تفسير سورة يوسف

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
سورة يوسف مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية

﴿ تِلْكَ ﴾ إشارة إلى آيات السورة. و ﴿ الكتاب المبين ﴾ السورة، أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم. أو التي تبين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر. أو الواضحة التي لا تشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم. أو قد أبين فيها ما سألت عنه اليهود من قصة يوسف. فقد روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر ؟ وعن قصة يوسف.
﴿ أنزلناه ﴾ أنزلنا هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف في حال كونه ﴿ قُرْءاناً عَرَبِيّاً ﴾ وسمى بعض القرآن قرآناً، لأنّ القرآن اسم جنس يقع على كله وبعضه ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم ﴿ وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته ﴾ [ فصلت : ٤٤ ].
﴿ القصص ﴾ على وجهين : يكون مصدراً بمعنى الاقتصاص، تقول : قصّ الحديث يقصه قصصاً، كقولك : شله يشله شللاً، إذا طرده. ويكون «فعلا » بمعنى «مفعول » كالنفض والحسب. ونحوه النبأ والخبر : في معنى المنبأ به والمخبر به. ويجوز أن يكون من تسمية المفعول بالمصدر، كالخلق والصيد. وإن أريد المصدر، فمعناه : نحن نقص عليك أحسن القصص ﴿ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان ﴾ أي بإيحائنا إليك هذه السورة، على أن يكون أحسن منصوباً نصب المصدر، لإضافته إليه، ويكون المقصوص محذوفاً ؛ لأنّ قوله :﴿ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هذا القرءان ﴾ مغن عنه. ويجوز أن ينتصب هذا القرآن بنقصّ، كأنه قيل : نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إليك. والمراد بأحسن الاقتصاص : أنه اقتصّ على أبدع طريقة وأعجب أسلوب. ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتص في كتب الأولين وفي كتب التواريخ، وألا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارباً لاقتصاصه في القرآن. وإن أريد بالقصص المقصوص. فمعناه : نحن نقص عليك أحسن ما يقص من الأحاديث، وإنما كان أحسنه لما يتضمن من العبر والنكت والحكم والعجائب التي ليست في غيرها والظاهر أنه أحسن ما يقتص في بابه، كما يقال في الرجل : هو أعلم الناس وأفضلهم، يراد في فنه. فإن قلت : ممّ اشتقاق القصص ؟ قلت : من قصّ أثره إذا اتبعه، لأنّ الذي يقصّ الحديث يتبع ما حفظ منه شيئاً فشيئاً، كما يقال : تلا القرآن، إذا قرأه، لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية ﴿ وَإِن كُنتُ ﴾ إن مخففة من الثقيلة. واللام هي التي تفرق بينها وبين النافية. والضمير في ﴿ قَبْلِهِ ﴾ راجع إلى قوله : ما أوحينا والمعنى : وإنّ الشأن والحديث كنت من قبل إيحائنا إليك من الغافلين عنه، أي : من الجاهلين به، ما كان لك فيه علم قط ولا طرق سمعك طرف منه.
﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ ﴾ بدل من أحسن القصص، وهو من بدل الاشتمال، لأن الوقت مشتمل على القصص وهو المقصوص، فإذا قصَّ وقته فقد قص. أو بإضمار «اذكر » ويوسف اسم عبراني، وقيل عربي وليس بصحيح ؛ لأنه لو كان عربياً لانصرف لخلوّه عن سبب آخر سوى التعريف. فإن قلت : فما تقول فيمن قرأ :«يوسِف » بكسر السين، أو «يوسَف » بفتحها، هل يجوز على قراءته أن يقال «هو عربي » لأنه على وزن المضارع المبني للفاعل أو المفعول من آسف. وإنما منع الصرف للتعريف ووزن الفعل ؟ قلت : لا ؛ لأنّ القراءة المشهورة قامت بالشهادة، على أن الكلمة أعجمية، فلا تكون عربية تارة وأعجمية أخرى، ونحو يوسف : يونس، رويت فيه هذه اللغات الثلاث ولا يقال هو عربي لأنه في لغتين منها بوزن المضارع من آنس وأونس. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا قيل : من الكريم ؟ فقولوا : الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم " ﴿ يا أبت ﴾ قرىء بالحركات الثلاث. فإن قلت : ما هذه التاء ؟ قلت : تاء تأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة، والدليل على أنها تاء تأنيث قلبها هاء في الوقف. فإن قلت : كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكر ؟ قلت : كما جاز نحو قولك : حمامة ذكر وشاة ذكر، ورجل ربعة، وغلام يفعة. فإن قلت : فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة ؟ قلت : لأنّ التأنيث والإضافة يتناسبان في أنّ كل واحد منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره. فإن قلت فما هذه الكسرة ؟ قلت : هي الكسرة التي كانت قبل الياء في قولك : يا أبي، قد زحلقت إلى التاء، لاقتضاء تاء التأنيث أن يكون ما قبلها مفتوحاً : فإن قلت : فما بال الكسرة لم تسقط بالفتحة التي اقتضتها التاء وتبقى التاء ساكنة ؟ قلت : امتنع ذلك فيها، لأنها اسم، والأسماء حقها التحريك لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكين الياء وأصلها أن تحرّك تخفيفاً، لأنها حرف لين. وأما التاء فحرف صحيح نحو كاف الضمير، فلزم تحريكها. فإن قلت : يشبه الجمع بين التاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوّض منه، لأنها في حكم الياء، إذا قلت : يا غلام، فكما لا يجوز «يا أبتي » لا يجوز «يا أبت ». قلت الياء والكسرة قبلها شيآن والتاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء والكسرة غير متعرض لها، فلا يجمع بين العوض والمعوض منه، إلا إذا جمع بين التاء والياء لا غير. ألا ترى إلى قولهم «يا أبتا » مع كون الألف فيه بدلا من التاء، كيف جاز الجمع بينها وبين التاء، ولم يعد ذلك جمعاً بين العوض والمعوّض منه، فالكسرة أبعد من ذلك.
فإن قلت : فقد دلت الكسرة في يا غلام على الإضافة ؛ لأنها قرينة الياء ولصيقتها. فإن دلت على مثل ذلك في «يا أبت » فالتاء المعوّضة لغو : وجودها كعدمها. قلت : بل حالها مع التاء كحالها مع الياء إذا قلت يا أبي. فإن قلت : فما وجه من قرأ بفتح التاء وضمها ؟ قلت : أما من فتح فقد حذف الألف من «يا أبتا » واستبقى الفتحة قبلها، كما فعل من حذف الياء في «يا غلام » ويجوز أن يقال : حركها بحركة الباء المعوض منها في قولك «يا أبي ». وأما من ضم فقد رأى اسماً في آخره تاء تأنيث، فأجراه مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء فقال :«يا أبت » كما تقول «ياتبة » من غير اعتبار لكونها عوضاً من ياء الإضافة، وقرىء :«إني رأيت » بتحريك الياء. «وأحد عشر » بسكون العين، تخفيفاً لتوالي المتحركات فيما هو في حكم اسم واحد، وكذا إلى تسعة عشر، إلا اثني عشر لئلا يلتقي ساكنان، ورأيت من الرؤيا، لا من الرؤية، لأنَّ ما ذكره معلوم أنه منام ؛ لأنّ الشمس والقمر لو اجتمعا مع الكواكب ساجدة ليوسف في حال اليقظة، لكانت آية عظيمة ليعقوب عليه السلام، ولما خفيت عليه وعلى الناس. فإن قلت : ما أسماء تلك الكواكب ؟ قلت :
روى جابر أنّ يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد، أخبرني عن النجوم التي رآهنّ يوسف، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي «إن أخبرتك هل تسلم » ؟ قال : نعم. قال :«جريان، والطارق، والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروح، والفرغ، ووثاب، وذو الكتفين رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له » فقال اليهودي : إي والله، إنها لأسماؤها.
وقيل : الشمس والقمر أبواه. وقيل : أبوه وخالته. والكواكب : إخوته وعن وهب أنّ يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أنّ إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة، وإذا عصا صغير تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها، فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له، فقصها على أبيه فقال له : لا تقصها عليهم، فيبغوا لك الغوائل. وقيل : كان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة. وقيل : ثمانون. فإن قلت لم أخر الشمس والقمر ؟ قلت : أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص، بياناً لفضلهما واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع، كما أخر جبريل، وميكائيل عن الملائكة، ثم عطفهما عليها لذلك، ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أي : رأيت الكواكب مع الشمس والقمر. فإن قلت : ما معنى تكرار رأيت قلت : ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جواباً له، كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله :﴿ إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا ﴾ كيف رأيتها سائلاً عن حال رؤيتها ؟ فقال :﴿ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ ﴾ فإن قلت : فلم أجريت مجرى العقلاء في رأيتهم لي ساجدين ؟ قلت : لأنه لما وصفها بما هو خاص بالعقلاء وهو السجود. أجرى عليها حكمهم، كأنها عاقلة، وهذا كثير شائع في كلامهم، أن يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه، فيعطى حكماً من أحكامه إظهاراً لأثر الملابسة والمقاربة.
عرف يعقوب عليه السلام دلالة الرؤيا على أن يوسف يبلغه الله مبلغاً من الحكمة، ويصطفيه للنبوّة، وينعم عليه بشرف الدارين، كما فعل بآبائه، فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم، والرؤيا بمعنى الرؤية ؛ إلا أنها مختصة بما كان منها في المنام دون اليقظة، فرق بينهما بحرفي التأنيث كما قيل : القربة والقربى. وقرىء :«روياك » بقلب الهمزة واواً. وسمع الكسائي :«رُيَّاك » و «رِيَّاك » بالإدغام وضم الراء وكسرها، وهي ضعيفة ؛ لأنّ الواو في تقدير الهمزة فلا يقوى إدغامها كما لم يقو الإدغام في قولهم «اتزر » من الإزار، و «اتجر » من الأجر ﴿ فَيَكِيدُواْ ﴾ منصوب بإضمار «أن » والمعنى : إن قصصتها عليهم كادوك : فإن قلت : هلا قيل : فيكيدوك، كما قيل : فكيدوني ؟ قلت : ضمن معنى فعل يتعدى باللام، ليفيد معنى فعل الكيد، مع إفادة معنى الفعل المضمن، فيكون آكد وأبلغ في التخويف، وذلك نحو : فيحتالوا لك. ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر ﴿ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ ظاهر العداوة لما فعل بآدم وحواء، ولقوله ﴿ لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم ﴾ [ الأعراف : ١٦ ] فهو يحمل على الكيد والمكر وكل شرّ، ليورّط من يحمله، ولا يؤمن أن يحملهم على مثله.
﴿ وكذلك ﴾ ومثل ذلك الأجتباء ﴿ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ يعني وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبرياء شأن، كذلك يجتبيك ربك لأمور عظام. وقوله ﴿ وَيُعَلّمُكَ ﴾ كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه، كأنه قيل : وهو يعلمك ويتمّ نعمته عليك. والاجتباء، الاصطفاء، افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك، وجبيت الماء في الحوض : جمعته. والأحاديث : الرؤيا : لأنّ الرؤيا إما حديث نفس أو ملك أو شيطان. وتأويلها عبارتها وتفسيرها، وكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا، وأصحهم عبارة لها. ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسنن الأنبياء، وما غمض واشتبه على الناس من أغراضها ومقاصدها، يفسرها لهم ويشرحها ويدلهم على مودعات حكمها. وسميت أحاديث ؛ لأنه يحدث بها عن الله ورسله. فيقال : قال الله وقال الرسول كذا وكذا. ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٥ ]، ﴿ الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث ﴾ [ الزمر : ٢٣ ] وهو اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة. ومعنى إتمام النعمة عليهم أنه وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، بأن جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكاً. ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا في الجنة. وقيل : أتمها على إبراهيم بالخلة، والإنجاء من النار، ومن ذبح الولد. وعلى إسحاق بإنجائه من الذبح، وفدائه بذبح عظيم، وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه. وقيل : علم يعقوب أنّ يوسف يكون نبياً وإخوته أنبياء استدلالا بضوء الكواكب، فلذلك قال ﴿ وعلى ءالِ يَعْقُوبَ ﴾ وقيل : لما بلغت الرؤيا إخوة يوسف حسدوه وقالوا : ما رضي أن سجد له إخوته حتى سجد له أبواه.
وقيل : كان يعقوب مؤثراً له بزيادة المحبة والشفقة لصغره ولما يرى فيه من المخايل وكان إخوته يحسدونه فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة فكان يضمه كل ساعة إلى صدره ولا يصبر عنه، فتبالغ فيهم الحسد. وقيل : لما قص رؤياه على يعقوب قال : هذا أمر مشتت يجمع الله لك بعد دهر طويل. وآل يعقوب. أهله وهم نسله وغيرهم. وأصل آل : أهل، بدليل تصغيره على أُهَيل، إلا أنه لا يستعمل إلا فيمن له خطر. يقال : آل النبي، وآل الملك. ولا يقال : آل الحائك، ولا آل الحجام، ولكن أهلهما. وأراد بالأبوين : الجد، وأبا الجد ؛ لأنهما في حكم الأب في الأصالة. ومن ثم يقولون : ابن فلان، وإن كان بينه وبين فلان عدّة. و ﴿ إبراهيم وإسحاق ﴾ عطف بيان لأبويك ﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ ﴾ يعلم من يحق له الاجتباء ﴿ حَكِيمٌ ﴾ لا يتم نعمته إلا على من يستحقها.
﴿ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ ﴾ أي في قصتهم وحديثهم ﴿ ءايات ﴾ علامات ودلائل على قدرة الله وحكمته في كل شيء ﴿ لّلسَّائِلِينَ ﴾ لمن سأل عن قصتهم وعرفها. وقيل آيات على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب. وقرىء :«آية »، وفي بعض المصاحف : عبرة، وقيل : إنما قص الله تعالى على النبي عليه الصلاة والسلام خبر يوسف وبغي إخوته عليه، لما رأى من بغي قومه عليه ليتأسى به. وقيل أساميهم : يهوذا : وروبيل، وشمعون، ولاوي، وربالون، ويشجر، ودينة، ودان، ونفتالي، وجاد، وآشر : السبعة الأولون كانوا من ليا بنت خالة يعقوب، والأربعة الآخرون من سريتين : زلفة، وبلهة. فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل، فولدت له بنيامين ويوسف.
﴿ لِيُوسُفَ ﴾ اللام للابتداء. وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة. أرادوا أنّ زيادة محبته لهما أمر ثابت لا شبهة فيه ﴿ وَأَخُوهُ ﴾ هو بنيامين. وإنما قالوا أخوه وهم جيمعاً إخوته، لأنّ أمّهما كانت واحدة. وقيل ﴿ أَحَبُّ ﴾ في الاثنين، لأن أفعل من لا يفرّق فيه بين الواحد وما فوقه، ولا بين المذكر والمؤنث إذا كان معه «من » ولا بد من الفرق مع لام التعريف، وإذا أضيف جاز الأمران. والواو في ﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ واو الحال. يعني : أنه يفضلهما في المحبة علينا، وهما اثنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة عشرة رجال كفأة نقوم بمرافقه، فنحن أحقّ بزيادة المحبة منهما، لفضلنا بالكثرة والمنفعة عليهما ﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضلال مُّبِينٍ ﴾ أي في ذهاب عن طريق الصواب في ذلك. والعصبة والعصابة : العشرة فصاعداً. وقيل : إلى الأربعين، سموا بذلك لأنهم جماعة تعصب بهم الأمور ويستكفون النوائب. وروى النزال بن سبرة عن عليّ رضي الله عنه :«ونحن عصبة »، بالنصب. وقيل : معناه ونحن نجتمع عصبة. وعن ابن الأنباري هذا كما تقول العرب ؛ إنما العامري عمته، أي يتعهد عمته.
﴿ اقتلوا يُوسُفَ ﴾ من جملة ما حكى بعد قوله : إذ قالوا : كأنهم أطبقوا على ذلك إلا من قال ﴿ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ ﴾ وقيل : الآمر بالقتل شمعون، وقيل : دان، والباقين كانوا راضين، فجعلوا آمرين ﴿ أَرْضًا ﴾ أرضاً منكورة مجهولة بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الوصف، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة ﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ﴾ يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم. والمراد : سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها، فكان ذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم ؛ لأنّ الرجل إذا أقبل على الشيء أقبل بوجهه. ويجوز أن يراد بالوجه الذات، كما قال تعالى :﴿ ويبقى وَجْهُ رَبّكَ ﴾ [ الرحمن : ٢٧ ] وقيل ﴿ يَخْلُ لَكُمْ ﴾ يفرغ لكم من الشغل بيوسف ﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ من بعد يوسف، أي من بعد كفايته بالقتل أو التغريب، أو يرجع الضمير إلى مصدر اقتلوا أو اطرحوا ﴿ قَوْمًا صالحين ﴾ تائبين إلى الله مما جنيتم عليه. أو يصلح ما بينكم وبين أبيكم بعذر تمهدونه. أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم بعده بخلوّ وجه أبيكم. و ﴿ تَكُونُواْ ﴾ إمّا مجزوم عطفاً على ﴿ يَخْلُ لَكُمْ ﴾ أو منصوب بإضمار أن والواو بمعنى مع، كقوله :﴿ وَتَكْتُمُواْ الحق ﴾ [ البقرة : ٤٢ ].
﴿ قَائِلٌ مّنْهُمْ ﴾ هو يهوذا، وكان أحسنهم فيه رأيا. وهو الذي قال : فلن أبرح الأرض. قال لهم : القتل عظيم ﴿ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب ﴾ وهي غوره وما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله. قال المنخل :
وَإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي فَسِيرُوا بِسَيْرِي في الْعَشِيرَةِ والأَهْلِ
أراد غيابة حفرته التي يدفن فيها. وقرىء :«غيابات » على الجمع. و «غيابات » بالتشديد. وقرأ الجحدري «غيبة » والجب : البئر لم تطو، لأن الأرض تجبّ جباً لا غير ﴿ يَلْتَقِطْهُ ﴾ يأخذه بعض السيارة بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق. وقرىء :«تلتقطه » بالتاء على المعنى ؛ لأنّ بعض السيارة سيارة، كقوله :
كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ ***
ومنه : ذهبت بعض أصابعه ﴿ إِن كُنتُمْ فاعلين ﴾ إن كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم، فهذا هو الرأي.
﴿ مالك لاَ تَأْمَنَّا ﴾ قريء بإظهار النونين، وبالإدغام بإشمام وبغير إشمام. و «تيمنا » بكسر التاء مع الإدغام. والمعنى : لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه ؟ وما وجد منا في بابه ما يدل على خلاف النصيحة والمقة وأرادوا بذلك لما عزموا على كيد يوسف استنزاله عن رأيه وعادته في حفظه منهم. وفيه دليل على أنه أحسّ منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه.
﴿ نرتع ﴾ نتسع في أكل الفواكه وغيرها. وأصل الرتعة : الخصب والسعة. وقرىء :«نرتع » من ارتعى يرتعي. وقرىء :«يرتع ويلعب » بالياء، ويرتع، من أرتع ماشيته. وقرأ العلاء بن سيابة : يرتع بكسر العين، ويلعب، بالرفع على الابتداء. فإن قلت : كيف استجاز لهم يعقوب عليه السلام اللعب ؟ قلت : كان لعبهم الاستباق والانتضال. ليضروا أنفسهم بما يحتاج إليه لقتال العدوّ لا للهو، بدليل قوله ﴿ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ﴾ [ يوسف : ١٧ ] وإنما سموه لعباً لأنه في صورته.
﴿ لَيَحْزُنُنِى ﴾ اللام لام الابتداء، كقوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ﴾ [ النحل : ١٢٤ ] ودخولها أحد ما ذكره سيبويه من سبي المضارعة. اعتذر إليهم بشيئين، أحدهما : أنّ ذهابهم به ومفارقته إياه مما يحزنه، لأنه كان لا يصبر عنه ساعة. والثاني : خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم، أوقلّ به اهتمامهم ولم تصدق بحفظه عنايتهم. وقيل : رأى في النوم أنّ الذئب قد شدّ على يوسف فكان يحذره، فمن ثم قال ذلك فلقنهم العلة، وفي أمثالهم : البلاء موكل بالمنطق. وقرىء :«الذئب » بالهمزة على الأصل وبالتخفيف. وقيل : اشتقاقه من تذاءبت الريح إذا أتت من كل جهة.
القسم محذوف تقديره : والله ﴿ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب ﴾ واللام موطئة للقسم. وقوله :﴿ إِنَّا إِذَا لخاسرون ﴾ جواب للقسم مجزىء عن جزاء الشرط، والواو في ﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ واو الحال : حلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم - وحالهم أنهم عشرة رجال، بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب - إنهم إذاً لقوم خاسرون، أي هالكون ضعفاً وخوراً وعجزاً. أو مستحقون أن يهلكوا لأنه لا غناء عندهم ولا جدوى في حياتهم. أو مستحقون لأن يدعي عليهم بالخسارة والدّمار، وأن يقال : خسرهم الله ودمّرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون. وقيل : إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشنا إذاً وخسرناها فإن قلت : قد اعتذر إليهم بعذرين، فلم أجابوا عن أحدهما دون الآخر ؟ قلت : هو الذي كان يغيظهم ويذيقهم الأمّرين فأعاروه آذاناً صما ولم يعبؤوا به.
﴿ أَن يَجْعَلُوهُ ﴾ مفعول ﴿ أَجْمَعُواْ ﴾ من قولك : أجمع الأمر وأزمعه ﴿ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ ﴾ [ يونس : ٧١ ]. وقرىء :«في غيابات » الجب : وقيل هو بئر بيت المقدس. وقيل : بأرض الأردنّ وقيل : بين مصر ومدين. وقيل : على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. وجواب «لما » محذوف. ومعناه : فعلوا به ما فعلوا من الأذى، فقد روي أنهم لما برزوا به إلى البرّية أظهروا له العدواة وأخذوا يهنونه ويضربونه، وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب، حتى كادوا يقتلونه. فجعل يصيح : يا أبتاه، لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء، فقال يهوذا : أما أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه ؟ فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده، فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال : يا إخوتاه، ردّوا عليّ قميصي أتوارى به، وإنما نزعوه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم، فقالوا له : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك، ودلوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي، فنادوه فظنّ أنها رحمة أدركتهم، فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا، وكان يهوذا يأتيه بالطعام. ويروى أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وجرّد عن ثيابه أتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، وإسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف، فجاء جبريل فأخرجه وألبسه إياه ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ ﴾ قيل أُوحي إليه في الصغر كما أُوحي إلى يحيى وعيسى : وقيل كان إذا ذاك مدركاً. وعن الحسن : كان له سبع عشرة سنة ﴿ لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا ﴾ وإنما أُوحي إليه ليؤنس في الظلمة والوحشة، ويبشر بما يؤول إليه أمره. ومعناه : لتتخلصن مما أنت فيه، ولتحدّثن إخوتك بما فعلوا بك ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ أنك يوسف لعلوّ شأنك وكبرياء سلطانك، وبعد حالك عن أوهامهم، ولطول العهد المبدّل للهيئات والأشكال، وذلك أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون، دعا بالصواع فوضعه على يده، ثم نقره فطنّ فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف، وكان يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب، وقلتم لأبيكم : أكله الذئب، وبعتموه بثمن بخس. ويجوز أن يتعلق ﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ بقوله ﴿ وَأَوْحَيْنَا ﴾ على أنا آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوحشة، وهم لا يشعرون ذلك ويحسبون أنه مرهق مستوحش لا أنيس له وقرىء :«لننبئنهم » بالنون على أنه وعيد لهم. وقوله :﴿ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ متعلق بأوحينا لا غير.
وعن الحسن «عشيا » على تصغير عشيّ يقال : لقيته عشيا وعشياناً، وأصيلا وأصيلاناً ورواه ابن جني : عشى، بضم العين والقصر. وقال عشوا من البكاء. وروي أن امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال له الشعبي : يا أبا أمية، أما تراها تبكي ؟ فقال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة : ولا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية. وروي أنه لما سمع صوتهم فزع وقال : ما لكم يا بنيّ ؟ هل أصابكم في غنمكم شيء ؟ قالوا : لا. قال : فما لكم وأين يوسف ؟
﴿ قَالُواْ يأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ ﴾ أي نتسابق، والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل : والارتماء والترامي، وغير ذلك. والمعنى : نتسابق في العدو أو في الرمي. وجاء في التفسير : ننتضل ﴿ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا ﴾ بمصدّق لنا ﴿ وَلَوْ كُنَّا صادقين ﴾ ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة، لشدّة محبتك ليوسف، فكيف وأنت سيء الظن بنا، غير واثق بقولنا.
﴿ بِدَمٍ كَذِبٍ ﴾ ذي كذب. أو وصف بالمصدر مبالغة، كأنه نفس الكذب وعينه، كما يقال للكذاب : هو الكذب بعينه، والزور بذاته. ونحوه.
فَهُنَّ بِهِ جُودٌ وَأنْتُمْ بِهِ بُخْلُ ***
وقرىء :«كذباً » نصباً على الحال، بمعنى جاءوا به كاذبين، ويجوز أن يكون مفعولاً له. وقرأت عائشة رضي الله عنها : كدب، بالدال غير المعجمة، أي كدر. وقيل : طري، وقال ابن جني : أصله من الكدب وهو الفوف : البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث. كأنه دم قد أثر في قميصه. روي أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها، وزلّ عنهم أن يمزقوه. وروي أنّ يعقوب لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال : أين القميص ؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا، أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه. وقيل كان في قميص يوسف ثلاث آيات : كان دليلاً ليعقوب على كذبهم، وألقاه على وجهه فارتد بصيراً، ودليلا على براءة يوسف حين قدّ من دبر. فإن قلت :﴿ على قَمِيصِهِ ﴾ ما محله ؟ قلت : محله النصب على الظرف، كأنه قيل : وجاءوا فوق قميصه بدم كما تقول : جاء على جماله بأحمال. فإن قلت : هل يجوز أن تكون حالا متقدمة ؟ قلت : لا، لأنّ حال المجرور لا تتقدم عليه ﴿ سَوَّلَتْ ﴾ سهلت من السول وهو الاسترخاء، أي : سهلت ﴿ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ﴾ عظيماً ارتكبتموه من يوسف وهوّنته في أعينكم : استدل على فعلهم به بما كان يعرف من حسدهم وبسلامة القميص. أو أُوحي إليه بأنهم قصدوه ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ خبر أو مبتدأ لكونه موصوفاً أي فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أمثل، وفي قراءة أبيّ :«فصبراً جميلاً » والصبر الجميل جاء في الحديث المرفوع :[ «أنه الذي لا شكوى فيه » ومعناه الذي لا شكوى فيه إلى الخلق. ] ألا ترى إلى قوله :﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله ﴾ [ يوسف : ٨٦ ] وقيل : لا أعايشكم على كآبة الوجه، بل أكون لكم كما كنت وقيل : سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة، فقيل له : ما هذا ؟ فقال : طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله تعالى إليه : يا يعقوب أتشكوني ؟ قال : يا رب. خطيئة فاغفرها لي ﴿ والله المستعان ﴾ أي أستعينه ﴿ على ﴾ احتمال ﴿ مَا تَصِفُونَ ﴾ من هلاك يوسف والصبر على الرزء فيه.
﴿ وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ ﴾ رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر، وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب، فأخطئوا الطريق فنزلوا قريباً منه، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران لم يكن إلا للرعاة. وقيل : كان ماؤها ملحاً. فعذب حين ألقي فيه يوسف ﴿ فَأَرْسَلُواْ ﴾ رجلا يقال له مالك ابن ذعر الخزاعي، ليطلب لهم الماء. والوارد : الذي يرد الماء ليستقي للقوم ﴿ يا بشرى ﴾ نادى البشرى، كأنه يقول : تعالى، فهذا من آونتك وقرىء :«يا بشراي » على إضافتها إلى نفسه. وفي قراءة الحسن وغيره :«يا بشري » بالياء مكان الألف، جعلت الياء بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة وهي لغة للعرب مشهورة سمعت أهل السروات يقولون في دعائهم : يا سيدي ومولي. وعن نافع : يا بشراي بالسكون، وليس بالوجه لما فيه من التقاء الساكنين على غير حدّه، إلا أن يقصد الوقف. وقيل : لما أدلى دلوه أي أرسلها في الجب تعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون، فقال : يا بشراي ﴿ هذا غُلاَمٌ ﴾ وقيل : ذهب به، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به ﴿ وَأَسَرُّوهُ ﴾ الضمير للوارد وأصحابه : أخفوه من الرفقة. وقيل : أخفوا أمره ووجدانهم له في الجب، وقالوا لهم : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وعن ابن عباس أنّ الضمير لإخوة يوسف، وأنهم قالوا للرفقة هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه. و ﴿ بضاعة ﴾ نصب على الحال، أي : أخفوه متاعاً للتجارة. والبضاعة : ما بضع من المال للتجارة أي قطع ﴿ والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ لم يخف عليه أسرارهم، وهو وعيد لهم حيث استبضعوا ما ليس لهم. أو : والله عليم بما يعمل إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنيع.
﴿ وَشَرَوْهُ ﴾ وباعوه ﴿ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ﴾ مبخوس ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً، أو زيف ناقص العيار ﴿ دراهم ﴾ لا دنانير ﴿ مَّعْدُودَةً ﴾ قليلة تعدّ عدّاً ولا توزن، لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية وهي الأربعون، ويعدّون ما دونها. وقيل للقليلة معدودة ؛ لأنّ الكثيرة يمتنع من عدّها لكثرتها. وعن ابن عباس : كانت عشرين درهماً. وعن السدي : اثنين وعشرين ﴿ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين ﴾ ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بم باعه، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أوّل مساوم بأوكس الثمن. ويجوز أن يكون معنى ﴿ وَشَرَوْهُ ﴾ واشتروه، يعني الرفقة من إخوته ﴿ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزهدين ﴾ لأنهم اعتقدوا أنه آن فخافوا أن يخطروا بما لهم فيه. ويروى أنّ إخوته اتبعوهم يقولون لهم : استوثقوا منه لا يأبق. وقوله :﴿ فِيهِ ﴾ ليس من صلة ﴿ الزاهدين ﴾ لأنّ الصلة لا تتقدّم على الموصول. ألا تراك لا تقول : وكانوا زيداً من الضاربين، وإنما هو بيان، كأنه قيل : في أي شيء زهدوا ؟ فقال : زهدوا فيه.
﴿ الذى اشتراه ﴾ قيل هو قطفير أو أطفير، وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، والملك يؤمئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف، فملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف إلى الإسلام فأبى، واشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره ريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة بدليل قوله :﴿ وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات ﴾ [ غافر : ٣٤ ] وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف. وقيل : اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين. وقيل : أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه، حتى بلغ ثمنه وزنه مسكاً وورقاً وحريراً، فابتاعه قطفير بذلك المبلغ ﴿ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ ﴾ اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً، أي حسناً مرضياً، بدليل قوله ﴿ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ ﴾ [ يوسف : ٢٣ ] والمراد تفقديه بالإحسان وتعهديه بحسن الملكة، حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا، ساكنة في كنفنا. ويقال للرجل : كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل به من رجل أو امرأة، يراد : هل تطيب نفسك بثوائك عنده، وهل يراعى حق نزولك به. واللام في ﴿ لاِمْرَأَتِهِ ﴾ متعلقة بقال، لا باشتراه ﴿ عسى أَن يَنفَعَنَا ﴾ لعله إذا تدرّب وراض الأمور وفهم مجاريها، نستظهر به على بعض ما نحن بسبيله، فينفعنا فيه بكفايته وأمانته. أو نتبناه ونقيمه مقام الولد، وكان قطفير عقيماً لا يولد له، وقد تفرس فيه الرشد فقال ذلك. وقيل : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرس في يوسف، فقال لامرأته ﴿ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَا ﴾ والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها ﴿ يا أبت استجره ﴾ [ القصص : ٢٦ ] وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما. وروي أنه سأله عن نفسه، فأخبره بنسبه فعرفه ﴿ وكذلك ﴾ الإشارة إلى ما تقدّم من إنجائه وعطف قلب العزيز عليه، والكاف منصوب تقديره : ومثل ذلك الإنجاء والعطف ﴿ مَكَّنَّا ﴾ له، أي : كما أنجيناه وعطفنا عليه العزيز، كذلك مكنا له في أرض مصر وجعلناه ملكاً يتصرف فيها بأمره ونهيه ﴿ وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ﴾ كان ذلك الإنجاء والتمكين لأنّ غرضنا ليس إلا ما تحمد عاقبته من علم وعمل ﴿ والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ ﴾ على أمر نفسه : لا يمنع عما يشاء ولا ينازع ما يريد ويقضي. أو على أمر يوسف يدبره لا يكله إلى غيره، قد أراد إخوته به ما أرادوا، ولم يكن إلا ما أراد الله ودبره ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أن الأمر كله بيد الله.
قيل في الأشدّ : ثماني عشرة، وعشرون، وثلاث وثلاثون، وأربعون. وقيل : أقصاه ثنتان وستون ﴿ حُكْمًا ﴾ حكمة وهو العلم بالعمل واجتناب ما يجهل فيه. وقيل : حكما بين الناس وفقها ﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين ﴾ تنبيه على أنه كان محسناً في عمله، متقياً في عنفوان أمره، وأنّ الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه. وعن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.
المراودة : مفاعلة، من راد يرود إذا جاء وذهب، كأن المعني : خادعته عن نفسه، أي : فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه، وهي عبارة عن التحمل لمواقعته إياها ﴿ وَغَلَّقَتِ الأبواب ﴾ قيل : كانت سبعة. وقرىء :«هَيت » بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء، وبناؤها كبناء أين، وعيط. وهيت كجير وهيت كحيث. وهئت بمعنى تهيأت يقال : هاء يهيء، كجاء يجيء : إذا تهيأ. وهيئت لك واللام من صلة الفعل وأما في الأصوات فللبيان كأنه قيل : لك أقول هذا، كما تقول : هلم لك ﴿ مَعَاذَ الله ﴾ أعوذ بالله معاذاً ﴿ إِنَّهُ ﴾ إن الشأن والحديث ﴿ ربى ﴾ سيدي ومالكي، يريد قطفير ﴿ أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ ﴾ حين قال لك أكرمي مثواه، فما جزاؤه أن أخلفه في أهله سوء الخلافة وأخونه فيهم ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون ﴾ الذين يجازون الحسن بالسيئ. وقيل : أراد الزناة لأنهم ظالمون أنفسهم. وقيل : أراد الله تعالى، لأنه مسبب الأسباب.
همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه، قال :
همَمْتُ وَلَمْ أفعل وَكِدْتُ وَلَيْتَنِي*** تَرَكْتُ عَلَى عُثْمانَ تَبْكي حَلاَئِلُهْ
ومنه قولك : لا أفعل ذلك ولا كيداً ولا هماً. أي ولا أكاد أن أفعله كيداً، ولا أهم بفعله هماً، حكاه سيبويه، ومنه : الهمام وهو الذي إذا همّ بأمر أمضاه ولم ينكل عنه. وقوله :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ﴾ معناه. ولقد همت بمخالطته ﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ وهمّ بمخالطتها ﴿ لَوْلا أَن رأى بُرْهَانَ رَبّهِ ﴾ جوابه محذوف، تقديره : لولا أن رأى برهان ربه لخالطها، فحذف ؛ لأنّ قوله :﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ يدل عليه، كقولك : هممت بقتله لولا أني خفت الله، معناه لولا أني خفت الله [ لقتلته ]. فإن قلت : كيف جاز على نبيّ الله أن يكون منه هم بالمعصية وقصدٌ إليها ؟ قلت المراد أنّ نفسه مالت إلى المخالطة ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقرمه ميلاً يشبه الهم به والقصد إليه، وكما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم. وهو يكسر ما به ويردّه بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هماً لشدّته لما كان صاحبه ممدوحاً عند الله بالامتناع ؛ لأن استعظام الصبر على الابتلاء، على حسب عظم الابتلاء وشدته. ولو كان همه كهمها عن عزيمة، لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين. ويجوز أن يريد بقوله :﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ وشارف أن يهم بها، كما يقول الرجل : قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل ومشافهته. كأنه شرع فيه فإن قلت : قوله ﴿ وَهَمَّ بِهَا ﴾ داخل تحت حكم القسم في قوله :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ﴾ أم هو خارج منه ؟ قلت : الأمران جائزان. ومن حق القارىء إذا قدّر خروجه من حكم القسم وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ﴾ ويبتدىء قوله :﴿ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ ﴾ وفيه أيضاً إشعار بالفرق بين الهمين. فإن قلت : لم جعلت جواب لولا محذوفاً يدل عليه هم بها وهلا جعلته هو الجواب مقدماً فإن قلت : لأن لولا لا يتقدم عليها جوابها، من قبل أنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام وهو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض. وأما حذف بعضها إذا دلّ الدليل عليه فجائز، فإن قلت : فلم جعلت «لولا » متعلقة بهمّ بها وحده ولم تجعلها متعلقة بجملة قوله :﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ لأن الهمّ لا يتعلق بالجواهر ولكن بالمعاني. فلا بدّ من تقدير المخالطة والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً، فكأنه قيل : ولقد هما بالمخالطة لولا أن منع مانع أحدهما ؟ قلت : نعم ما قلت، ولكنّ الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ﴾ فكان إغفاله إلغاء له، فوجب أن يكون التقدير، ولقد همت بمخالطته وهم بمخالطتها، على أنّ المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه، وتوصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها ﴿ لَوْلا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ ﴾ فترك التوصل إلى حظه من الشهوة ؛ فلذلك كانت «لولا » حقيقة بأن تعلق بهمّ بها وحده، وقد فسرهمّ يوسف بأنه حل الهميان وجلس منها مجلس المجامع، وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها الأربع وهي مستلقية على قفاها، وفسر البرهان بأنه سمع صوتاً : إياك وإياها، فلم يكترث له، فسمعه ثانياً فلم يعمل به، فسمع ثالثاً : أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضاً على أنملته.
وقيل : ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل : كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولداً إلا يوسف، فإنه ولد له أحد عشر ولداً من أجل ما نقص من شهوته حين همّ، وقيل : صيح به : يا يوسف، لا تكن كالطائر : كان له ريش، فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل : بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم، مكتوب فيها ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَاماً كاتبين ﴾ [ الانفطار : ١١ ] فلم ينصرف، ثم رأى فيها ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٣٢ ] فلم ينته، ثم رأى فيها ﴿ واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ] فلم ينجع فيه، فقال الله لجبريل عليه السلام : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة، فانحط جبريل وهو يقول : يا يوسف، أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء ؟ وقيل : رأى تمثال العزيز. وقيل : قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته وقالت : أستحي منه أن يرانا. فقال يوسف استحييت ممن لا يسمع ولا يبصر، ولا أستحي من السميع البصير، العليم بذوات الصدور. وهذا ونحوه. مما يورده أهل الحشو والجبر الذين دينهم بهت الله تعالى وأنبيائه، وأهل العدل والتوحيد ليسوا من مقالاتهم ورواياتهم بحمد الله بسبيل، ولو وُجِدَت من يوسف عليه السلام أدنى زلة لنُعِيت عليه وذُكِرَت توبته واستغفاره، كما نُعِيَت على آدم زلته، وعلى داود، وعلى نوح، وعلى أيوب، وعلى ذي النون، وذُكِرت توبتهم واستغفارهم، كيف وقد أثنى عليه وسمي مخلصاً، فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض، وأنه جاهد نفسه مجاهدة أُولي القوّة والعزم، ناظراً في دليل التحريم ووجه القبح، حتى استحق من الله الثناء فيما أَنزل من كتب الأولين، ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه ومصداق لها، ولم يقتصر إلا على استيفاء قصته وضرب صورة كاملة عليها، ليجعل له لسان صدق في الآخرين، كما جعله لجدّه الخليل إبراهيم عليه السلام، وليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة وطيب الإزار والتثبت في مواقف العثار، فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدّي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدي بنبي من أنبياء الله، في القعود بين شعب الزانية وفي حل تكته للوقوع عليها، وفي أن ينهاه ربه ثلاث كرّات ويصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن، وبالتوبيخ العظيم، وبالوعيد الشديد، وبالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه، وهو جاثم في مربضه لا يتحلحل ولا ينتهي ولا ينتبه، حتى يتداركه الله بجبريل وبإجباره، ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم وأحدهم حدقة وأصلحهم وجهاً لقي بأدنى ما لقي به نبي الله مما ذكروا، لما بقي له عرق ينبض ولا عضو يتحرّك.
فيا له من مذهب ما أفحشه، ومن ضلال ما أبينه ﴿ كذلك ﴾ الكاف منصوب المحل، أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه. أو مرفوعه، أي الأمر مثل ذلك ﴿ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء ﴾ من خيانة السيد ﴿ والفحشاء ﴾ من الزنا ﴿ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين ﴾ الذين أخلصوا دينهم لله، وبالفتح الذين أخلصهم الله لطاعته بأن عصمهم. ويجوز أن يريد بالسوء. مقدّمات الفاحشة، من القبلة والنظر بشهوة، ونحو ذلك. وقوله :﴿ مّنْ عِبَادِنَا ﴾ معناه بعض عبادنا، أي : هو مخلص من جملة المخلصين. أو هو ناشئ منهم، لأنه من ذرية إبراهيم الذين قال فيهم ﴿ إِنَّا أخلصناهم بِخَالِصَةٍ ﴾ [ ص : ٤٦ ].
﴿ واستبقا الباب ﴾ وتسابقا إلى الباب على حذف الجارّ وإيصال الفعل، كقوله ﴿ واختار موسى قَوْمَهُ ﴾ [ الأعراف : ١٥٥ ] [ أو ] على تضمين «استبقا » معنى «ابتدرا » نفر منها يوسف، فأسرع يريد الباب ليخرج وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج. فإن قلت : كيف وجد الباب، وقد جمعه في قوله ﴿ وَغَلَّقَتِ الأبواب ﴾ [ يوسف : ٢٣ ] قلت : أراد الباب البراني الذي هو المخرج من الدار والمخلص من العار، فقد روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب ﴿ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ ﴾ اجتذبته من خلفه فانقد، أي انشق حين هرب منها إلى الباب وتبعته تمنعه ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا ﴾ وصادفا بعلها وهو قطفير، تقول المرأة لبعلها : سيدي. وقيل : إنما لم يقل سيدهما، لأنّ ملك يوسف لم يصح، فلم يكن سيداً له على الحقيقة. قيل : ألفياه مقبلاً يريد أن يدخل. وقيل جالساً مع ابن عمّ للمرأة. لما اطلع منها زوجها على تلك الهيئة المريبة وهي مغتاظة على يوسف إذ لم يؤاتها جاءت بحيلة جمعت فيها غرضيها : وهما تبرئة ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف، وتخويفه طمعاً في أن يؤاتيها خيفة منها ومن مكرها، وكرها لما أيست من مؤاتاته طوعاً. ألا ترى إلى قولها :﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ ﴾ [ يوسف : ٣٢ ] و «ما » نافية، أي : ليس جزاؤه إلا السجن. ويجوز أن تكون استفهامية، بمعنى : أي شيء جزاؤه إلا السجن، كما تقول : مَنْ في الدار إلا زيد. فإن قلت : كيف لم تصرح في قولها بذكر يوسف، وإنه أراد بها سوءاً ؟ قلت : قصدت العموم، وأنّ كل من أراد بأهلك سوءاً فحقه أن يسجن أو يعذب، لأنّ ذلك أبلغ فيما قصدته من تخويف يوسف. وقيل : العذاب الأليم الضرب بالسياط.
ولما أغرت به وعرّضته للسجن والعذاب وجب عليه الدفع عن نفسه فقال :﴿ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى ﴾ ولولا ذلك لكتم عليها ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا ﴾ قيل كان ابن عمّ لها، إنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها ؛ لتكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة عنه. وقيل : هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب. وقيل كان حكيماً يرجع إليه الملك ويستشيره ويجوز أن يكون بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له والقيام بالحق. وقيل : كان ابن خال لها صبياً في المهد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى " فإن قلت : لم سمي قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة ؟ قلت : لما أدّى مؤدى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها سمي شهادة : فإن قلت : الجملة الشرطية كيف جازت حكايتها بعد فعل الشهادة ؟ قلت : لأنها قول من القول، أو على إرادة القول، كأنه قيل : وشهد شاهد فقال إن كان قميصه. لت : إن دل قدّ قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتبذت ثوبه إليها فقدّته، فمن أين دل قدّه من قبل على أنها صادقة، وأنه كان تابعها ؟ قلت : من وجهين، أحدهما : أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسها قدت قميصه من قدّامه بالدفع. والثاني : أن يسرع خلفها ليلحقها فيتعثر في مقادم قميصه فيشقه. وقرىء :«من قبل » ومن دبر، بالضم على مذهب الغايات. والمعنى : من قبل القميص ومن دبره. وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها قبل، ومن جهة يقال لها دبر. وعن ابن أبي إسحاق أنه قرأ :«من قبل » و «من دبر » بالفتح، كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث. وقرئا بسكون العين. فإن قلت : كيف جاز الجمع بين «إن » الذي هو للاستقبال وبين «كان » ؟ قلت : لأنّ المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قدّ، ونحوه كقولك : إن أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك من قبل، لمن يمتن عليك بإحسانه، تريد : إن تمتن عليَّ أمتنَّ عليك.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:ولما أغرت به وعرّضته للسجن والعذاب وجب عليه الدفع عن نفسه فقال :﴿ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى ﴾ ولولا ذلك لكتم عليها ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا ﴾ قيل كان ابن عمّ لها، إنما ألقى الله الشهادة على لسان من هو من أهلها ؛ لتكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة عنه. وقيل : هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب. وقيل كان حكيماً يرجع إليه الملك ويستشيره ويجوز أن يكون بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر، فأغضبه الله ليوسف بالشهادة له والقيام بالحق. وقيل : كان ابن خال لها صبياً في المهد. وعن النبي صلى الله عليه وسلم :" تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى " فإن قلت : لم سمي قوله شهادة وما هو بلفظ الشهادة ؟ قلت : لما أدّى مؤدى الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها سمي شهادة : فإن قلت : الجملة الشرطية كيف جازت حكايتها بعد فعل الشهادة ؟ قلت : لأنها قول من القول، أو على إرادة القول، كأنه قيل : وشهد شاهد فقال إن كان قميصه. لت : إن دل قدّ قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتبذت ثوبه إليها فقدّته، فمن أين دل قدّه من قبل على أنها صادقة، وأنه كان تابعها ؟ قلت : من وجهين، أحدهما : أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسها قدت قميصه من قدّامه بالدفع. والثاني : أن يسرع خلفها ليلحقها فيتعثر في مقادم قميصه فيشقه. وقرىء :«من قبل » ومن دبر، بالضم على مذهب الغايات. والمعنى : من قبل القميص ومن دبره. وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها قبل، ومن جهة يقال لها دبر. وعن ابن أبي إسحاق أنه قرأ :«من قبل » و «من دبر » بالفتح، كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث. وقرئا بسكون العين. فإن قلت : كيف جاز الجمع بين «إن » الذي هو للاستقبال وبين «كان » ؟ قلت : لأنّ المعنى أن يعلم أنه كان قميصه قدّ، ونحوه كقولك : إن أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك من قبل، لمن يمتن عليك بإحسانه، تريد : إن تمتن عليَّ أمتنَّ عليك.
﴿ فَلَماَّ رَّءَا ﴾ يعني قطفير وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها ﴿ قَالَ إِنَّهُ ﴾ إن قولك ﴿ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا ﴾ أو إنّ الأمر وهو طمعها في يوسف ﴿ مِن كَيْدِكُنَّ ﴾ الخطاب لها ولأمتها. وإنما استعظم كيد النساء لأنه وإن كان في الرجال، إلا أنّ النساء ألطف كيداً وأنفذ حيلة. ولهنّ في ذلك نيقة ورفق، وبذلك يغلبن الرجال. ومنه قوله تعالى :﴿ وَمِن شَرّ النفاثات فِى العقد ﴾ [ الفلق : ٤ ] والقصريات من بينهنّ معهنّ ما ليس مع غيرهنّ من البوائق وعن بعض العلماء : أنا أخاف من النساء أكثر مما أخاف من الشيطان، لأنّ الله تعالى يقول :﴿ إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً ﴾ [ النساء : ٧٦ ] وقال للنساء :﴿ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ﴾.
﴿ يُوسُفَ ﴾ حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب مفاطن للحديث وفيه تقريب له وتلطيف لمحله ﴿ أَعْرِضْ عَنْ هذا ﴾ الأمر واكتمه ولا تحدّث به ﴿ واستغفرى ﴾ أنت ﴿ لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين ﴾ من جملة القوم المتعمدين للذنب. يقال : خطىء، إذا أذنب متعمداً، وإنما قال :﴿ مِنَ الخاطئين ﴾ بلفظ التذكير تغليباً للذكور على الإناث، وما كان العزيز إلا رجلاً حليماً. وروي أنه كان قليل الغيرة.
﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ ﴾ وقال جماعة من النساء وكنّ خمساً : امرأة الساقي، وامرأة الخباز، وامرأة صاحب الدواب، وامرأة صاحب السجن، وامرأة الحاجب. والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي كتأنيث اللمة، ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث. وفيه لغتان : كسر النون وضمها ﴿ فِى المدينة ﴾ في مصر ﴿ امرأت العزيز ﴾ يردن قطفير، والعزيز : الملك بلسان العرب ﴿ فتاها ﴾ غلامها. يقال : فتاي وفتاتي، أي غلامي وجاريتي ﴿ شَغَفَهَا ﴾ خرق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد، والشغاف حجاب القلب، وقيل جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب. قال النابغة :
وَقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذَلِكَ وَالِج مَكَانَ الشِّغَافِ تَبْتَغِيهِ الأَصَابِعُ
وقرىء :«شعفها » بالعين، من شعف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران، قال :
كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءَةَ الرَّجُلُ الطّالي ***
و ﴿ حَبّاً ﴾ نصب على التمييز ﴿ فِى ضلال مُّبِينٍ ﴾ في خطأ وبُعدٍ عن طريق الصواب.
﴿ بِمَكْرِهِنَّ ﴾ باغتيابهنّ وسوء قالتهن، وقولهنّ : امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني ومقتها، وسمي الاغتياب مكراً لأنه في خفية وحالِ غيبة، كما يخفي الماكر مكره. وقيل : كانت استكتمتهنّ سرّها فأفشينه عليها ﴿ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ﴾ دعتهنّ. قيل : دعت أربعين امرأة منهنّ الخمس المذكورات ﴿ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً ﴾ ما يتكئن عليه من نمارق، قصدت بتلك الهيئة وهي قعودهنّ متكئات والسكاكين في أيديهنّ : أن يدهشن ويبهتن عند رؤيته، ويشغلن عن نفوسهنّ فتقع أيديهنّ على أيديهنّ فيقطعنها، لأن المتكئ إذا بهت لشيء وقعت يده على يده، ولا يبعد أن تقصد الجمع بين المكر به وبهنّ، فتضع الخناجر في أيديهنّ ليقطعن أيديهنّ، فتبكتهنّ بالحجة، ولتهول يوسف من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهنّ الخناجر، وتوهمه أنهنّ يثبن عليه. وقيل : متكأ : مجلس طعام لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، ولذلك. " نهى أن يأكل الرجل متكئاً " وأتتهنّ السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن. وقيل :﴿ مُتَّكَئاً ﴾ طعاماً، من قولك اتكأنا عند فلان : طعمنا، على سبيل الكناية ؛ لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له تكأة يتكىء عليها. قال جميل :
فَظَلَلْنَا بِنِعْمَةٍ واتَّكَأْنَا وَشَرِبْنَا الحَلاَلَ مِنْ قُلَلِهْ
وعن مجاهد ﴿ مُتَّكَئاً ﴾ طعاماً يحزّ حزّا، كأن المعنى يعتمد بالسكين ؛ لأنّ القاطع يتكىء على المقطوع بالسكين. وقرىء :«متكا » بغير همز. وعن الحسن :«متكاء » بالمدّ، كأنه مفتعال، وذلك لإشباع فتحة الكاف، كقوله «بمُنْتزاحِ » بمعنى بمنتزح. ونحوه «يَنْبَاعُ » بمعنى ينبع. وقرىء :«متكأ » وهو الأترج، وأنشد :
فَأَهْدَتْ مَتْكَةً لِبَنِي أبِيهَا تَخُبُّ بِهَا العَثْمَثَةُ الْوِقَاحُ
وكانت أهدت أترجة على ناقة، وكأنها الأترجة التي ذكرها أبو داود في سننه أنها شقت بنصفين، وحملا كالعدلين على جمل. وقيل : الزماورد وعن وهب : أترجا وموزاً وبطيخاً.
وقيل : أعتدت لهنَّ ما يقطع، من متك الشيء بمعنى بتكه إذا قطعه. وقرأ الأعرج :﴿ مُتَّكَئاَ ﴾ مفعلاً، من تكىء يتكأ، إذا اتكأ ﴿ أَكْبَرْنَهُ ﴾ أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق. قيل : كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء، فقلت لجبريل : من هذا ؟ فقال يوسف، فقيل : يا رسول الله كيف رأيته ؟ قال «كالقمر ليلة البدر "
وقيل : كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس من الماء عليها. وقيل : ما كان أحد يستطيع وصف يوسف. وقيل : كان يشبه آدم يوم خلقه ربه. وقيل : ورث الجمال من جدّته سارة. وقيل : أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت، يقال : أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته : دخلت في الكبر لأنها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله :
خَفِ اللَّهَ وَاسْتُرْ ذَا الْجَمَالَ بِبُرْقَع فَإنْ لُحْتَ حَاضَتْ في الْخُدُورِ الْعَوَاتِقُ
﴿ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ جرحنها، كما تقول : كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، تريد : جرحتها ﴿ حاشا ﴾ كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء. تقول : أساء القوم حاشا زيد. قال :
حَاشَا أَبِي ثَوْبَانَ إنَّ بِه ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ وَالشَّتْمِ
وهي حرف من حروف الجر، فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى «حاشا الله » براءة الله وتنزيه الله، وهي قراءة ابن مسعود، على إضافة حاشا إلى الله إضافة البراءة. ومن قرأ : حاشا لله، فنحو قولك : سقيا لك ؛ كأنه قال : براءة، ثم قال : لله، لبيان من يبرأ وينزه. والدليل على تنزيل «حاشا » منزلة المصدر : قراءة أبي السمال :﴿ حاشا لله ﴾ بالتنوين. وقراءة أبي عمرو «﴿ حَاشَ للَّهِ ﴾ » بحذف الألف الآخرة. وقراءة الأعمش «﴿ حشا لله ﴾ » بحذف الألف الأولى. وقرىء :«حاش لله » بسكون الشين، على أن الفتحة تبعت الألف في الإسقاط، وهي ضعيفة لما فيها من التقاء الساكنين على غير حدّه. وقرىء :«حاشا الإله ». فإن قلت : فلم جاز في حاشا لله أن لا ينوّن بعد إجرائه مجرى : براءة لله ؟ قلت : مراعاة لأصله الذي هو الحرفية. ألا ترى إلى قولهم : جلست من عن يمينه، كيف تركوا «عن » غير معرب على أصله ؟ وعلى قوله «غدت من عليه » منقلب الألف إلى الياء مع الضمير ؟ والمعنى : تنزيه الله تعالى من صفات العجز، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله. وأما قوله :﴿ حَاشا للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء ﴾ [ يوسف : ٥١ ] فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله ﴿ مَا هذا بَشَرًا ﴾ نفين عنه البشرية لغرابة جماله ومباعدة حسنه، لما عليه محاسن الصور، وأثبتن له الملكية وبتتن بها الحكم، وذلك لأن الله عز وجل ركز في الطباع أن لا أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن والقبح بهما، وما ركز ذلك فيها إلا لأن الحقيقة كذلك، كما ركز في الطباع أن لا أدخل في الشر من الشياطين، ولا أجمع للخير من الملائكة، إلا ما عليه الفئة الخاسئة المجبرة من تفضيل الإنسان على الملك، وما هو إلا من تعكيسهم للحقائق، وجحودهم للعلوم الضرورية، ومكابرتهم في كل باب، وإعمال «ما » عمل «ليس » هي اللغة القدمى الحجازية وبها ورد القرآن.
ومنها قوله تعالى :﴿ مَّا هُنَّ أمهاتهم ﴾ [ المجادلة : ٢ ] ومن قرأ على سليقته من بني تميم، قرأ :«بشر » بالرفع. وهي في قراءة ابن مسعود. وقرىء :«ما هذا بشرى » أي ما هو بعبد مملوك لئيم ﴿ إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ تقول هذا بشرى، أي حاصل بشرى، بمعنى : هذا بشرى. وتقول : هذا لك بشري أم بكري ؟ والقراءة هي الأولى، لموافقتها المصحف ؛ ومطابقة بشر لملك.
﴿ قَالَتْ فذلكن ﴾ ولم يقل فهذا وهو حاضر، رفعاً لمنزلته في الحسن، واستحقاق أن يحب ويفتتن به، وربئاً بحاله واستبعاداً لمحله، ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهنّ : عشقت عبدها الكنعاني. تقول : هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكنّ، ثم لمتننى فيه. تعني : أنكن لم تصوّرنه بحق صورته، ولو صوّرتنه بما عاينتن لعذرتني في الافتنان به. الاستعصام : بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها. ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه، على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهمّ والبرهان. فإن قلت : الضمير في ﴿ ءَامُرُهُ ﴾ راجع إلى الموصول، أم إلى يوسف ؟ قلت : بل إلى الموصول. والمعنى : ما آمر به، فحذف الجار كما في قولك : أمرتك الخير، ويجوز أن تجعل «ما » مصدرية، فيرجع إلى يوسف ومعناه : ولئن لم يفعل أمري إياه، أي موجب أمري ومقتضاه. قرىء :«وليكونا » بالتشديد والتخفيف. والتخفيف أولى، لأنّ النون كتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف، وذلك لا يكون إلا في الخفيفة.
وقرىء :«﴿ السجن ﴾ » بالفتح على المصدر. وقال ﴿ يَدْعُونَنِى ﴾ على إسناد الدعوة إليهنّ جميعاً، لأنهنّ تنصحن له وزينّ له مطاوعتها، وقلن له : إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار، فالتجأ إلى ربه عند ذلك وقال : ربِّ نزولُ السجن أحبّ إلي من ركوب المعصية. فإن قلت : نزول السجن مشقة على النفس شديدة، وما دعونه إليه لذة عظيمة، فكيف كانت المشقة أحبّ إليه من اللذة ؟ قلت : كانت أحبّ إليه وآثر عنده نظراً في حسن الصبر على احتمالها لوجه الله، وفي قبح المعصية، وفي عاقبة كل واحدة منهما، لا نظراً في مشتهى النفس ومكروهها ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ ﴾ فزع منه إلى ألطاف الله وعصمته، كعادة الأنبياء والصالحين فيما عزم عليه ووطن عليه نفسه من الصبر، لا أن يطلب منه الإجبار على التعفف والإلجاء إليه ﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ أمل إليهنّ. والصبوة : الميل إلى الهوى. ومنها : الصبا ؛ لأنّ النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها وقرىء :«أصب إليهنّ » من الصبابة ﴿ مِنَ الجاهلين ﴾ من الذين لا يعملون بما يعلمون. لأنّ من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء. أو من السفهاء، لأنّ الحكيم لا يفعل القبيح.
وإنما ذكر الاستجابة ولم يتقدّم الدعاء، لأنّ قوله ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى ﴾ فيه معنى طلب الصرف والدعاء باللطف ﴿ السميع ﴾ لدعوات الملتجئين إليه ﴿ العليم ﴾ بأحوالهم وما يصلحهم.
﴿ بَدَا لَهُمْ ﴾ فاعله مضمر، لدلالة ما يفسره عليه وهو : ليسجننه، والمعنى : بدالهم بداء، أي : ظهر لهم رأي ليسجننه، والضمير في ﴿ لَهُمْ ﴾ للعزيز وأهله ﴿ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات ﴾ وهي الشواهد على براءته، وما كان ذلك إلا باستنزال المرأة لزوجها، وفتلها منه في الذروة والغارب وكان مطواعة لها وجميلاً ذلولا زمامه في يدها، حتى أنساه ذلك ما عاين من الآيات وعمل برأيها في سجنه وإلحاق الصغار به كما أوعدته به، وذلك لما أيست من طاعته لها، أو لطمعها في أن يذلله السجن ويسخره لها. وفي قراءة الحسن :«لتسجننه » بالتاء على الخطاب : خاطب به بعضهم العزيز ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم ﴿ حتى حِينٍ ﴾ إلى زمان، كأنها اقترحت أن يسجن زماناً حتى تبصر ما يكون منه. وفي قراءة ابن مسعود «عتى حين » وهي لغة هذيل، وعن عمر رضي الله عنه أنه سمع رجلاً يقرأ :«عتى حين » فقال : من أقرأك ؟ قال : ابن مسعود فكتب إليه : إن الله أنزل هذا القرآن فجعله عربياً وأنزله بلغة قريش، فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام.
﴿ مَّعَ ﴾ يدل على معنى الصحبة واستحداثها، تقول : خرجت مع الأمير، تريد مصاحباً له، فيجب أن يكون دخولهما السجن مصاحبين له ﴿ فَتَيَانَ ﴾ عبدان للملك : خبازه وشرابيه : رقي إليه أنهما يسمانه، فأمر بهما إلى السجن، فأدخلا ساعة أدخل يوسف عليه السلام ﴿ إِنّى أَرَانِى ﴾ يعني في المنام، وهي حكاية حال ماضية ﴿ أَعْصِرُ خَمْرًا ﴾ يعني عنباً، تسمية للعنب بما يؤول إليه. وقيل : الخمر - بلغة عمان - : اسم للعنب. وفي قراءة ابن مسعود «أعصر عنباً » ﴿ مّنَ المحسنين ﴾ من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، أي : يجيدونها، رأياه يقصّ عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤوّلها له، فقالا له ذلك. أو من العلماء، لأنهما سمعاه يذكر للناس ما علما به أنه عالم. أو من المحسنين إلى أهل السجن. فأحسن إلينا بأن تفرّج عنا الغمة بتأويل ما رأينا إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا. روي أنه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه، وإذا أضاق وسع له، وإذا احتاج جمع له. وعن قتادة : كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول : أبشروا اصبروا تؤجروا، إنّ لهذا لأجراً، فقالوا : بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك ! لقد بورك لنا في جوارك، فمن أنت يا فتى ؟ قال : أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم، فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك، ولكني أحسن جوارك، فكن في أي بيوت السجن شئت. وروي أن الفتيين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك، فقال : أنشدكما بالله أن لا تحباني، فوالله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ من حبها بلاء، ثم أحبني أبي فدخل عليّ من حبه بلاء، ثم أحبتني زوجة صاحبي فدخل عليّ من حبها بلاء، فلا تحباني - بارك الله فيكما - وعن الشعبي أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي ؛ إني أراني في بستان، فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب، فقطفتها وعصرتها في كأس الملك، وسقيته. وقال الخباز : إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها. فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله :﴿ نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ﴾ ؟ قلت : إلى ما قصا عليه. والضمير يجري مجرى اسم الإشارة في نحوه كأنه قيل : نبئنا بتأويل ذلك.
لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترض ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما، ويقول : اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، وجعل ذلك تخلصاً إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة، إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه بعد ذلك، وفيه أنّ العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده - وغرضه أن يقتبس منه وينتفع به في الدين - لم يكن من باب التزيكة ﴿ بِتَأْوِيلِهِ ﴾ ببيان ماهيته وكيفيته ؛ لأنّ ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه ﴿ ذلكما ﴾ إشارة لهما إلى التأويل، أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات ﴿ مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى ﴾ وأوحي به إليّ ولم أقله عن تكهن وتنجم ﴿ إِنّى تَرَكْتُ ﴾ يجوز أن يكون كلاماً مبتدأ، وأن يكون تعليلاً لما قبله. أي علمني ذلك وأوحي إليّ ؛ لأني رفضت ملة أولئك واتبعت ملة الأنبياء المذكورين وهي الملة الحنيفية، وأراد بأولئك الذين لا يؤمنون : أهل مصر ومن كان الفتيان على دينهم، وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصاً كافرون بالآخرة، وأنّ غيرهم كانوا قوماً مؤمنين بها، وهم الذين على ملة إبراهيم، ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيهاً على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء، ويجوز أن يكون فيه تعريض بما مني به من جهتهم حين أودعوه السجن، بعد ما رأوا الآيات الشاهدة على براءته، وأنّ ذلك ما لا يقدم عليه إلا من هو شديد الكفر بالجزاء.
وذكر آباءه ليريهما أنه من بيت النبوّة بعد أن عرّفهما أنه نبيّ يوحى إليه، بما ذكر من إخباره بالغيوب ليقوي رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله :﴿ مَا كَانَ لَنَا ﴾ ما صحّ لنا معشر الأنبياء ﴿ أَن نُّشْرِكَ بالله ﴾ أي شيء كان من ملك أو جنيّ أو إنسيّ، فضلاً [ عن ] أن نشرك به صنماً لا يسمع ولا يبصر، ثم قال ﴿ ذلك ﴾ التوحيد ﴿ مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس ﴾ أي على الرسل وعلى المرسل إليهم ؛ لأنهم نبهوهم عليه وأرشدوهم إليه ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس ﴾ المبعوث إليهم ﴿ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ فضل الله فيشركون ولا ينتبهون وقيل : إنَّ ذلك من فضل الله علينا لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدلّ بها. وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس من غير تفاوت، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يستدلون اتباعاً لأهوائهم، فيبقون كافرين غير شاكرين.
﴿ يا صاحبي السجن ﴾ يريد يا صاحبيَّ في السجن، فأضافهما إلى السجن كما تقول : يا سارق الليلة، فكما أن الليلة مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب، وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام، ونحوه قولك لصاحبيك : يا صاحبي الصدق فتضيفهما إلى الصدق، ولا تريد أنهما صحبا الصدق، ولكن كما تقول رجلا صدق، وسميتهما صاحبين لأنهما صحباك. ويجوز أن يريد : يا ساكني السجن، كقوله :﴿ أصحاب النار وأصحاب الجنة ﴾ [ الحشر : ٢٠ ] ﴿ ءَأرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ ﴾ يريد التفرّق في العدد والتكاثر. يقول أأن تكون لكما أرباب شتى، يستعبدكما هذا ويستعبدكما هذا ﴿ خَيْرٌ ﴾ لكما ﴿ أَمِ ﴾ أن يكون لكما رب واحد قهار لا يغالب ولا يشارك في الربوبية، بل هو ﴿ القهار ﴾ الغالب، وهذا مثل ضربه لعبادة الله وحده ولعبادة الأصنام.
﴿ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ خطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر ﴿ إِلاَّ أَسْمَاء ﴾ يعني أنكم سميتم ما لا يستحق الإلهية آلهة، ثم طفقتم تعبدونها، فكأنكم لا تعبدون إلا أسماء فارغة لا مسميات تحتها. ومعنى ﴿ سَمَّيْتُمُوهَا ﴾ سميتم بها. يقال : سميته بزيد، وسميته زيداً ﴿ مَّا أَنزَلَ الله بِهَا ﴾ أي بتسميتها ﴿ مّن سلطان ﴾ من حجة ﴿ إِنِ الحكم ﴾ في أمر العبادة والدين ﴿ أَلاَ لِلَّهِ ﴾ ثم بين ما حكم به فقال ﴿ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلك الدين القيم ﴾ الثابت الذي دلت عليه البراهين.
﴿ أَمَّا أَحَدُكُمَا ﴾ يريد الشرابي ﴿ فَيَسْقِى رَبَّهُ ﴾ سيده. وقرأ عكرمة «فيسقي ربه » أي يسقي ما يروي به على البناء للمفعول. روي أنه قال للأوّل : ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده ؛ وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن، ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه، وقال للثاني : ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتقتل ﴿ قُضِىَ الأمر ﴾ قطع وتم ما ﴿ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ فيه من أمركما وشأنكما. فإن قلت : ما استفتيا في أمر واحد، بل في أمرين مختلفين، فما وجه التوحيد ؟ قلت : المراد بالأمر ما اتهما به من سمّ الملك وما سجنا من أجله، وظناً أنّ ما رأياه في معنى ما نزل بهما، فكأنهما كانا يستفتيانه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك، فقال لهما : قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان، أي : ما يجرّ إليه من العاقبة، وهي هلاك أحدهما ونجاة الآخر. وقيل : جحدا وقالا : ما رأينا شيئاً، على ما روي أنهما تحالما له، فأخبرهما أن ذلك كائن صدقتما أو كذبتما.
﴿ ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ ﴾ الظانّ هو يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد، وإن كان بطريق الوحي فالظان هو الشرابي، ويكون الظنّ بمعنى اليقين ﴿ اذكرنى عِندَ رَبّكَ ﴾ صفني عند الملك بصفتي، وقص عليه قصتي لعله يرحمني وينتاشني من هذه الورطة ﴿ فَأَنْسَاهُ الشيطان ﴾ فأنسى الشرابي ﴿ ذِكْرَ رَبّهِ ﴾ أن يذكره لربه. وقيل فأنسي يوسف ذكر الله حين وكل أمره إلى غيره ﴿ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ البضع ما بين الثلاث إلى التسع، وأكثر الأقاويل على أنه لبث فيه سبع سنين. فإن قلت : كيف يقدر الشيطان على الإنسان ؟ قلت : يوسوس إلى العبد بما يشغله عن الشيء من أسباب النسيان، حتى يذهب عنه ويزل عن قلبه ذكره، وأما الإنساء ابتداء فلا يقدر عليه إلا الله عز وجل ﴿ مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ]. فإن قلت : ما وجه إضافة الذكر إلى ربه إذا أريد به الملك ؟ وما هي بإضافة المصدر إلى الفاعل ولا إلى المفعول ؟ قلت : قد لابسه في قولك : فأنساه الشيطان ذكر ربه، أو عند ربه فجازت إضافته إليه، لأنّ الإضافة تكون بأدنى ملابسة. أو على تقدير : فأنساه الشيطان ذكر أخبار ربه، فحذف المضاف الذي هو الإخبار. فإن قلت : لم أنكر على يوسف الاستعانة بغير الله في كشف ما كان فيه، وقد قال الله تعالى :﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى ﴾ [ المائدة : ٢ ] وقال حكاية عن عيسى عليه السلام ﴿ مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله ﴾ [ آل عمران : ٥٢ ] وفي الحديث :«الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم ». ( ٥٤٥ ) «من فرّج عن مؤمن كربة فرّج الله عنه كربة من كربات الآخرة » وعن عائشة رضي الله عنها :«أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذه النوم ليلة من الليالي، وكان يطلب من يحرسه حتى جاء سعد فسمعت غطيطه » وهل ذلك إلا مثل التداوي بالأدوية والتقوّى بالأشربة والأطعمة. وإن كان ذلك لأنّ الملك كان كافراً، فلا خلاف في جواز أن يستعان بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق ونحو ذلك من المضارّ ؟ قلت : كما اصطفى الله تعالى الأنبياء على خليقته فقد اصطفى لهم أحسن الأمور وأفضلها وأولاها والأحسن والأولى بالنبي أن لا يكل أمره إذا ابتلي ببلاء إلا إلى ربه، ولا يعتضد إلا به، خصوصاً إذا كان المعتضد به كافراً ؛ لئلا يشمت به الكفار ويقولوا لو كان هذا على الحق وكان له رب يغيثه لما استغاث بنا. وعن الحسن أنه كان يبكي إذا قرأها ويقول : نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس.
لما دنا فرج يوسف، رأى ملك مصر «الريان بن الوليد » رؤيا عجيبة هالته : رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس. وسبع بقرات عجاف، فابتلعت العجاف السمان. ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فاستعبرها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها ﴿ سِمَانٍ ﴾ جمع سمين وسمينة، وكذلك رجال ونسوة كرام. فإن قلت : هل من فرق بين إيقاع ﴿ سِمَانٍ ﴾ صفة للمميز وهو ﴿ بقرات ﴾ دون المميز وهو ﴿ سَبْعَ ﴾ وأن يقال : سبع بقرات سمانا ؟ قلت : إذا أوقعتها صفة لبقرات. فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات وهي السمان منهنّ لا بجنسهنّ. ولو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها، ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن. فإن قلت : هلا قيل : سبع عجاف على الإضافة ؟ قلت، التمييز موضوع لبيان الجنس، والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده. فإن قلت : فقد يقولون : ثلاثة فرسان وخمسة أصحاب ؟ قلت : الفارس والصاحب والراكب ونحوها : صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها وجاز فيها ما لم يجز في غيرها. ألا تراك لا تقول : عندي ثلاثة ضخام وأربعة غلاظ. فإن قلت : ذاك مما يشكل وما نحن بسبيله لا إشكال فيه. ألا ترى أنه لم يقل بقرات سبع عجاف، لوقوع العلم بأنّ المراد البقرات ؟ قلت : ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل، وقد وقع الاستغناء بقولك ﴿ سَبْعٌ عِجَافٌ ﴾ عما تقترحه من التمييز بالوصف. والعجف : الهزال الذي ليس بعده، والسبب في وقوع «عجاف » جمعا «لعجفاء » وأفعل وفعلاء لا يجمعان على فعال : حمله على سمان، لأنه نقيضه، ومن دأبهم حمل النظير على النظير، والنقيض على النقيض. فإن قلت : هل في الآية دليل على أنّ السنبلات اليابسة كانت سبعاً كالخضر ؟ قلت : الكلام مبني على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع، ويكون قوله :﴿ وَأُخَرَ يابسات ﴾ بمعنى وسبعاً أخر. فإن قلت : هل يجوز أن يعطف قوله ﴿ وَأُخَرَ يابسات ﴾ على ﴿ سنبلات خُضْرٍ ﴾ فيكون مجرور المحل ؟ قلت : يؤدي إلى تدافع، وهو أن عطفها على ﴿ سنبلات خُضْرٍ ﴾ يقتضي أن تدخل في حكمها فتكون معها مميزاً للسبع المذكورة، ولفظ الأخر يقتضي أن تكون غير السبع، بيانه : أنك تقول : عندي سبعة رجال قيام وقعود، بالجرّ، فيصح ؛ لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بالقيام والقعود، على أنّ بعضهم قيام وبعضهم قعود ؛ فلو قلت : عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود، تدافع ففسد ﴿ يا أيها الملا ﴾ كأنه أراد الأعيان من العلماء والحكماء.
واللام في قوله ﴿ لِلرُّؤْيَا ﴾ إما أن تكون للبيان، كقوله ﴿ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهِدِينَ ﴾ [ يوسف : ٢٠ ] وإما أن تدخل ؛ لأنّ العامل إذا تقدّم عليه معموله لم يكن في قوّته على العمل فيه مثله إذا تأخر عنه، فعضد بها كما يعضد بها اسم الفاعل، إذا قلت : هو عابر للرؤيا ؛ لانحطاطه عن الفعل في القوة. ويجوز أن يكون للرؤيا خبر كان، كما تقول : كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه. و ﴿ تَعْبُرُونَ ﴾ خبر آخر، أو حال، وأن يضمن ﴿ تَعْبُرُونَ ﴾ معنى فعل يتعدى باللام، كأنه قيل : إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا. وحقيقة «عبرت الرؤيا » ذكرت عاقبتها وآخر أمرها، كما تقول : عبرت النهر، إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه وهو عبره. ونحوه : أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلها وهو مرجعها. وعبرت الرؤيا - بالتخفيف، هو الذي اعتمده الأثبات، ورأيتهم ينكرون «عبرت » بالتشديد والتعبير والمعبر. وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الأعراب :
رَأَيْتُ رُؤْيَا ثُمَّ عَبَّرْتُهَا وَكُنْتُ للأَحْلاَمِ عَبَّارَا
﴿ أضغاث أَحْلاَمٍ ﴾ تخاليطها وأباطيلها، وما يكون منها من حديث نفس أو وسوسة شيطان. وأصل الأضغاث : ما جمع من أخلاط النبات وحزم، الواحد : ضغث، فاستعيرت لذلك، والإضافة بمعنى «من » أي أضغاث من أحلام والمعنى : هي أضغاث أحلام. فإن قلت : ما هو إلا حلم واحد، فلم قالوا : أضغاث أحلام فجمعوا ؟ قلت : هو كما تقول : فلان يركب الخيل ويلبس عمائم الخز، لمن لا يركب إلا فرساً واحداً وما له إلا عمامة فردة، تزيدا في الوصف، فهؤلاء أيضاً تزيدوا في وصف الحلم بالبطلان، فجعلوه أضغاث أحلام. ويجوز أن يكون قد قص عليهم مع هذه الرؤيا رؤيا غيرها ﴿ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بعالمين ﴾ إما أن يريدوا بالأحلام المنامات الباطلة خاصة، فيقولوا : ليس لها عندنا تأويل، فإن التأويل إنما هو للمنامات الصحيحة الصالحة، وإما أن يعترفوا بقصور علمهم وأنهم ليسوا في تأويل الأحلام بنحارير.
قرىء :«وادكر » بالدال وهو الفصيح. وعن الحسن :«واذكر »، بالذال المعجمة. والأصل تذكر، أي تذكر الذي نجا من الفتيين من القتل يوسف وما شاهد منه ﴿ بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ بعد مدّة طويلة، وذلك أنه حين استفتى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها، تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه، وطلبه إليه أن يذكره عند الملك. وقرأ الأشهب العقيلي «بعد إمّة » بكسر الهمزة، والإمّة النعمة. قال عدي :
ثُمَّ بَعْدَ الفَلاَحِ وَالْمُلْكِ وَالإِمَّ ةِ وَارَتْهُمُ هُنَاكَ القُبُورُ
أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة. وقرىء :«بعد أمه » بعد نسيان. يقال : أمه يأمه أمها، إذا نسي. ومن قرأ بسكون الميم فقد خطىء ﴿ أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ ﴾ أنا أخبركم به عمن عنده علمه. وفي قراءة الحسن :«أنا آتيكم بتأويله » ﴿ فَأَرْسِلُونِ ﴾ فابعثوني إليه لأسأله، ومروني باستعباره وعن ابن عباس : لم يكن السجن في المدينة.
المعنى فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه فقال ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق ﴾ أيها البليغ في الصدق، وإنما قال له ذلك لأنه ذاق أحواله وتعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه حيث جاء كما أوّل، ولذلك كلمه كلام محترز فقال ﴿ لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ لأنه ليس على يقين من الرجوع، فربما اخترم دونه ولا من علمهم فربما لم يعلموا، أو معنى ﴿ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك.
﴿ تَزْرَعُونَ ﴾ خبر في معنى الأمر، كقوله :﴿ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون ﴾ [ الصف : ١١ ] وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به، فيجعل كأنه يوجد، فهو يخبر عنه. والدليل على كونه في معنى الأمر قوله :﴿ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ ﴾. ﴿ دَأَبًا ﴾ بسكون الهمزة وتحريكها، وهما مصدرا : دأب في العمل، وهو حال من المأمورين، أي دائبين : إمّا على تدأبون دأباً، وإمّا على إيقاع المصدر حالاً، بمعنى : ذوي دأب ﴿ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ ﴾ لئلا يتسوس.
و ﴿ يَأْكُلْنَ ﴾ من الإسناد المجازي : جعل أكل أهلهنّ مسنداً إليهنّ ﴿ تحصنون ﴾ تحرزون وتخبؤن ﴿ فِيهِ يُغَاثُ الناس ﴾ من الغوث أو من الغيث. يقال : غيثت البلاد، إذا مطرت. ومنه قول الأعرابية : غثنا ما شئنا.
﴿ يَعْصِرُونَ ﴾ بالياء والتاء : يعصرون العنب والزيتون والسمسم. وقيل : يحلبون الضروع. وقرىء :«يعصرون »، على البناء للمفعول، من عصره إذا أنجاه، وهو مطابق للإغاثة ويجوز أن يكون المبني للفاعل بمعنى ينجون، كأنه قيل : فيه يغاث الناس وفيه يغيثون أنفسهم، أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضاً وقيل ﴿ يَعْصِرُونَ ﴾ يمطرون، من أعصرت السحابة. وفيه وجهان : إمّا أن يضمن أعصرت معنى مطرت، فيعدّى تعديته. وإمّا أن يقال : الأصل أعصرت عليهم فحذف الجار وأوصل الفعل. تأوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأنّ العام الثامن يجيء مباركاً خصيباً كثير الخير غزير النعم، وذلك من جهة الوحي. وعن قتادة : زاده الله علم سنة. فإن قلت : معلوم أنّ السنين المجدبة إذا انتهت كان انتهاؤها بالخصب، وإلا لم توصف بالانتهاء، فلم قلت إنّ علم ذلك من جهة الوحي ؟ قلت : ذلك معلوم علماً مطلقاً لا مفصلاً. وقوله ﴿ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ تفصيل لحال العام، وذلك لا يعلم إلا بالوحي.
إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك، وقدّم سؤال النسوة ليظهر براءة ساحته عما قرف به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلماً إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا ما خلد في السجن سبع سنين إلا لأمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب ويستكف شرّه. وفيه دليل على أنّ الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها، قال عليه [ الصلاة و ] السلام : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفنّ مواقف التهم " ومنه. " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمارّين به في معتكفه وعنده بعض نسائه - «هي فلانة » اتقاء للتهمة "، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره - والله يغفر له - حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال : ارجع إلى ربك. ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث، لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليماً ذا أناة " وإنما قال : سل الملك عن حال النسوة ولم يقل سله أن يفتش عن شأنهن، لأنّ السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث عما سئل عنه، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجدّ في التفتيش عن حقيقة القصة وفصّ الحديث حتى يتبين له براءته بياناً مكشوفاً يتميز فيه الحق من الباطل. وقرىء :«النُسوة » بضم النون ومن كرمه وحسن أدبه : أنه لم يذكر سيدته مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب، واقتصر على ذكر المقطعات أيديهنّ ﴿ إِنَّ رَبّى ﴾ إنّ الله تعالى :﴿ بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ أراد أنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله، لبعد غوره. أو استشهد بعلم الله على أنهنّ كدنه، وأنه بريء مما قرف به، أو أراد الوعيد لهنّ، أي : هو عليم بكيدهنّ فمجازيهنّ عليه.
﴿ مَا خَطْبُكُنَّ ﴾ ما شأنكنّ ﴿ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ ﴾ هل وجدتنّ منه ميلا إليكنّ ﴿ قُلْنَ حاش لِلَّهِ ﴾ تعجباً من عفته وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة ومن نزاهته عنها ﴿ قَالَتِ امرأت العزيز الأن حصحص الحق ﴾ أي ثبت واستقرّ وقرىء :«حُصْحِص » على البناء للمفعول، وهو من حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للإناخة. قال :
فَحَصْحَصَ في صُمِّ الصَّفَا ثَفَنَاتِه وَنَاءَ بِسَلْمَى نَوْءَةً ثُمَّ صَمَّمَا
ولا مزيد على شهادتهنّ له بالبراءة والنزاهة واعترافهنّ على أنفسهنّ بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به، لأنهنّ خصومه. وإذا اعترف الخصم بأنّ صاحبه على الحق وهو على الباطل، لم يبق لأحد مقال. وقالت المجبرة والحشوية نحن قد بقي لنا مقال، ولا بدّ لنا من أن ندق في فروة من ثبتت نزاهته.
﴿ ذلك لِيَعْلَمَ ﴾ من كلام يوسف، أي ذلك التثبت والتشمر لظهور البراءة ليعلم العزيز ﴿ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ ﴾ بظهر الغيب في حرمته. ومحل ﴿ بالغيب ﴾ الحال من الفاعل أو المفعول، على معنى : وأنا غائب عنه خفي عن عينه أو وهو غائب عني خفي عن عيني. ويجوز أن يكون ظرفاً، أي بمكان الغيب، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب السبعة المغلقة ﴿ و ﴾ ليعلم ﴿ إِنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين ﴾ لا ينفذه ولا يسدّده، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها أمانة زوجها، وبه في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه، ويجوز أن يكون تأكيداً لأمانته، وأنه لو كان خائناً لما هدى الله كيده ولا سدّده.
ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه، لئلا يكون لها مزكياً وبحالها في الأمانة معجباً ومفتخراً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. «أنا سيد ولد آدم ولا فخر » وليبين أنّ ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته فقال ﴿ وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى ﴾ من الزلل، وما أشهد لها بالبراءة الكلية ولا أزكيها. ولا يخلو، إمّا أن يريد في هذه الحادثة، لما ذكرنا من الهمّ الذي هو ميل النفس عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق القصد والعزم. وإمّا أن يريد به عموم الأحوال ﴿ إِنَّ النفس لأمَّارَةٌ بالسوء ﴾ أراد الجنس، أي إنّ هذا الجنس يأمر بالسوء ويحمل عليه بما فيه من الشهوات ﴿ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى ﴾ إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة. ويجوز أن يكون ﴿ مَا رَحِمَ ﴾ في معنى الزمن، أي : إلا وقت رحمة ربي، يعني أنها أمّارة بالسوء في كل وقت وأوان، إلا وقت العصمة. ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً، أي : ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة، كقوله :﴿ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً ﴾ [ يس : ٤٣ ] وقيل معناه : ذلك ليعلم أني لم أخنه لأنّ المعصية خيانة. وقيل : هو من كلام امرأة العزيز، أي ذلك الذي قلت ليعلم يوسف أني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال الغيبة وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه وما أبريء نفسي مع ذلك من الخيانة، فإني قد خنته حين قرفته وقلت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن وأودعته السجن - تريد الاعتذار مما كان منها - إنّ كل نفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي : إلا نفساً رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف ﴿ إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت. فإن قلت : كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك ؟ قلت : كفى بالمعنى دليلاً قائداً إلى أن يجعل من كلامه ونحوه قوله :﴿ قَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ ﴾ [ الشعراء : ٣٥ ] ثم قال :﴿ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ﴾ [ الشعراء : ٣٥ ] وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم. وعن ابن جريج : هذا من تقديم القرآن وتأخيره، ذهب إلى أن ﴿ ذلك لِيَعْلَمَ ﴾ [ يوسف : ٥٢ ] متصل بقوله :﴿ فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن ﴾ [ يوسف : ٥٠ ] ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة، فزعموا أن يوسف حين قال :﴿ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب ﴾ [ يوسف : ٥٢ ] قال له جبريل : ولا حين هممت بها، وقالت له امرأة العزيز : ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف، وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله.
يقال استخلصه واستخصه، إذا جعله خالصاً لنفسه وخاصاً به ﴿ فَلَمَّا كَلَّمَهُ ﴾ وشاهد منه ما لم يحتسب ﴿ قَالَ ﴾ أيها الصديق ﴿ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ ﴾ ذو مكانة ومنزلة ﴿ أَمِينٌ ﴾ مؤتمن على كل شيء. روي أنّ الرسول جاءه فقال : أجب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله : اللهم أعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات. وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن، ولبس ثياباً جدداً فلما دخل على الملك قال : اللهمّ إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية، فقال : ما هذا اللسان ؟ قال لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً، فكلمه بها فأجابه بجميعها، فتعجب منه وقال : أيها الصدّيق، إني أحب أن أسمع رؤياي منك. فقال : رأيت بقرات، فوصف لونهنّ وأحوالهنّ ومكان خروجهنّ، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفاً، وقال له : من حقك أن تجمع الطعام في الأهراء، فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك.
﴿ اجعلني على خَزَائِنِ الأرض ﴾ ولني خزائن أرضك ﴿ إِنّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ أمين أحفظ ما تستحفظنيه، عالم بوجوه التصرف، وصفا لنفسه بالأمانة والكفاية اللتين هما طلبة الملوك ممن يولونه، وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أنّ أحداً غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله لا لحب الملك والدنيا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم :«رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض، لاستعمله من ساعته، ولكنه أخر ذلك سنة » فإن قلت : كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر ويكون تبعاً له وتحت أمره وطاعته ؟ قلت : روى مجاهد أنه كان قد أسلم : وعن قتادة. هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملاً من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه. وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق. فله أن يستظهر به. وقيل : كان الملك يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع.
﴿ وكذلك ﴾ ومثل ذلك التمكين الظاهر ﴿ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ ﴾ في أرض مصر. روي أنها كانت أربعين فرسخاً في أربعين ﴿ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء ﴾ قرىء بالنون والياء، أي : كل مكان أراد أن يتخذه منزلاً ومتبوّأ له، لم يمنع منه لاستيلائه على جميعها ودخوله تحت ملكته وسلطانه. روي : أنّ الملك توّجه، وختمه بخاتمه، ورداه بسيفه. ووضع له سريراً من ذهب مكللا بالدرّ والياقوت. روي أنه قال له : أمّا السرير فأشدّ به ملكك. وأمّا الخاتم فأدبر به أمرك، وأمّا التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي. فقال : قد وضعته إجلالا لك وإقراراً بفضلك. فجلس على السرير ودانت له الملوك، وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعده، فزوّجه الملك امرأته زليخا، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما طلبت ؟ فوجدها عذراء، فولدت له ولدين : إفراثيم وميشا، وأقام العدل بمصر، وأحبته الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر، ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم حتى استرقهم جميعاً، فقالوا : والله ما رأينا كاليوم ملكاً أجل ولا أعظم منه فقال الملك كيف رأيت صنع الله بي فيما خوَّلني فما ترى ؟ قال الرأي رأيك : قال : فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير، تقسيطاً بين الناس. وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب أرض مصر، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا واحتبس بنيامين ﴿ بِرَحْمَتِنَا ﴾ بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم ﴿ مَّن نَّشَاء ﴾ من اقتضت الحكمة أن نشاء له ذلك ﴿ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين ﴾ أن نأجرهم في الدنيا.
﴿ ولأَجْرُ الأخرة خَيْرٌ ﴾ لهم. قال سفيان بن عيينة : المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق، وتلا هذه الآية.
لم يعرفوه لطول العهد ومفارقته إياهم في سنّ الحداثة، ولاعتقادهم أنه قد هلك، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه واهتمامهم بشأنه، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حاله التي فارقوه عليها طريحاً في البئر، مشرياً بدراهم معدودة، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم وظنونهم، ولأنّ الملك مما يبدّل الزيّ ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر له المعروف. وقيل : رأوه على زيّ فرعون عليه ثياب الحرير جالساً على سرير في عنقه طوق من ذهب وعلى رأسه تاج، فما خطر ببالهم أنه هو. وقيل : ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج، وإنما عرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريباً من زيهم إذ ذاك، ولأنّ همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم، فكان يتأمّل ويتفطن. وعن الحسن : ما عرفهم حتى تعرّفوا له.
﴿ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ ﴾ أي أصلحهم بعدّتهم وهي عدّة السفر من الزاد وما يحتاج إليه المسافرون وأوقر ركائبهم بما جاؤوا له من الميرة. وقرىء :«بجهازهم » بكسر الجيم ﴿ قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ ﴾ لا بد من مقدمة سبقت له معهم، حتى اجتر القول هذه المسألة. روي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم : أخبروني من أنتم وما شأنكم ؟ فإني أنكركم. قالوا : نحن قوم من أهل الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا نمتار، فقال ؛ لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي ؟ قالوا : معاذ الله، نحن إخوة بنو أب واحد، وهو شيخ صدّيق نبي من الأنبياء، اسمه يعقوب. قال : كم أنتم ؟ قالوا : كنا اثني عشر، فهلك منا واحد. قال : فكم أنتم ههنا ؟ قالوا : عشرة. قال : فأين الأخ الحادي عشر ؟ قالوا : هو عند أبيه يتسلى به من الهالك. قال : فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون وأنّ الذي تقولون حق ؟ قالوا : إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا. قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم، وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون - وكان أحسنهم رأيا في يوسف - فخلفوه عنده، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم.
﴿ وَلاَ تَقْرَبُونِ ﴾ فيه وجهان، أحدهما : أن يكون داخلاً في حكم الجزاء مجزوماً، عطفاً على محل قوله :﴿ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ ﴾ كأنه قيل : فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا، وأن يكون بمعنى النهي.
﴿ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ ﴾ سنخادعه عنه، وسنجتهد ونحتال حتى ننتزعه من يده ﴿ وَإِنَّا لفاعلون ﴾ وإنا لقادرون على ذلك لا نتعانى به، أو وإنا لفاعلون ذلك لا محالة لا نفرط فيه ولا نتوانى.
﴿ لِفِتْيَانِهِ ﴾ وقرىء :«لفتيانه » وهما جمع فتى، كإخوة وإخوان في أخ، و «فعلة » للقلة. و «فعلان » للكثرة، أي لغلمانه الكيالين ﴿ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا ﴾ لعلهم يعرفون حق ردّها وحق التكرم بإعطاء البدلين ﴿ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ ﴾ وفرغوا ظروفهم ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا، وكانت بضاعتهم النعال والأدم. وقيل : تخوّف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به. وقيل : لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً، وقيل : علم أن ديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها. وقيل : معنى ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ لعلهم يردّونها.
﴿ مُنِعَ مِنَّا الكيل ﴾ يريدون قول يوسف فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي، لأنهم إذا أنذروا بمنع الكيل فقد منع الكيل ﴿ نَكْتَلْ ﴾ نرفع المانع من الكيل، ونكتل من الطعام ما نحتاج إليه. وقرىء :«يكتل » بمعنى يكتل أخوناً، فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. أو يكن سبباً للاكتيال فإن امتناعه بسببه.
﴿ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ ﴾ يريد أنكم قلتم في يوسف ﴿ وَإِنَّا لَهُ لحافظون ﴾ [ يوسف : ١٢ ٦٣ ] كما تقولونه في أخيه، ثم خنتم بضمانكم، فما يؤمنني من مثل ذلك. ثم قال ﴿ فالله خَيْرٌ حافظا ﴾ فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم. و ﴿ حافظا ﴾ تمييز، كقولك : هو خيرهم رجلاً، ولله درّه فارساً. ويجوز أن يكون حالاً وقرىء :«حفظاً » وقرأ الأعمش :«فالله خير حافظ ». وقرأ أبو هريرة :«خير الحافظين » ﴿ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين ﴾ فأرجو أن ينعم عليّ بحفظه ولا يجمع عليّ مصيبتين.
وقرىء :«ردت إلينا » بالكسر، على أن كسرة الدال المدغمة نقلت إلى الراء، كما في : قيل وبيع، وحكى قطرب ضرب زيد. على نقل كسرة الراء فيمن سكنها إلى الضاد ﴿ مَا نَبْغِى ﴾ للنفي، أي : ما نبغي في القول، وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه، وكانوا قالوا له : إنا قدمنا على خير رجل، أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته. أو ما نبتغي شيئاً وراء ما فعل بنا من الإحسان. أو على الاستفهام، بمعنى أي شيء نطلب وراء هذا ؟ وفي قراءة ابن مسعود «ما تبغي »، بالتاء على مخاطبة يعقوب، معناه : أي شيء تطلب وراء هذا من الإحسان، أو من الشاهد على صدقنا ؟ وقيل : معناه ما نريد منك بضاعة أخرى. وقوله ﴿ هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا ﴾ جملة مستأنفة موضحة لقوله :﴿ مَا نَبْغِى ﴾ والجمل بعدها معطوفة عليها، على معنى : إن بضاعتنا ردّت إلينا، فنستظهر بها ﴿ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ﴾ في رجوعنا إلى الملك ﴿ وَنَحْفَظُ أَخَانَا ﴾ فما يصيبه شيء مما تخافه، ونزداد باستصحاب أخينا وسق بعير زائداً على أوساق أباعرنا، فأي شيء نبتغي وراء هذه المباغي التي نستصلح بها أحوالنا ونوسع ذات أيدينا : وإنما قالوا :﴿ وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ﴾ لما ذكرنا أنه كان لا يزيد للرجل على حمل بعير للتقسيط فإن قلت : هذا إذا فسرت البغي بالطلب، فأما إذا فسرته بالكذب والتزيد في القول، كانت الجملة الأولى وهي قوله :﴿ هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا ﴾ بياناً لصدقهم وانتفاء التزيد عن قيلهم، فما تصنع بالجمل البواقي ؟ قلت : أعطفها على قوله :﴿ مَا نَبْغِى ﴾ على معنى : لا نبغي فيما نقول ﴿ وَنَمِيرُ أَهْلَنَا ﴾ ونفعل كيت وكيت. ويجوز أن يكون كلاماً مبتدأ، كقولك : وينبغي أن نمير أهلنا، كما تقول : سعيت في حاجة فلان، واجتهدت في تحصيل غرضه. ويجب أن أسعى، وينبغي لي أن لا أقصر. ويجوز أن يراد : ما نبغي وما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من تجهيزنا مع أخينا، ثم قالوا : هذه بضاعتنا نستظهر بها ونمير أهلنا ونفعل ونصنع. بياناً لأنهم لا يبغون في رأيهم وأنهم مصيبون فيه، وهو وجه حسن واضح ﴿ ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ ﴾ أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا، يعنون : ما يكال لهم. فأرادوا أن يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. أو يكون ذلك إشارة إلى كيل بعير، أي ذلك الكيل شيء قليل يجيبنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه، أو سهل عليه متيسر لا يتعاظمه. ويجوز أن يكون من كلام يعقوب، وأن حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد، كقوله ﴿ ذلك لِيَعْلَمَ ﴾ [ يوسف : ٥٢ ].
﴿ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ ﴾ مناف لحالي وقد رأيت منكم ما رأيت - إرساله معكم ﴿ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله ﴾ حتى تعطوني ما أتوثق به من عند الله، أراد أن يحلفوا له بالله : وإنما جعل الحلف بالله موثقاً منه لأن الحلف به مما تؤكد به العهود وتشدّد. وقد أذن الله في ذلك فهو إذن منه ﴿ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ ﴾ جواب اليمين ؛ لأن المعنى : حتى تحلفوا لتأتنني به ﴿ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ إلا أن تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به. أو إلا أن تهلكوا. فإن قلت : أخبرني عن حقيقة هذا الاستثناء ففيه إشكال ؟ قلت :﴿ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ﴾ مفعول له، والكلام المثبت الذي هو قوله ﴿ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ ﴾ في تأويل النفي. معناه : لا تمتنعون من الإتيان به إلا للإحاطة بكم، أي : لا تمتنعون منه لعلة من العلل إلا لعلة واحدة : وهي أن يحاط بكم، فهو استثناء من أعم العام في المفعول له، والاستثناء من أعم العام لا يكون إلا في النفي وحده، فلا بد من تأويله بالنفي. ونظيره من الإثبات المتأوّل بمعنى النفي قولهم : أقسمت بالله لما فعلت وإلا فعلت، تريد : ما أطلب منك إلا الفعل ﴿ على مَا نَقُولُ ﴾ من طلب الموثق وإعطائه ﴿ وَكِيلٌ ﴾ رقيب مطلع.
وإنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد، لأنهم كانوا ذوي بهاء وشارة حسنة، اشتهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والتكرمة الخاصة التي لم تكن لغيرهم، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من بين الوفود، وأن يشار إليهم بالأصابع. ويقال : هؤلاء أضياف الملك، انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان، وما أحقهم بالإكرام، لأمر مّا أكرمهم الملك وقرّبهم وفضلهم على الوافدين عليه، فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة، فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور، فيصيبهم ما يسوؤهم ؛ ولذلك لم يوصهم بالتفرق في الكرّة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين مغمورين بين الناس. فإن قلت : هل للإصابة بالعين وجه تصحّ عليه ؟ قلت : يجوز أن يحدث الله عز وجل عند النظر إلى الشيء والإعجاب به، نقصاناً فيه وخللا من بعض الوجوه، ويكون ذلك ابتلاء من الله وامتحاناً لعباده، ليتميز المحققون من أهل الحشو فيقول المحقق : هذا فعل الله، ويقول الحشوي : هو أثر العين، كما قال تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ المدثر : ٣١ ] الآية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم :«أنه كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول : أعيذكما بكلمات الله التامّة، من كل عين لامّة، ومن كل شيطان وهّامة » ﴿ وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَىْء ﴾ يعني إن أراد الله بكم سوءاً لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من التفرق، وهو مصيبكم لا محالة ﴿ إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ ﴾.
ثم قال :﴿ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم ﴾ أي متفرقين ﴿ مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ ﴾ رأي يعقوب ودخولهم متفرّقين شيئاً قط، حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرّقهم، من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم بوجدان الصواع في رحله، وتضاعف المصيبة على أبيهم ﴿ إِلاَّ حَاجَةً ﴾ استثناء منقطع. على معنى : ولكن حاجة ﴿ فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ﴾ وهي شفقته عليهم وإظهارها بما قاله لهم ووصاهم به ﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ ﴾ يعني قوله :﴿ وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ ﴾ وعلمه بأن القدر لا يغني عنه الحذر.
﴿ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ ﴾ ضم إليه بنيامين. وروي أنهم قالوا له : هذا أخونا قد جئناك به، فقال لهم : أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حياً لأجلسني معه، فقال يوسف : بقي أخوكم وحيداً، فأجلسه معه على مائدته وجعل يواكله، قال : أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتاً، وهذا لا ثاني له فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح، وسأله عن ولده فقال : لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ؟ قال : من يجد أخا مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له ﴿ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ ﴾ يوسف ﴿ فَلاَ تَبْتَئِسْ ﴾ فلا تحزن ﴿ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك. وعن ابن عباس : تعرّف إليه وعن وهب : إنما قال له : أنا أخوك بدل أخيك المفقود، فلا تبتئس بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم. وروي أنه قال له : أنا لا أفارقك. قال : قد علمت اغتمام والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمه، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يجمل. قال : لا أبالي فافعل ما بدا لك. قال : فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي عليك بأنك قد سرقته، ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك معهم. قال : افعل.
﴿ السقاية ﴾ مشربة يسقى بها وهي الصواع. قيل : كان يسقى بها الملك، ثم جعلت صاعاً يكال به. وقيل : كانت الدواب تسقي بها ويكال بها. وقيل : كانت إناء مستطيلاً يشبه المكوك وقيل : هي المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه تشرب به الأعاجم. وقيل : كانت من فضة مموّهة بالذهب، وقيل كانت من ذهب. وقيل : كانت مرصعة بالجواهر ﴿ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ ﴾ ثم نادى مناد. يقال : آذنه أعلمه. وأذن : أكثر الإعلام. ومنه المؤذن، لكثرة ذلك منه. روي : أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا، ثم أمر بهم فأدركوا وحبسوا، ثم قيل لهم ذلك. والعير : الإبل التي عليها الأحمال، لأنها تعير : أي تذهب وتجيء. وقيل : هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير، كأنها جمع عير، وأصلها فعل كسقف وسقف، فعل به ما فعل ببيض وعيد، والمراد أصحاب العير كقوله :«يا خيل الله اركبي ». وقرأ ابن مسعود :«وجعل السقاية »، على حذف جواب لما، كأنه قيل : فلما جهزهم بجهازهم وجعل السقاية في رحل أخيه، أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أذن مؤذن.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي :«تفقدون » من أفقدته إذا وجدته فقيداً.
وقرىء :«صواع »، «وصاع »، «وصوع »، «وصُوع » بفتح الصاد وضمها، والعين معجمة وغير معجمة ﴿ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ﴾ يقوله المؤذن، يريد : وأنا بحمل البعير كفيل، أُؤدّيه إلى من جاء به ؛ وأراد وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله.
﴿ تالله ﴾ قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم، وإنما قالوا ﴿ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ﴾ فاستشهدوا بعلمهم. لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم في كرّتي مجيئهم ومداخلتهم للملك، ولأنهم دخلوا وأفواه رواحلهم مكعومة لئلا تتناول زرعاً أو طعاماً لأحد من أهل السوق. ولأنهم ردّوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم ﴿ وَمَا كُنَّا سارقين ﴾ وما كنا قط نوصف بالسرقة وهي منافية لحالنا.
﴿ فَمَا جَزَاؤُهُ ﴾ الضمير للصواع، أي فما جزاء سرقته ﴿ إِن كُنتُمْ كاذبين ﴾ في جحودكم وادّعائكم البراءة منه.
﴿ قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ ﴾ أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة، فلذلك استفتوا في جزائه. وقولهم ﴿ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ﴾ تقرير للحكم، أي : فأخذ السارق نفسه وهو جزاؤه لا غير، كقولك : حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه، فذلك حقه، أي : فهو حقه لتقرّر ما ذكرته من استحقاقه وتلزمه ويجوز أن يكون ﴿ جَزَاؤُهُ ﴾ مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر. والأصل : جزاؤه من وجد في رحله فهو هو فوضع الجزاء موضع هو، كما تقول لصاحبك : من أخو زيد فيقول لك أخوه من يقعد إلى جنبه فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من والثاني إلى الأخ، ثم تقول «فهو أخوه » مقيماً للمظهر مقام المضمر. ويحتمل أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف، أي : المسؤل عنه جزاؤه، ثم أفتوا بقولهم : من وجد في رحله فهو جزاؤه، كما يقول : من يستفتى في جزاء صيد المحرم جزاء صيد المحرم، ثم يقول :﴿ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم ﴾ [ المائدة : ٩٥ ].
﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ ﴾ قيل : قال لهم من وكل بهم : لا بدّ من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة حتى بلغ وعاءه فقال : ما أظنّ هذا أخذ شيئاً، فقالوا : والله لا نتركه حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فاستخرجوه منه وقرأ الحسن :«وُعاء أخيه »، بضم الواو، وهي لغة. وقرأ سعيد ابن جبير :«إعاء أخيه »، بقلب الواو همزة. فإن قلت : لم ذكر ضمير الصواع مرّات ثم أنثه ؟ قلت : قالوا رجع بالتأنيث على السقاية، أو أنث الصواع لأنه يذكر ويؤنث، ولعلّ يوسف كان يسميه سقاية وعبيده صواعاً، فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية، وفيما يتصل بهم منه صواعاً ﴿ كذلك كِدْنَا ﴾ مثل ذلك الكيد العظيم كدنا ﴿ لِيُوسُفَ ﴾ يعني علمناه إياه وأوحينا به إليه ﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك ﴾ تفسير للكيد وبيان له، لأنه كان في دين ملك مصر، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ، لا أن يلزم ويستعبد ﴿ إِلاَّ أَن يَشَاء الله ﴾ أي ما كان يأخذه إلا بمشيئة الله وإذنه فيه ﴿ نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء ﴾ في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه. وقرىء :«يرفع » بالياء. ودرجات بالتنوين ﴿ وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ فوقه أرفع درجة منه في علمه، أو [ و ] فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم، وهو الله عز وعلا.
فإن قلت : ما أذن الله فيه يجب أن يكون حسناً، فمن أي وجه حسن هذا الكيد ؟ وما هو إلا بهتان، وتسريق لمن لم يسرق، وتكذيب لمن لم يكذب، وهو قوله ﴿ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ [ يوسف : ٧٠ ]، ﴿ فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كاذبين ﴾ [ يوسف : ٧٤ ] ؟
قلت : هو في صورة البهتان وليس ببهتان في الحقيقة ؛ لأنّ قوله :﴿ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ [ يوسف : ٧٠ ] تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف. وقيل : كان ذلك القول من المؤذن لا من يوسف، وقوله :﴿ إِن كُنتُمْ كاذبين ﴾ [ يوسف : ٧٤ ] فرض لانتفاء براءتهم. وفرض التكذيب لا يكون تكذيباً، على أنه لو صرَّح لهم بالتكذيب، كما صرّح لهم بالتسريق. لكان له وجه ؛ لأنهم كانوا كاذبين في قولهم :﴿ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا فَأَكَلَهُ الذئب ﴾ [ يوسف : ١٧ ] هذا وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية، كقوله تعالى لأيوب عليه السلام :﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ﴾ [ ص : ٤٤ ] ليتخلص من جلدها ولا يحنث، وكقول إبراهيم عليه السلام : هي أختي، لتسلم من يد الكافر. وما الشرائع كلها إلا مصالح وطرق إلى التخلص من الوقوع في المفاسد، وقد علم الله تعالى في هذه الحيلة التي لقنها يوسف مصالح عظيمة فجعلها سلماً وذريعة إليها، فكانت حسنة جميلة وانزاحت عنها وجوه القبح لما ذكرنا.
﴿ أَخٌ لَّهُ ﴾ أرادوا يوسف. روي أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء، وأقبلوا عليه وقالوا له : ما الذي صنعت ؟ فضحتنا وسوّدت وجوهنا، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذت هذا الصاع ؟ فقال : بنو راحيل الذين لا يزال منكم عليهم البلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه، ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم. واختلف فيما أضافوا إلى يوسف من السرقة، فقيل : كان أخذ في صباه صنماً لجدّه أبي أمّه فكسره وألقاه بين الجيف في الطريق. وقيل : دخل كنيسة فأخذ تمثالاً صغيراً من ذهب كانوا يعبدونه فدفنه. وقيل : كان في المنزل عناق أو دجاجة فأعطاها السائل. وقيل كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده، فورثها إسحاق ثم وقعت إلى ابنته وكانت أكبر أولاده، فحضنت يوسف - وهي عمته - بعد وفاة أمّه وكانت لا تصبر عنه، فلما شبّ أراد يعقوب أن ينتزعه منها، فعمدت إلى المنطقة فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وقالت : فقدت منطقة إسحاق، فانظروا من أخذها، فوجدوها محزومة على يوسف، فقالت : إنه لي سلم أفعل به ما شئت، فخلاه يعقوب عندها حتى ماتت.
﴿ فَأَسَرَّهَا ﴾ إضمار على شريطة التفسير، تفسيره ﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ وإنما أنث لأنّ قوله :﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ جملة أو كلمة، على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة، كأنه قيل : فأسرّ الجملة أو الكلمة التي هي قوله :﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ والمعنى : قال في نفسه : أنتم شر مكاناً ؛ لأنّ قوله :﴿ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ بدل من أسرَّها. وفي قراءة ابن مسعود :«فأسرَّه »، على التذكير، يريد القول أو الكلام. ومعنى ﴿ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ أنتم شر منزلة في السرق ؛ لأنكم سارقون بالصحة، لسرقتكم أخاكم من أبيكم ﴿ والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ﴾ يعلم أنه لم يصح لي ولا لأخي سرقة، وليس الأمر كما تصفون.
استعطفوه بإذكارهم إياه حق أبيهم يعقوب، وأنه شيخ كبير السنّ أو كبير القدر، وأنّ بنيامين أحب إليه منهم، وكانوا قد أخبروه بأن ولداً له قد هلك وهو عليه ثكلان، وأنه مستأنس بأخيه ﴿ فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ﴾ فخذه بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين ﴾ إلينا فأتمم إحسانك. أو من عادتك الإحسان فاجْرِ على عادتك ولا تغيرها.
﴿ مَعَاذَ الله ﴾ هو كلام موجه، ظاهره : أنه وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده، فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم، وباطنه : إنّ الله أمرني وأوحى إليّ بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة أو لمصالح جمة علمها في ذلك، فلو أخذت غير من أمرني بأخذه كنت ظالماً وعاملاً على خلاف الوحي. ومعنى ﴿ مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ ﴾ نعوذ بالله معاذاً من أن نأخذ، فأضيف المصدر إلى المفعول به وحذف من. و ﴿ إِذاً ﴾ جواب لهم وجزاء ؛ لأن المعنى : إن أخذنا بدله ظلمنا.
﴿ استيأسوا ﴾ يئسوا. وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مرّ في استعصم. و النجي على معنيين : يكون بمعنى المناجي، كالعشير والسمير بمعنى : المعاشر والمسامر، ومنه قوله تعالى ﴿ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ﴾ [ مريم : ٥٢ ] وبمعنى المصدر الذي هو التناجي، كما قيل النجوى بمعناه. ومنه قيل : قوم نجي، كما قيل ﴿ وَإِذْ هُمْ نجوى ﴾ [ الإسراء : ٤٧ ] تنزيلا للمصدر منزلة الأوصاف. ويجوز أن يقال : هم نجي، كما قيل : هم صديق، لأنه بزنة المصادر وجمع أنجية. قال :
إنِّى إذَا مَا الْقَوْمُ كَانُوا أَنجِيَهْ ***
ومعنى ﴿ خَلَصُواْ ﴾ اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يخالطهم سواهم ﴿ نَجِيّاً ﴾ ذوي نجوى أو فوجا نجياً، أي مناجياً لمناجاة بعضهم بعضاً. وأحسن منه أنهم تمحضوا تناجياً ؛ لاستجماعهم لذلك، وإفاضتهم فيه بجدّ واهتمام، كأنهم في أنفسهم صورة التناجي وحقيقته، وكان تناجيهم في تدبير أمرهم، على أيّ صفة يذهبون ؟ وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم ؟ كقوم تعايوا بما دهمهم من الخطب، فاحتاجوا إلى التشاور ﴿ كَبِيرُهُمْ ﴾ في السنّ وهو روبيل. وقيل : رئيسهم وهو شمعون : وقيل كبيرهم في العقل والرأي وهو يهوذا ﴿ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ ﴾ فيه وجوه : أن تكون «ما » صلة، أي : ومن قبل هذا قصرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم. وأن تكون مصدرية، على أن محل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف، وهو ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ ومعناه : ووقع من قبل تفريطكم في يوسف. أو النصب عطفاً على مفعول ﴿ أَلَمْ تَعْلَمُواْ ﴾ وهو ﴿ أَنَّ أَبَاكُمْ ﴾ كأنه قيل : ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطكم من قبل في يوسف، وأن تكون موصولة بمعنى : ومن قبل هذا ما فرطتموه، أي قدّمتموه في حق يوسف من الجناية العظيمة، ومحله الرفع أو النصب على الوجهين ﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض ﴾ فلن أفارق أرض مصر ﴿ حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى ﴾ في الانصراف إليه ﴿ أَوْ يَحْكُمَ الله لِى ﴾ بالخروج منها، أو بالانتصاف ممن أخذ أخي، أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين ﴾ لأنه لا يحكم أبداً إلا بالعدل والحق.
وقرىء :«سرِّق » أي نسب إلى السرقة ﴿ وَمَا شَهِدْنَا ﴾ عليه بالسرقة ﴿ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ﴾ من سرقته وتيقناه ؛ لأنّ الصواع استخرج من وعائه ولا شيء أبين من هذا ﴿ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين ﴾ وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق. أو ما علمنا أنك تصاب به كما أصبت بيوسف. ومن قرأ :«سرِّق » فمعناه : وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق، وما كنا للغيب : للأمر الخفي حافظين، أسرق بالصحة أم دسّ الصاع في رحله ولم يشعر.
﴿ القرية التى كُنَّا فِيهَا ﴾ هي مصر، أي أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة ﴿ والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا ﴾ وأصحاب العير، وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوب. وقيل من أهل صنعاء، معناه : فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم ف.
﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ﴾ أردتموه وإلا فما أدرى ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم ﴿ بِهِمْ جَمِيعًا ﴾ بيوسف وأخيه وروبيل أو غيره ﴿ إِنَّهُ هُوَ العليم ﴾ بحالي في الحزن والأسف ﴿ الحكيم ﴾ الذي لم يبتلني بذلك إلا لحكمة ومصلحة.
﴿ وتولى عَنْهُمْ ﴾ وأعرض عنهم كراهة لما جاؤوا به ﴿ يا أسفى ﴾ أضاف الأسف وهو أشدّ الحزن والحسرة إلى نفسه، والألف بدل من ياء الإضافة، والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعاً غير متعمل فيملح ويبدع، ونحوه ﴿ اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُم ﴾ [ التوبة : ٣٨ ]، ﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ﴾ [ الأنعام : ٢٦ ]. ﴿ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ ﴾ [ الكهف : ١٠٤ ]، ﴿ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ ﴾ [ النمل : ٢٢ ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " لم تعط أمة من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون عند المصيبة إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم. ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع. وإنما قال يا أسفى "
فإن قلت : كيف تأسف على يوسف دون أخيه ودون الثالث، والرزء الأحدث أشدّ على النفس وأظهر أثراً ؟ قلت : هو دليل على تمادي أسفه على يوسف، وأنه لم يقع فائت عنده موقعه، وأنّ الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضاً عنده طريا.
وَلَمْ تُنْسِنِي أَوْفَى الْمُصِيبَاتِ بَعْدَه ُ***
ولأنّ الرزء في يوسف كان قاعدة مصيباته التي ترتبت عليها الرزايا في ولده، فكان الأسف عليه أسفاً على من لحق به ﴿ وابيضت عَيْنَاهُ ﴾ إذا كثر الاستعبار محقت العبرة سواد العين وقلبته إلى بياض كدر. قيل : قد عمي بصره. وقيل : كان يدرك إدراكاً ضعيفاً. قرىء :«من الحزن » ومن الحزن، الحزن كان سبب البكاء الذي حدث منه البياض، فكأنه حدث من الحزن. قيل ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه سأل جبريل عليه السلام : " ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف ؟ قال : وجد سبعين ثكلى. قال :«فما كان له من الأجر » ؟ قال : أجر مائة شهيد، وما ساء ظنه بالله ساعة قط " فإن قلت : كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ ؟ قلت : الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يحسن، ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال : " القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون " وإنما الجزع المذموم ما يقع من الجهلة من الصياح والنياحة، ولطم الصدور والوجوه، وتمزيق الثياب. وعن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه، فقيل : يا رسول الله، تبكي وقد نهيتنا عن البكاء ؟ فقال : " ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين : صوت عند الفرح، وصوت عند الترح " وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره، فقيل له في ذلك، فقال : ما رأيت الله جعل الحزن عاراً على يعقوب ﴿ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ فهو مملوء من الغيط على أولاده ولا يظهر ما يسوؤهم، فعيل بمعنى مفعول، بدليل قوله ﴿ وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾ [ القلم : ٤٨ ] من كظم السقاء إذا شدّه على ملئه، والكظم بفتح الظاء : مخرج النفس. يقال : أخذ بأكظامه.
﴿ تفتؤا ﴾ أراد : لا تفتؤ، فحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات، لأنه لو كان إثباتاً لم يكن بدّ من اللام والنون ونحوه :
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً ***
ومعنى لا تفتأ : لا تزال. وعن مجاهد : لا تفتر من حبه، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين يقال : ما فتىء يفعل. قال أوس :
فمَا فَتِئَتْ خَيْلٌ تَثُوبُ وَتَدَّعِي وَيَلْحَقُ مِنهَا لاَحِقٌ وتَقَطَّعُ
﴿ تَكُونَ حَرَضاً ﴾ مشفياً على الهلاك مرضاً، وأحرضه المرض، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأنه مصدر. والصفة : حَرِض، بكسر الراء، ونحوهما : دنف ودنف، وجاءت القراءة بهما جميعاً. وقرأ الحسن :«حُرُضاً »، بضمتين، ونحوه في الصفات : رجل جنب وغرب.
البث : أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه، فيبثه إلى الناس أي ينشره. ومنه : باثه أمره، وأبثه إياه. ومعنى ﴿ إِنَّمَا أَشْكُو ﴾ إني لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم، إنما أشكو إلى ربي داعياً له وملتجئاً إليه، فخلوني وشكايتي. وهذا معنى توليه عنهم، أي فتولى عنهم إلى الله والشكاية إليه. وقيل : دخل على يعقوب جارٌ له فقال : يا يعقوب، قد تهشمت وفنيت وبلغت من السن ما بلغ أبوك ! فقال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف، فأوحى الله إليه : يا يعقوب، أتشكوني إلى خلقي ؟ قال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفر لي، فغفر له، فكان بعد ذلك إذا سئل قال : إنما أشكو بثي وحزني إلى الله. وروي أنه أوحي إلى يعقوب : إنما وجدت عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه، وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء، ثم المساكين، فاصنع طعاماً وادع عليه المساكين. وقيل : اشترى جارية مع ولدها، فباع ولدها فبكت حتى عميت ﴿ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ أي أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به أنه يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب. وروي أنه رأى ملك الموت في منامه فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ فقال : لا والله هو حيّ فاطلبه. وقرأ الحسن :«وحزني » بفتحتين «وحزني » بضمتين : قتادة.
﴿ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ ﴾ فتعرّفوا منهما وتطلبوا خبرهما. وقرىء بالجيم، كما قرىء بهما في الحجرات، وهما تفعل من الإحساس وهو المعرفة ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر ﴾ [ آل عمران : ٥٢ ] ومن الجس، وهو الطلب. ومنه قالوا لمشاعر الإنسان : الحواس، والجواس ﴿ مِن رَّوْحِ الله ﴾ من فرجه وتنفيسه. وقرأ الحسن وقتادة :«من رُوح الله »، بالضم : أي من رحمته التي يحيا بها العباد.
﴿ الضر ﴾ الهزال من الشدّة والجوع ﴿ مُّزْجَاةٍ ﴾ مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقاراً لها، من أزجيته إذا دفعته وطردته، والريح تزجي السحاب، قيل : كانت من متاع الأعراب صوفاً وسمناً. وقيل : الصنوبر وحبة الخضراء، وقيل : سويق المقل والأقط. وقيل : دراهم زيوفاً لا تؤخذ إلا بوضيعة ﴿ فَأَوْفِ لَنَا الكيل ﴾ الذي هو حقنا ﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ﴾ وتفضل علينا بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة، أو زدنا على حقنا، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة، لأنّ الصدقات محظورة على الأنبياء، وقيل كانت تحل لغير نبينا. وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال : ألم تسمع ﴿ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ﴾ أراد أنها كانت حلالاً لهم. والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا إليه أن يتصدّق عليهم، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرّفهم نفسه. وقوله :﴿ إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين ﴾ شاهد لذلك لذكر الله وجزائه، والصدقة العطية التي تبتغي بها المثوبة من الله ومنه قول : الحسن لمن سمعه يقول اللهم تصدق عليّ :- إن الله تعالى لا يتصدق، إنما يتصدق الذي يبتغي الثواب، قل : اللهم أعطني، أو تفضل عليّ، أو ارحمني.
﴿ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ﴾ أتاهم من جهة الدين وكان حليماً موفقاً، فكلمهم مستفهماً عن وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب، فقال : هل علمتم قبح ﴿ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جاهلون ﴾ لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه، يعني : هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه، لأنّ علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجرّ إلى التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحاً لهم في الدين، لا معاتبة وتثريباً ؛ إيثاراً لحق الله على حق نفسه، في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب، وينفث المصدور، ويتشفى المغيظ المحنق، ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطأها وأسجحها ولله حصاً عقولهم ما أرزنها وأرجحها.
وقيل لم يرد نفي العلم عنهم، لأنهم كانوا علماء، ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم ولا يقدم عليه إلا جاهل، سماهم جاهلين. وقيل : معناه إذ أنتم صبيان في حد السفه والطيش قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة.
روي أنهم لما قالوا : مسنا وأهلنا الضر، وتضرعوا إليه : ارفضت عيناه، ثم قال هذا القول. وقيل : أدوا إليه كتاب يعقوب : من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، إلى عزيز مصر. أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء : أما جدّي فشدّت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله وجعلت النار عليه برداً وسلاماً، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله. وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخاً بالدم وقالوا قد أكله الذئب، فذهبت عيناي من بكائي عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمّه وكنت أتسلى به، فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا : إنه سرق، وأنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً، فإن رددته عليّ وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره، فقال لهم ذلك وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب : اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. فإن قلت : ما فعلهم بأخيه ؟ قلت : تعريضهم إياه للغم والثكل بإفراده عن أخيه لأبيه وأمّه، وجفاؤهم به، حتى كان لا يستطيع أن يكلم أحداً منهم إلا كلام الذليل للعزيز، وإيذاؤهم له بأنواع الأذى.
قرىء :«أئنك » على الاستفهام. وأنك، على الإيجاب وفي قراءة أبيّ :«أئنك أو أنت يوسف »، على معنى أئنك يوسف أو أنت يوسف، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرر الاستثبات فإن قلت : كيف عرفوه ؟ قلت : رأوا في روائه وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو، مع علمهم بأنّ ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ إبراهيم، لا عن بعض أعزاء مصر. وقيل : تبسم عند ذلك فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم. وقيل : ما عرفوه حتى رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كانت ليعقوب وسارة مثلها، تشبه الشامة البيضاء. فإن قلت : قد سألوه عن نفسه فلم أجابهم عنها وعن أخيه ؟ عن أن أخاه كان معلوماً لهم. قلت : لأنه كان في ذكر أخيه بيان لما سألوه عنه ﴿ مَن يَتَّقِ ﴾ من يخف الله وعقابه ﴿ وَيِصْبِرْ ﴾ عن المعاصي وعلى الطاعات ﴿ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ ﴾ أجرهم، فوضع المحسنين موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين.
﴿ لَقَدْ ءَاثَرَكَ الله عَلَيْنَا ﴾ أي فضلك علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين. وإنّ شأننا وحالنا أنا كنا خاطئين متعمدين للإثم، لم نتق ولم نصبر، لا جرم أنّ الله أعزّك بالملك وأذلنا بالتمسكن بين يديك.
﴿ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ﴾ لا تأنيب عليكم ولا عتب. وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش. ومعناه : إزالة الثرب، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال والعجف الذي ليس بعده، فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض ويذهب بماء الوجوه. فإن قلت بم تعلق اليوم ؟ قلت : بالتثريب، أو بالمقدر في ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾ من معنى الاستقرار. أو بيغفر. والمعنى : لا أثر بكم اليوم، وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب، فما ظنكم بغيره من الأيام، ثم ابتدأ فقال ﴿ يَغْفِرُ الله لَكُمْ ﴾ فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم. يقال : غفر الله لك، ويغفر الله لك، على لفظ الماضي والمضارع جميعاً، ومنه قول المشمت «يهديكم الله ويصلح بالكم » و ﴿ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ ﴾ بشارة بعاجل غفران الله، لما تجدّد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم. وروي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح، فقال لقريش : ما ترونني فاعلاً بكم ؟ قالوا : نظن خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم ؛ وقد قدرت فقال : أقول ما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم. وروي : أنّ أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس : إذا أتيت الرسول فاتل عليه ﴿ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ ﴾ ففعل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«غفر الله لك ولمن علمك » ويروى أن إخوته لما عرفوه وأرسلوا إليه : إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية، ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك، فقال يوسف : إنّ أهل مصر وإن ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إليّ بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي. وأني من حفدة إبراهيم.
﴿ اذهبوا بِقَمِيصِى هذا ﴾ قيل هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة، أمره جبريل عليه السلام أن يرسله إليه فإنّ فيه ريح الجنة، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي ﴿ يَأْتِ بَصِيرًا ﴾ يصر بصيراً، كقولك : جاء البناء محكماً، بمعنى صار. ويشهد له ﴿ فارتد بَصِيرًا ﴾ [ يوسف : ٩٦ ] أو يأت إليّ وهو بصير. وينصره قوله ﴿ وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ أي يأتني أبي، ويأتني آله جميعاً وقيل : يهوذا هو الحامل، قال : أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخاً بالدم إليه، فأفرّحه كما أحزنته، وقيل : حمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان، وبينهما مسيرة ثمانين فرسخاً.
﴿ فَصَلَتِ العير ﴾ خرجت من عريش مصر، يقال : فصل من البلد فصولاً، إذا انفصل منه وجاوز حيطانه. وقرأ ابن عباس :«فلما انفصل العير » ﴿ قَالَ ﴾ لولد ولده ومن حوله من قومه :﴿ إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ أوجده الله ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمان. والتفنيد : النسبة إلى الفند، وهو الخرف وإنكار العقل من هرم. يقال : شيخ مفند، ولا يقال عجوز مفندة ؛ لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها. والمعنى : لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني.
﴿ لَفِى ضلالك القديم ﴾ لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك ليوسف، ولهجك بذكره، ورجائك للقائه، وكان عندهم أنه قد مات.
﴿ ألقاه ﴾ طرح البشير القميص على وجه يعقوب. أو ألقاه يعقوب ﴿ فارتد بَصِيرًا ﴾ فرجع بصيراً. يقال : ردّه فارتد، وارتده إذا ارتجعه ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ ﴾ يعني قوله ﴿ إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ﴾ أو قوله :﴿ وَلاَ تيأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله ﴾ [ يوسف : ٨٧ ] وقوله :﴿ إِنِي أَعْلَمُ ﴾ كلام مبتدأ لم يقع عليه القول، ولك أن توقعه عليه وتريد قوله :﴿ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ يوسف : ٨٦ ] وروي : أنه سأل البشير كيف يوسف ؟ فقال : هو ملك مصر : فقال : ما أصنع بالملك ؟ على أي دين تركته ؟ قال : على دين الإسلام. قال : الآن تمت النعمة.
﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ﴾ قيل : أخر الاستغفار إلى وقت السحر. وقيل : إلى ليلة الجمعة ليتعمد به وقت الإجابة. وقيل : ليتعرّف حالهم. في صدق التوبة وإخلاصها. وقيل أراد الدوام على الاستغفار لهم. فقد روي أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة. وقيل : قام إلى الصلاة في وقت السحر، فلما فرغ رفع يديه وقال : اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه، واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم، فأوحى إليه : إنّ الله قد غفر لك ولهم أجمعين. وروي أنهم قالوا له وقد علتهم الكآبة : ما يغني عنا عفوكما إن لم يعف عنا ربنا، فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرّت لنا عين أبداً، فاستقبل الشيخ القبلة قائماً يدعو، وقام يوسف خلفه يؤمّن، وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة. حتى بلغ جهدهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه السلام فقال : إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك، وعقد مواثيقهم بعدك على النبوّة، وقد اختلف في استنبائهم.
﴿ فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ ﴾ قيل وجه يوسف إلى أبيه جهازاً ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه. وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم، فتلقوا يعقوب وهو يمشي يتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال : يا يهوذا، أهذا فرعون مصر ؟ قال لا، هذا ولدك، فلما لقيه قال يعقوب عليه السلام : السلام عليك يا مذهب الأحزان. وقيل : إن يوسف قال له لما التقيا : يا أبت، بكيت عليّ حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا ؟ فقال : بلى، ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك، وقيل : إنّ يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون، ما بين رجل وامرأة، وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلاً سوى الذرية والهرمى، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتي ألف ﴿ أَوَى إِلَيْه أَبَوَيْهِ ﴾ ضمهما إليه واعتنقهما. قال ابن أبي إسحاق : كانت أمّه تحيى، وقيل : هما أبوه وخالته. ماتت أمّه فتزوّجها وجعلها أحد الأبوين ؛ لأنّ الرابة تدعى أمّاً، لقيامها مقام الأمّ، أو لأنّ الخالة أمّ كما أنّ العم أب. ومنه قوله :﴿ وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ﴾ [ البقرة : ١٣٣ ] فإن قلت : ما معنى دخولهم عليه قبل دخولهم مصر ؟ قلت : كأنه حين استقبلهم نزل لهم في مضرب أو بيت ثم، فدخلوا عليه وضمّ إليه أبويه، ثم قال لهم ﴿ ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله ءَامِنِينَ ﴾.
ولما دخل مصر وجلس في مجلسه مستوياً على سريره واجتمعوا إليه، أكرم أبويه فرفعهما على السرير ﴿ وَخَرُّواْ لَهُ ﴾ يعني الإخوة الأحد عشر والأبوين ﴿ سُجَّدًا ﴾ ويجوز أن يكون قد خرج في قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال، فأمر أن يرفع إليه أبواه، فدخلا عليه القبة. فآواهما إليه بالضم والاعتناق وقرّبهما منه، وقال بعد ذلك : ادخلوا مصر. فإن قلت : بم تعلقت المشيئة ؟ قلت : بالدخول مكيفاً بالأمن، لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم، فكأنه قيل لهم : اسلموا وأمنوا في دخولكم إن شاء الله. ونظيره قولك للغازي : ارجع سالماً غانماً إن شاء الله، فلا تعلق المشيئة بالرجوع مطلقاً، ولكن مقيداً بالسلامة والغنيمة، مكيفاً بهما. والتقدير : ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال. ومن بدع التفاسير أن قوله ﴿ إِن شَاء الله ﴾ من باب التقديم والتأخير ؛ وأن موضعها ما بعد قوله ﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى ﴾ [ يوسف : ٩٨ ] في كلام يعقوب، وما أدري ما أقول فيه وفي نظائره. فإن قلت : كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير الله ؟ قلت : كانت السجدة عندهم جارية مجرى التحية والتكرمة، كالقيام، والمصافحة وتقبيل اليد.
ونحوها مما جرت عليه عادة الناس، من أفعال شهرت في التعظيم والتوقير. وقيل : ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجباه، وخرورهم سجداً يأباه. وقيل : معناه وخرّوا لأجل يوسف سجداً لله شكراً. وهذا أيضاً فيه نبوة. يقال : أحسن إليه وبه، وكذلك أساء إليه وبه قال :
أَسِيئِي بَنَا أَوْ أَحْسِنِي لا َمَلُومَةً ***
﴿ مّنَ البدو ﴾ من البادية ؛ لأنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع ﴿ نَّزغَ ﴾ أفسد بيننا وأغرى، وأصله من نخس الرائض الدابة وحمله على الجري. يقال : نزغه ونسغه، إذا نخسه ﴿ لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء ﴾ لطيف التدبير لأجله، رفيق حتى يجيء على وجه الحكمة والصواب. وروي أن يوسف أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه، فأدخله خزائن الورق والذهب، وخزائن الحليّ، وخزائن الثياب، وخزائن السلاح وغير ذلك، فلما أدخله خزانة القراطيس قال : يا بنيّ، ما أعقك : عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل ؟ قال : أمرني جبريل. قال أو ما تسأله ؟ قال : أنت أبسط إليه مني فسله. قال جبريل عليه السلام : الله تعالى أمرني بذلك لقولك ﴿ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب ﴾ [ يوسف : ١٣ ] قال : فهلا خفتني ؟ وروي أن يعقوب أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات. وأوصى أن يدفه بالشام إلى جنب أبيه إسحاق فمضى بنفسه ودفنه ثمة، ثم عاد إلى مصر، وعاش بعد أبيه ثلاثاً وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له، طلبت نفسه الملك الدائم الخالد، فتاقت نفسه إليه فتمنى الموت، وقيل : ما تمناه نبي قبله ولا بعده، فتوفاه الله طيباً طاهراً، فتخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه : كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال، فرأوا من الرأي أن عملوا له صندوقاً من مرمر وجعلوه فيه، ودفنوه في النيل بمكان يمرّ عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا كلهم فيه شرعاً واحداً، وولد له : إفراثيم وميشاً، وولد لإفراثيم نون ؛ ولنون يوشع فتى موسى، ولقد توارثت الفراعنة من العماليق بعده مصر، ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه. إلى أن بعث الله موسى صلى الله عليه وسلم.
«من » في ﴿ مِنَ الملك ﴾ و ﴿ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث ﴾ للتبعيض، لأنه لم يعط إلا بعض ملك الدنيا، أو بعض ملك مصر وبعض التأويل ﴿ أَنتَ وَلِىِّ ﴾ أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين، وبوصل الملك الفاني بالملك الباقي ﴿ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا ﴾ طلب للوفاة على حال الإسلام، ولأن يختم له بالخير والحسنى، كما قال يعقوب لولده ﴿ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٠٢ ] ويجوز أن يكون تمنياً للموت على ما قيل ﴿ وَأَلْحِقْنِى بالصالحين ﴾ من آبائي أو على العموم. وعن عمر ابن عبد العزيز : أنّ ميمون بن مهران بات عنده فرآه كثير البكاء والمسألة للموت، فقال له : صنع الله على يديك خيراً كثيراً : أحييت سنناً وأمت بدعا وفي حياتك خير وراحة للمسلمين، فقال : أفلا أكون كالعبد الصالح لما أقرّ الله عينه وجمع له أمره قال : توفني مسلماً وألحقني بالصالحين. فإن قلت : علام انتصب فاطر السموات ؟ قلت على أنه وصف لقوله ﴿ رَبِّ ﴾ كقولك : أخا زيد حسن الوجه. أو على النداء.
﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومحله الابتداء. وقوله :﴿ مِنْ أَنبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾ خبر إنّ. ويجوز أن يكون اسماً موصولاً بمعنى الذي، و ﴿ مِنْ أنبآءالغيب ﴾ صلته و ﴿ نُوحِيهِ ﴾ الخبر. والمعنى : أن هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحي، لأنك لم تحضر بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم وهو إلقاؤهم أخاهم في البئر، كقوله :﴿ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب ﴾ [ يوسف : ١٥ ] ؛ وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه ؛ لأنه لم يخف على أحد من المكذبين أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقي فيها أحداً ولا سمع منه. ولم يكن من علم قومه. فإذا أخبر به وقصَّ هذا القصص العجيب الذي أعجز حملته ورواته، لم تقع شبهة في أنه ليس منه وأنه من جهة الوحي، فإذا أنكروه تهكم بهم. وقيل لهم : قد علمتم يا مكابرة أنه لم يكن مشاهداً لمن مضى من القرون الخالية : ونحوه :﴿ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الأمر ﴾ [ القصص : ٤٤ ]، ﴿ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ بيوسف ويبغون له الغوائل.
﴿ وَمَآ أَكْثَرُ الناس ﴾ يريد العموم، كقوله :﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ هود : ١٧ ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما. أراد أهل مكة، أي وما هم بمؤمنين ﴿ وَلَوْ حَرَصْتَ ﴾ وتهالكت على إيمانهم لتصميمهم على الكفر وعنادهم.
﴿ وَمَا تَسْئَلُهُمْ ﴾ على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى، كما يعطى حملة الأحاديث والأخبار ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ ﴾ عظة من الله ﴿ للعالمين ﴾ عامة، وحث على طلب النجاة على لسان رسول من رسله.
﴿ مِّنْ ءَايَةٍ ﴾ من علامة ودلالة على الخالق وعلى صفاته وتوحيده ﴿ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا ﴾ ويشاهدونها وهم معرضون عنها لا يعتبرون بها. وقرىء :«والأرضُ » بالرفع على الابتداء، ويمرون عليها : خبره، وقرأ السدّي «والأرضَ » بالنصب على : ويطأون الأرض يمرّون عليها. وفي مصحف عبد الله : والأرض يمشون عليها، برفع الأرض، والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر.
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم ﴾ في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض، إلا وهو مشرك بعبادته الوثن، وعن الحسن : هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : هم الذين يشبهون الله بخلقه.
﴿ غاشية ﴾ نقمة تغشاهم. وقيل : ما يغمرهم من العذاب ويجللهم وقيل : الصواعق.
﴿ هذه سبيلى ﴾ هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي. والسبيل والطريق : يذكران ويؤنثان، ثم فسر سبيله بقوله :﴿ ادعوا إِلَى الله على بَصِيرَةٍ ﴾ أي أدعو إلى دينه مع حجة واضحة غير عمياء. و ﴿ أَنَاْ ﴾ تأكيد للمستتر في ﴿ أدعوا ﴾. ﴿ وَمَنِ اتبعنى ﴾ عطف عليه. يريد : أدعو إليها أنا، ويدعو إليها من اتبعني ويجوز أن يكون ﴿ أَنَاْ ﴾ مبتدأ، و ﴿ على بَصِيرَةٍ ﴾ خبراً مقدّماً، ﴿ وَمَنِ اتبعنى ﴾ عطفاً على ﴿ أَنَاْ ﴾ إخباراً مبتدأ بأنه ومن اتبعه على حجة وبرهان، لا على هوى، ويجوز أن يكون ﴿ على بَصِيرَةٍ ﴾ حالاً من ﴿ أَدْعُو ﴾ عاملة الرفع في ﴿ أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى ﴾، ﴿ وسبحان الله ﴾ وأنزهه من الشركاء.
﴿ إِلاَّ رِجَالاً ﴾ لا ملائكة ؛ لأنهم كانوا يقولون ﴿ لَوْ شآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ ملائكة ﴾ [ فصلت : ١٤ ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : يريد ليست فيهم امرأة. وقيل : في سجاح المتنبئة.
وَلَمْ تَزَلْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ ذُكْرَانَا ***
وقرىء :«نوحي إليهم »، بالنون. ﴿ مّنْ أَهْلِ القرى ﴾ لأنهم أعلم وأحلم، وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء والقسوة ﴿ وَلَدَارُ الآخرة ﴾ ولدار الساعة، أو الحال الآخرة ﴿ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا ﴾ للذين خافوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه. وقرىء :«أفلا تعقلون »، بالتاء والياء.
﴿ حتى ﴾ متعلقة بمحذوف دلّ عليه الكلام، كأنه قيل :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً ﴾ فتراخى نصرهم حتى [ إذا ] استيأسوا عن النصر ﴿ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ ﴾ أي كذبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنهم ينصرون، أو رجاؤهم لقولهم : رجاء صادق، ورجاء كاذب. والمعنى أنّ مدّة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت، حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : وظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر وقال : كانوا بشراً، وتلا قوله :﴿ وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ﴾ [ البقرة : ٢١٤ ] فإن صح هذا عن ابن عباس، فقد أراد بالظنّ : ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية. وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر، فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف الناس بربهم، وأنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبيح ؟ وقيل : وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا، أي : أخلفوا. أو : وظنّ المرسل إليهم أنهم كذبوا من جهة الرسل، أيّ : كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدّقوهم فيه. وقرىء :«كذبوا » بالتشديد على وظن الرسل أنهم قد كذبتهم قومهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم. وقرأ مجاهد «كذبوا » بالتخفيف، على البناء للفاعل، على : وظن الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدثوا به قومهم من النصرة، إمّا على تأويل ابن عباس، وإمّا على أنّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثراً قالوا لهم : إنكم قد كذبتمونا فيكونون كاذبين عند قومهم. أو وظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوا. ولو قرىء بهذا مشدّداً لكان معناه ؛ وظنّ الرسل أن قومهم كذبوهم في موعدهم. وقرىء :«فننجى » بالتخفيف والتشديد، من أنجاه ونجاه. وفنجى، على لفظ الماضي المبني للمفعول، وقرأ ابن محيصن «فنجا » والمراد ب ﴿ مَّن نَّشَاء ﴾ المؤمنون، لأنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم. وقد بين ذلك بقوله ﴿ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين ﴾.
الضمير في ﴿ قَصَصِهِمْ ﴾ للرسل، وينصره قراءة من قرأ :«في قصصهم » بكسر القاف. وقيل : هو راجع إلى يوسف وإخوته. فإن قلت : فالإم يرجع الضمير في ﴿ مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى ﴾ فيمن قرأ بالكسر ؟ قلت : إلى القرآن، أي : ما كان القرآن حديثاً يفترى ﴿ ولكن ﴾ كان ﴿ تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي قبله من الكتب السماوية ﴿ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء ﴾ يحتاج إليه في الدين، لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس بعد أدلة العقل. وانتصاب ما نصب بعد ﴿ لَكِنِ ﴾ للعطف على خبر كان. وقرىء : ذلك بالرفع على «ولكن هو تصديق الذي بين يديه ».
Icon