تفسير سورة يوسف

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

في عموم احوالك من امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتهذيب الأخلاق والأطوار إذ هو صلّى الله عليه وسلّم زبدة ارباب التوحيد الواصلين بمقعد الصدق ومقام التفريد. والسابقون واللاحقون كلهم مقتبسون من مشكاة انواره ومصابيح اسراره صلّى الله عليه وسلّم فعليك ايها المستفيد المسترشد من الكلام المجيد ان تضبط عموم احوالك على الاستقامة والاعتدال وتجتنب عن كلا طرفي الإفراط والتفريط وتستعيذ بالله عن مداخلة الرياء والسمعة المنافيين للإخلاص واعلم ان خير قرينك في طريقك هذا الرضا والتسليم والتوكل والتفويض الى العزيز العليم ولك اختيار العزلة والفرار عن الخلطة والاجتناب عن الانخراط في سلك اهل الثروة واصحاب الغفلة ودوام القناعة بالكفاف والعزوبة بالعفاف سيما في زمانك هذا وإياك إياك ان تفرق همك وتشغل خاطرك في امور دنياك ولو لحظة حتى لا تورثك هما كثيرا وحزنا طويلا إذ المسافر في منزله لا يتصرف الا بمقدار مقيله اما تسمع قول النبي الأديب الأريب. كن في الدنيا كأنك غريب. واشدد حيازيمك للموت والرحيل.
كأنك عابر سبيل. وبالجملة لا تغتر بحياتك في دار الغرور. وعدّ نفسك من اصحاب القبور. فهذا دأب اهل السرور. وديدنة ارباب الحضور. جعلنا الله من خدامهم وتراب اقدامهم
[سورة يوسف عليه السّلام]
فاتحة سورة يوسف عليه السّلام
لا يخفى على من تأمل في صور الرؤيا وتدبر في كيفية ظهورها وانمحائها سريعا وترتب الآثار الغريبة على تعبيراتها ان الوجود الخيالى الطف الموجودات وأرقها وأصفاها عن كدر الهيولى وأشبهها بالتجليات الإلهية المتجددة المتشعشعة دائما الا ان الآثار الغيبية التي هي منتزعة عنها مأخوذة منها ستوجد البتة لذلك وجب العبور عنها والتعبير لها ولهذا صار الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزء من أجزاء النبوة الا ان المطلعين عليها والمتأملين فيها لا يكونون الا ممن خصه الله بالنفوس القدسية والمرتبة الحدسية المتفرعة على التمرن والرسوخ في كشف سرسريان الوحدة الذاتية المتجلية على ذرائر المكونات وكذا في كيفية رقائق المناسبات والارتباطات الواقعة بين أجزاء المظاهر وجزئياتها والمتصف المتحقق بهذه المرتبة العلية في غاية الندرة إذ بواسطة ذلك الاتصاف قد صارت كمالاتهم اللائقة لنشأتهم كلها بالفعل وصاروا بذلك مستحقين للخلافة والنيابة الإلهية ومنهم يوسف الصديق صلوات الله عليه وسلامه قد أحاط بمقتضيات حضرة الخيال الى حيث لم يشذ عن تعبيره صورة من صور الرؤيا كما اخبر عنه الحق سبحانه في هذه السورة ويفصح عنه التواريخ والآثار المروية عن النبي المختار صلّى الله عليه وسلّم ثم لما أراد سبحانه ان يشير الى مرتبته صلّى الله عليه وسلّم وينبه على حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بعلو شأنه وسمو رتبته ذكر قصته في كتابه تتميما لسعة دائرة كمال حبيبه صلى الله عليه وسلّم والمقتفين اثره صلّى الله عليه وسلّم من خلص اولياء الله لينال كل منهم الى ما قدر الله لهم من لطفه وحظوظ المراتب العلية فقال متيمنا باسمه الكريم بِسْمِ اللَّهِ المتجلى بكمالاته على حضرة الخيال الرَّحْمنِ لعباده بالعبور عنها الى صور الهياكل العينية والتمثال الرَّحِيمِ لهم أوصلهم الى كيفية ظهوره بالتفصيل والإجمال
[الآيات]
الر ايها الإنسان الأكمل اللائق الرشيد لرفع لواء سرائر الربوبية ورموز التوحيد وتمييز أجل لباب الرؤيا والروايات الواردة البينة عن قشورها تِلْكَ العبر والأمثال والقصص والآثار المذكورة لك فيما يتلى عليك يا أكمل الرسل لتأييدك وارتفاع شأنك آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ الذي هو عبارة عن حضرة علمنا المحيط المشتمل
على عموم مراداتنا ومقدوراتنا
إِنَّا من مقام عظيم لطفنا وجودنا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً منظما على صور الألفاظ والعبارات مترجما عما عليه الأمر في حضرة علمنا الحضوري عَرَبِيًّا أسلوبه عناية منا إليكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ معناها وتطلعون على مرموزاتها وإشاراتها وتطرحون عقولكم المموهة لكم لكشف سرائرها وخفياتها
نَحْنُ من كمال لطفنا معك يا أكمل الرسل نَقُصُّ عَلَيْكَ تأييدا لأمرك تعظيما لشأنك أَحْسَنَ الْقَصَصِ سماعا واستماعا وأكملها انتفاعا وأشملها عبرة وأتمها فائدة وأعمها عائدة إذ الفطن اللبيب قد استفاد منها من العبر والتذكيرات والرموز والإشارات ما يكفى مؤنة سلوكه في امر دينه لو كان من ذوى الرشد واهل الخبرة والبصيرة وانما علمنا هالك ونبهنا عليك ملتبسا بِما أَوْحَيْنا وبمقتضى ايحائنا وانزالنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ المخبر عن المغيبات المكنونة المخزونة في حضرة علمنا ولوح قضائنا وَإِنْ كُنْتَ أنت في نفسك مِنْ قَبْلِهِ اى من قبل وحينا والهامنا إياك لَمِنَ الْغافِلِينَ
اذكر يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ حين بلغ الحلم وترقى من الطفولية يا أَبَتِ ناداه تحننا اليه إِنِّي رَأَيْتُ في المنام أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً من الكواكب العظام وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
ايضا معهن رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ جميعا واضعين جباههم على تراب المذلة والهوان عندي تعظيما وتكريما جمعها جمع العقلاء باعتبار ما يئول اليه ويأول به ثم لما تفرس أبوه من رؤياه ما تفرس بادر الى نهيه ومنعه عن الانتشار والإفشاء لإخوته
حيث قالَ له أبوه قبل ان يشتغل بتأويلها وتعبيرها يا بُنَيَّ صغره تلطفا عليه وإشفاقا وتخوفا من كيد اخوته معه لا تَقْصُصْ ولا تذكر رُؤْياكَ التي قد رأيتها عَلى إِخْوَتِكَ لئلا يحسدوا لك من ارتفاع شأنك فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً باغواء الشيطان إياهم ويحتالوا لمقتك وهلاكك حسدا ومكرا عليك وبالجملة إِنَّ الشَّيْطانَ المغوى المضل لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة محيل عظيم يعاديهم في لباس الصداقة ويفسدهم في صورة الإصلاح
ثم لما سارع يعقوب عليه السّلام بالنهى عن الإفشاء تحذيرا وتخويفا له من كيد اخوته اشتغل بتأويل رؤياه فقال وَكَذلِكَ اى ومثل اراءتك هذه الرؤيا وتخصيصك بها يَجْتَبِيكَ وينتخبك رَبُّكَ من بين الناس ويخصك بالرياسة العظمى والمرتبة العليا إلا وهي النبوة والنيابة الإلهية وَبعد ما يصطفيك ويجتبيك يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ اى يخصصك بعلم الرؤيا وتعبيرها بحيث قد انكشف لك حضرة الخيال انكشافا تاما وَبالجملة يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَبوسيلتك عَلى آلِ يَعْقُوبَ وبنيه وأحفاده ومن ينتمى اليه من ذرياته وان سفل كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ وجديك مِنْ قَبْلُ في سالف الزمان يعنى إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ قد أعطاهما من الانعام والإفضال ما لم يعط أحدا من الخلة والإنجاء والانقاذ والفدية والخلاص وغير ذلك من النعم الجسام إِنَّ رَبَّكَ الذي رباك بأنواع اللطف والكرم عَلِيمٌ بعلمه الحضوري باستعدادات عباده على مقتضى ما ثبت في لوح قضائه اجمالا حَكِيمٌ في صور تفاصيله وفق الإجمال بحيث لا يشذ عن حيطة علمه شيء
واعلم يا أكمل الرسل انه لَقَدْ كانَ فِي قصة يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وما جرى بينهم من الحيل والمخادعات وإسقاط المروءة وانواع الخيانات والجنايات الناشئة من القوى الطبيعية التي هي من مقتضيات الهيولى ولوازم الأركان والإمكان ومن الانابة والرجوع منها الى الله في الخلوات واظهار الندم والاستحياء من الله ومن يوسف وأبيه آياتٌ دلائل واضحات وشواهد لائحات دالة على سرائر التوحيد واسرار العرفان
لِلسَّائِلِينَ عن دقائق المعارف والحقائق ورقائق الايمان والعرفان لو تأملوا في رموزها وإشاراتها واعتبروا منها
اذكر لهم يا أكمل الرسل وقت إِذْ قالُوا اى اخوة يوسف حين بثوا الشكوى من أبيهم في خلواتهم حاسدين على يوسف وأخيه والله لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ بنيامين أضافوه اليه لكونه من امه وهم ليسوا كذلك أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا يؤانس بهما ويتحنن نحوهما وَنَحْنُ عُصْبَةٌ فرقة ذووا قوة وكفاية نحن نستحق وننبغى ان يحننا ويلتفت إلينا وبالجملة إِنَّ أَبانا في تفضيل المفضول وترجيح المرجوح لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر المخالفة بالعقل والعرف فعليكم ايها الاخوان ان تتأملوا في امر أبيكم وتحتالوا لمقت يوسف وهلاكه حتى لا يلحق العار عليكم ولا يمحقكم الحقد والحسد
وبالجملة اقْتُلُوا يُوسُفَ حتى ييأس أبوكم منه ويقبل نحوكم بالمرة أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً بعيدة عن العمران غاية البعد حتى ينساه أبوه وحينئذ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ اى يخص ويخلص لكم مواجهة أبيكم خاليا عن اغياركم ويقتصر حينئذ التفاته وتحننه نحوكم وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ اى بعد فقد يوسف عن نظر أبيكم وغيبته من عنده قَوْماً صالِحِينَ لخدمته وصحبته وموانسته او المعنى بان تتوبوا بعد ما قد صدر عنكم هذه الجريمة وتكونوا من بعده قوما صالحين تائبين نادمين وبعد ما شاوروا في مقت يوسف وطرحه وطرده
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ وهو يهودا وكان أحسنهم رأيا لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ إذ نحن عترة الأنبياء لا يليق بنا قتله بلا رخصة شرعية وَان أردتم ان تدفعوه عن عند أبيكم أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ الذي على متن الطريق يَلْتَقِطْهُ ويذهب به بَعْضُ السَّيَّارَةِ اى بعض السائرين في اقطار الأرض الواردين على الماء فلا طريق لكم لطرده وتبعيده سوى هذا إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قاصدين جازمين ان تفعلوا معه ما يبعده عن وجه أبيه وبعد ما سمعوا من يهودا ما سمعوا فقد استقر رأيهم على ما رأى فأخذوا يحتالون ويمكرون لينالوا ما قصدوا به فاجتمعوا يوما عند أبيهم تحننا عليه وتواضعا
قالُوا له على سبيل الشكوى واظهار الحزن يا أَبانا نحن بنوك وعبيدك ويوسف أخونا وقرة أعيننا وقوة ظهرنا ما لَكَ واى شيء منا وصل إليك وحصل دونك لا تَأْمَنَّا ولا تجعلنا أمينا مشفقا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا في أنفسنا لَهُ لَناصِحُونَ مشفقون حافظون حارسون مريدون الخير له ثم لما تفرسوا بان كلامهم قد اثر في أبيهم ولاح منه امارات الرضا والتسليم أخذوا في المكر حيث قالوا متضرعين اليه متحننين نحوه
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً نخرج الى الصحراء مستنشقين يَرْتَعْ ويتفكه من انواع الفواكه وَيَلْعَبْ بأنواع اللعب من الاستباق والانتضال تفريجا وتفريحا وَلا تخف من ان يلحقه مكروه إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ بجمعنا من عموم المكاره
وبعد ما قد الحوا بما الحوا بالغوا بما بالغوا قالَ أبوهم إِنِّي من شدة محبتي وشوقي اليه وتحننى وعطفي نحوه لَيَحْزُنُنِي مفارقته وأَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَمع ذلك أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لان ارضنا هذه مذئبة وَأَنْتُمْ من شدة شغلكم على الرتع واللعب عَنْهُ غافِلُونَ حينئذ ذاهلون عن حصانته وحفظه
وبعد ما سمعوا منه كلامه قالُوا على وجه الاستبعاد والإنكار مقسمين تغريرا وتأكيدا لمكرهم وخداعهم والله لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَكيف اكله إذ نَحْنُ عُصْبَةٌ وجماعة أقوياء وذوو عدة وعدة وقدرة وقوة إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ضعفاء ذليلون مغبونون انما قالوا ذلك على سبيل التشدد واظهار الجرأة والشجاعة كأنهم يستدلون على عدم وقوع المحذر به
فَلَمَّا احتالوا وبالغوا في المكر والحيلة الى ان ذَهَبُوا بِهِ اى
بيوسف الى الصحراء فاشتغلوا أولا بضربه وشتمه والقهر عليه وانواع العذاب والعقاب وكادوا ان يقتلوه ظلما وعدوانا قال لهم يهودا أنتم قد عهدتم ان لا تقتلوه فما هذه المبالغة والاشتداد في زجره ايها الجاهلون المفرطون اما تستحيون من الله وَبعد ما قال لهم يهودا هذا أَجْمَعُوا واتفقوا على أَنْ يَجْعَلُوهُ ويطرحوه فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وهو جب مشهور بجب يوسف على ثلثة أميال من صفد يعقوب قريب بجسر يقال له جسر يعقوب بفرسخ تقريبا فقربوه على الجب وعزموا على القائه فيها فتعلق يوسف بشفير البئر فربطوا يديه ونزعوا منه قميصه ليلطخوا بالدم الكذب فالقوه مربوطة اليدين على الماء وكان فيها صخرة عظيمة فجلس عليها عريانا قلقا حائرا حزينا مضطربا مستوحشا وَبعد ما القوه وقضوا الوطر عنه قد أزلنا وحشته وكربه عنه عناية منا إياه بان أَوْحَيْنا وألهمنا من مقام لطفنا وجودنا إِلَيْهِ لا تغتم ايها الصديق الصدوق من صنيع هؤلاء الغواة الهالكين في تيه الحسد والعناد انا بمقتضى كرمنا وإحساننا لنفضلنك عليهم ونمكننك على انتقامهم بحيث لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وتحدثنهم أنت معاتبا عليهم منتقما منهم بِأَمْرِهِمْ هذا معك وحيلتهم ومكرهم مع أبيك وَهُمْ في تلك الحالة لا يَشْعُرُونَ انك يوسف لعلو شانك وارتفاع قدرك وسلطانك اصبر ايها الصديق على أذاهم في الحال فان لك السطوة والسلطنة عليهم في المآل
وَبعد ما فعلوا بيوسف ما فعلوا قد جاؤُ أَباهُمْ ملتبسين محتالين عِشاءً في آخر اليوم يَبْكُونَ صائحين صارخين فزعين فجعين تغريرا على أبيهم وتزويرا
فلما سمع يعقوب صياحهم واضطرابهم فقال ما لكم واين يوسف قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ونتسابق بالعدو والرمي واستمر تسابقنا زمانا وَقد تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا لحفظها فغفلنا عنه بغرور السباق فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وكنت قد تطيرت من أول الأمر فوقع وَقد كنا نعلم منك يا أبانا ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ مصدق لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ فيما أخبرنا لك لسوء ظنك بنا وفرط محبتك بيوسف
وَبعد ما تفرسوا منه الإنكار والاستبعاد جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ اى معه بِدَمٍ كَذِبٍ يعنى جاءوا حال كونهم مثبتين لدعواهم بدم كذب ملطخ بقميصه مفترين بالذئب بانه قد اكله وبعد ما جاءوا بالقميص الملطخ طلبه منهم أبوهم فألقاه على وجهه فبكى بكاء فظيعا فجيعا وتمادى في البكاء زمانا طويلا حتى احمر وجهه من الدم الملطوخ به ثم كشف القميص فرآه لم يمزق فقال ما رأيت ذئبا احلم من هذا الذئب قد أكل ابني ولم يمزق قميصه ثم قالَ متوجها إليهم ما جئتم به معتذرين على ليس بمطابق للواقع بَلْ قد سَوَّلَتْ زينت وسهلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً بإلقاء الشيطان وتعليمه إياكم لتعتذروا به على فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أجمل على فيما ابتليت به وما امرى وشأنى سوى هذا وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى احتمال ما تَصِفُونَ بألسنتكم ايها المسرفون المفسدون المفرطون إذ لا طاقة لي بحمله الا بعون الله واقداره
وَبعد ما مضى ثلثة ايام على الإلقاء جاءَتْ سَيَّارَةٌ رفقة وقفل عظيم يسيرون من مدين الى مصر فنزلوا قريب الجب فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ الذي قد كان يرد الماء للاستقاء وهو مالك بن ذعر الخزاعىّ فَأَدْلى دَلْوَهُ وألقاها لإخراج الماء فتدلى بها يوسف فأخرجها فرآه قالَ مستبشرا فرحانا يا بُشْرى تعالى فهذا أوانك إذ هذا الذي قد خرج في الدلو بدل الماء غُلامٌ صبيح مليح في كمال الصباحة والملاحة وَبعد ما أخرجه هو ومن معه من رفقائه أَسَرُّوهُ واخفوا امره ليكون بِضاعَةً لهم وقت
وصولهم الى مصر ليشتروه ويقسموا ثمنه وَاللَّهُ المطلع مخايل عباده عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ ويأملون وهم يسرونه في نفوسهم ولما اطلع اخوة يوسف على قدوم السيارة ونزولهم حول الجب تسارعوا نحوهم ليبيعوه لهم حتى يخلصوا منه بالمرة فوصلوا الجب ولم يجدوه فبادروا نحو القفل وتجسسوا فوجدوه عندهم فقالوا لهم هذا عبدنا قد ابق منا ان اشتريتم نبيعه على ما رضيتم وأقر يوسف ايضا على الرقية خوفا من القتل ولم ينكر عليهم
وَبالجملة شَرَوْهُ بعد اعترافه بالرقية وباعوه بِثَمَنٍ بَخْسٍ مبخوس منقوص دَراهِمَ لا دنانير مَعْدُودَةٍ قليلة وَانما شروه بها إذ هم قد كانُوا فِيهِ اى في شأن يوسف وفي حقه مِنَ الزَّاهِدِينَ الراغبين المعرضين عنه لذلك باعوه بها وبعد ما اشتراه مالك بن ذعر من اخوته بما اشتراه ذهب به الى مصر بضاعة فلما أوصله الى مصر وأراد ان يبيعه فسلمه الى النخاس فباعه
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ وهو العزيز الذي قد كان على خزائن ملك مصر واسمه قطفير او اطفير حين ذهب به الى بيته لِامْرَأَتِهِ زليخا أو راعيل أَكْرِمِي مَثْواهُ وأحسني حاله ومعاشه وتلطفى معه بأنواع اللطف والشفقة انى أتفرس منه الرشد والنجابة عَسى أَنْ يَنْفَعَنا بعقله ورشده وكفايته وتدبيره أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً يستخلف منا لأنه كان عقيما فأراد ان يتبناه وَكَذلِكَ اى مثل ما عطفنا قلب العزيز عليه بعد قهر اخوته وفرقة أبيه وأخيه وغربته من وطنه في صغر سنه ووحشته في غيابت الجب وذلة رقيته قد مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وجعلناه متصرفا عليها ذا قدرة واختبار تام ورشد كامل ليتصرف فيها كيف يشاء وَلِنُعَلِّمَهُ وننبه عليه مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ الواقعة في عالم الكون والفساد وطريق الرشد والعدالة ليصل بها الى العدالة الحقيقية الحقية التي هي عبارة عن النبوة والنيابة الإلهية وَبالجملة اللَّهُ المدبر لأمور عباده غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ المراد له المتعلق لمصالح عموم عباده وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ غلبته سبحانه واستقلاله في امره وتصرفه في ملكه لذلك اشتغلوا بخلاف مراده والسعى في ابطال مشيته كاخوة يوسف فلم يصلوا الى ما قصدوا
وَلَمَّا بَلَغَ يوسف أَشُدَّهُ وكمال عقله وقوته وأوانه في الغالب ما بين الثلثين والأربعين قد آتَيْناهُ انجازا لما وعدنا عليه في سابق علمنا وقضائنا حُكْماً حكومة بين الناس مقارفة بالقسط والعدل السوى وَعِلْماً بسرائر الأمور ورقائق المناسبات ومن جملتها تعبير الرؤيا وَكَذلِكَ اى مثل ايتائنا إياه من الفضائل والفواضل المقدرة له في لوح القضاء نَجْزِي عموم الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب معنا في عموم حالاتهم اتقاء منا وتوجها إلينا
وَاذكر يا أكمل الرسل اتقاء يوسف الصديق من الله سيما وقت اشتغال نار الشهوة في عنفوان الشباب وحين راوَدَتْهُ وخادعته والحت عليه بالوقاع الامرأة الَّتِي هُوَ اى يوسف فِي بَيْتِها والحال انه هي سيدة له حاكمة عليه وهي زليخا امرأة العزيز وقد احتالت عليه بأنواع الحيل حتى تخرجه عَنْ نزاهة نَفْسِهِ ونحبة فطرته الا وهي العصمة والعفاف وتوقعه الى ما تهواه نفسها وهو الوقاع والسفاح وَبالغت في ذلك المكر والاحتيال الى ان غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ السبعة يوما عليه وخلت معه في بيت وَقالَتْ متحننة عليه معرضة نفسها اليه هَيْتَ لَكَ يعنى بادريا يوسف الى التعانق والجمع معى قالَ يوسف حينئذ بمقتضى نجابة النبوة وطهارة الفطرة والفطنة بالهام الله إياه مع سورة شهوته ووفور ميله اتقاء من محارم الله ورعاية لحق من احسن اليه مَعاذَ اللَّهِ اى أعوذ بالله معاذا والوذ نحوه سبحانه ان يعصمني عن أمثال هذه الفعلة الذميمة
والديدنة القبيحة سيما مع من يربيني ويحسن الى فكيف إِنَّهُ اى الشان هذا رَبِّي يربيني بأنواع اللطف والكرم سيما قد أَحْسَنَ مَثْوايَ وأوصلني بإحسانه فكيف اسئ في مقابلة احسان محسنى ومتولى امرى ومتولى نعمى وبالجملة إِنَّهُ اى الشان لا يُفْلِحُ ولا يفوز الظَّالِمُونَ بالخير والحسنى لو خرجوا عن مقتضى الأمر الإلهي سيما بالإساءة في مقابلة الإحسان
وَبعد ما قد رد يوسف عليها أمرها وبالغت هي فيه ولم تفد بل هي لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ اى قصدت وتعلقت زليخا به ارادة واختيارا وَهَمَّ يوسف ايضا بِها بمقتضى بشريته مع انه لا ارادة له بمرادها ولا اختيار إذ الكف عن المنهي لا بد وان يكون عند القدرة عليه والا لم يكن ممدوحا ولا مستوجبا للمثوبة والقربة لَوْلا أَنْ اى ان يوسف رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ودليله الواضح الدال على قبح الزنا واساءة المحسن بإلقاء الله إياه والهامه في قلبه لهلك البتة بطغيان نيران القوة الشهوية لكن قد رآه باراءة الله إياه فأبى وامتنع وبالجملة كَذلِكَ فعلنا معه وألهمنا عليه لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ في مقابلة الإحسان وَالْفَحْشاءَ بدل العصمة والعفاف إِنَّهُ اى يوسف الصديق مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ الخالصين عن رين البشرية وشين شهويتها وغضبيتها المنزهين عن مقتضيات القوى البهيمية مطلقا وبعد ما قد غلب على يوسف الاتقاء عن محارم الله بمقتضى البرهان الذي قد رآه باراءة الله إياه بادر نحو الفرار منها وقصد ان يخرج من البيت وقصدت ايضا ان تمنعه عن الخروج
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وتسابقا نحوه فسبقها يوسف فأخذت ذيل قميصه وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ وشقت ذيله مِنْ دُبُرٍ إذ هي في عقبه ففتح يوسف الباب فخرجا متعاقبين مضطرين وَأَلْفَيا سَيِّدَها وصادفا زوجها لَدَى الْبابِ وعنده قالَتْ مسرعة باكية على سبيل الشكاية ما جَزاءُ واى شيء مكافاة مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً وقصد الزنا معها مكرها إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ غير ان يقيد ويدخل في السجن أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم أشد من السجن وانما فعلت كذلك وبادرت الى الشكوى متباكية لتظهر براءتها وعفتها عند زوجها وتحمل الخطأ على يوسف لتنتقم عنه او تلينه وترضيه وتضطره الى إنجاح مرادها منه مع انها قد شغفها حبا بحيث لم تصبر عنه لخطة
قالَ يوسف حينئذ مستحييا من ربه يا سدى مالي في ذلك خطأ بل هِيَ بنفسها قد راوَدَتْنِي وخادعتنى عَنْ نَفْسِي مرارا وأمرت على بالفعل الشنيع تكرارا فلم اقبله منها ولم ارض به وَبعد ما تعارضا عند السيد قد شَهِدَ شاهِدٌ هو صبي في المهد شهد في غير أوانه إذ هو رضيع لم يتكلم بعد بإنطاق الله إياه واقداره عليه وأبهم في الشهادة وأجمل إذ هو مِنْ أَهْلِها وابن عمها او ابن خالها فقال الشاهد الرضيع إِنْ كانَ قَمِيصُهُ اى قميص يوسف قُدَّ وشق مِنْ قُبُلٍ ومن قدامه فَصَدَقَتْ زليخا وَهُوَ اى يوسف مِنَ الْكاذِبِينَ في دعوى البراءة والتنزه
وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ وخلف فَكَذَبَتْ هي في دعوى العصمة والبراءة وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما ادعى من البراءة والعفة
فَلَمَّا رَأى اى السيد قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ تفرس الى براءته وطهارة ذيله مع ان الشاهد ايضا ليس من ارباب الولاية إذ هو صبي رضيع في المهد لم يتكلم الا بهذا فكوشف من نجابته وعفته ما كوشف وتوجه نحو زوجتها وقالَ مقرعا عليها معرضا إياها إِنَّهُ وما وقع من أمثال هذا الأمر والشان مِنْ كَيْدِكُنَّ ومكركن أيتها المحتالات إِنَّ كَيْدَكُنَّ وحيلتكن أيتها الماكرات المفسدات عَظِيمٌ من كيد الشيطان ومكره إذ الشيطان قد يستعين
ويستمد منكن وقت اضطراره
ثم لما انكشف الأمر عند العزيز وجزم بطهارة ذيل يوسف ونجابة طينته بادر الى ستره واخفائه خوفا من الفضيحة فقال مناديا ليوسف أولا لصدقه وطهارته يا يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا التكلم واسكت منه واكتمه في سرك فقد ظهر على صدقك وبراءتك وَاسْتَغْفِرِي أنت ايضا يا زليخا لِذَنْبِكِ إِنَّكِ في هذا الأمر قد كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ المتعمدين القاصدين على الجريمة القبيحة والديدنة الشنيعة جمعه جمع المذكر للتغليب
وَبعد ما شاع أمرهما وانتشر قصتهما بين الأنام قالَ نِسْوَةٌ جماعة من صناديد النسوان فِي الْمَدِينَةِ على سبيل التشنيع والتقريع امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ وتخادع فَتاها عَنْ نَفْسِهِ طلبا لمواقعته إياها ومجامعته معها إذ قَدْ شَغَفَها حُبًّا يعنى قد دخل حبه في جميع شغاف قلبها وشقوقه فصار قلبها مملوا بمحبته وعشقه لذلك راودته ما اشنعها وافضحها وبالجملة إِنَّا لَنَراها بقبح فعلها وسوء صنيعها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ من لحوق العار عليها وعلى زوجها وفشو الفضيحة سيما مع الرقيق وكسر عرض العزيز بين الأنام
فَلَمَّا سَمِعَتْ راعيل بِمَكْرِهِنَّ وغيبتهن وتخطئتهن إياها خفية أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ قواصد ليدعوهن على سبيل الضيافة وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ وهيأت لكل واحدة منهن في بيتها مُتَّكَأً على حدة ليتكأن عليه على ما هو عادة بلدتهم ووضعت عند كل متكأ طبقا من الفواكه مثل الرمان والتفاح والكمثرى وغيرها وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ وبعدد رؤسهن سِكِّيناً شديد الحدة والمضأ وبعد تهيئة أماكنهن على الوجه المذكور قد جئن وجلسن عليها واشتغلن بأكل الفواكه وتنقية قشورها بالسكين وَبعد ذلك قالَتِ زليخا ليوسف اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فخرج فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وكبرن جميعا لله برؤية جماله وكمال حسنه البديع وبهائه وغاية نضارته وصفائه إذ يتشعشع ويلمع ضوء وجهه على الجدار مثل الشمس والقمر. وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم انه قال رأيت أخي يوسف الصديق عليه السّلام ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر ومن شدة حيرتهن بحسنه وجماله بهتن بأجمعهن وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ اى كل منهن وَبعد ما افقن قُلْنَ مستبعدات مستغربات حاشَ لِلَّهِ وتنزه ذاته من ان يعجز عن خلق مثله غير انه ما هذا الهيكل المرئي بَشَراً إذ لا نرى البشر قط على هذه الصورة إِنْ هذا ما هذا المشاهد المحسوس إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ نجيب مصور من الروح لا من الطين وبعد ما قد تفرست زليخا منهن ما تفرست من كمال الحيرة والحسرة والوله والهيمان برؤيته
قالَتْ فَذلِكُنَّ وهذا ذلك العبد الكنعانى الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وفي مراودته والافتنان به وبمحبته ولما رأت راعيل منهن ما رأت من نفسها بل أشد منه أقرت عندهن ما فعلت معه لتستعين منهن ويحتلن هن وهي بأجمعهن في تليين قلبه فقالت متحسرة مقسمة وَالله لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ مرارا كثيرة فَاسْتَعْصَمَ وابى عن القبول من كمال عفته وعصمته ومن نجابة فطرته وطينته وَالله لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ ولم ينجح ما انا آمرة به طالبة إياه ولم يقبل قولي ولم يقض حاجتي لَيُسْجَنَنَّ وليحصرن في السجن مدة وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ الذليلين المهانين الباقين في السجن مدة مديدة فلما قالت راعيل ما قالت وأقسمت بما أقسمت التفتت النسوة بأجمعهن على اعانتها واتفقن على إنجاح مرادها والحن واقترحن على يوسف بقبول قولها والإتيان بمطلوبها إلحاحا بليغا بل قد اضمرن في انفسهن كل منهن إتيانه عليهن بمقتضى شهوات النساء وبعد ما رأى يوسف منهن اتفاقهن واجتماعهن على منكر ناجى ربه من شرهن وتعوذ نحوه سبحانه
من فتنتهن
حيث قالَ رَبِّ يا من رباني بأنواع اللطف والكرم والعصمة والعفاف السِّجْنُ الذي قد اوعدتنى به هذه المرأة أَحَبُّ إِلَيَّ وآثر عندي مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ هؤلاء الطغيات البغيات الغويات وَإِلَّا تَصْرِفْ بفضلك وعصمتك يا ربي عَنِّي كَيْدَهُنَّ ولم تحفظني من مكرهن بإلقاء البرهان العقلي والكشفى في سرى أَصْبُ امل انا إِلَيْهِنَّ واتحنن نحوهن بمقتضى القوى البهيمية وَحينئذ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ المتابعين لشيطان الشهوة الخارجين عن مقتضى العقل المفاض من المبدأ الفياض وبعد ما أخلص في مناجاته وأبر في رجوعه وعرض حاجاته
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ ما ناجاه فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ وحفظه عن مكرهن إِنَّهُ لذاته وبمقتضى أوصافه وأسمائه هُوَ السَّمِيعُ لمناجات عباده الْعَلِيمُ بحاجاتهم منها ونياتهم فيها
ثُمَّ بَدا ولاح لَهُمْ اى للعزيز وأصحابه مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ اى بعد رؤيتهم علامات الصدق وامارات العصمة والعفاف سيما بشهادة الطفل الرضيح بطهارته وصدقه مع انه لم يعهد من أمثاله هذه فتشاوروا في امره وتأملوا في شأنه فاستقر رأيهم لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ لئلا يلحق العار على راعيل ولا ينتشر بين الأنام صدقه وعصمته وقبح صنيعها وفاحشة فعلها بل يحسبونه مجرما وراعيل غير متهمة لذلك حملوا الجرم عليه وراموه افتراء فأدخلوه في السجن انتقاما ومراء
وَدَخَلَ مَعَهُ اى مع يوسف السِّجْنَ في تلك المدة فَتَيانِ من أعوان الملك شرابيه وخبازه بتهمة قد اتهما بها وهي معروفة فلما تفرسا منه الرشد والنجابة وصفاء الصورة والأخلاق قالَ أَحَدُهُما وهو الشرابي مستعبرا عنه حاكيا عما مضى إِنِّي أَرانِي في المنام أَعْصِرُ ماء العنب لاتخذ منه خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ وهو الخباز إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً مع طبق تَأْكُلُ وتنهش الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ وأخبرنا عما يئول اليه ويئول به رؤيانا إِنَّا نَراكَ في بادى الرأى مِنَ الْمُحْسِنِينَ الصالحين المصلحين لمفاسد الأنام وتفصيل ما يشكل عليهم ومن جملته تعبير الرؤيا ثم لما تفرس يوسف منهم الإخلاص وحسن الظن بالنسبة اليه بادر قبل الاشتغال بالتعبير الى تمهيد مقدمة دالة على التوحيد والايمان والمعرفة والإيقان منبهة على استقلال الحق الحقيق بالحقية في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وجميع آثاره الحادثة في الكائنات والفاسدات وعلى نبوته وعلو رتبته وتشرفه بخلعة الخلة والخلافة من عنده سبحانه
حيث قالَ أولا لا يَأْتِيكُما في المستقل طَعامٌ تُرْزَقانِهِ لسد الجوعة وتقويم المزاج إِلَّا نَبَّأْتُكُما وأخبرتكما انا أولا بِتَأْوِيلِهِ وتبيين ماهيته وكيفية تأثيره وتوليده من الأخلاط وتقويته للمزاج كيف هو وعلى اى وجه قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما وقبل ان يظهر عندكما بمدة ذلِكُما اى تعبير رؤيا كما وتأويل طعامكما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي من جملة الأمور التي قد علمني ربي من لدنه حيث اطلعنى على رقائق المناسبات ودقائق الارتباطات والازدواجات الواقعة بين أجزاء العالم وجريانها على التفصيل المشروح المثبت في الأعيان الثابتة في عالم الأسماء والصفات المنبسطة على ظواهر الأكوان إِنِّي بعد ما انكشف الغطاء عن بصرى وارتفعت الحجب عن بصيرتي قد تَرَكْتُ بتوفيق الله إياي مِلَّةَ قَوْمٍ ذوى حجب لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وبتوحيده واستقلاله في الوجود وكذا في التصرفات والآثار الصادرة الظاهرة على صفحات الكائنات بمقتضى الجود وَمع ذلك هُمْ بِالْآخِرَةِ اى النشأة المعدة لجزاء ما جرى عليهم في هذه النشأة هُمْ كافِرُونَ منكرون جاحدون
وَبالجملة قد اتَّبَعْتُ انا في سلوك طريق التوحيد مِلَّةَ آبائِي
وأجدادي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا وما صح وما جاز لنا معاشر الأنبياء والرسل أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ المتوحد بذاته وأوصافه وأسمائه المستقل في وجوده وحقيقته مِنْ شَيْءٍ لا وجود له أصلا سوى العكسية والظلية وبالجملة ذلِكَ الشهود والانكشاف مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ الذين قد أرسلنا إليهم وبعثنا بينهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
الناسين حقوق نعم الله لا يَشْكُرُونَ نعمة الإرسال وبعثة الرسل ولا يواظبون على أداء شكرها ثم لما مهد يوسف عليه السّلام لصاحبيه طريق التوحيد ونبه عليهما السلوك عليه والتوجه نحوه اشارة الى دعوتهما اليه على سبيل التدريج كما هو دأب الأنبياء
فقال مناديا لهما ليقبلا على قبول مقوله يا صاحِبَيِ السِّجْنِ الساكنين فيه المصاحبين معى أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ متكثرون في العدد متماثلون في عدم القدرة والاختيار خَيْرٌ عندكم وأحق بعبادتكم وانقيادكم أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الأحد المتوحد في ذاته المستقل في ألوهيته وربوبيته المستغنى عن المظاهر مطلقا الْقَهَّارُ الغالب على جميع السوى والأغيار
واعلموا ايها الاخوان ان ما تَعْبُدُونَ أنتما ومن على دينكما في مصر من عبدة الالهة الباطلة مِنْ دُونِهِ اى من دون الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في الوجود أصلا ما هو إِلَّا أَسْماءً مطلقة على اظلال معدومة وعكوس موهومة قد سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ من تلقاء انفسكم آلهة ومعبودات مع انه ما أَنْزَلَ اللَّهُ المنزل للكتب المرسل للرسل بِها مِنْ سُلْطانٍ اى بشأن آلهتكم من حجة وبرهان عقلي او نقلي حتى تكون تمسكا لكم في اتخاذكم هؤلاء التماثيل آلهة مستحقة للعبادة والإطاعة إِنِ الْحُكْمُ وما الأمر المطلق والاستحقاق التام للاطاعة والانقياد وعبادة العباد إِلَّا لِلَّهِ المتردي برداء العظمة والكبرياء المتفرد بالجلال والبقاء المتوحد في البسطة والاستيلاء إذ هو المستحق بالعبادة وهو المستقل بالربوبية والألوهية وهو في ذاته هو ولا شيء سواه ولا اله الا هو مع انه قد أَمَرَ في عموم ما انزل على أنبيائه ورسله من الكتب والصحف أَلَّا تَعْبُدُوا ولا ترجعوا ايها الاظلال الهالكة والعكوس المستهلكة الباطلة إِلَّا إِيَّاهُ إذ به وبمد اظلال أوصافه وأسمائه قد ظهرت أشباحكم ولاحت تماثيلكم وأرواحكم فلا رجوع لكم الا اليه ذلِكَ اى طريق التوحيد الذاتي هو الدِّينُ الْقَيِّمُ الأقوم الأعدل الذي لا عوج فيه أصلا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لكثافة حجبهم وغلظ اغطيتهم واغشيتهم لا يَعْلَمُونَ ولا يفهمون سرّ سريان الوحدة في الكثرة لذلك حجبوا بالمظاهر المتكثرة عن الوحدة الظاهرة فانصرفوا عن طريق الحق الى الباطل الزاهق الزائل ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ثم لما دعاهما يوسف عليه السّلام الى الايمان والتوحيد ونبه عليهما طريقه اشتغل بتعبير الرؤيا
فقال مناديا لهما ايضا يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما وهو الشرابي فَيَسْقِي رَبَّهُ سيده خَمْراً على ما كان عليه بلا احتياج الى تأويل وَأَمَّا الْآخَرُ وهو الخباز فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ هذا ما ظهر لي في تأويل رؤياه بتوفيق الله إياي وبعد ما سمعا منه التأويل والتعبير قالا له قد كذبنا فيما قلنا لك واستعبرنا منك قال يوسف عليه السّلام قد قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ وحكم حكما مبرما على الوجه الذي ذكر في حضرة علم الله ولوح قضائه إذ الأمر الذي جرى على السنة الرسل والأنبياء لا بد وان يقع إذ لا جريان للكذب وعدم المطابق للواقع في ألسنتهم
وَحينئذ قالَ يوسف الصديق لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا وهو الشرابي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ واذكر حالي وقصتي للملك
عند ملاقاتك وقل ان رجلا قد سجن بلا جرم صدر عنه أوصاه به رجاء ان يستخلصه ويستكشف عن امره ولم يستثن مع ان المناسب بحاله ورتبته العلية الاتكال على الله والتبتل والتفويض والتسليم بلا التفات الى الغير أصلا والرضاء بما جرى عليه من القضاء والتصبر على هجوم البلاء وتزاحم العناء فضلا عن ان يستمد بلا استثناء وذلك في صغر سنه وعنفوان شبابه وقبل نزول الوحى عليه وقبل عروجه الى معراج استعداده وقابليته وبالجملة فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ للناجى ذِكْرَ رَبِّهِ اى ذكر يوسف وحكاية حاله عند الملك حين جلس في مجلسه وسقى له خمرا فَلَبِثَ وبقي يوسف عليه السّلام بسبب ترك الاستثناء وطمع الإعانة والاستخلاص من المصنوع الأرذل الأنزل وطلب الاستعانة منه فِي السِّجْنِ بعد ما قد لبث فيه خمسا بِضْعَ سِنِينَ اى سبعا بعد الخمس مجازاة عليه وانتقاما عنه كما قال نبينا صلّى الله عليه وسلّم رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك لما لبث في السجن سبعا بعد الخمس
وَبعد ما لبث في السجن بضعا قد هيأ سبحانه لخلاصه سببا بعد ما ادّبه بترك الاستثناء بان قالَ الْمَلِكُ وهو ريان بن الوليد لأصحابه يوما من الأيام إِنِّي أَرى في المنام سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَايضا أرى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَسبعا أُخَرَ يابِساتٍ قد التففن وتعلقن على السبع الخضر فغلبن عليها فجمع من في ملكه من اهل التنجيم والتكهين وجميع العلماء والصلحاء وعرضها عليهم وقال يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ وعبروها لي واوّلوها على إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ اى ان كنتم من اهل التعبير والعبور والعبرة والاعتبار فلما سمعوا قوله وتأملوا في رؤياه
قالُوا بأجمعهم متفقين ما هذه الا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وأباطيل قد صورتها القوة المتخيلة وخلطتها تخليطا بحيث لا تقبل التعبير والتأويل أصلا وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ الباطلة بِعالِمِينَ معبرين مأولين
وَبعد ما عجز الملأ عن تعبير رؤيا الملك واجمعوا على انها أضغاث احلام قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما اى من صاحبي السجن وهو الشرابي الموصى له بالذكر فنسي وَادَّكَرَ تذكر بهذا التعبير وما اوصى له يوسف عليه السّلام لكن بَعْدَ أُمَّةٍ ومدة مديدة من الزمان أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ الى السجن فأرسله الملك ودخل عليه
فقال يا يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ الصدوق الصادق سيما في تأويل الرؤيا أَفْتِنا وعبر لنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ ملتفة الى سبع أخر وَأُخَرَ يابِساتٍ عبر لي هذه الرؤيا لَعَلِّي أَرْجِعُ بتأويلها إِلَى النَّاسِ الذين هم قد عجزوا عن تعبيرها وصيروها من الأباطيل والتخليطات الساقطة عن التعبير والتأويل لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تأويله ويفحمون عما يقولون ان هذه الرؤيا للملك وهم قد جعلوها من قبيل الأضغاث وأنت إذا عبرتها أرجو ان تتخلص من هذا السجن
قالَ يوسف مأولا للرؤيا مدبرا فيه طريق المعاش لئلا يضطروا في تدبيره أنتم تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً على ما هو دأبكم وعادتكم فَما حَصَدْتُمْ وحصلتم منها في تلك المدة فَذَرُوهُ واتركوه فِي سُنْبُلِهِ يعنى عليكم ان تدخروا ما حصدتم في سنى الخصب بان تتركوه في سنبله ولا تفرقوه منه ولا تدوسوه لئلا يقع فيه السوس إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ في تلك المدة
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد انقراض سنى الخصب والرخاء سَبْعٌ شِدادٌ وذوات جدب وعناء بحيث لا ينبت فيها الزرع وتلك المدد يَأْكُلْنَ اى أهلها من ما قَدَّمْتُمْ وادخرتم لَهُنَّ في سنى الخصب إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ اى تحرزونه وتحفظونه للبذر والزرع
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ اى بعد انقضاء السبع الشداد عامٌ ذو بركة ورخاء فِيهِ يُغاثُ ويمطر النَّاسُ بعد ما منعوا من القطر والمطر مدة مديدة وَصار الناس من كمال الخصب والرخاء وكثرة الفواكه فِيهِ يَعْصِرُونَ الأدم من العنب والخرنوب وانواع الحبوب وبالجملة كل ما جاء به يوسف عليه السّلام من التأويل والتدبير انما هو مستند الى الوحى والإلهام والعلم برقائق المناسبات الواقعة بين ذرائر الأكوان ولما سمع الشرابي من يوسف ما سمع تسارع نحو الملك وأخبره ما سمع من التعبير
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فأرسل من يحضره فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ليخرجه من السجن قالَ يوسف لا اخرج من السجن ما لم يظهر براءتي وعصمتي وطهارة ذيلي وكمال عفتي مما يرموننى ويسجنوننى بسببه ارْجِعْ ايها الرسول إِلى رَبِّكَ سيدك فَسْئَلْهُ ان يكشف عن امرى وما جرى على من أولئك المفترين سيما ليسئل ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وما امرهن وشأنهن معى إِنَّ رَبِّي الذي رباني بكمال العصمة والعفة بِكَيْدِهِنَّ ومكرهن الذي قد قصدن معى عَلِيمٌ على التفصيل الذي يخفين في نفوسهن يجازيهن في يوم الجزاء بمقتضى علمه
ثم لما رجع الرسول الى الملك واخبر عن حاله ومقاله بادر الملك الى إحضار تلك النسوان فحضرن قالَ الملك لهن مستفهما عنهن مفتشا عما جرى بينهن وبين يوسف ما خَطْبُكُنَّ وشأنكن أيتها الماكرات المحتالات إِذْ راوَدْتُنَّ وخادعتن بأنواع الحيل والخداع يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ واى شيء ظهر منه من امارات الفساد وعلامات الفسوق حتى تجترئن أنتن بمراودته قُلْنَ بأجمعهن بعد ما سمعن كلام الملك واستفساره على وجه الانتقام حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وفعلة ذميمة وديدنة قبيحة باعثة لنا الى مراودته سوى انا قد رأيناه على صورة عجيبة وحسن بهى بديع وقد ملنا اليه وأردنا مخالطته فاستعصم من كمال عفته ونجابة طينته ثم قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ عند الملك بعد ما بدا ما اخفت وفشا ما سترت مقرة مقررة معترفة بطهارة ذيله الْآنَ قد حَصْحَصَ اى لاح وظهر الْحَقُّ وارتفع عنه الحجب وانكشف الأستار أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ بعد ما قد شغفنى حبه وازعجنى ميله وَإِنَّهُ في نفسه وعموم أقواله وأفعاله لَمِنَ الصَّادِقِينَ المبرئين المنزهين عما افترينا عليه ورمينا به
ثم لما انكشف امره عند الملك وثبت براءته لديه أرسل الرسول اليه ثانيا ليخرجه من السجن قال يوسف حينئذ بمقتضى الحكمة الصادرة من السنة الأنبياء توطينا لنفس العزيز وتسلية له ليجزم انه ما أساء الأدب في السر والعلانية ذلِكَ الكشف والتفتيش انما هو لِيَعْلَمَ العزيز يقينا أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ حين انغلاق الأبواب السبعة على وانا مع زوجته فكيف مع غيرها وَليعلم العزيز ايضا أَنَّ اللَّهَ المطلع بعموم ما جرى على عباده لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ولا يوصل اهل الخيانة مطلقا الى ما يقصدونه اليه بكيدهم وحيلهم بل يفضحونهم بها على رؤس الاشهاد في الاولى والاخرى
ثم قال هضما لنفسه وكسرا لها وَما أُبَرِّئُ وانزه نَفْسِي عن مطلق الفرطات والغفلات وعن عموم الخواطر القبيحة والديدنة الشنيعة بمقتضى القوى الشهوية واللذة البهيمية وكيف ابرئ وانزه إِنَّ النَّفْسَ المركوزة في الجبلة الانسانية لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ مائلة بالطبع الى الفساد متوجهة نحوه ان خليت وطبعها إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي وحفظها من كمال رحمته وشفقته من طغيانها ومن وسوسة الشيطان المضل المغوى إليها إِنَّ رَبِّي الذي رباني بالعصمة والعفاف غَفُورٌ لما صدر عنى من الخواطر النفسانية رَحِيمٌ يرحمني
بفضله ويعصمني بلطفه عما يبعدنى من كنف حفظه وجواره
وَبعد ما فتش الملك عن أحواله وما جرى عليه وثبت وتحقق عنده أمانته وديانته ورعايته حقوق سيده وحفظ الغيب معه ورشده في الأمور سيما في التعبيرات والتأويلات وصدقه في جميع الأقوال الصادرة عنه قالَ الْمَلِكُ متحننا عليه متشوقا الى لقائه ائْتُونِي بِهِ سريعا أَسْتَخْلِصْهُ واجعله خالصا لِنَفْسِي ليكون أنيسي وجليسي ومولى أموري وظهيري في عموم تدبيرى فاحضروه عنده وسلّم على الملك ترحيبا وتعظيما فَلَمَّا كَلَّمَهُ وأخذ بحمد الملك وثنائه ودعائه باللغة العبرية قالَ الملك ما هذا اللسان قال هذا لسان آبائي وأجدادي وكان الملك يتكلم على سبعين لغة فكلم معه بجميعها فأجاب بجميعها واحسن فيها فتعجب الملك منه وقال أريد ان اسمع تأويل رؤيائي من فيك فحكاه وبين وجوه المناسبات بين البقرات والسنوات المجدبة والمخصبة وكيفية الانتقالات والتعبيرات على مقدار فهم الملك وتأويلات السنابل الخضرة واليابسة على الوجه الذي الهم واوحى فازداد الملك محبة ومودة لذلك قال إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ ذو مكانة ومرتبة علية ومنزلة رفيعة أَمِينٌ مؤتمن على عموم أمورنا فلك اليد والتصرف في ملكنا كيف تشاء وبعد ما تفرس يوسف عليه السّلام ان لا محيص له عنه ولا بد له من ارتكاب امر من امور الملك
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ اى ارض مصر إِنِّي بإقامة هذه الخدمة حَفِيظٌ بوجوه محافظة اى جنس من الأجناس عَلِيمٌ بطرق تدابيرها والتصرف فيها قيل قد اتفق وفات قطفير هو سيد يوسف عليه السّلام في تلك الليالى وقد كان هذا المنصب له لذلك طلبه وتزوج زوجته التي قد شغفها حبا فوجدها عذراء وولد ليوسف افرائيم وميشا
وَكَذلِكَ ومثل ما سمعت من القصة قد مَكَّنَّا واقدرنا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ اى في ارض مصر بعد ما أدخلناه فيها رقيقا مهانا وصيرناه محبوسا مسجونا مدة متطاولة ورفعنا مكانته فيها الى حيث يَتَبَوَّأُ يتنعم ويترفه مِنْها اى من نواحيها وبلادها حَيْثُ يَشاءُ وتهوى نفسه ويميل إليها طبعه إذ من سنتنا القديمة وعادتنا المستمرة انا نُصِيبُ ونوفى بِرَحْمَتِنا التي قد وسعت كل شيء مَنْ نَشاءُ من خلص عبادنا المجبولين على فطرة توحيدنا السالكين سبيل الانابة والرجوع الى فضاء فنائنا وَبالجملة نا لا نُضِيعُ ولا نهمل ولا ننقص أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله في عموم أحوالهم وشئونهم ولا يغفلون عنه سبحانه طرفة ولا يلتفتون الى غيره لمحة ولا يخطر ببالهم سواه خطرة هذا مآلهم في النشأة الاولى
وَالله لَأَجْرُ النشأة الْآخِرَةِ المعد لهم فيها خَيْرٌ منها بأضعاف وآلاف كل ذلك لِلَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد الله عن ظهر القلب وصميم الفؤاد وَكانُوا يَتَّقُونَ عن محارم الله طلبا لمرضاته وقياما بحسن آدابه ورجاء من ثوابه وخوفا من عقابه
وَحين استوزر الملك يوسف عليه السّلام واقام لضبط الممالك وقيام امور الناس من التدبيرات المتعلقة بأمور معاشهم من تكثير الغلات والزراعات وتحصيل الأرزاق والأقوات حتى دخلت السنون المجدبة وقد كانت البيوتات والمغلات المتعلقة للملك مملوة بأنواع الأقوات واصناف الحبوبات وبعد ما أحاط الجدب والقحط جميع بلاد المصر والشام وعمم البلوى في عموم الأماكن والجهات اضطر الناس من الأقاصي والأداني الى ان يلتجئوا الى باب العزيز ليستغلوا منه ويسدوا رمقهم بها لذلك قد جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ من الكنعان ليستغلوا فَدَخَلُوا عَلَيْهِ بأجمعهم فَعَرَفَهُمْ في الفور وسألهم عن الوطن والمصلحة فقالوا نحن أولاد يعقوب عليه السّلام
نبي الله ابن اسحق ذبيح الله بن ابراهيم خليل الله قد جدبنا الآن واضطررنا الى ان جئنا لنستقوت من جاه العزيز ثم قال لهم يوسف أنتم بأجمعكم أبناء رجل واحد قالوا نعم ان لأبينا اثنى عشر ابنا عشرة من زوجة واثنان من زوجة اخرى ونحن تلك العشرة وواحد من الاثنين قد هلك في الصحراء والآخر عند أبينا يوانس معه ويدفع به وحشة أخيه إذ هو محبوب له مرغوب عنده وَهُمْ مع طول صحبتهم معه ومجالستهم عنده لَهُ مُنْكِرُونَ بحيث لا يتفطنون ولا يتنبهون فكيف يعرفونه
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ الخدام باذن العزيز بِجَهازِهِمْ وهيئوا رحالهم وأحمالهم وأرادوا ان يشدوا فدخلوا على العزيز للتوديع قالَ لهم العزيز ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ليدل على صدقكم ونجابة أصلكم أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وأتمه لكم وأوفره عليكم وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ واحسن المضيفين إياكم
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ اى بأخيكم فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي بعد اليوم وَلا تَقْرَبُونِ ولا تدخلوا دارى وأنتم حينئذ قوم كاذبون وبعد ما سمعوا منه كلاما موحشا تفرسوا انهم لو لم يأتوا بأخيهم لما كال لهم العزيز ولم ينزلهم فكيف ان يحسن إليهم ويضيفهم
قالُوا له معتذرين ان له أبا شيخا كبيرا ضريرا اسيفا ضعيفا محزونا يتسلى به وبالجملة سَنُراوِدُ ونجتهد مقدار وسعنا وطاقتنا عَنْهُ أَباهُ ونخادع بأنواع الحيل والخداع حتى نأتى به وَإِنَّا لَفاعِلُونَ البتة وجوها من الخدعة لإتيانه ان قبل أبونا
وَبعد ما هيئوا للسفر وأرادوا ان يرحلوا قالَ يوسف عليه السّلام لِفِتْيانِهِ أعوانه وخدامه اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ التي قد أتوا بها وهي الأدم والنعال فِي رِحالِهِمْ على وجه لا يشعرون لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها وقت إِذَا انْقَلَبُوا ورجعوا إِلى أَهْلِهِمْ وبعد رؤيتهم البضاعة ايسوا لَعَلَّهُمْ بعد ذلك يَرْجِعُونَ بأخيهم لو رجعوا
فَلَمَّا رَجَعُوا من مصر إِلى أَبِيهِمْ وحكوا عنده جميع ما قد جرى بينهم وبين العزيز من الحكايات التي مضت ثم طلبه منهم من يصدقهم ويشهد لهم واضطرارهم من الشاهد وأمرهم العزيز بإحضار أخيهم بنيامين ليكون مصدقا لهم ثم بعد ما بسطوا الكلام عند أبيهم قالُوا متفقين يا أَبانا قد مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ بعد اليوم لو لم ترسل معنا بنيامين فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا ليكون مصدقا لنا عند العزيز وبعد تصديقه إيانا نَكْتَلْ لجميعنا وَلم لم ترسل معنا أخانا يا أبانا إِنَّا بجميعنا لَهُ لَحافِظُونَ من لحوق المكروه عليه إذ نحن عصبة ذوو قدرة وقوة
قالَ لهم أبوهم متأسفا متحزنا هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ وأجعلكم وقاية له وكفيلا لحفظه إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ يوسف مِنْ قَبْلُ وبالجملة فَاللَّهُ المراقب على عباده في عموم أحوالهم خَيْرٌ لهم حافِظاً اى من جهة الحصانة والحفظ وَهُوَ في ذاته أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ إذ رحم كل راحم راجع اليه إذ هو رحيم بالذات ورحم غيره؟؟؟ يتشعب من رحمه وبعد ما قد الحوا مع أبيهم واقترحوا له بإرسال أخيهم وتفرسوا منه انه لم يرض بإرساله خرجوا من عنده محزونين
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ التي قد جاءوا بها وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ التي قد اشتروا بها الكيل رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ندموا وتحزنوا ثم رجعوا الى أبيهم شاكين مشتكين قالُوا يا أَبانا انا نجزم بمنع الكيل لو نكر ما نَبْغِي واى شيء نعمل وندبر هذِهِ بِضاعَتُنا قد رُدَّتْ إِلَيْنا على وجه لا نطلع عليها الا الآن وبالجملة قد جزمنا ان لا كيل لنا ان عدنا اليه مرة اخرى بلا إتيان أخينا بل نكون عند العزيز من الكاذبين الصاغرين المهانين وَبالجملة قد نسأل منك يا أبانا من كمال كرمك وجاهك ان ترسل معنا أخانا ليصدقنا عند العزيز
وبعد تصديقه إيانا نَمِيرُ ونحمل العطايا العظام من عنده أَهْلَنا ولأجلهم وَنَحْفَظُ في الذهاب والإياب أَخانا وَنَزْدادُ بسببه كَيْلَ بَعِيرٍ وحمله إذ من سنة العزيز ان يحمل لكل منا بعيرا ذلِكَ الكيل الذي قد جئنا به كَيْلٌ يَسِيرٌ نزر قليل لا يفي لمعاشنا الى وقت الخصب ما لم نزده ثم لما بالغوا في سؤالهم واقترحوا الاسعاف بما طلبوا
قالَ لهم أبوهم معاتبا عليهم لَنْ أُرْسِلَهُ اى بنيامين مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ اى يمينا وقسما عظيما أثق به واعتمد عليه لَتَأْتُنَّنِي بِهِ البتة بلا خلاف إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ نوع من البلاء من إلمام العدو وغيره فَلَمَّا اضطروا الى ما طلبه أبوهم منهم آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ فرضي أبوهم بإرسال أخيهم معهم ضرورة قالَ أبوهم تأكيدا لهم وتغليظا وتفويضا لأمره الى ربه اللَّهِ المطلع لعموم احوال عباده عَلى ما نَقُولُ ويجرى بيننا وَكِيلٌ رقيب كفيل حفيظ يفعل بنا بمقتضى علمه وخبرته ما فعل ثم لما رضى يعقوب عليه السّلام بإرسال ابنه بنيامين معهم فشدوا الرحال وأرادوا ان يخرجوا وصى يعقوب عليه السّلام لبنيه ان يتفرقوا عند الدخول الى مصر ولا يدخلوها كوكبة واحدة خوفا منهم ان يعانوا إذ هم ذو جمال وبهاء كان الناس يتعجبون منهم حيث انصرفوا مجتمعين
قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا على البلدة مِنْ بابٍ واحِدٍ مجتمعين بل وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ فرادى فرادى حتى لا يلحقكم ضرر العيون اللامة وَاعلموا انى ما أُغْنِي وادفع بقولي لكم هذا عَنْكُمْ مِنَ قضاء اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ بل إِنِ الْحُكْمُ وما الأمر والشان إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ لا على غيره من العكوس والاظلال تَوَكَّلْتُ في كل الأمور والأحوال وَعَلَيْهِ سبحانه في عموم الخطوب والملمات فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ إذ لا رجوع للكل الا اليه
وَبالجملة لَمَّا دَخَلُوا مصر مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ وعلى الوجه الذي أوصاهم متفرقين من أبواب متعددة مع انه ما كانَ يُغْنِي ويدفع عَنْهُمْ تدبير أبيهم مِنْ قضاء اللَّهِ المقدر لهم في حضرة علمه ولوح قضائه إذ لا معقب لحكمه ولا مرد لقضائه مِنْ شَيْءٍ قليل إِلَّا حاجَةً يعنى سوى انه قد كانت حاجة اى هذه الوصية تختلج فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها واوصى بها لابنائه تفألا وتفريجا وَإِنَّهُ اى يعقوب عليه السّلام في نفسه لَذُو عِلْمٍ كامل ومعرفة تامة فائضة له من لدنا متعلقة بما لا مرد لقضائنا ولا مبدل لقولنا ولا معقب لحكمنا لذلك قال وما اغنى عنكم من الله من شيء وذلك لِما عَلَّمْناهُ بطريق الوحى والإلهام إياه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المجبولين على الجهل والنسيان لا يَعْلَمُونَ ان قضاءنا لا يرد وان الحذر لا يغنى عن القدر وان الكائن مقدر وان المقدر لا يدفع بالحذر
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ مع بنيامين أضافهم واجلس كل اثنين منهم على سماط فبقى بنيامين وحيدا فبكى وتأوه متحسرا وقال لو كان أخي يوسف حيا لما بقيت وحيدا ولما رأى يوسف حينئذ بكائه آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ورجع نحوه وضمه الى نفسه وأجلسه على سماطه ثم امر يوسف ان ينزلوا كل اثنين منهم بمنزل واحد فبقى بنيامين لا ثانى له فاغتم حينئذ أشد اغتمام فذهب به يوسف عليه السّلام الى منزله فقال له أتحب ان أكون انا أخاك بدل أخيك الهالك قال فمن يجد مثلك أخا ايها العزيز غير انك لم يلدك يعقوب ولا راحيل ثم لما تفرس يوسف منه ازدياد الحزن والكربة والكآبة وشدة التأسف والتغمم قالَ لا تحزن ولا تغتم يا أخي بنيامين إِنِّي بشخصى أَنَا أَخُوكَ يوسف ابن يعقوب وراحيل قد احتال على إخوتك وخادعونى بأنواع الحيل والخداع الى ان فرقوا بيني
وبين ابى بمدة مديدة ضنا وحسدا فأنقذني الله عن مكرهم وكيدهم واخلصنى عن قيد الرقية والسجن وانواع المحن وقد رفع الآن قدري ومكانتى وشرفني بلقياك يا أخي وأعطاني من الكرامات ما لا يعد ولا يحصى فَلا تَبْتَئِسْ ولا تحزن يا أخي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ معى ومعك من انواع الصغار والهوان واصناف الأذيات ثم لما أقر عينا بنيامين بوجه يوسف وسر قلبه بلقياه سيما بعد ما ايس وقنط يأسا كليا قال يا أخي انا لا أفارقك ابدا قال له يوسف لا يتيسر لنا هذا الا بعد ان اتهمك بتهمة فآخذك لأجلها ان رضيت قال رضيت انا باية تهمة اتهمتنى أنت بها
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ على الوجه المعهود وشدوا رحالهم جَعَلَ السِّقايَةَ اى امر يوسف للخدمة ان يجعلوا السقاية التي بها يكال الأقوات وهي من الفضة وقيل من الذهب فِي رَحْلِ أَخِيهِ بنيامين وبعد ما شدوا الرحال ودعوا مع العزيز جميعا فخرجوا ثُمَّ بعد ما خرجوا من البلدة أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ وصاح عليهم صائح من شرطة العزيز أَيَّتُهَا الْعِيرُ والقفل الزموا مكانكم الى اين تمشون إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ
قالُوا مدبرين وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ اى على الصائحين مضطربين خائفين ماذا تَفْقِدُونَ ايها الفاقدون المتفقدون
قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ اى الظرف الذي يصاع ويكال به وَبالجملة لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من الكيل وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ضمين اتكفل ان أتفحص من رحله
قالُوا مضطربين مقسمين مستبعدين تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ايها الخدمة والعزيز ايضا انا ما جِئْنا عندكم وفي أرضكم لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ سيما السرقة فإنها من اكبر الفسادات في دين أبينا وَبالجملة ما كُنَّا سارِقِينَ أصلا إذ نحن أولاد الأنبياء ولا يليق بنا أمثال هذه
قالُوا اى الشرطة والخدام فَما جَزاؤُهُ واى شيء جزاء السارق منكم إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في دعوى البراءة والنزاهة
قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ نفسه وشخصه جَزاؤُهُ اى جزاء سرقته بان يسترق سنة وقد كان جزاء السارق في دين يعقوب استرقاق سنة وبالجملة كَذلِكَ ومثل ما قلنا نَجْزِي الظَّالِمِينَ السارقين في دين أبينا يعقوب عليه السّلام
ثم لما أفتوا بما أفتوا أخذوا بالكشف والتفتيش فَبَدَأَ الزاعم بِأَوْعِيَتِهِمْ وتفتيشها وتفحصها قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين ثُمَّ بعد ما استقصى الكل واستقرأه تفتيشا اسْتَخْرَجَها اى السقاية مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ لئلا يظن انهم يدسونها في رحله كَذلِكَ اى مثل كيد يوسف لاخذ أخيه بنيامين قد كِدْنا لِيُوسُفَ في اخذه من يد إخوتهم وخلاصه من الرق والسجن وكدنا له ايضا في أخذ أخيه من اخوته بفتواهم ايضا إذ ما كانَ وما صح وما جاز له لِيَأْخُذَ أَخاهُ بجرم السرقة فِي دِينِ الْمَلِكِ اى ملك مصر إذ في دينه الضرب وأخذ ضعف ما سرق منه إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هذا الحكم المخصوص في دين الملك وألهمه يوسف بنفاذه او يحكم يوسف عليه السّلام في هذه المسألة على دين آبائه او كان الملك قد اسلم بيده ودخل بدين آبائه على ما نقل إذ نَرْفَعُ ونعلو دَرَجاتٍ ومراتب ومنازل مَنْ نَشاءُ من عبادنا بازدياد انواع الفضائل والكمالات والحقائق والمعارف وَلا يبعد منا أمثال هذا إذ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أعلى واعلم منه لا الى نهاية إذ لا انقطاع لتجددات التجليات أصلا لذلك قال سبحانه الا طال شوق الأبرار الى لقائي ومن وراء شئوني وتجلياتى ثم لما شاهد الاخوة استخراج الوعاء من رحل بنيامين اضطربوا اضطرابا شديدا وتحزنوا حزنا بليغا
قالُوا مغاضبين عليه مريدين مقته إِنْ يَسْرِقْ هذا اللئيم فلا تتعجبوا منه إذ هي من ديدنة أخيه قد سرت عليه فَقَدْ
سَرَقَ مثله أَخٌ لَهُ اكبر منه مِنْ قَبْلُ في أوان طفوليته يريدون منه يوسف عليه السّلام قيل ورثت عمة يوسف عليه السّلام من أبيها منطقة ابراهيم عليه السّلام وكانت تحضن يوسف عليه السّلام وتحبه فلما شب يوسف أراد يعقوب انتزاعه من عندها فلم ترض العمة فشدت المنطقة على وسطه ثم أظهرت ضياعها فتفحصت عنها فوجدتها مشدودة في وسطه فتحا كما فصارت أحق به في دينهم فلما سمع يوسف منهم ما سمع فَأَسَرَّها وكتمها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ ولم يظهر الإنكار عليهم بل أضمر حيث قالَ في نجواه وسره أَنْتُمْ ايها المسرفون المفرطون شَرٌّ مَكاناً وخصلة ومنزلة وشأنا وَاللَّهُ المطلع لأحوال عباده أَعْلَمُ منكم بِما تَصِفُونَ وتشرحون بألسنتكم افتراء ومراء
ثم لما جزم العزيز بأخذ أخيه على جريمة السرقة واسترقاقه الى سنة قالُوا متضرعين متذللين منادين له على وجه الخضوع راجين منه قبوله يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أدام الله عزك وجاهك إِنَّ لَهُ اى لهذا المفسد السارق أَباً شَيْخاً كَبِيراً في السن والمرتبة إذ هو نبي من الأنبياء وقد صار ضريرا من فراق ابنه الهالك يتسلى قلبه ويزول وحشته وكربه بمؤانسة هذا المفسد المسرف مع انا قد حلفنا معه وآتيناه موثقا عظيما ان نرجع به فَخُذْ من جاهك وإحسانك أَحَدَنا مَكانَهُ وبدّله بواحد منا ليخدم في بابك وأطلقه لنذهب به الى أبيه الضرير الضعيف لئلا يستوحش هو ولا نحنث نحن في حلفنا وبالجملة احسن إلينا كما احسن الله إليك إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ المتعودين للإحسان المتمرنين فيه فتمم علينا إحسانك وامتنانك سيما على الشيخ الضعيف الضرير
قالَ يوسف مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ يعنى نعوذ بالله ان نأخذ غير السارق بدله ظلما لمصلحتكم إِنَّا ان فعلنا مثل ما طلبتم منا قد كنا إِذاً لَظالِمُونَ خارجون عن حدود الله بلا اذن شرعي
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ ومن تبديله خَلَصُوا وخرجوا من عنده نَجِيًّا مناجين في نفوسهم بان ما عليه العزيز هو الحق لان أخذ البرئ بدل المجرم ظلم صريح ثم لما صمموا العزم الى الرجوع وايسوا من أخذ بنيامين قالَ كَبِيرُهُمْ رأيا او سنا وهو رؤبيل او شمعون أَلَمْ تَعْلَمُوا ايها المسرفون أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً عظيما وعهدا وثيقا مِنَ اللَّهِ القادر المقتدر على وجوه الغضب والانتقام بان ترجعوا به وَايضا لم تستحيوا من الله ولم تتذكروا قبيح صنيعكم مِنْ قَبْلُ في سالف الزمان اما تستحضرون ما فَرَّطْتُمْ فِي حق يُوسُفَ وشأنه من الإذلال والزجر التام والألم المفرط والإلقاء في الجب وبيعه بالدراهم المعدودة واسترقاقه وغير ذلك من انواع الأذيات معه ومع أبيه وأخيه بفراقه وأنتم ايها المفرطون ما استحييتم من الله تدّعون وراثة الأنبياء وتنسبون انفسكم إليهم وصنيعكم هذا وبعد اللتيا والتي قد فعلتم بأخيه هذا وبالجملة فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ انا ولن أزول عن ارض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ
ارْجِعُوا أنتم إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا بسرقته وإسرافه إِلَّا بِما عَلِمْنا يقينا انه سارق وما علمنا سرقته الا بالمشاهدة والاحساس بان اخرج صاع الملك من رحله وَانا وان كنا حفيظا له رقيبا عليه لكن ما كُنَّا لِلْغَيْبِ المخفي المستتر عنا حافِظِينَ إذ لا اطلاع لنا على سره وضميره
وَان لم تقبل يا أبانا منا قولنا سْئَلِ الْقَرْيَةَ اى من أهلها الَّتِي كُنَّا فِيها لرعى الحوامل وتهيئة الأسباب وَأسهل من ذلك اسئل الْعِيرَ والقفل الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها
إذ هم رفقاؤنا معنا حين سرق ابنك وأخذوه مع انا قد اجتهدنا كثيرا ان يأخذوا أحدا منا بدله لم يقبلوا منا وقالوا لا نأخذ الا من وجدنا متاعنا عنده وان مضينا وقضينا بمقتضى مقترحكم نكون إذا من الظالمين بأخذ البرئ بدل الجاني مع ان أخانا يهودا اوروبيل قد تخلف عنا خوفا من الحنث واستحياء منك وَالله يا أبانا إِنَّا لَصادِقُونَ فيما حكينا لك عما جرى علينا ثم لما رجعوا الى أبيهم وقالوا له ما قالوا على التفصيل المذكور وسمع منهم يعقوب عليه السّلام ما سمع تأسف وتأوّه وبكى كثيرا
ثم قالَ من اين يعرف العزيز ان السارق يؤخذ بسرقته بَلْ سَوَّلَتْ زينت وحسنت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ان تفرقوا ابني عنى ظلما وعدوانا كما قد فرقتم أخاه فيما مضى فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وما امرى وشأنى في هذا ايضا الا صبر جميل إذ الصبر الجميل أجمل منى فيما فرطتم فيّ وفي ابنىّ ايها المفسدون المسرفون المفرطون عَسَى اللَّهُ الكريم الرّحيم المطلع بحالي وحزنى وبشدة كآبتى وكربتي أَنْ يَأْتِيَنِي بمقتضى لطفه وسعة جوده ورحمته بِهِمْ اى بيوسف وأخيه وبكبيركم المتخلف عنكم جَمِيعاً مجتمعين إِنَّهُ سبحانه بذاته هُوَ الْعَلِيمُ بمناجاة عباده وميلهم الى حاجاتهم الْحَكِيمُ في أفعاله على مقتضى مصالح عباده
وَبعد ما سمع منهم أبوهم ما سمع قد تَوَلَّى اعرض وانصرف عَنْهُمْ مغاضبا عليهم مشتكيا الى ربه من سوء فعالهم وَقالَ من شدة حزنه وكآبته ونهاية ضجرته على مفارقة ابنيه يا أَسَفى ويا حزنى وشدة بلائي ويا حسرتى وحرقة كبدي وبالجملة يا هلكتي تعالى إذ لم يبق بيني وبينك ما يبعّدك عنى ويبعّدني عنك سيما عَلى يُوسُفَ خصه بالذكر إذ هو عمدة محبته وزبدة مودته مع انه متردد في حياته وجازم بحياة الآخرين وَبالجملة لما تجاوز عن الحد ألمه وتطاول حزنه وأسفه قد ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ كثرة الْحُزْنِ والكآبة قبل فقدان هذين الاثنين فكيف بعد فقدانهما وبالجملة فَهُوَ في نفسه كَظِيمٌ مملو من الغيظ والأسف والحزن والبلاء كأنه مجسم منها متجرع انواع الغصص والألم من بنيه ثم لما رأى الناس منه ما رأوا من قلة الاكل والشرب وذوبان البدن ونقصان القوى البشرية والسهر المفرط واستمرار الحزن والأسف ودوام التأوه والتلهف
قالُوا متعجبين من حاله مقسمين على هلاكه تَاللَّهِ تَفْتَؤُا لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ على هذا المنوال حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضا مهزولا مدقوقا مشرفا على الهلاك أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ
ولما بالغوا في منعه عما عليه من الكآبة والحزن وكثرة التأوه والبكاءالَ
في جوابهم مستنكرا عليهم نَّما أَشْكُوا بَثِّي
وما أبث وابسط شكواي حُزْنِي
المفرط الخارج من حد التصبر الالَى اللَّهِ
المطلع لما في قلبي من الحرقة والا لم المفرط رجاء ان يزيل عنى ما يؤذيني ويوصلني بلطفه وجوده الى ما يسرني ويفرج همي عنى
اعلموا ايها اللائمون المبالغون في منعى انى بالهام الله إياي ووحيه الى عْلَمُ مِنَ
كرم لَّهِ
ومن سعة رحمته وجوده وفضله الا تَعْلَمُونَ
أنتم ايها اللائمون المبالغون بل انما حملني الله وازعجنى على بث الشكوى ونشر النجوى معه واظهار التذلل والخشوع والتضرع والخضوع نحوه حتى لا اقنط من ملاقاة يوسف ولا اترك المناجاة مع الله لأجله وان تطاولت المدة وتمادى الزمان ثم لما استروح يعقوب عليه السّلام من روح الله واستنشق من نسمات رحمته نادى بنيه نداء مرحمة واشفاق ليقبلوا اليه بعد ما ايسوا عنه وقنطوا من عطفه إذ هم قد بالغوا في سوء الأدب معه وإيقاعه بأنواع المحن والشدائد
فقال يا بَنِيَّ اذْهَبُوا الى مصر كرة اخرى فَتَحَسَّسُوا تفحصوا وتطلبوا اصالة مِنْ
يُوسُفَ وَأَخِيهِ بنيامين تبعا وَلا تَيْأَسُوا ولا تقنطوا يا بنى مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وتنفيسه وتقريحه الهم إذ نحن معاشر الأنبياء لا يليق بنا اليأس والقنوط سيما عن كرم الله وجوده في حال من الأحوال إِنَّهُ لا يَيْأَسُ ولا يقنط مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ومن كمال قدرته وسعة جوده ورحمته إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ الساترون بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق السارية المتجلية في الأنفس والآفاق والفائضة عليهم سجال الفضل والكرم على مقدار قابلياتهم واستعداداتهم فعليكم ان لا تقنطوا من الله بحال من الأحوال بل اعتقدوا ان له التصرف والقدرة الكاملة والارادة التامة المتعلقة بما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم لما صمموا العزم بالخروج الى مصر كرة اخرى باذن أبيهم فخرجوا من عنده وساروا الى ان وصلوا مصر
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ اى على يوسف قالُوا أولا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ قد مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ والجدب وشدة الجوع وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ قليلة ردية فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وتممه لنا من جاهك وإحسانك وَقالوا ثانيا تَصَدَّقْ عَلَيْنا برد أخينا لنرده الى أبيه المحزون فانه قد اشرف على الهلاك من شدة الحزن والأسف إِنَّ اللَّهَ المجازى على اعمال عباده يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ المحسنين منهم جزاء حسنا لا جزاء احسن منه ثم لما سمع يوسف من أسف أبيه وشدة كربه وكآبته وابيضاض عينيه وهزال جسمه ونحوله واشرافه على الانهدام والانخرام شرع يظهر امره عليهم
حيث قالَ تفضيحا لهم وتقريعا هَلْ عَلِمْتُمْ ايها المسرفون المفرطون قبح ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ من الزجر والإذلال والضرب والشتم وانواع المكروهات والمذمومات سيما قد اشتريتم بثمن بخس دراهم معدودة لتبعدوه عن وجه أبيه وتطردوه عن ساحة عز حضوره إِذْ أَنْتُمْ قوم جاهِلُونَ بان لا مرد لقضاء الله ولا معقب لحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فاجتهدتم لهدم بناء الله وتغيير مراده ورد قضائه مبارزة عليه وخروجا بين يديه وبعد ما سمعوا منه ما سمعوا
قالُوا مخبتين خاضعين متذللين بعد ما عرفوه مستفهمين على سبيل التقرير والتثبيت أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ايها العزيز قالَ أَنَا يُوسُفُ بن يعقوب الذي قد فعلتم به ما فعلتم وَهذا أَخِي بنيامين من ابى وأمي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بأنواع الكرم والإحسان ووقانا عما قصدتم علينا من السوء والعدوان وانواع الظلم والطغيان وبالجملة إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ عن محارم الله وعما لا يرضى به الله وَيَصْبِرْ على ما جرى عليهم من قضاء الله فَإِنَّ اللَّهَ الرقيب المطلع لأحوال عباده لا يُضِيعُ ولا يهمل ولا ينقص أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون الأدب مع الله ويعبدونه كأنهم يرونه ثم لما ظهر عليهم ما ظهر من الفضيحة والشناعة وانواع الندامة والكآبة
قالُوا متضرعين مستحين متذللين مقسمين على سبيل التثبيت والتقرير تَاللَّهِ يا أخانا لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ واصطفاك عَلَيْنا وأراك في المنام ما أراك من سجود الشمس والقمر والكواكب المعتبرة وكفاك هذا دليلا على نجابتك واختيارك علينا مع ان أبانا قد علم منك ما علم من الرشد وكمال العلم والفضل لذلك آثرك علينا محبة وعطفا وَبالجملة إِنْ كُنَّا اى انا كنا لَخاطِئِينَ في إذلالك وارادة مقتك وإهلاكك وضربك وايذائك وبالجملة قد كنا ساعين في ابطال ارادة الله ومشيته وكمال حكمته وقدرته لا سيما في إيذاء أبينا بمفارقتك عنه وإيقاعه بأنواع البليات والنكبات الى حيث قد ابيضت كريمتاه من فراقك فالآن الحكم لك والأمر بيدك وانا مجرمون مقرون معترفون بأنواع الجرائم فلك الاختيار وعلينا الحسرة والندامة وانواع الكآبة
والسآمة ثم لما رأى يوسف منهم ما رأى من الندامة المفرطة والخجل الغير المتناهي والخذلان المتجاوز عن الحد وانواع الخيبة والخسران
قالَ لهم تسلية عليهم وتزكية لنفسه بمقتضى نجابة طينته وكرامة فطرته لا تَثْرِيبَ اى لا لوم ولا تقريع عَلَيْكُمُ منى في حال من الأحوال سيما الْيَوْمَ الذي أنتم تعتذرون فيه وتستعفون عنى فاعلموا انى قد عفوت لكم مالي من الحقوق عليكم وقد ابرأت ذمتكم عنها جميعا بل يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ بعد ما استغفرتم اليه مخلصين وَهُوَ سبحانه في ذاته أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ إذ رحم عموم الرحماء انما هو منه ومن ظل رحمته التي وسعت كل شيء وبعد تسليتهم وعفوهم وأخلاء الرعب عن خواطرهم أمرهم بالذهاب سريعا نحو أبيهم المحزون المغبون ليخلص عما عليه من الحزن المفرط والكآبة الغير المتناهية
فقال اذْهَبُوا يا إخوتي بِقَمِيصِي هذا وهو عليه فأخرجه ولفه بلا تنقية وغسل فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ يرجع ويصر بَصِيراً قريرا بعد ما كان مكفوفا ضريرا فاقد العينين وَبعد ما صار بصيرا صحيحا سالما سويا أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ وبجميع ما ينسب إليكم من النسوان والذراري والخدم والحشم
أَجْمَعِينَ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ وخرجت الركب والقفل من عمران مصر نحو كنعان قالَ أَبُوهُمْ لمن في صحبته من المؤمنين له إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ وتسفهوني ايها الحضار وتنسبونى الى نقصان العقل والخرف لصدقتمونى
قالُوا اى المؤمنون الحاضرون عنده تَاللَّهِ إِنَّكَ بتذكير يوسف ومن كثرة تخطيره ببالك لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ اى في ضلالك الذي قد كنت عليه زمانا مستمرا وهو وان سفهه القوم ومنعوه بتزايد شوقه ووجده زمانا فزمانا يترقى اشفاقه ونوحه ساعة فساعة
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ وهو يهودا مع القميص أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ على الوجه المأمور به فَارْتَدَّ رد وعاد فجأة بَصِيراً كما كان في سالف الزمان فشكر الله وحمده وسجد له سبحانه سجدة شكر على وجه الخضوع والخشوع وكمال التذلل والتفويض. ثم لما رفع رأسه من سجوده قالَ لبنيه ولحضار مجلسه أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يا قوم حين لمتمونى بالاسف والحزن المفرط وكثرة المناجاة مع الله ورفع الحاجات اليه سبحانه لملاقاة يوسف إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ كرم اللَّهِ ومن سعة رحمته وجوده ما لا تَعْلَمُونَ أنتم ايها اللائمون ثم لما سر يعقوب عليه السّلام وخلص من المحن والشدائد وقر عيناه
قالُوا اى بنوه منادين له متضرعين اليه متحننين نحوه يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا التي قد كنا نعمل معك ومع من أحببته واخترته علينا إِنَّا فيما فعلنا من الجرائم العظام وانواع المعاصي والآثام قد كُنَّا خاطِئِينَ جاهلين عن عواقبها وما تؤل اليه إذ هي من جملة ما قد قضى الله إيانا وحكم علينا لا مرد لقضاء الله ولا معقب لحكمه ثم لما تفرس يعقوب عليه السّلام منهم الإخلاص والانابة الصادقة والندامة الخالصة والرجوع عن ظهر القلب
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ في ذاته هُوَ الْغَفُورُ لذنوب عباده لا غافر لهم سواه سبحانه سيما لمن قد أخلصوا في رجوعهم وتوجههم نادمين الرَّحِيمُ لهم يقبل توبتهم وما سوف عليه السّلام امر استغفارهم الا الى ملاقاة يوسف عليه السّلام والمشورة معه ويدل عليه ما روى ان يعقوب عليه السّلام استقبل القبلة قائما يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفه اذلة خاشعين حتى نزل جبريل عليه السّلام فقال ان الله قد أجاب دعوتك في حق ابنائك وقد عقد سبحانه مواثيقهم بعدك على النبوة ثم لما صمموا عزم الرحيل الى مصر وشدوا ركائبهم وساروا حتى وصلوا الى قربها فسمع يوسف بقدومهم وخرج الى استقبالهم
مع الملك وجنوده وجميع اهل مصر
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ ووصلوا اليه آوى إِلَيْهِ وحنن نحوه أَبَوَيْهِ فضمهما يوسف الى نفسه وواسى معهما وآنس بهما وزال وحشته ووحشتهما وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ عن نكبات الجدب والقحط واذيات الرحيل
وَبعد ما دخلوا على بيته رَفَعَ أَبَوَيْهِ تعظيما لهما وتوقيرا عَلَى الْعَرْشِ الذي يجلس هو عليه وهو بنفسه يقوم بين يديهما وَبعد ما تمكن ابواه على عرشه خَرُّوا لَهُ وبنوهما سُجَّداً لله شكرا للقياه وشرف حضوره سجود شكر وخضوع ولما رأى يوسف سجود هؤلاء تذكر ما رأى في المنام في أوان الصبا وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ في سالف الزمان قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا صدقا محققا مطابقا للواقع وَقَدْ أَحْسَنَ بِي بأنواع الإحسانات إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ بعد ما كنت فيه مدة مديدة وَأعظم منه انه قد جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ والبادية البعيدة سيما مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ وأوقع الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي بأنواع الإيقاعات والوساوس وبالجملة إِنَّ رَبِّي الذي رباني بأنواع اللطف والكرم لَطِيفٌ مدبر كامل وموفق كافل لِما يَشاءُ من الأمور ويريد إصلاحه إِنَّهُ بذاته هُوَ الْعَلِيمُ بعلمه الحضوري بمصالح عباده الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله على مقتضى ما تعلق به علمه وارادته
ثم دعا يوسف عليه السّلام لنفسه وناجى ربه مناجاة صادرة عن محض الحكمة والزكاء والفطنة بقوله رَبِّ يا من رباني بلطفك وفضلك بأنواع التربية واصناف النعم والكرامة بحيث قَدْ آتَيْتَنِي وأعطيتني مِنَ الْمُلْكِ الظاهر اى الحكومة المتعلقة بعالم الشهادة وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ والعبور من صور الحوادث الكائنة في عالم الشهادة والخيال الى ما في عالم الغيب من الصور المقتضية إياها يا فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى عالم الأسماء والصفات التي قد انعكست منها هذه الاظلال الهالكة الشهادية أَنْتَ بذاتك بعد ما قد تحققت بتوحيدك وانكشفت به وارتفعت الحجب بيني وبينك وَلِيِّي ومتولى امرى وحامل أسراري فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ اى في النشأة الاولى والاخرى تَوَفَّنِي واقبضنى يا ربي نحوك مُسْلِماً مسلما مفوضا عموم أموري إليك وَأَلْحِقْنِي بمقتضى فضلك ولطفك بِالصَّالِحِينَ الذين أصلحوا نفوسهم في النشأة الاولى والاخرى حتى يفوزوا من عندك بشرك اللقيا
ذلِكَ المذكور من قصة يوسف وما جرى بينه وبين اخوته وبين امرأة العزيز وغير ذلك من الوقائع الهائلة الواقعة على يوسف وعلى أبيه وأخيه من حسد اخوتهما مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ ومن الاخبارات التي قد سترت عنك وعن قومك يا أكمل الرسل نُوحِيهِ إِلَيْكَ ونعلمك نحن بالوحي والإلهام وَبالجملة ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ ودونهم وفي جمعهم وقت إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ويقصدون المكر والخداع مع يوسف وأبيه بعد ما شاوروا كثيرا في إهلاك يوسف وابعاده من عند أبيه واستقرار رأيهم بعد تكرر المشاورة على ما فعلوا به واتفقوا عليه وما أنت ايضا من اهل الإملاء والنسخ حتى تضبط قصصهم من التواريخ ولا من اهل التعلم لتستفيد من الغير بل ما هي الا مجرد وحى يوحى إليك من عندنا
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ الذين يترددون بين يديك ودونك وَلَوْ حَرَصْتَ أنت بايمانهم وإذعانهم بِمُؤْمِنِينَ لك مصدقين بما جئت به من عند ربك
وَما عرض لهم ولحق لنفوسهم من الغفلة لم يقبلوا منك ما قلت لهم إذ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ اى على تبليغ ما قد جئت به من عند الله مِنْ أَجْرٍ جعل ومال من حطام الدنيا كما يفعله حملة الاخبار
ومتفقهة الزمان والمتشيخة من اهل التلبيس المقتفين اثر إبليس بل إِنْ هُوَ اى ما هذا القرآن وما فيه من العبر والاحكام والقصص المستلزمة لانواع المواعظ والتذكيرات إِلَّا ذِكْرٌ عام وفائدة جليلة شاملة
لِلْعالَمِينَ وَكَأَيِّنْ كثير مِنْ آيَةٍ دالة على وجود الصانع وتوحيده واستقلاله في التصرف والآثار كائنة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اى العلويات والسفليات او عالم الأسماء والصفات وعالم الطبيعة المنعكسة منها يَمُرُّونَ عَلَيْها مرور غفلة وذهول وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ حيث لا يعتبرون منها ولا يتأملون فيها وفي رموزها وإشاراتها وما ذلك الا من غاية توغلهم في الكثافة الطبيعية والحجب الظلمانية ونهاية تدنسهم بادناس الطبيعة الهيولانية
وَلذلك ما يُؤْمِنُ ويوقن أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ المستغنى في ذاته عن عموم المظاهر والمجالى المستقل بوجوده بحيث لا وجود لغيره أصلا إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ مشتركون له سبحانه من مصنوعاته في استحقاق العبادة ما لا وجود له في نفسه أصلا
أَيغفلون أولئك المسرفون عن مكر الله فَأَمِنُوا عن كمال قدرته على الانتقام ولم يخافوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ وترسل عليهم غاشِيَةٌ وعقوبة هائلة نازلة عليهم محيطة بهم مِنْ عَذابِ اللَّهِ في هذه النشأة حيث تغشيهم وتحيط بهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ الموعودة بَغْتَةً فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ اماراتها وعلاماتها وان أصروا على كفرهم واشراكهم بالله وعدم الالتفات بك وبقولك
قُلْ لهم يا أكمل الرسل مجاراة عليهم هذِهِ سَبِيلِي اى الدعوة الى التوحيد الذاتي واعداد الزاد ليوم المعاد طريقي وانا انما بعثت لأجلها وتبيينها أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ والى توحيده باذنه كافة عباده عَلى بَصِيرَةٍ تامة فائضة علىّ من عنده سبحانه أَنَا اى ادعو انا بمقتضى الوحى والإلهام وَمَنِ اتَّبَعَنِي من خيار أمتي بوسيلة إرشادي وهدايتي إليهم وَسُبْحانَ اللَّهِ وانزهه تنزيها تاما عن معتقدات اهل الزيغ والضلال في حقه سبحانه وَبالجملة ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ابرئ نفسي عماهم عليه من الشرك المنافى للتوحيد مطلقا.
ثم قال سبحانه وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ ايها المبعوث الى الكل إِلَّا رِجالًا مثلك من جنس البشر نُوحِي إِلَيْهِمْ ونخصهم بالوحي والإلهام مثل ما خصصناك لنجابة طينتهم في اصل خلقتهم مع انهم مِنْ أَهْلِ الْقُرى اى من جملة ما يسكنون فيها أَيصرون هؤلاء المصرون المعاندون على تكذيبك معللين بقولهم الباطل لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مضوا مِنْ قَبْلِهِمْ قد كذبوا الرسل المبعوثين إليهم من جنسهم وبنى نوعهم مثل تكذيبهم إياك حتى يعتبروا منها وَالله لَدارُ الْآخِرَةِ المعدة للفوز والفلاح خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا اى للمؤمنين الذين يحفظون نفوسهم عن عموم ما حذرهم الله عنه أَفَلا تَعْقِلُونَ ايها المسرفون المكذبون بها خيريتها مع انكم مجبولون من زمرة العقلاء وهم ايضا أمثالكم ايها المسرفون المكابرون وتمادوا في الغفلة والإصرار على التكذيب مدة مديدة
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ وقنط الرُّسُلُ المبعوثون إليهم بل وَظَنُّوا من طول الامهال وعدم الأخذ والبطش أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا يقينا وصاروا كأنهم قد اخلف عنهم الوعد الذي وعدوا به من جانب الحق وبعد ما ازداد يأسهم وقنوطهم قد جاءَهُمْ نَصْرُنا الذي وعدناهم وعذابنا الذي قد اوعدنا به أممهم وبعد ما جاء أخذنا إياهم فَنُجِّيَ نوفق ونخلص مَنْ نَشاءُ إيمانه بنا وبرسلنا وانقياده إيانا وإياهم وَبالجملة لا يُرَدُّ بَأْسُنا الذي قد وعدنا به عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الذين قد أجرموا علينا بتكذيب رسلنا وكتبنا وان
طالت مدة الامهال.
ثم قال سبحانه تنبيها وحثا لعباده على ما في كتابه من الإشارات لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ اى في قصص الأنبياء المذكورين في القرآن سيما قصة يوسف عليه السّلام عِبْرَةٌ واعتبار واستبصار لِأُولِي الْأَلْبابِ الذين يتأملون ويتعمقون في لب الكلام ويعرضون عن قشوره وبالجملة ما كانَ القرآن وما ذكر فيه من القصص والاحكام حَدِيثاً مموّها مختلقا يُفْتَرى به الى الله افتراء ومراء وَلكِنْ وحى قد نزل من عند الله ليكون تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب الإلهية اى مصدقا عموم أحكامها وآثارها وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ احتيج اليه في الدين والدنيا من الأمور المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن وَهُدىً مرشدا هاديا قائدا لمن تمسك به وعمل بما فيه قد أمن من الضلال ووصل الى فضاء الوصال وَرَحْمَةً عامة تامة شاملة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ به ويصدقون بما فيه ويعملون بمقتضاه
خاتمة سورة يوسف عليه السّلام
عليك ايها المستبصر الخبير والمسترشد البصير بصرك الله بعيوب نفسك وجنبك عن غوائلها ان تعتبر عن القصة التي ذكرت في هذه السورة وتحترز عن مطلق المكائد المذكورة فيها والمخادعات المصرحة بها والمرموزة إليها وتصفى امارة نفسك عن مباديها وتبرئها حسب طاقتك وقدر وسعك وقوتك عما يئول إليها ويؤدّى نحوها وتشمر ذيل همتك لتهذيب ظاهرك وباطنك عما يعوقك عن سلوك طريق التوحيد المفضى الى اضمحلال الرسوم وانقهار التعينات العدمية والاظلال الهالكة المؤدّية الى الكثرة والثنوية الحاجبة عن صرافة الوحدة الذاتية بالنسبة الى ذوى الحجب الكثيفة والغشاوة الغليظة وعليك ان تتوجه بوجه قلبك الى افناء لوازم تعيناتك الباطلة واهويتك العاطلة التي هي شياطين طريقك نحو الحق المنزه عن مطلق التغير والتبدل المقدس عن عموم الانقلابات وعن مطلق التحول والتحويل إذ لا يشغله شأن عن شأن ولا يفتره كر الدهور ومر الأعوام والأزمان بل هو كل يوم وآن في شأن لا كشأن وكل من عليها فان وبالجملة بعد ما قد فنيت أنت عن وجوه تعيناتك رأسا يبقى وجه ربك الذي لا انقلاب له أصلا ذو الجلال الذاتي الأزلي والإكرام الأبدي السرمدي جعلنا الله ممن أيده الحق لسلوك طريق الفناء ووفقهم على افناء ما يعوقهم عن شرف اللقاء ودوام البقاء انه سميع مجيب
[سورة الرعد]
فاتحة سورة الرعد
لا يخفى على من ترقى من مرتبتي العلم والعين بلا تلوين وتحقق واستعلى على مرتبة حق اليقين مع تثبيت وتمكين ان الآثار الغريبة والتدابير العجيبة الكائنة في عالم الكون والفساد انما تصدر عن ذات متصفة بجميع أوصاف الكمال منزهة عن نقص الحدوث والزوال مستقلة في مطلق تصرفاتها بلا مزاحمة ضد وند ومظاهرة معاون وممد إذ لا وجود لغيرها ولا ثبوت لسواها أصلا الا بها ومنها فدلت الأفعال المتقنة والآثار المحكمة والنظام المحسوس المشاهد على هذا النمط البديع على وحدة فاعلها عند من تشبث بأذيال العقل المستدل واما اهل الكشف والشهود المستغرقون في مطالعة جمال الله وجلاله لا يرون في الوجود الا هو ولذلك لا يسندون الآثار والأفعال والحركات والسكنات والحوادث الكائنة مطلقا الا لله أولا وبالذات بلا رؤية الأسباب والوسائل في البين بل
Icon