تفسير سورة الكهف

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

قال: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف، عصم من فتنة الدجال».
وفي لفظ النسائي: «من قرأ عشر آيات من الكهف..» الحديث.
ومنها:
ما أخرجه النسائي في سننه عن ثوبان، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف، فإنه عصمة له من الدجال».
دلت هذه الأحاديث على أن قراءة الآيات العشر الأوائل أو الأواخر أو أي عشر آيات عصمة من فتنة الدجال.
والسنة أن يقرأ الشخص الكهف يوم الجمعة وليلتها،
لما رواه الحاكم وقال:
صحيح الإسناد عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من قرأ الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين»
وروى الدارمي والبيهقي: «من قرأها ليلة الجمعة، أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق».
كيفية الحمد والثناء على الله تعالى ومهام القرآن العظيم
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)
200
الإعراب:
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً الواو للعطف على أَنْزَلَ. والأولى جعل الواو للحال من الكتاب، على تقدير: أنزل الكتاب على عبده غير مجعول له عوج قَيِّماً. وهو أولى من جعله معطوفا على أَنْزَلَ لما فيه من الفصل بين بعض الصلة وبعض، فلو كان للعطف، كان المعطوف فاصلا بين أبعاض المعطوف عليه، ولذلك قيل في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: أنزل الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا.
قَيِّماً قال في الكشاف: الأحسن أن ينتصب بمضمر، ولا يجعل حالا من الْكِتابَ، منعا من الفصل بين الحال وصاحبه. وقيل: حال من الْكِتابَ.
لِيُنْذِرَ بَأْساً اللام متعلقة بأنزل، وبَأْساً: مفعول ثان لينذر، والمفعول الأول محذوف، تقديره: لينذركم بأسا شديدا من لدنه.
مِنْ لَدُنْهُ قرئ بضم الدال على الأصل، وبإسكانها على وزن عضد وحذف الضمة فيقال:
عضد ولدن، وبإشمامها بالضم للتنبيه على أن أصلها هو الضم.
ماكِثِينَ فِيهِ حال من الهاء والميم في لَهُمْ.
كَبُرَتْ كَلِمَةً تمييز منصوب، أي: كبرت الكلمة كلمة. وتَخْرُجُ جملة فعلية صفة كَلِمَةً.
إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون إلا كذبا. وكذبا منصوب بيقولون، مثل: قلت شعرا أو خطبة.
أَسَفاً منصوب على المصدر، في موضع الحال، أو مفعول لأجله.
زِينَةً لَها مفعول ثان لجعلنا بمعنى صيّرنا. وإن جعل بمعنى خلقنا فهم مفعول به له.
البلاغة:
يُبَشِّرَ وَيُنْذِرَ بينهما طباق.
لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً فيه إطناب بذكر الخاص بعد العام. وفي كل منهما حذف بديع، فحذف من الجملة الأولى المفعول الأول أي لينذر الكافرين بأسا، وحذف من الجملة الثانية المفعول الثاني، وهو عذابا، فحذف لدلالة الأول عليه، وحذف من الأول المنذرين لدلالة الثاني عليه.
201
باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ استعارة تمثيلية، شبه حاله صلّى الله عليه وآله وسلّم مع المشركين بحال من فارقته الأحباب، فهمّ بإهلاك نفسه حزنا عليهم.
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ استفهام إنكاري بمعنى النهي، أي لا تبخع نفسك لإعراضهم عن الإيمان أسفا.
المفردات اللغوية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد: الوصف بالجميل ثابت لله تعالى، وهو تعليم للعباد كيف يثنون على الله ويحمدونه على أجزل نعمائه عليهم وهي نعمة الإسلام، وما أنزل على عبده محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم الْكِتابَ القرآن وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ولم يجعل له شيئا من العوج قط، والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه وألفاظه.
قَيِّماً مستقيما معتدلا، لا إفراط فيه ولا تفريط، فلا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف منعا للمشقة والحرج، ولا تفريط فيه بإهمال ما يحتاج إليه. وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة هو التأكيد، فرب مستقيم لا يخلو من أدنى عوج عند التأمل. وقيل: قيما على سائر الكتب، مصدقا لها، شاهدا بصحتها، وقيل: قيما بمصالح العباد، وما لا بد لهم منه من الشرائع، فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال.
لِيُنْذِرَ ليخوف بالكتاب الكافرين وهو متعلق بأنزل بَأْساً عذابا في الآخرة مِنْ لَدُنْهُ من قبله أو من عنده. حذف المفعول الأول لفعل لِيُنْذِرَ- وهذا من بديع الحذف وجليل الفصاحة- لأن المنذر به هو الغرض المسوق إليه، فاقتصر عليه، ودل عليه ذكر المنذرين في قوله: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً من غير ذكر المنذر به لتقدم ذكره، كما ذكر المبشر به في قوله: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً والأجر الحسن:
الجنة.
ما لَهُمْ بِهِ بهذا القول أو باتخاذ الولد وَلا لِآبائِهِمْ من قبلهم، والمعنى: أنهم يقولونه عن جهل مفرط وتوهم كاذب، أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم كَبُرَتْ كَلِمَةً عظمت، والمخصوص بالذم محذوف أي مقالتهم المذكورة إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ما يقولون في ذلك إلا مقولا كذبا.
باخِعٌ مهلك نفسك أو قاتلها عَلى آثارِهِمْ أي من بعدهم، أي من بعد توليهم عن الإيمان الْحَدِيثِ القرآن أَسَفاً غيظا وحزنا منك، لحرصك على إيمانهم. والأسف: المبالغة في الحزن والغضب ما عَلَى الْأَرْضِ من الحيوان والنبات والشجر والأنهار وغير ذلك لِنَبْلُوَهُمْ لنختبر الناس، ناظرين إلى نتيجة الاختبار أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا في تعاطيه، وهو من زهد فيه، ولم يغتر به، وصرفه على ما ينبغي من الإتقان صَعِيداً ترابا جُرُزاً يابسا لا نبات فيه.
202
التفسير والبيان:
الْحَمْدُ لِلَّهِ... يحمد الله تعالى نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم صلوات الله وسلامه عليه إذ أخرج الناس من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، فمعنى قوله: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي لم يجعل فيه اعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
والحمد معناه: الشكر والثناء بالجميل على الفعل الجميل الصادر بالاختيار من الله تعالى. والله تعالى محمود على كل حال، ويحمد نفسه أحيانا عند فواتح السور وخواتمها، لتعليم العباد كيف يحمدونه على نعمه الجليلة التي أنعم بها عليهم، ومن أهمها نعمة الإسلام وما أنزل على عبده محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من الكتاب الذي هو سبب نجاتهم وفوزهم.
قَيِّماً، لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ.. أي مستقيما، وأتى بهذه الصفة بعد نفي الاعوجاج للتأكيد، فربّ مستقيم مشهود له بالاستقامة لا يخلو من أدنى عوج عند الفحص والاختبار. وقيل: معناه: قيما على سائر الكتب، مصدقا لها، شاهدا بصحتها. وقيل: قيما بمصالح العباد، وما لا بد لهم منه من الشرائع.
لِيُنْذِرَ أي ليخوف الذين كفروا بالكتاب عذابا شديدا، وعقوبة عاجلة في الدنيا وهو النكال، وآجلة في الآخرة وهو نار جهنم. وقوله: مِنْ لَدُنْهُ أي صادرا من عند الله تعالى.
وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ بهذا القرآن، الذين دعموا إيمانهم بالعمل الصالح، أن لهم مثوبة جميلة عند الله، وهي الجنة دار المتقين الأبرار، ودار الخلود أبدا للمحسنين الأخيار، فالأجر الحسن: الجنة.
203
ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً أي مستقرين في ثوابهم عند الله وهو الجنة إلى الأبد، وخالدين فيه دائما، لا زوال له ولا انقضاء.
يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا... أي ويحذر الكفار الذين زعموا أن لله ولدا، وهم مشركو العرب الذين قالوا: نحن نعبد الملائكة بنات الله، واليهود الذين اتخذوا عزيرا ابن الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله.
وإنما خصّ ذكر هؤلاء مع دخولهم في الإنذار العام المتقدم للكافرين، للدلالة على أن أقبح أنواع الكفر والمعصية إثبات الولد لله تعالى.
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ أي ما لهم ولا لآبائهم أي أسلافهم علم ثابت بهذا القول الذي افتروه وهو اتخاذ الولد لله أو الوالد، وإنما هو صادر عن جهل مفرط وتقليد للآباء، ومن تسويل الشيطان. وانتفاء العلم بالشيء: إما للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال لا يصلح محلا للعلم به.
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي عظمت تلك الكلمة التي ينطقون بها، ويخرجونها من أفواههم متجرئين على النطق بها، وهي كلمة الكفر، فليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، ولهذا قال:
إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون إلا قولا مجرد كذب وزور، ولا حقيقة له أصلا.
ثم سرّى الله تعالى عن رسوله عليه الصلاة والسلام وواساه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه بقوله:
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ.. أي فلعلك قاتل نفسك ومهلكها لأن لم يؤمنوا بهذا القرآن، أسفا وحسرة عليهم، ولعل هنا للاستفهام الإنكاري المتضمن معنى النهي، أي لا تهلك نفسك أسفا لعدم إيمانهم، ولا تقتلها غضبا
204
وجزعا وحزنا عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فإنما يضل عليها. والآثار جمع أثر أي على أثر توليهم وإعراضهم عنك.
وللآية نظائر كثيرة منها: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر ٣٥/ ٨] ومنها: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء ٢٦/ ٣] ومنها: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل ١٦/ ١٢٧].
ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية زائلة، وأنها دار اختبار لا دار قرار، فقال:
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها... أي إنا جعلنا ما على الأرض من زخارف الدنيا من إنسان وحيوان ونبات ومعادن ومنازل ومباهج ومفاتن زينة زائلة لها ولأهلها، لنعاملهم معاملة المختبرين، ليعرف المحسن عمله من الفاسد، فنجازي المحسن بالثواب، والمسيء بالعقاب. وحسن العمل: الزهد في الدنيا، وترك الاغترار بها، وجعلها وسيلة وجسرا للآخرة.
أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون».
ثم ذكر الله تعالى سبب التوجيه بالإعراض عن الكفار، فقال:
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً أي وإنا لنصير الأرض وما عليها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فقوله: صَعِيداً جُرُزاً يعني كالأرض البيضاء التي لا نبات فيها ولا ينتفع بها، بعد أن كانت خضراء معشبة. وذلك مثل قوله تعالى: فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه ٢٠/ ١٠٧]. والصعيد: الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات. والجرز في اللغة: اليابسة التي لا تنبت، أو الأرض التي لا نبات فيها.
205
والمقصود من الآية تسلية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والقول له: لا تحزن فإنا سنهلكهم ونبيدهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات أن أعظم نعمة من الله على عباده إنزال القرآن الكريم، الدواء الناجع لمشكلات البشرية، والمنقذ من الظلمات إلى النور، والحق العدل المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا التواء.
ومهمته أيضا إنذار الكافرين وتخويفهم بالعذاب الشديد في نار جهنم والنكال في الدنيا، وخصوصا المشركين الذين اتخذوا لله ولدا وهم كفار العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، واليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، والنصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله. ولا دليل لهم ولا لأسلافهم على ما يقولون، وتلك كلمة كبيرة الإثم، شديدة الشناعة، عظيمة الجرم.
وللقرآن مهمة أخرى هي تبشير المؤمنين الذين يعملون الصالحات من التصديق بما جاء به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والتزام الأوامر واجتناب النواهي بالأجر الحسن وهو الجنة التي يخلد فيها أهلها، فهي دار الخلد التي لا يموتون فيها.
ولا يغترن أحد بالدنيا وما فيها من زينة وزخارف ومباهج، فتلك للاختبار والامتحان، ليعرف الصالحون الأبرار من المفسدين الفجار، ثم مآلها إلى الفناء والزوال والدمار والخراب، والرجوع إلى الملك الإله الدّيّان، ليجزي كل إنسان بعمله.
وإذا كان هذا هو المصير المحتوم، فلا تأس ولا تحزن أيها الرسول على ما ترى وتسمع في الدنيا، ولا حاجة لإتعاب نفسك وإهلاكها وقتلها بسبب توليهم وإعراضهم عنك، وعدم إيمانهم بالقرآن، وأسفا أي حزنا وغضبا على كفرهم.
206
قصة أصحاب الكهف
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩ الى ٢٦]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةًيَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣)
إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)
207
الإعراب:
مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) مِنْ آياتِنا حال، وعَجَباً: خبر كان، وهو وصف بالمصدر، أو على ذات عجب.
208
سِنِينَ عَدَداً (١١) سِنِينَ: ظرف منصوب، وعَدَداً: وصف لسنين منصوب، على معنى: ذات عدد، أو منصوب على المصدر.
أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) : أي: مبتدأ مرفوع، أَحْصى: فعل ماض خبر المبتدأ، والجملة من المبتدأ والخبر سدت مسدّ مفعولي لِنَعْلَمَ وأَمَداً: ظرف زمان منصوب، وعامله: أَحْصى، وهو الأوجه، وقيل: لَبِثُوا. ولما لبثوا: حال من أَمَداً أو مفعول لأجله. لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً: صفة مصدر محذوف، فهو منصوب على المصدر، أي قولا شططا، أو منصوب بقلنا، مثل: قلنا شعرا.
يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ (١٥) : أي هلا يأتون على دعواهم بأنها آلهة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهؤلاء: مبتدأ، وقَوْمُنَا: عطف بيان، وجملة اتَّخَذُوا: خبر.
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ (١٦) : إِذِ: تتعلق بفعل مقدر، أي واذكروا إذ اعتزلتموهم. وما: إما مصدرية (أي وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله، فحذف المضاف) وإما اسما موصولا (أي وإذ اعتزلتموهم والذي يعبدونه) وإما نافية (أي وإذ اعتزلتموهم غير عابدين إلا الله، فتكون الواو واو الحال) وما: في الوجهين الأوليين: في موضع نصب بالعطف على الهاء والميم في اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وفي الوجه الثالث: في موضع نصب على الحال. وقوله إِلَّا اللَّهَ يجوز أن يكون استثناء متصلا لأنهم كانوا كأهل مكة يقرون بالخالق ويشركون معه، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا.
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ... (١٧) : الشَّمْسَ: مفعول تَرَى، وإِذا طَلَعَتْ وإِذا غَرَبَتْ: ظرفان يتعلقان بترى، وعَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ: يتعلق بترى. وتَتَزاوَرُ: جملة فعلية حال من الشَّمْسَ. وذاتَ الشِّمالِ:
يتعلق بتقرضهم. وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ: جملة اسمية حال.
باسِطٌ ذِراعَيْهِ.. فِراراً (١٨) : ذِراعَيْهِ: منصوب بباسط، وإنما أعمل اسم الفاعل، وإن كان للماضي لأنه أراد به حكاية الحال، مثل الإشارة للحاضر في قوله تعالى: هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ [القصص ٢٨/ ١٥] ولم يكن المشار إليهما حاضرين حين قص القصة على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنما حكى تلك الحال. وفِراراً ورُعْباً: منصوبان على المصدر.
كَمْ لَبِثْتُمْ (١٩) : كَمْ: هنا ظرفية في موضع نصب بلبثتم، أي كم يوما لبثتم، ويوما المحذوف: تمييز، ودليل التقدير: كم يوما: أنه قال في الجواب: قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
209
فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً (١٩) أَيُّها: مبتدأ، وأَزْكى: خبر المبتدأ، وطَعاماً: تمييز، والجملة مفعول فَلْيَنْظُرْ.
إِذْ يَتَنازَعُونَ (٢١) : إِذْ: ظرف زمان في موضع نصب: وعامله لِيَعْلَمُوا.
سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ، رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ (٢٢) : ثَلاثَةٌ: خبر مبتدأ أي هم ثلاثة.
ورابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ: جملة اسمية صفة ثَلاثَةٌ. وكذلك التقدير في قوله: خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ وقوله سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ. وإنما جاء بالواو في قوله: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ولم يجئ به على الصفة كالعدد قبله لأن السبعة: أصل المبالغة في العدد، كما كانت السبعين كذلك في قوله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة ٩/ ٨٠] ولو جاء بالواو في ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ لكان جائزا ورَجْماً بِالْغَيْبِ: مفعول لأجله.
إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ (٢٤) : في موضع نصب (بفاعل) بتقدير حذف حرف الجر، أي:
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا بأن يشاء الله، وأن وصلتها في تأويل المصدر، وتقديره:
لمشيئة الله، إلا أنه حذف حرف الجر من أَنْ فاتصل الفعل به.
ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ (٢٥) : بالتنوين تكون سِنِينَ منصوبا على البدل من ثَلاثَ أو عطف بيان على ثَلاثَ أو تكون بدلا مجرورا من مِائَةٍ لأن المائة في معنى سِنِينَ.
ومن لم ينون: أضاف مِائَةٍ إلى سِنِينَ تنبيها على الأصل الذي كان يجب استعماله.
وتِسْعاً: مفعول به، مثل وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ [يوسف ١٢/ ٦٥] وليس بظرف، أي وازدادوا لبث تسع سنين، فحذف المضاف.
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ (٢٦) : أي ما أسمعه وأبصره، وتقديره: أسمع به، إلا أنه حذف اكتفاء بالأول عنه. وموضع أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ الرفع لإرادة التعجب.
البلاغة:
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا استئناف مبني على سؤال من قبل المخاطب، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة.
يَهْدِ ويُضْلِلْ أَيْقاظاً ورُقُودٌ ذاتَ الْيَمِينِ وذاتَ الشِّمالِ بين كل طباق.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ.. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ بينهما طباق معنوي لأن معنى الأول: أنمناهم والثاني أيقظناهم.
إِذْ قامُوا فَقالُوا بينهما جناس ناقص.
210
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ صيغة تعجب.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ استعارة تبعية، شبهت الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان، كما تضرب الخيمة على السكان.
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ استعارة تبعية أيضا لأن الربط هو الشد، والمراد شددنا على قلوبهم كما تشد الأوعية بالأوكية.
المفردات اللغوية:
أَمْ حَسِبْتَ ظننت، وأَمْ: للانتقال من كلام إلى آخر، بمعنى: بل وهمزة الاستفهام، أي بل أحسبت، والخطاب في الظاهر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد به كل مخاطب الْكَهْفِ الغار أو النقب المتسع في الجبل وَالرَّقِيمِ لوح حجري كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقيل: اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً كانوا في قصتهم من جملة آياتنا محل تعجب، أي كانوا عجبا دون باقي الآيات، أو أعجبها.
أَوَى اتخذه مأوى الْفِتْيَةُ جمع فتى، وهو الشاب الكامل، وهم فتية من الأشراف أرادهم دقيانوس على الشرك، فأبوا وهربوا إلى الكهف، خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار مِنْ لَدُنْكَ من قبلك رَحْمَةً توجب لنا المغفرة والرزق والأمن من العدو وَهَيِّئْ يسّر، وأصل التهيئة: إحداث هيئة الشيء رَشَداً هداية إلى الطريق الموصل للمطلوب، والمعنى: هيّئ لنا من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار طريقا نصير به راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا كله رشدا. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أنمناهم نوما ثقيلا بحيث لا يسمعون، وأصله: ضربنا على آذانهم حجابا يمنع السماع سِنِينَ عَدَداً معدودة.
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أيقظناهم لِنَعْلَمَ علم مشاهدة أَيُّ الْحِزْبَيْنِ الفريقين المختلفين منهم أو من غيرهم في مدة لبثهم وهما الحزب القائل: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، والحزب القائل:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ. أَحْصى فعل ماض، أو أفعل بمعنى أضبط لِما لَبِثُوا للبثهم أَمَداً غاية ومدة لها حد نَحْنُ نَقُصُّ نخبرك بِالْحَقِّ بالصدق الْفِتْيَةُ شبان جمع فتى وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قويناهم على قول الحق، والصبر على هجر الوطن والأهل والمال إِذْ قامُوا بين يدي ملكهم: دقيانوس الجبار، وقد أمرهم بالسجود للأصنام مِنْ دُونِهِ من غيره شَطَطاً أي قولا ذا شطط، أي إفراط في الكفر إن دعونا إلها غير الله على سبيل الفرض لقول الشطط: هو الخارج عن المعقول المفرط في الظلم هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا إخبار في معنى الإنكارهلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ على عبادتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بحجة ظاهرة أو ببرهان ظاهر،
211
فإن الدين لا يؤخذ إلا به، وفيه دليل على أن مالا دليل عليه من الديانات مردود، وإن التقليد فيه غير جائز فَمَنْ أَظْلَمُ لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه تعالى.
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خاطب بعض الفتية بعضهم الآخر بذلك وَما يَعْبُدُونَ عطف على الضمير المنصوب في الفعل المتقدم، أي ولأجل أنكم اعتزلتم القوم ومعبوديهم إلا الله، فإنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون الأصنام كسائر المشركين يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ يبسط الرزق لكم، ويوسع عليكم من رحمته في الدارين وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ما ترتفقون به أي تنتفعون، من غداء وعشاء. وقد جزموا بذلك لقوة ثقتهم بفضل الله تعالى.
تَتَزاوَرُ بتخفيف الزاي والتشديد أي تميل عنه، ولا يقع شعاعها عليهم، فيؤذيهم لأن الكهف كان جنوبيا، أو لأن الله تعالى زورها عنه ذاتَ الْيَمِينِ جهة اليمين تَقْرِضُهُمْ تتركهم وتتجاوز عنهم، فلا تصيبهم البتة فَجْوَةٍ متسع من الكهف أي في وسطه، ينالهم برد الريح ونسيمها ذلِكَ المذكور وهو شأنهم أو تحول الشمس عنهم مِنْ آياتِ اللَّهِ دلائل قدرته مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً أي من يهد الله بالتوفيق، فهو المهتدي الذي أصاب الفلاح، والمراد به إما الثناء عليهم، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة، ولكن المنتفع بها من وفقه الله تعالى للتأمل فيها والاستبصار بها وَمَنْ يُضْلِلْ ومن يخذله، فلن تجد له من يليه ويرشده.
وبعبارة أخرى: من اهتدى بآيات الله واختار الإيمان بالدليل، فقد هداه الله ووفقه لاختياره، ومن لم يأخذ بأسباب الهدى فقد ضل وانحرف، ولن تجد له من يرشده ويهديه.
وَتَحْسَبُهُمْ لو رأيتهم أَيْقاظاً أي منتبهين لأن أعينهم منفتحة رُقُودٌ نيام، جمع راقد وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ لئلا تأكل الأرض لحومهم وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ يديه واسم كلبهم: قطمير بِالْوَصِيدِ بفناء الكهف، وقيل: بباب الكهف، وكان يتقلب في النوم واليقظة مثلهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ فنظرت إليهم مِنْهُمْ رُعْباً منعهم الله بالرعب من دخول أحد عليهم. والرعب: الخوف الذي يملأ الصدر. عن معاوية رضي الله عنه: أنه غزا الروم، فمرّ بالكهف، فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء، فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضي الله عنه:
ليس لك ذلك، وقد منع الله تعالى من هو خير منك، فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً فلم يسمع، وبعث ناسا، فلما دخلوا، جاءت ريح، فأحرقتهم.
وَكَذلِكَ كما فعلنا بهم ما ذكرنا بَعَثْناهُمْ أيقظناهم لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ عن حالهم ومدة لبثهم قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنهم دخلوا عند طلوع الشمس، وبعثوا عند غروبها، فظنوا أنه غروب يوم الدخول، فقولهم مبني على غالب ظنهم لأن النائم لا يحصي مدة لبثه، لذا أحالوا العلم إلى الله تعالى، فقالوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ويجوز أن يكون ذلك قول
212
بعضهم، وهذا إنكار الآخرين عليهم. ولما علموا أن الأمر ملتبس مجهول عليهم اتجهوا إلى ما يهمهم وقالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ بفضتكم، الورق: الفضة، مضروبة كانت أو غيرها إِلَى الْمَدِينَةِ هي طرسوس أو أفسوس فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فلينظر أيّ أطعمة المدينة أحل وأطيب، وأكثر وأرخص وَلْيَتَلَطَّفْ وليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن أو في التخفي حتى لا يعرف وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ولا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور.
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ إن يطلعوا عليكم أو يظفروا بكم، والضمير لأهل المدينة يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم بالرجم أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ يصيروكم إليها كرها، من العود بمعنى الصيرورة وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً إن عدتم في ملتهم.
وَكَذلِكَ كما بعثناهم أَعْثَرْنا أطلعنا عَلَيْهِمْ قومهم والمؤمنين لِيَعْلَمُوا أي قومهم أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث حَقٌّ ثابت لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت، ثم يبعث، والقادر على إنامتهم المدة الطويلة، وإبقائهم على حالهم بلا غذاء، قادر على إحياء الموتى وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها لا شك فيها إِذْ معمول لأعثرنا أي أعثرنا عليهم حين يتنازعون يَتَنازَعُونَ أي المؤمنين والكفار، والتنازع: التخاصم أَمْرَهُمْ أمر الفتية، في البناء حولهم فَقالُوا أي الكفار ابْنُوا عَلَيْهِمْ أي حولهم بُنْياناً يسترهم. رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ جملة معترضة إما من الله رد على المتنازعين في زمانهم، أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو من المتنازعين للرد إلى الله، بعد ما تذكروا أمرهم.
قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ هم رؤساء البلد أهل الرأي وهم المؤمنون حين أماتهم الله ثانيا بالموت لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ حولهم مَسْجِداً معبدا يصلى فيه، وكانوا نصارى على المشهور وفعل ذلك على باب الكهف.
سَيَقُولُونَ أي المتنازعون في عدد الفتية في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي يقول بعضهم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ أي هم ثلاثة وَيَقُولُونَ يقول بعضهم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ والقولان لنصارى نجران رَجْماً بِالْغَيْبِ أي ظنا ورميا بالخبر الخفي الذي لا اطلاع لهم عليه، والرحم:
القول بالظن، والغيب: ما غاب عن الإنسان، والمراد هنا: القول بالظن والتخمين ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ قال ابن عباس: أنا من القليل، وذكرهم سبعة.
فَلا تُمارِ تجادل إِلَّا مِراءً المراء: المحاجة فيما فيه مرية وشك وتردد وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً لا تطلب الفتيا من أحد من أهل الكتاب: اليهود، أو لا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال مسترشد، فإن فيما أوحي إليك لمندوحة عن غيره، مع أنه لا علم لهم بها، بل ولا سؤال متعنت، تريد افتضاح المسؤول وتزييف ما عنده، فإنه مخلّ بمكارم الأخلاق.
213
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً لا تقل لأجل شيء: سأفعله غدا أو فيما يستقبل من الزمان إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا متلبسا بمشيئة الله تعالى بأن تقول: إن شاء الله. وهذا نهي تأديب من الله تعالى لنبيه، حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فسألوه، فقال: ائتوني غدا أخبركم، ولم يقل: إن شاء الله، فأبطأ عليه الوحي بضعة عشر يوما، حتى شق عليه، وكذبته قريش، فنزلت الآية.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ أي مشيئته، معلقا الأمر بها إِذا نَسِيتَ التعليق بها، ويكون ذكرها بعد النسيان كذكرها مع القول، ما دام في المجلس، كما قال الحسن وغيره، وعن ابن عباس: ولو بعد سنة ما لم يحنث لِأَقْرَبَ مِنْ هذا من خبر أهل الكهف في الدلالة على نبوتي رَشَداً هداية، وقد تم المراد، وهداه الله لأعظم من ذلك، كقصص الأنبياء الغابرين، والإخبار عن المغيبات في المستقبل إلى قيام الساعة.
ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ هي عند أهل الكتاب شمسية، وتزيد القمرية عليها عند العرب تسع سنين، فقال: وَازْدَادُوا تِسْعاً أي تسع سنين، فالثلاث مائة الشمسية: ثلاث مائة وتسع قمرية أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ممن اختلفوا فيه لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي علمه أَبْصِرْ بِهِ بالله، وهي صيغة تعجب وَأَسْمِعْ كذلك، بمعنى: ما أبصره وما أسمعه، وهما على جهة المجاز، والمراد:
أنه تعالى لا يغيب عن بصره وسمعه شيء ما لَهُمْ لأهل السموات والأرض وَلِيٍّ ناصر وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ولا يشرك في قضائه أحدا منهم، ولا يجعل له فيه مدخلا لأنه غني عن الشريك.
سبب النزول:
سبق ذكر سبب نزول قصة أصحاب الكهف عند قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء ١٧/ ٨٥]. وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة مفصلا موضحا، فقال: كان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وكان يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلّم أحاديث رستم وإسفنديار، وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا جلس مجلسا ذكر فيه الله، وحدّث قومه ما أصاب من كان قبلهم من الأمم، وكان النضر يخلفه في مجلسه إذا قام، فقال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلموا، فأنا أحدثكم بأحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس.
214
ثم إن قريشا بعثوه، وبعثوا معه عتبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلوهم عن محمد وصفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم من العلم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما إلى المدينة، فسألوا أحبار اليهود عن أحوال محمد، فقال أحبار اليهود:
سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإن حديثهم عجب، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح وما هو؟ فإن أخبركم فهو نبي، وإلا فهو متقوّل، فلما قدم النضر وصاحبه مكة قالا: قد جئناكم بفصل ما بيننا وبين محمد، وأخبروا بما قاله اليهود، فجاءوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وسألوه،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: أخبركم بما سألتم عنه غدا، ولم يستثن- لم يقل: إن شاء الله-
فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم- فيما يذكرون- خمس عشرة ليلة، حتى أرجف أهل مكة به، وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، فشق عليه ذلك، ثم جاءه جبريل من عند الله بسورة أصحاب الكهف، وفيها معاتبة الله إياه على حزنه عليهم، وفيها خبر أولئك الفتية، وخبر الرجل الطوّاف «١».
نزول الآية (٢٤) : وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ..
أخرج ابن جرير عن الضحاك، وابن مردويه عن ابن عباس قال: حلف النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على يمين، فمضى له أربعون ليلة، فأنزل الله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ.. الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أنه جعل الزينة على ظهر الأرض، وفي ذلك من العجائب والإبداع ما يفوق القصص وغرائبها، أبان أن قصة أهل الكهف ليست
(١) تفسير الرازي: ٢١/ ٨٣، تفسير الألوسي: ١٥/ ٢١٦ [.....]
215
بالعجب وحدها من بين آياتنا، وأنها أقل عجبا من تزيين الأرض بالنبات، والحيوان والبشر، والشجر والأنهار وغير ذلك.
التفسير والبيان:
إجمال القصة:
هذا هو الخبر اليقين عن قصة أصحاب الكهف الذين بقوا أحياء ثلاث مائة وتسع سنوات في حال سبات (نوم) وهي من العجائب التي أشارت إليها الكتب السالفة.
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ... تعجب القوم من قصة أصحاب الكهف، وسألوا عنها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على سبيل الامتحان، فقال تعالى:
أم حسبت أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط، فلا تحسبن ذلك، فإن آياتنا كلها عجب، فليست قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم مدة طويلة أعجب من حال الدنيا، فإن زينة الأرض وعجائبها أعظم وأبدع وأعجب من هذه القصة، فإن من قدر على تزيين الأرض ثم جعلها ترابا، وعلى خلق السموات والأرض، قادر على كل شيء، ومن قدرته أن يحفظ طائفة من الناس دون طعام وشراب زمانا معلوما.
وبعبارة أخرى موجزة: لا تحسب أن قصة أصحاب الكهف والرقيم وهو اسم كلبهم أو واديهم أو كتاب بنيانهم كانوا آية عجبا من آياتنا، لا تظن ذلك فآياتنا كلها عجيبة وغريبة. والرقيم في الظاهر من الآية كما رجح ابن جرير وابن كثير:
الكتاب.
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ.. اذكر أيها الرسول حين لجأ أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم، لئلا يفتنوهم عنه، إلى غار في جبل ليختفوا عن
216
قومهم عبدة الأصنام، فقالوا حين دخلوا سائلين الله تعالى الرحمة واللطف بهم:
رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها، وتسترنا عن قومنا وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي اجعل عاقبتنا رشدا، بأن توفر المصلحة لنا، وتجعلنا راشدين غير ضالين، مهتدين غير حائرين، أو اجعل أمرنا رشدا كله.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً أي ألقينا النوم الثقيل عليهم حين دخلوا إلى الكهف، فلم يعودوا يسمعون أي صوت، وناموا سنين كثيرة معدودة.
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً أي ثم بعثناهم من رقدتهم تلك، وأيقظناهم من نومتهم ليظهر للناس معلومه سبحانه، أي الطائفتين المتنازعتين فيهم أحصى مدة لبثهم وغاية بقائهم نياما، فيظهر لهم عجزهم، ويعرفوا ما صنع الله بهم، فيتيقنوا من كمال قدرة الله على البعث وغيره.
تفصيل القصة:
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أي نحن نخبرك خبرهم على وجه الصدق، وهذا يعني أن الأخبار المتداولة عنهم بين العرب لم تكن صحيحة.
إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ.. أي إنهم شباب صدقوا بتوحيد ربهم، وشهدوا أن لا إله إلا هو، وزدناهم توفيقا للهداية بالإصرار على العقيدة والإقبال على الله وإيثار العمل الصالح.
وفي هذا إيماء إلى أن الشباب أقبل للحق وأهدى للسبل من الشيوخ الذين عتوا وانغمسوا في دين الباطل، ولهذا- كما ذكر ابن كثير- كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم شبابا، وأما المشايخ من قريش فبقوا على دينهم، ولم
217
يؤمن منهم إلا القليل. أخرج الطبراني وابن المنذر عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيا إلا وهو شاب، وقرأ: قالُوا: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء ٢١/ ٦٠] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الكهف ١٨/ ٦٠] إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ.
واستدل بهذه الآية: وَزِدْناهُمْ هُدىً على زيادة الإيمان وتفاضله بين الناس، وأنه يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كما قال تعالى:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد ٤٧/ ١٧] وقال سبحانه:
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة ٩/ ١٢٤] وقال عز وجل: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح ٤٨/ ٤].
زمنهم أو عصرهم:
ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم، ورجح ابن كثير أنهم كانوا قبل النصرانية، بدليل أن أحبار اليهود كانوا يحفظون أخبارهم، ويعنون بها، كما تقدم في سبب النزول، وبدليل ما أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة يدعو الناس إلى عبادة الأوثان، فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة، فجمعهم الله تعالى على غير ميعاد، فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون؟ أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي عن بعض لأنه لا يدري هذا علام خرج هذا، ولا يدري هذا علام خرج هذا، فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضا، فإن اجتمعوا على شيء، وإلا كتم بعضهم بعضا، فاجتمعوا على كلمة واحدة، فقالوا: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله: مِرفَقاً ثم انطلقوا حتى دخلوا الكهف، فضرب الله تعالى على آذانهم، فناموا وفقدوا في أهلهم، فجعلوا يطلبونهم، فلم يظفروا بهم، فرفع أمرهم إلى الملك، فقال:
ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن ناس خرجوا لا ندري أين ذهبوا في غير جناية
218
ولا شيء يعرف، فدعا بلوح من رصاص، فكتب فيه أسماءهم، ثم طرح في خزانته، ثم كان من شأن قصتهم ما قصه الله سبحانه وتعالى «١».
إصرارهم على توحيد الله:
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا: رَبُّنا.. أي صبرناهم على مخالفة قومهم، وثبتناهم على عقيدتهم، وألهمناهم قوة العزيمة، حتى تركوا ما كان عليه قومهم من العيش الرغيد والسعادة، وقالوا حين مثلوا أمام ملكهم الجبار الذي يدعى (دقيانوس) والذي كان يحث الناس على عبادة الأصنام والطواغيت، ويدعوهم إليها ويأمرهم بها: ربنا هو رب السموات والأرض، لن ندعو إلها من دونه مطلقا إذ لا رب سواه، ولا معبود غيره، وأن الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض.
وقد أعلنوا في الجملة الأولى: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ توحيد الألوهية، وذلك يقرّ به عبدة الأصنام، وفي الجملة الثانية: لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً توحيد الربوبية، وذلك ما ينفيه عبدة الأصنام، بدليل ما حكى القرآن:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان ٣١/ ٢٥] وقوله:
ما نَعْبُدُهُمْ- أي الأصنام- إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر ٣٩/ ٣].
وقوله: لَنْ لنفي التأبيد، أي لا يقع منا هذا أبدا لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا، لهذا عللوا اعتقادهم بقولهم:
لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي إذا دعونا غير الله، لقد قلنا باطلا وكذبا وبهتانا. والشطط في اللغة: مجاوزة الحد، والبعد عن الحق. والمعنى: لقد قلنا إذن قولا شططا. وهذا يدل على أنهم دعوا لعبادة الأصنام، ولامهم الملك على ترك عبادتها.
(١) تفسير الألوسي: ١٥/ ٢١٧
219
تنديدهم بعبادة قومهم الأصنام:
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.. أي قال أصحاب الكهف عن قومهم الذين كانوا في زمان (دقيانوس) يعبدون الأصنام: هلا يأتون بحجة بيّنة على صحة ما يفعلون من عبادة تلك الآلهة الباطلة المزعومة؟! وهلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا واضحا صحيحا؟! وهذا يدل على أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة صحيحة عقلا ومنطقا.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا أحد أشد ظلما من افتراء الكذب على الله، ونسبة الشريك إليه، فهم قوم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك.
وكان من لطف الله بهم أن ملكهم بعد أن هددهم وتوعدهم، أمهلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، فوجدوها فرصة مواتية، وهربوا فرارا بدينهم من الفتنة.
قال ابن كثير: وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفرّ العبد منهم خوفا على دينه، كما
جاء في حديث البخاري وأبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن»
ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع.
العزلة بينهم وبين قومهم:
220
قومكم وفارقتموهم عزلة مادية بالمفارقة بالأبدان والمقر والمقام، وعزلة معنوية بمخالفتهم في دينكم واعتزالكم معبوديهم غير عبادة الله وحده.
وقوله: إِلَّا اللَّهَ إما استثناء متصل أو منقطع كما ذكرنا، ويجوز أن يكون كلاما معترضا، إخبارا من الله تعالى عن الفئة أنهم لم يعبدوا غير الله.
وفارقوا قومكم جسديا، والجؤوا إلى الكهف (الغار الواسع في الجبل) بعد فراقهم روحيا، وأخلصوا العبادة لله في مكان خال بعيد عن أهل الشرك، فإن فعلتم ذلك يبسط الله عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، ويسهل لكم من أمركم مرفقا، أي أمرا ترتفقون به وتنتفعون.
حالهم في الكهف وانحسار الشمس عنهم:
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ... أي وترى يا محمد أو كل واحد يصلح للخطاب الشمس حين طلوعها تميل عن كهفهم جهة اليمين، بأن تقلص شعاعها بارتفاعها، حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان، وتراها عند الغروب تبتعد عنهم وتتركهم لا تقربهم وتعدل عنهم جهة الشمال، والحال أنهم في متسع من الكهف ووسطه، فيأتيهم الهواء باردا لطيفا.
وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقا، بل الإخبار بكون الكهف في مكان لا تؤثر فيه الشمس أثناء طلوعها وغروبها، أي أنهم طوال نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها، مع أنهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس، لولا أن الله يحجبها عنهم.
مكان الكهف:
ذكر المؤرخون أقوالا في تعيين مكان الكهف، فقيل: هو واد قريب من أيلة في العقبة جنوب فلسطين، وقيل: عند نينوى في الموصل شمال العراق
221
وقيل: في جنوب تركيا من بلاد الروم سابقا، وكلها أقوال يعوزها الدليل.
قدرة الله تعالى وعنايته ولطفه:
ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي إن بقاء هؤلاء الفتية في الكهف سنين عديدة، وما صنعه الله بهم من تنحية الشمس عنهم عند الطلوع والغروب، بانعكاس أشعتها وتقليص وهجها عنهم، آية من آيات الله العجيبة الكثيرة الدالة على كمال قدرته وسعة علمه، وعلى أنه تعالى يصون المخلصين من عباده، وأن التوحيد دين الحق، وأن عبادة الأصنام والأوثان ضلال وشرك وزيغ، وأن صون أهل الكهف بلطف من الله وعناية منه، لذا قال:
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ أي من يوفقه الله تعالى للاهتداء بآياته وحججه، ويدله دلالة مؤدية إلى الحق، ويوفقه إلى ما يحبه ويرضاه، كأهل الكهف، فهو المهتدي إلى طريق الحق، الفائز بالحظ الأوفر في الدارين.
والمراد من ذلك إما الثناء على أصحاب الكهف والشهادة لهم بإصابة المطلوب، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة، ولكن السعيد من وفقه الله تعالى للتأمل بها والاستبصار بها والاهتداء بها «١». والخلاصة: أن الله هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية.
وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً أي ومن يضلل الله بأن لم يوفقه للاهتداء بآياته، لسوء اختياره واستعداده، وتوجيه رأيه إلى جادة الانحراف، فلن تجد له أبدا حليفا أو ناصرا معينا يرشده ويهديه إلى الخير وطرق الصلاح في الدنيا والآخرة، ولا هادي له، كأمثال الكفرة منكري البعث لأن التوفيق والخذلان بيد الله، يوفق من يشاء ويخذل من يشاء.
(١) تفسير الألوسي: ١٥/ ٢٢٣- ٢٢٤
222
وتفويض الهداية والإضلال إلى الله تعالى يخفف من معاناة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مع قومه، ويسرّي عنه حزنه وألمه على إعراضهم عن قبول دعوته.
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ أي وتظنهم إذا رأيتهم أيقاظا لانفتاح أعينهم وهم نيام، لئلا يسرع إليها البلى، كأنهم ينظرون إلى من يشاهدهم.
وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أي ونقلبهم مرة في ناحية اليمين ومرة في ناحية الشمال، حتى لا تؤثر الأرض في أجسادهم، ولكي تتعرض جلودهم للهواء.
واختلفوا في مدة التقليب، فقيل: يقلّبون في العام مرتين، وقيل: مرة في العام، ولا دليل لكل من القولين، ولا يرشد إليها العقل، ولم يشر إليها القرآن، ولم يرد فيه خبر صحيح، فيبقى النص على إطلاقه. قال ابن عباس:
لو لم يقلّبوا لأكلتهم الأرض.
وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ وكان كلبهم الذي تبعهم بإلهام الله للحراسة باسطا ذراعيه بفناء الكهف أو بباب الكهف يحرس عليهم الباب، وهذا من سجيته وطبيعته، كأنه يحرسهم، وقد أصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، وهذه فائدة صحبة الأخيار.
لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي لو نظرت عليهم لأدبرت عنهم فرارا وهربا، ولملئت منهم رعبا وفزعا لأن الله تعالى ألقى عليهم المهابة والوقار، بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم، إلى أن انتهى أجل لبثهم راقدين، وتحققت فيهم الحكمة البالغة، والرحمة الواسعة، وأقام الله فيهم الدليل المادي الحسي على قدرته على البعث والإعادة، وعلى أن يوم القيامة آت لا ريب فيه.
223
بعثتهم من نومهم صحاح الأبدان بعد ثلاث مائة سنة وتسع سنين:
قال تعالى: وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ... أي كما زدناهم هدى وأنمناهم، وحفظنا أجسادهم من البلى والفناء، وأبقيناهم أحياء من غير أكل ولا شرب مدة طويلة من الزمان، ونقلبهم، فكذلك بعثناهم، أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت، لنعرّفهم مدى قدرتنا وعجيب فعلنا في الناس، وليتبصروا في أمرهم وليتساءلوا بينهم، واللام هنا لام العاقبة أو الصيرورة: فقال قائل منهم: كم لبثتم، أي كم رقدتم في نومكم؟ لإحساسهم بطول الرقاد. قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أي أجاب بعضهم قائلا: لبثنا في تقديرنا يوما كاملا أو جزءا من اليوم لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول النهار، واستيقاظهم كان في أخر النهار، لذا استدركوا فقالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
قالُوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أجاب بعض آخر: ربكم أعلم بأمركم، وبمقدار لبثكم، وهذا استشعار منهم وتردد بكثرة نومهم، لما رأوا حالهم متغيرة، أي فالله أعلم منكم، وأنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وهذا أدب الإيمان اليقظ في الرد على جواب البعض الأول.
الوكالة في شراء الطعام:
ثم تذاكروا فيما بينهم وقرروا البحث في المهم من أمرهم وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا:
فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أي فأرسلوا أحدكم بدراهمكم أو فضتكم هذه التي استصحبوها معهم من منازلهم، لتغطية حوائجهم، إلى المدينة وهي «طرسوس» أي مدينتكم التي خرجتم منها، كما أكد الرازي «١».
(١) تفسير الرازي: ٢١/ ١٠٣
224
فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً، فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي فليبصر أي الأطعمة أجود وأنفع وأطيب وأيسر سعرا، فليأتكم بمقدار مناسب منه.
وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي وليكن لطيفا رفيقا في الطلب وفي خروجه ودخوله المدينة، وفي شرائه، ولا يخبرن أو لا يعلمن أحدا من أهل المدينة بمكانكم.
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي إن أصحاب دقيانوس الملك إن اطلعوا على مكانكم، يقتلوكم بالرجم بالحجارة، أو يجبروكم ويكرهوكم على العودة إلى دينهم- دين الوثنية وعبادة الأصنام.
وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي وإن وافقتموهم على العود إلى ملتهم أو دينهم، فلا فلاح لكم أبدا في الدنيا والآخرة.
اطلاع الناس عليهم:
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ.. أي وكما أنمناهم ثم بعثناهم، أطلعنا الناس عليهم وعلى أحوالهم، وهم أولئك الذين كان لديهم شك في قدرة الله على إحياء الموتى، وفي البعث، وفي أمر القيامة، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك، وليدركوا ويعلموا أن وعد الله بالبعث حق وصدق وثابت، وأن حدوث الساعة أي القيامة أمر لا شك فيه، فمن شاهد حال أهل الكهف علم صحة الخبر وصدق وعد الله بالبعث لأن حالهم في نومتهم، وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث.
وسمى إعلام الناس بهم إعثارا لأن من غفل عن شيء ثم عثر به، نظر إليه وعرفه، فكان الإعثار سببا في العلم، والمعنى: أعثرنا عليهم حين يتنازعون بينهم.
225
إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أي أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان حين كان بعضهم يتنازع مع بعض في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، ومن مؤمن بها وكافر، فجعل اطلاعهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم، وفرح الملك وشعبه بآية الله على البعث، وزال أمر الخلاف في أمر القيامة.
آراء القوم في شأنهم بعد اطلاعهم عليهم:
فَقالُوا: ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً.. أي انقسم القوم في شأن أهل الكهف حين توفاهم الله تعالى فريقين: فريق- قيل هم الكفار منهم- قالوا: نسدّ عليهم باب كهفهم، ونتركهم على حالهم فإنهم كانوا على ديننا، فنتخذ عليهم بنيانا، أي على باب كهفهم، لئلا يدخل إليهم الناس، ضنا بتربتهم، ومحافظة عليها.
وقوله: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ جملة معترضة، أي أعلم بشأنهم للرد على المتنازعين في عقيدتهم وبيان أنسابهم وأسمائهم ومدة لبثهم.
وفريق آخر تغلبوا على الفريق الأول بالرأي وهم المسلمون وملكهم قالوا- وكانوا أولى بهم وبالبناء عليهم-: لنتخذن على باب الكهف مسجدا يصلي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم.
عددهم:
سَيَقُولُونَ: ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ.. أي إن الناس بعدئذ اختلفوا في عددهم، وهم من خاض في قصتهم في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهل الكتاب والمؤمنين، إنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنهم، فأخر الجواب إلى أن يوحى إليه، فنزلت الآية إخبارا ببيان عددهم وأن المصيب منهم من يقول: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ.
بعضهم قال: هم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وآخرون قالوا: هم خَمْسَةٌ
226
سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ
، وهم في هذا يقولون: رَجْماً بِالْغَيْبِ أي قولا بلا علم، وإنما هو مجرد ظن وتخمين، لا دليل عليه، ولا يقين معه، بدليل اتباع القولين الأولين بقوله رَجْماً بِالْغَيْبِ.
وقال جماعة آخرون: إنهم سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، ولما حكى تعالى هذا القول، وسكت عليه أو قرره، دل على صحته، وأنه هو الواقع في الأمر نفسه.
قل يا محمد: ربي أعلم بعددهم، ما يعلمهم إلا قليل من الناس، وأكثر أهل الكتاب الذين ذكروا أعدادهم على ظن وتخمين. وقوله رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى إذ لا داعي إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم.
قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل، كانوا سبعة، وكذا روى ابن جرير عن عطاء أنه كان يقول: عدتهم سبعة.
والمهم في الأمر ليس معرفة العدد، وإنما المهم الاعتبار بالقصة، والانتفاع بما دلت عليه من إثبات قدرة الله تعالى على البعث والإعادة.
وتساءل صاحب الكشاف: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ولم دخلت عليها دون الجملتين الأوليين؟ ثم أجاب: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة، وفائدتها تأكيد اتصال الصفة بالموصوف، والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، أي أن الذين قالوا:
سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قالوه عن ثبات وعلم، ولم يرجموا بالظن كما فعل غيرهم.
فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي فلا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدلا ظاهرا غير متعمق فيه، وهو أن تقص عليهم ما أوحى
227
الله إليك فحسب، ولا تزيد، من غير تجهيل لهم، ولا تعنيف في الرد عليهم، كما قال تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل ١٦/ ١٢٥] وقال: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت ٢٩/ ٤٦].
وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً أي ولا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال متعنت لأن ذلك خلاف ما وصيت به من المداراة والمجاملة، ولا سؤال مسترشد لأن الله قد أرشدك، بأن أوحى إليك قصتهم.
وهذا يدل على عدم جواز الرجوع إلى أهل الكتاب في شيء من العلم.
إرشاد للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ولأمته بتعليق الخبر بمشيئة الله:
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً.. أي لا تقولن أيها الرسول لأجل شيء عزمت على فعله في المستقبل: إني سأفعل ذلك غدا إلا بأن تقرنه بمشيئة الله عز وجل، فتقول: إن شاء الله، كما
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «قال سليمان بن داود عليهما السلام: لأطوفهن الليلة على سبعين امرأة- وفي رواية مائة امرأة- تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله، فقيل له- وفي رواية قال له الملك-: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن، فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركا لحاجته».
وفي رواية: «ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعون».
وقد عرفنا سبب نزول هذه الآية في
قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف: «غدا أجيبكم»
فتأخر الوحي خمسة عشر يوما.
وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ أي واذكر مشيئة ربك، وقل: إن شاء الله إذا فرط منك نسيان لذلك، والمعنى إذا نسيت كلمة الاستثناء، ثم تنبهت، فتداركها بالذكر، سواء طال الفصل أو قصر، عن ابن عباس رضي الله عنهما: ولو بعد
228
سنة ما لم تحنث. والاستثناء بالمشيئة عند عامة الفقهاء لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. وأوضح ابن جرير معنى قول ابن عباس: وهو أنه إذا نسي أن يقول في كلامه أو في حلفه: إن شاء الله، وتذكر ولو بعد سنة، فالسنة له أن يقول ذلك، ليكون آتيا بسنة الاستثناء، حتى ولو كان بعد الحنث. لا أن يكون رافعا لحنث اليمين ومسقطا للكفارة.
وَقُلْ: عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً أي وقل يا محمد:
عسى أن يوفقني ربي لشيء آخر بدل المنسي أو أقرب خيرا ومنفعة، فإذا سئلت عن شيء لا تعلمه، فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك.
مدة لبثهم في الكهف:
أخبر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن مقدار لبث أهل الكهف في كهفهم، منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله، فقال:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً أي إنهم أقاموا في الكهف مقدار ثلاث مائة سنة وتسع سنوات هلالية، وهي ثلاث مائة سنة شمسية، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين، فلهذا قال بعد الثلاث مائة: وَازْدَادُوا تِسْعاً. وأكد ذلك الإخبار بقوله:
قُلِ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا... أي إذا سئلت عن مدة لبثهم، وليس عندك علم في ذلك من الله تعالى، فقل في مثل هذا: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا، لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لا يعلم ذلك إلا هو، ومن أطلعه عليه من خلقه، فلا تتعجل بالأخبار ما لم يكن عندك دليل عليها، والحق ما أخبرك به، لا ما يقولونه إذ له غيب السموات والأرض، وهو العالم بكل شيء، وأعلم من الذين اختلفوا في مقدار مدة لبثهم.
229
وبما أن الله أخبر عن مدة لبثهم، فهو الحق الذي لا شك فيه. وفائدة تأخير إيراد هذه الجملة الدلالة على أنهم تنازعوا في مدة اللبث، كما تنازعوا في عددهم، وجاء هذا التذييل هنا كالتذييل المتقدم في حكاية عددهم: قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ.
والخلاصة: إن الخبر اليقين في بيان عدد أهل الكهف ومدة لبثهم هو من عند الله تعالى لأنه أعلم بالأشياء وبالحقائق، وأما أقوال الناس فهي ظنون لا دليل عليها، وتستند إلى الشائعات، ولله وحده علم ما غاب في شؤون السموات والأرض، وخفي من أحوال أهلها.
أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ هذا من صيغ التعجب والمبالغة، أي إن الله تعالى لبصير بهم، سميع لهم، وذلك في معنى المبالغة في المدح والتعجب، كأنه قيل:
ما أبصره وأسمعه، أي ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع، لا يخفى عليه من ذلك شيء. قال قتادة في هذه الصيغة: فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع.
ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ أي ما للناس من دون الله متول يلي أمورهم، وليس له وزير ولا نصير.
وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً أي أن الله تعالى له الخلق والأمر، لا معقّب لحكمه، ولا يشاركه في قضائه أحد من الناس، وليس له شريك ولا مشير.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من بيان قصة أصحاب الكهف ما يأتي:
١- ليس حال هذه القصة هي الآية العجاب من آيات الله فقط، وإنما خلق السموات والأرض وما فيهما أشد عجبا وأعظم روعة، وأدل على قدرة الله عز وجل، فلا يعظم ذلك أيها النبي بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة.
230
٢- كان إيواء الفتية المؤمنين إلى الكهف من أبناء أشراف مدينة «دقيانوس» الملك الكافر فرارا بدينهم من فتنة الكافرين عبدة الأصنام. وهذا دليل صريح في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال، خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فارّا بدينه، وكذلك أصحابه، كما نص الله تعالى في سورة براءة. إنهم هجروا أوطانهم، وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين.
وهذه الحالة المستثناة لجواز العزلة عن الناس باتفاق العلماء مقصورة على حال خشية الفتنة في الدين. وأما ما عدا ذلك فالمخالطة أفضل من العزلة،
روى البغوي وأحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم، ولا يصبر على أذاهم».
٣- لما فر أصحاب الكهف ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء، ولجؤوا إلى الله تعالى قائلين: رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي آتنا مغفرة ورزقا، وهيّئ لنا توفيقا للرشاد والسداد والصواب.
وقد اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف في مكانهم، أما الزمان الذي كانوا فيه: فقيل: إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام، وإن موسى ذكرهم في التوراة، ولهذا السبب فإن اليهود سألوا عنهم، وقيل: إنهم دخلوا الكهف قبل المسيح ثم بعثوا بعد عيسى وقبل محمد، وقيل: إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح.
وأما مكان هذا الكهف فلا يعرف على وجه اليقين، ويقال: إنه في بلاد الروم أي في جنوب تركيا اليوم في طرسوس، وهو الظاهر.
٤- كان من تدبير الله تعالى لأهل الكهف للمكث فيه راقدين (٣٠٩) سنوات
231
إلقاء النوم عليهم ومنعهم من السماع لأن النائم إذا سمع انتبه، ثم بعثتهم من بعد نومهم، ثم اطلاع الناس على شأنهم.
وكان إيقاظهم من أجل اختبار الناس لمعرفة مقدار مدة لبثهم، وقوله لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى معناه: لنعلم ذلك موجودا، وإلا فقد كان الله تعالى علم أي الفريقين أحصى الأمد. والفريقان أو الحزبان: الفتية الذين ظنوا لبثهم قليلا، وأهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية.
٥- إن صفات هؤلاء الفتية أو الجماعة من الشبان: أنهم آمنوا بالله، وألهم الله قلوبهم الصبر والثبات، وزاد الله في إيمانهم بالتيسير للعمل الصالح من الانقطاع إلى الله تعالى، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا.
وكان من أثر شدة عزيمتهم وقوة صبرهم التي أعطاها الله لهم أنهم أعلنوا أمام الكفار: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً.
وكانوا يتذاكرون شأن إيمانهم، فقال بعضهم: هؤلاء أهل عصرنا وبلدنا، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة، فهلا يأتون بحجة على عبادتهم الصنم؟! ٦- لقد قال الله لهم أو قالوا لبعضهم: إذ اعتزلتم قومكم، فأووا إلى الكهف تغمركم رحمة الله، ويهيء الله لكم ما ترتفقون وتنتفعون به من شؤون الحياة.
٧- كان من رحمة الله بهم ولطفه بهم بعد الرقاد أن الشمس تتنحى عنهم وتميل جهة اليمين وجهة الشمال، أي عن يمين الكهف وعن شماله، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار، وكان الرائي يحسبهم أيقاظا لأن أعينهم كانت مفتوحة وهم نائمون، وأن كلبهم باسط ذراعيه في باب الكهف لحراستهم، وهو
232
نائم مثلهم. ومن لطفه تعالى بهم أيضا تقليبهم ناحية اليمين وناحية الشمال لئلا تأكل الأرض لحومهم، وكان التقليب من فعل الله، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله، فينسب إلى الله تعالى.
٨- يجوز اتخاذ الكلاب للحاجة والصيد والحراسة،
ورد في صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية، نقص من أجره كل يوم قيراطان».
وكلب الماشية المباح اتخاذه عند الإمام مالك: هو الذي يسرح معها، لا الذي يحفظها في الدار من السرّاق. وكلب الزرع: هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار، لا من السرّاق. وقد أجاز غير مالك اتخاذ الكلاب لسرّاق الماشية والزرع.
٩- ينتفع الإنسان بصحبة الأخيار ومخالطة الصلحاء والأولياء، بدليل جعل كلب أهل الكهف مثلهم، إنه كلب أحب قوما، فذكره الله معهم.
روى مسلم في صحيحة عن أنس بن مالك قال: بينا أنا ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم خارجان من المسجد، فلقينا رجل عند سدّة المسجد فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما أعددت لها؟ قال: فكأن الرجل استكان، ثم قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، قال: «فأنت مع من أحببت».
وأكثر المفسرين: على أنه كلب حقيقة، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه، أو غنمه، واسم «قطمير» كلب أنمر، والصحيح أنه زبيري.
١٠- ألقى الله عليهم الهيبة أو المهابة والوقار، فلو شاهدهم إنسان أشرف على الهرب منهم، وامتلأ قلبه خوفا ورعبا منهم. قال ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها، لتكون لهم ولغيرهم فيهم
233
آية، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهمّ.
١١- بعد الرقاد والتقليب أيقظهم الله من نومهم على ما كانوا عليه من هيئاتهم في ثيابهم وأحوالهم، وليصيروا إلى التساؤل فيما بينهم عن مدة نومهم، فقال بعضهم:
لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وقال آخرون: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ.
١٢- دل قوله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً.. الآية على مشروعية الوكالة، وعلى حسن السياسة والتلطف في دخول المدينة وخروجها وشراء الطعام من أهلها، حتى لا يعلم أهل المدينة بهم، فيقتلوهم بالحجارة، وهو أخبث القتل.
والوكالة معروفة في الجاهلية والإسلام،
وقد وكل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بعض الصحابة في تزويجه من بعض النسوة، ووكل عروة البارقي في شراء أضحية، ووكل علي بن أبي طالب رضي الله عنه أخاه عقيلا عند عثمان رضي الله عنهما.
والوكالة عقد نيابة أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه، وقيام المصلحة في ذلك إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره، أو بترفّه، فيستنيب من يريحه. ودل القرآن في غير هذه الآية على جواز الوكالة، مثل قوله تعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها [التوبة ٩/ ٦٠] وقوله: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا [يوسف ١٢/ ٩٣].
والوكالة جائزة عند الجمهور لمن له عدر ومن لا عذر له، وقال أبو حنيفة وسحنون: لا تجوز لمن لا عذر له. ودليل الجمهور حديث البخاري عن أبي هريرة المتضمن توكيل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إعطاء بعض أنواع الإبل وفاء لدينه، وقال: «ان خيركم أحسنكم قضاء».
234
١٣- تضمنت هذه الآية: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ.. أيضا جواز الشركة لأن الورق كان لجميعهم، كما تضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكّلوه بالشراء، وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر، ومثله قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة ٢/ ٢٢٠].
١٤- أطلع الله تعالى الناس على أهل الكهف للعبرة والعظة والاسترشاد وإقامة الحجة على قدرة الله على الحشر وبعث الأجساد من القبور، والحساب.
١٥- إن اتخاذ المساجد على القبور، والصلاة فيها، والبناء عليها، غير جائز في شرعنا، لما
روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم زوّارات القبور، والمتخذين عليها المساجد، والسّرج».
ويجوز الدفن في التابوت، لا سيما إذا كانت الأرض رخوة، وقد دفن دانيال ويوسف عليهما السلام في تابوت، وكان تابوت دانيال من حجر، وتابوت يوسف من زجاج. لكن يكره في شرعنا.
١٦- قوله تعالى: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ تنبيه على أن هذا العدد هو الحق لسكوت النص على التعقيب عليه، خلافا لما قال تعالى في الجملتين المتقدمتين: رَجْماً بِالْغَيْبِ.
وقوله سبحانه قُلْ: رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أمر دال على أن يردّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم علم عدّتهم إلى الله عز وجل، ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل.
وقوله فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً دليل على أن الله تعالى لم يبين لأحد عددهم، فلهذا قال: إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي ذاهبا، ودليل على أنه لم يبح له في هذه الآية المراء والجدال إلا بالتي هي أحسن، كما جاء في آية أخرى.
235
وفي قوله سبحانه وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم.
١٧- السّنة والأدب الشرعيان يقتضيان تعليق الأمور المستقبلية بمشيئة الله تعالى للآية وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ: إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً، إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.
والآية ليست في الأيمان، وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين، بأن يقول:
إن شاء الله.
ويؤمر الإنسان بالذكر بعد النسيان، أي بذكر مشيئة الله عند التذكر ولو بعد حين، سنة أو أقل، أو أكثر.
١٨- أخبر تعالى في قوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ... عن مدة لبث أهل الكهف، وهي ثلاث مائة وتسع سنوات، كانوا في هذه المدة نياما، لا أمواتا. وأمر الله تعالى برد العلم بمدتهم إلى الله عز وجل، كما أمر بذلك في معرفة عددهم لأن الله تعالى أعلم بكل شيء، وأعلم بغيب السموات والأرض وما فيها من أحوال المخلوقات، ولا شريك له ولا مشير، ولا نصير ولا معين ولا وزير.
والظاهر أن أهل الكهف ماتوا موتا حقيقيا، وإن كان لا مانع شرعا من بقاء أجسادهم محفوظة، لم يطرأ عليها البلى والفناء لأن أجساد الأنبياء والشهداء والعلماء الصالحين لا تفنى ولا تبلى.
١٩- العبرة من القصة: دلت هذه القصة على أن الله قادر على البعث والقيامة لأن إثبات البعث والقيامة يدور على أصول ثلاثة: أحدها- أنه تعالى قادر على كل الممكنات، والثاني- أنه تعالى عالم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات، والثالث- أن كل ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات.
236
وهذه القصة تدل على أن الله تعالى عالم قادر على كل شيء، فثبت القول بإمكان البعث والقيامة.
توجيهات للنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وللمؤمنين تلاوة القرآن والصبر على مجالسة الفقراء وإظهار كون الحق من عند الله
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
237
الإعراب:
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ: الْحَقُّ خبر مبتدأ محذوف، ومِنْ رَبِّكُمْ حال. يَشْوِي الْوُجُوهَ صفة ثانية لماء أو خال من المهل.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ وصلته: اسم إِنَّ، وخبرها إما أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وإما إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أي لا نضيع أجرهم، فأقيم المظهر مقام المضمر، وإما أن خبرها مقدر، أي إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يجازيهم الله بأعمالهم، بدليل إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا.
البلاغة:
بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ وفَلْيُؤْمِنْ فَلْيَكْفُرْ بينهما طباق.
بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً ونِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً مقابلة بين النار والجنة.
بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ تشبيه مرسل مفصل لذكر أداة الشبه ووجه التشبيه.
المفردات اللغوية:
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ من القرآن، ولا تسمع لقولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس ١٠/ ١٥]. لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا مغير لأحكامه، فلا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره. مُلْتَحَداً ملجأ تعدل إليه إذا هممت به. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ احبسها وثبّتها مع الفقراء. بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي في طرفي النهار، وخصا بالبيان لغفلة الناس واشتغالهم بدنياهم حينئذ. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يريدون بعبادتهم رضا الله وطاعته، لا شيئا من أعراض الدنيا. وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي لا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم، والمراد لا تهمل شأنهم وتهتم بالأغنياء، وعبر بقوله تعالى عَيْناكَ عن صاحبهما. تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تقصد مجالسة الأغنياء وأصحاب النفوذ والثروة. وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ جعلناه غافلا وهو حينئذ عيينة بن حصن وأصحابه مثل أمية بن خلف. عَنْ ذِكْرِنا أي القرآن. وَاتَّبَعَ هَواهُ في الشرك. فُرُطاً أي تجاوزا حد الاعتدال، وتقدما على الحق، ونبذا له. وكانوا قد دعوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى طرد الفقراء عن مجلسه لصناديد قريش. وفيه تنبيه إلى أن الداعي لهذا الاستدعاء غفلة القلب عن المعقولات، والانهماك في المحسوسات حتى خفي عليهم أن الشرف بحلية النفس، لا بزينة الجسد.
238
وَقُلِ خطاب للنبي ولأصحابه. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ الحق ومنه القرآن: ما يكون من جهة الله تعالى، لا ما يقتضيه الهوى. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ تهديد لهم ووعيد، قال البيضاوي: وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله، فإنه وإن كان بمشيئته، فمشيئته ليست إلا بمشيئة الله تعالى. أَعْتَدْنا أعددنا وهيأنا. لِلظَّالِمِينَ الكافرين. سُرادِقُها هو الفسطاط، وهو لفظ فارسي معرب، شبّه به ما يحيط بهم من لهب النار. كَالْمُهْلِ كعكر الزيت، أو كالشيء المذاب من المعادن كالنحاس والرصاص. يَشْوِي الْوُجُوهَ من حره إذا قدّم أو قرّب منها للشرب. بِئْسَ الشَّرابُ المهل هو. وَساءَتْ مُرْتَفَقاً أي وساءت النار متكأ، وهو لمقابلة قوله تعالى الآتي وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً وإلا فلا ارتفاق لأهل النار. ومُرْتَفَقاً: تمييز منقول عن الفاعل، أي قبح مرتفقها.
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا خبر إِنَّ الَّذِينَ وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر، أي لا نضيع أجرهم، أي نثيبهم بما تضمنه. ويجوز أن يكون الخبر أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وما بينهما اعتراض. وهذا على الوجه الأول استئناف لبيان الأجر، أو خبر ثان. جَنَّاتُ عَدْنٍ إقامة واستقرار. مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ الأولى للابتداء، والثانية للبيان، صفة لأساور، وهي جمع أسورة أو أسوار في جمع سوار، أي فهي جمع الجمع. وتنكير لفظها لتعظيم حسنها عن الإحاطة به.
سُنْدُسٍ مارقّ من الديباج، وهو فارسي معرب. وَإِسْتَبْرَقٍ ما غلظ منه، وهو رومي معرّب. جاء في آية من سورة الرحمن بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [٥٤] وجمع بين النوعين للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. الْأَرائِكِ السرر، جمع أريكة وهي السرير الذي عليه الحجلة (الناموسية في عرفنا). نِعْمَ الثَّوابُ الجنة ونعيمها.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٨) :
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ: عن سلمان الفارسي قال: جاءت المؤلفة القلوب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس وذووهم، فقالوا:
يا رسول الله، إنك لو جلست في صدر المجلس، ونحّيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم، يعنون. سلمان وأبا ذرّ وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف، ولم يكن عليهم غيرها، جلسنا إليك، وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله
239
تعالى: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ، لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ، وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً. وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حتى بلغ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً يتهددهم بالنار،
فقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يلتمسهم، حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى قال: «الحمد لله الذي لم يمتني، حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات» «١».
وفي رواية أخرى: أن عيينة بن حصن الفزاري أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قبل أن يسلم، وعنده جماعة من فقراء أصحابه، فيهم سلمان الفارسي، وعليه شملة قد عرق فيها، وبيده خوص يشقّه، ثم ينسجه، فقال له: أما يؤذيك ريح هؤلاء، ونحن سادات مضر وأشرافها، فإن أسلمنا أسلم الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، فنحّهم حتى نتّبعك، أو اجعل لهم مجلسا، ولنا مجلسا، فنزلت الآية.
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا: جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ورجل يقرأ سورة الحجر، أو سورة الكهف، فسكت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم».
نزول آية وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ..:
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ.. قال: نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه، وتقريب صناديد أهل مكة، فنزلت.
(١) أسباب النزول للواحدي ١٧١.
240
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصة أصحاب الكهف التي يجهلها كثير من الناس لكونها من المغيبات، مما يدل على أن القرآن وحي من عند الله تعالى، أمر تعالى رسوله والمؤمنين ببعض الأوامر: وهي المواظبة على تلاوة القرآن، وملازمة مجالس أصحابه الفقراء الذين يتدارسون القرآن، وإظهار أن القرآن وكلّ حق هو من عند الله تعالى.
ثم ذكر تعالى جزاء الكافرين وعقابهم الأليم، وثواب المتقين ونعيمهم الدائم، جزاء كلّ بما يستحق.
التفسير والبيان:
وَاتْلُ ما أُوحِيَ.. يأمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في هذه الآية بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس، قائلا له: واتل الكتاب الموحى به إليك، واتبع ما جاء فيه من أمر ونهي، فإنه لا مغيّر لكلمات ربك من وعد الطائعين ووعيد للعصاة، ولا محرف ولا مزيل لها، فإن لم تعمل به، فوقعت في الوعيد، فلن تجد ملجأ ولا وليّا ناصرا من دون الله تعالى.
هذا هو التوجيه الأول: تلاوة القرآن والعمل بمقتضاه، والتوجيه الثاني هو مجالسة الفقراء والمستضعفين فقال تعالى:
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.. أي جالس الذين يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه ويدعونه في الغداة (صباحا) والعشي (مساء) أي في كل وقت، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، يريدون وجهه (أي طاعته) ورضاه.
يقال كما بينا: إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن
241
يجلس معهم وحده، من غير وجود أصحابه الفقراء أو الضعفاء، كبلال، وعمار، وصهيب، وخبّاب، وابن مسعود، وليفردوهم في مجلس على حدة، فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يصبر ويثبّت نفسه في الجلوس مع هؤلاء، ونظير الآية قوله:
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام ٦/ ٥٢]. وهذا شبيه بقول قوم نوح عليه السلام: أَنُؤْمِنُ لَكَ، وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء ٢٦/ ١١١].
وأكد تعالى الأمر السابق بقوله: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ.. أي ولا تجاوز بصرك ونفسك إلى غيرهم، فتطلب بدلهم أصحاب الثروة والنفوذ، والمقصود النهي عن احتقارهم لسوء حالهم وفقرهم،
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لما نزلت هذه الآية: «الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه».
ثم أكد تعالى هذا النهي بقوله: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا..
أي وإياك أن تطيع من وجدناه غافلا، وشغل عن الدين وعبادة ربّه بالدنيا، وكان مسرفا مفرطا في أعماله وأفعاله غاية الإسراف والتفريط، متبعا شهواته.
وهو دليل على أن سبب البعد عنهم؟؟؟؟ لهم عن اتباع أمر الله بمفاتن الدنيا وزينتها.
والتوجيه الثالث: إعلان مجيء الحق واضحا ظاهرا من الله تعالى، بحيث لم يبق إلا التهديد والوعيد الشديد على كفرهم فقال: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.. أي قل يا محمد للناس: هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، وهو النظام الأصلح للحياة، فمن شاء آمن به، ومن شاء كفر به، فأنا في غنى عنكم، ومن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، ثم يحاسبكم ربكم على أعمالكم. وفي هذا تهديد ووعيد شديد.
ثم ذكر الله تعالى نوع الوعيد على الكفر، والوعد على العمل الصالح، فقال
242
واصفا الأول: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي إنا أرصدنا وهيأنا وأعددنا للكافرين بالله ورسوله وكتابه نار جهنم، الذي أحدق وأحاط بهم سورها من كل جانب، حتى لا يجدوا مخلصا منها.
أخرج أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «لسرادق النار أربعة جدر، كثف «١» كل جدار مسافة أربعين سنة»
والسّرادق: واحد السرادقات التي تمدّ فوق صحن الدار، أو السور.
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ، يَشْوِي الْوُجُوهَ أي إن يطلب هؤلاء الكافرون الظالمون الإغاثة والمدد والماء وهم في النار، لإطفاء عطشهم، بسبب حرّ جهنم، يغاثوا بماء غليظ كدردي (عكر) الزيت، أو كالدم والقيح، يشوي جلود الوجوه من شدة حره، إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه، حتى تسقط جلدة وجهه فيه، كما
جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «المهل كعكر الزيت، فإذا قرّبه إلى وجهه، سقطت فروة وجهه فيه».
بِئْسَ الشَّرابُ، وَساءَتْ مُرْتَفَقاً أي بئس هذا الشراب شرابهم، فما أقبحه، فهو لا يزيل عطشا، ولا يسكّن حرارة، بل يزيد فيها، وساءت جهنم مرتفقا، أي وساءت النار منزلا ومجتمعا وموضعا للارتفاق والانتفاع، كما قال تعالى: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان ٢٥/ ٦٦].
ثم وصف الله تعالى وعده للمؤمنين الصالحين السعداء فقال:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أي إن الذين آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة، فلا يضيع الله أجرهم على إحسانهم العمل.
(١) الكثف: جمع كثيف، وهو الثخين الغليظ.
243
والعطف بين الإيمان والعمل يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان لأن العطف يوجب المغايرة.
وأوصاف نعيمهم هي:
١- أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي أولئك لهم جنان إقامة دائمة، تجري فيها الأنهار من تحت غرفهم ومنازلهم.
٢- يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ أي يلبسون فيها حلية فيها أساور من ذهب،
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء».
وفي آية أخرى: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً، وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [الحج ٢٢/ ٢٣].
٣- وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ أي ويلبسون سندسا هو رقيق الحرير، وإستبرقا هو غليظ الديباج أو الحرير، واختير الأخضر لراحة العين عند إبصاره.
٤- مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ أي مضطجعين فيها على السرر، شأنهم شأن الملوك والعظماء، والأرائك: جمع أريكة وهي السرير.
نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً أي نعمت الجنة ثوابا على أعمالهم، وحسنت منزلا ومقرا ومقاما، كما قال في آية أخرى: خالِدِينَ فِيها، حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان ٢٥/ ٧٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات الإرشادات التالية:
١- وجوب اتباع القرآن وما جاء به: لأنه لا مغيّر لما أوعد بكلماته أهل
244
معاصيه والمخالفين لكتابه، ووعد أهل طاعته المتبعين ما أمر به، المبتعدين عما نهى عنه.
٢- الإسلام دين المساواة: فلا فرق في نظامه بين شريف ووضيع، وغني وفقير، ورئيس ومرءوس، ولا تفرقة في أموره الاجتماعية بين الطبقات، الكل سواء في المجلس والمعاملة والحقوق والواجبات. وقد قضى القرآن بآية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.. على الامتيازات في المجلس والخطاب والكلام بين أشراف قريش وساداتها وبين فقراء المسلمين وضعفائهم.
بل إن الإسلام مع الضعيف التقي الذي يبتغي بعمله رضوان الله وطاعته، وينفر من الذين يؤثرون الدنيا على الآخرة، ويتبعون أهواءهم، ويبلغون في إسرافهم في المعاصي حد الإفراط ومجاوزة الحد.
لهذا فلا داعي لتزيين مجلس النبي والمؤمنين من بعده بمجالسة الرؤساء الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسه، ولم يرد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يفعل ذلك، ولكن الله نهاه عن أن يفعله. وكان القوم قالوا: نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم الناس وكان هذا من التكبر والإفراط في القول.
٣- الحق من الله ربّ الناس، فإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر، ليس إلى أحد ولو النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من ذلك شيء، فالله يؤتي الحق من يشاء، وإن كان ضعيفا، ويحرمه من يشاء، وإن كان قويا غنيا، وليس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يطرد المؤمنين من مجلسه لهوى السادة الزعماء من قريش.
فإن شئتم أيها السادة فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا، وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر، وإنما هو وعيد وتهديد، أي إن كفرتم فقد أعدّ لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنة.
245
والدليل على كون ذلك تهديدا قوله تعالى بعدئذ مباشرة: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي إنا أعددنا للكافرين الجاحدين نارا شديد اللهب، أحاط بهم سرادقها، أي سورها، أو ما يعلو الكفار من دخان أو نار.
وشراب أهل النار: هو المهل، وهو ماء غليظ مثل درديّ الزيت (وهو ما يبقى في أسفل الوعاء)، أو النحاس المذاب، أو كالقيح والدم، كما في قوله تعالى: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ [إبراهيم ١٤/ ١٦- ١٧]، وقوله سبحانه: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد ٤٧/ ١٥].
وما أسوأ وأقبح العذاب في نار جهنم، لذا قال تعالى: وَساءَتْ مُرْتَفَقاً أي مجتمعا ومنزلا ومقرا.
٤- بعد أن ذكر تعالى ما أعد للكافرين من الهوان، ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب، فإن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن من المؤمنين عملا، مما يدل على أن أساس النجاة: الإيمان مع العمل الصالح. أما من أحسن عملا من غير المؤمنين، فعمله محبط.
وثواب المؤمنين: جنات عدن أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها، باللؤلؤ وأساور الذهب، ويلبسون الثياب الخضر من الرقيق الرقيق والغليظ الكثيف، ويتكئون على الأرائك وهي السرر في الحجال «١».
فما أجمل وأحسن ذلك الثواب، لذا قال تعالى: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً أي نعمت الجنة ثوابا للمؤمنين الصالحين، وحسنت مقرا ومقاما ومجلسا ومجتمعا.
(١) الحجال: جمع الحجلة كالقبة، وموضع يزين بالثياب والستور والأسرة للعروس.
246
صاحب الجنتين مثل الغني المغتر بماله والفقير المعتز بعقيدته
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٢ الى ٤٤]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
247
الإعراب:
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي لكِنَّا: أصله: لكن أنا، فحذفت الهمزة، وأدغمت النونان ببعضهما أو نقلت حركة الهمزة إلى النون. ومن قرأ لكن بحذف الألف فعلى الأصل في حالة الوصل. ولكن هنا هي الخفيفة التي لا يراد بها الاستدراك. وأنا: مبتدأ، وهو: مبتدأ ثان، والله: خبر المبتدأ الثاني، وربي: صفته، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره: خبر المبتدأ الأول.
والعائد إليه: الياء المجرور بالإضافة في رَبِّي.
ما شاءَ اللَّهُ ما: إما اسم موصول، وشاءَ اللَّهُ: صلته، وهو في موضع مبتدأ مرفوع، وخبره محذوف، أي الذي شاءه الله كائن، فحذف الهاء التي هي العائد تخفيفا، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: الأمر ما شاء الله، وحذف العائد تخفيفا وإما أن تكون شرطية في موضع نصب بشاء، وجوابها محذوف، أي ما شاء الله كان.
إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ إِنْ: شرطية، وجوابها: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ وأَنَا: ضمير فصل، لا موضع له من الإعراب لأنه وقع بين معرفة ونكرة تقارب المعرفة، فالمعرفة ياء تَرَنِ والنكرة التي تقارب المعرفة: أَقَلَّ مِنْكَ قرب من المعرفة لتعلق مِنْكَ به، وهو مفعول ثان، وياء تَرَنِ: مفعول أول.
أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غَوْراً: إما بمعنى غائر، أو فيه مضاف محذوف، أي ذا غور، مثل وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أي مثل رجلين. وغَوْراً: خبر أصبح المنصوب.
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ثمره: اسم جنس كخشبة وخشب، وشجرة وشجر. وقرئ بثمره بضمتين، وهو إما جمع ثمار، وثمار جمع ثمرة، فيكون جمع الجمع، كإزار وأزر، وإما أن يكون كخشبة وخشب. وقرئ بضمة واحدة ثمره مخففا من ثمر، مثل: خشب وخشب.
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ قرئ تكن بالتاء لأن الفئة مؤنثة، وقرئ بالياء لوجود الفصل.
هُنالِكَ الْوَلايَةُ هُنالِكَ: يجوز أن يكون ظرف زمان وظرف مكان، والأصل فيه أن يكون للمكان، واللام للبعد، ويتعلق بقوله: مُنْتَصِراً وتكون الْوَلايَةُ لِلَّهِ مبتدأ وخبر. والْحَقِّ: بالرفع صفة للولاية، وجعله خبرا أولى من جعله صفة، لما فيه من الفصل بين الصفة والموصوف. وعلى قراءة الجر: صفة لله، فلا فصل فيه. ويجوز أن يتعلق بخبر المبتدأ الذي هو لِلَّهِ. ويجوز جعل هُنالِكَ خبر المبتدأ الذي هو الْوَلايَةُ وعامله: استقر، الذي قام هُنالِكَ مقامه، ولِلَّهِ: حال.
خَيْرٌ ثَواباً خَيْرٌ عُقْباً: نصبهما على التمييز.
248
البلاغة:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ تشبيه تمثيلي لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غَوْراً: مبالغة بإطلاق المصدر على اسم الفاعل، أي غائرا.
يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها كناية عن التحسر والندم لأن النادم يضرب بيمينه على شماله.
المفردات اللغوية:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا اجعل للكفار مع المؤمنين مثلا. رَجُلَيْنِ بدل، وهو وما بعده تفسير للمثل. جَعَلْنا لِأَحَدِهِما للكافر. جَنَّتَيْنِ بستانين، وسميت الجنة بذلك لا جنتان أرضها واستتارها بظل الشجر. أَعْنابٍ كروم العنب. حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ جعلنا النخل محيطة بهما. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ مبتدأ وخبر، وكِلْتَا: مفرد يدل على التثنية.
أُكُلَها ثمرها. وَلَمْ تَظْلِمْ تنقص. وَفَجَّرْنا خِلالَهُما شققنا وسطهما. نَهَراً أو بتسكين العين: مجرى الماء العذب. وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ أنواع من المال سوى الجنتين من ثمر ماله.
فَقالَ لِصاحِبِهِ المؤمن. يُحاوِرُهُ يجادله ويراجعه في الكلام، من حاور: إذا راجع.
وَأَعَزُّ نَفَراً النفر هنا: الخدم والحشم والولد والأعوان.
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أي دخل مع صاحبه بستانه يطوف به فيه، ويريه أثماره ويفاخره.
وأفرد الجنة ولم يقل جنتيه، للتنبيه على أنه ما له جنة غيرها، فلا نصيب له في جنة الخلد في الآخرة التي وعد بها المؤمنون، فما ملكه في الدنيا: هو جنته لا غير، أو لاتصال كل واحدة من جنتيه بالأخرى، أو لأن الدخول يكون عادة في واحدة ثم الأخرى. وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ معجب بما أوتي، مفتخر به، كافر لنعمة ربه، معرّض بذلك نفسه لسخط الله، وهو أفحش الظلم. تَبِيدَ تنعدم أو تفنى وتهلك.
وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي بالبعث في الآخرة كما زعمت. خَيْراً مِنْها من جنته.
مُنْقَلَباً مرجعا وعاقبة لأنها فانية وتلك باقية. وإنما أقسم هذا الخاسر على ذلك لاعتقاده أنه تعالى إنما أولاه هذه النعم، لاستحقاقه إياها لذاته. وَهُوَ يُحاوِرُهُ يجاوبه، خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي خلق أصلك من تراب، وهو آدم عليه السلام. نُطْفَةٍ مني. سَوَّاكَ رَجُلًا عدلك وصيّرك إنسانا كامل الرجولة. وجعل كفره بالبعث كفرا بالله تعالى لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله تعالى، ولذلك رتب الإنكار على خلقه إياه من التراب، فإن من قدر على بدء خلقه منه، قدر على أن يعيده منه.
249
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي هُوَ: ضمير الشأن، تفسره الجملة بعده، والمعنى: أنا أقول: الله ربي. وَلَوْلا هلا. قُلْتَ عند إعجابك بها، أو عند دخولك. ما شاءَ اللَّهُ.. الأمر ما شاء الله، أو ما شاء الله كائن، على أن ما موصولة، أو أي شيء شاء الله كان، على أنها شرطيه، يعني إقرارا بأن الجنة وما فيها بمشيئة الله، إن شاء أبقاها، وإن شاء أبادها. لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فهلا قلت: لا قوة إلا بالله، اعترافا بالعجز على نفسك والقدرة لله، وإن ما تيسر من عمارتها، فبمعونته وإقداره.
جاء في الحديث الذي رواه ابن السني عن أنس، وهو ضعيف. «من رأى شيئا فأعجبه، فقال: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، لم تضره العين».
وفي رواية أخرى: «من أعطي خيرا من أهل أو مال، فيقول عند ذلك: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، لم ير فيه مكروها».
إِنْ تَرَنِ أَنَا ضمير فصل بين المفعولين أو تأكيد للمفعول الأول. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ أي في الدنيا أو في الآخرة لإيماني، وهو جواب الشرط. وَيُرْسِلَ عَلَيْها على جنتك لكفرك. حُسْباناً مِنَ السَّماءِ جمع حسبانة، وهي الصواعق. فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أرضا ملساء لا يثبت عليها قدم. أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غائرا، ويصبح: عطف على يُرْسِلَ لا على: فَتُصْبِحَ لأن غور الماء لا يتسبب عن الصواعق. طَلَباً للماء، أي عملا أو حيلة لرده.
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أهلكت أمواله، بما فيها جنته، حسبما توقع صاحبه وأنذره منه.
فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ هذا كناية في اللغة عن التحسر والندم. عَلى ما أَنْفَقَ فِيها في عمارة جنته. وَهِيَ خاوِيَةٌ ساقطة. عَلى عُرُوشِها دعائمها التي كانت منصوبة للكرم، بأن سقطت عروشها على الأرض، ثم سقطت الكروم. يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً يا:
للتنبيه، وكأنه تذكر موعظة أخيه.
فِئَةٌ جماعة. يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ عند هلاكها، بدفع الإهلاك فإن الله هو القادر على نصره وحده. وَما كانَ مُنْتَصِراً بنفسه عند هلاكها، ممتنعا بقوته عن انتقام الله منه. هُنالِكَ في ذلك المقام أو تلك الحال أو يوم القيامة. الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ بفتح الواو:
النصرة له وحده لا يقدر عليها غيره، وبكسر الواو: الملك والسلطان. هُوَ خَيْرٌ ثَواباً من ثواب غيره لو كان يثيب. وَخَيْرٌ عُقْباً عاقبة للمؤمنين.
سبب النزول:
قيل: نزلت في أخوين من بني مخزوم: الأسود بن عبد الأسود بن عبد ياليل، وكان كافرا، وأبي سلمة عبد الله بن الأسود، كان مؤمنا، وهو زوج أم سلمة قبل زواج الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بها.
250
وقيل في قول ابن عباس: أخوان من بني إسرائيل، أحدهما كافر، اسمه فرطوس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا أو قطفير، ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطرا، فاشترى الكافر بها ضياعا وعقارا، وصرفها المؤمن في وجوه الخير، وآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى ولم تثبت صحة هذه الأقوال.
وعن مقاتل: هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [٥١]. وهما من بني إسرائيل، كما ذكر ابن عباس.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى نبيه بملازمة مجالس أصحابه الفقراء، وعدم الاستجابة لمطالب المشركين المتجبرين بطرد الضعفاء المؤمنين، حتى لا يتساووا معهم، ولا يؤذوا بمناظرهم وروائحهم، فيمتهن كبرياؤهم وتتدنى عزتهم، أردف ذلك بمثل للغني الكافر، والفقير المؤمن لأن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين، فأبان تعالى أن المال ليس سبيل الافتخار، لاحتمال أن يصير الفقير غنيا، والغني فقيرا، وإنما المفاخرة تكون بطاعة الله وعبادته، وهي حاصلة لفقراء المؤمنين.
التفسير والبيان:
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين وأمثالهم المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين، وافتخروا بأموالهم وأحسابهم.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ... المعنى: اضرب مثلا أيها الرسول لهؤلاء المشركين بالله الذين طلبوا منك طرد المؤمنين الدعاة المخلصين لله صباح مساء وفي كل وقت. ذلك المثل هو حال رجلين، جعل الله لأحدهما جنتين، أي بستانين من أعناب، محاطين بنخيل، وفي وسطهما الزروع، وكل من الأشجار والزروع
251
مثمر مقبل في غاية الجودة، فجمع بين القوت والفاكهة. فقوله: وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي وجعلنا النخل محيطا بالجنتين.
والرجلان أخوان أو صديقان أو شريكان من بني إسرائيل، أحدهما: كافر مغتر بدنياه، والثاني: مؤمن موحد بالله.
والقصد من هذا المثل العظة والعبرة، فقد آل حال الكافر المغرور إلى الدمار والإفلاس، لكفران النعم وعصيان الله، وظل المؤمن الفقير على طاعة الله، بالرغم من معاناته الشدائد والمتاعب، فآتاه الله الخلود في الجنة.
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها أي أخرجت الجنتان ثمرهما.
وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ولم تنقص منه شيئا في كل عام.
وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أي وشققنا وأجرينا وسط الجنتين نهرا، تتفرع عنه عدة جداول، لسقي جميع الجوانب.
وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ أي وكان لصاحب البستانين أنواع أخرى من المال من النقدين (الذهب والفضة) بسبب التجارة وتنمية ثمار الأرض.
وأدى به هذا الغنى إلى الزهو والكبرياء والاغترار بالمال، شأن كل غني مغرور. فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً أي فقال صاحب هاتين الجنتين لصاحبه المؤمن الفقير، وهو يجادله ويخاصمه ويحاوره الحديث، ويفتخر عليه: أنا أكثر منك ثروة، وأعز نفرا، أي أكثر خدما وحشما وولدا، وأقوى عشيرة ورهطا يدافعون عني.
وازداد به الغرور ظنه استمرار تلك الثروة وعدم فنائها لقلة عقله وضعف يقينه بالله، وهذا ما حكاه القرآن عنه:
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ واذكروا يا أهل الكهف ذلك الخطاب الذي صدر من بعضكم لبعض حينما صممتم على الفرار بدينكم فاعتزلتم
252
الجناحين مع صاحبه المؤمن الفقير الصالح، فقال اغترارا منه، وهو ظالم لنفسه بكفره وتمرده وتجبره وإنكاره المعاد حين عاين الثمار والزروع والأنهار المتدفقة في مزرعته: ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا، وما أظن أن يوم القيامة آت، كما تقول يا صاحبي، فقوله: السَّاعَةَ قائِمَةً، أي القيامة كائنة. وكان في الحالين مخطئا ظالما لنفسه بوضعه الشيء في غير محله إذ كان يجب عليه شكر تلك النعمة، وتفكره في عالم الآخرة، وذلك لطول أمله، وشدة حرصه، وتمام غفلته، وشدة اغتراره بالدنيا.
ثم أقسم على فرض لقاء ربه بقوله:
وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً أي إن رجعت إلى ربي، على سبيل الفرض والتقدير، وكما يزعم صاحبي، لألفين في الآخرة عند ربي خيرا وأحسن من هذا الحظ في الدنيا، تمنيا على الله، وادعاء لكرامتي عنده ومكانتي لديه، وأنه لولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، ولولا استحقاقي واستئهالي ما أغناني في الدنيا، كما جاء في آية أخرى على لسان الكافر: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت ٤١/ ٥٠].
فأجابه المؤمن بقوله: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أي أجابه صاحبه المؤمن واعظا له، وزاجرا عما هو فيه من الكفر والاغترار: أكفرت بمن خلقك من تراب؟ أي خلق أصلك من تراب، وخلق أصله سبب في خلقه، فكان خلقه خلقا له، وكذلك غذاؤك وغذاء الحيوان من النبات، وغذاء النبات من الماء والتراب، ثم يتحول هذا الغذاء دما، يتحول بعضه إلى نطفة تكون وسيلة للخلق، ثم خلقك بشرا سويا تام الخلق والأعضاء، فقوله: سَوَّاكَ معناه عدّلك وكمّلك إنسانا تاما، بالغا مبلغ الرجال.
253
وقد وصفه صاحبه بأنه كافر بالله، جاحد لأنعمه لشكه في البعث.
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً أي لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل أقرّ لله بالوحدانية والربوبية، ولا أشرك به أحدا، بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.
ثم قال له مذكرا بوجوب الإيمان بالله: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ، قُلْتَ: ما شاءَ اللَّهُ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ أي هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها، حمدت الله على ما أنعم به عليك، وأعطاك من المال والولد ما لم يعط غيرك، وقلت: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، أي الأمر ما شاء الله، والكائن ما قدره الله، ليكون ذلك دليلا على عبوديتك والاعتراف بالعجز.
ولهذا قال بعض السلف: من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده، فليقل: ما شاءَ اللَّهُ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، عملا بهذه الآية، وبما روي من
الحديث المرفوع الذي أخرجه الحافظ أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول:
ما شاءَ اللَّهُ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فيرى فيه آفة دون الموت»
.
وثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال له: «ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله».
ثم أجابه عن قضية الافتخار بالمال والولد:
إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً، فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ.. أي إنك إذ تنظر إلي بأني أفقر منك في المال، وأقل منك أولادا وعشيرة في هذه الدنيا الفانية، فإني أتوقع انقلاب الحال في الآخرة، وأرجو أن يعطيني الله خيرا من جنتك في الدار الآخرة، ويرسل على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى عذابا من السماء، كمطر شديد يقلع زرعها وأشجارها
254
أو صواعق، فيسلبك نعمته ويخرّب بستانك، وتصبح أرضا بيضاء لا نبات فيها، وترابا أملس، لا يثبت فيه قدم، وينزلق عليها لملاستها انزلاقا. وقوله:
فَعَسى رَبِّي أي فلعل ربي.
أو يصبح ماؤها غائرا في الأرض، فلن تتمكن من إدراكه بعد غوره، ولن تستطيع ردّ الماء الغائر بأية حيلة.
وتحقق ما توقعه المؤمن فقال:
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها... أي ونزل الإهلاك والجائحة بالأموال والثمار بإرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها، وألهته عن الله عز وجل، ودمرت أمواله وثماره، فأصبح نادما متحسرا على ضياع نفقته التي أنفقها عليها، فتقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر، وتمنى متذكرا موعظة صاحبه أن لم يكن أشرك بربه أحدا، والخاوية على عروشها: هي التي سقطت عرائشها على الأرض، قيل: أرسل الله عليها نارا فأكلتها، وسقط بعضها على بعض.
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَما كانَ مُنْتَصِراً أي ولم تنصره وتفيده عشيرة أو ولد، كما افتخر بهم واعتز، وما كان منتصرا أي ممتنعا بقوته عن انتقام الله تعالى.
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هذا تأكيد للجملة السابقة، أي أنه في هذه الحال من الشدة والمحنة تكون النصرة لله وحده، ويؤمن فيها البرّ والفاجر، ويرجع كل أحد مؤمن أو كافر إلى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب. والولاية: السلطان والملك والنصرة والحكم.
هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أي أن الله خير جزاء، وأفضل عاقبة لأوليائه المؤمنين، فينصرهم ويعوضهم عما فقدوه في دار الدنيا، ويكون ثواب الأعمال التي
255
تكون لله خيرا، وعاقبتها حميدة رشيدة، كلها خير لأن الله هو خير ثوابا لمن آمن به، وخير عاقبة لمن رجاه وآمن به.
ونظير الآية: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر ٤٠/ ٨٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
في هذه القصة عبر وعظات وهي:
١- هذا مثل واضح للمؤمنين والكافرين، مثل رجل مؤمن موحد بالله، فقير صالح آثر الآخرة على الدنيا، فآتاه الله الجنة وثوابه العظيم، ومثل رجل كافر مغتر بدنياه مستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهما- كما ذكر الكلبي- أخوان مخزوميان من أهل مكة، أو أخوان من بني إسرائيل، أحدهما مؤمن والآخر كافر، كما ذكر ابن عباس ومقاتل، كان للكافر بستانان فيهما الأشجار والزروع والثمار والأنهار، وأموال أخرى، فكفر بأنعم الله، وتفاخر على صاحبه بالمال والأولاد، وشك في البعث، فدمّر الله ثروته، وأتلف البستانين بحسبان من السماء، وهو السحابة ذات المطر الغزير جدا، أو الصاعقة، أو العذاب، فندم وتحسر على ما أنفق، وقال: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً أي يا ليتني عرفت نعم الله علي، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به، وهذا ندم منه حيث لا ينفعه الندم.
٢- لا يمنع فضل الله عن الكافر، فقد آتى الله صاحب الجنتين ثروة ومالا وولدا وأتباعا.
٣- شأن الغني دائما إلا من رحم الله المفاخرة بأمواله والاغترار بالدنيا، والترفع على الآخرين بالثروة، مع أنها مال زائل، وعرض متحول، فيمكن أن ينقلب صفر اليدين بين عشية وضحاها.
256
٤- على المؤمن ألا يستكين أمام عزة الغني الكافر، وعليه نصحه وإرشاده إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، وشكر نعمه وأفضاله عليه.
٥- قد يكون الاغترار بالمال سببا لإنكار البعث والقيامة والحشر والنشر لأن الغني الظالم يرى في المادة كل شيء، وقد يستبد به الغرور لغفلة منه وضعف عقل، فيزعم أن عطاء الدنيا له لاستحقاقه واستئهاله، ويقول: إن كان بعث، فكما أعطاني الله هذه النعم في الدنيا، فسيعطيني أفضل منه في الآخرة، لكرامتي عليه.
٦- قال الإمام مالك: ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول: ما شاءَ اللَّهُ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وهذه الكلمة كما
روى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كنز من كنوز الجنة، وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا قالها العبد، قال الله عز وجل: أسلم عبدي واستسلم».
وقد وردت هذه الكلمة في القصة في وصية المؤمن للكافر وردّه عليه، حينما ظن عدم فناء جنته، وتفاخر بثروته على صاحبه.
٧- إذا نزل البلاء فلا تستطيع فئة في الدنيا منعه أو رفعه، أو الالتجاء إليها لإزالته، ولن يكون المبتلى الخاسر منتصرا أي ممتنعا عن إصابة العذاب له، فلا ينصر ولا ينتصر، لمّا أصابه العذاب.
٨- إن الولاية، أي السلطان والقدرة، والملك والحكم الحق لله عز وجل، فلا يردّ أمره إلى أحد، والملك في كل وقت لله: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار ٨٢/ ١٩].
257
مثل الحياة الدنيا
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦)
الإعراب:
مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ مَثَلَ: مفعول أول، وكَماءٍ: مفعول ثان، وقيل:
كَماءٍ: خبر مبتدأ محذوف، أي هي كماء، أي الحياة الدنيا كماء.
ثَواباً وأَمَلًا منصوبان على التمييز.
المفردات اللغوية:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا اذكر لهم ما تشبهه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها وصفتها الغريبة. فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ امتزج الماء بسبب نزول المطر بالنبات، حتى روي وحسن. فَأَصْبَحَ هَشِيماً فصار النبات يابسا مهشوما متفرقة أجزاؤه. تَذْرُوهُ الرِّياحُ تفرّقه وتنثره وتطيره وتذهب به. المعنى: شبّه الدنيا بنبات حسن، فيبس فتكسر، ففرقته الرياح.
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أي كان الله على كل شيء من الإنشاء والإفناء قادرا: كامل القدرة.
زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا يتجمل بهما فيها. وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، زاد بعضهم «ولا حول ولا قوة إلا بالله» أو هي الأعمال الصالحة كلها، ومنها الصلوات الخمس وأعمال الحج، وصيام رمضان، وسبحان الله.. إلخ، والكلام الطيب.
خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أي جزاء وعائدا. وَخَيْرٌ أَمَلًا أي ما يأمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى لأن صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يأمل بها في الدنيا.
258
المناسبة:
هذا مثل آخر يدل على حقارة الدنيا وقلة بقائها، والكلام متصل بما تقدم من قصة المشركين المتكبرين على فقراء المؤمنين، فلما بيّن الله تعالى في المثل الأول حال الكافر والمؤمن وما آل إليه افتخار الكافر من الهلاك، بيّن في هذا المثل حال الحياة الدنيا واضمحلالها ومصير ما فيها من النعيم والترفه إلى الهلاك.
ولما بيّن تعالى أن الدنيا سريعة الانقراض والزوال، بيّن أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا في عرف الناس، وكل ما كان من زينة الدنيا فهو سريع الانقضاء والانقراض، فيقبح بالعاقل الافتخار به أو الفرح بسببه، مما يدل على فساد قول المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد.
ثم ذكر الله تعالى ما يرجح أولئك المؤمنين الفقراء على أولئك الأغنياء الكفار بما يقدمونه من أعمال صالحة، فهي زاد الآخرة الدائم الباقي، والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي.
وقد ورد في السنة ما يفسر الباقيات الصالحات، روى الترمذي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر».
وروى سعيد بن منصور وأحمد وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، ولا حول ولا قوة إلا بالله».
وروى الطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
259
«سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول وإلا قوة إلا بالله، هن الباقيات الصالحات، وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها، وهن من كنوز الجنة».
وروى النسائي والطبراني والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا: «خذوا جنتكم، قيل: يا رسول الله، من أي عدو قد حضر، قال: بل جنّتكم من النار: قول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدّمات معقّبات ومجنّبات، وهن الباقيات الصالحات».
التفسير والبيان:
اضرب مثلا آخر يا محمد للناس من مشركي مكة وغيرهم الذين افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين، مثلا يبين حقارة الدنيا وقلة بقائها، وزوالها وفناءها، فهي بعد الخضرة والنضارة والبهجة تصبح بمراد الله عابسة قاتمة لا جمال فيها ولا روعة، إنها في نضرتها ثم صيرورتها إلى الزوال تشبه حال نبات أخضر فيه زهر ونضرة وحبّ، نبت وتكوّن بماء السماء، ثم بعد هذا كله أصبح هشيما، أي يابسا، تذروه الرياح، أي تفرقه وتنثره ذات اليمين وذات الشمال.
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أي والله قادر على الإنشاء والإفناء، وعلى كل الأحوال، حال الخضرة والنضرة، وحال اليبس والهلاك والفناء، فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بإقبال الدنيا أو يفخر بها أو يتكبر بسببها.
وكثيرا ما يشبّه الله الحياة الدنيا بهذا المثل، كما قال تعالى في سورة يونس:
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ [٢٤] وفي سورة الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ [٢٠].
260
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي إن الأموال والبنين هي من زينة الحياة الدنيا، وليست من زينة الآخرة الدائمة، فهي سريعة الفناء والانقراض، فلا ينبغي للعاقل الاغترار بها والتفاخر بها. والمقصود إدخال هذا الجزء تحت ذلك الكل في المثل السابق الذي أبان سرعة انقضاء الدنيا وإشرافها على الزوال والفناء. والسبب في ذكر المال والبنين فقط لأن في المال جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا، فصارا زينة الحياة الدنيا.
وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه لأنه أهم وأخطر، وأكثر تحقيقا للحاجة والرغبة والهوى، فقد يكون البنون دون المال، ويكون البؤس والشقاء.
ونظير الآية: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ، وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.. الآية [آل عمران ٣/ ١٤].
قال الإمام علي كرم الله وجهه: المال والبنون حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام.
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أي إن أعمال الخير وأفعال الطاعات، كالصلوات والصدقات، والجهاد في سبيل الله، ومساعدة الفقراء، والأذكار أفضل ثوابا، وأعظم قربة عند الله، وأبقى أثرا إذ ثوابها عائد على صاحبها، وخير أملا حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله في الدنيا.
وقال ابن عباس: الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وكذلك قال عثمان بن عفان: هي لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
261
فقه الحياة أو الأحكام:
ينبغي أن يعرف الناس ولا سيما المتكبرون الذين طلبوا طرد فقراء المؤمنين مثل الحياة الدنيا، أي شبهها، فهي في عدم استقرارها وعدم استمرارها على حال واحدة كالماء لا يستقر في موضع، ولا يستقيم على حالة واحدة، وهي مثله أيضا في أنها تفنى، وهو يذهب ولا يبقى، وهي كذلك لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، كما أن من دخل الماء لا بد أن يبتلّ منه، والكفاف من الدنيا ينفع وفضولها يضر، كما أن الماء إذا جاوز المقدار كان ضارّا مهلكا.
ورد في صحيح مسلم عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافا، وقنّعه الله بما آتاه».
والخلاصة: أن هذا المثل يدل على سرعة زوال الدنيا وفنائها.
والله وحده هو الباقي المقتدر على كل شيء من الإنشاء والإفناء والإحياء.
وكذلك زينة الحياة الدنيا من المال والبنين سريعة الانقضاء والانقراض، والباقيات الصالحات مما يأتي به فقراء المسلمين كسلمان وصهيب من الطاعات أفضل ثوابا عند الله، وأفضل أملا من ذي المال والبنين دون عمل صالح، وليس في زينة الدنيا خير، ولكنه مثل قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان ٢٥/ ٢٤].
واختلف العلماء في الباقيات الصالحات: فقال ابن عباس وآخرون: هي الصلوات الخمس، وروي عنه كما بينا أنها: «سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» وقال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وذلك مأخوذ من حديث رواه النسائي عن أبي سعيد الخدري.
وعن ابن عباس أيضا: أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة، ورجّحه الطبري، وقال القرطبي: وهو الصحيح إن شاء الله لأن كل ما بقي ثوابه، جاز أن يقال له هذا.
262
تسيير الجبال والحشر وعرض صحائف الأعمال يوم القيامة
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)
الإعراب:
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ يَوْمَ: منصوب بفعل مقدر، تقديره: اذكر يوم.
عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
فًّا
: حال منصوب من واورِضُوا
وهو عامله، وتقديره: عرضوا مصطفين.
وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
فًّا
: حال منصوب من واورِضُوا
وهو عامله، وتقديره: عرضوا مصطفين. أَلَّنْ نَجْعَلَ أن: مخففة من الثقيلة، أي أنه.
المفردات اللغوية:
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ واذكر يوم نقلع الجبال ونذهب بها عن وجه الأرض، فنجعلها هباء منبثا. بارِزَةً ظاهرة، ليس عليها شيء من جبل ولا غيره. وَحَشَرْناهُمْ جمعنا المؤمنين والكافرين إلى الموقف، والحشر: الجمع لأجل الحساب، والبعث: إحياؤهم من القبور للحشر.
ومجيء هذا الفعل ماضيا بعد المضارع نُسَيِّرُ لتحقيق الحشر، أو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير ليعاينوا ويشاهدوا ما وعدوا، وعلى هذا تكون الواو للحال بإضمار: قد فَلَمْ نُغادِرْ نترك، يقال: غادره وأغدره: إذا تركه، ومنه الغدر: وهو ترك الوفاء، والغدير: ما غادره السيل.
263
عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ
تشبيه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان، لا ليعرفهم، بل ليأمر فيهم. فًّا
مصطفين، كل أمة صف، لا يحجب أحد أحدا. قَدْ جِئْتُمُونا
على إضمار القول على وجه يكون حالا، أي قائلا أو عاملا في يَوْمَ نُسَيِّرُ. ما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
أي فرادى حفاة عراة، لا شيء معكم من المال والولد، لقوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الأنعام ٦/ ٩٤].
ْ زَعَمْتُمْ
أي ويقال لمنكري البعث ذلك، ولْ
: للخروج من قصة إلى أخرى.
َّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
وقتا للبعث والنشور، لا نجاوز الوعد.
وَوُضِعَ الْكِتابُ أي جعل كتاب كل إنسان في يده حين الحساب، في يمينه للمؤمنين وفي شماله للكافرين. مُشْفِقِينَ خائفين. وَيَقُولُونَ عند معاينتهم ما فيه من السيئات.
يا وَيْلَتَنا يا: للتنبيه، ووَيْلَتَنا: هلاكنا، وهو مصدر لا فعل له من لفظه، أي يا هلاك أقبل، فهذا أوانك. صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً من ذنوبنا. إِلَّا أَحْصاها عدّها وأثبتها، وهو تعجب منه في ذلك. وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً مثبتا في كتابهم، أو مسطورا في كتاب كل واحد منهم. وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً لا يتجاوز ما حدّه من الثواب والعقاب، فلا يعاقب أحدا بغير جرم، ولا ينقص من ثواب مؤمن.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى خساسة الدنيا وزوالها، وشرف القيامة ودوامها، وأن التفاخر ليس بالأموال، بل بالعمل الصالح، أردفه بأحوال القيامة، وما فيها من أخطار وأهوال، وتغير معالم الأرض والحشر، والعدل المطلق في رصيد أعمال الناس جميعا بكتب وصحائف شاملة، يتبين منها أن أساس النجاة: هو اتباع ما أمر به الدين، وترك ما نهى عنه.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أهوال القيامة وما فيها من الأمور العظام وهي:
١- وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ.. أي واذكر يا محمد حين نذهب بالجبال من أماكنها، ونزيلها، ونبددها كالسحاب هباء منثورا، كما قال تعالى:
264
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ، فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه ٢٠/ ١٠٥] وقال:
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة ٥٦/ ٥- ٦] وقال: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ. [المعارج ٧٠/ ٨- ٩] أي كالصوف المندوف المنفوش.
وهذا يدل على تبدل الحال، وتغير الوضع الذي كان في الدنيا، وإزاحة الجبال من مواضعها، وجعلها هباء منتشرا كالسحاب.
٢- وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً أي وتنظر أيها الإنسان جميع الأرض ظاهرة بادية، ليس فيها معلم لأحد، ولا مكان يواري أحدا، بل الخلق كلهم في صعيد واحد، صافون أمام ربهم، لا تخفى عليه خافية. وهذا معنى قوله تعالى في آية نسف الجبال السابقة: فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه ٢٠/ ١٠٦- ١٠٧] أي تصبح الأرض سطحا مستويا، لا ارتفاع فيها ولا انخفاض، ولا جبل ولا وادي.
هذان الأمران تسيير الجبال وتسوية الأرض متعلقان بشأن الدنيا.
٣- وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً أي وجمعنا الأولين والآخرين للحساب وجمعناكم إلى الموقف، فلم نترك منهم أحدا، لا صغيرا ولا كبيرا، كما قال تعالى: قُلْ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة ٥٦/ ٤٩- ٥٠] وقال: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود ١١/ ١٠٣].
أخرج الإمام مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا «١»، فقلت:
يا رسول الله، الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: الأمر أشدّ من أن ينظر بعضهم إلى بعض».
(١) غرلا، أي غير مختونين، والغرلة: القلفة.
265
وفي رواية للنسائي: «لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه»
وهذا الأمر يدل على إثبات الحشر.
٤- عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا، لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
أي ويعرض البشر قاطبة أمام الله صفا واحدا، كما قال سبحانه: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر ٨٩/ ٢٢].
لقد أتيتم إلينا أيها الناس جميعا أحياء، كهيئتكم حين خلقناكم أول مرة في الدنيا، حفاة عراة، لا شيء معكم، كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى، كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام ٦/ ٩٤].
وهذا تقريع لمنكري المعاد، وتوبيخ لهم أمام الناس، وهو إثبات لمبدأ العرض للحساب على الله تعالى، ولهذا قال تعالى مخاطبا لهم:
ْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
أي بل ظننتم أنه لا لقاء لكم مع الله، وما كان ظنكم أن هذا واقع بكم، ولا أنه كائن.
٥- وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ أي ووضع كتاب الأعمال: أعمال الناس من خير أو شر، صغير أو كبير، فترى العصاة المجرمين خائفين مما فيه من أعمالهم السيئة، وأفعالهم القبيحة. والمراد بالكتاب: الجنس، وهو صحف الأعمال.
وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا، مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها أي ويقول أولئك المجرمون: يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمالنا، وما لهذا الكتاب لا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا، ولا شاردة ولا واردة إلا أحصاها، أي ضبطها وحفظها، فهو شامل لكل شيء، كما قال تعالى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
266
عَتِيدٌ
[ق ٥٠/ ١٧- ١٨]. وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ، كِراماً كاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار ٨٢/ ١٠- ١٢].
والآية تدل على إثبات صغائر وكبائر في الذنوب، وهذا متفق عليه بين المسلمين.
وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً أي ووجد الناس ما عملوا مثبتا في كتابهم، من خير أو شر، وقيل: جزاء ما عملوا، كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ [آل عمران ٣/ ٣٠] وقال سبحانه: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة ٧٥/ ١٣].
وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ليس في حكم الله أي ظلم لخلقه إذ مبدأ الثواب والعقاب مما يقتضيه العدل الإلهي المطلق، حتى يكافأ المحسن، ويجازى المسيء، بل إنه تعالى بمقتضى رحمته يعفو ويصفح، ويغفر ويرحم، ويعذب من يشاء من خلقه بقدرته وحكمته وعدله، فيخلّد الكفار في نار جهنم، ويعذب العصاة فيها، ثم ينجّيهم منها، وحكمه في كل حال العدل، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم، فلا يكتب على إنسان ما لم يعمل، ولا يزيد في عقاب المستحق، أو يعذبه بغير جرم.
ونحو الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النساء ٤/ ٤٠]، وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها، وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء ٢١/ ٤٧].
وهذه الآية تبين خاتمة مراحل الحساب بين يدي الله، القائم على مبدأ: أن الجزاء من جنس العمل، وأن صحائف أعمال الناس تشمل الحسنات والسيئات.
267
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات تبين بداية القيامة ونهاية الحساب، فتبدأ في بيان تغيير معالم الدنيا من تسيير الجبال، أي إزالتها من أماكنها على وجه الأرض، وتسييرها كما يسيّر السحاب، كما جاء في آية أخرى: وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل ٢٧/ ٨٨] ثم تكسر فتعود إلى الأرض، كما قال تعالى: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا وتصبح الأرض بارزة ظاهرة، ليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان لاجتثاث ثمارها، وقلع جبالها، وهدم بنيانها.
ثم تأتي مرحلة الحشر أي الجمع إلى الموقف، فلا يترك أحد ويجمع جميع المخلوقات في صعيد واحد، للحساب أمام الربّ تبارك وتعالى.
إنهم يعرضون صفا بعد صف، كالصفوف في الصلاة، كل أمة وزمرة صفّ، لا أنهم صف واحد.
أخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة وبصوت رفيع غير فظيع: يا عبادي، أنا الله، لا إله إلا أنا، أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين.
يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم، ولا أنتم تحزنون، أحضروا حجتكم، ويسّروا جوابا، فإنكم مسئولون محاسبون.
يا ملائكتي، أقيموا عبادي صفوفا، على أطراف أنامل أقدامهم للحساب»
.
ويأتي الخلائق من قبورهم لموقف الحساب حفاة عراة، لا مال معهم ولا ولد، كما جاؤوا من بطون أمهاتهم أثناء ولادتهم في الدنيا. وتعرض كتب أعمال العباد وصحائفهم، بما فيها من صغائر وكبائر، قال الأسدي: الصغيرة: ما دون الشرك، والكبيرة: الشرك.
268
قال عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار: ويحك يا كعب! حدّثنا من حديث الآخرة قال: نعم يا أمير المؤمنين! إذا كان يوم القيامة، رفع اللوح المحفوظ، فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله، ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال الناس، فتنثر حول العرش، وذلك قوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ.. الآية.
ثم يدعى المؤمن، فيعطى كتابه بيمينه، فينظر فيه، فإذا حسناته باديات للناس، وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول: كانت لي حسنات، فلم تذكر، فأحب الله أن يريه عمله كلّه، حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخره ذلك كله أنه مغفور، وأنك من أهل الجنة فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول:
هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة ٦٩/ ١٩- ٢٠].
ثم يدعى بالكافر، فيعطى كتابه بشماله، ثم يلف، فيجعل من وراء ظهره، ويلوى عنقه فذلك قوله: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق ٨٤/ ١٠] فينظر في كتابه، فإذا سيئاته باديات للناس، وينظر في حسناته، لكيلا يقول: أفأثاب على السيئات؟! «١».
قصة السجود لآدم عليه السلام
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)
(١) تفسير القرطبي: ١٠/ ٤١٩.
269
الإعراب:
كانَ مِنَ الْجِنِّ حال بإضمار قد، واستئناف للتعليل كأنه قيل: ما له لم يسجد؟ فقيل:
كان من الجن.
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا فاعل بِئْسَ: مضمر فيها، وبَدَلًا تمييز مفسّر لذلك المضمر، أي بئس البدل للظالمين ذرّية إبليس. ولِلظَّالِمِينَ فصل بين بِئْسَ وما انتصب به، واستدل به المبرّد على جواز الفصل بين فعل التعجب وما انتصب به في نحو قولهم: ما أحسن اليوم زيدا. والمقصود بالذم: ذرية إبليس، وحذف لدلالة الحال عليه.
البلاغة:
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ؟ الهمزة للإنكار والتعجيب.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ أي اذكر. اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود انحناء، تحية وإكراما له، اعترافا بفضله. وقد تكرر الأمر بالسجود لآدم في مواضع، لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحال، وهنا لما شنع الله تعالى على المفتخرين بأموالهم واستقبح صنيعهم، قرر أن ذلك من سنن إبليس إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ إذا اعتبر الجن نوعا من الملائكة فالاستثناء متصل، وإلا فهو استثناء منقطع، وإبليس: أبو الجن، فله ذرية، والملائكة لا ذرية لهم. فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ خرج عن طاعة ربه أو عما أمره به ربه، بترك السجود. أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ الخطاب لآدم وذريته، والهاء في الموضعين لإبليس، والذرية: الأولاد أو الأتباع، وسماهم ذرية مجازا. أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي تطيعونهم. عَدُوٌّ أعداء، والعدو: يطلق على الواحد والجمع. بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا إبليس وذريته في إطاعتهم، بدل إطاعة الله.
ما أَشْهَدْتُهُمْ أي إبليس وذريته. وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي لم أحضر بعضهم خلق بعض.
270
وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ الشياطين. عَضُداً أعوانا، والعضد في الأصل: ما بين المرفق إلى الكتف، ويستعمل بمعنى المعين، كاليد ونحوها، وهو المراد هنا. أي لم أستعن بالشياطين في الخلق، فكيف تطيعونهم؟ وهو رد لاتخاذهم أولياء من دون الله، شركاء له في العبادة، فإن استحقاق العبادة من توابع الخالقية. ووضع الْمُضِلِّينَ موضع الضمير ذمّا لهم، واستبعادا للاعتضاد بهم.
وَيَوْمَ يَقُولُ اذكر. نادُوا شُرَكائِيَ الأوثان وغيرها. الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنهم شركائي أو شفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي. وإضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ. فَدَعَوْهُمْ فنادوهم للاستغاثة. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ فلم يغيثوهم أو لم يجيبوهم. وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ بين الأوثان وعابديها، أو بين الكفار وآلهتهم. مَوْبِقاً مهلكا يشتركون فيه، وهو النار، أو واد من أودية جهنم، يهلكون فيه جميعا، أو حاجزا بينهم. فَظَنُّوا فأيقنوا. أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي واقعون فيها، وداخلوها. مَصْرِفاً معدلا أو مكانا ينصرفون إليه.
المناسبة:
هناك تشابه بين فعل المشركين سابقا، وافتخارهم بأموالهم وأعوانهم على فقراء المسلمين، وبين فعل إبليس الذي تكبر على آدم لأنه افتخر بأصله ونسبه، وقال: خلقتني من نار، وخلقته من طين، فأنا أشرف منه في الأصل والنسب، فكيف أسجد وأتواضع له؟ والمشركون قالوا: كيف نجلس مع هؤلاء الفقراء، مع أنّا من أنساب شريفة، وهم من أنساب نازلة، ونحن أغنياء وهم فقراء. وهذه هي طريقة إبليس، فذكرت قصته هنا تنبيها على وجود التشابه، والله تعالى حذر من هذه الطريقة ومن الاقتداء بها.
وتكرار قصة إبليس في مواضع من القرآن: إنما هو لما يناسب المقصود، ولما يحقق الفائدة، ففي كل موضع تساق لفائدة مغايرة لما ذكرت في مواضع أخرى.
التفسير والبيان:
هذا تنبيه لبني آدم على عداوة إبليس لهم، ولأبيهم من قبلهم، وتقريع لمن اتبعه منهم، وخالف خالقه ومولاه، فقال:
271
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ.. أي واذكر لهم يا محمد إذ أمرنا جميع الملائكة بالإلهام أن يسجدوا لآدم سجود تحية وإكرام، تكريما للنوع الإنساني، كما ذكر مرارا في آيات كثيرة من القرآن الكريم، منها: في سورة البقرة: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ، وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [٣٤]، ومنها في سورة الحجر: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [٢٨- ٢٩]، ومنها في سورة الكهف: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [٥٠].
وسبب إباء إبليس السجود لآدم: اغتراره بأصله، فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور، وخلق آدم من تراب، كما
ثبت في صحيح مسلم عن عائشة مرفوعا: «خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم»
، وبان من الآية السابقة أن إبليس من الجن، كما بان من آية أخرى أنه خلق من نار، وخلق آدم من طين، كما قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص ٣٨/ ٧٦].
قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط، وإنه لأصل الجن، كما أن آدم عليه السلام أصل البشر.
كانَ مِنَ الْجِنِّ أي أن سبب عصيانه أنه كان من عنصر الجن، فلم يعمل مثل ما عملوا، لذا قال:
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي فخرج عن طاعة الله، فإن الفسق هو الخروج، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من أكمامها أو قشرها، ودل هذا على أن فسقه بسبب كونه من الجن أي الشياطين، وشأن الجن التمرد والعصيان، لخبث ذواتهم. والخلاصة: أن قوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ كلام مستأنف
272
جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين. وقوله: فَفَسَقَ..
الفاء للتسبيب أيضا، جعل كونه من الجن سببا في فسقه لأنه لو كان ملكا لم يفسق عن أمر ربه لأن الملائكة معصومون، على عكس الجن والإنس.
وأما ما ذكر في آية أخرى أنه من الملائكة، فلا يعارض هذه الآية لأنه قد يطلق على الملائكة أنهم جن لاستتارهم عن أعين الناس.
ثم عقب الله تعالى على القصة بقوله:
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟ أي أنه تعالى يعجب ممن يطيع إبليس وجنده في الكفر والمعاصي، ويحذر من اتباعه بعد ما عرف موقفه من أبيهم آدم، ويوبخ ويقرع من اتّبعه وأطاعه، متخذا له ولجنده ونسله نصراء من دون الله، وبدلا عنه، لذا قال:
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي بئس البدل للكافرين الظالمين أنفسهم وهو اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دون الله، وهو المنعم عليهم.
ومما يدل على أن إبليس ليس من الملائكة أنه تعالى أثبت له ذرية ونسلا في هذه الآية، والملائكة ليس لهم ذرية ولا نسل، فوجب ألا يكون إبليس من الملائكة.
ثم سلب الله تعالى الولاية عمن دونه من الشركاء والأبالسة، فقال:
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ الذي ذهب إليه الأكثرون أن المعنى: ما أشهدت الذين اتخذتموهم أولياء من الشركاء خلق السموات والأرض، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، فهم عبيد أمثالكم لا يملكون شيئا، ولا كانوا موجودين عند خلق السموات والأرض. وهؤلاء الشركاء هم الذين وسوس لكم إبليس في شأنهم، حتى اتخذتموهم شركاء لي.
273
ورجح الرازي أن الضمير عائد إلى الكفار الذين قالوا للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن لم تطرد من مجلسك هؤلاء الفقراء، لم نؤمن بك، فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين اقترحوا هذا الاقتراح الفاسد، ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم «١».
وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أي وما كنت متخذ الضالين المضلين أعوانا وأنصارا، والخطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمعنى: وما صح لك الاعتضاد بهم، وما ينبغي لك أن تعتز بهم، فإنهم إذا لم يكونوا عضدا لي في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة؟
ثم يخبر الله تعالى عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الأشهاد تقريعا لهم وتوبيخا، فيقول:
وَيَوْمَ يَقُولُ: نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي واذكر لهم أيها الرسول ما يحدث وقت الاجتماع في يوم الجمع في القيامة، حيث يقول الله للكافرين تأنيبا وتوبيخا: نادوا لنصرتكم من زعمتم أنهم شركائي، لينقذوكم مما أنتم فيه، فدعوهم، فلم يجيبوهم بشيء، ولم ينفعوهم في شيء، كما قال تعالى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام ٦/ ٩٤].
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً أي وجعلنا بين المشركين وآلهتهم المزعومة مكانا سحيقا ومهلكا، أي موضعا للهلاك، وهو نار جهنم أو واد في جهنم، وقال ابن عباس: الموبق: الحاجز، وقال ابن الأعرابي: كل شيء حاجز بين شيئين فهو موبق. والمعنى أن الله تعالى بيّن أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير.
(١) تفسير الرازي: ٢١/ ١٣٨
274
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، فَظَنُّوا- والظن هنا بمعنى العلم واليقين- أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي إذا عاين المشركون النار، تحققوا لا محالة أنهم واقعون فيها، ومخالطوها وداخلون فيها حتما لا محالة، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي معدلا، والمعنى ليس لهم طريق ولا مكان يعدل بهم عنها، ولا بدّ لهم منها لإحاطتها بهم من كل جانب. ذكر ابن جرير عن أبي سعيد، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «إن الكافر ليرى جهنم، فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- كرم الله تعالى أبانا آدم عليه السلام والجنس البشري بأجمعه بأمره الملائكة أن تسجد له في بدء الخليقة سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة وتقديس.
٢- أذعن الملائكة كلهم جميعا لأمر السجود فسجدوا إلا إبليس الذي كان من عنصر الجن أبي السجود وفسق عن أمر ربه وخرج عن طاعة الله تعالى.
٣- تضمن رفض إبليس السجود عداوته للإنسان، لذا وبخ تعالى كل من اتخذ الشيطان وأتباعه أولياء: أعوانا ونصراء لأنهم أعداء، والعدو لا ينصر من عاداه ولا يؤتمن على نصرته. وكذلك تضمن الرفض التكبر على آدم والترفع عليه، لمّا ادعى أن أصله أشرف من أصل آدم، إذ هو من نار، وآدم من طين، فوجب أن يكون هو أشرف من آدم، فكأنه تعالى قال لأولئك الكافرين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بشرف نسبهم وعلو منصبهم: إنكم في هذا القول اقتديتم بإبليس في تكبره على آدم. لكل ما ذكر بئس عبادة الشيطان بدلا عن عبادة الله، أو بئس إبليس بدلا عن عبادة الله تعالى.
275
٤- قوله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ يدل على إثبات ذرية إبليس، وهو دليل على أن لإبليس زوجة لأن الذرية لا تكون إلا من زوجة. وقال قوم: ليس له أولاد ولا ذرية، وذرّيته: أعوانه من الشياطين. قال القشيري أبو نصر: والجملة أن الله تعالى أخبر أن لإبليس أتباعا وذرّية، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم، وهم أعداؤهم، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم، وحدوث الذرية عن إبليس، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح.
والذي ثبت في هذا الموضوع ما
ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن سلمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فبها باض الشيطان وفرّخ»
قال القرطبي: وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه، والله أعلم.
٥- لم يستعن الله تعالى بأحد في خلق السموات والأرض، ولم يكن أحد موجودا عند الخلق، ولم يشهد المشركين وإبليس وذريته الخلق، أي لم يشاورهم في خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم، بل خلقهم على ما أراد، ولا يصلح المخلوقون اتخاذهم أولياء من دون الله تعالى.
وهذا رد على طوائف من المنجّمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم وكل من يخوض في هذه الأشياء.
كذلك لم يتخذ الله تعالى المضلين عضدا، أي لم يتخذ الشياطين والكفار أعوانا لأنه تعالى لا يحتاج إلى عون أحد. وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ.
٦- هناك حاجز بين المؤمنين والكافرين، وبين المشركين وآلهتهم المزعومة من الأوثان وغيرها يوم القيامة، فلا ينتفع الكفار بمن أشركوا، ولا يتمكنون من منع العذاب عنهم، والكل هالكون في جهنم.
276
٧- إذا عاين المشركون النار ظنوا أي تيقنوا أنهم مجتمعون فيها وواقعون فيها، ولا يجدون عنها مصرفا، أي مهربا لإحاطتها بهم من كل جانب.
ورجح الرازي في تفسير الظن: أن هؤلاء الكفار يرون النار من مكان بعيد، فيظنون أنهم مواقعوها في تلك الساعة من غير تأخير ومهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها، كما قال تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان ٢٥/ ١٢]
بيان القرآن ومهمة الرسل وظلم المعرض عن الإيمان وسبب تأخير العذاب لموعد معين
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٤ الى ٥٩]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
277
الإعراب:
جَدَلًا تمييز منقول من اسم كانَ، والمعنى: وكان جدل الإنسان أكثر شيء فيه.
قُبُلًا جمع قبيل، حال، أي ويأتيهم العذاب قبيلا قبيلا. وقيل: معناه مقابلة، وهو معنى قراءة قُبُلًا- بكسر القاف.
وَما أُنْذِرُوا ما: مصدرية بمعنى إنذارهم في موضع نصب عطفا على آياتِي، أي: واتخذوا آياتي وإنذاري إياهم هزوا. وهُزُواً: مفعول ثان لاتخذوا. ويجوز أن تكون ما موصولة وعائد الصلة محذوف.
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ تِلْكَ: مبتدأ، والْقُرى: صفة لتلك، وأَهْلَكْناهُمْ: خبر المبتدأ. لِمَهْلِكِهِمْ وقرئ: مهلك، ومهلك، ومهلك، الأول مصدر أهلك مثل مكرم، والثاني مصدر هلك مثل مضرب، والثالث اسم زمان، أي لوقت مهلكهم.
البلاغة:
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
صَرَّفْنا بينا مع الترداد والتكرار. مِنْ كُلِّ مَثَلٍ صفة لمحذوف، أي مثلا من جنس كل مثل، ليتعظوا، والمثل: الصفة الغريبة. الْإِنْسانُ جنس الإنسان، وخاصة الكافر وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا خصومة بالباطل، وشيء هنا مفرد معناه الجمع، أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال. وَما مَنَعَ النَّاسَ أي كفار مكة ونحوهم. أَنْ يُؤْمِنُوا مفعول ثان لمنع. إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى القرآن. سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ فاعل تأتيهم، أي سنتنا فيهم، وهي الإهلاك المقدر عليهم، وهو عذاب الاستئصال، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قُبُلًا جمع قبيل، أي أنواعا وألوانا، وقرئ قبلا أي مقابلة وعيانا، كالقتل يوم بدر.
إِلَّا مُبَشِّرِينَ للمؤمنين. وَمُنْذِرِينَ مخوفين للكافرين. وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ بقولهم: أبعث الله بشرا رسولا ونحوه من اقتراح الآيات. لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ليبطلوه ويزيلوه، مأخوذ من إدحاض القدم أي إزلاقها وإزالتها عن مكانها، ويقال: دحضت حجته: بطلت وَاتَّخَذُوا آياتِي يعني القرآن. وَما أُنْذِرُوا أي وإنذارهم أو والذي أنذروا به من العقاب. هُزُواً استهزاء وسخرية، وأصله: هزؤا.
فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتدبرها ولم يتذكر بها. وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ما عمل من الكفر
278
والمعاصي ولم يتفكر في عاقبتها. أَكِنَّةً أغطية، جمع كنان، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم. أَنْ يَفْقَهُوهُ أن يفهموه، أي كراهة أن يفقهوه، أو من أن يفهموا القرآن، أي فلا يفهمونه. وتذكير الضمير وإفراده مراعاة للمعنى. وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي ثقلا في السمع، يمنعهم أن يستمعوه حق استماعه، أو فلا يسمعونه. فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي بالجعل المذكور صار ميئوسا من اهتدائهم لأنهم لا يفقهون ولا يسمعون، ولشدة تصميمهم، وإِذاً:
جزاء وجواب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه، وأَبَداً مدة التكليف كلها.
لَوْ يُؤاخِذُهُمْ في الدنيا. لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ فيها. مَوْعِدٌ هو يوم القيامة.
مَوْئِلًا ملجأ ومنجى. وَتِلْكَ الْقُرى أي أهلها وهي قرى عاد وثمود وقوم لوط ونحوهم.
لَمَّا ظَلَمُوا كفروا كقريش بالتكذيب والمراء وأنواع المعاصي. لِمَهْلِكِهِمْ هلاكهم، ومن قرأ بضم الميم وفتح اللام فمعناه لإهلاكهم. مَوْعِداً وقتا معلوما، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فليعتبروا بهم، ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى الجواب على شبهات الكفار المبطلين الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم، أردف ذلك ببيان كثرة الأمثال في القرآن لمن تدبر فيها، ومع تلك الأمثلة الواقعية والإجابات الشافية، هؤلاء الكفار لا يتركون المجادلة الباطلة لأن الإنسان أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال، ثم هددهم تعالى على عدم الإيمان متسائلا: هل هناك مانع يمنعهم من الإيمان إلا نزول عذاب الاستئصال، أو مجيئه عيانا؟ وأبان أن مهمة الرسل هي الجدال في الدين من طريق تبشير المؤمنين بالجنان وإنذار العصاة بالنار، وأوضح أن أشد الناس ظلما هو المعرض عن هداية القرآن، ولله الفضل العظيم في تأخير العقاب عن الناس، وتخصيصه بموعد، لا يتجاوزه، لعلهم يثوبون إلى رشدهم.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ صَرَّفْنا.. أي ولقد بينا للناس في هذا القرآن، ووضحنا لهم كل
279
ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم، كي يعرفوا طريق الحق والهدى، ولا يضلوا عنه. وتصريف الأمثال يقتضي التكرار لمختلف وجوه البيان.
وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي ومع هذا البيان الشافي والتوضيح الكافي، فإن الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل، إلا من هدى الله وبصره لطريق النجاة.
وهذا دليل على كثرة الجدال في الإنسان وحبه له، لسعة حيلته، وقوة ذكائه، واختلاف نزعاته وأهوائه.
وبالرغم من بيان القرآن، وكثرة ما يشاهده الكفار من الآيات والدلالات الواضحات، فإنهم قوم متمردون منذ القديم، فقال تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا.. أي وما منع المشركين من أهل مكة من الإيمان بالله، حين شاهدوا البينات والأدلة الواضحة على وجود الله وتوحيده، واستغفار ربهم والتوبة إليه من ذنوبهم إلا طلبهم أحد أمرين:
إما أن تأتيهم سنة الأولين القدماء من إحاطة العذاب بهم وإبادتهم وهو عذاب الاستئصال، كما قال جماعة لنبيهم: ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [العنكبوت ٢٩/ ٢٩] وقالت قريش: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢].
وإما أن يروا العذاب عيانا مواجهة ومقابلة.
والمعنى أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نزول عذاب الاستئصال فيهلكوا، أو أن يتواصل أنواع العذاب والبلاء حال بقائهم في الحياة الدنيا «١».
(١) تفسير الرازي: ٢١/ ١٤١
280
وقال في الكشاف: وما منع الناس الإيمان والاستغفار إلا انتظار أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإهلاك، أو انتظار أن يأتيهم عذاب الآخرة قبلا أي عيانا «١».
ومجيء العذاب بيد الله لا من قبل الرسول، لذا قال تعالى:
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي إن مهمة الرسل إما تبشير من آمن بهم بالثواب على الطاعة، وإما إنذار من كذبهم وخالفهم بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعا.
ومع هذه الأحوال يوجد الجدال بالباطل من الكفار لدحض الحق، فقال تعالى مخبرا عنهم:
وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي ويجادل الكفار جدالا بالباطل لا بالحق، ليضعفوا بجدالهم الحق، الذي جاءتهم به الرسل، وليس ذلك بحاصل لهم، فهم يقترحون الآيات بعد ظهور المعجزات، ويقولون للرسل: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون ٢٣/ ٢٤].
وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً أي اتخذوا آيات الله وهي القرآن والحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل، وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب هزوا أي استهزاء وسخرية، وهو أشد التكذيب، وكل ذلك يدل على استيلاء الجهل والقسوة.
وبعد أن حكى الله تعالى عن الكفار جدالهم بالباطل، وصفهم بعده بالصفات الموجبة للخزي والخذلان، فقال:
(١) الكشاف: ٢/ ٢٦٣
281
الصفة الأولى:
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ، فَأَعْرَضَ عَنْها، وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي لا أحد أظلم ممن أعرض عن آيات الله، ونسي ما قدم من الكفر والمعصية، أو لا ظلم أعظم من كفر من يشاهد الآيات والبينات الدالة على الحق والإيمان، ثم يعرض عنها، ومع إعراضه عن التأمل في الدلائل والبينات يتناسى ما قدمت يده من الأعمال المنكرة والمذاهب الباطلة، وعلى رأسها الكفر بالله، والمراد من النسيان التشاغل والتغافل عن كفره المتقدم.
الصفة الثانية:
إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي وعلة إعراضهم ونسيانهم بسبب جعل أغطية وغشاوة على قلوب هؤلاء، لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان، وجعل صمم معنوي في آذانهم عن الرشاد وسماع الحق وتدبره.
وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي وإن دعوت يا محمد هؤلاء إلى دعوة الحق والهداية والاستقامة، فلن تجد منهم استجابة، ولن يهتدوا بهديك هدي القرآن أبدا مهما قدمت من الدلائل وتأملت الخير منهم.
وذلك كله لفقدهم الاستعداد لقبول الإيمان والرشاد، بما أصروا عليه من الكفر والعصيان، كما جاء في آيات أخرى مثل قوله تعالى: كَلَّا، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين ٨٣/ ١٤] وقوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة ٢/ ٧]. وهذه الآيات هي في قوم علم الله أنهم سيموتون على الكفر من مشركي مكة.
ثم ذكر الله تعالى ما يتصف به من رحمة وحلم وإرجاء للعقاب عن العصاة، وأنه لا يعجل لهم العذاب، تاركا الفرصة لهم ليتوبوا، فقال:
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ أي
282
وربك يا محمد غفور ستّار، ذو رحمة واسعة، لو يؤاخذ الناس فورا بما كسبوا من السيئات واقترفوا من الخطيئات، لعجل لهم العذاب في الدنيا، على وفق أعمالهم. والغفور: البليغ المغفرة، فهي صيغة مبالغة، وذو الرحمة: الموصوف بالرحمة.
ونظير الآية قوله: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا، ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر ٣٥/ ٤٥] وقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ [الرعد ١٣/ ٦].
ثم استشهد تعالى بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلا من غير إمهال، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال:
بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا أي إن الله أراد غير ذلك من تعجيل العذاب، وجعل للعذاب موعدا حدده وهو إما يوم القيامة، وإما في الدنيا وهو يوم بدر وسائر أيام الفتح، لن يجدوا عنه ملجأ ومنجى، وليس له محيد ولا معدل عنه، والخلاصة: أن تأخير العقاب أو العذاب إمهال لا إهمال.
وشاهد آخر: وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا... أي وتلك القرى، أي أهلها من الأمم الغابرة، كعاد وثمود ومدين وقوم لوط، أهلكناهم لما ظلموا بسبب كفرهم وعنادهم، وجعلنا لهلاكهم موعدا لا محيد عنه، ومدة معلومة لا تزيد ولا تنقص، أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم، فقد كذبتم رسولكم، ولستم بأعز علينا منهم. والمهلك: الإهلاك أو وقته، والموعد: وقت أو مصدر. والمراد: إنا عجلنا هلاكهم، ومع ذلك حددنا له وقتا، رجاء أن يتوبوا.
283
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات المبادئ التالية:
١- بيان القرآن من دلائل الربوبية والوحدانية ومن العبر والقرون الخالية بيان ضاف واف محقق لغاية الاهتداء به على أكمل وجه.
٢- الإنسان وبخاصة الكافر كثير الجدال والمجادلة لطمس معالم الحق، والإبقاء على ما ارتضاه لنفسه من اتباع الأهواء، وتقليد الأسلاف والآباء، واحتضان الكفر، والاحتفاظ بالزعامة الدنيوية والمكاسب المادية.
٣- الإنسان قاصر النظر غالبا، فما منع الناس بعد مجيء القرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام عن الإيمان واستغفار ربهم والإنابة إليه إلا معاينة أحد الأمرين: الإتيان بما هو عادة الأولين في عذاب الاستئصال، ومعاينة العذاب، كما طلب المشركون فعلا، وقالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢]. أو مجيء العذاب عيانا مواجهة.
٤- إن مجيء العذاب بيد الله وحده على وفق ما يرى من الحكمة والعدل، وأما الأنبياء المرسلون فمهمتهم التبشير بالجنة لمن آمن، والتخويف بالعذاب لمن كفر، ومع كل هذه الدلائل الهادية إلى الرشاد يجادل الكفار بالباطل لدحض الحق وهو الإيمان بالله وبقرآنه، والإبقاء على مهازل الكفر وأباطيله، واتخاذ القرآن وما أنذروا به من الوعيد هزوا أي لعبا وباطلا.
٥- لا أحد أظلم ممن وعظ بآيات ربه، فتهاون بها وأعرض عن قبولها، وترك كفره ومعاصيه، فلم يتب منها، فالنسيان بمعنى الترك.
٦- علم الله من قوم معينين من أهل مكة ونحوهم أنهم لم يؤمنوا، فأخبر
284
تعالى عنهم أنه منعهم من دخول الإيمان في قلوبهم وأسماعهم، فلن تفلح معهم بعدئذ دعوة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الإيمان، ولن يهتدوا أبدا إليه، لإصرارهم على الكفر، وفقدهم الاستعداد لقبول الهداية.
٧- من صفات الله تعالى أنه الغفور لذنوب عباده، الرحيم بهم إن آمنوا وتابوا وأنابوا إليه، بدليل قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨].
ومن رحمته ألا يعجل المؤاخذة أو العقاب على الكفر والمعاصي، ولكنه يمهل ويؤخر، رجاء أن يتوب العباد، ويجعل للعذاب موعدا أي أجلا مقدرا يؤخرون إليه، كما قال: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الأنعام ٦/ ٦٧] وقال: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [الرعد ١٣/ ٣٨] أي إذا حلّ لم يتأخر عنهم، إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولا ملجأ ولا منجى للناس حينئذ من ذلك العذاب.
٨- أهلك الله تعالى جماعة من أهل القرى الغابرة للعبرة والزجر نحو قرى عاد وثمود ومدين وقوم لوط، لما ظلموا وكفروا، وجعل لهلاكهم وقتا معلوما وأجلا محددا لا يتجاوزوه.
قصة موسى عليه السلام مع الخضر
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٠ الى ٧٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤)
285
الإعراب:
سَرَباً مفعول ثان (لاتخذ) ومفعوله الأول سَبِيلَهُ.
أَنْ أَذْكُرَهُ أن وصلتها في موضع نصب على البدل من هاء أَنْسانِيهُ أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وهو بدل اشتمال. عَجَباً مفعول ثان لاتخذ.
قَصَصاً منصوب على المصدر بفعل مقدّر، دل عليه فَارْتَدَّا أي فارتدا يقصان الأثر قصصا. وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً مفعول ثان. عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ حال من كاف أَتَّبِعُكَ.
مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ما: اسم موصول بمعنى الذي، وعُلِّمْتَ: جملة فعليه صلة «ما» والعائد محذوف تقديره: من الذي علّمته رشدا، فحذف الهاء وهي المفعول الثاني لعلّمت تخفيفا، ورُشْداً: المفعول الثاني لتعلّمني.
286
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً كَيْفَ: في موضع نصب على الظرف، وعامله تَصْبِرُ وخُبْراً: منصوب على المصدر بفعل دل عليه. ما لَمْ تُحِطْ بِهِ وتقديره: ما لم تخبره خبرا.
البلاغة:
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا تنكير. عَبْداً للتفخيم، والإضافة في عِبادِنا للتشريف.
حُقُباً سَرَباً نَصَباً عَجَباً سجع يناسب أواخر الآيات.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ واذكر حين قال موسى بن عمران نبي بني إسرائيل لفتاه يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليهم السلام الذي كان يتبعه ويخدمه ويتعلم منه. لا أَبْرَحُ لا أزال سائرا. حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ حتى أصل ملتقى بحري فارس والروم (ملتقى المحيط الهندي والبحر الأحمر عند مصيق باب المندب) مما يلي المشرق. وقيل: إنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلسي عند طنجة (ملتقى البحر الأبيض المتوسط عند مضيق جبل طارق أمام طنجة). أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً دهرا طويلا في بلوغه إن بعد، والحقب: جمع حقبة وهو زمان من الدهر غير محدود، قيل: ثمانون سنة، وقيل: سبعون.
مَجْمَعَ بَيْنِهِما مكان الاجتماع بين البحرين. نَسِيا حُوتَهُما نسي يوشع حمله عند الرحيل، ونسي موسى تذكيره. فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا، مثل السرب: وهو الشق الطويل لا نفاد له، فصار الماء عليه كالقنطرة، قيل: أمسك الله جرية الماء على الحوت، فصار كالطافي عليه.
فَلَمَّا جاوَزا ذلك المكان بالسير إلى وقت الغداء من اليوم الثاني. قالَ موسى.
لِفَتاهُ: آتِنا غَداءَنا الغداء: هو ما يؤكل أول النهار، والمراد به هنا: الحوت. نَصَباً تعبا وإعياء.
قالَ: أَرَأَيْتَ أي تنبّه. إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أي أرأيت ما دهاني، إذ لجأنا إلى الصخرة بذلك المكان، التي رقد عندها موسى. فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فقدته أو نسيت ذكره.
وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان، وهو اعتذار عن نسيانه بشغل الشيطان له بوساوسه. وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً أي اتخذ الحوت طريقا عجبا أي يتعجب منه موسى وفتاه.
287
قالَ: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ قال موسى: ذلك أي فقد الحوت هو الذي كنا نطلبه، فإنه علامة لنا على وجود من نطلبه. فَارْتَدَّا رجعا. عَلى آثارِهِما أي على طريقهما الذي جاءا منه. قَصَصاً أي يقصان الطريق قصصا، أي يتبعان آثارهما اتباعا، أو مقتصين، حتى أتيا الصخرة.
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا هو في رأي الجمهور الخضر، واسمه بليا بن ملكان. آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي ولاية، في رأي أكثر العلماء، وقيل: وحيا ونبوة. وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً من قبلنا معلوما من المغيبات.
هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ على شرط أن تعلّمني. مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي تعلمني بعض ما علمت علما ذا رشد، أو صوابا أرشد به، والرشد: إصابة الخير. ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من غيره ما لم يكن شرطا في أبواب الدين، فإن الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممن أرسل إليه، فيما بعث به من أصول الدين وفروعه، لا مطلقا. وقد راعى موسى في ذلك الطلب للتعلم غاية التواضع والأدب، فاستجهل نفسه، واستأذن أن يكون تابعا للعبد الصالح، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه لأن الزيادة في العلم مطلوبة.
ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً علما بالشيء ومعرفة، ومنه الخبير: العالم بدقائق العلم، والمعنى:
ما لم تخبر حقيقته. وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً أي وغير عاص لك أمرا تأمرني به، وقيد الوعد على الصبر بالمشيئة لأنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما التزم، وهي عادة الأنبياء ألا يثقوا بأنفسهم طرفة عين. وفيه دليل على أن أفعال العباد واقعة بمشيئة الله تعالى.
فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ تنكره مني في علمك، أي فلا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته مني، ولم تعلم وجه صحته. حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً بيانا، أي حتى أبتدئك ببيانه، وأذكره لك بعلته، فقبل موسى شرطه، رعاية لأدب المتعلم مع العالم.
فَانْطَلَقا يمشيان على ساحل البحر. رَكِبا فِي السَّفِينَةِ التي مرت بهما. خَرَقَها ثقبها الخضر، بأن اقتلع لوحا أو لوحين منها من جهة البحر بفأس، حينما سارت في ثبج البحر ولججه. قالَ: أَخَرَقْتَها قال له موسى: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها؟ فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها، المفضي إلى غرق أهلها. لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أتيت أمرا عظيما منكرا، من أمر الأمر، أي عظم وكثر، روي أن الماء لم يدخلها.
لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ بالذي نسيته أو بشيء نسيته، يعني وصيته بأن لا يعترض عليه، وهو اعتذار بالنسيان، أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها. وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً لا تكلفني عسرا ومشقة، في صحبتي إياك، أي عاملني بالعفو واليسر.
288
فَانْطَلَقا بعد خروجهما من السفينة يمشيان حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً لم يبلغ الحنث، يلعب مع الصبيان، وكان أحسنهم وجها فَقَتَلَهُ الخضر، إما بالذبح بالسكين، أو باقتلاع رأسه بيده بفتل عنقه، أو الضرب برأسه الحائط، أقوال مروية. وأتى بالفاء العاطفة هنا للدلالة على أنه لما لقيه قتله من غير تروّ واستكشاف حال قالَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ أي قال موسى مستنكرا- وهو جواب إذا- كيف تقتل نفسا طاهرة من الذنوب، لم تبلغ حد التكليف، وقرئ زَكِيَّةً، بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير حق من قصاص لك عليها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي لقد
ارتكبت شيئا منكرا، والمنكر: الذي تنكره العقول والنفوس.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله قصة أصحاب الكهف لإثبات قدرته على البعث، وذكر أمثلة ثلاثة لتقرير حقيقة أن الحق والعزة والعلو لا ترتبط بكثرة المال والسلطان، وإنما بالعقيدة والإيمان، ليدرك تلك الحقيقة المشركون الذين افتخروا على فقراء المؤمنين، وأبوا مجالستهم، بعد هذا أردف الله تعالى بقصة ثانية هي قصة موسى مع الخضر، ليتعلم منه العلم، وذلك ليفهم المشركون أن موسى النبي كليم الله مع كثرة علمه وعمله، أمر أن يتعلم من العبد الصالح الخضر، مما يدل على أن التواضع خير من الكبر.
قصة موسى والخضر في السنة النبوية:
روى البخاري ومسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل، أي الناس أعلم؟ فقال:
أنا، فعتب الله عز وجل عليه، إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين، هو أعلم منك، قال موسى: يا ربّ، فكيف لي به؟ قال:
تأخذ حوتا، فتجعله في مكتل (قفة) فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ، فانطلق موسى، ومعه فتاه- يوشع بن نون- حتى إذا أتيا الصخرة، وضعا رؤوسهما، فناما واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه، فسقط في البحر فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً.
289
وأمسك الله عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ، نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتِنا غَداءَنا، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً- قال:
ولم يجد موسى النّصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به- فقال فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً.
قال: فكان للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا، فقال موسى: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ، فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً قال: رجعا يقصان آثارهما، حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا هو مسجّى بثوب، فسلّم عليه موسى، فقال الخضر، وأنى بأرضك السلام «١» ! من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟
قال: نعم أتيتك لتعلمني مما علّمت رشدا قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
يا موسى، إني على علم من علم الله، لا تعلمه، علّمنيه، وأنت على علم من علم الله علّمكه، لا أعلمه، فقال موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً فقال له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً.
فانطلقا يمشيان على الساحل، فمرت سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نول- أي أجر- فلما ركبا السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدّوم، فقال له موسى: قوم قد حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها: لِتُغْرِقَ أَهْلَها، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً.
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وكانت الأولى من موسى نسيانا، وجاء عصفور، فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك
(١) أي من أين السلام في هذه الأرض التي لا سلام فيها؟
290
من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
ثم خرجا من السفينة، فبينما هما يمشيان على الساحل، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه فقتله، فقال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً
قال: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قال سفيان: وهذه أشدّ من الأولى.
قالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها، فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما، فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فقال الخضر بيده هكذا- أي أشار بيده- فأقامه، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا، ولم يضيفونا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قال الخضر: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يرحم الله موسى، لوددت أنه كان صبر، حتى يقص الله علينا من أخبارهما».
التفسير والبيان:
هذه هي القصة الثالثة التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة بعد قصة أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين والأموال، وهي تلتقي أيضا مع ما ذكره الله تعالى من تشبيه الحياة الدنيا بماء السماء، وتفاخر الناس بالمال والبنين، كما تلتقي معهما في نبذ الافتخار والتكبر والتعالي على الآخرين، ليكون ذلك درسا بليغا وعظة لرؤساء قريش الذين طلبوا تخصيص مجلس لهم، وطرد الفقراء والمستضعفين من الجلوس معهم في مجلس النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنفة وكبرياء واستعلاء، فقال تعالى:
291
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ... أي واذكر أيها النبي حين قال موسى لفتاه لا أزال سائرا حتى أصل إلى المكان الذي فيه مجمع البحرين، ولو أني أسير حقبا أي دهرا من الزمان. والحقب: ثمانون أو سبعون سنة، والمراد: زمان غير محدود من الدهر.
والمقصود بموسى في رأي أكثر العلماء هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل صاحب المعجزات الظاهرة وصاحب التوراة.
وفتاه: هو يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف عليه السلام، وقد كان خادما لموسى، ويسمى الخادم فتى في لغة العرب.
ومَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ: هو مكان اجتماع البحرين وصيرورتهما بحرا واحدا، وهما في رأي الأكثرين بحر فارس والروم، أي ملتقى البحر الأحمر بالمحيط الهندي عند باب المندب، وقيل: إنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلنطي، أي ملتقى البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي عند مضيق جبل طارق عند طنجة.
وهو المكان الذي وعد فيه موسى بلقاء الخضر.
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً أي فلما وصلا مجمع البحرين مكان اللقاء مع العبد الصالح، نسيا حوتهما، فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا، وغطاه الماء، حتى صار كالقنطرة عليه، وكان ذلك للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا.
فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ: آتِنا غَداءَنا، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي فلما تجاوز موسى وفتاه يوشع مجمع البحرين حيث نسيا الحوت فيه، وسارا بقية اليوم والليلة، وفي اليوم التالي في ضحوة الغد أحس موسى بالجوع، فقال لفتاه:
آتنا غداءنا، لقد لقينا تعبا من ذلك السفر.
292
وذلك أن موسى كان قد أمر بحمل حوت مملّح معه، وذكر له أن عبدا من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى، فأحب الرحيل إليه، وقيل له: متى فقدت الحوت فهو ثمة، وسار هو وفتاه، حتى بلغا مجمع البحرين، وكان الحوت في مكتل (قفة) مع يوشع عليه السلام، فسقط في البحر، وجعل يسير في الماء.
وعودة الحياة للحوت بعد موته كانت معجزة لموسى عليه السلام، علامة على مكان وجود الخضر. والخضر: هو لقب العبد الصالح الذي أمر موسى بالتعلم منه، واسمه بليا بن ملكان، والأصح أنه لم يكن نبيا.
قالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً.
أي قال له فتاه: أرأيت «١» أي أخبرني ما وقع لي حين لجأنا إلى الصخرة في مجمع البحرين؟ فإني نسيت أن أخبرك بما حدث من أمر الحوت، فإنه قد اضطرب وعاد حيا ووقع في البحر، وما أنساني ذكر ذلك إلا الشيطان، واتخذ الحوت مسلكه في البحر عجبا. والمراد بالنسيان: اشتغال قلب الإنسان بوساوس الشيطان التي هي من فعله.
قالَ: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي قال موسى: هذا هو الذي نطلب لأنه أمارة الفوز بما نقصد.
فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أي رجعا على طريقهما يقصان آثار مشيهما،
(١) همزة أَرَأَيْتَ همزة الاستفهام، ورَأَيْتَ على معناه الأصلي، وإدخال الهمزة عليه للتعجب، فإن المتعارف بين الناس أنه إذا حدث لأحدهم أمر عجيب قال لصاحبه: أرأيت ما حدث لي؟
293
ويقفوان آثرهما. قال البقاعي: إن هذا يدل على أن الأرض كانت رملا لا علامة عليها.
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً، قالَ لَهُ مُوسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي وجد موسى وفتاه عند الصخرة في مجمع البحرين حين عادا إليها عبدا صالحا من عباد الله، قال الأكثرون: إن ذلك العبد هو الخضر، وكان مسجى بثوب أبيض، فسلم عليه موسى، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام؟! وقوله: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً يدل على أن تلك العلوم حصلت له من عند الله من غير وساطة.
فقال: أنا موسى، قال: موسى بن إسرائيل؟ قال: نعم، قال: هل أصحبك وأرافقك لتعلمني مما علمك الله شيئا أسترشد به في أمري من علم نافع وعمل صالح؟ وهذا سؤال تلطف وأدب، لا إلزام فيه ولا إجبار، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم.
فأجابه الخضر: قالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي قال الخضر لموسى: إنك لن تقدر على مصاحبتي، ولن تطيق صبرا ما تراه مني لأني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله، علمكه لا أعلمه، وكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه، فلا تقدر على صحبتي.
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً أي وأؤكد لك أنك لن تصبر على شيء تراه مني، ولم تطلع على حكمته ومصلحته الباطنة وحقيقة أمره التي اطلعت أنا عليها دونك. فقوله: خُبْراً أي لم يحط به خبرك، ولم تلمّ بوجه الحكمة فيه وطريق الصواب.
قالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً، وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً أي قال موسى:
ستجدني بمشيئة الله صابرا على ما أرى من أمورك، ولا أخالفك في شيء.
294
قالَ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي قال الخضر شارطا على موسى بقوله: إن سرت معي، فلا تسألني عن أمر يحدث، حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني.
قصة السفينة:
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها أي فانطلق موسى وصاحبه مع الخضر، انطلقا يمشيان على ساحل البحر، يطلبان سفينة، فمرت بهما سفينة، فكلّما أصحابها أن يركبا فيها معهم، فعرفوا الخضر، فحملوهما بغير أجر، تكرمة للخضر، فلما ركبوا وسارت بهم السفينة في وسط البحر، قام الخضر بخرقها بفأس، مستخرجا لوحا من ألواحها، ثم رقعها.
قالَ: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي لم يتمالك موسى عليه السلام نفسه وقال منكرا عليه: أخرقتها لتغرق «١» أهلها، أي ليصير الخرق سببا في إغراق أهلها، لقد جئت شيئا عظيما منكرا.
قالَ: أَلَمْ أَقُلْ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي قال الخضر لموسى: ألم أقل سابقا لك يا موسى: إنك لن تتمكن من الصبر معي على ما ترى مني من أفعال.
قالَ: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً أي اعتذر موسى للخضر قائلا: لا تؤاخذني بنسياني، أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة، ولا تكلفني أمرا شاقا عسيرا علي، أي لا تعسر علي متابعتك، ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة.
(١) اللام لام العاقبة أو الصيرورة، لا لام التعليل. [.....]
295
قصة الغلام:
فَانْطَلَقا، حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ أي ثم خرجا من السفينة، وسارا يمشيان على الساحل، فأبصر الخضر غلاما- وهذا يشمل الشاب البالغ- يلعب مع الغلمان، فقتله بفتل عنقه أو بضرب رأسه بالحائط، أو بغير ذلك، فقال موسى:
أتقتل نفسا طاهرة من الذنوب، طيبة لم تخطئ، بغير قتل نفس أي بغير قصاص؟ وخص موسى هذه الحالة من مبيحات القتل لأنها أكثر وقوعا.
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي لقد أتيت شيئا منكرا. والنكر في حال القتل أعظم قبحا من الإمر في حال خرق السفينة لأن قتل النفس أعظم جرما من خرق السفينة إذ قد لا يحصل الغرق.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه رحلة موسى بن عمران نبي بني إسرائيل مع فتاه يوشع عليهما السلام للقاء العبد الصالح وهو الخضر عليه السلام، لتعليمه التواضع في العلم، وأنه وإن كان نبيا مرسلا، فقد يكون بعض العباد أعلم منه.
وفي هذا من الفقه: رحلة العالم لطلب الازدياد من العلم، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب، واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء، وإن بعدت أقطارهم، كما كان دأب السلف الصالح.
ونفع هذه القصة بوجه خاص في الرد على الكفار الذين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار: هو أن موسى عليه السلام، مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه، ذهب إلى الخضر، لطلب العلم مع التواضع له، وذلك يدل على أن التواضع خير من التكبر.
ونفع هذه القصة مع قصة أصحاب الكهف: هو أن اليهود قالوا لكفار
296
مكة: إن أخبركم محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم عن هذه القصة فهو نبي، وإلا فلا، مع أنه لا يلزم من كونه نبيا من عند الله تعالى أن يكون عالما بجميع القصص والوقائع، كذلك لم يمنع كون موسى عليه السلام نبيا صادقا من عند الله أن يأمره الله بالذهاب إلى الخضر، ليتعلم منه.
ودل قوله: آتِنا غَداءَنا على تعليم الناس اتخاذ الزاد في الأسفار، ولا يتنافى ذلك مع التوكل على الله تعالى، فهذا موسى نبي الله وكليمه قد اتخذ الزاد، مع معرفته بربه، وتوكله على رب العباد.
وكان انقلاب الحوت حيا معجزة لموسى عليه السلام، وعلامة على مكان وجود العبد الصالح، لذا قال موسى فرحا لما أخبره فتاه بالأمر: ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ أي قال موسى لفتاه: أمر الحوت وفقده هو الذي كنا نطلب، فإن الرجل الذي جئنا إليه موجود هناك.
والعبد الصالح على الصحيح هو الخضر، وهو نبي في رأي جماعة كثيرين بدليل ما يأتي «١» :
١- أنه تعالى قال: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا والرحمة هي النبوة لقوله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف ٤٣/ ٣٢] وقوله: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص ٢٨/ ٨٦].
٢- قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وهذا يقتضي أنه تعالى علمه لا بواسطة معلم، ولا إرشاد مرشد، وكل من علمه الله لا بواسطة البشر، وجب أن يكون نبيا يعلم الأمور بالوحي من الله تعالى.
(١) تفسير الرازي: ٢١/ ١٤٨، تفسير القرطبي: ١١/ ١٦.
297
٣- قال موسى عليه السلام: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً والنبي لا يتبع غير النبي في التعليم.
والراجح أن الخضر لم يكن نبيا وإنما هو عبد صالح كما قرر علماء الكلام (التوحيد). والاستدلال بهذه الأدلة ضعيف، أما الدليل الأول: فلا يلزم أن يكون كل رحمة نبوة، فرحمة الله تعالى وسعت كل شيء. وأما الدليل الثاني: إن العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله، وذلك لا يدل على النبوة. وأما الدليل الثالث: فلا مانع يمنع النبي من اتباع غير النبي في العلوم التي لا تتعلق بالنبوة.
ودل قوله: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً على أن المتعلم تبع للعالم، وإن تفاوتت المراتب، ولا يظن أن في تعلم موسى من الخضر ما يدل على أن الخضر كان أفضل منه لأن الفضل لمن فضله الله، فإن كان الخضر وليا فموسى أفضل منه، وإن كان نبيا فموسى فضله الله بالرسالة. ولقد كان موسى عليه السلام محقا في إنكاره على العبد الصالح لأن الأنبياء لا يقرّون على منكر، ولا يجوز لهم التقرير، لذا علّق صبره على ما يحدث من أمر في المستقبل على مشيئة الله، وأنه لا يدري كيف يكون حاله، لا أنه عزم الصبر على المعصية.
وقد ذكر الرازي في قول موسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أنواعا كثيرة من الأدب واللطف عند ما أراد أن يتعلم من الخضر، ذكر منها اثني عشر نوعا، منها: أنه جعل نفسه تبعا له، واستأذن في هذه التبعية، وأقر على نفسي بالجهل بقوله تُعَلِّمَنِ وعلى أستاذه بالعلم، وصرح بأنه يطلب الإرشاد والهداية.
وكان قول الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي حتى أكون أنا الذي أفسره لك، تأديبا وإرشادا لما يقتضي دوام
298
الصحبة، فلو صبر ودأب لرأى العجب، لكنه أكثر الاعتراض، فتعين الفراق.
وفي خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صلاحا، كأن يخاف ظالما على ما يملكه، فيخرّب بعضه. وقال أبو يوسف: يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم عن البعض.
وفي قول موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ ما يدل على أن النسيان لا يقتضي المؤاخذة، وأنه لا يدخل تحت التكليف، ولا يتعلق به حكم طلاق ولا غيره، ولو نسي مرة ثانية له أن يعتذر أيضا.
وقتل النفس أشد من خرق السفينة، لذا قال موسى في القتل: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً وقال في الخرق لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً والنكر أعظم قبحا من الإمر، كما تقدم.
وكان عتاب الخضر في المرة الثانية أشد، لقوله أَلَمْ أَقُلْ لَكَ وزيادة لَكَ لزيادة التأنيب والتقريع على عدم الصبر في المرة الثانية.
ويأتي تمام القصة وما يستنبط منها في الجزء التالي بمشيئة الله.
تم هذا الجزء ولله الحمد
299

[الجزء السادس عشر]

[تتمة سورة الكهف]
تتمة قصة موسى مع الخضر
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٥ الى ٨٢]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)
الإعراب:
لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قرئ لَاتَّخَذْتَ بالتشديد، وبالتخفيف.
لَاتَّخَذْتَ. وأدخل اللام على الفعل الذي هو جواب لَوْ.
مِنْ لَدُنِّي بالتشديد والتخفيف. وكذا أَنْ يُبْدِلَهُما بالتشديد والتخفيف.
5
هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ إضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع.
والإضافة في بَيْنِكَ إضافة بين إلى غير متعدد: سوغها تكراره بالعطف بالواو.
غَصْباً منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ زَكاةً رُحْماً منصوبان على التمييز.
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول لأجله.
البلاغة:
أَمَّا السَّفِينَةُ وَأَمَّا الْغُلامُ وَأَمَّا الْجِدارُ لف ونشر مرتب بعد ذكر ركوب السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار.
كُلَّ سَفِينَةٍ فيه إيجاز بالحذف، أي صالحة، لدلالة أَعِيبَها عليه، وكذا وَأَمَّا الْغُلامُ حذف منه لفظ الكافر، لدلالة قوله تعالى: فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ.
أَبَواهُ أي أبوه وأمه، بطريق التغليب.
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ استعارة لأن الإرادة من صفات العقلاء، وإسنادها إلى الجدار استعارة ومجاز.
فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وفَأَرَدْنا وفَأَرادَ رَبُّكَ: أسند ما ظاهره شر لنفسه، وأسند الخير إلى الله تعالى، على سبيل الأدب مع الله تعالى.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ أَقُلْ لَكَ.. زاد لَكَ هنا على ما تقدم لعدم العذر بعد التنبيه، ووسما له بقلة الثبات والصبر، مع سبق التذكير أول مرة، فاحتاج إلى الإنكار عليه بما هو أشد مرة ثانية عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أي إن سألت صحبتك بعد هذه المرة فَلا تُصاحِبْنِي، أي لا تجعلني صاحبا قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي قد وجدت عذرا من قبلي، لما خالفتك ثلاث مرات، في مفارقتك لي.
أَهْلَ قَرْيَةٍ هي أنطاكية، كما روي عن ابن عباس، أو الأبلّة: أبلة بصرة، أو الناصرة، والواقع لا دليل يوثق به على صحة تعيين القرية. اسْتَطْعَما أَهْلَها طلبا منهم الطعام بضيافة أَنْ يُضَيِّفُوهُما أي ينزلوهما أضيافا، مأخوذ من ضيّفه وقرئ: يُضَيِّفُوهُما مأخوذ من أضافه، أي أنزله ضيفا.
جِداراً حائطا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ يداني أو يقرب أن يسقط لميلانه، فاستعيرت
6
الإرادة للمشارفة، كما أستعير لها الهم والعزم فَأَقامَهُ الخضر بعمارته، أو بعمود عمده به، وقيل:
مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس، وقيل: نقضه وبناه، وهو الشائع. لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً جعلا، حيث لم يضيفونا، مع حاجتنا إلى الطعام، وهو تحريض على أخذ الجعل للارتفاق والانتعاش به، وتعريض بأنه فضول واشتغال بما لا يعنيه.
قالَ: هذا فِراقُ أي قال له الخضر: هذا وقت الفراق بيني وبينك سَأُنَبِّئُكَ قبل فراقي لك لِمَساكِينَ عشرة يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ يعملون بها مؤاجرة لها، طلبا للكسب وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أمامهم الآن، أو خلفهم إذا رجعوا عليه، وكان رجوعهم عليه، واسمه:
جلندي بن كركر، أو منوار بن جلندي الأزدي، وهو ملك كافر يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صالحة غَصْباً من أصحابها، منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ.
أَنْ يُرْهِقَهُما أن يغشاهما طُغْياناً وَكُفْراً لنعمتهما بعقوقه، فيلحقهما شرا، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، أو يصيبهما بالعدوى فيرتدا بإضلاله،
جاء في حديث مسلم: «طبع كافرا، ولو عاش لأرهقهما ذلك، لمحبتهما له، يتبعانه في ذلك»
قيل: اسم المقتول: خيسور.
خَيْراً مِنْهُ زَكاةً أي صلاحا وتقى وَأَقْرَبَ رُحْماً أقرب منه رحمة، وهي البر بوالديه، فأبدلهما تعالى فتاة تزوجت نبيا، فولدت نبيا، فهدى الله تعالى به أمة.
وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما الكنز: المال المدفون من ذهب وفضة وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً كان أبو الغلامين تقيا صالحا، فأكرمهما الله بصلاحه في أنفسهما ومالهما. قيل: كان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، واسمه كاشح أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أي إيناس الرشد، وكمال الرأي، قيل:
اسمهما: أصرم وصريم رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي مرحومين من ربك، وهو مفعول لأجله، عامله: أراد وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي ما فعلت ما ذكر من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، باختياري، بل بأمر إلهام من الله ما لَمْ تَسْطِعْ، أي تستطع، يقال: اسطاع واستطاع بمعنى أطاق، فجمع بين اللغتين.
المناسبة:
الكلام واضح الصلة بما قبله، فهو في قصة موسى عليه السلام مع الخضر الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى النبي، كما أنه تعالى أعطى موسى بن العلم ما لم يعلّمه الخضر. وهذا أي قتل الغلام هو الحادث الثاني بعد خرق السفينة الذي
7
اختبر فيه الخضر صبر موسى، ولم يصبر لمخالفته ظاهر شريعته لأن القتل لا يكون إلا لأجل القصاص بالنفس، مع أنه قد يكون لسبب آخر.
التفسير والبيان:
قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي قال الخضر لموسى الذي خالف الشرط: ألم أخبرك أنك لا تتمكن من احتمال ما أفعله، ولن تسكت على ما أقوم به. ويلاحظ أنه زاد هنا لفظ لَكَ على ما سبق لأن سبب العتاب أوضح وأقوى بعد التذكير المتقدم، وتكرر المخالفة من موسى للعهد أو الشرط الذي التزمه، وإن كان قتل الغلام الوضيء الجميل الحسن الذي كان يلعب مع الغلمان في قرية أعظم جرما وأقبح من خرق السفينة، لذا قال موسى:
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً والنكر أعظم من (الإمر) في القبح. وهذا إشارة إلى أن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة لأن إتلاف النفس أخطر من إتلاف المال.
فاعتذر موسى عليه السلام بقوله:
قالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي قال موسى للخضر: إن اعترضت على شيء يحدث بعد هذا الفعل، أو هذه المرة، فلا تجعلني صاحبا لك، قد أعذرت إلي مرة بعد مرة، حيث أكون قد خالفتك إلى الآن مرتين. وهذا كلام نادم شديد الندامة.
روى ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا ذكر أحدا، فدعا له، بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: «رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب، ولكنه قال: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها، فَلا تُصاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً».
8
والحادث الثالث هو:
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما أي فانطلق الخضر وموسى يمشيان بعد المرتين الأوليين، حتى إذا وصلا إلى قرية، طلبا من أهلها إطعامهما وسد جوعتهما، فرفضوا ذلك وأبوا أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم من الضيافة. وهذا إخلال بالمروءة، واتصاف بالبخل والشح، وتلك القرية هي أنطاكية.
فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ أي وجد الخضر وموسى في تلك القرية حائطا آيلا إلى السقوط، فردّه الخضر كما كان، جاء في الحديث الصحيح: أنه مسحه بيده فإذا هو قد استقام. وهذا من كراماته.
وإسناد الإرادة هنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة كما تقدم، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل، والانقضاض: هو السقوط، والأول من أفعال العقلاء والثاني من خواص الجمادات ونحوها.
فعند ذلك قال موسى للخضر:
قالَ: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي قال موسى للخضر: ليتك تطلب أجرة على إقامة الجدار وإصلاحه، فإنه نظرا لأنهم لم يضيفونا، كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانا، فأجابه الخضر:
قالَ: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي قال الخضر لموسى عليهما السلام: هذا الإنكار أو الاعتراض المتكرر سبب الفراق بيننا أو المفرّق بيننا، بحسب الشرط الذي قبلته على نفسك، فقد قلت بعد قتل الغلام: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها، فَلا تُصاحِبْنِي. وسأخبرك بتفسير وبيان وجه الأفعال التي أنكرتها، ولم تطق صبرا عليها، وهي خرق السفينة،
9
وقتل الغلام، وإقامة الجدار. وهذا عتاب ولوم على عدم الصبر. ثم ذكر الخضر سبب ما أقدم عليه من الأمور الثلاثة:
١- أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها، وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أي إن السفينة التي خرقتها لأعيبها، فكانت مملوكة لضعفاء أيتام ليس لهم شيء ينتفعون به غيرها، ولا يقدرون على دفع من أراد ظلمهم، وكانوا يكرون تلك السفينة لركاب البحر، ويأخذون الأجرة، فأردت بخرقها ونزع لوح منها أن أعيبها لأنه كان أمامهم ملك جبار ظالم يستولي على كل سفينة صالحة غير معيبة، ويغتصبها ظلما وعدوانا دون وجه حق، فكان عملي حماية لهذه السفينة لأصحابها الضعفاء، فأنا لم أعمل سوءا، وإنما ارتكبت أخف الضررين لدفع أعظمهما.
روى ابن جريج عن شعيب الجبائي: «أن اسم ذلك الملك هدد بن بدد» وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق.
ويلاحظ أن المراد بقوله وَراءَهُمْ أمامهم، كقوله تعالى: مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ [الجاثية ٤٥/ ١٠] وقوله تعالى: وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الدهر ٧٦/ ٢٧].
٢- وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ، فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً أي وأما الولد الغلام الذي قتلته، وكان اسمه شمعون أو حيثور أو حيسون، فإنه كان كافرا، وقد أطلعني الله على مستقبله، وكان أبواه مؤمنين، فخشينا إذا صار كبيرا أن يحملهما حبه على متابعته في الكفر والوقوع في الظلم والعصيان والمنكرات لأن حب الولد غريزة. وهذا من قبيل سد الذرائع وفتحها، فإن كل ما كان وسيلة إلى المصلحة فهو مصلحة.
قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي
10
لكان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. وصح في الحديث: «لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له» وقال تعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة ٢/ ٢١٦].
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً أي قال الخضر العالم: فأردنا أن يرزقهما الله بدل هذا الولد ولدا خيرا منه دينا وصلاحا وطهارة من الذنوب، وأقرب رحمة لوالديه، وعطفا عليهما، وبرا بهما وشفقة عليهما.
ويلاحظ أن الغلام يشمل البالغ والصغير، ويرى الجمهور أن هذا الغلام لم يكن بالغا، لذا قال موسى: نفسا زكية أي لم تذنب. وقال الكلبي: كان بالغا.
٣- وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما، وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً، فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما، وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي وأما الحائط الذي أصلحته، فكان لولدين صغيرين يتيمين في قرية هي أنطاكية، وكان تحته كنز، أي مال جسيم مدفون، وكان أبوهما وهو الأب السابع رجلا صالحا، فأراد الله إبقاء ذلك الكنز (وكان مالا) مدفونا حفظا لمالهما، ولصلاح أبيهما، فأمرني ربي بإصلاح ذلك الحائط، إذ لو سقط لاكتشف وأخذ، وأراد الله أن يبلغ الغلامان كمالهما وتمام نموهما، ويستخرجا الكنز من ذلك الموضع الذي عليه الجدار، رحمة لهما، بصلاح أبيهما. والمراد بالمدينة هي القرية المذكورة سابقا: حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ وهو دليل على إطلاق القرية على المدينة. والظاهر أن الغلامين كانا صغيرين بقرينة وصفهما باليتم، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن علي: «لا يتم بعد احتلام».
ويلاحظ أنه هنا أسند الإرادة إلى الله تعالى لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله. وأما في السفينة، فأسند الفعل إلى الخضر العالم، فقال تعالى: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها كما أن الأدب يقضي إسناد الخير إلى الله، والشر إلى العباد.
11
وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي إن ما فعلته من الأمور الثلاثة لم يكن باجتهادي ورأيي، ولكنه بأمر الله وإلهامه ووحيه، فالإقدام على ذلك كله من الاعتداء على المال والنفس وإصلاح الجدار، وهو لا يكون إلا بالوحي والنص القاطع.
وذلك المذكور هو تفسير ما ضاق صبرك عنه، ولم تطق السكوت عنه، ولم تصبر حتى أبيّن لك السبب والحكمة فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن الأحداث الثلاثة التي فعلها الخضر كانت من قبيل اختيار أهون الشرين، وأخف الضررين، وتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وهو معنى قوله تعالى: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، فهي وإن كانت مستنكرة في الظاهر، وحقّ لموسى عليه السلام إنكارها والاعتراض عليها، فهي خير في الحقيقة والواقع، وذلك لا يتسنى لأحد ادعاؤه بغير وحي صريح، وأحكام العالم والنبي في غير حال الوحي تنبني على ظواهر الأمور، وفي حال الوحي تنبني على الأسباب الحقيقية الواقعية.
والوحي لا يحصل إلا لنبي أو رسول، والجمهور كما تقدم على أن الخضر كان نبيا لأن قوله تعالى: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا يدل على نبوته لأن بواطن الأفعال لا تكون إلا بوحي ولأن الإنسان لا يتعلم ولا يتّبع إلا من فوقه، وليس فوق النبي من ليس بنبي.
ويرى آخرون أن الخضر لم يكن نبيا، وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل. قال بعض العلماء: ولا يجوز أن يقال: كان نبيا لأن إثبات النبوة
12
لا يجوز بأخبار الآحاد، وهذا هو المحقق في كتب العقائد، والمراد بقوله: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي الإلهام وليس الوحي.
٢- إن ترك الضيافة المندوبة شرعا من المستقبح عرفا وعقلا وشرعا، وقد تصبح أمرا واجبا في حال تعرض الجائع للهلاك، ولعل موسى والخضر عليهما السلام كانا في حالة جوع شديد، وإن لم يبلغا حد الهلاك، مما سوغ الغضب الشديد لدى موسى.
٣- قوله تعالى: اسْتَطْعَما أَهْلَها دليل على جواز سؤال القوت، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يسد جوعه، والاستطعام: سؤال الطعام، والمراد به هنا سؤال الضيافة لقوله تعالى: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فاستحق أهل القرية لذلك أن يذمّوا، وينسبوا إلى اللوم والبخل، كما وصفهم بذلك نبينا عليه الصلاة والسلام. قال قتادة في هذه الآية: شر القرى التي لا تضيف الضيف، ولا تعرف لابن السبيل حقه. ويظهر من ذلك أن الضيافة كانت عليهم واجبة، وأن الخضر وموسى إنما سألا ما وجب لهما من الضيافة. وهذا هو الأليق بحال الأنبياء، ومنصب الفضلاء والأولياء.
٤- إن ضرر المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على إقامة جدار أقل من سقوطه لأنه لو سقط لضاع مال تلك الأيتام، وفيه ضرر شديد.
وتسوية الجدار تمت بإعادة بنائه،
ذكر ابن الأنباري عن ابن عباس عن أبي بكر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه «قرأ: فَوَجَدا فِيها جِداراً، يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ثم قال: فهدمه ثم قعد يبنيه»
وهذا الحديث صحيح السند جار مجرى التفسير للقرآن. وقال سعيد بن جبير: مسحه بيده وأقامه، فقام. قال القرطبي: وهذا القول هو الصحيح، وهو الأشبه بفعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل والأولياء.
13
٥- واجب على الإنسان ألا يتعرض للجلوس تحت جدار مائل يخاف سقوطه، بل يسرع في المشي إذا كان مارّا عليه
لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا مرّ أحدكم بطربال «١» مائل، فليسرع المشي» ذكره ابن الأثير في النهاية.
٦- كرامات الأولياء ثابتة، بدليل الأخبار الثابتة والآيات المتواترة، ولا ينكرها إلا المبتدع الجاحد أو الفاسق الحائد، فالآيات: مثل ما أخبر الله تعالى في حق مريم من ظهور الفواكه الشتوية في الصيف، والصيفية في الشتاء، وما ظهر على يدها حيث أمرت النخلة وكانت يابسة فأثمرت، وهي ليست بنبية، ومثل ما ظهر على يد الخضر عليه السلام من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، وهذا على رأي من قال: إنه ليس نبيا.
٧- هل يجوز أن يعلم الوليّ أنه ولي أو لا؟ قولان للعلماء:
أحدهما- أنه لا يجوز، وأن ما يظهر على يديه يجب أن يلاحظه بحذر وحيطة، لأنه لا يأمن أن يكون استدراجا له، ولأنه لو علم أنه وليّ، لزال عنه الخوف من الله، وحصل له الأمن من عذابه، ومن شرط الولي أن يستديم الخوف إلى أن تتنزل عليه الملائكة، كما قال عز وجل: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصّلت ٤١/ ٣٠] ولأن الولي: من كان مختوما له بالسعادة، والعواقب مستورة، ولا يدري أحد ما يختم له به ولهذا
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الأصبهاني عن ابن عباس: «وإنما الأعمال بخواتيمها».
القول الثاني- أنه يجوز أن يعلم أنه ولي إذ لا خلاف أنه يجوز لغيره أن يعلم أنه وليّ الله تعالى، فجاز له أن يعلم ذلك، وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن حال العشرة المبشرين بالجنة من أصحابه: أنهم من أهل الجنة، ولم يكن في ذلك زوال خوفهم، بل كانوا أكثر تعظيما لله تعالى، وأشد خوفا وهيبة، فغيرهم مثلهم.
(١) الطربال: القطعة العالية من الجدار، والصخرة العظيمة المشرفة من الجبل.
14
٨- لا ينكر أن يكون للولي مال وضيعة (عقارات) يصون بها وجهه وعياله، وحسبك بالصحابة وأموالهم، مع ولايتهم وفضلهم، وهم الحجة على غيرهم.
وأما
حديث الترمذي عن ابن مسعود: «لا تتخذوا الضيعة فتركنوا إلى الدنيا»
فمحمول على من اتخذها مستكثرا أو متنعما ومتمتعا بزهرتها، وأما من اتخذها معاشا يصون بها دينه وعياله، فاتخاذها بهذه النية من أفضل الأعمال، وهي من أفضل الأموال
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد وابن منيع عن عمرو بن العاص: «نعم المال الصالح للرجل الصالح».
٩- تمّ خرق السفينة وتعييبها لحفظها لأصحابها المساكين (المحتاجين المتعيشين بها في البحر) من اغتصاب ملك ظالم عات لكل سفينة صالحة، وقد احتج الشافعي بهذه الآية على أن حال الفقير في الضر والحاجة أشد من حال المسكين لأنه تعالى سمّاهم مساكين، مع أنهم كانوا يملكون تلك السفينة.
١٠- حدث قتل الغلام بسبب كفره حتى لا يتأثر به أبواه، ويميلا إلى دينه، بسبب محبتهما الفطرية له، وقد أبدلهما الله خيرا منه زكاة، أي دينا وصلاحا، وأقرب رحما، أي أقرب رحمة وعطفا وشفقة عليهما.
١١- إن صلاح الآباء يفيد الأبناء حتى الجيل السابع لأن أب الغلامين كان هو الأب السابع، كما قال جعفر بن محمد. وقد روي أن الله تعالى يحفظ الصالح في سبعة من ذريته، وعلى هذا يدل قوله تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف ٧/ ١٩٦].
١٢- قوله تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي يقتضي أن الخضر نبي، وقال جماعة: لم يكن نبيا، وهو الأصح. واسم الخضر: إيليا بن ملكان بن قالغ بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وكنيته أبو العباس، وكان أبوه ملكا. وأمه كانت بنت فارس، واسمها ألمى، ولدته في مغارة.
15
وذهب الجمهور إلى أن الخضر مات
لقوله عليه الصلاة والسلام: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإنه على رأس مائة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد» «١».
وقالت فرقة: إنه حي لأنه شرب من عين الحياة، وأنه باق في الأرض، وأنه يحج البيت.
قيل: إن الخضر لما ذهب يفارق موسى قال له موسى: أوصني، قال: كن بسّاما ولا تكن ضحّاكا، ودع اللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تعب على الخطائين خطاياهم، وابك على خطيئتك يا ابن عمران.
١٣- لا تثبت الأحكام الشرعية إلا بالوحي أو برؤيا الأنبياء، ولا يصح القول بأن الأحكام تثبت للأولياء بالإلهام في قلوبهم، وما يغلب عليهم من خواطر، لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، وفتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم، واستدلوا
بحديث رواه البخاري في التاريخ عن وابصة: «استفت نفسك وإن أفتاك المفتون».
قال أبو العباس المالكي: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب لأنه إنكار ما علم من الشرائع فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم لمبلغون عنه رسالته وكلامه، المبيّنون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج ٢٢/ ٧٥] وقال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام ٦/ ١٢٤]
(١)
رواه مسلم عن عبد الله بن عمر، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: «أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنت منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد».
16
وقال تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [البقرة ٢/ ٢١٣] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال القرطبي: وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، وإجماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغني عن الرسل فهو كافر، يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب. ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول. وبيان ذلك: أن من قال: يأخذ عن قلبه، وأن ما يقع فيه هو حكم الله تعالى، وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإن هذا نحو مما
قاله رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إن روح القدس نفث في روعي» «١».
١٤- لهذه القصة فوائد أدبية رفيعة مجملها: أن يكون المرء متواضعا غير معجب بعلمه، وأن يلتزم بعهده، فلا ينقضه ويعترض على ما لم يعرف سره، وألا يتعجل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بطلب إنزال العقوبة بالمشركين الذين كذبوه وأنكروا رسالته واستهزءوا به وبكتابه، فهم معاقبون هالكون في الدنيا والآخرة.
وتتكرر حوادث القصة مع مرور الزمان، فلا يعترض الإنسان على موت غلام صغير، فقد يكون موته خيرا له ولوالديه، كما أن وقائع الموت المتكررة رحمة بالمجتمع، فلو لم يمت كبار السن وغيرهم لضاقت الأرض بالمواليد المتجددة يوميا. وخرق السفينة يذكرنا بتسلط الظلمة على أموال الضعفاء، وهدم الجدار وإقامته لون من ألوان توفير الثروة المنتظرة ليتيم أو ضعيف من الإله الرحيم
(١) تفسير القرطبي: ١١/ ٤٠- ٤١. والرّوع: القلب أو العقل. والحديث رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة، وهو ضعيف.
17
بعباده الضعفاء، وفيه مقابلة الإساءة بالإحسان، فإن أهل القرية الذين أبوا الضيافة قابلهم الخضر بحسن الصنيع، وهذه سمة الأنبياء والأولياء المقربين من ربهم.
وكل هذه الوقائع من فعل الله تعالى، وما الخضر وأمثاله إلا وسطاء بين الناس لتنفيذ أمر الله تعالى.
قصة ذي القرنين ويأجوج ومأجوج
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٣ الى ٩٩]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢)
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧)
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩)
18
الإعراب:
مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي كيف شاء، فحذف المفعول به.
وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ: تَغْرُبُ جملة فعلية، حال من هاء وَجَدَها ووجدها: بمعنى أصابها. وليست هنا بمعنى علم، فلو كانت كذلك، لكانت الجملة مفعولا ثانيا لوجد لأن (وجد) بمعنى (علم) تتعدى إلى مفعولين. إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ... أن وصلتها:
إما في موضع نصب بفعل مقدر، كقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد ٤٧/ ٤] وإما على تقدير مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: إما العذاب واقع منك فيهم، وإما اتخاذ أمر ذي حسن واقع فيهم، فحذف الخبر لطول الكلام بالصلة.
فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى جَزاءً منصوب على المصدر في موضع الحال، والعامل فيه: له، أي ثبتت الحسنى له جزاء. وقيل: تمييز منصوب. ومن قرأ بالرفع: (جزاء) جعله مبتدأ، وله:
خبره، أي فله جزاء الخصال الحسنى، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. والْحُسْنى مضاف إليه مجرور. ويجوز جعله بدلا مرفوعا من جَزاءً والأصل فيه التنوين، وحذفه لالتقاء الساكنين، كما حذف التنوين من أَحَدٌ في قوله تعالى: قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص ١١٢/ ١- ٢] وقرئ: (جزاء) بالنصب من غير تنوين.
لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَوْلًا مفعول به. وقرئ يفقهون أي يفقهون الناس قولا، فحذف المفعول الأول، وبقي قَوْلًا المفعول الثاني، ويجوز حذف أحد المفعولين لأن هذا فعل متعد.
19
أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً منصوب بأفرغ عند البصريين لا ب آتُونِي لأن أُفْرِغْ أقرب من آتُونِي فكان إعماله أولى لأن القرب له أثر في قوة العمل. وذهب الكوفيون إلى أن العامل فيه آتُونِي. فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ بمعنى استطاعوا.
قالَ: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي إنما قال: هذا، ولم يقل: هذه لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي، والتأنيث غير الحقيقي يجوز فيه التذكير، ولأن الرحمة بمعنى الغفران، فذكّره حملا على المعنى، والتذكير بالحمل على المعنى كثير في كلام العرب.
البلاغة:
مَطْلِعَ ومَغْرِبَ بينهما طباق.
حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً تشبيه بليغ، أي كالنار في الحرارة وشدة الاحمرار، حذفت أداة الشبه ووجه التشبيه.
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ استعارة تبعية في الفعل يَمُوجُ شبههم لكثرتهم وتداخل بعضهم في بعض، بموج البحر المتلاطم.
أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى بينهما مقابلة.
المفردات اللغوية:
وَيَسْئَلُونَكَ أي اليهود أو مشركو مكة. عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قيل في رأي ضعيف: هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني، وقيل: الرومي، ملك فارس والروم، وقيل: ملك المشرق والمغرب، لكن الإسكندر كافر، والأصح أنه رجل صالح حكم الدنيا غير الإسكندر، وهو على التحقيق الملك الفارسي الصالح «قورش» ولذلك سمي ذا القرنين، أو لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها، وقيل: كان له قرنان، أي ضفيرتان، وقيل: كان لتاجه قرنان، ويحتمل أنه لقب بذلك لشجاعته، ومع الاتفاق على إيمانه وصلاحه، لم يكن على الأصح نبيا. سَأَتْلُوا سأقص. عَلَيْكُمْ مِنْهُ من حاله. ذِكْراً خبرا مذكورا، وهو القرآن. قيل: ملك الدنيا. مؤمنان: سليمان وذو القرنين، وكافران: نمروذ وبختنصر.
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ سهلنا له السير فيها وجعلناه قادرا على التصرف فيها كيف شاء.
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه. سَبَباً طريقا يوصله إلى مراده من علم أو قدرة أو إرادة.
فَأَتْبَعَ سَبَباً طريقا نحو الغرب، أي فأراد بلوغ المغرب، فاتبع سببا يوصله إليه. مَغْرِبَ الشَّمْسِ موضع غروبها. فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي ذات حمأة، وهي الطين الأسود، وغروبها في
20
العين الحمئة هو في مجرد رأي العين، وإلا فهي أعظم من الدنيا وأكبر، كما هو معروف. وَوَجَدَ عِنْدَها عند تلك العين الحمئة. قَوْماً كافرين.
قُلْنا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ أي ألهمناه بين أن يعذبهم أو يدعوهم إلى الإيمان. إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ القوم بالقتل على كفرهم. وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أي أمرا ذا حسن بالإرشاد وتعليم الشرائع، وقيل: خيّر بين القتل والأسر.
قالَ أي ذو القرنين مختارا الدعوة. أَمَّا مَنْ ظَلَمَ بالشرك والإصرار على الكفر.
فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ نقتله. نُكْراً أي منكرا فظيعا، أو شديدا في النار. فَلَهُ في الدارين. الْحُسْنى أي الجنة، أو المثوبة وهو مبتدأ، خبره فَلَهُ وجزاء: حال أي مجزيا بها، ومن قرأ: فله جزاء الحسنى، فالإضافة للبيان أي المثوبة الحسنى. وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً اليسر: السهل الميسر غير الشاق، أي نأمره بما يسهل عليه. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً نحو المشرق.
مَطْلِعَ الشَّمْسِ موضع طلوعها. تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ هم الزنج. مِنْ دُونِها من دون الشمس. سِتْراً من اللباس أو البناء أو السقف لأن أرضهم لا تتحمل الأبنية، ولهم سروب يغيبون فيها عند طلوع الشمس، ويظهرون عند ارتفاعها.
كَذلِكَ أي إن أمر ذي القرنين كما وصفنا من بلوغه المشرق والمغرب. وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي وقد اطلعنا علما على ما عند ذي القرنين من الآيات والجند وغيرهما، مما يتعلق بظواهره وخفاياه، والمراد أن كثرة ذلك بلغت مبلغا لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب، آخذا من الجنوب إلى الشمال. بَيْنَ السَّدَّيْنِ بين الجبلين المبني بينهما سدة، وهما جبلا أرمينية وأذربيجان، وقيل: جبلان منيفان في أواخر الشمال في منقطع بلاد الترك، من ورائهما يأجوج ومأجوج. مِنْ دُونِهِما أمامهما. يَفْقَهُونَ قَوْلًا يفهمون قولا إلا بعد بطء، أي لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه لتلعثمهم.
قالُوا أي مترجموهم. إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ هما اسمان أعجميان لقبيلتين، فهما ممنوعان من الصرف، وهما قبيلتان من ولد يافث بن نوح. يأجوج: هم التتر، ومأجوج: هم المغول، وأصلهما من أب واحد يسمى ترك وكانوا يسكنون الجزء الشمالي من آسيا، وتمتد بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المتجمد الشمالي، وتنتهي غربا ببلاد التركستان. مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرضنا بالنهب والبغي والقتل والتخريب عند خروجهم إلينا، قيل: كانوا يخرجون في الربيع، فلا يتركون أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه. وقيل: كانوا يأكلون الناس، والأصح أن يأجوج ومأجوج قوم جبارون أشداء، يمر أوائلهم على بحيرة طبرية، يبعثهم الله في عهد نزول عيسى، كما جاء في صحيح مسلم وشرحه للنووي ١٨/ ٦٨.
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً جعلا من المال نتبرع به من أموالنا، وقرئ: (خراجا) والخراج: ما لزم أداؤه. سَدًّا حاجزا، فلا يصلون إلينا. ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي من المال
21
وغيره. خَيْرٌ من الخرج الذي تجعلونه لي، فلا حاجة بي إليه، وأجعل لكم السد تبرعا.
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي بما يتقوى به على المقصود من الآلات والناس التي أطلبها منكم. رَدْماً أي حاجزا حصينا، وهو أكبر من السد وأوثق.
زُبَرَ الْحَدِيدِ قطعه، جمع زبرة كغرفة، وهي القطعة العظيمة أو الكبيرة التي يبنى بها، فبنى بها وجعل بينها الحطب والفحم. حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي حتى إذا جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويا لهما في العلو، والصدفان: واحدها صدف وهو جانب الجبل.
قالَ للعمال. انْفُخُوا بالكيران في زبر الحديد التي وضعت بين الصدفين، فنفخوا. حَتَّى إِذا جَعَلَهُ أي الحديد. ناراً كالنار اشتغالا وتوهجا. قالَ: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً نحاسا مذابا، أي صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمي، فالتصق بعضه ببعض، وسد فجوات الحديد، وصار جبلا صلدا وشيئا واحدا.
فَمَا اسْطاعُوا أي يأجوج ومأجوج. أَنْ يَظْهَرُوهُ أن يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته. وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً خرقا لصلابته وسمكه. قالَ: هذا قال ذو القرنين:
هذا السد، أي بناؤه وتسويته. رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي أي أثر رحمة أو نعمة على عباده لأنه مانع من خروجهم. فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي وقت وعده بقيام الساعة، أو وقت خروج يأجوج ومأجوج من وراء السد. جَعَلَهُ دَكَّاءَ أو دكا مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض. أطلق المصدر وأريد اسم المفعول، ودكه: بهدمه منهم أو من غيرهم. وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أي وكان وعد ربي بخروجهم وغيره كائنا لا محالة.
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ الضمير عائد إلى يأجوج ومأجوج. يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أي وجعلنا بعض يأجوج ومأجوج حين يخرجون مما وراء السد، يموجون، بعضهم في بعض، ويختلطون مع بعضهم لكثرتهم، مزدحمين في البلاد. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي القرن لقيام الساعة أو البعث.
فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً أي جمعنا الخلائق في مكان واحد يوم القيامة للحساب والجزاء.
المناسبة:
سبق لدينا عند بيان سبب نزول قصة أصحاب الكهف، أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن قصة أصحاب الكهف، وعن قصة ذي القرنين، وعن الروح، والمشهور أن السائلين قريش. وذو القرنين: هو الإسكندر اليوناني، كما ذكر ابن إسحاق، وقال وهب: هو رومي، وهو خطأ.
22
وهذه هي القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة، وردت بعد قصة أصحاب الكهف، وقصة صاحبي الجنة، وقصة أمر الملائكة بالسجود لآدم وإباء إبليس.
التفسير والبيان:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، قُلْ: سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً أي ويسألك اليهود وقريش يا محمد عن خبر ذي القرنين، سؤال اختبار وتعنت، فقل لهم:
سأخبركم عنه خبرا مذكورا في القرآن بطريق الوحي المتلو المنزّل علي من ربي.
وقد تقدم أن كفار مكة بعثوا إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية ما يدرى ما صنعوا، وعن الروح، فنزلت سورة الكهف.
وذو القرنين: قيل: هو إسكندر بن فيلبس المقدوني اليوناني «١» الذي ملك الدنيا بأسرها قبل الميلاد بنحو ٣٣٠ سنة باني الإسكندرية، وتلميذ أرسطو الفيلسوف المعلّم الأول، حارب الفرس، واستولى على ملك دارا وتزوج ابنته، ثم سافر إلى الهند وحارب هناك، ثم حكم مصر، وإنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مطلعها، وقرن الشمس من مغربها، فغلب على أكثر البلاد شرقا وغربا، قال الشوكاني: «وهذا مشكل لأنه كان كافرا وتلميذ أرسطو» والظاهر أنه عبد صالح أعطاه الله ملكا واسعا، وهذا ما أشار إليه القرآن في قوله تعالى:
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ، وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً أي إنا أعطيناه ملكا عظيما، ومكّناه فيه من جميع ما يؤتى الملوك من السلطة المطلقة المدعمة بالجنود
(١) والصحيح أنه أبو كرب الحميري، واسمه أبو بكر بن إفريقش، من الدولة الحميرية (من سنة ١١٥ ق. م- ٥٥٢ ب. م) التي يسمّى ملوكها بالتبابعة جمع تبّع. والصحيح المروي عن ابن عباس أن ذا القرنين كان ملكا صالحا، انظر مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر ٨/ ٢١٦.
23
وآلات الحرب والعلم، وأقدرناه على التصرف بحيث يصل إلى جميع أنحاء المملكة، ومهّدنا له من الأسباب والوسائل التي تمكّنه من السيطرة وبسط النفوذ أين شاء وكيف شاء، فملك مشارق الأرض ومغاربها، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العرب والعجم. فقوله: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً معناه أعطيناه من كل ما يتعلق بمطلوبه طريقا يتوصل بها إلى ما يريده، وهذه الطرق هي:
١- فَأَتْبَعَ سَبَباً، حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي فاتّبع طريقا من الطرق التي تؤديه إلى مراده، حتى إذا وصل نهاية الأرض من جهة المغرب التي ليس بعدها إلا البحر المحيط، وهو بحر الظلمات أو المحيط الأطلسي، سائرا في بلاد المغرب: تونس والجزائر ومرّاكش، فوجد الشمس تغرب في عين كثيرة الحمأة، أي الطين الأسود، وهذا ما يلاحظ من غياب قرص الشمس على ساحل المحيط المختلط بالرمال والطينة السوداء.
قال الرازي: إنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة، وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك، وأيضا قال تعالى: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ إذا ثبت هذا، فنقول:
تأويل قوله تعالى: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب، ولم يبق بعده شيء من العمارات، وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة، وإن لم تكن كذلك في الحقيقة، كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر، إذا لم ير الشط، وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر، وهذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره «١». ثم ذكر تأويلات أخرى بعيدة القبول.
(١) تفسير الرازي: ٢١/ ١٦٦
24
وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، قُلْنا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أي وجد في أقصى المغرب عند تلك العين الحمئة قوما كفّارا وأمة عظيمة من بني آدم، فقلنا له بالإلهام: أنت مخير فيهم بين أمرين: إما أن تعذبهم بالقتل إن أصروا على الكفر، وإما أن تحسن إليهم وتصبر عليهم، بدعوتهم إلى الحق والهدى والرشاد، وتعليمهم الشرائع والأحكام.
قالَ: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أي قال ذو القرنين لبعض حاشيته: أما من ظلم نفسه بالإصرار على الشرك، ولم يقبل دعوتي، فسنعذبه بالقتل في الدنيا، ثم يرجع إلى ربه في الآخرة، فيعذبه عذابا منكرا شنيعا في نار جهنم.
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً أي وأما من آمن بالله ووحدانيته وصدّق دعوتي، وعمل عملا صالحا مما يقتضيه الإيمان، فجزاؤه الجنة، وسنطلب منه أمرا ذا يسر غير صعب ولا شاقّ، ليرغب في دين الله، ويحب فعل أوامر الله من صلاة وصيام وزكاة وخراج ونحوها، فلا نأمره بالصعب الشاق، ولكن بالسهل الميسر.
٢- ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً، حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ، وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً أي ثم سلك طريقا آخر متجها من مغرب الشمس إلى مشرقها، حتى إذا وصل الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولا من معمور الأرض، وجدها تطلع على قوم حفاة عراة، لا شيء يسترهم من حر الشمس، لا من اللباس، ولا من البيوت والمباني والأشجار، وإنما يعيشون في مفازة لا مأوى فيها، ولا شجر، وأكثر معيشتهم من السمك.
كَذلِكَ، وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي إن أمر ذي القرنين كما وصفنا من قبل من اتباع الأسباب، حتى بلغ المشرق والمغرب، وقد علمنا حين ملكناه
25
ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به، ونحن مطلعون على جميع أحواله، لا يخفى علينا منها شيء، كما في آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [آل عمران ٣/ ٥] أي فهو كما وصف، مما لا يعلمه إلا عالم الغيب والشهادة.
٣- ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً، حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أي ثم سلك طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب متجها من الشرق إلى الشمال، حتى إذا وصل بين الجبلين بين أرمينية وأذربيجان، وجد من ورائهما قوما من الناس لا يكادون يفهمون كلام غيرهم، لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم ونباهتهم.
هؤلاء القوم من الصقالبة (السلاف) الذين يسكنون شرقي البحر الأسود، في سد منيع بين جبلين قرب مدينة «باب الأبواب» أو «دربت» بجبل قوقاف، اكتشفه السياح في القرن الحاضر.
قالُوا: يا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي قال سكان السد بين الجبلين، وقد فهم كلامهم ذو القرنين بتيسير الله الأسباب التي أعطاها له: أو بواسطة الترجمان: إن يأجوج ومأجوج- وهما قبيلتان من الناس- يفسدون في أرضنا بالقتل والتخريب والظلم والغشم وسائر وجوه الإفساد.
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا أي فهل توافق على أن نعطيك جعلا أو ضريبة من أموالنا، على أن تجعل بيننا وبينهم حاجزا منيعا يمنعهم من الوصول إلينا؟
ويرى المراغي- وليس صحيحا- أنهم التتر، ومأجوج: هم المغول، وأصلهما
26
من أب واحد يسمى «ترك» وكانوا يسكنون شمال آسيا، وتمتد بلادهم من التبت والصين إلى المحيط المتجمد الشمالي، وغربا إلى الباكستان.
ومنهم الداهية الرحالة «تموجين» الذي لقب نفسه «جنكيز خان أي ملك العالم» الذي ظهر في أوائل القرن السابع الهجري في آسيا الوسطى، فأخضع الصين الشمالية، ثم أخضع بجبروته قطب الدين بن أرميلان من السلاجقة ملك خوارزم، ثم خلفه ابنه «أقطاي» وأغار ابن أخيه «باتو» على بلاد الروس سنة ٧٢٣ هـ- ودمر بولونيا والمجر، ثم قام مقامه «جالوك» فحارب الروم، ثم خلفه ابن أخيه «منجو» فقام أخوه «كيلاي» بالاستيلاء على الصين، وأخوه «هولاكو» بالاستيلاء على البلاد الإسلامية وإسقاط بغداد مقر الخلافة العباسية في عهد الخليفة المستعصم بالله، أواسط القرن السابع الهجري ٦٥٦ هـ-.
وأما السد الذي أقامه ذو القرنين، وشاهده بعض المؤرخين في أوائل القرن الخامس عشر الميلادي: فهو وراء جيحون في عمالة «بلخ» واسمه «باب الحديد» قرب «ترمذ» وقد اجتازه تيمور لنك، ومرّ به «شاه رخ» مع العالم الألماني «سيلد برجر» ووصفه المؤرخ الإسباني «كلافيجو» في رحلته سنة ١٤٠٣ م الذي الذي كان رسولا من ملك «قشتالة» بالأندلس إلى تيمورلنك، وقال: إن سد «باب الحديد» على الطريق الموصل بين سمرقند والهند «١».
قالَ: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً قال ذو القرنين: ما مكنني فيه ربي، وآتاني من سعة الملك والقدرة ووفرة المال، خير من خرجكم ومما تجمعون، كما قال سليمان عليه السلام: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ، فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ [النمل ٢٧/ ٣٦].
(١) تفسير المراغي: ١٦/ ١٣- ١٥
27
ولكن ساعدوني بقوة، أي بعمل الرجال وآلات البناء، أجعل بينكم وبينهم سدّا منيعا وحاجزا حصينا، ثم أوضح المراد من القوة بقوله:
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ، حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، قالَ: انْفُخُوا، حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً، قالَ: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي قدّموا لي قطع الحديد، فلما جاؤوا بها، أخذ يبني بها بين الجبلين، فيضع بعضها على بعض من الأساس، حتى إذا حاذى بالبنيان رؤوس الجبلين طولا وعرضا، قال للعمال المساعدين: انفخوا على هذه الزّبر (القطع) بالكيران، حتى صار كله نارا مشتعلة متوهجة، ثم صب النحاس المذاب على الحديد المحمّى، فصار كله كتلة متلاصقة وجبلا صلدا، وانسدت فجوات الحديد.
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً أي ما قدر يأجوج ومأجوج أن يصعدوا فوق السد، لارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا نقبه من أسفله، لصلابته وشدّته. وأراح الله منهم الشعوب المجاورة لفسادهم وسوئهم.
وقال ذو القرنين بعد إقامة السد المنيع الحصين:
قالَ: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أي قال ذو القرنين لأهل تلك الديار: هذا السد نعمة وأثر من آثار رحمة ربي بهؤلاء القوم أو بالناس لحيلولته بين يأجوج ومأجوج وبين الفساد في الأرض، فإذا حل أجل ربي بخروجهم من وراء السد، جعله ربي مدكوكا منهدما، مستويا ملصقا بالأرض، وكان وعد ربي بخرابه وخروج يأجوج ومأجوج وبكل ما وعد به حقا ثابتا لا يتخلف، كائنا لا محالة.
وتم فعلا خروج جنكيز خان وسلالته، فعاثوا في الأرض فسادا في الشرق والغرب، ودمروا معالم الحضارة الإسلامية، وأسقطوا الخلافة العباسية سنة ٦٥٦ هـ-.
28
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن زينب بنت جحش زوج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قالت: استيقظ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من نومه، وهو محمر وجهه، وهو يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرّ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلّق، قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث».
وقد اتسعت الحلقة حتى كبرت في منتصف القرن السابع الهجري، بخروج التتر والمغول، واجتياح البلاد الإسلامية، وتدمير صرح الخلافة الإسلامية وإسقاطها في بغداد سنة ٦٥٦ هـ-، كما حكى القرآن في قوله تعالى:
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً أي وتركنا بعض الناس يوم خروج يأجوج ومأجوج يضطرب ويختلط مع بعض آخر، فيكثر القتل، وتفسد الزروع، وتتلف الأموال، كما أخبر تعالى في آية أخرى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [الأنبياء ٢١/ ٩٦]. وذلك كله قبل قيام القيامة وقبل النفخ في الصور بزمن غير معلوم لنا. ويرى مفسرون آخرون أن معنى الآية: أنهم يضطربون ويختلطون كموج البحر يوم القيامة، في أول أيامها. ورجح القرطبي القول بأنه تركنا يأجوج ومأجوج وقت كمال السد يموج بعضهم في بعض.
وإذا اقترب موعد القيامة نفخ في الصور، وهي النفخة الثانية، وجمعنا الناس جمعا بأن أحييناهم بعد تلاشي أبدانهم وصيرورتها ترابا، وأحضرناهم إلى المحشر والحساب جميعا، كما في آيات أخرى، منها: قُلْ: إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة ٥٦/ ٤٩- ٥٠] ومنها:
وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف ١٨/ ٤٧]. والصور كما
جاء في الحديث الثابت: قرن ينفخ فيه، والذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام.
29
فقه الحياة أو الأحكام:
يستدل بالآيات على ما يأتي:
١- إن ذا القرنين أحد الملوك المؤمنين الذين ملكوا الدنيا وسيطروا على أهلها، فقد آتاه الله ملكا واسعا، ومنحه حكمة وهيبة وعلما نافعا، ونحن لا نقطع بمعرفته بالذات، ولا نؤمن إلا بالقدر الذي حكاه القرآن المجيد.
روي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران فالمؤمنان:
سليمان بن داود وإسكندر، والكافران: نمروذ وبختنصّر. قال ابن إسحاق:
وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتي ما لم يؤت غيره، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضا إلا سلّط على أهلها، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق.
٢- هيّأ الله تعالى لذي القرنين الأسباب التي توصله إلى مراده، وأخبرنا عن وقائع ثلاث حدثت له في المغرب والمشرق والوسط. أما في مغرب الشمس فقد وجد قوما كافرين، فخيّره الله بين أمرين: إما التعذيب بالقتل والإبادة جزاء كفرهم وطغيانهم، وإما الاستبقاء والإرشاد إلى الحق والهدى وتوحيد الله، فاختار ذو القرنين الإمهال والدعوة إلى الله، وأقام فيهم مدة ردع فيها الظالم، ونصر المظلوم، وأقام العدل، ودعا إلى الله تعالى.
وأما في المشرق فوجد قوما بدائيين يعيشون في بقعة رملية لا يستقر فيها بناء، ولا يستترون فيها بظل شجر أو سقف بيت، قال الحسن البصري: كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون كما تتراعى البهائم.
وقال قتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس ستر، كانوا في مكان لا يستقر عليه
30
بناء، وهم يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم، يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم منها.
والقولان يدلان على ألا مدنية هناك، وربما يكون منهم من يدخل في الماء، ومنهم من يدخل في السّرب، فلا تناقض بين قول الحسن وقتادة.
وهذا تأريخ لحال جماعة بدائية تعيش على صيد الأسماك، دون ستر ولا مأوى، مما يستوجب على أهل المدينة شكر النعمة العظمى على العيش بأمان وارتياح تحت ظلال الأشجار وفي ردهات المنازل.
وأما رحلة ذي القرنين إلى الشمال بين الشرق والغرب وبين السدين وهما جبلان بين أرمينية وأذربيجان، فكانت إنقاذا لشعب مقهور مستضعف يتعرض لغارات القبائل المتوحشة، فيفسدون في الأرض، فبنى لهم سدا منيعا حصينا حماهم من تلك الموجات الغازية، وأعلمهم أن بقاءه مرهون بإرادة الله. وهذا مثل فيه عبرة للدول القوية التي يجب عليها المحافظة على الشعوب الضعيفة، والإبقاء على ثرواتها دون أخذ شيء منها، منعا من الاسهام في إضعافها، وأخذا بيدها نحو الأفضل، وإغاثتها وإنقاذها من التخلف والضياع، فإن ذا القرنين ملك الدنيا أبى أن يأخذ شيئا من أموال أولئك الأقوام، بالرغم من بناء السد الحصين.
٣- قال القرطبي: في هذه الآية (آية السد) دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضربا ويحبسون، أو يكفلون ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه «١».
٤- إن أهل الصلاح والإخلاص يحرصون على إنجاز الأعمال ابتغاء وجه الله،
(١) تفسير القرطبي: ١١/ ٥٩
31
دون انتظار مقابل أو عوض دنيوي من الناس، فإن ذا القرنين الذي أيده الله قال: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ أي ما بسطه الله تعالى لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، أي بالرجال وعمل الأبدان والآلة التي أبني بها السد (الردم). وهذا بداية النجاح في العمل، فإن القوم لو جمعوا له خرجا، لم يعنه أحد، ولتركوه يبني، فكان عونهم أسرع في إنجاز العمل وإنجاح المشروع.
٥- تدل الآية أيضا: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ على أن من واجب الملك أو الحاكم أن يقوم بحماية الخلق في حفظ ديارهم، وإصلاح ثغورهم، من أموالهم، بشروط ثلاثة هي:
الأول- ألا يستأثر عليهم بشيء.
الثاني- أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم.
الثالث- أن يسوّي في العطاء بينهم على قدر منازلهم.
فإذا احتاج الحاكم إلى دعم رعيته، بذلوا أنفسهم قبل أموالهم، ويؤخذ بقدر الحاجة من أموالهم، وتصرف بتدبير، فهذا ذو القرنين أبى أخذ شيء من أموال القوم، قائلا: إن الأموال عندي والرجال عندكم، فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى.
وضابط الأمر: أنه لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض، فيؤخذ ذلك المال جهرا لا سرا، وينفق بالعدل لا بالاستئثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر «١».
٦- إن الحديد والنحاس من مرتكزات الصناعة الثقيلة قديما وحديثا، فقد كانا أداة بناء السد المنيع على يد ذي القرنين، وهما الآن المادة الأساسية في الصناعات المختلفة الحربية والسلمية.
(١) تفسير القرطبي: ١١/ ٦٠
32
جزاء الكفار
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٦]
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤)
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦)
الإعراب:
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ بدل من (الكافرين).
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ الَّذِينَ كَفَرُوا فاعل فَحَسِبَ وأَنْ يَتَّخِذُوا أن وصلتها في موضع نصب، سدت مسد مفعولي فَحَسِبَ.
وعِبادِي مفعول أول ليتخذوا، وأَوْلِياءَ مفعول ثان.
بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا تمييز منصوب، وجمع التمييز ولم يفرد: إشارة إلى أنهم خسروا في أعمال متعددة، لا في عمل واحد.
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ خبر لمحذوف، أو بدل، أو منصوب على الذم ذلِكَ جَزاؤُهُمْ مبتدأ وخبر، وجَهَنَّمُ عطف بيان للخبر.
33
البلاغة:
كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي استعارة تمثيلية، شبه إعراضهم عن الآيات الكونية وعدم النظر فيها، وبالتالي عدم الإيمان. بمن ألقى غطاء على عينيه، على سبيل التمثيل.
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا استفهام يراد به التوبيخ والتقريع.
وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً جناس ناقص أو جناس التصحيف لتعير الشكل وبعض الحروف.
المفردات اللغوية:
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أبرزناها وأظهرناها لهم فِي غِطاءٍ أي غشاوة محيطة بها عَنْ ذِكْرِي أي القرآن، أو الآيات الموصلة إلى ذكري بتوحيدي وتمجيدي وتعظيمي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي لا يقدرون استماعا لذكري وكلامي، بغضا له، وصمما عن الحق، فلا يؤمنوا به إذ لا استطاعة بهم للسمع. أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أظنوا، والاستفهام للإنكار أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي أي الملائكة والمسيح عيسى وعزير مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ أربابا، المعنى: أظنوا أن الاتخاذ المذكور لا يغضبني، ولا أعاقبهم عليه؟ كلا أَعْتَدْنا هيأنا لِلْكافِرِينَ من هؤلاء وغيرهم نُزُلًا ما يقام للنزيل، أي هي معدة لهم كالمنزل المعد للضيف. وفيه تهكم.
بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا جمع التمييز وهو: أَعْمالًا لتنوع أعمالهم الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ بطل وضاع عملهم لكفرهم وعجبهم وَهُمْ يَحْسَبُونَ يظنون يُحْسِنُونَ صُنْعاً عملا يجازون عليه، لعجبهم بأنفسهم واعتقادهم أنهم على الحق.
كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بالقرآن، أو بدلائله الدالة فيه على التوحيد والنبوة وَلِقائِهِ بالبعث والحساب، والثواب والعقاب، أو لقاء عذابه فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ بطلت بكفرهم، فلا يثابون عليها فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي لا نجعل لهم قدرا، وإنما نزدريهم.
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ أي الأمر الذي ذكرت من حبوط أعمالهم وغيره، هو جزاؤهم هُزُواً هزؤا، أي مهزؤا بهما.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أنه بنفخ الصور يوم القيام، يقوم الناس من قبورهم، ثم يجمعون في صعيد واحد للحساب والجزاء، ذكر أنه حينئذ يظهر
34
النار للكافرين، وتخصيصه بالكافرين بشارة للمؤمنين، ويظن الكافرون أن اتخاذهم معبودات من دون الله ينجيهم من عذابه، ولكن حبطت أعمالهم وبطلت، وصارت عديمة النفع بسبب كفرهم.
والحاصل: أن الله تعالى يخبر عما يفعله بالكفار يوم القيامة، من عرض جهنم عليهم، أي إبرازها وإظهارها لهم، ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولهم، ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم، ويخبر تعالى أيضا أنه لا يقام لهم وزن أو قدر، وأن أعمالهم قد أحبطت وضاعت بسبب كفرهم.
التفسير والبيان:
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً أي أظهرنا جهنم وأبرزناها إبرازا واضحا للكفار بالله بعد النفخة الثانية في الصور، حتى يشاهدوا أهوالها، يوم جمعنا لهم.
وأوصاف الكفار هي:
١- التعامي وإبعاد السمع عن الحق: الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي، وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي إن عذاب جهنم لأولئك الذين تغافلوا وتعاموا عن قبول الهدى واتباع الحق، ولم ينظروا في آيات الله ولم يتفكروا فيها، حتى يتوصلوا إلى توحيد الله وتمجيده، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ، نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف ٤٣/ ٣٦] وكانوا لا يطيقون سماع ذكر الله الذي بيّنه لهم في كتابه، ولا يعقلون عن الله أمره ونهيه.
والخلاصة: إنهم تعاموا عن مشاهدة آي الله بالأبصار، وأعرضوا عن الأدلة السمعية المذكورة في كتاب الله، كما قال تعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج ٢٢/ ٤٦] وقال سبحانه: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت ٤١/ ٥].
35
٢- عبادة معبودات من دون الله: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ أي أفطن أو اعتقد الذين كفروا بي، واتخذوا أولياء أي معبودات من دوني كالملائكة والمسيح والشياطين أن ذلك ينفعهم، أو يدفع عنهم العذاب؟ كلا، لا تنفعهم تلك المعبودات، وسيظهر لهم خطؤهم، كما قال تعالى: كَلَّا، سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم ١٩/ ٨٢] لذا أخبر تعالى عن عذابهم قائلا:
إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أي إنا أعددنا وهيأنا لهؤلاء الكافرين بالله جهنم يوم القيامة منزلا ينزلون به، كما يعدّ النزل للضيف، بسبب اتخاذهم أولياء (أي معبودين) من دوني، وهذا تهكم بهم، وتخطئة لحساباتهم.
٣- الجهل والغباء: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أي قل لهم يا محمد:
هل نخبركم أيها الناس بأشد الناس خسرانا لأعمالهم وخطأ في حسابهم؟ هم الذين ضلوا في الحياة، فعملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مرضية مقبولة، وأتعبوا أنفسهم فيما لا نفع فيه، فهلكوا وضيعوا ثمار أعمالهم، وهم قوم مخدوعون بما هم عليه، يظنون أنهم محسنون في ذلك العمل، منتفعون بآثاره، مقبولون محبوبون. والآية توبيخ شديد لهم، مفادها الموجز: قل لهؤلاء الكفرة الذين عبدوا غيري: يخيب سعيهم وآمالهم غدا، فهم الأخسرون أعمالا.
وسبب خسارة أعمالهم هو ما قال الله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ، فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ، فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي إن أولئك الأخسرين أعمالا هم الذين جحدوا آيات الله في الدنيا، وبراهينه التكوينية والتنزيلية الدالة على توحيده، وكفروا وكذبوا بالبعث والحساب ولقاء الله وما بعده من أمور الآخرة، فحبطت وبطلت أعمالهم
36
التي عملوها مما يظنونه حسنا، كما قال تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣] فلا يقام وزن لأعمالهم ولا يكون لهم عندنا قدر، ولا نعبأ بهم، ولا ثواب على تلك الأعمال لأنها خالية من الخير.
وحينئذ يكون جزاؤهم العادل على كفرهم ومعاصيهم جهنم لقوله تعالى:
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا، وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً أي إن ذلك الوعيد والجزاء على أعمالهم الباطلة في نار جهنم إنما هو بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات الله، وسخريتهم من رسل الله ومن معجزاتهم، فإنهم استهزءوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب. والهزء: الاستخفاف والسخرية.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يلي:
١- إثبات البعث والحشر، بجمع الجن والإنس في ساحات القيامة بالنفخة الثانية في الصور.
٢- إبراز جهنم إبرازا ظاهرا واضحا للكفار بعد الحشر بسبب عدم النظر في دلائل الله تعالى على وجوده ووحدانيته، وعدم إطاقتهم سماع كلام الله تعالى، فهم بمنزلة العمي والصمّ. وفي هذا نوع من العقاب النفساني المؤلم بسبب ما ينتابهم حينئذ من الغم والكرب العظيم.
٣- يخطئ الكفار حين يظنون أن اتخاذهم معبودين من دون الله، كعيسى وعزير والملائكة ينفعهم يوم القيامة، وأن الله لا يعاقبهم على ذلك، كلا، فإن الله أعد لهم جهنم منزلا ومأوى.
٤- إن أشد الناس خسارة يوم القيامة هم الذين ضل سعيهم في الدنيا، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا في عبادة من سوى الله، فهم الأخسرون أعمالا، روى
37
البخاري عن مصعب قال: سألت أبي: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا أهم الحرورية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية (أي الخوارج) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، وكان سعد يسميهم الفاسقين.
والحقيقة أن الآية تشمل جميع أهل الضلال سواء من أهل الكتاب أو من المشركين.
٥- في هذه الآية: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ.. دلالة على أن من الناس من يعمل العمل، وهو يظن أنه محسن، وقد حبط سعيه، والذي يوجب إحباط السعي: إما فساد الاعتقاد أو المراءاة.
٦- إن سبب خسارة أعمال أهل الضلال هو الكفر بآيات الله وبالبعث، وهذا يشمل مشركي مكة عبدة الأوثان، وأهل الكتاب أيضا لأن إيمان هؤلاء بالبعث مشوّة غير صحيح.
٧- إن عقاب هؤلاء الضالين على أعمالهم الباطلة ثلاثة أنواع: إحباط الأعمال، وإهدار الكرامة والاعتبار، والعذاب في نار جهنم، فلا ثواب على أعمالهم ولا نفع فيها، ولا يقيم الله عز وجل لهم وزنا، ويصلون جهنم، قال عبيد بن عمير: يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشّروب، فلا يزن عند الله جناح بعوضة. وهذا في حكم المرفوع،
وقد ثبت معناه في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا إن شئتم: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً». والمعنى: أنهم لا ثواب لهم، وأعمالهم مقابلة بالعذاب، فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة، ومن لا حسنة له فهو في النار.
38
٨- كرر الله تعالى ذكر سبب العذاب لهؤلاء الكفار للتأكيد، فأخبر بأن جزاءهم جهنم بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات الله وتكذيبهم رسل الله، وإنكارهم معجزات الأنبياء.
جزاء المؤمنين وسعة معلومات الله وتوحيده
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
الإعراب:
خالِدِينَ فِيها حال.
لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا حِوَلًا مفعول لا يَبْغُونَ أي لا يطلبون ولا يتمنون عنها متحولا.
وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً مَدَداً تمييز.
أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أن: المكفوفة بما: باقية على مصدريتها، والمعنى: يوحى إلي وحدانية الإله.
المفردات اللغوية:
كانَتْ لَهُمْ فيما سبق من علم الله وحكمه ووعده الْفِرْدَوْسِ أعلى درجات الجنان وأوسطها، والإضافة إليه للبيان، وأصله: البستان الذي يجمع أشجار الفاكهة نُزُلًا منزلا لا يَبْغُونَ لا يطلبون حِوَلًا تحولا إلى غيرها إذ لا يجدون أطيب منها، حتى تنازعهم إليه أنفسهم لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً أي لو كان ماء البحر ما يكتب به من الحبر، وأصله: ما يمدّ به
39
الشيء، كالحبر للدواة لِكَلِماتِ رَبِّي لكلمات علمه وحكمته ومعلوماته غير المتناهية، بأن تكتب به لَنَفِدَ الْبَحْرُ في كتابتها تَنْفَدَ تفرغ وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ أي بمثل البحر مَدَداً زيادة فيه، لنفد، ولم تفرغ هي.
أَنَا بَشَرٌ آدمي يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ يأمل ويطمع حسن لقائه بالبعث والجزاء.
والرجاء: تأمل شيء سارّ في المستقبل، ولِقاءَ رَبِّهِ هو البعث وتوابعه. فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً يرتضيه الله وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أي بأن يرائي في عبادته، أو يطلب منه أجرا.
سبب النزول:
نزول الآية (١٠٩) :
قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ: أخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. وقالت اليهود: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة، فقد أوتي خيرا كثيرا، فنزلت: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي الآية.
نزول الآية (١١٠) :
فَمَنْ كانَ يَرْجُوا:
أخرج ابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص عن طاوس قال: قال رجل: يا رسول الله، إني أقف أريد وجه الله، وأحب أن يرى موطني، فلم يرد عليه شيئا، حتى نزلت هذه الآية: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً خبر مرسل، وأخرجه الحاكم في المستدرك موصولا عن طاوس عن ابن عباس، وصححه على شرط الشيخين (البخاري ومسلم).
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان رجل من المسلمين يقاتل، وهو يحب أن يرى مكانه، فأنزل الله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الآية.
40
وأخرج أبو نعيم وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس قال: قال جندب بن زهير: إذا صلى الرجل، أو صام، أو تصدق، فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لمقالة الناس له، فنزلت في ذلك: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ما أعد للكافرين، ذكر ما أعد للمؤمنين، ثم ختم السورة ببيان سعة علم الله واتساع معلوماته وأنها غير متناهية، والاعلام ببشرية النبي ومماثلته لبقية الناس في ذلك، وأن علمه مستمد من الوحي الإلهي، والتنبيه على الوحدانية، والحض على ما فيه النجاة في الآخرة. قال البيضاوي: والآية جامعة لخلاصة العلم والعمل، وهما التوحيد والإخلاص في الطاعة، بالبعد عن الرياء وهو الشرك الأصغر أو الخفي.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أصداد صفات الكافرين الذين ذكروا قبل المؤمنين، فيقول:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا أي إن السعداء هم الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا المرسلين فيما جاؤوا به، وعملوا صالح الأعمال من إقامة الفرائض والتطوعات، ابتغاء رضوان الله، لهم جنات الفردوس (وهي أعلى الجنة وأوسعها وأفضلها) منزلا معدّا لهم، مبالغة في إكرامهم. والفردوس في كلام العرب: الشجر الملتف، والأغلب عليه العنب، وفي اللغة الرومية: البستان.
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة».
41
خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا أي مقيمين ساكنين فيها على الدوام، لا يختارون عنها غيرها، ولا يحبون سواها، ولا يريدون تحولا عنها.
أخرج أحمد والترمذي عن عبادة بن الصامت أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن في الجنة مائة درجة، كل درجة منها ما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومن فوقها يكون العرش، ومنه تفجر أنهار الجنة الأربعة، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس».
ثم يخبر الله تعالى عن عظمة شأن القرآن وسعة علم الله، فيقول:
قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً أي قل أيها الرسول لهم: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته، وكان ماء البحر حبرا للقلم الذي يكتب به، والقلم يكتب، لنفد البحر قبل أن يفرغ من كتابة ذلك، ولو جيء بمثل البحر آخر وآخر وهكذا لنفد أيضا، ولم تنفد كلمات الله. وهذا دليل على كثرة كلمات الله، وسعة علم الله وحكمته وأسراره، بحيث لا تضبطها الأقلام والكتب.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان ٣١/ ٢٧].
وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ... الآية، يقول: لو كانت تلك البحور مدادا لكلمات الله، والشجر كله أقلام، لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره، ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه، إن ربنا كما يقول، وفوق ما نقول، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كجنة من خردل في خلال الأرض كلها.
42
وروي أن حييّ ين أخطب اليهودي قال: في كتابكم: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ثم تقرؤون: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي أنه يعترض بوجود التناقض، فنزلت هذه الآية، يعني أن ذلك خير كثير، ولكنه قطرة من بحر كلمات الله.
وبعد بيان كمال كلام الله، أمر تعالى محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتواضع فقال:
قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي قل يا محمد لهم: ما أنا إلا بشر مثلكم في البشرية، ليس لي صفة الملكية أو الألوهية، ولا علم لي إلا ما علمني الله، إلا أن الله تعالى أوحى إلي أنه لا إله إلا الله الواحد الأحد الصمد، فلا شريك له في ألوهيته، فمعبودكم الذي يجب أن تعبدوه هو معبود واحد لا شريك له.
فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً أي فمن آمن بلقاء الله، وطمع في ثواب الله على طاعته، فليتقرب إليه بصالح الأعمال، وليخلص له العبادة، وليجتنب الشرك بعبادة الله، أحدا من مخلوقاته، سواء أكان شركا ظاهرا كعبادة الأوثان، أم شركا خفيا كفعل شيء رياء أو سمعة وشهرة، والرياء: هو الشرك الأصغر، كما
في حديث أخرجه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟».
وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يرويه عن ربه قال: «أنا خير الشركاء، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري، فأنا بريء منه، وهو للذي أشرك».
43
قال الرازي: أورد تعالى في آخر هذه السورة ما يدل على حصول رؤية الله في ثلاث آيات:
أولها- قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ.
وثانيها- قوله: كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا.
وثالثها- قوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ولا بيان أقوى من ذلك «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- للمؤمنين بالله ورسله الذين يعملون صالح الأعمال جنات الفردوس التي هي أعلى الجنان، وهم خالدون دائمون فيها، لا يطلبون تحويلا عنها إلى غيرها.
٢- لا يستطيع أحد على الإطلاق أن يحصر كلمات الله تعالى وعلمه وحكمته وأسراره، ولو كانت البحار والمحيطات وأمثالها دون تحديد حبرا يكتب به.
قال ابن عباس: قالت اليهود، لما قال لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قالوا: وكيف، وقد أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا؟ فنزلت: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً.. الآية.
٣- أمر الله رسوله بالتواضع، وبإعلان صفة البشرية وأنه لا امتياز له على غيره بشيء من الصفات، وأنه لا يعلم إلا ما علّمه الله تعالى، وعلم الله لا يحصى، إلا أن الله تعالى أمره بأن يبلّغ غيره بأن لا إله إلا الله.
٤- دلت الآية: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ على مطلوبين:
(١) تفسير الرازي: ٢١/ ١٧٧
44
الأول- أن كلمة إنما تفيد الحصر، وهي قوله: أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.
والثاني- أن كون الإله تعالى إلها واحدا يمكن إثباته بالأدلة السمعية.
٥- إن المؤمن بربه الذي يرجو رؤيته وثوابه ويخشى عقابه يجب عليه أن يعمل العمل الصالح المرضي لله، وألا يشرك بالله أحدا في عبادته.
قال ابن عباس: نزلت في جندب بن زهير العامري، قال: يا رسول الله، إني أعمل العمل لله تعالى، وأريد به وجه الله تعالى، إلا أنه إذا اطّلع عليه سرّني فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إن الله طيّب، ولا يقبل إلا الطيّب، ولا يقبل ما شورك فيه» فنزلت الآية.
وفي رواية مسلم عن أبي هريرة: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا..».
والآية عامة في جميع الأعمال من عبادة وجهاد وصدقة وغيرها، وموضوعها إخلاص العمل لله عزّ وجلّ. سئل الحسن البصري عن الإخلاص والرياء فقال:
من الإخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك، ولا تحب أن تكتم سيئاتك، فإن أظهر الله عليك حسناتك تقول: هذا من فضلك وإحسانك، وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي، وتذكّر قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً، وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً، وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا [المؤمنون ٢٣/ ٦٠]، يؤتون الإخلاص، وهم يخافون ألا يقبل منهم. وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا قيل له: كيف يكون هذا؟
قال: من طلب بعمل بينه وبين الله تعالى سوى وجه الله والدار الآخرة، فهو رياء.
45

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة مريم
مكية، وهي ثمان وتسعون آية.
تسميتها:
سميت «سورة مريم» لاشتمالها على قصة حمل السيدة مريم، وولادتها عيسى عليه السلام، من غير أب، وأصداء ذلك الحمل، وما تبعه ورافق ولادة عيسى من أحداث عجيبة، من أهمها كلامه وهو طفل في المهد.
مناسبتها لما قبلها:
اشتملت السورتان على قصص عجيبة، فسورة الكهف اشتملت على قصة أصحاب الكهف، وطول لبثهم هذه المدة الطويلة، بلا أكل ولا شرب، وقصة موسى مع الخضر، وما فيها من المثيرات، وقصة ذي القرنين.
وسورة مريم فيها أعجوبتان: قصة ولادة يحيى بن زكريا عليه السلام حال كبر الوالد وعقم الوالدة أي بين شيخ فان وعجوز عاقر، وقصة ولادة عيسى عليه السلام من غير أب.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع السورة كسائر السور المكية هو إثبات وجود الله ووحدانيته، وإثبات البعث والجزاء من خلال إيراد قصص جماعة من الأنبياء، على النحو التالي:
46
١- افتتحت السورة بقصة ولادة يحيى بن زكريا عليهما السلام، من أب شيخ كبير وأم عاقر لا تلد، ولكن بقدرة الله القادر على كل شيء، خلافا للمعتاد، وإجابة لدعاء الوالد الصالح، وأعقبه الخبر بإيتاء يحيي النبوة في حال الصبا، الآيات [١- ١٥].
٢- أردف ذلك قصة ولادة عيسى من مريم العذراء، من غير أب، لتكون دليلا آخر على القدرة الربانية. وقد أثار ذلك موجة من النقد واللوم والتعنيف، خفف منها كلام عيسى وهو طفل في المهد، تبرئة لأمه، ووصف نفسه بصفات النبوة والكمال.
واقترن المخاض بحدثين غريبين: هما نداء عيسى أمه حين الولادة بألا تحزن، فقد جعل الله عندها نهرا، وأمرها بهز النخل أخذا بالأسباب لإسقاط الرطب، الآيات [١٦- ٣٦].
وأحدثت هذه الولادة اختلافا بين النصارى في شأن عيسى، الآيات [٣٧- ٤٠].
٣- انتقلت الآيات بعدئذ إلى بيان جانب من قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، ومناقشته أباه في عبادة الأصنام، وإكرام الله له بهبته- وهو كبير، وامرأته سارّة عاقر- ولدا هو إسحاق ومن بعده ابنه يعقوب وجعلهما نبيين، كما حدث فعلا من ولادة إسماعيل قبل ذلك، وإبراهيم شيخ كبير بعد دخوله على زوجته هاجر، الآيات [٤١- ٥٠].
٤- ثم تحدثت السورة عن قصة موسى ومناجاته ربه في الطور، وجعل أخيه هارون نبيا، الآيات [٥١- ٥٣].
٥- ثم أشارت إلى قصص إسماعيل الموصوف بصدق الوعد وإقامة الصلاة
47
وإيتاء الزكاة، وإدريس الصدّيق النبي، وما أنعم الله به على أولئك الأنبياء من ذرية آدم لإثبات وحدة الرسالة بدعوة الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك الآيات [٥٤- ٥٨]. وما سبق كله يشمل حوالي ثلثي السورة.
٦- قورن الخلف بالسلف، وبان الفرق بأن الخلف أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات، وجدد الوعد بجنات عدن لمن تاب وعمل صالحا [٥٩- ٦٣].
٧- ناسب ذلك الكلام عن الوحي، وأن جبريل لا ينزل بالوحي إلا بإذن ربه، الآيات [٦٤- ٦٥].
٨- ناقش الله المشركين الذين أنكروا البعث، وأخبر بحشر الكافرين مع الشياطين، وإحضارهم جثيا حول جهنم، وبأن جميع الخلق ترد على النار [٦٦- ٧٢].
٩- أبان الله تعالى موقف المشركين حين سماع القرآن من المؤمنين بأنهم خير منهم مجلسا ومجتمعا. وهددهم بأنه أهلك كثيرا من الأمم السابقة بسبب عتوهم واستكبارهم، وأنه يمدّ للظالمين ويمهلهم، ويزيد الهداية للمهتدين، وأن معبودات المشركين ستكون أعداء لهم [٧٣- ٨٤] وذلك كله لتنزيه الله عن الولد والشريك.
١٠- التمييز بين حشر وفد المتقين إلى الجنان، وسوق المجرمين إلى النيران [٨٥- ٨٧].
١١- التنديد بمن ادعى الولد لله، والرضا عن المؤمنين الصالحين، وأن القرآن لتبشير المتقين وإنذار الكافرين المعاندين [٨٨- ٩٨].
فضلها:
روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن
48
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي ودخل هذا الثري المترف بستانه ذا