تفسير سورة الكهف

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية كلها. وهي فيها من أخبار السابقين ما يثير الخيال ويدهش اللب ؛ فهي أخبار تكشف عن مجاهيل مضت مع الغابرين الأولين مما لا علم لبشر أمي كرسول الله محمد ( ص ) بذلك إلا أن يتلقى تلك الأخبار من ربه.
ومن جهة أخرى : فإن هاتيك الأخبار في ذاتها وكيفية وقوعها، إن هي إلا ضرب من ضروب الإعجاز الحسي الذي يخرج عن دائرة الكون في قوانينه ونواميسه.
على أن الخبر الأظهر والأكبر في هذه السورة ما سميت السورة كلها به وهو الكهف، وأصحابه الفتية المؤمنون الأبرار الذين هاجروا ديارهم وأهليهم هربا من الكفر والبغيض. الكفر الذي تنفر منه الطبائع السليمة ؛ وتشمئز من المكث في سلطانه فطرة الطيبين الصالحين من الناس كأصحاب الكهف. ثم نستيقن بعد ذلك أن عقيدة التوحيد الخالص، لهي الحافز المحقق الذي يزجي بالمرء إلى ابتغاء الحق والصواب ونشدان الخير مهما تكن الظروف. وأنها الإحساس المؤثر العظيم الذي يكمن في أغوار الإنسان ليسير في الأرض مهتديا مستبصرا دون تعثر أو تخبط أو اضطراب. إن عقيدة التوحيد لهي التي تؤلف بين العباد أعظم تأليف كيما يكون الناس جميعا إخوة مؤتلفين متحدين. لاجرم أن قصة الفتية الأبرار من أصحاب الكهف لهي أسطع صورة تكشف للعقول على مر الزمن عن سداد العقيدة الصحيحة السليمة، وعن مدى تأثيرها البالغ في التأليف بين قلوب العباد، ولترسيخ المودة والرحمة والتعارف بينهم. وأن العقيدة وحدها مطردة لكل أسباب الشقاء والبغضاء والقلق وغير ذلك من ظواهر الشر والسوء التي تسود البشرية الضالة عن منهج الله.
وبغير العقيدة الصحيحة السليمة، عقيدة التوحيد الخالص ؛ لسوف تظل البشرية تائهة في الظلام، سادرة في البلاء بكل صوره وأشكاله حتى تفيء إلى دين الله ومنهجه المستقيم. منهج الحق والرحمة والنجاة.
وفي فضل سورة الكهف وقراءتها، أخرج الإمام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي ( ص ) قال : " من قرأ العشر الأوائل من سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال ".

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ الحمد لله الذي أنزل وعلى عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ( ١ ) قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ( ٢ ) ماكثين فيه أبدا ( ٣ ) وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ( ٤ ) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( ٥ ) ﴾ ذكر ابن إسحاق سبب نزول هذه السورة المباركة عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا لهم : سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله ( ص ) ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا : إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالوا لهم : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ؛ فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فرجل متقول تروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم ؛ فإنهم قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هو ؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم ؛ فإنه رجل متقوّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم. فجاءوا رسول الله ( ص ) فقالوا : يا محمد أخبرنا : فسألوه عما أمروهم به. فقال لهم رسول الله ( ص ) : " أخبركم غدا عما سألتم عنه " ولم يستثن. فانصرفوا عنه ومكث رسول الله ( ص ) خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا : وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله ( ص ) مكث الوحي وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة. ثم جاء جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف والروح١.
قوله :( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ) هذا ثناء من الله على نفسه المجيدة ؛ فهو سبحانه المحمود في كل الأحوال وقد حمد نفسه ؛ إذ أنزل كتابه المبارك على رسول الله محمد ( ص ) ليكون للناس خير هاد وأعظم دليل ( ولم يجعل له عوجا ) الواو، للعطف وعوجا، حال. والتقدير : أنزل الكتاب على عبده غير مجعول له عوجا قيما٢. والمعنى : أن الله أنزل القرآن على العالمين ولم يجعل فيه أيما اعوجاج أو زيغ ولم يحتمل شيئا من ضعف أو نقص ؛ بل جعله الله مستقيما معتدلا شاملا لكل وجوه الخير والحق، مجانبا لكل احتمالات الشر والباطل وبذلك يصلح عليه حال البشرية ؛ فيصيروا إلى السعادة والنجاة في الدارين. وهو قوله سبحانه :( قيما )
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٧١ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٣٤٧..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٩٩..
( قيما ) أي مستقيما. وهو منصوب بمضمر وتقديره : جعله قيما.
قوله :( لينذر بأسا شديدا من لدنه ) ( بأسا )، مفعول ثان للفعل ينذر والمفعول الأول محذوف وتقديره : لينذركم بأسا شديدا من لدنه١ ؛ أي لينذر من خالفه وكذب به شديد العقاب في الدنيا والآخرة ( من لدنه ) أي من عند الله المنتقم الجبار الذي يؤاخذ العصاة والمجرمين بما كسبوا فيذيقهم عذابه العاجل، فضلا عما يؤخره لهم من أليم العقاب في الآخرة ( من لدنه ) أي من عند الله المنتقم الجبار الذي يؤاخذ العصاة والمجرمين بما كسبوا فيذيقهم عذابه العاجل، فضلا عما يؤخره لهم من أليم العقاب في الآخرة ( ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ) جاء هذا القرآن الحكيم المبارك ليحمل البشرى للمؤمنين الذين يتبعون ما أنزل الله في كتابه فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ( أن لهم أجرا حسنا ) أعد الله للمؤمنين العاملين الصالحات خير الجزاء وهو الجنة
١ - نفس المصدر السابق..
( ماكثين فيه أبدا ) ( ماكثين )، منصوب على الحال من الضمير في ( ولهم ) أي هؤلاء المؤمنون الأتقياء لابثون في الجنة أبدا فلا يزولون عنها ولا يتحولون.
قوله :( وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ) المراد مشركو العرب ؛ إذ قالوا : نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله. وكذلك النصارى ؛ إذ قالوا : إن المسيح ابن الله وكذلك اليهود، قالوا : عزير ابن الله. تعالى الله عن قولهم جميعا علوا كبيرا.
وما قولهم هذا إلا الضلال والباطل. ولم يصدر هذا القول المقبوح عن علم منهم ولا من أسلافهم. وإنما قالوه جهلا وضلالا. وهو قوله :( ما لهم به من علم ولا لآبائهم ) فقد جاء القرآن نذيرا لهؤلاء المكذبين، جزاء مقالتهم الظالمة. ولذلك قال :( كبرت كلمة تخرج من أفواههم ) ( كلمة )، منصوب على التمييز : والتقدير، كبرت الكلمة كلمة. و ( تخرج )، جملة فعلية في موضع نصب، صفة لقوله :( كلمة ) ١. والمعنى : عظمت الكلمة التي قالوها، كلمة، أو كبرت مقالتهم كلمة. والمراد بهذه الكلمة قولهم :( اتخذ الله ولدا ) وقد وصفها بأنها ( تخرج من أفواههم ) وذلك استعظام لاجترائهم المستهجن على النطق بهذه المقالة وإخراجها من أفواههم ؛ فإن كثيرا من الناس يكظمون في نفوسهم المنكر ولا يبلغون مبلغ النطق بها، لكن هؤلاء غالوا في الكفر فقالوا مثل هذه الكلمة النكراء ( إن يقولون إلا كذبا ) أي ما يقول هؤلاء الظالمون الخاسرون إلا الكذب والافتراء على الله، فبئس ما افتروا وبئس ما قالوا٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٠٠..
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٧١ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٣ وفتح القدير جـ٣ ص ٢٧٠..
قوله تعالى :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ( ٦ ) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ( ٧ ) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ( ٨ ) ﴾ ( باخع )، مهلك. بخع نفسه بخعا ؛ أي قتلها من وجْدٍ أو غيظ١. وهذه تعزية من الله لرسوله ( ص ) وتسلية له مما كان يصيب قبله من الحزن بسبب إعراضهم عن دين الله وعن كتابه الحكيم. وهو قوله :( فلعلك باخع نفسك على آثارهم ) يعني لعلك يا محمد مهلك نفسك أو قاتلها ( على آثارهم ) أي على فراقهم وعقب توليهم وإدبارهم عنك ( إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) المراد بالحديث القرآن. و ( أسفا )، منصوب على المصدر في موضع الحال. وقيل : مفعول له ؛ أي لا تهلك نفسك بفرط حزنك عليهم ؛ إذ كفروا وكذبوا كلام ربهم، فما عليك إلا التبليغ والتبيين. فمن اهتدى بعد ذلك فلنفسه، ومن ضل فإنما يحيق به وحده الخسران.
١ - المصباح المنير جـ١ ص ٤٣..
قوله :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾ ( زينة )، منصوب ؛ لأنه مفعول ثان١، والمعنى : أن الله خلق الأرض وما عليها من زينة على اختلاف أنواعها وألوانها وأشكالها، ما بين زروع وثمرات وأنعام ومعادن وحافلات. وغير ذلك من وجوه الزينة التي تعمر الأرض. لقد خلق الله كل ذلك ليبتلي به الإنسان، فيظهر فيهم من هو أطوع لأوامر الله وأكثر انزجارا عن نواهيه وأشد التزاما لشرعه وأحكامه.
والمراد من ذلك : التذكير بأن الدنيا دار اختبار ومرور، وأنها العاجلة الفانية الغرور، الصائرة إلى الزوال المحتوم عما قريب. فلا تبئس بما يفعله الظالمون من جحود وتمرد. ومما هو خليق ذكره هنا ان ابتئاس المسلم واشتداد حزنه وغضبه مما يفعله الظالمون من فرط الجحود والعصيان، لهو سمة ظاهرة تكشف عن إخلاص النية لله، وعن مبلغ التشبث بعقيدة الإسلام التي يستمسك بها المسلمون الغيورون في كل الأحوال. إن اغتمام المسلم مما يجده في نفسه من بالغ الحزن والأسى مما يقترفه الظالمون المجرمون في حق الإسلام والمسلمين من تشويه وكيد وإبادة واستئصال ؛ لهو دليل على صدق القلب الموصول بالله، المحب لدينه وشرعه. وما ينبغي لمسلم أن يواجه الجرائم والفظائع التي ينزلها الظالمون الطغاة في ساحة الإسلام والمسلمين بفتور وتبلد. فمن ذا الذي لا يعبأ بأرزاء المسلمين وويلاتهم إلا من تخبو في صدره جذوة العقيدة، ويموت في نفسه الإحساس بالإيمان.
وشأن المسلم المخلص الغيور أن يغضب ويأسى ويبئس مما يفعله الطغاة والمجرمون في حق الإسلام والمسلمين على أن لا يفْضي الإفراط في الحزن والغضب إلى الهلكة وذهاب النفس حسرات.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٠٠..
قوله :﴿ وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ﴾ الصعيد، التراب، أو وجه الأرض. والجرز، الأرض التي لا نبات فيها. وذلك كائن يوم القيامة ؛ إذ يجعل الأرض مستوية قفرا لا نبات فيها ولا زرع ولا عمران ؛ فكل ما عليها زائل وفان ثم صائر إلى الله الخالق المعيد. وفي ذلك مواساة للرسول ( ص ) كيلا يبخع نفسه فيهلكها حزنا مما يسمع ويرى.
قوله تعالى :﴿ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ( ٩ ) إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ( ١٠ ) فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ( ١١ ) ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ( ١٢ ) ﴾.
معنى ( أم )، ههنا، الاستفهام على الإنكار ؛ أي أحسبتَ يا محمد أن واقعة أهل الكهف كانت عجيبة ؟ فلا تحسب ذلك ؛ فإن تلك الواقعة في جانب ما خلقناه ليست عجيبة. أو لا يعظم ذلك عندك بتعظيم السائلين الكافرين له. فما خلق الله من سموات وأرض وما فيهما وما بينهما أعظم من قصة أهل الكهف. وذلك أن مشركين سألوا النبي ( ص ) عن فتية قد فقدوا، وعن ذي القرنين، وعن الروح، ثم نزلت الآية في شأن ذلك ؛ إذ قال الله لنبيه : أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ؟ إنهم ليسوا بعجب من آياتنا، فما خلقناه في الكون من آيات عظام أشد عجبا مما حسبوه.
أما الكهف : فهو البيت المنقور في الجبل وجمعه كهوف١، أو هو الغار في الجبل، وهو الذي أوى إليه هؤلاء الفتية المؤمنون الذين فروا بدينهم إلى خارج البلد والأهل خشية الفتنة. وأما الرقيم، فهو اسم الوادي الذي فيه الكهف. وقيل : الجبل الذي فيه الكهف. وقيل : الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصة أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف.
١ - المصباح المنير جـ٢ ص ٢٠٤..
قوله :( إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة ) أي واذكر حين لجأ هؤلاء الفتية المؤمنون إلى الكهف هاربين من قومهم المشركين وملكهم الظالم الذي استخف شعبه فحملهم على التلبس بالوثنية. وقيل : إن هؤلاء الفتية مؤمنون من قوم عيسى عليه السلام وقد أبوا أن يطيعوا ملكهم ؛ إذ أمر الناس بعبادة الأصنام. وقيل : كانوا من قوم مشركين من قبل المسيح لكنهم آمنوا بالله وحده ولم يشركوا بعبادته أحدا من دونه. فقد تشاوروا فيما بينهم بحثا عن سبيل النجاة بدينهم، والخلاص من الفتنة. فاهتدوا إلى الخروج من بلدهم ومن بين أهلهم مختفين مستسرّين ؛ كيلا يعلم بهم أحد فيخبر عنهم الملك الظالم فيفتنهم عن دينهم.
أما الكلب الذي كان معهم : فقد روي أنه كان كلب صيد لهم. وقيل : إنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم والقول الأول أشبه بالصحيح.
ويستفاد من هذه الآية : جواز الفرار بالدين وهجر الأهل والأوطان، ومغادرة الديار والصحب والخلان خشية الفتنة. وذلك أن تحيق بالمسلمين ظواهر شتى من الفتنة فيوشك معها أن يفتن المسلم عن دينه فيسقط في مهاوي الضلال والفساد، أو الزيغ عن العقيدة. ولنا في رسول الله ( ص ) في ذلك خير أسوة ؛ إذا خرج بدينه ومعه الفئة المؤمنون المهجرة، لما حاقت بهم المحن والشدائد التي تحول بين المرء والقيام بعبادة ربه وطاعته ؛ فقد هجروا الأوطان والأهل والأولاد، طلبا للنجاة بدينهم وخشية من فتنة الكافرين لهم. فالهجرة في مثل هذه الحال جائزة إن كان في الأرض متسع يتحقق فيه الأمن والطمأنينة وتغيب فيه بوادر الخوف والمحنة والفتنة. أما إذا عمت الفتنة فغشيت عموم البلاد ولم يكن في الأرض من موضع إلا وتعشش فيه الفتنة وتلُوح في أجوائه المحن فما على المؤمنين بعد ذلك إلا الاصطبار والاحتمال، راكنين في كل أمورهم إلى الله وحده مستمدين منه العون والتثبيت والتأييد ؛ فهو سبحانه ضمين أن يعينهم ويقويهم وأن يجعلهم من الثابتين على دينه. جعلنا الله من الثابتين المخلصين الصابرين على دينه إلى يوم نلقاه.
على أن أحوالا من الفتن تعرض للمسلمين في كثير من الأحيان عبر تاريخهم الطويل مع الكفر والكافرين. وهي فتن تسلك منحى آخر أشد خطرا وكيدا للإسلام والمسلمين. وهي فتنة التشويه والتشكيك في هذا الدين، وحملات السوء والكذب التي يشيعها الحاقدون والمتربصون على الإسلام ليحملوا البشرية والمسلمين خصوصا على الارتياب في هذا الدين، مما يفضي إلى إضعاف العقيدة الإسلامية في نفوس أصحابها المسلمين. كزماننا هذا الذي طغت فيه الأكاذيب والدسائس وكل ظواهر التشويه والتشكيك في الإسلام مما يكيده له خصومه المتربصون المنتشرون في سائر أنحاء الأرض، من وثنيين وملحدين وصليبيين واستعماريين وصهيونيين وماسون. كل أولئك بارعون في التدسس وهم يتحسسون بحثا عن ثغرات في بعض تعاليم الإسلام وأحكامه ؛ ليجدوا فيها مواطن ينفذون منها للطعن في هذا الدين العظيم.
وفي مثل هذه الأحوال من حملات الطغاة والمفسدين والأشرار على الإسلام، وجب على الفئة المؤمنة الواعية في المسلمين أن ينبروا للرد على ما يفتريه المربيون والخراصون على الإسلام. وجب عليهم أن لا ينثنوا ولا يترددوا في الدفاع عن تعاليم الإسلام. وذلك في ثبات ودراية وشجاعة. واجب المسلمين في مثل هذه الأحوال العصيبة التي تلمّ بالإسلام أن لا يفروا ولا ينعزلوا عن ساحة المواجهة التي يحتدم فيها الصراع بين الإسلام وخصومه الذين يكيدون له بالكذب والتشويه والتخريص، وإشاعة الأباطيل. ومثل هذه الواقع لا يحتمل الإبطاء أو الفرار أو الاعتزال في خور وتبلّد ؛ فإنه لا ينثني عن مواجهة الخراصين المتربصين بالرد المنطقي المفحم إلا كل متخاذل خائر.
قوله :( فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة ) سألوا الله أن تغشاهم رحمته بما يسبغه عليهم من نعمة الرعاية والكلاءة والرزق والأمن من الأعداء.
قوله :( وهيئ لنا من أمرنا رشدا ) سألوا الله أن يهبهم في حالهم العصبية هذه ( رشدا ) أي سدادا وتوفيقا ليكونوا مهديين راشدين سالمين من السوء والفتنة.
قوله :﴿ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ﴾ ( فضربنا على آذانهم )، أي أنمناهم، وهذا من جميل الاستعارة وأبلغها. و ( سنين )، منصوب على الظرف. و ( عددا )، صفة لسنين. وقيل : منصوب على المصدر١ ؛ فقد ألقى الله على هؤلاء الفتية النوم فرقدوا هاجعين سنين كثيرة.
١ - البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ١٠١..
قوله :﴿ ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ﴾ ( أي ) مرفوع ؛ لأنه مبتدأ. ( أحصى )، فعل ماض، خبر المبتدأ. و ( أمدا )، منصوب على الظرفية الزمانة١. والمراد بالحزبين : الفريقان اللذان اختلفا في المدة التي لبثها أصحاب الكهف. والأمد، يراد به القدر من السنين التي مكثوها في كهفهم. والمعنى : أن الله أيقظهم من نومهم الطويل ليستبين للناس أي الفريقين المختلفين أضبط وأصول لقدر مكثهم نائمين في الكهف٢.
١ - نفس المصدر السابق..
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ١٣٧ والكشاف جـ٢ ص ٤٧٤..
قوله تعالى :﴿ نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ( ١٣ ) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا ( ١٤ ) هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ( ١٥ ) وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ( ١٦ ) ﴾ شرع الآن في بسط القصة وتبيينها على التفصيل. فذكر الله عز وعلا أن أصحاب الكهف فتية ؛ فهم بذلك شباب وأحداث قد آمنوا بربهم من غير واسطة. فلا جرم أن الشباب ألين طبعا وأرق عاطفة وقلبا، وأسلس في الانقياد للحق. الشباب أشد إقبالا على منهج الله الذي ترتضيه فطرتهم الغضّة، السليمة من التلويث وأعظم استجابة للصواب والسداد إذا هتفت بهم هواتف اليقين ؛ فهم بذلك أهدى لسبيل الله المستقيم من الشيوخ الذين يستعصون على الطاعة وسماع الحق في الغالب. وذلك لما ران على فطرتهم من شوائب الدنيا وزينتها الفاتنة، وبما رسخ في أعماقهم من الأهواء وحب الشهوات، من المال والجاه وغيرهما. لذلك كان أكثر الناس إقبالا على الإسلام الشباب، وكان أكثر أصحاب رسول الله ( ص ) شبابا. قوله :( وزدناهم هدى ) أي زدناهم إيمانا مع إيمانهم ؛ ويقينا إلى يقينهم، فصبروا على هجران الأهل والوطن، والرضى بخشونة العيش في الكهف بعد الذي كانوا فيه من رغد الحياة ولين العيش والنعمة. ويستدل بهذه الآية على زيادة الإيمان ولأنه يزيد وينقص. وهو قول فريق من أهل العلم. يعزز هذا المذهب قوله تعالى :( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) وقوله :( ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم )
قوله :( وربطنا على قلوبهم ) أي ثبتناهم وقويناهم بالصبر على مخالفة قومهم المشركين ومفارقة ما كانوا فيه من النعمة والسعة والعيش الرغيد فرارا بدينهم وخشية الفتنة.
قوله :( إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها ) ذكر بعض المفسرين أن هؤلاء الفتية كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له دقيانوس وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه. فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم، والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السماوات والأرض. فجعل كل منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية. حتى اجتمعوا كلهم على قدر تحت ظل شجرة. وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان. وقد جاء في حديث البخاري عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : قال رسول الله ( ص ) : " الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف " ١. ولما عرف بهم قومهم وشوا بأمرهم إلى الملك فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق، وأمرهم باتباع دينه وتوعدهم على رفض ذلك بالقتل فقالوا له في عزم وثبات ما قاله الله :( ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا ) ( شططا )، منصوب على أنه صفقة لمصدر محذوف، وتقديره : قولا شططا. وقيل : منصوب بالفعل ( قلنا ) ٢ والشطط، في اللغة، مجاوزة القدر في كل شيء٣ وهو الجور والظلم. والشطوط، معناه البعد. واشتط ؛ أي أبعد. والمراد به هنا : الإفراط في الظلم والافتراء، والإبعاد في الجور والكذب.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٧٤..
٢ -البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٠١..
٣ - المصباح جـ١ ص ٣٣٥ ومختار الصحاح ٣٣٨..
قوله :( هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ) هذا قول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار والاستهجان. وهو أن قومنا عبدوا الأصنام من دون الله ( لولا يأتون عليهم بسلطان بين ) لولا، أداة تحضيض، بمعنى هلا أي يأتون على دعواهم بأن هذه الأصنام آلهة ( بسلطان بين ) أي بحجة ظاهرة. والمراد بذلك استهجان القوم المشركين وما كانوا عليه من عبادة لأصنام جوامد لا تضر ولا تنفع.
قوله :( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) من أشد ظلما ممن اختلق الكذب على الله فأشرك معه آلهة مصطنعة أخرى.
قوله :( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ) ( إذ )، تتعلق بفعل مقدر وتقديره : واذكروا إذا اعتزلتموهم. وذلك خطاب من بعض الفتية لبعض حين عزموا على الفرار بدينهم، وما، فيها ثلاثة أوجه : الوجه الأول : أنها مصدرية. فيكون التقدير : وإذا اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم إلا عبادة الله. وكان الاستثناء من الجنس.
الوجه الثاني : أن تكون اسما موصولا، فيكون التقدير : وإذا اعتزلتموهم واعتزلتم الذي يعبدونه. وهو استثناء من غير الجنس.
الوجه الثالث : أن تكون نافية. فيكون التقدير : وإذا اعتزلتموهم غير عابدين إلا الله، فتكون الواو واو الحال١ ؛ أي أن هذا كلام معترض فيه إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله ( فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ) أي إذا فارقتم قومكم المشركين وجانبتم عبادتهم وشركهم فاذهبوا إلى الكهف واجعلوه مثوى لكم ( ينشر لكم ربكم من رحمته ) يبسط الله عليكم من واسع رحمته ما يصونكم ويحفظكم ويدرأ عنكم شر قومكم الظالمين ( ويهيء لكم من أمركم مرفقا ) أي ييسر الله لكم مما أنتم فيه من الكرب والضيق وخوف الفتنة ( مرفقا ) المرفق، كل ما يرتفق به وينتفع ويستعان٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٠٢..
٢ - المعجم الوسيط جـ١ ص ٣٦٢..
قوله تعالى :﴿ وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ﴾.
( تزاور )، بالتخفيف، جملة فعلية في محل نصب على الحال من الشمس١، و ( تزاور )، يعني تميل. وهو من الازورار، والتزاور، والزور، بفتح الزاي، وهو الميل والانحراف. ومنه الزور، بضم الزاي ؛ أي الميل عن الصدق٢. و ( تقرضهم )، من القرض وهو القطع أو الترك. والمعنى : أن أصحاب الكهف كانوا راقدين في كهفهم الذي هيأه الله لهم ويسر لهم أن يأووا إليه، فكانوا داخله في كلاءة من الأذى والبلى والضرر. ذلك أن الكهف كان على الهيئة التي يستكن فيها هؤلاء الفتية فلا تمسهم الشمس. وهو قوله :( وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين ) أي أنت أيها المخاطب ترى الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم ذات اليمين ؛ أي يمين الكهف ( وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ) تقرضهم من القرض وهو القطع ؛ أي إذا غربت الشمس فإنها عند غروبها تتركهم وتعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال ؛ أي شمال الكهف. وبعبارة أخرى : فإنها تخلّفهم شمالا وتجاوزهم وتقطعهم وتتركهم عن شمالها٣ ؛ فهي بذلك لا تصيبهم عند طلوع الشمس وهو أول النهار، ولا عند غروبها وهو آخر النهار.
وبذلك قد حفظ الله أصحابه الكهف من أن يقع عليهم ضوء الشمس. ولو وقع عليهم أو أصابهم لفسدت أجسامهم وأتى عليها البلى والتلف ( وهم في فجوة ) أي وهم راقدون في متسع من الكهف لا تصيبهم الشمس فتؤذيهم بلظاها الحارق. وهذه آية من آيات الله تتجلى في مثل هذه الكرامة الربانية التي منّ الله بها على هؤلاء الفتية الأبرار، بما يكشف عن قدرته سبحانه ؛ فهو الحفيظ لعباده المؤمنين به، المتوكلين عليه، اللاجئين إلى جنابه، الهاربين من الفتنة وظلم الأشرار إلى رحابه. وهو جل وعلا ( خير حافظا وهو أرحم الراحمين ).
قوله :( من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ) يهدي الله من آمن به وأذعن لأمره وجاهد في سبيله طلبا لرضاه ؛ يهديه إلى سبيل الرشاد كأصحاب الكهف. أما ذو الطبع الزائغ المعوج الذي يجنح للجحود وفعل المعاصي فلن يكن له من نصير يهديه أو يرشده٤.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٠٢..
٢ - القاموس المحيط جـ٢ ص ٤٣..
٣ - مختار الصحاح ص ٥٢٩..
٤ - تفسير الرازي جـ٢١ ص ١٠٠ وفتح القدير جـ ٣ ص ٣٧٣ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٧٣..
قوله تعالى :﴿ وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ﴾ الأيقاظ جمع يقظ ويقظان وهو المتنبه. و ( رقود )، يعني نيام، جمع راقد والمخاطب بهذه الآية كل أحد ؛ أي أن الناظر إلى هؤلاء الفتية يحسب أنهم يقظون غير نيام ؛ لأن عيونهم غير منطبقة بل مفتوحة لكي يمسها الهواء فلا تبلى، وهم في الحقيقة نيام ؛ إذ يقلّبهم الله مرة للجنب الأيمن، ومرة للجنب الأيسر ؛ لأنهم إذا لم يقلبوا تقليبا مستمرا لسوف تأكلهم الأرض أو يأتي عليهم البلى.
قوله :( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) ( ذراعيه )، منصوب ؛ لأنه مفعول لاسم الفاعل ( باسط ). والوصيد، معناه الفناء١ ؛ فقد كان كلبهم يربض بفناء الكهف باسطا ذراعيه كعادة الكلاب راقدا مثلهم طيلة هذه السنين. على أن هذا المذكور في الآية كلب على الحقيقة، وليس المجاز. وقد صحبهم في الخروج والمسير حتى بلغوا الكهف، وهو مستأنس بهم، متودد إليهم، فنالته البركة بفضل هذه الصحبة الكريمة لأناس أطهار كرام. حتى بات يُذكر على ألسنة المؤمنين على مر الزمان. وحسبه تكريما وبركة أن يأتي ذكره في القرآن في معرض الثناء والاحترام.
أما الكلاب عموما فقد نهى الشرع عن اقتنائها لما فيها من نجاسة، وبسبب إيذائها للناس بنباحها وعقرها. على أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب أو صورة أو جنب. ويستثنى من الكلاب ما كان للصيد أو الحراسة فلا بأس في اقتنائه.
قوله :( لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا ) ( فرارا )، منصوب على المصدر. و ( رعبا )، منصوب على التمييز، أو على أنه مفعول ثان ؛ فقد ألقى الله المهابة على أصحاب الكهف وهم رقود. مفتحة عيونهم. فلو نظر إليهم أحد لأدبر هاربا مذعورا ولا متلأ قلبه فزعا، ولغشيه من الخوف ما يغشى المذعورين الوجلين لهول المنظر الرعيب. وقد ألبسهم الله هذه المهابة كيلا يدنوا منهم أحد ولا تلمسهم يد لامس ؛ فهم على حالهم هذه حتى يقضي الله فيهم ما يشاء، ليكون للناس فيهم آية وعبرة، وليعلموا أن الله قادر على فعل ما يشاء ؛ سواء في ذلك ما انسجم مع الطبيعة في قوانينها الأساسية، أو ما كان خارقا لقوانين الطبيعة ونواميسها كالذي حصل لأصحاب الكهف الذين ظلوا رقودا سنين طوالا٢.
١ - مختار الصحاح ص ٧٢٤..
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ١٤١، ١٤٢ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٣٦٩ – ٣٧٣..
قوله تعالى :﴿ وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كل لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرون بكم أحدا ( ١٩ ) إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا ( ٢٠ ) ﴾ أي وكما أنمناهم تلك النومة وأبقيناهم أحياء بعثناهم ؛ أي أحييناهم من تلك النومة الطويلة بعد ثلاثمائة وتسع من السنين، ولم يمسهم أذى أو بلى. وهي آية من آيات الله في خلقه تؤز العقل لكي يتدبر ويتفكر في قدرة الله البالغة وإرادته التي لا تعرف القيود.
قوله :( ليتساءلوا بينهم قال قائل منكم كم لبثتم ) ( كم )، هنا ظرفية في موضع نصب للفعل لبثتم. وتقديره : كم يوما لبثتم١ اللام في ( ليتساءلوا ) لام الصيرورة وهي العاقبة. وقيل : للتعليل. والمعنى : ليسأل بعضهم بعضا عن المدة التي لبثوها رقودا في كهفهم. ولذلك ( قال قائل منهم كم لبثتم ) كم مدة لبثكم ؟ فأجاب الآخرون :( لبثنا يوما أو بعض يوم ) ظنوا هذه المدة وهي يوم أو بعضه ؛ لأن دخولهم إلى الكهف كان في أول النهار، واستيقاظهم كان آخره. لكنهم قد حصل لهم شيء من تردد في المدة الصحيحة فسلموا العلم بذلك إلى الله فهو علام الغيوب ؛ إذ قالوا ( ربكم أعلم بما لبثتم ) كأنهم ظنوا أن مدة نومهم كانت طويلة ولا يدري بحقيقتها إلا الله.
قوله :( فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ) اللام في ( المدينة )، للعهد والمراد مدينتهم التي خرجوا منها هرابا. وقد ذكر أن اسمها أفسوس. والورق بكسر الراء، دراهم من فضة مضروبة أو غير مضروبة، جاءوا بها لدى خروجهم من المدينة.
قوله :( فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه ) ذكر أنهم قاموا من رقادهم جياعا فبادروا يطلبون الطعام : فسألوا مبعوثهم أن يشتري لهم ( أزكى طعاما فليأتكم برزق منه ) أي أطيب طعاما وأحله فليأتكم منه بقوت يقتاتون منه ( وليتلطف ولا يشعرون بكم أحدا ) وليتلطف من اللطف وهو الرفق. والتلطف في الأمر ؛ أي الترفق به. والمراد : ذهابه إلى المدينة وإيابه منها في ترفق وحذر ( ولا يشعرن بكم أحدا ) أي لا يعلمنّ بأمره أحدا.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٠٣..
قوله :﴿ إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا ﴾ المراد بالرحم : قتلهم بالحجارة وهو أفظع ضروب القتل. وقيل : سبهم وشتمهم. والأول أظهر ؛ أي أنهم إن اطلعوا عليكم وعلموا بمكانكم رجموكم بالحجارة، وهذه أخبث قتلة ( أو يعيدوكم في ملتهم ) أي لا يزالون يعذبونكم حتى يفتنوكم عن دينكم فتنقلبوا إلى دينهم دين الشرك ( ولن تفلحوا إذا أبدا ) أي إذا انقلبتم مشركين بتحولكم إلى دينهم ؛ فلا فلاح لكم ولا نجاة في الدنيا والآخرة وكنتم من الخاسرين١.
١ - تفسير النسفي جـ٣ ص ٦، ٧ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٧٧..
قوله تعالى :﴿ وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا ( ٢١ ) ﴾.
أي كما أنمنا أصحاب الكهف وبعثناهم من رقدتهم، أطلعنا عليهم الناس ( ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها ) فقد كان الناس حينئذ في شك من أمر الساعة ؛ فهم بين مصدق وجاحد. وقال بعضهم : تبعث الأرواح دون الأجساد. وقال آخرون : تبعث الأرواح والأجساد مجتمعة، فبعث الله أهل الكهف دلالة وآية على حقيقة البعث. وقد ذكر أن الذي ذهب إلى المدينة ليشتري لهم الطعام قد أذهلته الحيرة وغشيه العجب مما رأى، إذ رأى أن الناس جيلا بعد جيل وأمة بعد أمة قد تغيروا، وتغيرت كذلك معالم البلاد. فلم يعرف شيئا مما يعرفه من معالم البلد، ولم يعرف أحدا من الناس. ثم عمد إلى بائع طعام فدفع إليه ما معه من دراهم ليبيعه بها طعاما. فلما رآها البائع أنكرها ثم دفعها إلى جاره، فجعلوا يتداولونها بينهم فسألوه عن أمره، فلما حدثهم بخبره قاموا معه إلى الكهف ومعهم الملك وكان مسلما، فلما دخل عليهم فرحوا به وسلموا عليه ثم عادوا إلى مضاجعهم فأماتهم الله.
لقد كان خبرهم آية ظاهرة تشهد بأن وعد الله حق، وهو أن يبعث الناس من قبورهم وأن الساعة آتية لا ريب فيها. وهو قوله :( إذ يتنازعون بينهم أمرهم ) ( إذ ) ظرف متعلق بالفعل ( أعثرنا ) أي أعثرنا أو علمنا هؤلاء المختلفين في حقيقة البعث وقيام الساعة فقد تنازعوا في أمرها فمن مثبت لها ومن مكذب. فجعل الله خبر أهل الكهف حجة ساطعة للمصدقين بقيام ساعة وخبر البعث. وقيل : تنازعوا فيما يفعلونه بهم بعد الاطلاع عليهم. وهو قوله :( فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم ) قالوا حين توفاهم الله :( ابنوا عليهم بنيانا ) يسندّ به باب كهفهم فلا يتطرق إليهم الناس.
قوله :( ربهم أعلم بهم ) ذلك من قول المتنازعين في أمرهم ؛ إذ قالوا : الله أعلم بحقيقة هؤلاء الفتية من حيث أنسابهم وعددهم ومدة مكثهم.
قوله :( قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا ) المراد بهم المسلمون ومعهم الملك ؛ إذ كان مسلما. فهم بذلك الغالبون على أمر من عداهم من الناس. وأولئك قد استقر رأيهم أن يبنوا مسجدا على باب الكهف فيصلي فيه المسلمون١.
على أن بناء المساجد على القبور والصلاة فيها مما حرمه الشرع ؛ فإن اتخاذ المسجد فوق القبر مدعاة لتعظيم القبر وصاحبه. أو هو سبب يسوق المشاعر والأذهان إلى تقديس القبور رويدا رويدا. فما تمرّ الأيام والسنون حتى يصير صاحب القبر مثار تعظيم بالغ كالذي حصل للأصنام ؛ إذ عُبدت من دون الله بعد أن كانت حجارة. فمثل هذا البناء حرام سدا للذريعة. وفي النهي عن البناء على القبور أخرج النسائي عن عائشة أن النبي ( ص ) قال : " لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وأخرج النسائي كذلك عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ".
ويكره تجصيص القبور. وتجصيصها يعني تبيضها بالجص وهو الجبس، أو الجير. ويكره أن يكتب اسم الميت على القبر. وهو قول أكثر أهل العلم. بخلاف أهل الظاهر ؛ إذ قالوا : لو نقش اسمه في حجر لم يكره٢. ودليل الكراهة ما أخرجه مسلم عن جابر قال : " نهى رسول الله ( ص ) أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه " وزاد سليمان بن موسى : " أو يكتب عليه " ولأن ذلك من باب الزينة ولا حاجة بالميت إليها.
ولا يجوز رفع القبر فوق الأرض إلا قدر شبر واحد ليعلم الناس أنه قبر فيترحموا عليه ولا يمشوا فوقه. وفي ذلك أخرج أبو داود ومسلم عن أبي هياج الأسدي قال : بعثني علي قال لي : أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ( ص ) : " أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته ".
على أن تسنيم القبر أفضل من تسطيحه، أي تربيعه. وهو قول الجمهور. ودليل ذلك ما رواه البيهقي عن سفيان بن التمار قال : " رأيت قبر النبي ( ص ) مسنما " وذهب الشافعية إلى أن التسطيح أفضل ؛ لأن النبي ( ص ) سطّح قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه حصباء من حصباء العرصة٣.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٧٧، ٧٨ وفتح القدير جـ٣ ص ٢٧٧..
٢ - المجموع للنووي جـ٥ ص ٢٩٨ والبدائع جـ١ ص ٢٠ وأسهل المدارك جـ١ ص ٢٦٣ والمحلى لابن حزم جـ٥ ص ١٣٣..
٣ - شرح فتح القدير جـ٢ ص ١٤٠ وبلغة السالك على شرح الدردير جـ١ ص ١٩٩ والمغني جـ٢ ص ٥٠٤ والمجموع جـ٥ ص ٢٩٦..
قوله تعالى :﴿ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ول تستفت فيهم منهم أحد ﴾. ( ثلاثة )، مرفوع ؛ لأنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هم ثلاثة. ( رابعهم كلبهم )، جملة اسمية في موضع رفع ؛ لأنها صفة ثلاثة. وكذلك التقدير في قوله :( خمسة سادسهم كلبهم ) ١.
ذلك إخبار من الله تعالى عن اختلاف الناس في عدة أهل الكهف. وهو قوله :( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ) والضمير في ( سيقولون ) يراد به من خاض في هذه المسألة زمن الرسول ( ص ). فقد قيل : المراد بهم اليهود ؛ فهم الذين أشاروا على المشركين من قريش أن يسألوا النبي ( ص ) عن أهل الكهف. وقيل : المراد بهم النصارى، إذ اختلفوا فيما بينهم في عدتهم.
وسواء كان المراد اليهود أو النصارى أو المسلمين فإنه لا حاجة تدعو إلى الخوض في مثل هذه المسألة ؛ إذ لا جدوى كبيرة ترتجى من الوقوف على عدد أصحاب الكهف.
على أن القرآن الكريم قد ذكر لنا أقوالا ثلاثة في عدة أصحاب الكهف مما يدل على أنه لا قائل برابع. ويستدل أيضا من ظاهر الآية في هذه المسألة على أن القولين الأولين ضعيفان ؛ لأنه قال عقيب ذكرهما ( رجما بالغيب ) والرجم معناه التكلم بالظن. والرجم بالغيب هو القول ظنا من غير دليل ولا برهان٢، وبذلك فإن القول : إنهم ثلاثة أو خمسة، لا يتجاوز دائرة التخمين أو التكلم بلا علم ولا تدبّر وهو الرجم بالغيب. لكنه قد حكى القول الثالث وسكت عليه وهو قوله :( ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ) فقد أخرج هذا القول من دائرة الرجم بالغيب، وهو الظن الذي لا يسعفه برهان أو حجة. فدل على أن القول بأنهم سبعة أقرب إلى الصواب، أو أنه هو الواقع.
وخير ما ينبغي أن يقال ههنا : إن الله أعلم بالصحيح ؛ فهو سبحانه أعلم بعدتهم وهو قوله :( قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ) أي لا يعلم حقيقة عدتهم إلا قليل من الناس.
قوله :( فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ) ( تمار ) : تجادل. وهو من المراء، والممارة بمعنى المناظرة والجدل. تمارى القوم ؛ أي تجادلوا٣. والمقصود بالمراء الظاهر : لين الحديث ؛ فلا يغلظ عليهم في الاحتجاج، ولا يكذبهم في تعيين ذلك العدد ؛ بل يجادلهم في سهولة ورفق.
قوله :( ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) ( تستفت )، من الفتيا أو الفتوى. أفتى في المسألة : أبان الحكم فيها. واستفتاه ؛ أي سأله رأيه في مسألة٤. والمعنى : لا تسأل أحدا منهم عن قصة أهل الكهف ؛ فإنه لا علم لهم بذلك. وهم لا يقولون في ذلك إلا ما كان رجما بالغيب. وقد جاءك في ذلك الحق الذي لا شك، فيه فلا حاجة لمساءلتهم.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٠٤..
٢ - المصباح المنير جـ١ ص٢٣٧ ومختار الصحاح ص ٢٣٦..
٣ - المعجم الوسيط جـ٢ ص ٨٦٦..
٤ - المعجم الوسيط جـ٢ ص ٦٧٣..
قوله تعالى :﴿ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا ( ٢٣ ) إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ( ٢٤ ) ﴾ بينا في أول السورة سبب نزول هذه الآية. وفيها تأديب من الله لرسوله ( ص ).
وفيها تأديب من الله لرسوله ( ص ). إذ أمره أن يعلق كل شيء بمشيئة الله ؛ فإن من الحقائق المسلمة في دين الله الاعتقاد بأن : ما يشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فإذا عزم المسلم على شيء ليفعله في المستقبل عليه أن يرد ذلك لمشيئة الله بقوله : إن شاء الله.
قوله :( واذكر ربك إذا نسيت ) إذا نسيت كلمة الاستثناء وهي : إن شاء الله، أو بمشيئة الله، ثم ذكرتها فتداركها بالذكر وهو أن تقولها عقب زوال النسيان.
وروي عن ابن عباس قوله في الرجل يحلف : له أن يستثني ولو إلى سنة، استنادا إلى إطلاق هذه الآية. لكن قول ابن عباس هذا قد حمل على تدارك التبرك بالاستثناء ؛ فإن من السنة أن يقول المرء إن شاء الله ولو بعد سنة ليكون آتيا بسنة الاستثناء حتى لو كان بعد الحنث. وليس المقصود أن يكون الاستثناء رافعا لحنث اليمين ومسقطا للكفارة ؛ أي أن الاستثناء الذي يتغير به الحكم من حنث وكفارة فلا يصح إلا متصلا ؛ فإن من شروط صحة الاستثناء في اليمين الاتصال. وهو كون الاستثناء متصلا باليمين فلا يفصل بينهما كلام من غير صيغة الحلف، ولا أن يفصل بينهما سكون لغير ضرورة. فإن أقسم الحالف بالله ليفعلن كذا أو لا يفعل كذا ثم صمت صمتا طويلا يمكن الكلام فيه وكان ذلك لغير ضرورة أو حاجة، أو تكلم عقب الحلف كلاما من غير جنس اليمين ثم قال بعد ذلك : إن شاء الله ؛ فمثل هذا الاستثناء غير متصل باليمين بل هو منفصل فلا يؤثر في الحلف.
أما السكوت بعد اليمين لضرورة : فإنه لا يؤثر في صحة الاستثناء، ولا يكون الحالف بذلك حانثا. وذلك كما لو انقطع نفس الحالف عقيب الحلف ؛ أو انقطع صوته لعيّ أو عارض من عطش، أو سكت سكتة خفيفة من أجل التذكر. وهو قول الجمهور من العلماء١.
وثمة مسألة وهي : هل الاستثناء الذي يرفع اليمين المنعقدة بالله تعالى، رخصة من الله في اليمين خاصة لا تتعداه إلى غير ذلك من الأيمان ؟
ثمة قولان للعلماء في ذلك :
القول الأول : إن الاستثناء نافع في كل يمين كالطلاق والعتاق ؛ لأنها يمين تنعقد مطلقة، فإذا قرن بها ذكر الله على طريق الاستثناء كان ذاك مانعا من انعقادها كاليمين بالله. وهو قول الحنفية والشافعية. وقال به مالك وآخرون. ودليلهم في ذلك قول رسول الله ( ص ) : " من حلف فقال : إن شاء الله لم يحنث " ومثل هذه الأقسام يندرج في مفهوم اليمين. فلو قال الرجل : أنت طالق بمشيئة الله، أو إلا أن يشاء الله، أو ما شاء الله، أو بإرادة الله، أو بقضاء الله أو بقدرة الله ؛ فهذه كلها أيمان ويحلها الاستثناء.
القول الثاني : إن الاستثناء في الحلف بغير الله لا يؤثر ولا يفيد.
ودليل ذلك قوله تعالى :( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) ولا يدخل في هذه الأيمان سوى اليمين الشرعية وهي الحلف بالله وأسمائه وصفاته فقط. فالاستثناء الذي يرفع اليمين المنعقدة بالله تعالى إنما هو رخصة وردت في اليمين خاصة، ولا تنسحب على غيره من الأيمان كالطلاق والعتاق، وذهب إلى ذلك بعض المالكية. وقال به الحسن البصري وقتادة وسعيد بن المسيب وآخرون٢.
قوله :( وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ) وهذا دعاء يقوله للناس بعد الذكر، وجملته : عسى ربي أن يهديني لغير ما نسيته مما هو أقرب رشدا وأقرب خيرا ونفعا.
١ - بدائع الصنائع جـ٣ ص ٢٧ والأم للشافعي جـ٧ ص ٦٢ والمغني جـ٨ ص ٧١٥ والمبسوط للسرخسي جـ٨ ص ١٤٣..
٢ - سبل السلام جـ٤ ص ١٠٤ وأعلام الموقعين جـ٤ ص ٥٧ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٢٤..
قوله تعالى :﴿ ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا ( ٢٥ ) قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا ( ٢٦ ) ﴾.
هذا إخبار من الله تعالى عن المدة التي لبثها أصحاب الكهف في كهفهم منذ رقودهم حتى يقظتهم فأعثر الله عليهم أهل ذلك الزمان. وهذه المدة ثلاثمائة سنة تزيد تسع سنين أخرى وذلك بالسنين الهلالية، ونظيرها من الشمسية ثلاثمائة سنة. أي ان التفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين. وذلك قال بعد الثلاثمائة :( وازدادوا تسعا ).
قوله :( قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض ) أبلغهم أن الله أعلم من هؤلاء المتنازعين الذين اختلفوا في مدة لبثهم. والحق إنما هو فيما أخبر الله به عن هذه المدة ؛ فهو العالم بكل شيء. وما من مستور ولا مخبوء ولا مكنون في مجاهيل السماوات والأرض إلا هو معلوم لله.
قوله :( أبصر به وأسمع ) أي ما أسمعه وأبصره.
وتقديره : أسمع به. وقد حذف اكتفاء بالأول عنه١. والمعنى : ما أبصره بكل موجود، وما أسمعه لكل مسموع، فليس من أحد أبصر من الله ولا أسمع ؛ فهو لا يخفى عليه من ذلك شيء.
قوله :( ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا ) الضمير في قوله :( لهم ) يعود على أهل السماوات والأرض. فما للعباد الذين خلقهم الله من نصير يتولى أمرهم ويدبّر شؤونهم ؛ بل الله وحده القاهر لعباده القادر على كل شيء. ( ولا يشرك في حكمه أحدا ) ليس لله في قضائه شريك ؛ بل الله وحده يحكم كيف يشاء دون معقب ولا معين٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٠٦..
٢ - فتح القدير جـ٣ ص ٢٧٨ وتفسير النسفي جـ٣ ص ١٠ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٧٩..
قوله تعالى :﴿ واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا ( ٢٧ ) واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ( ٢٨ ) ﴾ يأمر الله نبيه محمد ( ص ) أن يتلو على الناس كلام الله وهو القرآن فيأمرهم بأوامره ويحذرهم مناهيه وزواجره ( لا مبدل لكلماته ) لا يقدر أحد أن يبدل كلام الله أو يغيره ؛ بل الله وحده يفعل ذلك ( ولن تجد من دونه ملتحدا ) أي إذا لم تتل القرآن على الناس وتبلغهم ما فيه من أوامر وزواجر ؛ فليس لك بعد ذلك من دون الله ملجأ تلجأ إليه أو موئل تئل إليه.
قوله :( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) في سبب نزول هذه الآية روي عن سلمان الفارسي قوله : جاءت المؤلفة القلوب إلى رسول الله ( ص ) : عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وذووهم فقالوا : يا رسول الله إنك لو جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء، يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله الآية فقام النبي ( ص ) يلتمسهم حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى قال : " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا، ومعكم الممات " ١.
هذه قاعدة من قواعد الإسلام الثابتة التي لا تتبدل ولا يأتي عليها الزمان ؛ وهي تكريم الإنسان المؤمن أيما تكريم، بغض النظر عن سائر أوصافه وأحواله من الفقر أو القلة أو الذلة. فما يعبأ الإسلام بتصورات البشر الدنيوية واعتباراتهم الاجتماعية ؛ إذ يعظمون الأغنياء والرؤساء والكبراء وأولي المكانة والجاه، ويحقرون الفقراء والعالة والصعاليك، ويمتهنون المغلوبين والمقهورين من الخول والعبيد والملونين وإن كانوا من المؤمنين الطيبين !
لا يعبأ الإسلام بهذا التصور البشري القاصر المستهجن. إنما ينظر الإسلام للإنسان نظرة تقدير وتكريم لكونه إنسانا ( ولقد كرمنا بني آدم ) ثم يزيد الإسلام من تعظيم الإنسان إذ تحقق فيه سببان وهما الإيمان والعلم. فأكثر الناس إيمانا وأزيدهم علما لهو في ميزان الله مكرم مفضال، سواء كان في واقعه الاجتماعي خادما أو مملوكا أو صعلوكا أو عائلا مفتقرا أو دميما ملهوفا رثَّ مبتذل اللباس.
هذه حقيقة يرسخها الإسلام في واقع المسلمين لتكون قاعدة أساسية لا محيد عنها. لذلك يأمر الله نبيه محمدا ( ص ) أن يصبر نفسه مع الفقراء والمغلوبين والعالة من المؤمنين فلا يبرحهم أو يزدريهم، كما سأله فريق من وجهاء قريش وهم يؤزهم إلى سؤالهم هذا تصورهم الجاهلي السقيم الذي يميزون فيه بين العباد تبعا للمال أو الجاه أو السلطان. وهو قوله :( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ) ( اصبر )، من الصبر، وهو الحبس ؛ أي احبس نفسك وثبتها مع المؤمنين الطائعين الذين يعبدون ربهم ( بالغداة والعشي ) أول النهار وآخره. والمراد جلوسه ( ص ) مع الذين يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه ويتذللون له بالدعاء بكرة وعشيا سواء كانوا أغنياء أو فقراء، أو ضعفاء، أو أقوياء، كبلال، وعمار، وصهيب، وخباب، وسلمان، وابن مسعود وغيرهم من المؤمنين المستضعفين في تصور الجاهليين.
قوله :( ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) ( ولا تعد )، أي لا تجاوز. عداه يعدوه أي جاوزه. والتعدي معناه مجاوزة الشيء إلى غيره. عدّاه تعدية فتعدى أي تجاوز. وعدّ عما ترى أي اصرف بصرك عنه٢ والمراد : لا تعل عيناك عنهم، أو لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم من أهل الدنيا ( تريد زينة الحياة الدنيا ) في موضع نصب للحال. أي لا تصرف بصرك عنهم مبتغيا غيرهم من ذوي الهيئات والزينة وأولي الرياش وحسن المظهر.
قوله :( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) روي عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية أنه قال : نزلت في أمية بن خلف الجمحي. وذلك انه دعا النبي ( ص ) إلى أمر كرهه من تجرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة، فأنزل الله الآية٣. والمعنى : لا تكن مطيعا لمن ختمنا على قلبه فبات غافلا عن الإيمان وعن ذكر ربه، كأمية بن خلف وأمثاله من أولي القلوب الغُلْف التي طبع عليها فلا تستجيب لذكرى ولا تتعظ من عبرة. وهو مع ذلك لا يتبع غير هواه ؛ إذ يؤثره على التوحيد وعلى الحق، فاختار الشرط والباطل. ( وكان أمره فرطا ) فرط، بضمتين ؛ أي مجاوز للحد. والمراد : أنه سادر في الباطل، مجاوز عن الحق، نابذ له وراء ظهره٤.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ١٠٢..
٢ - مختار الصحاح ص ٤١٩..
٣ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٠٢..
٤ - تفسير النسفي جـ٣ ص ١١ وفتح القدير جـ٣ ص ٢٨٢.
قوله تعالى :﴿ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ﴾ يأمر الله نبيه محمدا ( ص ) أن يقول للناس ناصحا ومبلغا بأن الحق إنما هو من عند الله وحده.
والمراد ههنا القرآن، أو الإسلام ؛ فإنه الحق ؛ فهو الدين الرباني المتكامل الذي لا يعتريه خلل ولا ضعف ولا تشويه شائبة من عيوب البشر ونقائصهم. والذي ينطوي في مضمونه ومعناه على كل أسباب الخير والسعادة والنجاة للبشرية، سواء فيه العقيدة الراسخة المكينة السمحة، أو التشريع الكبير الواسع الذي يفضّ كل النزاعات ويتناول كل القضايا والمشكلات، ويقرر في واقع البشر كل ظواهر الأخوة والمودة والرحمة ليعيش الناس في كل زمان إخوانا متحابين متعاونين.
قوله :( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) والمراد من ذلك الوعيد والتهديد ؛ أي قد أبلغتكم دعوة ربكم وهو الحق الذي لا ريب فيه. فإن آمنتم فلسوف يُصار بكم إلى النجاة. وإن كفرتم وأدبرتم فما مصيركم إلا إلى الجحيم والهوان.
قوله :( إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ) السرادق، معناه السور من نار. وذلك تهديد رعيب من الله للمشركين الخاسرين الذين يجحدون بآيات الله أو يصدون عن دينه صدا. أولئك ( اعتدنا ) أي أعددنا لهم النار وقد أحاط بهم سورها ؛ فهم غائرون في العذاب البئيس ؛ إذ تغشاهم النار فتلفح وجوههم وأبدانهم ويحيط بهم سورها الحارق المطبق من كل مكان، فلا يجد حينئذ مناصا ولا موئلا. وذلك لون من ألوان التعذيب الفظيع الذي يغشى المجرمين يوم القيامة.
( وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ) المهل، معناه النحاس المذاب. وقيل : دردي الزيت١. وقيل : ماء أسود منتن غليظ بالغ الحرارة. والمعنى : أن هؤلاء المعذبين في النار لفرط ما يصيبهم من العطاش الشديد يطلبون الماء ليشربوا، فيسقون ماء شديد الحرارة كالمهل وهو ماء النار، وماؤها أسود غليظ فظيع الحرارة، كلما أدنوه من أفواههم ليشربوا سقطت جلدة وجوههم.
وهذا لون ثان من ألوان التعذيب الحارق الذي يشقى فيه الظالمون الخاسرون يوم القيامة ( بئس الشراب وساءت مرتفقا ) أي بئس هذا الشراب الذي يغاث به هؤلاء الظالمون في جهنم. ( وساءت ) هذه النار ( مرتفقا ) أي ساءت متكئا ومنزلا ومقيلا٢ نسأل الله العافية والسلامة والنجاة.
١ - مختار الصحاح ص ٦٣٨..
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ١٥٩ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٨٢..
قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ( ٣٠ ) أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا ( ٣١ ) ﴾ الاسم الموصول ( الذين ) وصلته في موضع نصب اسم ( إن ). وخبره ( إنا لا نضيع ) وقيل :( أولئك لهم جنات ) ١.
بعد أن ذكر ما أعده للمشركين والجاحدين الأشقياء من العذاب المهين، ثنى بذكر المؤمنين السعداء الذين صدقوا الرسل واستجابوا لأوامر الله وعملوا الصالحات ؛ فإنه لا يضيع أجر من أحسن منهم عملا. وقيل :( إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ) كلام معترض فيكون الخبر
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٠٧..
( أولئك لهم جنات عدن ) وهو ما بيناه في الإعراب آنفا.
والمعنى : أن المؤمنين الصالحين، جزاؤهم عند الله محفوظ غير مضيع ؛ فقد أعد الله لهم جنات عدن. والعدن بمعنى الإقامة ؛ فهي دار إقامة لا تفنى ولا تتبدد ولا تزول. ويجد فيها المؤمنون الصالحون من السعادة وحسن الجزاء ما لا يطرأ على قلب بشر ولا تتخيله الأذهان. وهم أيضا ( يحلون فيها من أساور من ذهب ) وهذا صنف من أصناف النعمة والسعادة التي يتلذذ فيها المؤمنون في الجنة، وهي التحلية بأساور من ذهب. ولئن كان لباس الذهب والحرير في الدنيا محرما على الرجال ؛ فإنه يصير في الجنة متاحا للمؤمنين ليكون لهم أجمل حلية يتحلون بها. وهم كذلك يلبسون الثياب الخضر من السندس وهو الديباج الرقيق. وكذا الاستبرق وهو ما غلظ من الديباج. والديباج، كلمة فارسية. وهو ضرب من الثياب سداه ولحمته حرير. ١
قوله :( متكئين فيها على الأرائك ) ( الأرائك )، جمع أريكة، وهي سرير منجّد مزين في قبو أو بيت، فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة٢، والحجلة : ساتر كالقبة يزين بالثياب والستور للعروس٣. والمعنى : أن المؤمنين يتنغمون في الجنة باتكائهم على الأسرة ليجدوا وهم جلوس فوقها كامل الإحساس بالراحة والسعادة ( نعم الثواب وحسنت مرتفقا ) أي نعمت هذه الجنات التي أعدها الله للمؤمنين الصالحين وحسنت منزلا لهم ومقاما٤.
١ - المعجم الوسيط جـ١ ص ٢٦٨ ومختار الصحاح ص ١٩٧..
٢ - مختار الصحاح ص ١٤..
٣ - المعجم الوسيط جـ١ ص ١٥٨..
٤ - تفسير لابن كثير جـ٣ ص ٨٢ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٣٩٦-٣٩٨..
قوله تعالى :﴿ واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا ( ٣٢ ) كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا ( ٣٣ ) وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ( ٣٤ ) ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا ( ٣٥ ) وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ( ٣٦ ) ﴾.
هذا مثل ضربه الله للمؤمنين والكافرين ليكون عظة وذكرى لمن يدّكر أو يعتبر ؛ فقد مثّل الله حال الفريقين بحال رجلين جعل لأحدهما جنتين ؛ أي بساتين من أعناب وقد حفت بهما أشجار النخل الباسقة من كل الجهات زيادة في الجمال وحسن المنظر. وهو قوله :( واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا ) ( وحففناهما )، أي أطفنا بهما من جوانبهما. حف القوم بفلان وحفوا به، أي أطافوا به واستداروا كقوله سبحانه :( وترى الملائكة حافين من حول العرش ) حفّه بالشيء كما يحف الهودج بالثياب١. والمعنى : رزقنا أحدهما بساتين من كروم وجعلنا النخل حافا بهما ؛ أي محيطا بكهما من كل الجوانب ( وجعلنا بينهما زرعا ) أي جعلنا وسط الأعناب في البساتين زروعا لتكتمل الجنتان في حسنهما ووافر عطائهما.
١ - مختار الصحاح ص ١٤٥..
قوله :( كلتا الجنتين آتت أكلها ) كل واحدة من الجنتين أعطت ثمارها غير منقوص وهو قوله :( ولم تظلم منه شيئا ) أي لم تنقص منه شيئا. قوله :( وفجرنا
خلالهما نهارا ) ( وفجرنا ) من التفجير وهو الانبجاس ؛ فجر الماء فانفجر ؛ أب بجسه فابنجس١ أي جعلنا الأنهار تنبجس في كل مكان وسط البساتين.
١ - مختار الصحاح ص ٤٩١..
قوله :( وكان له ثمر ) الضمير يعود على صاحب الجنتين. والمراد بالثمر المال ؛ أي كان أنواع من المال كالذهب والفضة ونحوهما ( فقال لصاحبه وهو يحاوره ) يحاوره : يجاوبه ويجادله، من الحوار وهو حديث يجري بين شخصين أو أكثر١ ؛ أي قال صاحب البساتين لصاحبه المؤمن الذي لا مال له- قال له وهو يجادله ويخاصمه مفاخرا مغترا بماله وبساتينه وثماره ( أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ) هذا المغرور يفاخر صاحبه المؤمن غير ذي المال بأنه أكثر منه مالا وأقوى رهطا وعشيرة وأكثر أولادا.
١ - مختار الصحاح ص ١٦١ والمعجم الوسيط جـ١ ص ٢٠٥..
قوله :( ودخل جنته وهو ظالم لنفسه ) دخل هذا المغرور الجاحد جنته ( وهو ظالم لنفسه ) الجملة في محل نصب على الحال. وظلمه لنفسه بسبب غروره وغفلته وإنكاره المعاد. ثم قال لدى دخوله جنته مغترا جاحدا ( ما أظن أن تبيد هذه أبدا ) وذلك لما رآه من حسن الجنتين وكمالهما وما فيهما من الثمار والزرع والأنهار فاغترّ بذلك اغترارا ظن أن هذه الجنة دائمة لا تفنى وأن الساعة لا تقوم. وهو قوله :( وما أظن الساعة قائمة )
( وما أظن الساعة قائمة ) أي ما أحسب القيامة التي وعد بها المؤمنون كائنة.
قوله :( ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) أي لئن رجعت إلى ربي يوم القيامة- وهو غير موقن بقيامها في الأصل- ليكونن لي عند ربي ما هو خير من جنتي هاتين. وهو في ذلك يوهم نفسه أنه لم يٌعط هاتين الجنتين في هذه الدنيا إلا لكرامته على الله، ولكونه مفضلا مقربا من ربه، فلسوف يجد عنده بعد المعاد ( خيرا منها منقلبا ) ( منقلبا ) منصوب على التمييز. وهو المرجع والمرد١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٨٣ وتفسير الطبري جـ١٥ ص ١٦٠، ١٦١..
قوله تعالى :﴿ قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ( ٣٧ ) لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ( ٣٨ ) ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا ( ٣٩ ) فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا ( ٤٠ ) أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا ( ٤١ ) ﴾ المراد بصاحبه ههنا، المؤمن غير ذي المال من بساتين وثمار وأنهار ونخل وغير ذلك ؛ فقد ردّ مقالة الأول المغرور وهو يجادله واعظا ومحتجا ( أكفرت بالذي خلقك من تراب من نطفة ثم سواك رجلا ) خطابه مستنكرا كفرانه بالله خالق كل شيء، وخالقه هو من تراب ؛ فهو من نسل آدم أبي البشر خلقه الله من طين ( ثم من نطفة ) خلق الله الإنسان من قطرة من الماء المهين، ثم انتقل في مراحله المتطورة المتعاقبة طورا بعد طور حتى جعله على أكمل هيئة وأحسن صورة، وهو الإنسان السوي المتكامل. أفبعد ذلك كله مما منّ الله به عليك من تمام التكوين وجمال المنظر والمظهر تجحد فضل الله ونعمته عليك وتكذب بالساعة التي وعد بها العباد ؟ !
قوله :( لكنا هو الله ربي ) ( لكنا )، أًصله : لكن أنا. حذفت الهمزة طلبا للخفة من كثرة الاستعمال، وألقيت حركتها على نون ( لكن ) فاجتمعت النونان فأدغمت نون لكن في النون التي بعدها١ والمعنى : لكن أنا أقول :( هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ) لا أقول بقولك الظالم ؛ بل أقر لله بالوحدانية والربوبية.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٠٧ وتفسير الرازي جـ٢١ ص ١٢٧..
قوله :( ولولا إذ دخلت جناتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) هذا تحضيض من الصاحب المؤمن لصاحبه المكذب المغرور ؛ إذ قال له واعظا محذرا : هلا حين دخلت جنتك فأعجبك حسنها وما فيها من ثمار وزروع ونهر، حمدت الله على ما منّ به عليك وأعطاك من المال والولد وقلت عقب ذلك ( ما شاء الله ) ( ما )، اسم موصول، و ( شاء ) صلته، وهو في موضع رفع ؛ لأنه مبتدأ وخبره محذوف. وتقديره : الذي شاءه الله كائن، وحذف الهاء تخفيفا. وقيل :( ما ) شرطية في موضع نصب بالفعل ( شاء ). وجوابها محذوف، تقديره : ما شاء الله كان١.
قوله :( لا قوة إلا بالله ) أي ما تيسر لك من عمارة هذه الجنة إنما هو بقوة الله وقدرته لا بقوتك وقدرتك. فإنه ما اجتمع للإنسان من مال أو خير أو نعمة فإنما ذلك كله كائن بمشيئة الله وعونه وتوفيقه ؛ فهو الخالق لكل شيء، الفعال لما يريد.
وفي فضل هذه العبارة وعظيم قدرها جاء في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله ( ص ) قال له : " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله ". وروى الترمذي من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( ص ) : " من قال- يعني إذا خرج من بيته- باسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله ؛ يقال : كفيت ووقيت، وتنحّي عنه الشيطان ".
وزاد أبو داود فيه : فقال له : " هديت وكفيت ووقيت " وقال أنس بن مالك : قال النبي ( ص ) : " من رأى شيئا فأعجبه فقال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ؛ لم يضرّه عين ".
قوله :( إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا ) ( إن )، شرطية، ( ترن ) مجزوم بالشرط،
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٠٨..
وجوابه ( فعسى ربي ) في الآية التي بعدها وتقدير. ترني أقل منك مالا. و ( أنا )، ضمير فصل لا محل له من الإعراب. وقيل : توكيد للنون والياء١. والمعنى : إن كنت تراني ( أقل منك مالا وولدا ) في هذه الدنيا الفانية فلعل الله يعطيني من فضله في الدنيا أو في الآخرة خيرا مما أعطاك. ولعله سبحانه أن يرسل على جنتك هذه ( حسبانا من السماء ) أي عذابا من السماء. وقيل : الحسبان الصواعق. واحدتها حسبانة.
وقيل : الحسبانة السحابة. والمراد : أن يرسل الله من السماء عذابا يأتي على جنتك بالتدمير والتخريب ( فتصبح صعيدا زلقا ) الصعيد، التراب، أو وجه الأرض٢، و ( زلقا ) أي ملساء لا يثبت عليهم قدم٣ ؛ أي تصبح جنتك أرضا ملساء لا نبات فيها، ولا يثبت عليها قدم لملامستها.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١٠٩..
٢ - القاموس المحيط جـ٢ ص ٣١٨..
٣ - مختار الصحاح ص ٢٧٤..
قوله :﴿ أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا ﴾ ( غورا )، من الغور، وهو قعر كل شيء. والغور : المنخفض من الأرض. غار الماء غورا، ذهب في الأرض فهو غائر. وغارت العين غئورا ؛ أي انخسفت١ ؛ أي يصبح ماء جنتك غائرا ذاهبا في أسفل الأرض فلن تستطيع رده بعد ذلك فيأتي على جنتك الجفاف واليُبس٢.
١ - المصباح المنير جـ٢ ص ١١٠..
٢ - تفسير القرطبي جـ١٠ ص ٤٠٧-٤٠٩ وتفسير الرازي جـ٢١ ص ١٢٨..
قوله تعالى :﴿ وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ( ٤٢ ) ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا ( ٤٣ ) هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا ( ٤٤ ) ﴾.
معنى ( وأحيط بثمره ) : أهلك كل ماله ؛ فقد تحقق بذلك ما أنذره به صاحبه المؤمن. وأصل العبارة من الإحاطة. نقول : أحاط به العدو ؛ أي استولى عليه وتمكن منه فأهلكه إهلاكا. وهنا قد أحاط بجنته الإهلاك والتدمير فتبددت وأتى عليها الخراب ( فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها ) أصبح المكذب المغرور يضرب إحدى كفيه على الأخرى لشدة ما أصابه من الندم والتحسر. وتقليب الكفين حين الخسران والمصاب الجلل كناية عن الندم البالغ ؛ فإن من عظمت حسرته يصفق إحدى يديه على الأخرى. وإنما يفعل ذلك ندامة على ما أنفق في عمارة جنته ثم صار كل ذلك إلى الخراب.
قوله :( وهي خاوية على عروشها ) أي ساقطة على عروشها وخاوية بمعنى خالية. وقيل : ساقطة ؛ أي فهي ساقطة على عروشها١. ويمكن أن يكون المراد بالعروش عروش الكروم ؛ فهذه العروش قد سقطت ثم سقطت الجدران عليها. ويمكن أن يراد من العروش : السقوف وهي قد سقطت على الجدران.
قوله :( ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ) ليتني أيقنت أن الله حق وأنه وحده الخالق المعبود فلم أتخذ معه إلها آخر. وذلك بعد أن تذكر ما وعظه به صاحبه المؤمن فأدرك أن الله أهلك جنته وابتلاه هذا البلاء بسبب جحوده وغروره وعصيانه ؛ فقد ندم مثل هذا الندم الشديد حين لم تنفعه الحسرة ولم يجده التمني والندم.
١ - مختار الصحاح ص ١٩٤..
قوله :( ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله ) الفئة، يراد بها الجماعة من عشيرة أو أهل أو أنصار. فهذا المكذب المغرور بعد أن نزلت بجنتيه نازلة الهلاك والتدمير من السماء وغشيه من الغم والندم وما غشيه، وجد نفسه حسيرا مخذولا، فلم تكن له حينئذ جماعة من الناس أو أعوان يمنعونه من عقاب الله ( وما كان منتصرا ) ما كان هذا المكذب المغرور الخاسر ممتنعا بقوته عن انتقام الله إذا أراد أن يعذبه.
قوله :( هنالك الولاية لله الحق ) ( الحق ) صفة لله. و ( الولاية )، بفتح اللام من الموالاة يعني النصرة والتولي. فيكون المعنى : في ذلك المقام إنما تكون الموالاة أو النصرة لله وحده فلا يملكها ولا يستطيعها أحد سواه. وبالكسر، تعني السلطان والملك والقدرة والإمارة ؛ أي لله الحكم والسلطان يوم القيامة.
قوله :( هو خير ثوابا وخير عقابا ) الله خير جزاء في الدنيا والآخرة لمن آمن به والتجأ إليه منيبا مخبتا وهو كذلك خير عاقبة١.
١ - تفسير الرازي جـ٢١ ص ١٣٠ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٤٠٩-٤١١ وفتح القدير جـ٣ ص ٢٨٦..
قوله تعالى :﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ( ٤٥ ) المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ( ٤٦ ) ﴾.
هذا مثل كاشف يضربه الله للناس فيصف فيه حقيقة الدنيا في سرعة زوالها وانقضائها وأنها حطام دائر ما يلبث أن يفنى ويتبدد ليكون بعد ذلك أثرا بعد عين.
مثل يضربه الله للناس وفيهم المغرورون والغافلون والتائهون السادرون في الضلال والتفريط والغفلة، الغائرون في الشهوات والملذات بكل صورها وضروبها.
والحياة برمتها- في الحقيقة- أشبه بماء المطر النازل من السماء إلى الأرض ليختلط به نباتها المختلف. فينمو ويزهو ويستوي على سوقه ويكون في غاية النضارة والحسْن، ثم يأخذ بعد ذلك في الذبول والانحناء والتكسر ويأتي عليه الجفاف واليُبس ليصبح بعد ذلك ( هشيما تذروه الرياح ) من الهشم وهو كسر الشيء اليابس. والهشيم معناه النبات اليابس المتكسر، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء١.
قوله :( تذروه الرياح ) أي تسفّه وتفرقه ليتطاير في الفضاء وفي أجواء السماء ( وكان الله على كل شيء مقتدرا ) الله قادر على كل شيء. سواء في ذلك إنشاء الخلق أو إفناؤه أو أحياؤه من جديد.
هذه هي الدنيا حقيقتها ؛ فإنما هي مركبات من الأموال والأهواء والملذات والزخرف. أو هي أصناف مختلفة من الزينة والشهوات والتفاخر بالوجاهات والأموال وغير ذلك من المستلذات مما تشتهيه نفوس البشر. ثم قال ذلك كله إلى الفناء والزوال. وهكذا الإنسان يكون لا هيا سادرا في الشهوات والمستلذات وهو يمتد به العمر ليدنو به رويدا رويدا من الهرم وخرف الكبر. فما يلبث بعد ذلك أن يصير إلى الموت المحتوم. وحينئذ تفنى الأهواء والشهوات وتنقضي الحياة برمتها، ليحين بعد ذلك وقت الحساب والمساءلات بدءا بالقبر حيث الظلمة وهول العذاب فيه، ومرورا بالحشر وما فيه من فظائع الزحام والعطاش والذعر والكرب الشديد، وانتهاء بالحساب الفاصل، فإما إلى النجاة والجنة، وإما إلى الهوان والنار.
١ - القاموس المحيط جـ٤ ص ١٩٢..
قوله :( المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) المال زينة للإنسان ؛ لأنه يتحصل له به المنافع والشهوات. وبالمال يبلغ الإنسان كثيرا من مآربه الشخصية والدنيوية مما تشتهيه نفسه وتطمح إليه. وبالمال يجد الأغنياء أنفسهم موضع اعتبار لدى الناس ؛ إذ ينظرون إليهم بمنظار التعظيم والتبجيل.
ومن أجل ذلك حُبب للناس التفاخر في كثرة المال. وكذلك البنون ؛ فهم محبوبون بالفطرة، ثم إنهم سبب يتقوى به الآباء ؛ إذ يطمحون في الظهور والاستعلاء، ويرغبون أن يكونوا من أولي المكانات والدرجات في المجتمعات التي لا ترعى غير المقاييس الشكلية الزائفة. ومن أجل ذلك كان المال والبنون زينة للناس يتفاخرون بها في حياتهم الدنيا. وهي زينة ما لها من مُكث ولا ديمومة. وإنما هي صائرة كلها إلى النهاية المنتظرة المحتومة وهي الفناء وموت الغافلين والمغرورين من أولي الطول والمفاخرة. وليس من باق بعد ذلك إلا الأعمال الصالحة التي تظل رفيقة المؤمنين العاملين فلا تبرحهم ثم تشهد لهم يوم القيامة بالخير والصلاح ليكونوا من الناجين والفائزين وهو قوله :( والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا ) واختلفوا في المراد بالباقيات الصالحات. فقيل : هي الصلوات الخمس، وهو قول ابن عباس وآخرين. وقيل : هي الكلمات المأثورة : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وفي ذلك أخرج ابن ماجه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ( ص ) : " عليك بسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ؛ فإنهن يحطن الخطايا كما تحط الشجرة ورقتها ".
وقيل :( والباقيات الصالحات ) يراد بهن البنات الصالحات ؛ فهن عند الله لآبائهن خير ثوابا وخير أملا في الآخرة لمن أحسن إليهن. وفي هذا الصدد روي عن النبي ( ص ) أنه قال : " لقد رأيت رجلا من أمتي أمر به إلى النار فتعلق به بناته وجعلن يصرخن ويقلن : رب إنه كان يحسن إلينا في الدنيا فرحمه الله بهن ".
وفي رواية عن ابن عباس أنا كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة. فالدنيا زينتها المال والبنون، ومقتضيات ذلك من أنواع اللذائذ والمفاخرات مما يفنى لا محالة، وينقضي بانقضاء الدنيا. وما بعد ذلك من الأعمال الصالحات ما بين صلوات وذكوات وصيام ومختلف وجوه العبادات، أو أمر بمعروف ونهي عن منكر، أو جهاد في سبيل الله، أو بر وإحسان، ومختلف ألوان الطاعات، فكل ذلك من الباقيات الصالحات التي تبقى راسخة في الميزان ليجدها المؤمنون الصادقون بين أيديهم يوم الحساب.
قوله :( وخير أملا ) ما تقدم ذكره من الصالحات خير ما يأمله الإنسان ؛ فهو المأمول النافع الباقي. أما غيره من آمال الدنيا ؛ فإنه غمام منقشع يصير إلى الزوال عما قريب١.
١ - تفسير القرطبي جـ١٠ ص ٤١٢-٤١٦ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٨٦ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١٢٢٩..
قوله تعالى :﴿ ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ( ٤٧ ) وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ( ٤٨ ) ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ( ٤٩ ) ﴾ ( يوم )، منصوب بفعل مقدر، وتقديره : اذكر يوم١.
وتسير الجبال، يعني إذهابها وإزالتها عن وجه الأرض بأن تصبح هباء مبثوثا متطايرا في أرجاء الفضاء الواسع.
قوله :( وترى الأرض بارزة ) أي ظاهرة ماثلة لا يسترها شيء من جبال أو أشجار أو عمران، تمشيا مع حدث القيامة الجلل، الحدث المزلزل الفظيع الذي يتغير فيه وجه الكون وتتبدل فيه صورة السماوات والأرض مما يزيد من هول المنظر المرعب في هذا اليوم العصيب حيث الخوف والندم والإياس والاستحسار.
قوله :( وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ) ( نغادر )، نترك، ومنه الغدير ؛ فهو القطعة من الماء يغادرها السيل. وأغدره بمعنى تركه٢، فالله جل وعلا يجمع الناس يوم القيامة في أرض المحشر ليلاقوا الحساب، دون أن يترك منهم أحدا ؛ بل الله جامعهم جميعا سواء فيهم الكبراء والأمراء والزعماء وأولوا الجاه والطول، أو المرؤوسون والعالة والأراذل والمستضعفون، كل أولئك مجموعون يوم القيامة للحشر الذي تغيب فيه الجاهات والزعامات والاعتبارات الزائفة الكاذبة والموهومة.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١١..
٢ - مختار الصحاح ص ٤٦٩..
قوله :( وعرضوا على ربك صفا ) يعرض العباد على ربهم يوم القيامة ( صفا ) أي صفوفا ليكونوا صفا بعد صف كالصفوف في الصلاة. وقيل غير ذلك في صفة الصف. وكيفما تكن هيئة الاصطفاف في الآخرة فإن موضع الإثارة في ذلك الحين ما يدْهم الخلائق من شدة الوجل، وبالغ الذعر والإياس وهم يصطفون مذعورين ذاهلين. ثم يقال لهم حينئذ :( لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ) أي جئتمونا كما خلقناكم حفاة عراة غرلا، لا مال معكم ولا أنصار لكم. وفي صحيح مسلم عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا " قلت : يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : " يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض " وغرلا، أي مختونين.
قوله :( بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ) يقال ذلك على سبيل التوبيخ والتقريع والتعنيف لمنكري البعث الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة فتاهوا في الغي والباطل. أولئك ما كان ظنهم أن الساعة قائمة وأن الحساب ملاقيهم.
قوله :( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ) ( الكتاب )، هو كتاب أعمال العباد جميعا سواء فيها الكبير والصغير أو الجليل والحقير وحينئذ ينظر المجرمون المستيئسون إلى كتاب أعمالهم وجلين مذعورين بسبب تفريطهم ومما حواه كتابهم من المعاصي والمنكرات.
قوله :( ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) هؤلاء المجرمون الخاطئون ينادون يوم القيامة بالويل والندامة بسبب تفريطهم وخسرانهم، فيقولون : يا ويلنا ويا حسرتنا ( مال هذا الكتاب ) أي ما شأن هذا الكتاب لا يترك ولا يبقي ذنبا صغيرا ولا كبيرا من ذنوبنا إلا حفظه. وصغائر الذنوب محقراتها وهي اللمم كالمسيس ( المسّ ) والقُبل. أما الكبيرة فهي الزنا. على أن المؤمن المتعظ يحرص أن لا تطوقه الصغائر ومحقرات الذنوب ؛ فإنها تجتمع على المرء فتهلكه.
قوله :( ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحد ) كل ما عمله العباد في دنياهم يجدونه يوم القيامة في كتاب أعمالهم محفوظا ؛ فالله جل وعلا أعدل العادلين ؛ فهو لا يجوز في حكمه، ولا يجازي أحدا إلا بما يستحق١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٨٧ وتفسير الرازي جـ٢١ ص ١٣٤..
قوله تعالى :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ﴾ ذلك تنبيه من الله تعالى لبني آدم على كيد إبليس وعداوته وكراهيته لهم ؛ فإبليس عدو بني آدم الألد. وهو طيلة الزمان لا يبرح الكيد وسوء التدبير للبشر ليضلهم بأساليبه من الوسوسة والإغواء عن سبيل الله، وليوقع في الدنيا الخراب والفساد فيشيع الكفر والضلال ويعم الظلم والباطل ؛ فتتيه البشرية في العمه والعصيان لتصير في الآخرة إلى الهلاك والخسران. فقال سبحانه منبها مذكرا بحقيقة إبليس :( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ).
أي واذكر حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم. وهو سجود تحية وتكريم وتشريف لا سجود إذعان وعبادة، فاستجابوا لما أمرهم الله به من السجود له، طائعين الله منيبين إليه ( إلا إبليس كان من الجن ) استثناء منقطع ؛ فإبليس ليس من جنس الملائكة في الأرجح ؛ فهم من نور، وأصل إبليس من نار. فالأصلان مختلفان تمام الاختلاف، متباينان كامل التباين. وشتان بين النور المضيء الساطع المشعشع، والنار اللاهبة اللافحة الحارقة. وقد قيل : كان إبليس من قبيلة يقال لها الجن. وقيل غير ذلك من الآثار التي جُلّها من الإسرائيليات مما لا ينبغي الركون إليه أو الاعتداد به.
والصواب أن إبليس من الجن استنادا إلى ظاهر الآية في قوله مبينا حقيقة إبليس ( كان من الجن ) وهذه جملة مستأنفة، تبين سبب فسق إبليس وهو كونه من الجن وليس من الملائكة. قال الحسن البصري في ذلك : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل البشر : قوله :( فسق عن أمر ربه ) فسق من الفسق، بالكسر وهو الترك لأمر الله تعالى، والعصيان والخروج عن طريق الحق. أو الفجور. وسميت الفأرة بالفويسقة ؛ لخروجها من جحرها على الناس١ ذلك هو إبليس ؛ فإنه بطبعه الخبيث نزّاع لإضلال العباد، حريص بالغ الحرص على إغوائهم وإفسادهم ليسلكوا سبيل الكفر والباطل فيكونوا شركاءه في جهنم.
قوله :( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدوا ) الهمزة، للإنكار والتعجب ؛ أي، أبعد هذا الإضلال والإغواء والإفساد والكيد من إبليس لكم، تتخذونه وذريته أعوانا بدلا عني ؛ إذ تطيعونه وتعصونني، وتسلكون سبيله في الشر والغي عوضا عن سبيل الله وهديه ( وهم لكم عدو ) في موضع نصب على الحال ؛ أي أتطيعون إبليس مع عداوته القديمة لكم وهو ما يزال يكيد لكم أشد الكيد حتى يطغيكم ويغويكم. أما المراد بذرية إبليس، فقيل : إنهم يتوالدون كما تتوالد بنو آدم. لكن لا نعلم كيفية التوالد وحصول الذرية. وقيل : المراد بذرية إبليس جنوده وأعوانه من الشياطين.
قوله :( بئس للظالمين بدلا ) فاعل ( بئس ) مضمر. وتقديره : بئس البدل بدلا للظالمين ذرية إبليس. و ( بدلا )، منصوب على التمييز٢. والمعنى : بئسما استبدلوا بعبادة الله إذا أطاعوا إبليس بدل طاعة الله٣.
١ - القاموس المحيط جـ٣ ص ٢٨٥..
٢ - البيان لابن الأنباري جت٢ ص ١١١..
٣ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ١٦٩ وفتح القدير جـ٣ ص ٢٩٢ وتفسير النسفي جـ٣ ص ١٦..
قوله تعالى :﴿ ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ﴾ الضمير في ( أشهدتهم ) يعود على الشركاء وهم الآلهة المزيفة والأنداد المصطنعة التي عبدها هؤلاء المشركون من دون الله.
والمعنى : أن هؤلاء الشركاء الذين عبدتموهم ليسوا إلا خلقا أمثالكم فلم أشركهم في الإلهية. ولو أشركتهم فيها لكانوا شركاء في خلق السماوات والأرض وكانوا مشاهدين خلق ذلك. لكنهم لم يشاهدوا خلق ذلك ولم يشاهدوا خلق أنفسهم، فكيف تعبدونهم.
قوله :( وما كنت متخذ المضلين عضدا ) العضد، من المعاضدة وهي المعاونة والمناصرة. اعتضد به أي استعان١.
أي لست مستعينا بالمخلوقين، وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ. والمعنى : ما استعنت بشركائكم المضلين على خلق السماوات والأرض وما كنت متخذا لي منهم أعوانا ؛ فإني أنا الخالق القادر المنزه عن الشركاء والأعوان والأقران.
١ - مختار الصحاح ص ٤٣٨..
قوله تعالى :﴿ ويوم يقول نادوا شركائي الذي زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا ( ٥٢ ) ورءا المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ( ٥٣ ) ﴾ يوم، منصوب بفعل محذوف وتقديره : واذكروا يوم يقول نادوا شركائي. وهذه صورة من صور الهوان والخسران الذي يحيط بالمجرمين من مشركين وجاحدين ومضلين يوم القيامة ؛ إذ يناديهم الله على رؤوس الخلائق والأشهاد زيادة في التوبيخ والتقريع والإهانة ؛ إذ يقول لهم : أين الذين أشركتموهم بي فليمنعوكم من عذابي وليردوا عنكم ما حاق بكم الآن من هول وبلاء ( فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ) أي فعلوا ما أمرهم الله من مناداتهم الأصنام وما كانوا يعبدون ( فلم يستجيبوا لهم ) لم يستجيبوا لندائهم ولم يدفعوا عنهم عذابا ولم يكفوا عنهم شيئا.
قوله :( وجعلنا بينهم موبقا ) الموبق، المهلك، من الوبوق. وبق يبق وبوقا ؛ أي هلك. أوبقه بمعنى أهلكه١. والمراد به ههنا : حاجز بين المشركين، وما كانوا يعبدون أصنام. فقد قيل : كل شيء حاجز بين شيئين فهو موبق. وقيل : الموبق واد في جهنم بين المؤمنين والكافرين.
١ - المصباح المنير جـ٢ ص ٣٢٠ ومختار الصحاح ص ٧٠٧..
قوله :( وراء المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ) ( المجرمون ) من مشركين وجاحدين ومضلين سيلاقون من الكروب والأهوال يوم القيامة ما تتقطع منه القلوب وتتزلزل لفظاعته الأبدان. ومن جملة ذلك : أن يعاينوا النار، فإذا عاينوها أيقنوا وتحققوا أنهم واقعون فيها لا محالة ( ولم يجدوا عنها مصرفا ) ليس لهم من دون النار مهرب يفرون إليه.
قوله تعالى :﴿ ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ﴾ ( صرفنا )، من التصريف وهو التبيين والتوضيح، وتصريف الآيات أي تبيينها١ ؛ فقد بيّن الله للناس آياته تبيينا وذلك بمختلف الوجوه من الأمثال والمواعظ والحجج لكي يتذكروا ويعتبروا ويزدجروا عما هم فيه من شرك وعصيان. لكن الإنسان شديد المراء والخصومة، شديد الجنوح للنسيان والغفلة٢.
١ - القاموس المحيط جـ٣ ص ١٦٧..
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ١٧٣..
قوله تعالى :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ( ٥٥ ) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ( ٥٦ ) ﴾ أي ما منع المشركين عن الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، حين جاءهم الهدى، وهو الإسلام، إلا طلبهم أن تأتيهم سنة الأولين وهي معاينتهم العذاب أو مشاهدتهم إياه عيانا. كقولهم :( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) فهم لا يؤمنون إلا إذا نزل بهم العذاب.
قوله :( أو يأتيهم العذاب قبلا ) ( قبلا ). بضم القاف، منصوب على الحال ؛ أي عيانا. وقيل : فجأة. وقيل : جمع قبيل. وتقديره : أو يأتيهم العذاب قبيلا قبيلا، يتلو بعضه بعضا١ وعندئذ يصدقون ويستغفرون.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٢..
قوله :( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ) الله يرسل رسله لعباده ليبشروا أهل الإيمان والصلاح فيهم برحمة منه تغشاهم في الدنيا والآخرة، وينذروا المكذبين والعصاة ما سيبوءون به من الهلاك والخسار وسوء المصير.
قوله :( ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق ) ( الحق )، يراد به ههنا الإسلام أو النبوة. ويدحضوا، من الإدحاض وهو الإزلاق. دحضت حجته ؛ أي بطلت١.
والمعنى، أن المشركين والمكذبين يخاصمون خصامهم العنيد الفاجر، وهم إنما يحاجّون بالباطل ؛ إذ يصطنعون الحجج الفاسدة والأقاويل الضالة على سبيل المكابرة والمعاندة والتحدي، كقولهم للنبيين :( ما أنتم إلا بشر مثلنا ). أو سؤالهم عن فتية ذهبوا في أول الدهر ولم يظهر أمرهم، وعن الروح، ونحو ذلك من الأسئلة التي يصطنعها الجاحدون في معرض التكلف والمشاقة والحذلقة. ذلك كله ( ليدحضوا به الحق ) أي ليبطلوا هذا الدين بمجادلاتهم وخصاماتهم ويذهبوا به إذهابا.
وذلك هو ديدن المكذبين والجاحدين في كل زمان ؛ إذ يصطنعون المجادلات والخصامات والشبهات المكذوبة لينفروا البشرية من تعاليم الإسلام، وليثيروا في الأرض الشكوك والكراهية لهذا الدين العظيم.
قوله :( واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ) ما، مصدرية، وهي في موضع نصب لأنها معطوفة على ( آياتي ). وتقديره : واتخذوا آياتي وإنذاري إياهم هزوا. فهزوا، منصوب لأنه المفعول الثاني لقوله :( واتخذوا ) ٢ أي اتخذوا آيات الله وهي القرآن وما أنذروا به من الوعيد بالعذاب يوم القيامة ( هزوا ) أي موضع سخرية واستهزاء.
وكذلك يفعل المكذبون والمجرمون والجاحدون في كل زمان ؛ إذ يسخرون من آيات الله وحججه وأحكامه ومواعظه بعد أن يثيروا من حولها الأباطيل والأقاويل الظالمة المفتراة ليزهد الناس في دين الله وليرتد المسلمون عن دينهم الحق شر ارتداد٣.
وكيفما تمالأت قوى الشر والطغيان على الإسلام أو ائتمر به المجرمون والطواغيت ليكيدوا له أشنع كيد بمختلف الأسباب والأساليب ؛ فإن دين الإسلام لا جرم ظاهر على الدين كله، وأنه لا محالة منصور بعون الله القادر القاهر ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ).
١ - المصباح المنير جـ١ ص ٢٠٣ ومختار الصحاح ص ١٩٩..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٢..
٣ - تفسير القرطبي جـ١١ ص ٧..
قوله تعالى :﴿ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا ( ٥٧ ) وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ( ٥٨ ) وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ( ٥٩ ) ﴾ أي هل في الناس أحد أشد كفرا وظلما لنفسه ممن وُعظ بآيات الله البينات وما فيها من حجج ساطعة وإعجاز ظاهر بليغ ( فأعرض عنها ) أي أدبر عنها ولم يعبأ بها أيما إعباء، ولم يبال بها أية مبالاة ؛ بل استهان بها ولم يتدبرها ( ونسي ما قدمت يداه ) أي انشغل عما فعله من المعاصي والخطايا، وأخذته في ذلك الغفلة، وسدر تائها في غيه وشهواته فلم يتب ولم يتدبر أو يزدجر.
قوله :( إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ) أي أغشينا قلوبهم بأغطية وذلك بالختم عليها فهم من الذين طبع الله على قلوبهم ( أن يفقهوه ) أي لئلا يفهموا هذا القرآن ( وفي آذانهم وقرا ) أي جعلنا في آذانهم ثقلا وهو الصمم المعنوي عن الهداية والحق وذلك بسبب نسيانهم وإعراضهم عن آيات الله وعن انشغالهم في الملذات والحطام الزائل. قوله :( وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا ) أي إن تدع هؤلاء العصاة المعاندين الذي أعرضوا عن آيات الله وعن دينه- إلى الإنابة إلى ربهم وإلى الاستقامة على محجة الإسلام العظيم ؛ فلن يستجيبوا لما دعوتهم إليه ؛ بل هم جامحون في الضلالة والمعصية، سادرون في اللجاجة والتمرد ؛ لأن الله قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم وجحودهم.
قوله :( وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب ) الله غفار للذنوب، ساتر للخطايا والآثام لمن تاب وأناب. وهو سبحانه ذو رحمة واسعة فلم يعاجل الظالمين بالعقوبة بسبب ما كسبوا من المعاصي ( بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ) لقد جعل الله للظالمين والعصاة غير التائبين موعدا مقدرا لعذابهم لن يتجاوزوه. وقيل : المراد به عذاب الآخرة. وقيل : عذاب الدنيا، وهو الظاهر من السياق. قوله :( لن يجدوا من دونه موئلا ) أي إذا جاء أجلهم بالعذاب لن يجدوا لأنفسهم من دونه ملجأ يلجأون إليه أو مفرا يولون نحوه هاربين.
قوله :( وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا ) ( وتلك ) مبتدأ، و ( القرى ) صفته.
و ( أهلكناهم ) في موضع رفع خبر المبتدأ١ والمعنى : أن تلك القرى التي قصّ الله خبرها على رسول الله ( ص ) كقرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط وقوم فرعون، أولئك قد أهلكهم الله إهلاكا ودمّر عليهم تدميرا بسبب تكذيبهم وعصيانهم وإعراضهم عن عقيدة التوحيد ( وجعلنا لمهلكهم موعدا ) أي جعل الله لمهلكهم ميقاتا معلوما لم يتجاوزوه.
ومثل هذا الحكم لا جرم ينسحب على كل أمة تستنكف عن دعوة الحق، وتعرض عن رسالة التوحيد، وتأبى إلا العتو والإعراض عن منهج الله٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٢..
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ١٧٤ وفتح القدير جـ٣ ص ٢٩٦..
قوله تعالى :﴿ وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ( ٦٠ ) فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا ( ٦١ ) فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غذاءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ( ٦٢ ) قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا ( ٦٣ ) قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا ( ٦٤ ) فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ( ٦٥ ) ﴾.
فتى موسى هو يوشع بن نون. وكان فتاه ؛ لأنه كان يخدمه ويأخذ عنه العلم. وسبب قول موسى لفتاه هذا القول : أنه ذكر له أن هناك عبدا مؤمنا من عباد الله بمجمع البحرين لديه من العلم ما ليس عندك. فأراد موسى أن يرحل إليه ويتلقى منه العلم. وفي هذا الصدد روى البخاري عن أبي بن كعب ( رضي الله عنه ) أنه سمع رسول الله ( ص ) يقول : " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسأل : أي الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه ؛ إذ لم يُرد العلم إليه، فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى : يا رب كيف لي به ؟ قال : تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل- زنبيل- فحيثما فقدت الحوت فهو تمّ " فأخذ حوته فجعله بمكتل، ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه فسقط في البحر ( فاتخذ سبيله في البحر سربا ). ونأتي على بقية القصة في تفسير الآيات التي تتعلق بها. وهذا قوله تعالى في ذلك :( وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ) ( موسى )، هو ابن عمران، كليم الله ورسوله إلى بني إسرائيل، وفتاه، يوشع بن نون. فقد قال موسى :( لا أبرح )، أي لا أزال أسير حتى أبلغ ملتقى البحرين وهما بحر فارس والروم ( أو أمضي حقبا ) يعني أسير دهرا من الزمن وجمعه أحقاب١.
١ - مختار الصحاح ص ١٤٦..
قوله :﴿ فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا ﴾ أي لما بلغ موسى وفتاه ملتقى البحرين ( نسيا حوتهما ) إذ كانا قد أخذا معهما حوتا في زنبيل وكان فقدانه أمارة لهما على وجود المطلوب وهو الخضر عليه السلام، فقد قيل للفتى من قبل، متى فقدت الحوت، فالمطلوب ثمة. فلما بلغا ساحل البحر وضع الفتى المكتل وفيه الحوت فتحرك واضطرب وسقط في الماء فنسي فتاه أن يخبره عن فقده حتى مضى الحوت في سبيله في البحر. وهو قوله :( فاتخذ سيبله في البحر سربا ) ( سربا )، منصوب على أنه مفعول ثان للفعل اتخذ. ومفعوله الأول :( سبيله ) ١ وقيل : منصوب على المصدر. أي سربَ فيه سربا. والسرب، بفتحتين، هو بيت في الأرض، أو نفق٢ ؛ فقد قيل : أمسك الله الماء على الموضع الذي انسرب فيه الحوت فصار كالكوة المحفورة في الأرض.
وذلك أن الموضع الذي سلكه الحوت في الماء بقي فارغا وهو الذي مشى عليه موسى متبعا للحوت حتى أفضى به الطريق إلى الموضع الذي كان فيه الخضر.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٣..
٢ - مختار الصحاح ص ٢٩٣..
قوله :﴿ فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غذاءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ﴾ أي لما جاوزا المكان الذي نسيا فيه الحوت وهو مجمع البحرين وقد ذهبا عنه بمرحلة، طلب موسى من فتاه أن يأتيهما بالطعام وهو الحوت الذي حملاه معهما للاستطعام منه ؛ فقد لقيا من هذا السفر تعبا وإعياء.
قوله :( قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ) الاستفهام للتعجب. والصخرة كانت عند مجمع البحرين وهو موعد الوجدان ؛ أي لما طلب موسى من فتاه أن يأتيهما بالطعام قال له فتاه متعجبا : أرأيت حين نزلنا عند الصخرة فقد نسيت هنالك الحوت ( وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره ) المصدر من، ( أن ) والفعل بعده في موضع نصب على البدل من الهاء في قوله :( أنسانيه ) وتقديره : وما أنساني ذكره إلا الشيطان١، والشيطان يُنسي العبد بما يلقيه في قلبه من خواطر، وفي نفسه من وساوس.
قوله :( واتخذ سبيله في البحر عجبا ) ( عجبا )، مفعول ثان للفعل. ( واتخذ ). أو منصوب على المصدر ؛ أي مضى الحوت في البحر مضيا يثير التعجب بسبب السرب الذي مشى فيه ؛ فقد وثب في البحر وبقي أثر جريه في الماء.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٣..
قوله :﴿ قال ذلك ما كنا نبغ فارتد على آثارهما قصصا ﴾ ( قصصا )، منصوب على المصدر بفعل مقدر دل عليه قوله :( فارتدا ) وتقديره : يقصان الأثر قصصا١ والقصص اتباع الأثر. قص أثره ؛ أي تتبعه٢ والإشارة عائدة على فقد الحوت ؛ أي ذلك الذي كنا نطلب ؛ لأن فقدان الحوت كان أمارة على لقاء الخضر عليه السلام. ولذلك رجعا في طريقهما الذي جاء فيه، يتبعان آثار مشيهما اتباعا كيلا يضلا الطريق.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٣..
٢ - مختار الصحاح ص ٥٣٧..
قوله :﴿ فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ﴾ المراد بالعبد ههنا، الخضر عليه السلام. وهو ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وهو قول الجمهور. وهو عندهم نبي. وقيل : هو عبد صالح غير نبي، والأظهر كونه نبيا ؛ استنادا إلى الأخبار الثابتة في ذلك ؛ ولأن عظيم أفعاله لا تكون إلا بوحي. وقد آتاه الله رحمة من عنده. والمراد بالرحمة النبوة.
وقيل غير ذلك مما أنعم الله به عليه. وآتاه الله ايضا العلم وهو الإخبار بالغيب مما استأثر الله بعلمه. وقيل : ما حصل له بطريق الإلهام١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٩٥، ٩٦ وتفسير الطبري جـ١٥ ص ١٧٨ وتفسير النسفي جـ٣ ص ١٩..
قوله تعالى :﴿ قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ( ٦٦ ) قال إنك لن تستطيع معي صبرا ( ٦٧ ) وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ( ٦٨ ) قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا ( ٦٩ ) قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ( ٧٠ ) ﴾ يبين الله للناس ما قاله موسى عليه السلام للخضر، هذا الرجل العالم الصالح، الذي خصه الله بعلم لم يعلمه موسى. وكذلك أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر. فقد سأله موسى سؤال تلطف وتأدب وتواضع كشأن المتعلم ؛ إذ يسأل العالم شيئا من أمور العلم، فقال له :( هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا ) ( رشدا )، مفعول ثان للفعل تعلمني ؛ أي هل تستصحبني شريطة أن تعلمني شيئا مما علمك الله ؛ لكي أسترشد به في أمري وديني.
قوله :﴿ قال إنك لن تستطيع معي صبرا ﴾ أي لا تستطيع أن تصاحبني لما سوف تراه من الأفعال مما لا تطيق الصبر عن إنكاره.
﴿ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ﴾ ( خبرا )، منصوب على المصدر وتقديره : ما لم تخبره خبرا. ١ وقيل : منصوب على التمييز. وما لم تحط به خبرا، أي ما لم تخبر به. والمعنى : أنك سوف ترى مناكير، والرجل المفضال في مثلك لا يقدر إلا أن يجزع ويستنكر ما هو معذور فيه.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٣..
قوله :﴿ قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا ﴾ أي سوف أصبر بمشيئة الله عن الإنكار وقد التزمت طاعتك فلا أخالفك في أمر.
قوله :﴿ قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا ﴾ إن اتبعتني ورأيت ما تنكره فلا تسألني عنه حتى أفسّره لك أو أبدأك بالجواب قبل أن تسألني. لكن موسى لم يصبر عن الاعتراض لما رأى أنه نكر، فتعين بذلك الفراق والإعراض١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٩٦..
قوله تعالى :﴿ فانطلقنا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ( ٧١ ) قال الم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ( ٧٢ ) قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ( ٧٣ ) ﴾ جاء في الصحيحين أن موسى والخضر قد انطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهما سفينة فعرف أهلها الخضر فحملوهما بغير أجرة تكرمة للخضر. فلما استقلت بهم السفينة في البحر قام الخضر فخرقها ؛ إذ استخرج لوحا من ألواحها بالقدوم فلم يملك موسى نفسه أن قال مستنكرا ما فعله الخضر ( أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا ) اللام، لام العاقبة وليس للتعليل ؛ أي أعمدت إلى السفينة فخرقتها لتودي بأهلها إلى الهلاك ( لقد جئت شيئا إمرا ) أي عجبا. وقيل : منكرا.
فقال له الخضر بعد ذلك مذكرا بالشرط الذي التزمه موسى وهو أن لا يستنكر شيئا لا يعجبه وهو قوله :﴿ ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ﴾ لقد فعلت أنا ما فعلته قصدا مما هو في حقيقة الحال مصلحة لا تعلمها أنت ؛ لأنك لم تحط بها خُبرا. وقد نسي موسى شرطه مع الخضر هذه المرة،
فاعتذر له عن سؤاله وإنكاره ما فعل وهو قوله :﴿ لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا ﴾ ( لا ترهقني ) لا تغشني. ورهقه، غشيه. وأرهقه، أغشاه١. والمعنى : لا تغشني عسرا ولا تضيق علي في متابعتك.
١ - مختار الصحاح ص ٢٦٠..
قوله تعالى :﴿ فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس جئت شيئا نكرا ( ٧٤ ) قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ( ٧٥ ) قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ( ٧٦ ) ﴾ خرج موسى والخضر من السفينة، وبينما هما يمشيان على الساحل وجدا غلمانا يلعبون في قرية من القرى، فعمد الخضر إلى واحد منهم فقتله. قيل : قتله ذبحا بالسكين، وقيل : رضخ رأسه بحجر فقتله. فلما شاهد موسى هذا جزع واستكبر ما رآه فقال له :( أقتلت نفسا زكية بغير نفس ) الاستفهام للإنكار. و ( زكية )، أو زاكية، في قراءة، بمعنى طاهرة من الذنوب لكون القتيل غلاما فهو صغير لم يبلغ الحنث١، ومن أجل ذلك استنكر موسى قتلها ( بغير نفس ) فإنما يباح قتل النفس حدا، أو قصاصا، وكلا الأمرين منتف في هذا الغلام ؛ لأنه صغير.
قوله :( لقد جئت شيئا نكرا ) أي منكرا، أو ظاهر النكارة.
١ - الحنث، الإثم والذنب. بلغ الغلام الحنث؛ أي بلغ المعصية والطاعة بالبلوغ. مختار الصحاح ص ١٥٨..
قوله :﴿ ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ﴾ عاود التذكير مرة أخرى بعدم الاستنكار. وزاد فيه هنا قوله :( لك ) قصد التأكيد، ولأن سبب العتاب أكبر. ثم رجع موسى إلى نفسه وتذكر استعجاله في السؤال مرة أخرى،
فقال له معتذرا :( إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني ) أي إن سألتك بعد هذه المسألة فلا تتخذني لك صاحبا ( قد بلغت من لدني عذرا ) أي بلغت ما تعذر به في ترك صحبتي. أو وجدت عذرا من قبلي لما خالفتك مرارا١.
١ - تفسير البيضاوي ص ٣٩٨ وفتح القدير جـ٣ ص ٣٠٢، ٣٠٣..
قوله تعالى :﴿ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجرا ( ٧٧ ) قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ( ٧٨ ) ﴾ خرج موسى والخضر بعد المرتين الأوليين حتى أتيا أهل قرية، أشحّة لئام، فطافا في مجالسهم طالبين منهم الطعام والضيافة ( فأبوا أن يضيفوهما ) وذلك لفرط لؤمهم وشدة بخلهم. ولم يذكر في الآية اسم القرية. فاختلفت في ذلك أقوال العلماء على عدة أقوال ولا حاجة لتبيان ما ذكر في ذلك من أسماء مظنونة. والمهم هنا مضمون القصة عن أهل هذه القرية اللئام وعن تشريع الضيافة وحق الضيافة في التكريم.
وفي ذلك روى الشيخان عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) أن النبي ( ص ) قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ".
وروى الشيخان كذلك عن أبي شريح الخزاعي ( رضي الله عنه ) قال : سمعت رسول الله ( ص ) يقول : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته " قالوا : وما جائزته يا رسول الله ؟ قال " يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة " ويستفاد من ذلك وجوب إتحاف١ الضيف وذلك بإطعامه وإيوائه مدته المستحقة وهي يوم وليلة. وما بعد ذلك من أيام فإنه يكرم فيها استحبابا.
قوله :( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ) ( ينقض ) من الانقضاض وهو السقوط٢. وقد أسند الإرادة إلى الجدار من باب الاستعارة ؛ فقد كان الجدار مائلا يوشك أن يقسط ( فأقامه ) أي بناه فأعاده قائما. وقيل : هدمه ثم أخذ يبنيه من جديد ليرده قويا مستقيما، وقيل : مسحه بيده وأقامه فقام. وهذا وجه الكرامات الخارقة للعادة التي يجريها الله على أيدي أنبيائه أو أوليائه. ثم لم يصبر موسى عن الاعتراض على إقامة هذا الجدار الآيل للسقوط فقال له :( لو شئت لتخذت عليه أجرا ) أي ما كان ينبغي أن تعمل مجانا لهؤلاء البخلاء الأشحة فتبني لهم الجدار الآيل للسقوط ؛ بل كان أجدر أن تطلب الجعل منهم في مقابلة عملك لكي نرد عن أنفسنا الضرورة.
١ - الإتحاف والتحفة، ما أتحفت به الرجل من البر واللطف. انظر مختار الصحاح ص ٧٦..
٢ - مختار الصحاح ص ٥٤٠..
فقال الخضر :( هذا فراق بيني وبينك ) الإشارة عائدة إلى الاعتراض الثالث فهو سبب الفراق بين موسى والخضر. أو هذا الوقت هو وقت الفراق بيننا ( سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) التأويل معناه التفسير. آل إليه إيالا وأيلولة ومآلا ؛ أي رجع وصار١.
١ - المعجم الوسيط جـ١ ص ٣٣..
قوله تعالى :﴿ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ( ٧٩ ) وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ( ٨٠ ) فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ( ٨١ ) وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا ( ٨٢ ) ﴾.
أول هذه المسائل الثلاث مسألة السفينة ؛ فقد كانت لقوم ضعفاء يستحقون الشفقة عليهم. وقيل : كانوا أيتاما يعملون في البحر.
قوله :( فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ) أي كنت قد خرقت السفينة لأجعلها ذات عيب ؛ فقد كان أمامهم ملك ظالم يغتصب كل سفينة صالحة فكونها معيبة بالخرق يحول دون أخذها.
قوله :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ﴾ هذا تأويل المسألة الثانية وهي مسألة الغلام الذي قتله الخضر. وقد جاء في الحديث الصحيح في حق الغلام : " أنه طبع يوم طبع كافرا " لكن أبويه كانا مؤمنين فخفنا- وهو من قول الخضر- أن يغشيهما حبهما له وتعلقهما به الافتتان به ومتابعته على الكفر. وإنما خاف الخضر منه ذلك على الأبوين ؛ لأن الله أعلمه بذلك. وهو من جملة الكرامات التي يؤتاها النبيون والأولياء الصالحون.
قوله :﴿ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ﴾ أي أردنا أن يرزقهما ربهما بدله ولدا أطهر منه وأحسن دينا وصلاحا.
( وأقرب رحما ) ( رحما )، معطوف على ( زكاة ) أي أعظم رحمة به.
قوله :( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما ) هذا تأويل المسألة الثالثة، وهي إقامة الجدار الآيل للسقوط ؛ فقد كان الجدار لغلامين صغيرين في المدينة، ودليل صغرهما وصفهما باليتم ؛ إذ لا يتم مع البلوغ. وكان تحت الجدار مال مدفون لهما وكان أبو الغلامين صالحا. ويستدل من ذلك على أن الرجل الصالح يحفظ الله بصلاحه ذريته ثم تشملهم بركته في الدنيا، وكذا في الآخرة بشفاعته فيهم ورفعهم ببركته إلى الدرجات العلا في الجنة.
قوله :( فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجها كنزهما ) أسند الإرادة في بلوغ الحلم واستخراج الكنز إلى الله ؛ لأن بلوغ الحلم لا يكون إلا بقدرة الله، ولأن الله قد حفظ لهما كنزهما تحت الجدار ؛ إذ لم ينقضّ ولو انقضّ لخرج الكنز من تحته ( رحمة من ربك ) أي فعلت ما فعلته من بناء الجدار رحمة من الله باليتيمين ( وما فعلته عن أمري ) أي ما فعلت الذي فعلته من تلقاء نفسي واجتهادي وإنما فعلته بأمر الله.
قوله :( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) حذف التاء في تسطع للتخفيف. والمعنى : هذا تفسير ما أنكرته وضقت به ذرعا فلم تصبر حتى أخبرك بتأويله١.
١ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٩٨-١٠٠ وتفسير الطبري جـ١٦ ص ٦ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٢٢...
قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا ( ٨٣ ) إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ( ٨٤ ) فأتبع سببا ( ٨٥ ) حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ( ٨٦ ) قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ( ٨٧ ) وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ( ٨٨ ) ثم أتبع سببا ( ٨٩ ) حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ( ٩٠ ) كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ( ٩١ ) ﴾ ( ذي القرنين )، كان أول أمره غلاما من الروم. وقيل : من اليونان، واسمه الإسكندر الأول. وأما الإسكندر الأول بنى مدينة الإسكندرية فنسبت إليه. سمي بذي القرنين ؛ لأنه بلغ المغرب والمشرق، فكأنه حاز قرني الدنيا. وقد سئل علي ( رضي الله عنه ) عن ذي القرنين فقال : كان عبدا صالحا دعا قومه إلى الله تعالى فشجوه على قرنه، ثم دعاهم فشجوه على قرنه الآخر ؛ فسمي ذا القرنين.
أما من حيث زمانه فقيل : كان في زمن إبراهيم وإسماعيل. وروي أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام. وكان وزيره الخضر. وقد ذكر أن ملوك الدنيا أربعة : مؤمنان وكافران. فالمؤمنان سليمان بن داود وإسكندر. والكافران، نمرود وبختنصر، وسيملك الدنيا من هذه الأمة خامس وهو المهدي، لقوله تعالى :( ليظهره على الدين كله ).
وقد سأل المشركون واليهود رسول الله ( ص ) عن رجل طواف في الأرض من جملة أشياء بيناها سابقا ؛ فنزل البيان في ذلك.
( إنا مكنا له في الأرض ) أي خولناه الملك العظيم وسعة السلطان حتى دانت له البلاد وخضعت له ملوك الدنيا فملك المشارق والمغارب.
قوله :( وآتيناه من كل شيء سببا ) السبب معناه الطريق الموصل إلى الأغراض والمقاصد ؛ فقد يسر الله لذي القرنين كل ما يحتاج إليه من الوسائل والطرق ؛ ففتح البلاد، وهزم الأعداء والظالمين، وأذل الشرك والمشركين.
﴿ فأتبع سببا ﴾ أي أتبع سببا من الأسباب التي خوّله الله إياها من علم أو قوة أو غير ذلك من وجوه القدرة ليبلغ مرامه في فتح البلاد وإخضاع العباد.
قوله :( حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ) ( مغرب الشمس ) يراد به منتهى العمارة نحو المغرب وكذا المطلع. أما مغيبها في العين الحمئة فإن ذلك في إحساس العين، تغرب في عين حمئة. وهي الطين الأسود١. وهكذا الناظر إلى أفق المغرب يرى الشمس كأنما تغيب في البحر. وقد ذكر القرطبي قول القفال عن بعض العلماء قالوا : ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا حتى وصل إلى جرمها ومسّها، لأنها تدور مع السماء حول الأرض٢ من غير أن تلتصق بالأرض. وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض ؛ بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة ؛ بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض.
وقال الرازي في هذا الصدد من تأويل هذه الآية : إنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك. وأيضا قال :( ووجد عندها قوما ) ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود. وأيضا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض. إذا ثبت هذا فنقول تأويل قوله :( تغرب في عين حمئة ) من وجوه :
الوجه الأول : أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر.
الوجه الثاني : أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط بها البحر، فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار. ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة ؛ فهي حامية، وهي أيضا حمئة لكثرة ما فيها من الحمأة السوداء والماء. فقوله :( تغرب في عين حمئة ) إشارة إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط به البحر وهو موضع شديد السخونة٣.
قوله :( ووجد عندها قوما ) أي وجد عند العين الحمئة أمة من الأمم وكانوا كافرين فخيره الله في قتلهم أو الرفق بهم.
قوله :( قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ) المصدر من قوله :( أن تعذب ) في موضع نصب بفعل مقدر. وقيل : في موضع رفع على تقدير مبتدأ وخبره محذوف٤.
ذلك من تمكين الله لذي القرنين ؛ إذ أظفره الله على البلاد وخيّره في هؤلاء القوم بين أن يعذبهم بالقتل إن أصروا على كفرهم، وبين أن يحسن إليهم بالإكرام والرفق والمنّ. وقد قيل ذلك على سبيل الإلهام. لكن ذا القرنين اختار أن يعاملهم بالحق والعدل. وهو قوله :﴿ أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ﴾
١ - مختار الصحاح ص ١٥٣..
٢ - قوله عن الشمس إنها تدور مع السماء حول الأرض لا يناقض النظريات العلمية الحديثة الثابتة والتي تقول بدوران الأرض حول الشمس؛ فإن الشمس والأرض تتبادلان الدوران. ذلك أن الشمس تدور حول نفسها؛ فهي بذلك في دوران دائم حتى يأذن الله لها بالثبت والتوقف والتكوير يوم القيامة. انسجاما مع قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها) وكذلك الأرض فإنها تدور حول نفسها وحول الشمس. فكل من الجرمين دائر في فلكه فسبحان الله ذي الملكوت، بديع السماوات والأرض..
٣ - تفسير القرطبي جـ١١ ص ٤٩، ٥٠ وتفسير الرازي جـ٢١ ص ١٦٧، ١٦٨..
٤ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٥..
﴿ أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ﴾ أما من أعرض عن دين الحق وعقيدة التوحيد وأبى إلا البقاء في الظلم الأكبر وهو الشرك ؛ فذاك الذي نعذبه بالقتل، وسوف يصير بعد ذلك إلى عذاب الله الغليظ في الآخرة. وهو العذاب النكر، أي الوجيع الفظيع.
قوله :( وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ) ( جزاء )، بالنصب مع التنوين، منصوب على المصدر في موضع الحال. وقيل : جزاء منصوب على التمييز١. والمعنى : أن من استجاب لدعوة الله فآمن واستقام وعمل بما يقتضيه الإيمان من عمل الصالحات ؛ فله الحسنى جزاء. وذلك في الدار الآخرة ؛ إذ يجزيهم الله الجزاء الحسن ( وسنقول له من أمرنا يسرا ) أي سنأمره الأمر السهل الميسور غير الشاق، من زكاة وخراج وغيرهما.
١ - البيان لابن الأنباري جت٢ ص ١١٦..
قوله :﴿ ثم أتبع سببا ﴾ أي سلك طريقا.
﴿ حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ﴾ ( مطلع الشمس )، يراد به موضع طلوعها. والمعنى : أنه بعد أن بلغ ذو القرنين أقرب الأماكن من مغرب الشمس شرع في سلوك طريق آخر، قاصدا مطلع الشمس من الأرض. والمقصود أقرب الأماكن من مطلع الشمس حتى إذا بلغ ذلك وجد أن الشمس تطلع على أمة من الناس ليس لهم أيما ستر من دون الشمس. فليس هناك من شجر ولا جبل ولا بناء يمنعهم من شعاع الشمس الحارقة. وقيل : المراد أنهم كانوا لا ثياب لهم فهم عراة كسائر الحيوانات.
قوله :﴿ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا ﴾ أي كذلك أمر ذي القرنين كما وصفناه في عظيم المكانة وسعة الملك وهيبة السلطان. ونحن نحيط علما بكل أحواله وأفعاله وما لديه من أسباب القوة وعظيم الملك١.
١ - فتح القدير جـ٣ ص ٣٠٩ وتفسير البيضاوي ص ٤٠٠ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٠١، ١٠٢ وتفسير الرازي جـ٢١ ص ١٦٨، ١٦٩..
قوله تعالى :﴿ ثم أتبع سببا ( ٩٢ ) حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ( ٩٣ ) قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ( ٩٤ ) قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ( ٩٥ ) آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا ( ٩٦ ) فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ( ٩٧ ) قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ( ٩٨ ) ﴾ سلك ذو القرنين طريقا آخر من مشارق الأرض
( حتى إذا بلغ بين السدين ) وهما جبلان من جهة أرمينيا وأذربيجان، بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك فيعيثون فيهم فسادا وخرابا ؛ إذ يهلكون الحرث والنسل.
قوله :( وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ) أي وجد من وراء السدين أمة من الناس لا يفقهون الحديث إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها ؛ لأن لغتهم غريبة ومجهولة ؛ فهم بذلك لا يفهمون عن غيرهم ولا يفهم غيرهم عنهم.
هؤلاء القوم المستعجمون قد فهم ذو القرنين مرادهم بالرغم من استعجام كلامهم، بما آتاه الله من أسباب في القدرة والفطانة والإلهام.
( قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ) ( يأجوج ومأجوج ) اسمان أعجميان بدليل عدم صرفهما ؛ فقد كانوا يعيثون في البلاد الخراب والدمار فيقتلون الناس ولا يتركون شيئا أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا أخذوه.
قوله :( فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ) الخرج في اللغة أو الخراج بمعنى الإتاوة. وجمع الخرج أخراج١. والمراد به الجعل أو النول أو النوال بمعنى العطاء ؛ فقد قالوا له في أدب وتواضع : هل نجمع لك من أموالنا جعلا أو مالا فنبذله لك لتقيم بيننا وبين يأجوج ومأجوج سدا أي ردما. والردم هو وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحو ذلك ليقوم بذلك جدار منيع أو حاجز حصين يحول دون نفاذ المفسدين إلى بلاد القوم.
١ - مختار الصحاح ص ١٧٢..
قوله :( قال ما مكني فيه ربي خير ) قال لهم ذو القرنين في عفة وهمة : ما خولني إياه ربي من التمكين واليسار وما بسطه لي من القدرة والملك خير لي مما تجمعونه من أموالكم ؛ إذ لا حاجة لي بذلك. ولكن ساعدوني بقوة رجالكم والعمل منكم بأبدانكم وآلاتكم. وهو قوله :( فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ) أي أجعل بينكم وبين يأجوج ومأجوج المفسدين، حاجزا منيعا فينكف به شرهم وإفسادهم عنكم.
قوله :( آتوني زبر الحديد ) ( زبر ) جمع زبرة وهي القطعة من الحديد١ ؛ أي ناولني قطع الحديد لأجعل بينكم وبينهم حاجزا كثيفا حصينا لا يقدرون أن يظهروا عليه ( حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا ) ( بين الصدفين ) أي بين جانبي الجبلين وسميا بالصدفين ؛ لأنهما يتصادفان ؛ أي يتقابلان. فقد وضع قطع الحديد بعضها على بعض حتى إذا حاذى بين رؤوس الجبلين ( قال انفخوا ) أمرهم أن ينفخوا على قطع الحديد بالأكيار، وهو أن يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى وتتأجج عليه النار وهو قوله :( حتى إذا جعله نارا ) ثم يؤتى بالنحاس المذاب فيفرغه على قطع الحديد وهو قوله :( آتوني افرغ عليه قطرا ) والقطر، بالكسر معناه النحاس الذائب٢.
وجملة ذلك : إيقاد النار على الحديد والحجارة حتى تحمى، ثم يُصب عليها النحاس المذاب فتستمسك هذه المركبات وتتلاحم فيما بينها أشد التلاحم فتكون في غاية المناعة والصلابة ليعز اقتحامه أو الظهور عليه. وهو قوله :﴿ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ﴾
١ - المصباح المنير جـ١ ص ٢٦٨..
٢ - القاموس المحيط جـ٢ ص ١٢٣..
﴿ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ﴾ حذفت التاء فصارت ( اسطاعوا ) للخفة ؛ لأن التاء قريبة المخرج من الطاء. وقيل : جيء باللفظ ليناسب المعنى وهو الظهور على السد، فهو أسهل من نقبه فناسبه ( اسطاعوا ) أما نقب السد والنفاذ منه فقد ناسبه قوله :( وما استطاعوا ) والمعنى : أنهم عجزوا عن الصعود فوق السد لارتفاعه وملاسته، وهم أشد عجزا عن نقبه لصلابته وكثافته.
قوله :( قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ) قال :( هذا ) ولم يقل : هذه ؛ لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي. والتأنيث إذا كان غير حقيقي جاز فيه التذكير، ولأن الرحمة بمعنى الغفران، فذكره حملا على المعنى١.
والمعنى : هذا السد الذي حال بين القوم والمفسدين، رحمة من الله بعباده ؛ إذ خولني هذا الإقدار والتمكين من تسويته فإذا جاء يوم القيامة جعل الله هذا السد ( دكاء ) أي مدكوكا مبسوطا مسوّى بالأرض ( وكان وعد ربي حقا ) وعد الله بقيام الساعة حقيقة لا ريب فيها. وهو كائن لا محالة. وهذا آخر كلام ذي القرنين٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٨..
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٨..
قوله تعالى :﴿ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ( ٩٩ ) وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ( ١٠٠ ) الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى وكانوا لا يستطعيون سمعا ( ١٠١ ) أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا ( ١٠٢ ) ﴾ ذلك إخبار من الله عما هو كائن قبل يوم القيامة. والضمير في بعضهم يعود على يأجوج ومأجوج. وذلك حين يخرجون مزدحمين من وراء السد وهم هائجون مضطربون. وروي أنهم لا يعثرون بدواب أو شجر إلا أكلوه، ولا يرون ماء إلا شربوه، ولا يظفرون ببشر إلا أبادوه ثم يهلكهم الله بعذاب من عنده وذلك بعد عيثهم في الدنيا الخراب والفساد. وقيل : يختلط الخلق بعضهم بعضهم، إنسهم وجهنم وهم جميعا حيارى وذلك كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال. ثم يأذن الله ببعثهم في اليوم الموعود، وهو يوم مجموع له الناس ليلاقوا الحساب والعقاب. وذلك في قوله :( ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ) أي عقب النفخ في الصور يجمع الله الخلائق إنسهم وجهنم ليجدوا مصيرهم المحتوم.
قوله :﴿ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ﴾ يعرض الله على الكافرين جهنم بنكالها وويلاتها وفظائعها. وذلك مبالغة في التعذيب والتخويف الذي يمس المجرمين يوم القيامة.
قوله :﴿ الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى وكانوا لا يستطيعون سمعا ﴾ هؤلاء الجاحدون المجرمون كانوا في دنياهم لا يبصرون الحجج الساطعة، والدلائل القاطعة التي تجلي عظمة الله في ملكوته وبالغ سلطانه في الكون، أو كانوا يغمضون عيونهم عن القرآن وما فيه من معاني الخير والرحمة والاستقامة. وكانوا أيضا عن سماع الحق واليقين صما كأنما في آذانهم صمم ؛ إذ لا يطيقون سماع الحق أو منهج الله في إسلامه وقرآنه.
قوله :( أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ) ( الذين كفروا ) في موضع رفع فاعل، حسب ( أن يتخذوا ) في موضع نصب سد مسدّ مفعول حسب و ( عبادي ) في موضع نصب مفعول أول للفعل ( يتخذوا ).
و ( أولياء ) منصوب ؛ لأنه مفعول ثان١. والمعنى : أفظن الكافرون أن اتخاذهم أعوانا وأنصارا ومعبودين من دون الله كالملائكة وعيسى ابن مريم والعزير وغيرهم من العظماء والمتسلطين، بنافعهم أو منجيهم ؟ بئس ما ظنوا ؛ فإن ذلك لا ينفعهم ولا يغنيهم من العذاب والخسران شيئا. وهو قوله :( إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا ) قد أعد الله لهؤلاء الخاسرين يوم القيامة جهنم ؛ فهي شر منزل لهم وشر مقام٢.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٨..
٢ - تفسير النسفي جـ٣ ص ٢٦ وتفسير القرطبي جـ١١ ص٦٥.
قوله تعالى :( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ( ١٠٣ ) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ( ١٠٤ ) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ( ١٠٥ ) ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا ( ١٠٦ ) }.
الاستفهام للتوبيخ ؛ أي هل أخبركم من هم أشد الناس خسرانا يوم القيامة ؛ إنهم الذين عملوا أعمالا مصيرها الحبوط والبطلان، فضاعت بذلك هباء منثورا ؛ لقيامها على غير عقيدة صحيحة من الله ولا شريعة سليمة مرضية ومقبولة ؛ بل كانوا يتشبثون بعقائد الكفر والضلال.
عقائد قامت على الافتراء والأوهام والهوى، والكفران بخاتم النبيين وإمام المتقين والمجاهدين، وسيد الأنبياء والمرسلين، المتشفع وحده في الخلائق يوم الدين، محمد ( ص ). فكيف يستحق أن يوصف بالإيمان من كفر بدعوة الإسلام وكذب بنبوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ؟ يستوي في ذلك الكافرون جميعا من الملحدين والوثنيين والمرتدين وأهل الكتاب. أولئك الذين كفروا بالإسلام وجحدوا بنبوة سيد الأنام، فهم لا يقيم الله أيما اعتبار أو وزن لأعمالهم وإن كانت تعدل الجبال. وإنما أساس القبول للأعمال أن تكون مشروعة منسجمة مع عقيدة التوحيد، غير مخالفة لمنهج الله ودينه القويم الإسلام. وثمة أساس ثان لقبول الأعمال وهو أن لا يبتغي العامل بعمله غير وجه الله أو مرضاته بعيدا كل البعد عن الرياء. وأيما رياء وإن صغر، فلا جرم أن يأتي على الأعمال كلها بالحبوط، وإن كانت هائلة.
قوله :( وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) يظن هؤلاء الواهمون الجاهلون أنهم على حق، وأن ما عملوه من أعمال لهي صحيحة ومقبولة.
قوله :( أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقاءه فحبطت أعمالهم ) جملة مستأنفة سيقت لبيان الخسران والهوان اللذين يحيطان بالجاحدين المكذبين، الذين كفروا بلقاء الله واتخذوا آياته هزوا. ( أولئك حبطت أعمالهم ) ( حبطت ) أي بطلت وضاع ثوابها. من الحبط، بفتحتين وهو انتفاخ بطن الدابة من فرط الأكل ثم موتها. وحبط حبطا وحبوطا ؛ أي بطل. أحبطه الله، أبطله١ حبط عمله ؛ أي بطل ثوابه.
قوله :( فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) أي ليس لهم لهؤلاء الجاحدين المكذبين يوم القيامة أيما قدر أو اعتبار ؛ فهم لا يعبأ الله بهم ولا ينظر إليهم ؛ إذ هم منحدرون في دركات الخسران والنسيان والخساسة.
١ - القاموس المحيط جـ٢ ص ٣٦٦ مختار الصحاح ص ١٢٠..
قوله :﴿ ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا ﴾ ( ذلك ) إشارة عائدة إلى ما ذكر من الوعيد ؛ فهو جزاء هؤلاء المكذبين. و ( جهنم ) عطف بيان لقوله :( جزاؤهم ). أو ( جزاؤهم جهنم ) مبتدأ وخبر، والجملة كلها خبر لاسم الإشارة، ذلك والباء في قوله :( بما كفروا ) للسببية، أي إنما جازاهم الله بهذا الجزاء العسير بسبب كفرهم وتكذيبهم واستهزائهم بآيات الله١.
١ - فتح القدير جـ٣ ص ٣١٦ وتفسير النسفي جـ٣ ص ٢٧..
قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا ( ١٠٧ ) خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ( ١٠٨ ) قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ( ١٠٩ ) قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ( ١١٠ ) ﴾ ذلك إخبار من الله ذي الفضل والرحموت عما أعده لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وذان شرطان أساسيان يكمل أحدهما الآخر، وهما الإيمان وفعل الصالحات ؛ فالإيمان الصحيح أساس القبول، وبه تتم الصالحات. ثم فعل الصالحات شرط ثان مكمل للإيمان. وهما باجتماعهما واتساقهما معا تتحقق الاستقامة ويرتجى القبول وحسن الجزاء في الدار الآخرة. أولئك المؤمنون الذين يعملون الصالحات جازاهم الله خير الجزاء، وأعطاهم من عظيم الأجر ما لا تتخيله أذهان البشر. وتلك هي جنات الفردوس جعلها الله نزلا لعباده المؤمنين الصالحين والنزل بمعنى الضيافة والمستقر والفردوس لهو ذروة المراتب من درجات الجنة. وهو ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها. وفي الصحيحين، " إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ؛ فإنه أعلى الجنة ؛ وأوسط الجنة، ومن تفجر أنهار الجنة ".
قوله :﴿ خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ﴾ ( خالدين ) حال. و ( حولا ) منصوب على التمييز. وقيل : على أنه مصدر١ ؛ أي أن هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، جزاؤهم أنهم ماكثون دائمون في الفردوس، ولا يبطلون أن يتحولوا عنها إلى غيرها ؛ فالفردوس مقامهم الخالد السرمدي الذي لا يختارون عنه متحولا ولا ظعنا. جعلنا الله برحمته ولطفه منهم.
١ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ١١٨..
قوله :( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ) قال ابن عباس : قالت اليهود، لما قال لهم النبي ( ص ) :( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) قالوا : وكيف وقد أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا فنزلت ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي ) الآية. وقيل : قالت اليهود : إنك أوتيت الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا. فرد عليهم بأنه : وإن أوتيت القرآن وأتيتم التوراة ؛ فهي بالنسبة لكلمات الله تعالى قليلة١. والمراد بكلمات الله : حكمته البالغة وعلمه الذي لا ينتهي. والمداد، ما يكتب به من الحبر.
والمعنى : أنه لو كان ماء البحار كلها مدادا لتكتب به كلمات علم الله لفني ماء البحار وزال، وإن جيء إليها بأضعاف أخرى مضاعفة، وبقيت كلمات علم الله قائمة لا تنتهي ولا تفنى ؛ أي أن البحار كيفما تكن من الاتساع والعظمة ومعها أضعافها فإنها متناهية ولا تفنى ؛ أي أن البحار كيفما تكن من الاتساع والعظمة ومعها أضعافها فإنها متناهية لكن معلومات الله غير متناهية. والمتناهي لا يفي بغير المتناهي ؛ ذلك أن علم الله صفة ظاهرة من صفاته العظيمة. وهو سبحانه بكماله المطلق منزه عن النقائص والعيوب. وما ينبغي لكماله أن يتناهى علمه أو تحيط به القيود والحدود ؛ بل الله عليم بما جرى وما هو جار من أخبار وأحوال وعلوم وأسرار وأقدار وحقائق لا يعلمها إلا هو ؛ فعلمه المطلق لا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأكوان والكائنات ؛ فهو بذلك لا يحصيه المداد ولو كان في سعة الأمواج والمحيطات.
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٠٢ وتفسير القرطبي جـ ١١ ص ٦٩ وتفسير الرازي جـ٢١ ص ١٧٥..
قوله :( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم واحد ) لست أنا إلا بشرا مثلكم ولا علم لي بالغيب، وما أخبركم إلا بما أعلمني به الله. وقد أخبرتكم عن علوم في الأولين الغابرين كأصحاب الكهف وذي القرنين وما في ذلك من دقائق الأخبار وخفاياها العجيبة. ومثل ذلك لا يعلمه إلا الله أو يوحيه الله لعبد من عباده ؛ فقد أوحى إلي بذلك وأنا مبلغكم أن الله واحد لا شريك له، فلا تعبدوا معه أحدا غيره بل اعبدوه وأطيعوه وأنيبوا إليه.
قوله :( فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) ذكر عن طاووس في سبب نزول هذه الآية أن رجلا قال : يا نبي الله إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يُرى مكاني ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال مجاهد : جاء رجل إلى النبي ( ص ) فقال : إني أتصدق وأصل الرحم ولا أصنع ذلك إلا لله سبحانه وتعالى فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به، فسكت رسول الله ( ص ) ولم يقل شيئا، فأنزل الله الآية١.
ويستدل من ذلك على فظاعة الإشراك في القصد عند فعل الأفعال فأيما فعل قُصد فيه مع الله أحد غيره فمآله الحبوط والإسقاط، وهو لا يغني صاحبه شيئا. وإنما شرط القبول للأعمال أن تكون خالصة لوجه الله ولا يبتغي بها فاعلون إلا مرضاة ربهم. أما أن يبتغي بها صاحبها إرضاء ربه وكسب السمعة أو الثناء من الناس ؛ فذلك ضرب من ضروب الرياء وهو إشراك في النية أو القصد.
وفي فظاعة الرياء ونكره روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) يرويه عن الله عز وجل أنه قال : " أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيرى فأنا بريء منه وهو للذي أشرك " وروى الإمام أحمد أيضا عن محمد بن لبيد أن رسول الله ( ص ) قال : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال " الرياء. يقول الله يوم القيامة إذا جزء الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ". ٢
١ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٠٢..
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ١٠٨، ١٠٩ وتفسير القرطبي جـ١١ ص ٦٩ – ٧٢..
Icon