ﰡ
مكية، وهي خمس وأربعون آية
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣)ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الكلام فيه كما مر في ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. والْمَجِيدِ ذو المجد والشرف على سائر الكتب، أو لأنه كلام المجيد، أو لأن من علم معانيه وامتثل أحكامه مجد.
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب، وهو أن ينذرهم أحد من جنسهم أو من أبناء جلدتهم. فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ حكاية لتعجبهم، وهذا إشارة إلى اختيار الله محمداً للرسالة، وإضمار ذكرهم ثم إظهاره للاشعار بتعنتهم بهذا المقال، ثم التسجيل على كفرهم بذلك أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من البعثة، والمبالغة فيه بوضع الظاهر موضع ضميرهم وحكاية تعجبهم مبهماً إن كانت الإِشارة إلى مبهم يفسره ما بعده، أو مجملا إن كانت الإِشارة إلى محذوف دل عليه منذر، ثم تفسيره أو تفصيله لأنه أدخل في الإنكار إذ الأول استبعاد لأن يفضل عليهم مثلهم، والثاني استقصار لقدرة الله تعالى عما هو أهون مما يشاهدون من صنعه.
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً أي أنرجع إذا متنا وصرنا تراباً، ويدل على المحذوف قوله: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي بعيد عن الوهم أو العادة أو الإِمكان. وقيل الرجع بمعنى المرجوع.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٤ الى ٥]
قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥)
قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ما تأكل من أجساد موتاهم، وهو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه، وقيل إنه جواب القسم واللام محذوف لطول الكلام. وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ حافظ لتفاصيل الأشياء كلها، أو محفوظ عن التغيير، والمراد إما تمثيل علمه بتفاصيل الأشياء بعلم من عنده كتاب محفوظ يطالعه، أو تأكيد لعلمه بها بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده.
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ يعني النبوة الثابتة بالمعجزات، أو النبي صلّى الله عليه وسلم، أو القرآن. لَمَّا جاءَهُمْ وقرئ «لمّا» بالكسر. فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب من مرج الخاتم في أصبعه إذا خرج، وذلك قولهم تارة أنه شاعِرٌ وتارة أنه ساحِرٌ وتارة أنه كاهن.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٦ الى ٨]
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨)
كَيْفَ بَنَيْناها رفعناها بلا عمد. وَزَيَّنَّاها بالكواكب. وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ فتوق بأن خلقها ملساء متلاصقة الطباق.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها. وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالاً ثوابت. وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي من كل صنف. بَهِيجٍ حسن.
تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنعه، وهما علتان للأفعال المذكورة معنى وإن انتصبتا عن الفعل الأخير.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٩ الى ١١]
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاء مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١)
وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاء مُبارَكاً كثير المنافع فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ أشجاراً وأثماراً. وَحَبَّ الْحَصِيدِ وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبر والشعير.
وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ طوالاً أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون من أفعل فهو فاعل، وإفرادها بالذكر لفرط ارتفاعها وكثرة منافعها. وقرئ «باصقات» لأجل القاف. لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر.
رِزْقاً لِلْعِبادِ علة ل أَنْبَتْنا أو مصدر، فإن الإِنبات رزق. وَأَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء. بَلْدَةً مَيْتاً أرضاً جدبة لا نماء فيها. كَذلِكَ الْخُرُوجُ كما حييت هذه البلدة يكون خروجكم أحياء بعد موتكم.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٢ الى ١٤]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ أراد بفرعون إياه وقومه ليلائم ما قبله وما بعده. وَإِخْوانُ لُوطٍ أخدانه لأنهم كانوا أصهاره.
وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ سبق في «الحجر» و «الدخان». كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي كل واحد أو قوم منهم أو جميعهم، وإفراد الضمير لإِفراد لفظه. فَحَقَّ وَعِيدِ فوجب وحل عليه وعيدي، وفيه تسلية للرسول ﷺ وتهديد لهم.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٥ الى ١٦]
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦)
أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أي أفعجزنا عن الإِبداء حتى نعجز عن الإِعادة، من عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله والهمزة فيه للإِنكار. بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أي هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأول بل هم في خلط، وشبهة في خلق مستأنف لما فيه من مخالفة العادة، وتنكير الخلق الجديد لتعظيم شأنه والإِشعار بأنه على وجه غير متعارف ولا معتاد.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ما تحدثه به نفسه وهو ما يخطر بالبال، والوسوسة الصوت الخفي ومنها وسواس الحلي، والضمير ل ما إن جعلت موصولة والباء مثلها في صوت بكذا، أو ل الْإِنْسانَ إن جعلت مصدرية والباء للتعدية. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أي ونحن أعلم بحاله ممن
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ مقدر باذكر أو متعلق ب أَقْرَبُ، أي هو أعلم بحاله من كل قريب حين يتلقى أي يتلقن الحفيظان ما يتلفظ به، وفيه إيذان بأنه غني عن استحفاظ الملكين فإنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما، لكنه لحكمة اقتضته وهي ما فيه من تشديد يثبط العبد عن المعصية، وتأكيد في اعتبار الأعمال وضبطها للجزاء وإلزام للحجة يوم يقوم الاشهاد. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي عَنِ الْيَمِينِ قعيد وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ، أي مقاعد كالجليس فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كقوله: فإنِّي وَقَيَّارٌ بها لغريب.
وقد يطلق الفعيل للواحد والمتعدد كقوله: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ.
مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ما يرمي به من فيه. إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ملك يرقب عمله. عَتِيدٌ معد حاضر، ولعله يكتب عليه ما فيه ثواب أو عقاب
وفي الحديث «كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر».
[سورة ق (٥٠) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠)
وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ لما ذكر استبعادهم البعث للجزاء وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه أعلمهم بأنهم يلاقون ذلك عن قريب عند الموت وقيام الساعة، ونبه على اقترابه بأن عبر عنه بلفظ الماضي، وسكرة الموت شدته الذاهبة بالعقل والباء للتعدية كما في قولك: جاء زيد بعمرو. والمعنى وأحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر أو الموعود الحق، أو الحق الذي ينبغي أن يكون من الموت أو الجزاء، فإن الإِنسان خلق له أو مثل الباء في تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ. وقرئ «سكرة الحق بالموت» على أنها لشدتها اقتضت الزهوق أو لاستعقابها له كأنها جاءت به، أو على أن الباء بمعنى مع. وقيل سَكْرَةُ الحق سكرة الله وإضافتها إليه للتهويل. وقرئ «سكرات الموت». ذلِكَ أي الموت. مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ تميل وتنفر عنه والخطاب للإِنسان.
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ يعني نفخة البعث. ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي وقت ذلك يوم تحقق الوعيد وإنجازه والإِشارة إلى مصدر نُفِخَ.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢)
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ملكان أحدهما يسوقه والآخر يشهد بعمله، أو ملك جامع للوصفين. وقيل السائق كاتب السيئات، والشهيد كاتب الحسنات. وقيل السائق نفسه أو قرينه والشهيد جوارحه أو أعماله، ومحل مَعَها النصب على الحال من كل لإِضافته إلى ما هو في حكم المعرفة.
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا على إضمار القول والخطاب لِكُلِّ نَفْسٍ إذ ما من أحد إلا وله اشتغال ما عن الآخرة أو للكفار. فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ الغطاء الحاجب لأمور المعاد، وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والإِلف بها وقصور النظر عليها. فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ نافذ لزوال المانع للأبصار. وقيل
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥)
وَقالَ قَرِينُهُ قال الملك الموكل عليه. هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا ما هو مكتوب عندي حاضر لدي، أو الشيطان الذي قيض له هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم هيأته لها باغوائي وإضلالي، وما إن جعلت موصوفة ف عَتِيدٌ صفتها وإن جعلت موصولة فبدلها أو خبر بعد خبر أو خبر محذوف.
أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد، أو لملكين من خزنة النار، أو لواحد وتثنية الفاعل منزل منزلة تثنية الفعل وتكريره كقوله:
فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِر | وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمٍ عِرْضاً مُمنعاً |
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للمال عن حقوقه المفروضة. وقيل المراد بالخير الإِسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لما منع بني أخيه عنه. مُعْتَدٍ متعد. مُرِيبٍ شاك في الله وفي دينه.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧)
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ مبتدأ متضمن معنى الشرط وخبره. فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ أو بدل من كُلَّ كَفَّارٍ فيكون فَأَلْقِياهُ تكريراً للتوكيد، أو مفعول لمضمر يفسره فَأَلْقِياهُ.
قالَ قَرِينُهُ أي الشيطان المقيض له، وإنما استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول فإنه جواب لمحذوف دل عليه. رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ كأن الكافر قال هو أطغاني ف قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ بخلاف الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها للدلالة على الجمع بين مفهوميهما في الحصول، أعني مجيء كل نفس مع الملكين وقول قرينه: وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ فأعنته عليه فإن إغواء الشياطين إنما يؤثر فيمن كان مختل الرأي مائلاً إلى الفجور كما قال: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)
قالَ أي الله تعالى. لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي في موقف الحساب فإنه لا فائدة فيه، وهو استئناف مثل الأول. وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ على الطغيان في كتبي وعلى ألسنة رسلي فلم يبق لكم حجة. وهو حال فيه تعليل للنهي أي لاَ تَخْتَصِمُوا عالمين بأني أوعدتكم، والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم، ويجوز أن يكون بِالْوَعِيدِ حالاً والفعل واقعاً على قوله:
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أي بوقوع الخلف فيه فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي. وعفو بعض المذنبين لبعض الأسباب ليس من التبديل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد. وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فأعذب من
[سورة ق (٥٠) : آية ٣٠]
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ سؤال وجواب جيء بهما للتخييل والتصوير، والمعنى أنها مع اتساعها تطرح فيها الجنة والناس فوجاً فوجا حتى تمتلئ لقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ، أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعد فراغ، أو أنها من شدة زفيرها وحدتها وتشبثها بالعصاة كالمستكثرة لهم والطالبة لزيادتهم. وقرأ نافع وأبو بكر يقول بالياء وال مَزِيدٍ إما مصدر كالمحيد أو مفعول كالمبيع، ويَوْمَ مقدر باذكر أو ظرف ل نُفِخَ فيكون ذلك إشارة إليه فلا يفتقر إلى تقدير مضاف.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣١ الى ٣٥]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ قربت لهم. غَيْرَ بَعِيدٍ مكاناً غير بعيد، ويجوز أن يكون حالاً وتذكيره لأنه صفة محذوف، أو شيئاً غير بعيد أو على زنة المصدر أو لأن الجنة بمعنى البستان.
هذا مَا تُوعَدُونَ على إضمار القول والإِشارة إلى الثواب أو مصدر أُزْلِفَتِ. وقرأ ابن كثير بالياء.
لِكُلِّ أَوَّابٍ رجاع إلى الله تعالى، بدل من «المتقين» بإعادة الجار. حَفِيظٍ حافظ لحدوده.
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ بدل بعد بدل أو بدل من موصوف أَوَّابٍ، ولا يجوز أن يكون في حكمه لأن مَنْ لا يوصف به أو مبتدأ خبره:
ادْخُلُوها على تأويل يقال لهم ادْخُلُوها، فإن من بمعنى الجمع وبالغيب حال من الفاعل أو المفعول، أو صفة لمصدر أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه وهو غائب، أو العقاب بعد غيب أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد. وتخصيص الرَّحْمنَ للإِشعار بأنهم يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويخافون عَذَابَهُ، أو بأنهم يخشون مع علمهم بسعة رحمته، ووصف القلب بالإِنابة إذ الاعتبار برجوعه إلى الله. بِسَلامٍ سالمين من العذاب وزوال النعم، أو مسلماً عليكم من الله وملائكته. ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ يوم تقدير الخلود كقوله:
فَادْخُلُوها خالِدِينَ.
لَهُمْ مَّا يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ وهو ما لا يخطر ببالهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
[سورة ق (٥٠) : آية ٣٦]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ قبل قومك. مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً قوة كعاد وثمود وفرعون. فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ فخرقوا في البلاد وتصرفوا فيها، أو جالوا في الأرض كل مجال حذر الموت، فالفاء على الأول للتسبب وعلى الثاني لمجرد التعقيب، وأصل التنقيب التنقير عن الشيء والبحث عنه. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي لهم من الله أو من الموت. وقيل الضمير في فَنَقَّبُوا لأهل مكة أي ساروا في أسفارهم في بلاد القرون فهل رأوا لهم محيضا حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم، ويؤيده أنه قرئ «فنقّبوا» على الأمر، وقرئ «فَنَقَّبُواْ» بالكسر من النقب وهو أن ينتقب خف البعير أي أكثروا السير حتى نقبت أقدامهم أو أخفاف مراكبهم.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣٧ الى ٣٨]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨)إِنَّ فِي ذلِكَ فيما ذكر في هذه السورة. لَذِكْرى لتذكرة. لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع يتفكر في حقائقه. أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي أصغى لاستماعه. وَهُوَ شَهِيدٌ حاضر بذهنه ليفهم معانيه، أو شاهد بصدقه فيتعظ بظواهره وينزجر بزواجره، وفي تنكير ال قَلْبٌ وإبهامه تفخيم وإشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر كلا قلب.
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مر تفسيره مراراً. وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ من تعب وإعياء، وهو رد لما زعمت اليهود من أنه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠)
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ ما يقول المشركون من إنكارهم البعث، فإن من قدر على خلق العالم بلا اعياء قدر على بعثهم والانتقام منهم، أو ما يقول اليهود من الكفر والتشبيه. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ونزهه عن العجز عما يمكن والوصف بما يوجب التشبيه حامداً له على ما أنعم عليك من إصابة الحق وغيرها. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ يعني الفجر والعصر وقد عرفت فضيلة الوقتين.
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي وسبحه بعض الليل. وَأَدْبارَ السُّجُودِ وأعقاب الصلوات جمع دبر من أدبر، وقرأ الحجازيان وحمزة وخلف بالكسر من أدبرت الصلاة إذا انقضت. وقيل المراد بالتسبيح الصلاة، فالصلاة قبل الطلوع: الصبح وقبل الغروب: الظهر، والعصر. ومن الليل: العشاءان، والتهجد. وأدبار السجود النوافل بعد المكتوبات، وقيل الوتر بعد العشاء.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣)
وَاسْتَمِعْ لما أخبرك به من أحوال القيامة، وفيه تهويل وتعظيم للمخبر به. يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ إسرافيل أو جبريل عليهما السلام فيقول: أيتها العظام البالية واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ بحيث يصل نداؤه إلى الكل على سواء، ولعله في الإِعادة نظير «كن» في الإِبداء، ويوم نصب بما دل عليه يوم الخروج.
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بدل منه والصَّيْحَةَ النفخة الثانية. بِالْحَقِّ متعلق ب الصَّيْحَةَ والمراد به البعث للجزاء. ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور، وهو من أسماء يوم القيامة وقد يقال للعيد.
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ في الدنيا. وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ للجزاء في الآخرة.
[سورة ق (٥٠) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥)
الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً مسرعين. ذلِكَ حَشْرٌ بعث وجمع. عَلَيْنا يَسِيرٌ هين، وتقديم الظرف للاختصاص فإن ذلك لا يتيسر إلا على العالم القادر لذاته الذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال الله تعالى:
مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتهديد لهم. وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ بمسلط تقسرهم على الإِيمان، أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت داع. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فإنه لا ينتفع به غيره.
عن النبي صلّى الله عليه وسلم «من قرأ سورة «ق» هون الله عليه تارات الموت وسكراته».
والله أعلم.