؤها النفخة الأولى، ومنتهاها فصل القضاء بين الخلائق، سُميت بها لأنها تقرع القلوب والأسماع بفنون الأفزاع والأهوال. وهي مبتدأ، خبرها: قوله: (ما القارعةُ) على أنَّ " ما " استفهامية خبر، والقارعة مبتدأ، لا بالعكس؛ لما مرّ من أنَّ محط الإفادة هو الخبر لا المبتدأ. ولا ريب في أنَّ مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا هو " ما القارعة " أيّ شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة، وقد وقع الظاهر موضع الضمير تأكيداً للتهويل. ﴿وما أدراك ما القارعةُ﴾ هو تأكيد لهولها وفضاعتها، ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق، أي: أيُّ شيء أعلمك ما شأن القارعة؟ ومن أين علمت ذلك؟ و " أدْرَى " يتعدى إلى مفعولين، علقت عن الثاني بالاستفهام.
ثم بيّن شأنها فقال: ﴿يومَ يكونُ الناسُ كالفراش المبثوثِ﴾ أي: هي يوم، على أنَّ " يوم " مبني لإضافته إلى الفعل، وإن كان مضارعاً على رأي الكوفيين، والمختار أنه منصوب باذكر، كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتها: اذكر يوم يكون الناس كالفراش المبثوث في الكثرة والانتشار والضعف والذلّة والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار. والفراش: صِغار الجراد، ويسمى: غوغاء الجراد، وبهذا يوافق قوله تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ﴾ [القمر: ٧] وقال أبو عبيدة: الفراش: طير لا بعوض ولا ذباب، والمبثوث: المتفرق. وقال الزجاج:
344
الفراش ما تراه كصغار البق يتهافت في النار. هـ. والمشهور أنه الطير الذ يتساقط في النار، ولا يزال يقتحم على المصباح، قال الكواشي: شبّه الناسَ عند البعث بالفراش لموج بعضهم في بعض، وضعفهم وكثرتهم، وركوب بعضهم بعضاً؛ لشدة ذلك اليوم، كقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتِشِرٌ﴾ [القمر: ٧] وسمي فراشاً لتفرُّشه وانتشاره وخفته. هـ. واختار بعضهم أن يكون هذا التشبيه للكفار؛ لأنهم هم الذين يتهافتون في النار تهافت الفراش المنتشر.
﴿
وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ المنفوشِ﴾
كالصوف الملون بالألوان المختلفة في تفرُّق أجزائها وتطايرها في الجو، حسبما نطق به قوله تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً... ﴾ [النمل: ٨٨] الآية، وكلا الأمرين من آثار القارعة بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق، يُبدِّل الله الأرضَ غير الأرض، بتغيير هيئاتها وتسير الجبال سيراً عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة ليشاهدها أهل المحشر، وهي وإن اندكت وتصدّعت عند النفخة الأولى، لكن تسيير وتسويتها يكونان بعد النفخة الثانية، كما ينطق به قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) ﴾ [طه: ١٠٥] الآية، ثم قال: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾ [طه: ١٠٨] وقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ﴾ [إبراهيم: ٤٨]، الآية، فإنَّ اتباع الداعي، وهو إسرافيل، وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلاَّ بعد النفخة الثانية. قاله أبو السعود. قلت: دكّ الأرض كلها مع بقاء جبالها غريبَ مع أنَّ قوله تعالى: ﴿وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ... ﴾ [الحاقة: ١٤] الخ صريح في دك الجبال وتسويتها مع دك الأرض قبل البعث، ويمكن الجمع بأن بعضها تدك مع دك الأرض، وهو ما كان في طريق ممر الناس للمحشر، وبعضها تبقى ليشاهدها أهلُ المحشر، وهو ما كان جانباً، والله تعالى أعلم بما سيفعل، وسَتَرِد وترى.
ولمّا ذكر ما يَعُمّ الناس ذَكَر ما يخص كل واحد، فقال: ﴿فأمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه﴾ باتباعه الحق، وهو جمع " موزون "، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، أو جمع ميزان، قال ابن عباس رضي الله عنه: هو ميزان له لسان وكفّتان، تُوزن فيه الأعمال، قالوا: تُوضع فيه صحائف الأعمال، فينظر إليه الخلائق، إظهاراً للمعدلة، وقطعاً للمعذرة. قال أنس: " إنَّ ملكاً يوُكّل يوم القيامة بميزان ابن آدم، يُجاء به حتى يوقف بين كفي الميزان، فيُوزن عمله، فإن ثقلت حسناته نادى بصوت يُسْمِع جميعَ الخلائق باسم الرجل: إلاَ سَعِدَ فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خفّت موازينه نادى: شَقِيَ فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً " وقيل: الوزن عبارة عن القضاء السَّوي، والحكم العَدْل، وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك، واختاره كثير من المتأخرين، قالوا: الميزان لا يتوصل به إلى معرفة مقادير الأجسام، فكيف يُمكن أن يعرف مقادير الأعمال. هـ. والمشهور أنه محسوس.
وقد رُوي عن ابن عباس أنه يُؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة، وبالأعمال
345
السيئة على صورة قبيحة، فتُوضع في الميزان، فمَن ترجحت موازين حسناته ﴿فهو في عيشةٍ راضيةٍ﴾ أي: ذات رضاً، أو مرضية، ﴿ومَن خَفَّتْ موازينُه﴾ باتباعه الباطل، فلم يكون له حسنات يُعتد بها، أوترجحت سيئاته على حسناته، ﴿فأُمُّهُ هاويةٌ﴾، هي من أسماء النار، سُميت بها لغاية عمقها، وبُعد مداها، رُوي أنَّ أهل النار يهووا فيها سبعين خريفاً. وعبَّر عن المأوى بالأم لأنَّ أهلها يأوون إليها كما يأوي الولد إلى أمه، وعن قتادة وغيره: فأم رأسه هاوية، لأنه يُطرح فيها منكوساً. والأول هو الموافق لقوله: ﴿وما أدراك مَا هِيَهْ﴾ فإنه تقرير لها بعد إبهامها، وللإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتفخيم والتهويل، وهي ضمير الهاوية، والهاء للسكت، ثبت وصلاً ووقفاً، لثبوتها في المُصحف، فينبغي الوقف ليوافق ثبوتها، ثم فسَّرها فقال: ﴿نارٌ حامية﴾ بلغت النهاية في الحرارة، قيل: وصفها بحامية تنبيهاً على أنَّ نار الدنيا بالنسبة إليها ليست بحامية؛ فإنَّ نار الدنيا جزءٌ من سبعين جزءاً منها، كما في الحديث.
الإشارة: القارعة هي سطوات تجلِّي الذات عند الاستشراف على مقام الفناء، لأنها تقرع القلوب بالحيرة والدهش في نور الكبرياء، ثم قال: ﴿يوم يكون الناس كالفراش المبثوث﴾ أو كالهباء في الهواء، إن فتشته لم تجده شيئاً ووجد الله عنده، يعني: إنَّ الخلق يصغر من جهة حسهم في نظر العارف، فلم يبعد في قلبه منهم هيبة ولا خوف. وتكون الجبال، جبال العقل، كالعهن المنفوش، أي: لا تثبت عند سطوع نور التجلِّي؛ لأنّ نور العقل ضعيف كالقمر، عند طلوع الشمس، فأمّا مَن ثقُلت موازينه بأن كان حقاً محضاَ؛ إذ لا يثقل في الميزان إلاَّ الحق، والحق لا يُصادم باطلاً إلاَّ دمغه، فهو في عيشةٍ راضيةٍ، لكونه دخل جنة المعارف، وهي الحياة الطيبة، وأمّا مَن خفّت موازينه باتباع الهوى فأُمُّه هاوية، نار القطيعة ينكس فيها ويُضم إليها، يحترق فيها بالشكوك والأوهام والخواطر، وحر التدبير والاختيار. ورُوي في بعض الأثر: إنما ثقلت موازين مَن ثقلت موازينُهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله في الدنيا، وحُقَّ لميزان لا يوضع فيه إلاَّ الحق أن يَثقل، وإنما خفَّتْ موازينُ مَن خفت موازينُهم باتباعهم الباطلِ وخفته في الدنيا، وحُق لميزان لا يُوضع فيه إلاَّ الباطل أن يخف. هـ. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
346
سورة التكاثر
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ألهاكم التكاثُر﴾ أي: شغلكم التغالب في الكثرة والتفاخر بها. رُوي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا، وتعادُّوا بالسادة والأشراف، فقال كُلُّ فريق منهم: نحن أكثر منكم سيداً، وأعز عزيزاً، وأعظم نفراً، فكثرهم بنو عبد مناف، فقالت بنو سهم: إنَّ البغي في الجاهلية أهلكنا، فعادّونا بالأحياء والأموات، ففعلوا، وقالوا: قبر فلان، وهذا قبر فلان، فكثرهم بنو سهم. والمعنى: أنكم تكاثرتم بالأحياء ﴿حتى زُرتم المقابر﴾ أي: إذا استوعبتم عددكم صرتم إلى الأموات، فعبّر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكُّماً بهم. وقيل: كانوا يزورون القبور، ويقولون هذا قبر فلان، يفتخرون بذلك، وقيل: المعنى: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد، حتى متُّم وقُبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا، معرضين عما يمهمكم من السعي للآخرة، فيكون زيارة القبور عبارة عن الموت.
قال عبد الله بن الشخِّير: قرأ النبي ﷺ ﴿ألهاكم التكاثر﴾ فقال: " يقول ابن آدم: ما لي، وليس له من ماله إلا ثلاث، ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تَصَدَّق فأبقى " وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس. واللام في (التكاثر) للعهد الذهني، وهو التكاثر بما يشغل عن الله، فلا يشمل التكاثر في العلوم والمعارف والطاعات والأخلاق، فإنَّ ذلك مطلوب؛ لأنَّ بذلك تُنال السعادة في الدارين، وقرينة ذلك قوله تعالى: ﴿ألهاكم﴾ فإنه
347
خاص بما يُلهي عن ذكر الله والاستعداد للآخرة، حتى أنه لو تناول الدنيا على ذكر الله لم تُذمّ، وليست بلهو حينئذ، ولذلك جاء: " الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلا ذِكْرَ الله وما والاه " قال الإمامُ: ولم يقل: ألهاكم التكاثر عن كذا، بل تركه مطلقاً؛ ليدخل تحته جميع ما يحتمله اللفظ، فهو أبلغ؛ لأنه يذهب فيه الوهم كُلَّ مذهب، أي: ألهاكُم عن ذكر الله، وعن التفكًّر في أمور القارعة، وعن الاستعداد لها، وغير ذلك. هـ.
وقال بان عطية في قوله: ﴿حتى زُرتم المقابرَ﴾ : عن عمرُ بنُ عبد العزيز، قال: الآية: تأنيب عن الإكثار من زيارة القبور تكثُّراً بمَن سلف وإشادة عن ذكره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " كنت نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تقولوا هُجْراً " فكان نهيه ﷺ في معنى الآية، ثم أباح بَعْدُ للاتعاظ، لا لمعنى المباهاة والافتخار، كما يصنع الناس في ملازمتها وتعليتها بالحجارة والرخام، وتلوينها شرفاً وبنيان النواويس عليها. هـ.
وقال ابن عرفة: زيارة المقابر محدودة، أي: كيوم في شهر، مثلاً، وكان بعضهم يقول: إذا رأيتم الطالب في ابتداء أمره يستكثر من زيارة المقابر، ومن مطالعة رسالة القشيري، فاعلم أنه لا يفلح؛ لاشتغاله عن طلب العلم بما لا يُجدي شيئاً. هـ. أي: لا يفوز بعلم الظاهر؛ لأنَّ علم الباطن يُفتِّر عن الظاهر، فينبغي لمَن كان فيه أهلية للعلم أن يفرده، حتى يحرز منه ما قسم له، ثم يشتغل بعلم الباطن، بصُحبة أهله، وإلاَّ فمطالعة الكتب بلا شيخ لا توصل إليه، وإنما ينال بمحبة القوم فقط، وفيها مقنع لمَن ضعفت همته.
ثم زجر عن التكاثر فقال: ﴿كَلاَّ﴾ أي: ليس الأمر على ما أنتم عليه، أو كما يتوهمه هؤلاء، فهو رَدْع وتنيبه على أنَّ العاقل ينبغي ألاَّ يكون معظم همه مقصوراً على الدنيا، فإنَّ عاقبة ذلك وخيمة، ﴿سوف تعلمون﴾ سوء عاقبة ما أنتم عليه إذا عاينتم عاقبته، ﴿ثم كّلاَّ سوف تعلمون﴾، تكرير
348
للتأكيد، و (ثم) دلالة على أنَّ الثاني أبلغ من الأول، والأول عند الموت أو في القبر، والثاني عند النشور.
﴿كَلاَّ لو تعلمون عِلمَ اليقين﴾ أي: لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين، كعلمكم ما تستيقنونه لفعلتم من الطاعات ما لا يوصف، ولا يكتنه كنهة، فحذف الجواب للتهويل. قال الفخر: الآية تهديد عظيم للعلماء، فإنها دلّت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر من الآفة لتركوا التكاثر والتفاخر، وهذا يقتضي أنَّ مَن لا يترك التكاثر والتفاخر لا يكون اليقين حاصلاً له، فالويل للعالم الذي لا يكون عاملاً، ثم الويل له. هـ. ﴿لَتَرَوُنَّ الجحيمَ﴾ : جواب قسم محذوف، أكّد به الوعيد وشدّد به التهديد، ﴿ثم لَتَرَوُنَّها﴾ : تكرير للتأكيد، أو: الأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، والثانية إذا وردوها، أو الأولى بالقلب، والثانية بالعين، ولذلك قال: ﴿عَينَ اليقين﴾ أي: الرؤية التي هي نفس اليقين وحاصلته، فإنَّ علم المشاهدة أقْصَى مراتب اليقين. ﴿ثم لتُسألُن يومئذٍ عن النعيم﴾ أي: عن النعيم الذي ألهاكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه، فإنَّ الخطاب مخصوص بمَن عكفت همته على استيفاء اللذات، ولم يعش إلاَّ ليأكل الطَيّب، ويلبس الطَيّب، وقطع أوقاته في اللهو والطرب، لا يعبأ بالعلم والعمل، ولا يحمل نفسه على مشاق الطاعة، فأمّا مَن تمتّع بنعمة الله تعالى، وتقوّى بها على طاعته، قائماً بالشكر، فهو من ذلك بمعزلٍ بعيد. وفي الحديث: " يقول الله تبارك وتعالى: ثلاث من النعم لا اسأل عبدي عن شكرهن، وأسأله عما سواه: بيت يكنُّه، وما يُقيم به صلبه من الطعام، وما يُواري به عورَته من اللباس " فالخلائق مسؤولون يوم القيامة عما أنعم عليهم به في الدنيا. والله تعالى أعلم بحالهم، فالكافر يُسأل تبكيتاً وتوبيخاً على شِركه بمَن أنعم عليه، والمؤمن يُسأل عن شكر ما أنعم عليه. هـ.
قلت: فكل مَن استعمل الأدب في تناول النعمة، بأن شَهِدَها من المنعِم بها، وذكر الله عند أخذها أو أَكْلِها، وشكر عند تمامها، فلا يتوجه إليه سؤال، أو يتوجه إظهاراً لمزيته وشرفه، وعليه يتنزّل قوله صلى الله عليه وسلم: " هذا من النعيم الذي تُسألون عنه " في حديث أبي الهيثم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد، أو بالعلوم الرسمية، عن التوجُّه إلى الله، لتحصيل معرفة العيان، حتى متُّم غافلين، كلاَّ سوف تعلمون عاقبةَ أمركم، حين يرتفع أهل العيان مع المقربين، وتبقوا معاشر أهل الدليل مع عامة أهل اليمين، كلاَّ لو تعلمون علم اليقين؛ لتوجهتم إليه بكل حال، لَترون الجحيم، أي: نار القطيعة، ثم لَترونها عين اليقين، ثم لتُسألن يومئذ عن النعيم، هل قمتم بشكره أو لا، وشكره: شهود المنعِم في النعمة، فقد رأيتُ في عالم النوم شيخين كبيرين، فقلت لهما: ما حقيقة الشكر؟ فقال أحدهما: ألاَّ يُعصى بنعمه، فقلت: هذا شكر العوام، فما شكر الخواص؟ فسكتا، فقلت لهما: شكر الخواص: الاستغراق في شهود المنعِم. هـ. وهو كذلك؛ لأنَّ عدم العصيان بالنِعم يحصل من بعض الأبرار، كالعُبَّاد والزُهَّاد، بخلاف الاستغراق في الشهود، فإنه خاص بأهل العرفان، أهل الرسوخ والتمكين، وقد تقدّم في سورة المعارج التفريق بين علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
349
سورة العصر
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والعَصْرِ﴾ أقسم تعالى بصلاة العصر لفضلها الباهر، إذ قيل: هِي الصلاة الوسطى، أو: بالعشيِّ الذي هو مابين الزوال والغروب، كما أقسم بالضُحى، أو بعصر النبوة، لظهور فضله على سائر الأعصار، أو بالدهر مطلقاً؛ لانطوائه على تعاجيب الأمور النافعة والضارة، وجوابه: ﴿إِنَّ الإِنسانَ لفي خُسْرٍ﴾ ؛ لفي خسران في متاجرهم ومساعيهم، وصرف أعمارهم في حظوظهم وأمانيهم. ﴿إلاَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات﴾ فإنهم اشتروا الآخرة بالدنيا، فربحوا وسعدوا، أو: فإنهم في تجارةٍ لن تبور، حيث باعوا الفاني الخسيس، وآثروا الباقي النفيس، واستبدلوا الباقيات الصالحات بالعاديات الرائحات، فيا لها من صفقة ما أربحها!.
وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم، وقوله تعالى: ﴿وتواصَوْا بالحق﴾ بيان لتكميلهم لغيرهم، أي: وصَّى بعضُهم بعضاً بالأمر الثابت، الذي لا سبيل إلى إنكاره، ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره، وهو الخير كله، من الإيمان بالله عزّ وجل، واتباع كتبه ورسله في كل عقد وعمل، ﴿وتواصَوْا بالصبرِ﴾ عن المعاصي التي تُساق إليها النفس الأمّارة، وعلى الطاعة التي يشق عليها أداؤها، وعلى البلية التي تتوجه إليه من جهة قهريته تعالى، وعلى النعمة بالقيام بتمام شكرها، وتخصيص هذا التواصي بالذكر، مع اندراجه تحت التواصي بالحق؛ لإبراز كمال الاعتناء به، أو: لأن الأول عبارة عن رتبة العبادة، التي هي فعل ما يُرضي الله عزّ وجل، والثاني عن العبودية التي هي الرضا بما فعل اللهُ تعالى، فإنَّ المراد ليس مجرد حبس النفس عمّا تتوق إليه من فعلٍ وترك، بل هو تلقي ما يَرِد منه تعالى بالجميل والرضا ظاهراً وباطناً. قاله أبو السعود.
350
الإشارة: والعصر، أي: عصر الذاكرين، إنَّ الإنسان لفي خُسر، حيث احتجب عن ربه بنفسه وبرؤيته وجوده، إلاّ الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا عمل الخصوص، وهو خرق العوائد واكتساب الفوائد، حتى وصلوا إلى كشف الحجاب، فلم يروا مع الله غيره، غابوا عن أنفسهم، وعن وجودهم ووجود غيرهم، في شهود محبوبهم، فلمّا تكملوا اشتغلوا بتكميل غيرهم، كما قال تعالى: ﴿وتواصَوْا بالحق﴾ أي: بفعل الحق، وهو ما يثقل على النفس، حتى لا يثقل عليها شيء، أو بالإقبال على الحق، وتواصَوْا على مشاق السير، ثم على عكوف الهم في حضرة الحق. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه، وسلم.
351
سورة الهمزة
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ويلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُمزةٍ﴾، " ويل ": مبتدأ، و " لكل ": خبره، والمُسوِّغ: الدعاء عليهم بالهلاك، أو بشدة الشر، والهَمْز: الكسر، واللمز: الطعن، أي: ويل للذي يحط الناس ويُصغِّرهم، ويشتغل بالطعن فيهم. قال ابن جزي: هو على الجملة: الذي يعيب الناسَ ويأكل أعراضَهم، واشتقاقه من الهمز واللمز، وصيغة فعْلَة للمبالغة، واختلف في الفرق بين الكلمتين، فقيل: الهمز في الحضور، واللمز في الغيبة، وقيل العكس، وقيل: الهمز باليد، واللمز باللسان. وقيل: هما سواء. ونزلت السورة في الأخنَسْ بن شريق، لأنه كان كثير الوقيعة في الناس، وقيل: في آميّة بن خلف، وقيل: في الوليد بن المغيرة. ولفظها مع ذلك يعم كل مَن اتصف بهذه الصفة. هـ. وبناء " فُعَلة " يدل أن ذلك عادة منه مستمرة.
وقوله: ﴿الذي جَمَعَ مالاً﴾ : بدل من " كل "، أو: نصب على الذم، وقرأ حمزة والشامي والكسائي " جَمَّعَ " بالتشديد للتكثير، وهو الموافق لقوله: ﴿عدَّده﴾ أي: جعله عُدَّةً لحوادث الدهر، ﴿يَحْسَبُ أنَّ مالَه أخلده﴾ أي: يتركه خالداً في الدنيا لا يموت، وهو تعريض بالعمل الصالح، فإنه أخلد صاحبه في النعيم المقيم، فأمَّا المال فما أخلد أحداً، إنما يخلد العلم والعمل، ومنه قول علِيّ كرّم الله وجه: (مات خُزّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر) فالحسبان إمّا حسبان الخلود في الدنيا أو في الآخرة، كما قال القائل: ﴿وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىا رَبِّي... ﴾ [الكهف: ٣٦] الآية.
﴿كلاَّ﴾ ردع له عن حسبانه. ﴿لَيُنْبَذَنَّ﴾ ليطرحن ﴿في الحُطَمَة﴾ في النار التي من
352
شأنها أن تحطم كلَّ ما يُلقى فيها، ﴿وما أدراك ما الحُطَمَة﴾ تهويل لشأنها، ﴿نارٌ الله الموقدة﴾ أي: هي نار الله التي تتقد بأمر الله وسلطانه، ﴿التي تَطَّلِعُ على الأفئدة﴾ يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم، وتطلع على أفئدتهم، وهي أوساط القلوب، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من فؤاده، ولا أشد تألُّماً منه بأدنى أذى يمسّه، فكيف إذا طلعت عليه نار جهنم، واستولت عليه؟ وقيل: خصّ الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الزائغة، ومعنى اطلاع النار عليها: أنها تشتمل عليها وتعمها.
﴿
إِنها عليهم﴾
أي: النار، أو الحُطَمَة، ﴿مُّؤْصَدَةٌ﴾ مُطبقة ﴿في عَمَدٍ﴾ جمع عماد. وفيه لغتان " عُمُد " بضمتين، و " عَمَد " بفتحتين، ﴿مُمَدَّدة﴾ أي: تؤصد عليهم الأبواب وتُمدّد على الأبواب العمد، استيثاقاً في استيثاق، والجار صفة لمؤصدة. وفي الحديث: " المؤمن كَيِّسٌ فَطنٌ، وقّاف متثبّت، لا يعجل، عالم، ورع، والمنافق هُمزة، لُمزة، حُطَمَة، كحاطب الليل، لا يُبالي من أين اكتسب وفيم أنفق ". الإشارة: ويل لمَن اشتغل بعيب الناس عن عيوب نفسه، قال الورتجبي: ويل الحجاب لمَن لا يرى الأشياء بعين المقادير السابقة، حتى يشتغل بالوقيعة في الخلق بالحسد، وهو مقبل على الدنيا بالجمع والمنع. هـ.
وقوله تعالى: ﴿الذي جَمَعَ مالاً وعدَّدَه﴾ ذّمٌّ لمَن يجمع المال ويُعدده، كائناً مَن كان، والعجب من صُلحاء زماننا، يجمعون القناطير المقنطرة، ويترامون على المقام الكبير من الخصوصية، وما هذا إلاَّ غلط فاحش، فأين يوجد القلب مع نجاسة الدنيا؟ ! وكيف يطهُر وتُشرق فيه الأنوار، وصور الأكوان منطبعة في مرآته؟ ! وقد قال بعض العارفين: عبادة الأغنياء كالصلاة على المزابل، وعبادة الفقراء في مساجد الحضرة. هـ. ﴿يحسب أنَّ ماله أخلدهُ﴾، أي: يبقيه بالله، كلا. قال الورتجبي: وَصَفَ الحقُّ تعالى الجاهلَ بالله بأنَّ ماله يُصله إلى الحق، لا والله، لا يصل إلى الحق إلاّ بالحق. وقال أبو بكر بن طاهر: يظن أنَّ مالَه يُوصله إلى مقام الخلد. هـ. كلاَّ، ليُنبذن في الحُطمة التي تحطم كل ما تُصادمه، وهي حب الدنيا، تحطم كل ما يُلقى في القلب من حلاوة المعاملة أو المعرفة، فلا يبقى معها نور قط، وهي نار الله الموقدة، التي تَطَّلع على الأفئدة، فتُفسد ما فيها من الإيمان والعرفان، إنها عليه مؤصدة، يعني أنَّ الدنيا مُطْبقة عليهم، حتى صارت أكبر همومهم، ومبلغ علمهم. قال الورتجبي: لله نيران، نار القهر ونار اللطف، نار قهره: إبعاد قلوب المنكرين عن ساحة جلاله، ونار لطفه نيران محبته في قلوب أوليائه من المحبين والعارفين. ثم قال: عن جعفر: ونيران المحبة إذا اتقدت في قلب المؤمن تحرق كل همّة غير الله، وكل ذِكْرٍ سوى ذكره. هـ. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
353
سورة الفيل
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿ألم تَرَ كيف فَعَلَ ربُّكَ بأصحابِ الفيل﴾ الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، أو لكل سامع، والهَمزة للتقرير، و " كيف " معلقة لفعل الرؤية، منصوبة بما بعدها. والرؤية: علمية، أي: ألم تعلم علماً ضرورياً مزاحماً للمشاهدة والعيان باستماع الأخبار المتواترة، ومعاينة الآثار الظاهرة. وتعليق الرؤية بكيفية فعله ـ عزّ وجل ـ لا بنفسه، بأن يُقال: ألم ترَ ما فعل ربُّك لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة، وهيئة عجيبة، دالة على عِظم قدرة الله عزّ وجل، وكمال عِلمه وحكمته، وعزة بيته، وشرف رسوله ﷺ فإنَّ ذلك مِن الإرهاصات له، لِما رُوي أنَّ الوقعة وقعت في السنة التي وُلد فيها صلى الله عليه وسلم.
وتفصيلها: إنَّ أُبرهة بن الصَبَّاح الأشرم، مالك اليمن من قِبل النجاشي، بنى بصنعاء كنيسة، سماها القُلَّيس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فخرج رجل من كنانة، فأحدث فيها ليلاً، وذكر الواقدي: أنَّ الرجل لطّخ قبلتها بالعذرة، ورمى فيها الجيف، قال: واسمه " نفيل الحضرمي " فغضب أبرهة، وحلف ليهدمنّ الكعبة، فخرج من الحبشة، ومعه فيل، اسمه " محمود " وكان قويًّا عظيماً، بعثه النجاشي إليه، ومعه اثنا عشر فيلاً غيره، وقيل: ثمانية، فلما بلغ " المُغَمسَ " خرج إليه عبد المطلب، وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى وعبّأ جيشه، وقدّم الفيل، فأخذ نفيل بن حبيب بأُذنه، وقال: أبرك محمود، فإنك في حرم الله، وارجع من حيث جئت راشداً، فبرك، فكان كُلما وجَّهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجَّهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول، فأرسل اللهُ عليهم سحابة من الطير خرجت من البحر، مع كل طائر حجر في منقاره، وحجر في رجليه، أكبر
354
من العدسة، وأصغر من الحمّصَةِ، فكان الحجرُ يقع على رأس الرجل، ويخرج من دُبره، وعلى كل حجر اسم مَن يقع عليه، ففرُّوا وهلكوا في كل طريق ومنهل، ورُمي أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره " أبو يسكوم "، وطائر يُحلّق فوقه، حتى بلغ النجاشي، فقصّ عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر، فخرّ ميّتاً بين يديه.
ورُوي: أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير، فخرج إليه في شأنها، فلما رآه أبرهة عَظُمَ في عينه، وكان وسيماً جسيماً، فقيل له: هذا سيّد قريش، وصاحب عير مكّة، الذي يُطعم الناس في السهل، والوحوش في رؤوس الجبال، فنزل أبرهة عن سريره، وجلس معه على بساطه، وقيل: أَجلسه معه، وقال لترجمانه: قل له: ما حاجتك؟ فلما ذكر له حاجته، وهو: أن يرد إليه إبله، قال: سَقَطت من عيني، جئتُ لأهدم البيت، الذي هو دينك ودين آبائك، وعِصمتكم، وشرفكم في قديم الدهر، لا تكلمني فيه، ألهاك عه ذود أُخذت لك؟ فقال عبد المطلب: أنا ربّ الإبل، وإنَّ للبيت ربًّا يحيمه، قال أبرهة: ما كان ليحميه مني، فقال: ها أنت وذلك. ثم رجع وأتى باب الكعبة، وأخذ بحلقته، ومعه نفر من قريش، فدعوا الله عزّ وجل، فالتفت وهو يدعو، فإذا هو بطير من نحو اليمن، فقال: والله إنها لطير غريبة، ما هي نجدية ولا تهامية، فأرسل حلقة الباب، ثم انطلق مع أصحابه ينظرون ماذا يفعل أبرهة، فأرسل الله تعالى عليهم الطير، فكان ما كان.
وقيل: كان أبرهة جد النجاشي، الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن عائشة رضي الله عنها: رأيت قائد الفيل وسائقه أعميَيْن مُقعدين يستطعمان.
وقوله تعالى: ﴿ألم يجعل كَيْدَهُمْ في تضليلٍ﴾ بيان إجمالي لما فعل اللهُ بهم، والهمزة للتقرير كما سبق، ولذلك عطف على الجملة الاستفهامية ما بعدها، كأنه قيل: جعل كيدهم للكعبة وتخريبها في تضييع وإبطال بأن دَمَّرهم أشد تدمير. يقال: ضلّ كيده، أي: جعله ضالاًّ ضائعاً، وقيل لامرىء القيس: الملِك الضلّيلِ؛ لأنه ضيّع ملك أبيه باشتغاله بالهوى.
﴿وأَرْسَل عليهم طيراً أبابيلَ﴾ أي: جماعات تجيء شيئاً بعد شيء. والجمهور: أنه لا واحد له من لفظه، كشماطيط وعبابيد، وقيل: واحدها: إبّالة. قالت عائشة رضي الله عنها: أشبهُ شيء بالخطاطيف. قال أبو الجوز: أنشأها الله في الهواء في ذلك الوقت، وقال محمد بن كعب: طيرد سود بَحرية، وقيل: إنها شبيهة بالوطواط حُمْر وسُود. ﴿ترميهم بحجارةٍ﴾ صفة لطير، ﴿من سِجّيلٍ﴾ من طين متحجر مطبوخ مثل الآجر، قال ابن عباس: " أدركت عند أم هاني نحو قفيز من هذه الحجارة ". ﴿فجعلهم كعَصْفٍ مأكولٍ﴾ كورَق زرع وقع فيه الأكل، أي: أكلته الدود، أو: كَتِبن أكلته الدواب فراثته، فجمع لهم الخسة والمهانة والتلف، أو: كتبن علفته الدواب وشتته.
355
فائدة: قال الغزالي عن غير واحد من الصالحين وأرباب القلوب: إنه مَن قرأ في ركعتي الفجر في الأولى بالفاتحة و " ألم نشرح "، والثانية بالفاتحة و " ألم تر " قََصرت يد كُل عدو عنه، ولو يُجعل لهم إليه سبيلاً، قال: وهذا صحيح لا شك فيه. ذكره في الجواهر.
الإشارة: قلب العارف هو كعبة الوجود، وهو بيت الرب، وجيوش الخواطر والوساوس تطلب تخريبه، فيحميه اللهُ منهم، كما حمى بيتَه من أبرهة، فيقال: ألم ترَ أيها السامع كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، وهم الأخلاق البهيمية والسبعية، والخواطر الردية، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طير الواردات الإلهية، فرمتهم بحجارة الأذكار وأنوار الأفكار، فأسْحقتهم فجعلتهم كعصفٍ مأكول. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
356
سورة قريش
قلت: (لإيلافِ) : متعلق بقوله: " فليعبدوا "، والفاء لِما في الكلام من معنى الشرط، إذ المعنى: أنَّ نعم الله تعالى على قريش غير محصورة، فإن لم يَعبدوا لسائر نِعَمه فليعبدوا لإيلافهم الرحلتين، وجاز أن يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها؛ لانها زائدة غير عاطفة، ولو كانت عاطفة لم يجز التقديم، وقيل: يتعلق بمُضمر، أي: فعلنا من إهلاك أصحاب الفيل لإيلاف قريش، وقيل: بما قبله من قوله: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (٥) ﴾ [الفيل: ٥]، ويؤيده: أنهما في مصحف " أُبيّ " سورة واحدة بلا فصل، والمعنى: أهلك مَن قصدهم مِن الحبشة ليتسامع الناس بذلك؛ فيتهيبوا لهم زيادة تهيُّب، ويحترموهم فضل احترام، حتى يتنظم لهم الأمن في رحلتيهم.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿لإِيلافِ قريشٍ﴾ أي: فلتعبد قريش رب هذا البيت لأجل إيلافهم الرحتلين، وكانت لقريش رحلتان، يرحلون في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، فيمتارون ويتّجرون، وكانوا في رحلتهم آمنين؛ لأنهم أهل حرم الله وولاة بيته العزيز، فلا يُتَعرّض لهم، والناس بين مختطف ومنهوب. و (الإيلاف) : مصدر، من قولهم: ألفت المكان إيلافاً وإلافاً وإلفاً. وقريش: ولد النضر بن كنانة، وقيل: ولد فهر بن مالك، سُمُّوا بتصغير القِرْش، وهو دابة عظيمة في البَحر، تعبث بالسفن فلا تطاق إلا بالنار، والتصغير للتفخيم، سُمُّوا بذلك لشدتهم ومنعتهم تشبيهاً بها. وقيل: مِن القَرْش، وهو الجمع والكسب؛ لأنهم كانوا كسّابين بتجارتهم وضربهم في البلاد.
وقوله تعالى: ﴿إِيلافهم رحلةَ الشتاءِ والصيف﴾ بدل من الأول، أطلق الإيلاف، ثم أبدل منه المقيّد بالرحلتين تفخيماً لأمر الإيلاف، وتذكيراً لعظيم هذه النعمة. و " رحلة "
357
مفعول بإيلاف، وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس.
﴿فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهم﴾ بسبب تينك الرحلتين اللتين تمكنوا منها بواسطة كونهم من جيرانه، ﴿من جوعٍ﴾ شديد كانوا فيه قبلهما. قال الكلبي: أول مَن حمل السمراء من الشام، ورحل إليها: هاشم بن عبد مناف. هـ. ولمّا بعث اللهُ نبيه، الذي هو نبي الرحمة، وأسلمت قريش، أراح اللهُ الناسَ من تعب الرحلتين، وجلبت إلى مكة الأرزاق من كل جانب، ببركة طلعته صلى الله عليه وسلم. قال مالك بن دينار: ما سقطت أُمة من عين الله إلاّ ضرب أكبادهم بالجوع. وكان عليه الصلاة والسلام يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع " والمذموم هو الجوع المفرط، الذي لم يصحبه في الباطن قوة ولا تأييد، وإلاَّ فالجوع ممدوح عند الصوفية، أعني الوسط.
ثم قال تعالى: ﴿وآمنهم من خوف﴾ أي: من خوف عظيم، وهو خوف أصحاب الفيل، أو: من خوف الناس في أسفارهم، أو: من القحط في بلدهم. وقيل: كان أصابتهم شدة حتى أكلوا الجِيَف والعظام المحرقة، فرفعه الله عنهم بدعوته صلى الله عليه وسلم، فهذا معنى: ﴿أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم من خوف﴾، وقيل: الجذام، فلا يصيبهم ببلدهم، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام بقوله: ﴿اجْعَلْ هَاذَا بَلَداً آمِناً﴾ [البقرة: ١٢٦] الآية.
الإشارة: كما أمَّن اللهُ أهل بيته أمَّن أهل نسبته، فلا تجد فقيراً متجرداً إلاّ آمناً حيث ذهب، والناس يُختطفون من حوله. قلت: وقد رأينا هذا الأمر عامَ حصر " سلامة " على تطوان، فكان كل مَن خرج من تطوان يُنتهب أو يُقتل، ونحن نذهب حيث شئنا آمنين بحفظ الله، وهذا إذا لبسوا زي أهل النسبة، من المُرقَّعة والسبحة والعصا، فإن ترك زيَّه وأُخذ فقد ظلم نفسه، وقد ترك بعضُ الفقراء زيَّه، وسافر فتكشّط، فقال له شيخه: أنت فرَّطت، والمفرط أولى بالخسارة. هـ. ويُقال لأهل النسبة: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت، أي: بيت الحضرة التي طلبتموها، أو: بيت النسبة التي سكنتم فيها، الذي أطعمكم من جوعٍ، حيثما توجتهم، مائدتكم منصوبة، وآمنكم من خوفٍ حيث سِرتم. والله تعالى أعلم، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.
358
سورة الماعون
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿أرأيت الذي يُكذِّبُ بالدين﴾ استفهام أُريد به تشويق السامع إلى معرفة مَن سبق له الكلام والتعجب منه، والخطاب للرسول ﷺ أو لكل سامع. والرؤية بمعنى المعرفة، والفاء في قوله: ﴿فذلك الذي يَدُعْ اليتيمَ﴾ : جواب شرط محذوف، والمعنى: هل عرفتَ هذا الذي يُكذِّب بالجزاء أو بالإسلام، فإنْ أردت أن تعرفه فهو الذي يَدُعُّ، أي: يدفع اليتيم دفعاً عنيفاً، ويزجره زجراً قبيحاً، قيل: هو أبو جهل، كان وصيًّا ليتيم، فأتاه عُرياناً يسأله مِن مال نفسه فدفعه دفعاً شديداً، وقيل: هو الوليد بن المغيرة، وقيل: العاص بن وائل. وقيل: أبو سفيان، نحر جزوراً فسأله يتيمٌ لحماً فقرعه بعصاه، وقيل: على عمومه. وقُرىء: " يَدَع " أي: يتركه ويجفوه. ﴿ولا يَحُضُّ﴾ أهلَه وغيرهم من الموسرين ﴿على طعام المسكين﴾ فأَولى هو لا يُطعمه، جعل علامة التكذيب بالجزاء: منع المعروف، والإقدام على أذى الضعيف؛ إذ لو آمن بالجزاء، وأيقن بالوعيد، لخشي عقاب الله وغضبه.
﴿فويل للمُصَلِّين الذي هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ﴾ غير مبالين بها، ﴿الذين هم يُراؤون﴾ الناس بأعمالهم، ليُمدحوا عليها، ﴿ويمنعونَ الماعونَ﴾ أي: الزكاة. نزلت في المنافقين؛ لأنهم كانوا يسهون عن فعل الصلاة، أي: لا يُبالون بها، لأنهم لا يعتقدون وجوبها.
قال الكواشي عن بعضهم: ليس المراد السهو الواقع في الصلاة، الذي لا يكاد يخلو منه مسلم، فإنَّ رسولَ الله ﷺ كان يسهو، ويُعضد هذا ما رُوي عن أنس أنه قال: الحمدُ لله الذي لم يقل " في صلاتهم " لأنهم لمّا قال: " عن صلاتهم " كان المعنى: أنهم
359
ساهون عنها سهو ترك وقلة مبالاة والتفات إليها، ولو قال " في صلاتهم " كان المعنى: أنّ السهو يعتريهم وهم في الصلاة، والخلوص من هذا شديد. وقيل " عن " بمعنى " في "، أي: في صلاتهم ساهون. ثم قال عن ابن عطاء: ليس في القرآن وعيد صعب إلاّ وبعده وعيد لطيف، غير قوله: ﴿فويل للمصلِّين..﴾ الآية، ذكل الويل لمَن صلاّها بلا حضور في قلبه، فكيف بمَن تركها رأساً؟ فقيل له: ما الصلاة؟ فقال: الاتصال بالله من حيث لا يعلم إلاّ الله. ثم قال الكواشي: ومما يدل على أنَّ مَن شَرَعَ في الصلاة خالصاً لله، واعترضه السهو مع تعظيمه للصلاة ولشرائع الإسلام، ليس بداخل مع هؤلاء: أنه وصفهم بقوله: ﴿الذين هم يراؤون﴾. ثم قال: وفي اجتناب الرياء صُعوبة عظيمة، وفي الحديث: " الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء، في الليلة الظلماء، على المسح الأسود " وقال بعضهم: هم الذين لا يُخلصون لله عملاً، ولا يُطالبون أنفسهم بحقيقة الإخلاص، ولا يَرِد عليهم وارد من ربهم يقطعهم عن رؤية الخلق والتزيُّن لهم. هـ.
﴿
ويمنعون الماعُونَ﴾
قيل: الماعون: كل ما يُرتفق به، كالفأس والماء والنار، ونحوها، أي: الماعون المعروف كله، حتى القِدْر والقصعة، أو: ما لا يحل منعه، كالماء والملح والنار، قالوا: ومَنْع هذه الأشياء محظور شرعاً، إذا استعيرت عن ضرورة، وقُبْح في المروءة إذا استعيرت في غير حال الاضطرار. قال عكرمة: ليس الويل لمَن منع هذه الأشياء، إنما الويل لمَن جمعها فراءى في صلاته وسهى عنها، ومَنَع هذه الأشياء. هـ.
قال ابن عزيز: الماعون في الجاهلية: كل عطية ومنفعة، والماعون في الإسلام: الزكاة والطاعة، وقيل: هو ما ينتفع به المسلم من أخيه، كالعارية والإغاثة ونحوهما، وقيل: الماعون: الماء، نقله الفراء، وفي البخاري: الماعون: المعروف كله، أعلاه الزكاة، وأدناه عارية المتاع. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الدين هو إحراز الإسلام والإيمان والإحسان، فمَن جمع هذه الثلاث تخلّص باطنه، فكان فيه الشفقة والرأفة والكرم والسخاء، وتحقق بمقام الإخلاص، وذاق حلاوة المعاملة، وأمّا مَن لم يظفر بمقام الإحسان فلا يخلو باطنه من عُنف وبُخل ودقيق رياء، ربما يصدق عليه قوله تعالى: ﴿أرأيت الذي يُكذِّب بالدين فذلك الذي يَدُعُّ اليتيم..﴾ الخ. وقال القشيري في قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ للمُصلّين الَّذِينَ هُمْ عن صلاتهم ساهون﴾ : يُشير إلى المحجوبين عن أسرار الصلاة ودقائقها، الساهين عن شهود مطالعها وطرائقها، الغافلين الجاهلين عن علومها وأحكامها، ﴿الذين هم يُراؤون﴾ في أعمالهم وأحوالهم، بنسبتها وإضافتها إلى أنفسهم الظلمانية، ﴿ويمنعون الماعون﴾ أي: ما يُفيد السالك إلى طريق الحق، من الإرشاد والنُصح، وانظر عبارته نقلتها بالمعنى. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
360
سورة الكوثر
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّا أعطيناك الكوثرَ﴾ أي: الخير الكثير، مَن شرف النبوة الجامعة لخير الدارين، والرئاسة العامة، وسعادة الدنيا والآخرة، " فَوْعل " من الكثرة، وقيل: هو نهر في الجنة، أحلى من العسل، وأشد بياضاً منَ اللبن، وأبرد من الثلج، وألين من الزبد، حافتاه: اللؤلؤ والزبرجد، وأوانيه من فضّةٍ عدد نجوم السماء، لا يظمأ مَن شرب منه أبداً، وأول وارديه: فقراء المهاجرين، الدنسو الثياب، الشعث الرؤوس، الذي لا يتزوّجون المنعَّمات، ولا يفتح لهم أبواب الشُدد ـ أي: أبواب الملوك ـ لخمولهم، يموت أحدهم وحاجته تلجلج في صدره، لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّه. هـ.
وفسَّره ابن عباس بالخير الكثير، فقيل له: إنَّ الناس يقولون: هو نهر في الجنة، فقال: النهر من ذلك الخير، وقيل: هو: كثرة أولاده وأتباعه، أو علماء أمته، أو: القرآن الحاوي لخيَري الدنيا والدين.
رُوي: أن النبي ﷺ قال: " يا رب اتخذت إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، فبماذا خصصتني؟ " فنزلت: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىا (٦) ﴾ [الضحى: ٦]، فلم يكتفِ بذلك، فنزلت: ﴿إِنَّا أعطيناك الكوثر﴾ فلم يكتفِ بذلك، وحُقَّ له ألاَّ يكتفي؛ لأنَّ القناعة من الله حرمان، والركون إلى الحال يقطع المزيد، فنزل جبريلُ، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله تبارك وتعالى يقرئك السلام، ويقول لك: إن كنتُ اتخدتُ إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً، فقد اتخذتك حبيباً، فوعزتي وجلالي لأختارن حبيبي على خليلي وكليمي، فسكن صلى الله عليه وسلم.
361
والفاء في قوله: ﴿فَصَلِّ لربك وانْحَرْ﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنَّ إعطاءه تعالى إياه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما ذكر من العطية التي لم يُعطها ولن يُعطها أحد من العالمين، مستوجبة للمأمور به أيّ استيجاب، أي: فدُم على الصلاة لربك، الذي أفاض عليك هذه النِعم الجليلة، التي لا تُضاهيها نعمة، خالصاً لوجهه، خلافاً للساهين المرائين فيها، لتقوم بحقوق شكرها، فإنَّ الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر. ﴿وانْحَرْ﴾ البُدن، التي هي خيار أموال العرب، وتصدَّق على المحاويج، خلافاً لمَن يَدَعَهم ويمنعهم ويمنع عنهم الماعون، وعن عطية: هي صلاة الفجر بجَمْعٍ، والنحر بمِنى، وقيل: صلاة العيد والضَحية، وقيل: هي جنس الصلاة، والنحر وضْعُ اليمين على الشمال تحت نحره. وقيل: هو أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره. وعن ابن عباس: استقبل القبلة بنحرك، أي: في الصلاة. وقاله الفراء والكلبي.
﴿
إِنَّ شَانِئَكَ﴾
أي: مُبغضك كانئاً مَن كان ﴿هو الأبْتَرُ﴾ الذي لا عَقِب له، حيث لم يبق له نسْل، ولا حُسن ذكر، وأمّا أنت فتبقى ذريتك، وحُسن صيتك، وآثار فضلك إلى يوم القيامة، لأنَّ كل مَن يُولد مِن المؤمنين فهم أولادك وأعقابك، وذِكْرك مرفوع على المنابر، وعلى لسان كل عالم وذاكر، إلى آخر الدهر، يبدأ بذكر الله، ويُثني بذكرك، ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان، فمثلك لا يقال فيه أبتر، إنما الأبتر شانئك المَنْسي في الدنيا والآخرة. قيل: نزلت في العاص بن وائل، كان يُسَمِّي النبيَّ ﷺ حين مات ابنه " عبد الله ": أبتر، ووقف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل له: مع مَن كنت واقفاً؟ فقال: مع ذلك الأبتر، وكذلك سمّته قريش أبتر وصُنبوراً، ولمّا قَدِمَ كعب بن الأشرف ـ لعنه الله ـ لمكة، يُحرِّض قريشاً عليه ﷺ قالوا له: نحن أهل السِّقايةِ والسِّدَانة، وأنت سَيِّدُ أهل المدينة، فنحن خير أمْ هذا الصنبور المُنْبَتِر من قومه؟ فقال: أنتم خير، فنزلت في كعب: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ..﴾ [النساء: ٥١]، الآية، ونزلت فيهم: ﴿إن شانئك هو الأبتر﴾.
الإشارة: يُقال لخليفة الرسول، الذي تَخلَّق بخُلقه، وكان على قدمه: إنَّا أعطيناك الكوثر: الخير الكثير، لأنَّ مَن ظفر بمعرفة الله فقد حاز الخير كله " ماذا فقد مَن وجدك " فَصَلّ لربك صلاة القلوب، وانحر نفسك وهواك، إنَّ شانئك ومُبغضك هو الأبتر، وأمَّا أنت فذكرك دائم، وحياتك لا تنقطع، لإنَّ موت أهل التُقى حَيَاةٌ لا فَنَاءَ بعدها. وقال الجنيد: إن شانئك هو الأبتر، إي: المنقطع عن بلوغ أمله فيك. هـ. وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله.
362
سورة الكافرون
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿قل يا أيها الكافرون﴾ المخاطَبون كفرة مخصوصون، عَلِمَ الله أنهم لا يُؤمنون. رُوي أنَّ رهطاً من صناديد قريش قالوا: يا محمد هلم تتبع ديننا ونتبع دينك، تعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة، فإن كان دينك خيراً شَرَكْناك فيه، وإن كان ديننا خيراً شركتنا في أمرنا، فقال: " معاذ الله أن نُشرك بالله غيره " فنزلت، فغدا إلى المسجد الحرام، وفيه الملأ من قريش، فقرأها عليهم، فأيسوا.
أي: قل لهم: ﴿لاَ أعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ فيما يُستقبل؛ لأنَّ " لا " إذا دخلت على المضارع خلصته للاستقبال، أي: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ﴿ولا أنتم عابدون ما أعبدُ﴾ أي: ولا أنتم فاعلون في الحال ما أطلب منكم من عبادة إلهي، ﴿ولا أنا عابد ما عبدتم﴾ أي: وما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، ولم يعهد مني عبادة صنم، فكيف يرجى مني في الإسلام؟ ﴿ولا أنتم عابدون ما أعبدُ﴾ أي: وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته. وقيل: إنَّ هاتين الجملتين لنفي العبادة حالاً، كما أنَّ الأوليين لنفيها استقبالاً. وإيثار " ما " في (ما أعبد) على " من "؛ لأنَّ المراد هو الوصف، كأنه قيل: ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يُقادر قدر عظمته. وقيل " ما " مصدرية، أي: لا أعبد عبادتكم، ولا تعبدون عبادتي، وقيل: الأوليان بمعنى " الذي "، والأخريان مصدريتان.
وقوله تعالى: ﴿لَكُمْ دينكُم وليَ دِينِ﴾ تقرير لِما تقدّم، والمعنى: إنَّ دينكم الفاسد، الذي هو الإشراك، مقصور عليكم، لا يتجاوزه إلى الحصول ليّ، كما تطمعون فيه، فلا
363
تُعلِّقوا به أطماعكم الفارغة، فإنَّ ذلك من المحالات، كما أنَّ ديني الحق لا يتجاوزني إليكم، لِما سبق لكم من الشقاء. والقصر المستفاد من تقديم المسند قصر إفراد حتماً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا طلبت العامةٌ المريدَ بالرجوع، إلى الدنيا والاشتغال بها، يُقال له: قل يا أيها الكافرون بطريق التجريد، والتي هي سبب حصول التوحيد والتفريد، لاَ أعبدُ مَا تَعْبُدُونَ من الدينا وحظوظها، أي: لا أرجع إليها فيما يُستقبل من الزمان، ولا أنتم عابدون ما أعبدُ من إفراد الحق بالمحبة والعبادة، أي: لا تقدرون على ذلك، ولا أنا عابد ما عبدتم من الدنيا في الحال، لكم دينكم المبني على تعب الأسباب، وليَ ديني المبني على التعلُّق بمسبِّب الأسباب، أو لكم دينكم المكدّر بالوساوس والخواطر والأوهام، ولي ديني الخالص الصافي، المبني على تربية اليقين، أو: لكم دينكم المبني على الاستدلال، ولي ديني المبني على العيان. أهل الدليل والبرهان عموم عند أهل الشهود والعيان، كما قال الشاذلي رضي الله عنه. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
364
سورة النصر
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِذا جاء نَصْرُ اللهِ﴾ " إذا " ظروف لِما يُستقبل، والعامل فيه: ﴿فسبِّح﴾، والنصر: الإعانة والإظهار على العدوّ، والفتح: فتح مكة، أو فتح البلاد، والإعلام بذلك قبل الوقوع من أعلام النبوة، إذا قلنا نزلت قبل الفتح، وعليه الأكثر، والمعنى: إذا جاءك نصر الله، وظَهَرْتَ على العرب، وفتح عليك مكة أو سائر بلاد العرب، فَأَكْثِر من التسبيح والاستغفار، تأهُّباً للقاء أو شكراً على النِعم، والتعبير عن حصول الفتح بالمجيء للإيذان بأنّ حصوله على جناح الوصول عن قريب.
وقيل: نزلت أيام التشريق بمِنىً في حجة الوداع، وعاش بعدها النبيُّ ﷺ ثمانين يوماً، فكلمة (إذا) حينئذ باعتبار أنَّ بعض ما في حيزها ـ أعني: رؤية دخول الناس أفواجاً ـ غير منقض بعدُ. وكان فتح مكة لعَشْرٍ من شهر رمضان، سنة ثمان، ومع النبي ﷺ عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب، وأقام بها خمس عشرة ليلة. وحين دخلها وقف على باب الكعبة، ثم قال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهَزَم الأحزابَ وحده "، ثم قال: " يا أهل مكة؛ ما ترون إني فاعل بكم؟ " قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: " اذهبوا فأنتم الطُلقاء " فأعتقهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا لهم فيئاً، ولذلك سُمي أهل مكة الطُلقاء، ثم بايعوه على الإسلام، ثم خرج إلى هوازن.
ثم قال تعالى: ﴿ورأيتَ الناسَ﴾ أي: أبصرتهم، أو علمتهم ﴿يدخلون في دينِ الله﴾ أي: ملة الإسلام، التي لا دين يُضاف إليه تعالى غيرها. والجملة على الأول: حال من " الناس "، وعلى الثاني: مفعول ثان لرأيت، و ﴿أفواجاً﴾ حال من فاعل " يدخلون " أي:
365
يدخلون جماعة بعد جماعة، تدخل القبيلة بأسرها، والقوم بأسرهم، بعدما كانوا يدخلون واحداً واحداً، وذلك أنَّ العرب كانت تقول: إذا ظفر محمدٌ بالحرم ـ وقد كان آجرهم الله من أصحاب الفيل ـ فليس لكم به يدان، فلما فُتحت مكة جاؤوا للإسلام أفواجاً بلا قتال، فقد أسلم بعد فتح مكة بَشَرٌ كثير، فكان معه في غزوة تبوك سبعون ألفاً. وقال أبو محمد بن عبد البر: لم يمت رسولُ الله ﷺ وفي العرب كافر، وقد قيل: إنَّ عدد المسلمين عند موته: مائة ألف وأربعة عشر ألفاً. هـ.
فإذا رأيتَ ما ذكر من النصر والفتح ﴿فَسَبِّح بحمد ربك﴾ أي: قل سبحان الله، حامداً له، أو: فصلّ له ﴿واستغفره﴾ تواضعاً وهضماً للنفس، أو: دُمْ على الاستغفار، ﴿إِنه كان﴾ ولم يزل ﴿تواباً﴾ ؛ كثير القبول للتوبة. روت عائشةُ رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: لَمّا فتح مكة، وأسلمت العرب، جعل يُكثر أن يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك، وأستغفرك وأتوب إليك، يتأوّل القرآن " يعني في هذه السورة. وقال لها مرة: " ما أراه إلاَّ حضور أجلي "، وتأوَّله العباس وعمر رضي الله عنهما بذلك بمحضره ﷺ فصدّقهما، ونزع هذا المنزع ابن عباس وغيره.
الإشارة: إذا جاءتك أيها المريد نصر الله لك، بأن قوّاك على خرق عوائد نفسك، وأظفرك بها (والفتح) وهو دخول مقام الفناء، وإظهار أسرار الحقائق، ورأيت الناسَ يدخلون في طريق الله أفواجاً، فسبّح بحمد ربك، أي: نزِّه ربك عن رؤية الغيرية والأثنينية في ملكه، واستغفره من رؤية وجود نفسك. قال القشيري: ويقال النصر من الله بأن أفناه عن نفسه، وأبعد عنه أحكام البشرية، وصفّاه من الكدورات النفسانية، وأمّا الفتح فهو: أن رقَّاه إلى محل الدنو، واستخلصه بخصائص الزلفة، وألبسه لباس الجمع، وعرّفه من كمال المعرفة ما كان جميع الخلق متعطشاً إليه. هـ. وقال الورتجبي (فَسَبِّح بحمد ربك) أي: سبِّحه بحمده لا بك، أي: فسبِّحه بالحمد الذي حمد به نفسه، واستغفِره من حمدك وثنائك وجميع أعمالك وعرفانك، فإنّ الكل معلول؛ إذ وصف الحدثان لا يليق بجمال الرحمن، إنه كان قابل التوب من العجز عن إدراك كنه قدسه، والاعتراف بالجهل عن معرفة حقيقة وجوده. هـ. وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
366
سورة المسد
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿تَبَّتْ﴾، أي: هلكت ﴿يَدَا أبي لهبٍ﴾ هو عبد العزى بن عبد المطلب، عم رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وإيثار لفظ التباب على الهلاك، وإسناده إلى يديه، لِما رُوي أنه لمّا نزل: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ (٢١٤) ﴾ [الشُّعَرَاء: ٢١٤] رقى رسولُ الله ﷺ الصفا، وقال: " يا صباحاه " فاجتمع إليه الناسُ من كل أوب، فقال: " يابني عبد المطلب! يابني فهر! أرأيتم إن أخبرتكم أنَّ بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي؟ " قالوا نَعَمْ، قال: " فإني نذير لكم بين يديْ عذابٍ شديدٍ " فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، ما دعوتنا إلاّ لهذا؟ وأخذ حجراً ليرميه به عليه الصلاة والسلام، فنزلت، أي: خسرت يَدَآ أَبِي لَهَبٍ ﴿وتَبَّ﴾ اي: وهلك كله، وقيل: المراد بالأول: هلاك جملته، كقوله: ﴿بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ﴾ [الحج: ١٠]. ومعنى " وتَبَّ ": وكان ذلك وحصل، ويؤيده قراءة ابن مسعود " وقد تب ". وذكر كنيته للتعريض بكونه جهنميًّا، لاشتهاره بها، ولكراهة اسمه القبيح. وقرأ المكي بسكون الهاء، تخفيفاً.
﴿ما أَغْنَى عنه مالُه وما كَسَبَ﴾ أي: لم يُغن حين حلّ به التباب، على أنّ " ما " نافية، أو: أيّ شيء أغنى عنه، على أنها استفهامية في معنى الإنكار، منصوبة بما بعدها، أي: ما أغنى عنه أصل ماله وما كسب به من الأرباح والمنافع، أو: ما كسب من الوجاهة والأتباع، أو: ماله الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه، أو: ما كسب من عمله الخبيث، الذي هو كيده في عداوته عليه الصلاة والسلام، أو: عمله الذي ظنّ أنه منه على شيء،
367
لقوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَآ إِلَىا مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً (٢٣) ﴾ [الفرقان: ٢٣]، وعن ابن عباس: " ما كسب ولده "، رُوي أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقًا فأنا أفدي منه نفسي بمالي وولدي، فاستخلص منه، وقد خاب مرجاه، وما حصل ما تمناه، فافترس ولده " عُتبة " أسدٌ في طريق الشام، وكان ﷺ دعا عليه بقوله: " اللهم سلط عليه كلباً من كلابك " وهلك هو نفسه بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال، فاجتنبه الناسُ مخالفةَ العدوى، وكانوا يخافون منها كالطاعونن فبقي ثلاثاً حتى تغيّر، ثم استأجروا بعض السودان، فحملوه، ودفنوه، فكان عاقبته كما قال تعالى:
﴿
سَيصْلى ناراً﴾
أي: سيدخل لا محالة بعد هذا العذاب الأجل ناراً ﴿ذاتَ لهبٍ﴾ أي: ناراً عظيمة ذات اشتعال وتوقُّد، وهي نار جهنم. قال أبو السعود: وليس هذا نصًّا في أنه لا يؤمن أبداً، فيكون مأموراً بالجمع بين النقيضين، فإنَّ صَلْي النار غير مختص بالكفار، فيجوز أن يُفهم من هذا أنَّ دخوله النار لفسقه ومعاصيه، لا لكفره، فلا اضطرار إلى الجواب المشهور، من أنّ ما كلفه هو الإيمان بجميع ما جاء به النبي ﷺ إجمالاً، لا الإيمان بما نطق به القرآن، حتى يلزم أن يكلف الإيمان بعدم إيمانه المستمر. هـ.
﴿وامرأتُه﴾ : عطف على المستكن في " يَصْلى " لمكان الفعل. وهي أم جميل بنت حرب، أخت أبي سفيان، وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعد، فتنثرها بالليل في طريق النبي، وكان النبيُّ ﷺ يطؤه كما يطأ الحرير. وقيل كانت تمشي بالنميمة، ويقال لمَن يمشي بالنميمة ويُفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي: يُوقد بينهم النار، وهذا معنى قوله: ﴿حمّالةَ الحطبِ﴾ بالنصب على الذم والشتم، أو: الحالية، بناء على أنَّ الإضافة غير حقيقية، لوجوب تنكير الحال، وقيل: المراد: أنها تحمل يوم القيامة حزمة من حطب جهنم كالزقوم والضريع. وعن قتادة: أنها مع كثرة مالها كانت تحمل الحطب على ظهرها، لشدة بُخلها، فعيرت بالبخل، فالنصب حينئذ على الذم حتماً. ومَن رفع فخبر عن " امرأته "، أو: خبر عن مضمر متوقف على ما قبله. وقُرىء " ومُرَيَّتُه " فالتصغير للتحقير، ﴿في جِيدِها﴾ في عُنقها ﴿حَبْلٌ من مَسَد﴾ والمسد: الذي فُتل من الحبال فتلاً شديداً، من ليف المُقْل أو من أي ليفٍ كان، وقيل: من لحاء شجر باليمن، وقد يكون من جلود الإبل وأوبارها.
قال الأصمعي: صلّى أربعة من الشعراء خلف إمام اسمه " يحيى " فقرأ: " قل هو الله أحد " فتعتع فيها، فقال أحدهم:
أكثَرَ يَحْيى غلطا
في قل هو الله أحد
368
وقال الثاني:
قام طويلاً ساكتاً
حتى إذا أعيا سجد
وقال الثالث:
يزْحَرُ في محرابه
زحيرَ حُبْلى بوتد
وقال الرابع:
كأنما لسانه
شُدّ بحبلٍ من مسد
والمعنى: في جيدها حبل مما مُسد من الحبال، وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك، وتربطها في جيدها، كما يفعل الحطّابون، تحقيراً لها، وتصويراً لها، بصورة بعض الحطّابات، لتجزع من ذلك، ويجزع بعلُها، وهما من بيت الشرف والعزّ.
رُوي أنها لمّا نزلت فيها الآية أتت بيتَه صلى الله عليه وسلم، وفي يدها حجر، فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه الصدّيق، فأعماها اللهُ عن رسول ﷺ ولم ترَ إلاّ الصدّيق، قالت: أين محمد؟ بلغني أنه يهجوني، لئن رأيته لأضربن فاه بهذا الفِهر. هـ. ومن أين ترى الشمسَ مقلةٌ عمياء، وقيل: هو تمثيل وإشارة لربطها بخذلانها عن الخير، ولذلك عظم حرصها على التكذيب والكفر. قال مُرة الهمداني: كانت أم جميل تأتي كل يوم بحزمة من حسك، فتطرحها في طريق المسلمين، فبينما هي ذات ليلة حاملة حزمة أعيت، فقعدت على حجر لتستريح، فجذبها الملك من خلفها بحبلها فاختنقت، فهلكت. هـ.
الإشارة: إنما تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ، وخسر، وافتضح في القرآن على مرور الأزمان، لأنه أول مَن أظهر الكفر والإنكار، فكان إمام المنكِرين، فكل مَن بادر بالإنكار على أهل الخصوصية انخرط في سلك أبي لهب، لا يُغني عنه مالُه وما كسب، وسيصلى نارَ القطيعة والبُعد، ذات احتراق ولهب، وامرأته، اي: نفسه، حمّالة حطب الأوزار، في جيدها حبل من مسد الخذلان. وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
369
سورة الإخلاص
قلت: ﴿هو﴾ ضمير الشأن مبتدأ، والجملة بعده خبر، ولا تحتاج إلى رابط، لأنها نفس المبتدأ، فإنها عين الشأن الذي عبّر عنه بالضمير، ورفعه من غير عائد يعود عليه؛ للإيذان بأنه الشُهرة والنباهة بحيث يستحضرة كلُّ أحد، وإليه يُشير كل مُشير، وعليه يعود كل ضمير، كما يُنبىء عنه اسم الشأن، الذي هو القصد. والسر في تصدير الجملة به للتنبيه من أول الأمر على فخامة مضمونها، وجلالة حيزها، مع ما فيه من زيادة تحقيقٍ وتقرير، فإنَّ الضمير لا يُفهم منه من أول الأمر إلاّ شأنٌ مبهم، له خطر جليلٍ، فيبقى الذهن مترقباً لِما أمامه مما يفسره ويزيل إبهامه، فيتمكن عند وروده له فضل تمكُّن. وكل جملة بعد خبره مقرِّره لِما قبلها على ما يأتي.
يقول الحق جلّ جلاله مجيباً للمشركين لَمّا قالوا: صِفْ لنا ربك الذي تدعونا إليه، وانسبه؟ فسكت عنهم ﷺ فنزلت، أو اليهود، لَمّا قالوا: صِفْ لنا ربك وانسبه، فإنه وَصَفَ نفسه في التوراة ونَسَبَها، فارتعد رسولُ الله ﷺ حتى خَرّ مغشيًّا عليه، فنزل جبريلُ عليه السلام بالسورة. ويمكن أن تنزل مرتين كما تقدّم.
فقال جلّ جلاله: ﴿قل هو اللهُ﴾ المعبود بالحق، الواجب الوجود، المستحق
370
للكمالات ﴿أحَدٌ﴾ لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لا يتبعّض ولا يتجزّأ، ولا يُحد، ولا يُحصَى، أول بلا بداية، وآخر بلا نهاية، ظاهر بالتعريف لكل أحد، باطن في ظهوره عن كل أحد.
وأصل ﴿أحد﴾ هنا " وَحَد " فأبدلت الواو همزة، وليست كأحد، الملازم للنفي، فإنَّ همزة أصلية. ووصفه تعالى بالوحدانية له ثلاث معان، الأول: أنه لا ثاني له، فهو نفي للعدد، والآخر: أنه واحد لا نظير له ولا شريك له، كما تقول: فلان واحد عصره، أي: لا نظير له، الثالث: أنه واحد لا ينقسم ولا يتبعّض. والأظهر أن المراد هنا: نفي الشريك، لقصد الرد على المشركين. انظر ابن جزي.
﴿اللهُ الصمدُ﴾ وهو فَعَلٌ بمعنى مفعول، من: صمد إليه: إذا قصده، أي: هو السيّد المصمود إليه في الحوائج، المستغني بذاته عن كل ما سواه، المفتقِر إليه كلُّ ما عداه، افتقاراً ضرورياً في كل لحظة، إذ لا قيام للأشياء إلاّ به. أو الصمد: الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال، أو: الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، والذي يُطْعِم ولا يُطْعَم ولا يأكل ولا يشرب، أو: الذي لا جوف له، وتعريفه لعلمهم بصمديته، بخلاف أحديته.
وتكرير الاسم الجليل، للإشعار بأنَّ مَن لم يتصف بذلك فهو بمعزلٍ عن استحقاق الألوهية، والتلذُّذ بذكره. وتعرية الجملة عن العاطف، لأنها كالنتيجة عن الأولى، بيَّن أولاً ألوهيته عزّ وجل، المستوجبة لجميع نعوت الكمال، ثم أحديته الموجبة لتنزّهه عن شائبة التعدد والتركيب بوجهٍ من الوجوه، وتوهم المشاركة في الحقيقة وخواصها، ثم صمديته المقتضية لاستغنائه الذاتي عما سواه، وافتقار المخلوقات إليه في وجودها وبقائها وسائر أحوالها، تحقيقاً للحق، وإرشاداً إلى التعلُّق بصمديته تعالى. ثم صرّح ببعض أحكام مندرجة تحت الأحكام السابقة، فقال: ﴿لم يلدْ﴾ أي: لم يتولد عن شيء، ردًّا على المشركين، وإبطالاً لاعتقادهم في الملائكة والمسيح، ولذلك ورد النفي على صيغة الماضي، أي: لم يصدر عنه ولد؛ لأنه لا يُجانسه شيء يمكن أن يكون له من جنسه صاحبة ليتوالدا، كما ينطق به قوله تعالى: ﴿أَنَّىا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ﴾ [الأنعام: ١٠١]، ولا يفتقر إلى ما يُعينه أو يخلفه؛ لاستحالة الحاجة عليه، لصمدانيته وغناه المطلق.
﴿ولم يُولدْ﴾ أي: لم يتولد عن شيءٍ، لا ستحالة نسبة العدم إليه سابقاً ولاحقاً. والتصريح به مع كونهم معترفين بمضمونه لتقرير ما قبله وتحقيقه، وللإشارة إلى أنهما متلازمان، إذ المعهود أنَّ ما يلد يولد، وما لا فلا، ومِن قضية الاعتراف بأنه لم يلد: الاعتراف بأنه لم يُولد، ﴿ولم يكن له كُفُواً أحَدٌ﴾ أي: ولم يكن أحد مماثلاً له ولا مشاكلاً، مِن صاحبة أو غيرها. و (له) : متعلق بـ " كُفُواً "، قدمت عليه للاهتمام بها؛ لأنَّ المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى، وأمّا تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل. ووجه
371
الوصل في هذه الجُمل غَنِي عن البيان.
هذا ولانطواء السورة الكريمة، مع تقارب قطريها، على أنواع المعارف الإلهية والأوصاف القدسية، والرد على مَن ألحد فيها، ورد في الحديث النبوي: أنها تعدل ثلث القرآن، فإنّ مقاصده منحصرة في بيان العقائد والأحكام والقصص، وقد استوفت العقائد لمَن أمعن النظر فيها. عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أُسست السموات السبع والأرضون السبع على ﴿قل هو الله أحد﴾ " أي: ما خلقت إلاَّ لتكون دلائل توحيده، ومعرفة ذاته، التي نطقت بها هذه السورة الكريمة.
وعنه ﷺ أنه سمع رجلاً يقرؤها، فقال: " " وجبت " فقيل: وما وجبت؟ فقال: " الجنة "، وشكى إليه رَجُلٌ الفقرَ وضيق المعاش، فقال له صلى الله عليه وسلم: " إذا دخلت بيتك فسَلِّم، إن كان فيه أحد، وإلا فسَلِّم عليّ واقرأ: ﴿قل هو الله أحد﴾ " ففعل الرجل، فأدرّ اللهُ عليه الرزق، حتى أفاض على جيرانه "، وخرّج الترمذي: أنَّ رسولَ الله ﷺ قال: " من قرأ ﴿قل هو الله أحد﴾ مائتي مرة في يوم غُفرت له ذنوب خمسين سنة، إلاّ أن يكون عليه دَيْن "، وفي الجامع الصغير أحاديث في فضل السورة تركناه خوف الإطناب.
الإشارة: قد اشتملت السورةُ على التوحيد الخاص، أعني: توحيد أهل العيان، وعلى التوحيد العام، أعني: توحيد أهل البرهان، فالتوحيد الخاص له مقامان: مقام الأسرار الجبروتية، ومقام الأنوار الملكوتية، فكلمة (هو) تُشير إلى مقام الأسرار اللطيفة الأصلية الجبروتية. و (الله) يشير إلى مقام الأنوار الكثيفة المتدفقة من بحر الجبروت؛ لأنّ حقيقة المشاهدة: تكثيف اللطيف، وحقيقة المعاينة: تلطيف الكثيف، فالمعاينة أرقّ، فشهود الكون أنواراً كثيفة فاضت من بحر الجبروت مشاهدة، فإذا لَطَّفها حتى اتصلت بالبحر اللطيف المحيط، وانطبق بحر الأحدية على الكل سُميت معاينةً، ووصفه تعالى بالأحدية والصمدية والتنزيه عن الولد والوالد يحتاج إلى استدلال وبرهان، وهو مقام الإيمان، والأول مقام الإحسان، فالآية من باب التدلي.
قال القشيري: يقال كاشَفَ تعالى الأسرارَ بقوله (هو) والأرواحَ بقوله: (الله) وكاشف القلوبَ بقوله: (أحد) وكاشف نفوسَ المؤمنين بباقي السورة. ويُقال: كاشف الوالهين
372
بقوله: (هو) والموحِّدين بقوله: (الله) والعارفين بقوله: (أحد) والعلماء بالباقي، ثم قال: ويُقال: خاطب خاصة الخاص بقوله: (هو) فاستقلوا، ثم خاطب الخواص بقوله (الله) فاشتغلوا، ثم زاد في البيان لمَن نزل عنهم، فقال: (أحد)، ثم نزل عنهم بالصمد، وكذلك لمَن دونهم. هـ. وقال في نوادر الأصول: هو اسم لا ضمير، من الهوية، أي: الحقيقة. انظر بقية كلامه.
سورة الفلق
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿قلْ﴾ يا محمد ﴿أعوذُ بربِّ الفلقِ﴾ أي: أتحصّن وأستجيرُ برب الفلق. والفلق: الصُبح، كالفرق، لأنه يفلق عنه الليل، فعل بمعنى مفعول. وقيل: هو كل ما يفلقه الله تعالى، كالأرض عن النبات، والجبال عن العيون، والسحاب عن الأمطار، والحب والنوى عما يخرج منهما، والبطون والفروج عما يخرج منهما، وغير ذلك مما يفلق ويخرج منه شيء. وقيل: هو جب في جهنم.
وفي تعليق العياذ بالرب، المضاف إلى الفلق، المنبىء عن النور بعد الظلمة، وعن السعة بعد الضيق، والفتق بعد الرتَق، عِدَة كريمة بإعاذة العامة مما يتعوّذ منه، وإنجائه منه وفَلْق ما عقد له من السحر وانحلاله عنه، وتقوية رجائه بتذكير بعض نظائره، ومزيد ترغيب في الاعتناء بقرع باب الالتجاء إلى الله تعالى.
قال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن العارف: والحاصل: أنَّ الإشارة بـ " هو " مختصة بأهل الاستغراق والتحقُّق في الهوية الحقيقة، فلانطباق بحر الأحدية عليهم، وانكشاف الوجود الحقيقي لديهم، فقدوا مَن يشار إليه إلاّ هو، لأنّ المُشار إليه لمّا كان واحداً كانت الإشارة مطلقة لا تكون إلاّ إليه، لفقد ما سواه في شعورهم، لفنائهم عن الرسوم البشرية بالكلية، وغيبتهم عن وجودهم، وعن إحساسهم وأوصافهم الكونية، وذلك غاية في التوحيد والإعظام. منحنا اللهُ ذلك على الدوام، وجعلنا من أهله، ببركة نبيه عليه الصلاة والسلام. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
373
ثم ذكر المتعوَّذ منه فقال: ﴿من شرِّ ما خَلَقَ﴾ من الثقلين وغيرهم، كائناً ما كان، وهذا كما ترى شامل لجميع الشرور الجمادية، والحيوانية، والسماوية، كالصواعق وغيرها. وإضافة الشر إليه ـ أي: إلى كل ما خلق ـ لاختصاصه بعالَم الخلق، المؤسس على امتزاج المراد المتباينة، وتفاصيل كيفياتها المتضادة المستتبعة للكون والفساد في عالَم الحكمة، وأمّا عالَم الأمر فهو منزّه عن العلل والأسباب، والمراد به: كن فيكون.
وقوله تعالى: ﴿ومن شر غَاسِقٍ إِذا وَقَبَ﴾ تخصيص لبعض الشرور بالذكر، بعد اندراجه فيما قبله، لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه، لكثرة وقوعه، أي: ومن شر الليل إذا أظلم واشتد ظلامه، كقوله تعالى: ﴿إِلَىا غَسَقِ الْلَّيْلِ﴾ [الإسراء: ٧٨]. وأصل الغسق: الامتلاء. يقال: غسقت عينيه إذا امتلأت دمعاً، وغَسَقُ الليل: انضباب ظلامه. وقوله: ﴿إذا وقب﴾ أي: دخل ظلامه، وإنما تعوَّذ من الليل لأنه صاحب العجائب، وقيل: الغاسق: القمر، ووقوبه: دخوله في الكسوف واسوداده، لِما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أخذ رسولُ الله ﷺ بيدي، وقال: " تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب " وقيل: وقوب القمر: محاقه في آخر الشهر، والمنجِّمون يعدونه نحساً، ولذلك لا تستعمل السحرةُ السحرَ المُورث للمرض إلاَّ في ذلك الوقت، قيل: وهو
375
المناسب لسبب النزول. وقيل: الغاسق: الثريا، ووقوبها: سقوطها، لأنها إذا سقطت كثرت الأمراض والطواعين. وقيل: هو كل شر يعتري الإنسان، ووقوبه هجومه، فيدخل فيه الذكَر عند الشهوة المحرمة وغيره.
﴿
ومن شر النفاثاتِ في العُقَد﴾
أي: ومن شر النفوس، أو: النساء النفاثات، أي: السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط، وينفثن عليها، والنفث: النفخ مع ريق، وقيل: بدون ريق، وتعريفها إمّا للعهد الذهني، وهن بنات لَبِيد، أو: للجنس، لشمول جميع أفراد السواحر، وتدخل بنات لَبيد دخولاً أولياً. ﴿ومن شر حاسدٍ إِذا حَسَدَ﴾ إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه، بترتيب مقدمات الشر، ومبادىء الإضرار بالمحسود، قولاً وفعلاً، والتقييد بذلك؛ لأنَّ ضرر الحسد قبله إنما يحيق بالحاسد، وقد تكلم ابن جزي هنا على الحسد بكلام نقلناه في سورة النساء، فانظره فيه. الإشارة: الفلق هو النور الذي انفلق عنه بحر الجبروت، وهي القبضة المحمدية، التي هي بذرة الكائنات، فأمر الله بالتعوُّذ بربها الذي أبرزها منه، من شر كل ما يشغل عن الله، من سائر المخلوقات، ومن شر ما يهجم على الإنسان، ويقوم عليه من نفسه وهواه وغضبه وسخطه، ومن شر ما يكيده من السحرة أو الحُساد. والحسد مذموم عند الخاص والعام، فالحسود لا يسود. وحقيقة الحسد: الأسف على الخير عند الغير، وتمني زواله عنه، وأمّا تمني مثله مع بقائه لصاحبه فهي الغِبطة، وهي ممدوحة في الكمالات، كالعلم والعمل، والذوق والحال. وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
376
سورة الناس
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿قل أعوذُ بربِّ الناس﴾ مربّيهم ومُصلحهم، ﴿مَلِكِ الناس﴾ مالكهم ومدبر أمورهم. وهو عطف بيان جيء به لبيان أنَّ تربيته تعالى ليست بطريق تربية سائر المُلاك لِما تحت أيديهم من ممالكهم، بل بطريق المُلك الكامل، والتصرُّف التام، والسلطان القاهر. وكذا قوله تعالى: ﴿إِلهِ الناس﴾ فإنه لبيان أنَّ مُلكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم، والقيام بتدبير أمور سياستهم، والمتولِّي لترتيب مبادىء حِفظهم وحمايتهم، كما هو قصارى أمر الملوك، بل هو بطريق العبودية، المؤسَّسة على الألوهية، المقتضية للقدرة التامة على التصرُّف الكلي فيهم، إحياءً وإماتةً، وإيجاداً وإعداماً. وتخصيص الإضافة إلى الناس مع انتظام جميع العالَمين في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وألوهيته للإرشاد إلى مناهج الاستعاذة المرضية عنده تعالى، الحقيقة بالإعاذة، فإنَّ توسل العبد بربه، وانتسابه إليه تعالى بالمربوبية والملكية والمعبودية، في ضمن جنس هو فرد من أفراده، من دواعي الرحمة والرأفة. أمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة، ولأنَّ المستعاذ منه شر الشيطان، المعروف بعداوتهم، مع التنصيص على انتظامه في سلك عبوديته تعالى وملكوته، رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلُّطه عليهم، حسبما ينطق به قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الإسراء: ٦٥] فمَن جعل مدارَ تخصيص الإضافة مجرد كون الاستعاذة من المضار المختصة بالنفوس البشرية فقد قصر في توفية المقام حقه. وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف. قاله أبو السعود.
والآية من باب الترقِّي، وذلك أنَّ الرب قد يُطلق على كثير من الناس، فتقول: فلان
377
رب الدار، وشبه ذلك، فبدأ به لاشتراك معناه، وأمَّا المَلك فلا يُوصف به إلاَّ آحاد من الناس، وهم الملوك، ولا شك أنهم أعلى من سائر الناس، فلذلك جيء به بعد الرب، وأمَّا الإله فهوأعلى من المَلك، ولذلك لا يَدَّعي الملوكُ أنهم آلهة، وإنما الإله واحد لا شريك له ولا نظير قاله ابن جزي.
﴿من شَرَّ الوسواس﴾ أي: الموسوس، فالوسواس مصدر، كالزلزال، بمعنى اسم الفاعل، أو سمي به الشيطان مبالغةً، كأنه نفس الوسوسة، و ﴿الخناس﴾ الذي عادته أن يخنس، أي: يتأخر عند ذكر الإنسان ربَّه، ﴿الذي يُوَسْوِسُ في صدور الناس﴾ إذا غفلوا عن ذكر الله، ولم يقل: في قلوب الناس؛ لأنَّ الشيطان محله الصدور، ويمدّ منقاره إلى القلب، وأمّا القلب فهو بيت الرب، وهو محل الإيمان، فلا يتمكن منه كل التمكُّن، وإنما يحوم في الصدر حول القلب، فلو تمكّن منه لأفسد على الناس كلهم إيمانهم.
قال ابن جزي: وسوسة الشيطان بأنواع كثيرة، منها: فساد الإيمان والتشكيك في العقائد، فإن لم يقدر على ذلك ثبّطه عن الطاعات، فإن لم يقدر على ذلك أدخل الرياء في الطاعات ليُحبطها، فإن سَلِمَ من ذلك أدخل عليه العجب بنفسه، واستكثار عمله، ومن ذلك: أنه يُوقد في القلب نار الحسد والحقد والغضب، حتى يقود الإنسان إلى سوء الأعمال وأقبح الأحوال. وعلاج وسوسته بثلاثة أشياء، وهي: الإكثار من ذكر الله، والإكثار من الاستعاذة منه، ومن أنفع شيءٍ في ذلك: قراءة سورة الناس. هـ. قلت: لا يقلع الوسوسة من القلب بالكلية إلاّ صُحبة العارفين، أهل التربية، حتى يُدخلوه مقامَ الفناء، وإلاَّ فالخواطر لا تنقطع عن العبد.
ثم بَيّن الموسوِس بقوله: ﴿مِن الجِنة﴾ أي: الجن ﴿والناس﴾ ووسواس النار أعظم؛ لأنَّ وسواس الجن يذهب بالتعوُّذ، بخلاف وسوسة الناس، والمراد بوسوسة الناس: ما يُدخلون عليك من الشُبه في الدين، وخوض في الباطن، أو سوء اعتقاد في الناس، أو غير ذلك.
قال ابن جزي: فإن قلت: لِمَ ختم القرآن بالمعوذتين، وما الحكمة في ذلك؟ فالجواب من ثلاثة أوجه، الأول: قال شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: لمَّا كان القرأنُ من أعظم نِعم الله على عباده، والنعمة مظنة الحسد، ختم بما يُطفىء الحسد، من الاستعاذة بالله. الثاني: يَظهر لي أنَّ المعوذتين ختم بهما لأنّ رسول الله ﷺ قال فيهما: " أنزلت علي آيات لم يُر مثلهن قط " كما قال في فاتحة الكتاب: " لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها " فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها، واختتم بسورتين
378
لم يرَ مثلهما، للجمع بين حسن الافتتاح والاختتام. ألا ترى أن الخُطب والرسائل والقصائد، وغير ذلك من أنواع الكلام، يُنظر فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها.
والوجه الثالث: أنه لمّا أمر القارىء أن يفتح قراءته بالتعوُّذ من الشيطان الرجيم، ختم القرآن بالمعوذتين ليحصل الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القرآن، فتكون الاستعاذة قد اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء، فيكون القارىء محفوظاً بحفظ الله، الذي استعاذ به مِن أول أمره إلى آخره. هـ.
الإشارة: لا يُنجي من الوسوسة بالكلية إلاّ التحقُّق بمقام الفناء الكلي، وتعمير القلب بأنوار التجليات الملكوتية والأسرار الجبروتيه، حتى يمتلىء القلب بالله فحينئذ تنقلب وسوسته في أسرار التوحيد فكرةً ونظرةً وشهوداً للذات الأقدس، كما قال الشاعر:
إن كَانَ للنَّاسِ وسوَاسٌ يُوسوِسُهُم فَأَنتَ واللَّهِ وَسواسِي وخَنَّاسِي
وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وآله وصحبه، وسلّم تسليماً.
كَمِل " البحر المديد في تفسير القرآن المجيد " بحول الله وقوته. نسأل الله سبحانه أن يكسوه جلباب القبول، ويُبلغ به كل مَن طالعه، أو حصّله القصدَ والمأمول، بجاه سيد الأولين والآخرين، سيدنا ومولانا محمد، خاتم النبيين وإمام المرسلين. وعُمْدَتنا فيه: تفسير البيضاوي، وأبي السعود، وحاشية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي، وشيء من تفسير ابن جزي والثعلبي والقشيري. وكان الفراغ من تبييضه زوال يوم الأحد، سادس ربيع النبوي، عام واحد وعشرين ومائتين وألف، على يد جامعه، العبد الضعيف، الفقير إلى مولاه، أحمد بن محمد بن عجيبة الحَسَنِي، لطف الله به في الدارين. آمين، وآخر دعوانا أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمين.
تم الكتاب والحمد لله أولا وآخر وظاهرا وباطنا.
379
Icon