تفسير سورة الأحزاب

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سُوْرَةُ الأحْزَابِ
مدنية، وآيها: ثلاث وسبعون آية، وحروفها: خمسة آلاف وسبع مئة وستة وتسعون حرفًا، وكلمها ألف ومئتان وثمانون كلمة.

بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيِمِ

﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١)﴾.
[١] رُوي أن أبا سفيان بن حرب، وعِكْرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور بنَ سفيان السلمي قدموا المدينة، فنزلوا على عبد الله بن أُبي رأس المنافقين بعد قتال أُحد، وقد أعطاهم النبي - ﷺ - الأمان على أن يكلموه، فقام عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وطُعمة بن أُبيرق، ومعتب بن قُشير، وجَدُّ بن قيس، فقالوا للنبي - ﷺ -، وعنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومناة، وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها، وندعك وربَّكَ، فشق على النبي - ﷺ - قولُهم، فقال عمر: يا رسول الله! ائذن لي في قتلهم، فقال: "إني قد أعطيتُهم الأمانَ"، فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر النبي - ﷺ - عمرَ أن يخرجهم من المدينة، فأنزل الله
335
تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ (١)، ولم يقل: يا محمد؛ كـ: يا آدم، ويا موسى، ويا عيسى؛ تشريفًا له، وأما تصريحه باسمه في قوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ [الفتح: ٢٩] فللإعلام أنه كذلك، وللتنبيه على اتباعه. قرأ نافع: (النَّبِيء) و (النَّبِيئُونَ) و (النَّبِيئَينَ) و (نَبِيئُهُمْ) و (الأَنْبِئاء) و (النُّبُوءة) بالمد والهمز حيث وقع، فيكون معناه: المخبر؛ من أنبأ ينبئ؛ لأنه إنباء عن الله، وخالفه قالون في حرفين من هذه السورة يأتي ذكرهما إن شاء الله تعالى، وقرأ الباقون: بترك الهمزة وتشديد الياء (٢)، وله وجهان: أحدهما: هو أيضًا من الإنباء، تركت الهمزة فيه تخفيفًا؛ لكثرة الاستعمال، والثاني: هو بمعنى الرفع، مأخوذ من النبوَة، وهو المكان المرتفع.
﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾ دُمْ على التقوى.
﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ﴾ من أهل مكة؛ يعني: أبا سفيان، وعكرمة، وأبا الأعور.
﴿وَالْمُنَافِقِينَ﴾ من أهل المدينة: عبد الله بن أُبي، وعبد الله بن سعد، وطعمة، فيما يخالف شريعتك، ويعود بوهن في الدين.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا﴾ بما يكون قبل كونه ﴿حَكِيمًا﴾ فيما يخلق، وهذا تسلية للنبي - ﷺ -؛ أي: لا عليك منهم، ولا من إيمانهم، فالله عليم بما ينبغي لك، حكيم في هدى من يشاء، وإضلال من يشاء.
* * *
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٢٠٢).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٥٢ - ٣٥٦)، و "معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٠٩).
336
﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٢)﴾.
[٢] ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ من القرآن ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ واعمل به.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ قرأ أبو عمرو: (يَعْمَلُون) بالغيب، يعني: الكفرة والمنافقين؛ أي: إن الله خبير بمكائدهم، فيدفعها عنك، وقرأ الباقون: بالخطاب (١)، وقوله: (كان) في هاتين الآيتين هي التي تقتضي الدوام (٢)؛ أي: كان ويكون (٣)، وليست الدالة على زمان مخصوص للمضي.
* * *
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٣)﴾.
[٣] ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ ثِقْ به ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ حافظًا ورازقًا لك، والوكيل: القائم بالأمر، المغني فيه عن كل شيء.
* * *
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)﴾.
[٤] ولما قال الكفار: إن لمحمد قلبين: قلب معنا، وقلب مع أصحابه، نزل:
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥١٨ - ٥١٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٧)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٠٩).
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٢٠٢).
(٣) "أي: كان ويكون" زيادة من "ت".
337
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ وقيل: نزلت في أبي معمر جميل بن معمر الفهري، وكان لبيبًا حافظًا، وكان يقول: إن لي قلبين، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد - ﷺ -، فانهزم مع المشركين ببدر، وإحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقيل له في ذلك، فقال: ما شعرت إلا أنهما في رجلي، فعلموا يومئذ أنه لو كان له قلبان، ما نسي نعله في يده (١).
﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي﴾ جمع التي. قرأ أبو عمرو، والبزي عن ابن كثير: (اللَّايْ) بياء ساكنة بدلًا من الهمزة في الحالين، وروي عنهما تسهيل الهمزة بين بين، والوجهان صحيحان، وقرأ أبو جعفر، وورش عن نافع: بتسهيل الهمزة كذلك، وقرأ قالون عن نافع، وقنبل عن ابن كثير، ويعقوب: بتحقيق الهمزة، وحذف الياء بعدها؛ لأن الهمزة المكسورة بدل الياء، وقرأ الكوفيون، وابن عامر: بإثبات الياء ساكنة بعد الهمزة، وكلها لغات معروفة (٢)، وكذلك التعليل والاختلاف في (المجادلة)، وموضعَي (الطلاق).
﴿تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ قرأ عاصم: (تُظَاهِرُونَ) بضم التاء وتخفيف الظاء، وألف بعدها، وكسر الهاء مع تخفيفها؛ كـ (تقاتلون)، وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: كذلك، إلا أنهم بفتح الياء والهاء، أصله:
(١) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٢٠٢).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٧ - ١٧٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٣٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٤٠٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٠٩ - ١١٠).
338
تتظاهرون، حذفت إحدى التاءين، وقرأ ابن عامر: كذلك، إلا أنه بتشديد الظاء على إدغام إحدى التاءين في الظاء، وقرأ الباقون، وهم: نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وأبو عمرو (١)، ويعقوب: (تَظَّهَّرُونَ) بفتح التاء وتشديد الظاء والهاء وفتحها من غير ألف بينهما، أصله: تتظهرون، وأدغمت التاء في الظاء، فشددت (٢).
وصورة الظهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليَّ كظهر أمي؛ أي: حرام كبطن أمي؛ لقربه من الفرج، وكنِّي عنه بالظهر، لأنه قوام البنية، المعنى: ما جعل نساءكم اللاتي تقولون لهم هذا في التحريم كأمهاتكم، ولكنه منكر وزور، وفيه كفارة، وسيأتي الكلام على ذلك، وعلى الكفارة فيه، واختلاف الأئمة في حكمه في (سورة المجادلة) إن شاء الله تعالى.
وكان الرجل في الجاهلية يتبنى ولد غيره، فينسب إليه، ويتوارثان، وكان النبي - ﷺ - قد أعتق زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وتبناه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، فلما تزوج رسول الله - ﷺ - زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة، قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه، وهو ينهى الناس عن ذلك.
فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ﴾ (٣) من تبنيتموه ﴿أَبْنَاءَكُمْ﴾ حقيقة
(١) "وأبو عمرو" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥١٩)، و "التيسير" للداني (ص: ١٧٨)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٥٣٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١١٠ - ١١١).
(٣) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ٢٠٢).
339
في الحكم والحرمة والنسب، ونُسخ التبني بهذا، والأدعياء: جمع دَعِيّ، وهو من دُعي إلى غير أبيه، تلخيصه: ممتنع أن يكون لرجل قلبان، وأن تكون زوجة الرجل أمه، وأن يكون شخص واحد ابن رجلين، إنما.
﴿ذَلِكُمْ﴾ النسب ﴿قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ﴾ لا حقيقة له.
﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ﴾ وهو أن غير الابن لا يكون ابنًا.
﴿وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ الطريق المستقيم.
* * *
﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥)﴾.
[٥] وكان زيد يدعى بابن محمد - ﷺ -، فنزل: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾ (١) الذين ولدوهم.
﴿هُوَ﴾ أي: دعاؤهم بآبائهم ﴿أَقْسَطُ﴾ أعدل ﴿عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ﴾ فتنسبوهم إليهم، ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي: فهم إخوانكم ﴿فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾ أولياؤكم، المعنى: إذا جهل نسبه، يقول: يا أخي! يا مولاي! يريد: الأخوة في الدين، والولاية فيه.
﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾ والخطأ هنا بمعنى: النسيان.
(١) رواه البخاري (٤٥٠٤)، كتاب: التفسير، باب: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ﴾، ومسلم (٢٤٢٥)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل زيد بن حارثة وأسامة بن زيد -رضي الله عنهما- عن ابن عمر -رضي الله عنهما-.
﴿وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ أي: لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم: يا بني! سهوًا، وقيل: خطؤهم: التسمية قبل النهي، قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لا يوصف ذلك بخطأ إلا بعد النهي، وإنما الخطأ هنا بمعنى النسيان، وما يكون مقابل العمد، والخطأ مرفوع عن هذه الأمة عقابه، وقد قال - ﷺ -: "رُفع عن أمتي الخطأُ والنسيان وما أُكرهوا عليه" (١).
﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ يريد: لما مضى من فعلهم في ذلك، ثم هي صفتان لله تعالى تَطَّرِد في كل شيء.
* * *
﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٦)﴾.
[٦] ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ في كل شيء من أمر الدين والدنيا، فيحكم فيهم بما يشاء. قرأ نافع: (النَّبِيءُ أَوْلَى) بالمد والهمز في (النَّبِيء)، وإبدال الهمز الثاني واوًا محضة مفتوحة (٢).
﴿وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾ أي: كأمهاتكم في وجوب تعظيمهن، وتحريم
(١) رواه ابن ماجه (٢٠٤٥)، كتاب: الطلاق، باب: طلاق المكره والناسي، وابن حبان في "صحيحه" (٧٢١٩)، والحاكم في "المستدرك" (٢٨٠١)، وغيرهم عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. وانظر: "المحرر الوجيز" لابن عطية (٤/ ٣٦٩).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٥٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١١٢).
341
نكاحهن، لا في النظر إليهن، والخلوة بهن؛ فإنه حرام في حقهن؛ كما في حق الأجانب، ولا يقال لبناتهن: أخوات المؤمنين، ولا لإخوانهن وأخواتهن: هم أخوال المؤمنين وخالاتهم، قالت عائشة: "لستُ بأم نسائِكم، وإنما أنا أم رجالكم" (١)، فبان بهذا أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن.
﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ﴾ وذوو القرابات ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ في التوارث.
﴿فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ في اللوح المحفوظ.
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ يعني: ذوي القرابات بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرثوا بالإيمان والهجرة، وكان في صدر الإسلام يتوارثون بالهجرة والمؤاخاة، فنسخ بهذه الآية، وصارت بالقرابة، وتقدم حكم ميراث ذوي الأرحام واختلاف الأئمة فيه آخر سورة الأنفال.
﴿إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا﴾ استثناء منقطع؛ أي: لكن فعلكم ﴿إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ﴾ الذين يتولونكم من المعاقدين ﴿مَعْرُوفًا﴾ بالوصية جائزٌ.
﴿كَانَ ذَلِكَ﴾ يعني: نسخ الميراث بالهجرة، ورده إلى ذوي الأرحام.
﴿فِي الْكِتَابِ﴾ أي: اللوح المحفوظ ﴿مَسْطُورًا﴾ مكتوبًا.
* * *
(١) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (٨/ ٢٠٠)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٧/ ٧٠).
342
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٧)﴾.
[٧] ﴿وَإِذْ﴾ أي: واذكر إذ ﴿أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ﴾ حين استُلُّوا من نسل (١) آدم مثل الذر ﴿مِيثَاقَهُمْ﴾ عهودهم بتبليغ الرسالة، وأن يصدق بعضهم بعضًا، وخُصَّ محمد مع جماعة منهم بالذكر (٢)؛ لأنهم أصل الشرائع صلوات الله عليهم أجمعين، وكان محمد - ﷺ - أول الأنبياء في الخلق، وآخرهم في البعث، فلذلك قدم هنا تشريفًا له، فقال:
﴿وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ فهؤلاء هم أولو العزم من الرسل.
﴿وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ عظيم الشأن على الوفاء بما حملوا.
* * *
﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (٨)﴾.
[٨] ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ أي: فعلنا ذلك ليسأل الله الأنبياء الذين صدقوا عن الوفاء بميثاقهم في إبلاع الرسالة، والحكمة في سؤالهم، مع علمه أنهم صادقون، تبكيتُ من أُرسلوا إليهم، وإثبات الحجة عليهم، ويعطف على ﴿أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ﴾.
﴿وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ﴾ بالرسل ﴿عَذَابًا أَلِيمًا﴾ المعنى: أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه؛ لأجل إثابة المؤمنين، وأعد للكافرين عذابًا أليمًا.
(١) في "ت": "ظهر".
(٢) "بالذكر" زيادة من "ت".
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٩)﴾.
[٩] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله - ﷺ - يوم الخندق.
﴿إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ﴾ هم الأحزاب، وكان ذلك في شوال من السنة الخامسة من الهجرة، وسببها أن نفرًا من اليهود حَزَّبوا الأحزابَ على رسول الله - ﷺ -، وقدموا على قريش بمكة يدعونهم إلى حربه؛ لأن رسول الله - ﷺ - أجلى بني النضير من ديارهم، فلما علم رسول الله - ﷺ - بذلك (١)، أمر بحفر الخندق حول المدينة برأي سلمان الفارسي يحول بين المؤمنين (٢) والكفار، وعمل فيه بنفسه، وفرغ من الخندق، وأقبلت قريش ومن تبعهم من بني قريظة، مقدَّمُهم أبو سفيان، وكانوا عشرة آلاف نزلوا قريبًا من الغابة، والنبي - ﷺ - في ثلاثة آلاف، واشتد البلاء حتى ظن المؤمنون كل الظن، وأقام رسول الله - ﷺ - والمشركون بضعًا وعشرين ليلة، لم يكن بين القوم حرب إلا الرمي بالحصا والنبال.
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا﴾ ليلًا، وهي الصبا، فأطفأت النيران، وأكفأت القدور، قال - ﷺ -: "نُصِرْت بالصَّبا، وأُهلكت عاد بالدَّبور" (٣).
(١) في "ت": "فلما بلغ النبي - ﷺ - ذلك".
(٢) في "ت": "المسلمين".
(٣) رواه البخاري (٩٨٨)، كتاب: الاستسقاء، باب: قول النبي - ﷺ -: "نصرت بالصبا"، ومسلم (٩٠٠)، كتاب: صلاة العيدين، باب: في ريح الصبا والدبور، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-.
﴿وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا﴾ هم ألف ملك، فكبرت في جوانب العسكر، وقلعت الأوتاد وأطناب الفساطيط، ولم تقاتل يومئذ، وماجت الخيل بعض في بعض، وقذف الرعب في قلوبهم، فقال طليحة بن خويلد الأسدي: النجاءَ النجاءَ من سحر محمد، فارتحلوا ليلًا منهزمين بغير قتال، وانقلبوا خاسرين، فبلغ ذلك رسولَ الله - ﷺ -، فقال: "الآن نغزوهم ولا يغزونا" (١)، فكان ذلك حتى فتح مكة.
﴿وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ قرأ أبو عمرو: (يَعْمَلُونَ) بالغيب؛ أي: بما يعمل المشركون من التحزب والمحاربة، وقرأ الباقون: بالخطاب (٢)؛ أي: بما تعملون من حفر الخندق.
* * *
﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠)﴾.
[١٠] ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ﴾ بدل من (إِذْ جَاءَتكمْ) ﴿مِنْ فَوْقِكُمْ﴾ من أعلى الوادي من قبل المشرق: بنو غطفان ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ من بطن الوادي من قبل المغرب: قريش.
﴿وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ﴾ مالت حيرة وشخوصًا من الرعب.
﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾ جمع حنجرة، وهي منتهى الحلقوم.
(١) رواه البخاري (٣٨٨٣)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق، عن سليمان بن صرد -رضي الله عنه-.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٧)، و"تفسر البغوي" (٣/ ٥٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٠٩).
﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ أي: اختلف الظنون، فظن المؤمنون النصر لهم، وظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه. قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (الظُّنُونَا هُنَالِكَ)، و (الرَّسُولاَ وَقَالُوا)، و (السَّبِيلاَ رَبَّنَا) بألف في الثلاثة وصلًا ووقفًا؛ لأنها مثبتة في المصاحف، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، ويعقوب: بغير ألف في الحالين على الأصل، وقرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: بألف في الوقف دون الوصل، واتفقت المصاحف على رسم الألف في الثلاثة دون سائر الفواصل (١).
* * *
﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١)﴾.
[١١] ﴿هُنَالِكَ﴾ أي: ثَمَّ ﴿ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ اختُبروا بالحصر والقتال؛ ليتبين المخلص من المنافق ﴿وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾ حُرِّكوا حركة شديدة من شدة الفزع.
* * *
﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾ معتب بن قشير وأصحابه.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٤٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٨ - ٣٤٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١١٣ - ١١٤).
﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ شك وضعف اعتقاد: ﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾ وعدًا باطلًا، وهو قول أهل النفاق: يعدنا محمد فتح قصور الشام وفارس، وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله، هذا والله الغرور.
* * *
﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (١٣)﴾.
[١٣] ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ أي: من المنافقين، وهم أوس بن قيطي وأصحابه: ﴿يَاأَهْلَ يَثْرِبَ﴾ اسم أرض، والمدينةُ في ناحية منها.
﴿لَا مُقَامَ لَكُمْ﴾ قرأ حفص عن عاصم: (مُقَامَ) بضم الميم؛ أي: لا إقامة لكم. وقرأ الباقون: بالفتح (١)؛ أي: لا مكان لكم تنزلون وتقيمون فيه.
﴿فَارْجِعُوا﴾ أمروهم بالهروب من عسكر رسول الله - ﷺ -.
﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ﴾ هم بنو سلمة وبنو حارثة.
﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ أي: خالية ضائعة غير حصينة، وهي مما تلي العدو، ويخشى عليها السراق، فكذبهم الله تعالى بقوله: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾ بل هي حصينة.
﴿إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ من القتال.
* * *
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٤٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١١٤).
﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (١٤)﴾.
[١٤] ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ﴾ أي: المدينة ﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾ نواحيها، المعنى: لو دخل الأحزاب المدينة من جوانبها.
﴿ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ﴾ الردة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين.
﴿لَآتَوْهَا﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير: (لأَتَوْهَا) بقصر الهمزة؛ أي: لجاؤوها وقبلوها، وقرأ الباقون: بالمد (١)؛ أي: لأعطوها السائلين.
﴿وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا﴾ أي: ما احتبسوا عن الفتنة ﴿إِلَّا يَسِيرًا﴾ ولأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبةً به أنفسُهم، وقيل: وما لبثوا بالمدينة بعد الارتداد إلا قليلًا حتى هلكوا.
وحَدُّ حرم المدينة: ما بين ثَوْر إلى عَيْر، وهما جبلان، فثور جبل صغير إلى الحمرة بتدوير خلف أُحد من جهة الشمال، وغير مشهور بها، وقدر الحرم: بريد ببريد، وقد ورد في الحديث: "اللهم إني أُحَرِّمُ ما بين لابَتَيْها" (٢)، وفي رواية: "ما بينَ جَبَلَيها" (٣)، وفي رواية: "ما بين
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٤٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٨)، و "معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١١٦).
(٢) رواه البخاري (٥١٠٩)، كتاب: الأطعمة، باب: الحيس، ومسلم (١٣٦٥) (٢/ ٩٩٣)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
(٣) رواه مسلم (١٣٧٤)، كتاب: الحج، باب: الترغيب في سكنى المدينة، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
مَأْزِمَيْها" (١)، ولابتا المدينة: هما الحرَتَّان الشرقية والغربية، والحرة هي: الأرض ذات الحجارة السود، ورواية "ما بين لابتيها" أرجح؛ لتوارد الرواة عليها، ورواية "جبليها" لا تنافيها، فيكون عند كل لابة جبل، فما بين لابتيها بيان لحد حرمها من جهتي المشرق والمغرب، وما بين جبليها بيان لحده من جهتي الجنوب والشمال، وأما رواية "مَأْزِميها"، فالمأزم: المضيق بين الجبلين، وقد يطلق على الجبل نفسه، وهذا يدل على أن صيدها وشجرها محرم، وهو قول الثلاثة؛ خلافًا لأبي حنيفة، ولا جزاء فيه بالاتفاق، والله أعلم، وتقدم ذكر حدود الأرض المقدسة في المائدة، وحرم مكة في التوبة.
* * *
﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (١٥)﴾.
[١٥] ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ﴾ هم بنو حارثة، هموا يوم أُحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل، عاهدوا الله من قبل حفر الخندق.
﴿لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ﴾ منهزمين، فوقع يوم الخندق من بني حارثة هذا الاستئذان.
﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ عنه، وهذا توعُّد.
(١) رواه البخاري (٢٧٣٢)، كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الخدمة في الغزو، ومسلم (١٣٦٥) (٢/ ٩٩٣)، كتاب: الحج، باب: فضل المدينة، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٦)﴾.
[١٦] ﴿قُلْ﴾ لهم: ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ لأي من حضر أجلُه، مات أو قتل ﴿وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ﴾ بعد هذا الفرار.
﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي: إلا مدة آجالكم، وهي قليل.
* * *
﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٧)﴾.
[١٧] ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ أي: يمنعكم منه.
﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا﴾ هزيمة ﴿أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً﴾ نصرة.
﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا﴾ قريبًا ينفعهم.
﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ ناصرًا يمنعهم.
* * *
﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (١٨)﴾.
[١٨] ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾ أي: المثبطين الناسَ عن رسول الله - ﷺ -.
﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ أي: أقبلوا إلينا، ودعوا محمدًا وأصحابه، نزلت في أخوين كان أحدهما مؤمنًا، والآخر منافقًا ﴿وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ﴾ لا يحضرون الحرب ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ رياء من غير احتساب.
﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٩)﴾.
[١٩] ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾ بُخلاءَ بالنفقة في سبيل الله ﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ في تلك الحالة.
﴿تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ﴾ في الرؤوس؛ من الخوف والجبن.
﴿كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ لأن من قرب من الموت، وغشيه أسبابه، يذهب عقله، ويشخص بصره فلا يَطْرِف.
﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ﴾ آذوكم ﴿بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ سليطة.
﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾ أي: عند الغنيمة يشاحون المؤمنين، ويقولون: أعطونا؛ فإنا شهدنا معكم القتال، فلستم أحقَّ بالغنيمة منا، وعند البأس هم أجبن قوم.
﴿أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ صدقًا ﴿فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ أبطل جهادهم؛ لنفاقهم.
﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ أي: الإحباط ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ هينًا.
* * *
﴿يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿يَحْسَبُونَ﴾ أي: المنافقون ﴿الْأَحْزَابَ﴾ الطوائفَ المختلفة.
﴿لَمْ يَذْهَبُوا﴾ عن قتالهم جبنًا وفرقًا.
﴿وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ﴾ كرة ثانية ﴿يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ﴾ يتمنوا لو كانوا في بادية مع الأعراب؛ من الخوف والجبن.
﴿يَسْأَلُونَ﴾ قرأ رويس عن يعقوب: (يَسَّاءَلُونَ) بتشديد السين وفتحها وألف بعدها؛ أي: يتساءلون، وقرأ الباقون: بإسكانها من غير ألف (١) ﴿عَنْ أَنْبَائِكُمْ﴾ يتعرفون أحوالكم.
﴿وَلَوْ كَانُوا﴾ يعني: هؤلاء المنافقين ﴿فِيكُمْ﴾ في الخندق.
﴿مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا﴾ رياءً؛ رميًا بالحجارة والنبال يقيمون به عذرهم.
* * *
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)﴾.
[٢١] ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ﴾ أيها المخلفون ﴿فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ قدوة صالحة؛ لأنه يقتدى به. قرأ عاصم: (أُسْوَةٌ) بضم الهمزة، والباقون: بكسرها، وهما لغتان (٢).
﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ﴾ أي: ثوابه ﴿وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ ونعيم الآخرة.
﴿وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ في جميع أوقاته وأحواله.
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٤٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١١٨).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٢١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١١٨).
﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ﴾ واجتماعهم عليهم، ثم رأوا زلزلتهم وخوفهم ورحيلهم منهزمين. واختلاف القراء في (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ) كاختلافهم في (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) في سورة (الكهف) [الآية: ٥٣] ﴿قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ من النصر، وهو قوله تعالى في البقرة: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)﴾ [الآية: ٢١٤]، فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثلُ ذلك البلاء، فلما رأوا ما أصاب الأحزابَ من الشدة، قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله.
﴿وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ﴾ الخوف عند مجيء الأحزاب.
﴿إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ لأمر الله.
* * *
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ من الثبات مع رسول الله - ﷺ -.
﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ﴾ نَذْرَه (١)؛ بأن قاتل حتى استُشهد؛ كحمزة، ومصعب بن عمير، وأنس بن النضر، والنحب: النذر، واستعير للموت،
(١) "نذره" زيادة من "ت".
وهو من النفس، قيل: ومنه النحيب؛ لما فيه من التنفس.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾ الشهادةَ؛ كعثمان وطلحة، قال رسول الله: - ﷺ - "من أحبَّ أن ينظرَ إلى رجل يمشي على وجه الأرض قد قضى نحبَهُ، فلينظُرْ إلى هذا" يشير إلى طلحة (١)؛ لأنه وقى النبي - ﷺ - بيده، فصارت شلاء.
﴿وَمَا بَدَّلُوا﴾ عهدهم (٢) ﴿تَبْدِيلًا﴾ شيئًا من التبديل.
* * *
﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٤)﴾.
[٢٤] ثم ذكر تعالى جزاء الفريقين فقال: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ بجزاء وفائهم بالعهد، واللام في (لِيَجْزِيَ) لام الصيرورة والعاقبة، ويحتمل أن تكون لام كي.
﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ﴾ بأن يدعهم على النفاق ﴿إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ فيهديهم إلى الإيمان. واختلاف القراء في الهمزتين من (إِنْ شَاءَ أَوْ) كاختلافهم فيهما من قوله ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ﴾ في سورة الحج [الآية: ٦٥].
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾.
* * *
(١) رواه أبو يعلى في "مسنده" (٤٨٩٨)، والطبراني في "المعجم الأوسط" (٩٣٨٢)، وابن عدي في "الكامل في الضعفاء" (٤/ ٦٩)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (١/ ٨٨)، وغيرهم عن عائشة -رضي الله عنها-.
(٢) "عهدهم" زيادة من "ت".
﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من قريش وغطفان ﴿بِغَيْظِهِمْ﴾ لم تُشف صدورُهم بنيل ما أرادوا ﴿لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا﴾ ظَفَرًا ﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ بالملائكة والريح.
﴿وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا﴾ يقهر أعداءه ﴿عَزِيزًا﴾ ينصر أولياءه.
* * *
﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (٢٦)﴾.
[٢٦] ثم بعد ذهاب الأحزاب إلى بلادهم، رجع رسول الله - ﷺ - إلى المدينة بأصحابه، فجاءه جبريل -عليه السلام-، وقال: "وضعتم السلاح؟ إن الملائكة لم تضع أسلحتها منذ أربعين ليلة، إن الله يأمرك بالمسير إلى قريظة، وإني مزلزلٌ حصونَهم"، فأمر رسول الله - ﷺ - مناديًا، فأذن: "أن من كان سامعًا مطيعًا، فلا يصلينَّ العصرَ إلا في بني قريظة"، وأعطى رايته عليًّا، فسار بالناس حتى دنا من الحصن، فحاصرهم - ﷺ - خمسًا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار، فقالوا لأبي لبابة: أننزل على حكم محمد؟ فقال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح، وتقدم خبر أبي لبابة في سورة الأنفال، فطلب بنو قريظة من النبي - ﷺ - أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله - ﷺ - في طلبه، فجاء راكبَ حمارٍ، وكان رجلًا جسيمًا، فقال - ﷺ -: "قوموا إلى سيدكم"، فأنزلوه، فنزل، فقالوا: يا أبا عمرو! إن
355
رسول الله - ﷺ - قد ولاك مواليك لتحكم فيهم، فقال لمواليه: "عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت؟ " قالوا: نعم، قال: "وعلى من هاهنا؟ " في الناحية التي فيها رسول الله - ﷺ -، وهو معرض عن رسول الله - ﷺ - إجلالًا له، فقال رسول الله - ﷺ -: "نعم"، فقال: "أحكمُ فيهم أن يُقتل الرجال، وتُقسم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء"، فكبر النبي - ﷺ -، وقال: "لقد حكمتَ بحكم الله من فوق سبعةِ أرقعةٍ"، فاسْتُنْزِلوا، ثم رجع رسول الله - ﷺ - إلى المدينة، وحبسهم في دار بنت الحارث: امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله - ﷺ - إلى سوق المدينة، فحفر به خندقًا، وضُربت أعناقُهم فيه، وكانوا ستَّ مئة، أو سبع مئة، وقيل: كانوا بين الثمان مئة إلى التسع مئة، ثم قسم الأموال والسبايا، واصطفى لنفسه - ﷺ - ريحانة بنت شمعون، فكانت في ملكه حتى مات، ولم يستشهد في هذه الغزوة سوى خلاد بن زيد بن ثعلبة، دلت عليه امرأةٌ من بني قريظة رحًى شدخت رأسه، فقال - ﷺ -: "له أجرُ شهيدين"، وقتلها به (١).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رسول الله - ﷺ - كان يقول: "لا إله إلا الله وحدَه، أعزَّ جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزابَ وحده، ولا شيء بعده" (٢)، وكانت هذه الغزوة في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة الشريفة، فأنزل الله تعالى في قصة بني قريظة:
(١) هذا السياق كله في "سيرة ابن هشام" (٤/ ١٩٩) وما بعدها. وانظر: "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (٣/ ١٠٣).
(٢) رواه البخاري (٣٨٨٨)، كتاب: المغازي، باب: غزوة الخندق، ومسلم (٢٧٢٤)، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التعوذ من شر ما عمل ومن شر ما لم يعمل.
356
﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أي: أعانوهم؛ يعني: الأحزاب ﴿مِنْ صَيَاصِيهِمْ﴾ حصونهم، وكل ما يُمتنع به أو فيه صيصية. قرأ يعقوب: (صَيَاصِيهُمْ) بضم الهاء، وابن كثير، وأبو جعفر: يضمان الميم، ويصلانها بواو في اللفظ حالة الوصل، واختلف عن قالون (١).
﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ﴾ يعني: بني قريظة ﴿الرُّعْبَ﴾ قرأ ابن عامر، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب: (الرُّعُبَ) بضم العين، والباقون: بإسكانها (٢).
﴿فَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ منهم، وهم الرجال.
﴿وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ منهم، وهم النساء والذراري.
* * *
﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا﴾ هي كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. قرأ أبو جعفر: (تَطَوْها) بإسكان الواو بغير همز، والباقون: بالهمز (٣).
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾.
(١) سلفت عند تفسير الآية (٦) من سورة البقرة.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢٠).
(٣) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢١).
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٢٨)﴾.
[٢٨] كان للنبي - ﷺ - تسع نسوة، فآذينه، وسألنه زيادة نفقة، وتغايرن، فغمَّه ذلك، فصعد إلى غرفة له، فمكث فيها ولم يخرج إلى أصحابه، فنزل قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ﴾ (١) أمر وجوب في تخييرهن، وهو من خصائصه - ﷺ - ﴿إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ﴾ أي: أجبن إلى ما أعرضُ عليكن، ولم يرد حقيقة الإقبال والمجيء ﴿أُمَتِّعْكُنَّ﴾ أعطيكنَّ متعة الطلاق ﴿وَأُسَرِّحْكُنَّ﴾ أصل التسريح: الإرسال؛ كالطلاق.
وتقدم اختلاف الأئمة فيه في سورة البقرة، وملخصه: أن صريح اللفظ الذي يقع به الطلاق من غير نية عند مالك والشافعي ثلاثة: الطلاق، والفراق، والسَّراح، وعند أبي حنيفة وأحمد: هو لفظ الطلاق ﴿سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ طلاقًا للسنة.
واتفق الأئمة على أن السنة في الطلاق أن يطلقها واحدة في طُهر لم يصبها فيه، ثم يدعها حتى تنقضي عدتها، وإن طلق المدخول بها في حيضها أو طهر أصابها فيها، وهي ممن تحبل، فهو طلاق بدعة محرم، ويقع بالاتفاق، وجَمْعُ الثلاث بدعة عند أبي حنيفة ومالك، وقال أحمد: هو محرم؛ خلافًا للشافعي، ويقع بلا خلاف بينهم.
* * *
(١) رواه مسلم (١٤٧٨)، كتاب: الطلاق، باب: بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقًا إلا بالبينة، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-.
﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ و (مِنْ) للتبيين (١)؛ لأنهن كلهن كنَّ محسنات، فأخبر بذلك عائشة -رضي الله عنها-، فاختارت رسول الله، ثم اختارت الباقياتُ الصالحاتُ اختيارها.
واختلف الأئمة فيما إذا قال الزوج لامرأته: اختاري نفسك، فاختارت، فقال أبو حنيفة: تطلق واحدة بائنة، وقال مالك: إذا أطلق التخيير، ولم يقيده بعدد مخصوص، فإنها تطلق ثلاثًا، وقال الشافعي وأحمد: تطلق واحدة يملك فيها الرجعة، وإذا قامت من مجلسها قبل أن تختار نفسها، انقطع التخيير باتفاقهم.
واختلفوا فيما إذا قال: أمرُك بيدك، فقال أبو حنيفة: إذا قال: أمرك بيدك في تطليقة، فاختارت نفسها، يقع طلقة رجعية، وإن نوى الثلاث، صح، فلو قالت: اخترت واحدة، فهي ثلاث، وهو كالتخيير يتوقف على المجلس، قال مالك: إن طلقت نفسها ثلاثًا، فناكرها، وذكر أنه قصد بالتمليك طلقة واحدة، فقوله مع يمينه، وإن لم يكن له نية، فلها أن توقع ما شاءت من عدد الطلاق، ولا مناكرة له عليها، فإن مكنته من نفسها، فوطئها أو باشرها، سقط تمليكها، ولها أن تمنع نفسها لتنظر في أمرها، فإذا أبطأت على زوجها، ومنعته نفسها، ولم توقع طلاقًا، كان له
(١) "للتبيين" زيادة من "ت".
مخاصمتها إلى الحاكم، فيوقفها الحاكم ويأمرها أن توقع الطلاق، أو تسقط التمليك، فإن أبت الأمرين، أسقط الحاكم تمليكها، وقال الشافعي: له تفويض طلاقها إليها، وهو تمليك في الجديد، فيشترط لوقوعه تطليقها على الفور، وفي قول عنه: توكيل، فلا يشترط الفور، وعلى القولين له الرجوع قبل تطليقها، ولو قال: طلقي، ونوى ثلاثًا، فقالت: طلقت، ونوتهن، فثلاث، ولم لا، فواحدة، ولو قال: ثلاثًا، فوحدت، أو عكسه، فواحدة، وقال أحمد: إذا قال: أمرك بيدك، فلها أن تطلق ثلاثًا، وإن نوى واحدة، وهو في يدها أبدًا ما لم يقل: فسختُ، أو يطأها، فيبطل بذلك، والله أعلم.
* * *
﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ معصيةٍ ظاهرةٍ؛ من نشوز، وسوء خلق. قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: (مُبَيَّنَةٍ) بفتح الياء، والباقون: بكسرها (١).
﴿يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ﴾ قرأ ابن كثير، وابن عامر: (نُضَعِّفْ) بالنون وتشديد العين وكسرها من غير ألف قبلها، ونصب (العذابَ)، وقرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب: (يُضعَّفْ) بالياء وتشديد العين وفتحها
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٥)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٥٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢١).
من غير ألف قبلها، ورفع (العذابُ)، وقرأ الباقون: كذلك، إلا أنهم بتخفيف العين وألف قبلها، وهما لغتان مثل: بَعَّدَ وباعَدَ (١).
﴿ضِعْفَيْنِ﴾ مثلين ﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ أي: عذابُها ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ هينًا، وتضعيف عقوبتهن على المعصية؛ لشرفهن؛ كتضعيف عقوبة الحرة على الأمة، وتضعيف ثوابهن؛ لترفع منزلتهن، وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين.
* * *
﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (٣١)﴾.
[٣١] ﴿وَمَنْ يَقْنُتْ﴾ يطع ﴿مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ قرأ يعقوب: (مَنْ تَأتِ مِنْكُنَّ) (وَمَنْ تَقْنُتْ) بالتاء على التأنيث فيهما، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير (٢)؛ لأن (مَنْ) أداة تقوم مقام الاسم، يعبر به عن الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث.
﴿وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا﴾ نعطِها ﴿أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ﴾ أي: مثلَي أجر غيرها.
قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (وَيَعْمَلْ) (يُؤْتهَا) بالياء فيهما نسقًا على
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٩)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٥٥٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢١ - ١٢٢).
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٦٠)، و"المحتسب" لابن جني (٢/ ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢١ - ١٢٢)، والقراءة المشهورة عن يعقوب كقراءة الجمهور.
قوله: (مَنْ يَأْتِ) و (يَقْنُتْ)، وقرأ الباقون: بالتاء على التأنيث في الأول، وبالنون في الثاني (١).
﴿وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا﴾ واسعًا في الجنة.
* * *
﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ﴾ أي: ليس قدرُكن عندي مثلَ قدرِ غيرِكن من النساء الصالحات، أنتن أكرمُ عليَّ، وثوابكن أعظمُ لديَّ، ولم يقل: كواحدة؛ لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين، والجمع، والمذكر والمؤنث ﴿إِنِ اتَّقَيْتُنَّ﴾ أي: إن أردتن أن تكنَّ متقيات.
﴿فَلَا تَخْضَعْنَ﴾ تَلِنَّ ﴿بِالْقَوْلِ﴾ للرجال، ولا تُرققن الكلام. واختلاف القراء في الهمزتين من (النِّسَاءِ إِنِ) كاختلافهم فيهما من (الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: ٣٣].
﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾ ريبة، والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب؛ لقطع الأطماع.
﴿وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ أي: بعيدًا من طمع المريب.
* * *
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٢١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٦٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢٣).
﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وعاصم: (وَقَرْنَ) بفتح القاف من القرار؛ أي: الزمْنَ بيوتَكن، وقرأ الباقون: بالكسر؛ من الوقار؛ أي: كُنَّ أهلَ وقار وسكون، قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو، ويعقوب، وورش، وحفص بُيُوتَكُنَّ: بضم الباء، والباقون: بكسرها (١).
﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ﴾ تُبْرِزْنَ محاسنكن للرجال ﴿تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ الذين كانوا بين آدم ونوح، والأخرى: بين عيسى ومحمد - ﷺ -، وقيل غير ذلك. قرأ البزي عن ابن كثير: (وَلاَ تَّبَرَّجْنَ) بتشديد التاء (٢).
﴿وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ في أمره ونهيه.
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ﴾ الإثم ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ نصب نداء، والمراد: زوجات النبي - ﷺ -، وقال: (عَنْكُمْ)، ولم يقل: عنكن؛ لأنه - ﷺ - كان بينهن، فغُلِّبَ.
﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ من الرجس.
وعن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "في بيتي أُنزلت: {إِنَّمَا يُرِيدُ
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٩)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٥٦٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٨)، و "معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢٤).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٥٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢٤).
اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قالت: فأرسل رسول الله - ﷺ - إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين، فجلل فاطمة وحسنًا وحسينًا بكسائه، وعلي خلف ظهره، ثم قال - ﷺ -: "اللهم هؤلاء أهلُ بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيرًا"، قالت أم سلمة: فقلت: يا رسول الله! أما أنا من أهل البيت؟ قال: "بلى إن شاء الله" (١).
* * *
﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ﴾ القرآن.
﴿وَالْحِكْمَةِ﴾ السنة. تقدم اختلاف القراء في كسر الباء وضمها من (بيوتكن).
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا﴾ بأوليائه ﴿خَبِيرًا﴾ بجميع خلقه.
* * *
﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٣٥)﴾.
(١) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٦/ ٢٩٢)، والحاكم في "المستدرك" (٤٧٠٥)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٢/ ١٥٠)، وغيرهم.
[٣٥] روي أن أزواج النبي - ﷺ - قلن: يا رسول الله! ذكر الله الرجال في القرآن، ولم يذكر النساء بخير، فما نهينا خير نذكر به؟ إنا نخاف ألَّا يقبل منا طاعة، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ﴾ (١) المنقادين لحكم الله ﴿وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ وهم من آمن حقيقة.
﴿وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ﴾ العابدين المطيعين لله في الفرض، وللرسول في السنة ﴿وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ﴾ فيما عوهدوا عليه أن يفوا به ويكملوه ﴿وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ﴾ عن الشهوات، وعلى الطاعات والرزايا ﴿وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ﴾ الخائفين لله، المستكينين لربوبيته الوقورين ﴿وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ﴾ بالفرض والنفل، وهما الزكاة وصدقة التطوع ﴿وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ﴾ كذلك في الفرض والنفل.
﴿وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ﴾ من الزنا وشبهه.
﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ بقلوبهم وألسنتهم، قال - ﷺ -: "من استيقظَ من الليل، وأيقظ امرأته، فصليا جميعًا ركعتين، كُتبا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات" (٢).
﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ﴾ لجميع المؤمنين ﴿مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ على طاعتهم.
(١) رواه الطبراني في "تفسيره" (٢٢/ ١٠)، والطبراني في "المعجم الكبير" (١٢٦١٤)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(٢) رواه أبو داود (١٤٥١)، كتاب: الصلاة، باب: الحث على قيام الليل، والنسائي في "السنن الكبرى" (١٣١٠)، وابن ماجه (١٣٣٥)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء فيمن أيقظ أهله من الليل، وابن حبان في "صحيحه" (٢٥٦٨)، والحاكم في "المستدرك" (١١٨٩)، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة -رضي الله عنهما-.
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (٣٦)﴾.
[٣٦] ونزل في امتناع زينب وأخيها من تزويج زيد بن حارثة بعد أن خطبها رسول الله - ﷺ - له ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ﴾ (١) لعبد الله بن جحش.
﴿وَلَا مُؤْمِنَةٍ﴾ زينب.
﴿إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا﴾ هو خطبتها لزيد ﴿أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ أي: الاختيار ﴿مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ المعنى: لا يجوز لأحد أن يريد إلا ما أراد الله ورسوله. قرأ الكوفيون، وهشام عن ابن عامر: (أَنْ يَكُونَ) بالياء على التذكير؛ للحائل بين التأنيث والفعل، وقرأ الباقون: بالتاء؛ لتأنيث الخيرة (٢).
﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ أخطأ خطأً ظاهرًا.
* * *
﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٣٧)﴾.
[٣٧] فرضيت زينب وأخوها، وتزوجت بزيد، وبقيت معه مدة، ثم
(١) رواه الطبري في "تفسيره" (٢٢/ ١١).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٢٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٩)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٥٦٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢٥).
366
أُلقي في نفس زيد كراهتها، فجاء النبيَّ - ﷺ - فقال: أريد طلاق صاحبتي، فقال: "أرابك منها شيء؟ "، قال: لا والله ولكنها تترفع علي، فقال له: "أمسكْ عليكَ زوجَك"، فنزل قوله تعالى:
﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ (١) بالإسلام ﴿وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ﴾ بالعتق: ﴿أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ﴾ لا تفارقها، نهي تنزيه. قرأ أبو عمرو، وهشام، وحمزة، والكسائي، وخلف: (وَإِذ تَّقُولُ) بإدغام الذال في التاء، والباقون: بالإظهار (٢).
﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ﴾ ما علمته، وهو ﴿مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ أي: مظهره، وهو أنه تعالى كان قد أعلمه - ﷺ - أن زينب ستصير زوجة له.
﴿وَتَخْشَى النَّاسَ﴾ أي: اليهود أن يقولوا: تزوجَ امرأةَ ابنه.
﴿وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ﴾ فلا تفعلْ مثل ذلك، وهذا عتاب شديد، قال عمر، وابن مسعود، وعائشة: "ما نزلت على رسول الله - ﷺ - آية هي أشدُّ عليه من هذه الآية" (٣)، وعن عائشة: "لو كتم نبيُّ الله شيئًا مما أنزل عليه، لكتم هذه الآية" (٤)، فطلقها زيد، فلما انقضت عدتها، قال لزيد: "اذهبْ
(١) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (٣/ ١١١): غريب بهذا اللفظ، ورواه مسلم في "صحيحه" (١٤٢٨) في النكاح مختصرًا من حديث أنس.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢٦).
(٣) انظر: "عمدة القاري" للعيني (١٩/ ١١٩).
(٤) رواه مسلم (١٧٧)، كتاب: الإيمان، باب: معنى قوله الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾. ورواه البخاري (٦٩٨٤)، كتاب: التوحيد، باب: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾، لكن عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
367
فاذكرْها عليَّ" فقال زيد: "يا زينب! إن نبي الله أرسلني إليك يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئًا حتى أوامر به ربي"، وقامت إلى مسجدها.
فنزل: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا﴾ (١) أربًا، ولم يذكر أحد من الصحابة في القرآن باسمه سوى زيد في هذا المحل -رضي الله عنه- ﴿زَوَّجْنَاكَهَا﴾ فدخل - ﷺ - عليها بغير إذن، ولا عقد نكاح، ولا صَداق، ولا شهود، وأطعم الناس خبزًا ولحمًا، المعنى: فعلنا ذلك.
﴿لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ﴾ إثم ﴿فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾ وهم الذين تبنوهم ﴿إِذَا قَضَوْا﴾ أي: الأدعياء ﴿مِنْهُنَّ وَطَرًا﴾ تلخيصه: فعل ذلك ليعلم أن نكاح زوجة المتبنَّى حلال؛ بخلاف زوجة الابن.
﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ مكونًا لا محالة، قال أنس: "كانت زينب تفتخر على أزواج النبي - ﷺ - وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات" (٢).
* * *
﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ﴾ أي: أحله له ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾ نصب مصدر ﴿فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ هم الأنبياء عليهم السلام،
(١) رواه مسلم (١٤٢٨)، كتاب: النكاح، باب: زواج زينب بنت جحش -رضي الله عنها- عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
(٢) رواه البخاري (٣٤٣٠)، كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، عن أبي بكرة -رضي الله عنه-.
المعنى: لا تؤاخذ بكثرة النساء كالأنبياء قبلك؛ فإنهم كانوا أكثر نساءً؛ كداود وسليمان عليهما السلام.
﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ قضاءً مقضيًّا.
* * *
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٣٩)﴾.
[٣٩] ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ﴾ هم الأنبياء، أثنى الله عليهم؛ يعني: سنة الله في الأنبياء الذين يبلغون رسالات الله ﴿وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ أي: يفعلون ما يؤمرون، ولا يخافون لائمة أحد.
﴿وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ كافيًا للمخاوف.
* * *
﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٤٠)﴾.
[٤٠] ولما قيل: إن محمدًا تزوج امرأة ابنه، نزل: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ الذين لم يلدهم، فلا يحرم عليه زوجة من تبناه بعد فراقها وانقضاء عدتها، و (محمد) معناه: المستغرق لجميع المحامد، وهو الذي كثر حمدُ الحامدين له مرة بعد أخرى، وتقدم تفسير (محمد) في سورة آل عمران بأتم من هذا، وكذلك تفسير (أحمد)، وذكر نسبه الشريف، ولا يجري فيه القول الضعيف أنه لا يجوز أن يقال له: أبو المؤمنين [ولا عبرة من منع ذلك في الحسنين من الأمويين؛ للخبر الصحيح الآتي في الحسن:
"إن ابني هذا سيد" (١)، ومعاوية، وإن نقل عنه ذلك، ولكن نقل عنه ما أنه رجع عن ذلك، وغير معاوية من بقية الأمويين المانع بذلك لا يعتد به، وعلى الأصح، فقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾ إنما سيق لانقطاع حكم النبي - ﷺ - لا يمنع من الإطلاق المراد به: أنه أبو المؤمنين في الاحترام والإكرام من هو أحق] (٢).
﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ نصب اللام والميم عطفًا على خبر (كَانَ). قرأ عاصم: (وَخَاتَمَ) بفتح التاء على الاسم؛ أي: آخرهم، وقرأ الباقون: بكسرها على الفاعل (٣)؛ لأنه ختم النبيين، فهو خاتمهم؛ أي: لا يُنَبَّأُ نبي بعده أبدًا، وإن نزل عيسى بعده، فهو ممن نبئ قبله، ولأنه ينزل بشريعته، ويصلي إلى قبلته، فكأنه من أمته.
﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ عموم، والمقصد به هنا: علمه تعالى بما رآه الأصلحَ لمحمد - ﷺ -، وبما قدره في الأمر كله.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١)﴾.
[٤١] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ﴾ بما هو أهله من التهليل والتكبير
(١) رواه البخاري (٣٤٣٠)، كتاب: المناقب، باب: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾.
(٢) ما بين معكوفتين سقط من "ت".
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٢٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٧٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢٨).
والتحميد والتقديس ﴿ذِكْرًا كَثِيرًا﴾ قيامًا، وقعودًا، وعلى جنوبكم، وعلى كل حال.
* * *
﴿وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿وَسَبِّحُوهُ﴾ أي: صلوا له ﴿بُكْرَةً﴾ وهي صلاة الصبح ﴿وَأَصِيلًا﴾ هي صلاة العصر، وقيل: المراد: التسبيح باللسان، فيقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، وسميت هذه الكلمات ذكرًا كثيرًا؛ لأنه يقولها الطاهر والجنب والمحدث.
* * *
﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ﴾ صلوات الله: رحمتُه ومغفرته، وصلاةُ الملائكة: الدعاءُ والاستغفار للمؤمنين، المعنى: يفعل الله بكم ذلك.
﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾ الكفر ﴿إِلَى النُّورِ﴾ الإيمان، تلخيصه: برحمته وبسبب دعاء الملائكة فزتم.
﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ حتى اعتنى بصلاح أمرهم.
* * *
﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ﴾ تعالى ﴿سَلَامٌ﴾ أي: يسلم الله عليهم، ويسلمهم من الآفات.
﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾ هو الجنة.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ﴾ قرأ نافع: (النَّبِيءُ) بالمد والهمز (إِنَّا): بتسهيل الهمزة، واختلف في كيفية تسهيلها، فذهب جمهور القراء المتقدمين إلى أنها تبدل واوًا خالصة مكسورة، وذهب بعضهم إلى أنها تجعل بين الهمزة والياء، وهو مذهب أئمة النحو والمتأخرين من القراء، وهو الأوجه في القياس، وقرأ الباقون: بتشديد الياء، وتحقيق الهمزة من (إِنَّا) (١) ﴿شَاهِدًا﴾ على أمتك، والرسلِ بالبلاغ، ونصبه على الحال، وكذلك جميع المنصوبات بعد ﴿وَمُبَشِّرًا﴾ لأهل طاعته بالجنة ﴿وَنَذِيرًا﴾ لأهل معصيته بالنار.
* * *
﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ﴾ إلى توحيده ﴿بِإِذْنِهِ﴾ بتسهيله وأمره، وتقديرِه ذلك في وقته وأوانه ﴿وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ أي: [يهتدى بك في الدين كما يهتدى] (٢) بالسراج المنير في الظلام، فجعله شاهدًا على أمته لنفسه بإبلاغهم الرسالة، وهي من خصائصه عليه السلام.
* * *
(١) انظرها في تفسير الآية (١) من هذه السورة.
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (٤٧)﴾.
[٤٧] ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ تفضلًا جزيلًا، قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية، دعا رسول الله عليًّا ومعاذًا، فبعثهما إلى اليمن، وقال: "اذهبا، فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، فإنه قد نزل عليَّ، وقرأ الآية" (١).
* * *
﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ في فسخ عهد، لا فيما لا يحل.
﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ اصبر عليه، ولا تجازهم، ونُسخ بآية السيف.
﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ فهو كافيك ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ مفوضًا إليه.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ﴾ أي: عقدتم عليهن.
﴿ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ أي: تطؤوهن. قرأ حمزة،
(١) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٨/ ٢٧١٢)، والطبراني في "المعجم الكبير" (١١٨٤١).
373
والكسائي، وخلف: (تُمَاسُّوهُنَّ) بضم التاء وألف بعد الميم، والباقون: بفتح التاء من غير ألف (١).
﴿فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ تحسبونها بالأقراء والأشهر.
﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ إذا لم يكن لهن صَداق، وإن كان لهن صداق، فنصفه بلا متعة، وتقدم الحكم في ذلك، واختلاف الأئمة فيه، وفي حكم العدة بالخلوة في سورة البقرة.
﴿وَسَرِّحُوهُنَّ﴾ خَلُّوا سبيلهن ﴿سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ بلا إضرار بهن، وقوله: ﴿إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ﴾ فيه دليل على أن الطلاق قبل النكاح غير واقع؛ لأن الله تعالى رتب الطلاق على النكاح، فلو قال: متى تزوجتُ فلانة، أو كل امرأة أتزوجها، فهي طالق، لم يقع عليه طلاق إذا تزوج عند الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يقع طلاقًا، وقال مالك: إن عين امرأة بعينها، أو من قبيلة، أو بلد، فتزوجها، وقع الطلاق، وإن عَمَّ فقال: كل امرأة أتزوجها من الناس كلهم، فهي طالق، لم يلزمه شيء، والله أعلم.
* * *
{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٢٢)، و "التيسير" للداني (ص: ٨١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٢٩).
374
أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥٠)}.
[٥٠] ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ أي: مهورهن، وتقدم قريبًا مذهب نافع في الهمزتين من (النَّبِيءُ إِنَّا) ﴿وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ من الإماء.
﴿مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ﴾ أي: غَنَّمَكَ من الكفار؛ كصفية وجويرية، وقد كانت مارية مما ملكت يمينه، فولدت له إبراهيم ﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ﴾ نساء قريش.
﴿وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ﴾ نساء بني زهرة ﴿اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ إلى المدينة، فمن لم تهاجر معه منهن، لم يجز له نكاحها.
عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: "خطبني رسول الله - ﷺ - لما فتح مكة، فأنزل الله هذه الآية، فلم أحل له؛ لأني لم أكن من المهاجرات، وكنت من الطلقاء" (١)، ثم نسخ شرط الهجرة بقوله: ﴿وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً﴾ [فلا يحل له غير المؤمنة، المعنى: أبحنا لك جميع المذكورات، وأبحنا لك امرأة مؤمنة] (٢) ﴿إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ يَسْتَنْكِحَهَا﴾ بطلب نكاحها من غير صداق.
(١) رواه الترمذي (٣٢١٤)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، وقال: حسن صحيح، والطبراني في "المعجم الكبير" (١٠٠٧)، والحاكم في "المستدرك" (٣٥٧٤)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٧/ ٥٤).
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
375
﴿خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ المعنى: إذا وهبتك مؤمنة نفسها، حلت لك خاصة بلفظ الهبة بلا صداق، كالزيادة على الأربع، وكان من خصائصه - ﷺ - أن يتزوج بلا ولي ولا شهود، وإذا خطب امرأة، يحرم على غيره خطبتها حتى يتركها (١)، والواهبةُ نفسَها هي أم شريك بنتُ جابر من بني أسد، وقيل: ميمونة بنت الحارث، وقيل: خولة بنت حكيم من بني سليم، وقيل: زينب بنت خزيمة الأنصارية (٢). قرأ نافع (لِلنَّبِيءِ إِنْ) بالهمز والمد في (النَّبِيءِ)، وتسهيل الهمز الثاني بين بين، وقرأ: (أَرَادَ النَّبِيءُ أَنْ) بالهمز والمد في (النَّبِيءُ)، وإبدال الهمز الثاني واوًا محضة مفتوحة، وخالفه قالون في الحرف الأول، وهو (لِلنَّبِيِّ إِنْ)، فقرأ بتشديد الياء، وتحقيق الهمز بعدها؛ كبقية القراء (٣).
واختلف الأئمة في انعقاد النكاح بلفظ الهبة في حق الأمة، فقال أبو حنيفة: ينعقد بلفظ الهبة والصدقة والتمليك والبيع والشراء، وعنه في لفظ الإجارة خلاف، وقال مالك: ينعقد بلفظ يدل على التأبيد مدة الحياة؛
(١) انظر: "فتح الباري" لابن حجر (٩/ ١٢٨).
(٢) انظر: "التلخيص الحبير" (٣/ ١٣٨)، و"فتح الباري" (٨/ ٥٢٥ - ٥٢٦) قال ابن حجر في "الفتح" بعد أن ذكر من خَرَّج الآثار في اللواتي وهبن أنفسهن له صلى الله عليه وسلم، وبعد أن ذكر الحكم الحديثي لكلٍّ، قال: عن عكرمة عن ابن عباس: "لم يكن عند رسول الله ﷺ امرأة وهبت نفسها له" أخرجه الطبري وإسناده حسن. والمراد أنه لم يدخل بواحدةٍ ممَّن وهبت نفسها له وإن كان مباحًا له؛ لأنه راجع إلى إرادته؛ لقوله تعالى: ﴿إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا﴾.
(٣) سلفت هذه القراءة في تفسير الآية (١) من هذه السورة.
376
كأنكحت، وزوجت، وملكت، وبعت، وكذا وهبت بتسمية صداق، وقال الشافعي وأحمد: لا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج.
واختلفوا في اشتراط الشهادة لصحة النكاح، فقال مالك: يصح بلا إشهاد بشرط الإعلان، وتركِ التواصي بالكتمان، وقال الثلاثة: تشترط، فعند أبي حنيفة: ينعقد بحضور رجلين، ورجل وامرأتين، ولا تشترط العدالة، وعند الشافعي وأحمد: تشترط الذكورة، والشافعي يشترط العدالة، والصحيح عنه: أنه ينعقد بمستوري العدالة، فلو بان فسق الشاهد عند العقد، فباطل، وأحمد يشترط العدالة في شاهديه ظاهرًا فقط، فلو بانا بعده فاسقين، فالعقد صحيح.
﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ﴾ أي: أوجبنا على المؤمنين.
﴿فِي أَزْوَاجِهِمْ﴾ من الأحكام ألَّا يتزوجوا أكثر من أربع.
﴿وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ من الإماء مباح لهم فوق أربع زوجات.
﴿لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ﴾ ضيق، وهذا يرجع إلى أول الآية؛ أي: أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لئلا يضيق عليك.
﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ لما يعسر التحرز عنه.
﴿رَحِيمًا﴾ بالتوسعة في مظان الحرج.
* * *
﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (٥١)﴾.
377
[٥١] ﴿تُرْجِي﴾ تؤخِّر ﴿مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ﴾ عنك بطلاق أو غيره ﴿وَتُؤْوِي﴾ تضم.
﴿إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ منهن. قرأ نافع، وأبو جعفر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (تُرْجِي) بإسكان الياء بغير همز، وقرأ أبو جعفر: (وَتُووِي) بواوين بغير همز، والباقون: بالهمز فيهما (١)، واختلف المفسرون في معنى الآية، فأشهر الأقاويل أنه في القَسْم بينهن، وذلك أن التسوية بينهن في القَسْم كان واجبًا عليه، فلما نزلت هذه الآية، سقط عنه، وصار الاختيار إليه فيهن.
﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ﴾ أي: طلبت أن تؤوي إليك امرأة.
﴿مِمَّنْ عَزَلْتَ﴾ فصلته بالإرجاء.
﴿فَلَا جُنَاحَ﴾ أي: لا إثم ﴿عَلَيْكَ﴾ في فعلك بنسائك، فأباح الله له ترك القسم لهن، حتى إنه ليؤخر من يشاء منهن في نوبتها، ويطأ من يشاء منهن في غير نوبتها، ويرد إلى فراشه من عزلها؛ تفضيلًا له على سائر الرجال، فرضين بذلك، واخترنه على هذا الشرط.
﴿ذَلِكَ﴾ التخيير ﴿أَدْنَى﴾ أقرب إلى رضاهن.
﴿أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾ بتخييرهن.
﴿وَلَا يَحْزَنَّ﴾ بترك القسم لهن ﴿وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ﴾ من
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٢٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١١٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٤٠٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٣١)، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وشعبة ويعقوب: (ترجى).
تقريب وتبعيد، وعزل وإيواء؛ لعلمهن أن ذلك بوحي من الله.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ من الميل إلى بعض النساء.
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا﴾ لا يعاجل بالعقوبة.
* * *
﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ﴾ قرأ أبو عمرو، ويعقوب: (تَحِلُّ) بالتاء على التأنيث على معنى جماعة النساء، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير على معنى جمع النساء (١)، وهما جنسان؛ لأن تأنيث لفظ النساء ليسس بحقيقي ﴿مِنْ بَعْدُ﴾ أي: من بعد هؤلاء التسع اللاتي خيرتهن واخترنك، ورضين بمرادك ﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ﴾ غيرهن ﴿مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ قرأ البزي: (وَلاَ أَنْ تَّبَدَّلَ) بتشديد التاء على أصله (٢)، وذلك أن النبي - ﷺ - لما خيرهن، فاخترن الله ورسوله، شكر الله لهن، وحرم عليه النساء سواهن، ونهاه عن تطليقهن، وعن الاستبدال بهن، وهن: خمس من قريش: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان، وأم سلمة، واسمها هند بنت أبي أمية، وسودة بنت أبي زمعة، وغير القرشيات: زينب
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٧٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٣٢).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٣٢).
379
بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
واختلف في أنه هل أبيح له النساء من بعد؟ قالت عائشة: "ما مات رسول الله - ﷺ - حتى أحل له النساء" (١)، وقال أنس: "مات على التحريم" (٢)، وممن قال بحل النساء له: أبي بن كعب، ومجاهد، والضحاك، وغيرهم.
﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ حسن الأزواج المستبدلة، قال ابن عباس: "يعني: أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، فلما استشهد جعفر -رضي الله عنه- أراد رسول الله - ﷺ - أن يخطبها، فنهي عن ذلك (٣).
(١) رواه النسائي (٣٢٠٤)، كتاب: النكاح، باب: ما افترض الله عز وجل على رسوله -عليه السلام- وحرَّمه على خلقه، والترمذي (٣٢١٦)، كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، وقال: حسن.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٧٧).
(٣) ذكره البغوي في "تفسيره" (٣/ ٥٧٨)، وابن عطية في "المحرر الوجيز" (٤/ ٣٩٤)، والقرطبي في "تفسيره" (١٤/ ٢٢١)، قال ابن العربي كما ذكره عنه القرطبيُّ-: وهذا حديث ضعيف ١ هـ. وقال ابن عادل: وقال بعض المفسرين:
380
﴿إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ قال ابن عباس: "ملك بعد هؤلاء مارية" (١).
﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ حافظًا.
وفي الآية دليل على جواز النظر إلى من يريد نكاحها من النساء.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: أن رجلًا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار، فقال له النبي - ﷺ -: "انظر إليها؛ فإن في أعين نساء الأنصار شيئًا" (٢)، قال الحميدي: يعني: الصغر، فإذا خطب الرجل امرأة، أبيح له النظر إليها بالاتفاق، فعند أحمد: ينظر إلى ما يظهر غالبًا، كوجه ورقبة ويد وقدم، وعند الثلاثة: لا ينظر غير الوجه والكفين.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (٥٣)﴾.
[٥٣] ونزل تأديبًا لناس من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله - ﷺ -، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك، فيأكلون
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٧٨).
(٢) رواه مسلم (١٤٢٤)، كتاب: النكاح، باب: ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها، والحميدي في "مسنده" (١١٧٢).
381
ولا يخرجون، وكان رسول الله - ﷺ - يتأذى منهم: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ﴾ (١) أي: إلا وقت الإذن ﴿لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ﴾ فيؤذن لكم فتأكلون. قرأ نافع: (بُيُوتَ النَّبِيءِ إِلَّا) بالمد والهمز وتسهيل الهمزة من (إلَّا)، وخالفه قالون في هذا الحرف أيضًا، فقرأه بتشديد الياء كبقية القراء كما تقدم في قوله: (لِلنَّبِيءِ إِنْ) وهذان الحرفان اللذان تقدم التنبيه عليهما أول السورة، ونبه عليهما في سورة البقرة.
﴿غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ﴾ أي: منتظرين نضجه. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وهشام عن ابن عامر بخلاف عنه: (إِنَاهُ) بإمالة فتحة النون (٢).
﴿وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ﴾ للأكل ﴿فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ﴾ فرغتم منه ﴿فَانْتَشِرُوا﴾ اخرجوا من منزله ﴿وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ﴾ جر عطف على (نَاظِرِينَ) ﴿لِحَدِيثٍ﴾ تديرونه بينكم بعد الأكل.
﴿إِنَّ ذَلِكُمْ﴾ الاستئناسَ بعدَ الأكل ﴿كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ﴾ فلا يأمركم بالخروج، وكان - ﷺ - أشد الناس حياءً (٣)، وأكثرهم عن العورات غضاءً، والحياء: رقة تعتري وجه الانسان عند فعل ما يتوقع
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٨٠)، و"المحرر الوجيز" لابن عطية (٤/ ٣٩٥)، و"زاد المسير" لابن الجوزي (٥/ ١٣٦)، و "تفسير القرطبي" (١٤/ ٢٢٤)، و "البحر المحيط" لأبي حيان (٩/ ١٦٩).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٢٣)، و"التيسير" للداني (ص: ٤٨ - ٤٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٣٣).
(٣) روى البخاري (٣٣٦٩) كتاب المناقب، باب: صفة النبي - ﷺ -، ومسلم (٢٣٢٠)، كتاب: الفضائل، باب: كثرة حيائه - ﷺ -، من حديث أبي سعيد الخدري قال: كان النبي - ﷺ - أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها.
382
كراهته، أو ما يكون تركه خيرًا من فعله، والإغضاء: التغافل عما يكره الإنسان بطبيعته.
﴿وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ﴾ أي: لا يمتنع من تعريفكم الحق والصواب حياء منكم.
﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ﴾ أي: نساء النبي - ﷺ -، وإن لم يذكرن؛ لأن الحال تدل عليهن.
﴿مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ أي: من وراء ستر، فبعد آية الحجاب لم يكن لأحد أن ينظر إلى امرأة من نساء رسول الله - ﷺ - متنقبة كانت أو غير متنقبة. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (فَسَلُوهُنَّ) بالنقل، والباقون: بالهمز (١).
﴿ذَلِكُمْ﴾ السؤال ﴿أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ من الريبة.
وقد صح في سبب نزول الحجاب ما روي عن عائشة -رضي الله عنها-: أن أزواج النبي - ﷺ - كن يخرجن بالليل إذا تبرزن إلى المناصع، وهو صعيد أفيح، وكان عمر -رضي الله عنه- يقول للنبي - ﷺ -: احجب نساءك، فلم يكن يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة زوجُ النبي - ﷺ - ليلة من الليالي عشيًّا، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة! حرصًا على أن ينزل آية الحجاب، فأنزل الله آية الحجاب (٢).
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٣٤).
(٢) رواه البخاري (١٤٦)، كتاب: الوضوء، باب: خروج النساء إلى البَراز، ومسلم =
383
وعن أنس قال: قال عمر: "وافقني ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [البقرة: ١٢٥]، وقلت: يا رسول الله! يدخل عليك البرُّ والفاجر، فلو أمرتَ أمهاتِ المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله آية الحجاب، قال: وبلغني بعض ما آذين به رسولَ الله - ﷺ - نساؤه، قال: فدخلت عليهن، فجعلت أستفزُّ بهن واحدة واحدة، قلت: والله لتنتهُنَّ، أو ليبدلنه الله أزواجًا خيرًا منكن، حتى أتيت على زينب، فقالت: يا عمر! أما كان في رسول الله - ﷺ - يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟! قال: فخرجت، فأنزل الله عز وجل: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ﴾ إلى آخر الآية [التحريم: ٥] " (١).
واستدل بعض العلماء بأخذ الناس عن أزواج النبي - ﷺ - من وراء حجاب على جواز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت، وهو مذهب مالك وأحمد، ولم يجزها أبو حنيفة، وقال الشافعي: يجوز فيما رآه قبل ذهاب بصره، أو يقر في أذنه، فيتعلق به حتى يشهد عند قاض به.
= (٢١٧٠)، كتاب: السلام، باب: إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان.
(١) رواه البخاري (٤٢١٣)، كتاب: التفسير، باب: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾. قال ابن حجر في "الفتح" (١/ ٥٠٥) وليس في تخصصيه العدد بالثلاث ما ينفي الزيادة عليها؛ لأنه حصلت له الموافقة في أشياء غير هذه، ومن مشهورها قصة أسارى بدر وقصة الصلاة على المنافقين، وهما في "الصحيح".
384
ولما قال رجل من أصحاب رسول الله - ﷺ -، قيل: هو طلحة بن عبيد الله: "لئن قبض رسول الله - ﷺ -، لأنكحن عائشة"، نزل احترامًا له - ﷺ -، وتطييبًا لقلبه:
﴿وَمَا كَانَ﴾ (١) أي: ما يجوز ﴿لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ﴾ بشيء من الأشياء.
﴿وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا﴾ إذا مات، أو فارقهن.
﴿إِنَّ ذَلِكُمْ﴾ يعني: إيذاءه، ونكاحَ نسائه ﴿كَانَ عِنْدَ اللَّهِ﴾ ذنبًا.
﴿عَظِيمًا﴾ فنكاحُ أزواجه محرم على غيره بالإجماع.
* * *
﴿إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٥٤)﴾.
[٥٤] وبالغ في الوعيد عليه فقال: ﴿إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا﴾ لنكاحهن على ألسنتكم.
﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾ في صدوركم.
﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ فيعلم ذلك فيجازيكم.
* * *
(١) رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (٨/ ٢٠١) عن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم. ورواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (١٠/ ٣١٥٠)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (٧/ ٦٩) من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- نحوه.
﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (٥٥)﴾.
[٥٥] ولما نزلت آية الحجاب، قال ذوو المحارم: ونحن أيضًا لا نكلمهن إلا من وراء حجاب؟ فنزل: ﴿لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ﴾ وإنما لم يذكر العم والخال؛ لأنهما بمنزلة الوالدين، والعرب تسمي العم أبًا، والخالة أمًّا. واختلاف القراء في الهمزتين من (أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ) كاختلافهم فيهما (مِنَ الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور، واختلافهم فيهما من (أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ) كاختلافهم فيهما من (هَؤُلاَءِ آلِهَةً) في سورة الأنبياء [الآية: ٩٩] ﴿وَلَا نِسَائِهِنَّ﴾ أي: المسلمات، وتقدم ذكر الخلاف بين الأئمة في الكتابيات في سورة النور.
﴿وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ من الإماء، فلا يكون العبد محرمًا لمولاته، وقيل: هو عام، فيكون العبد محرمًا لمولاته، وتقدم ذكر الحكم في ذلك، واختلاف الأئمة فيه في سورة النور؛ أي: لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب عن هؤلاء، ثم التفت من الغيبة إلى الخطاب فقال: ﴿وَاتَّقِينَ اللَّهَ﴾ فيما أُمِرْتُنَّ به.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ لا يخفى عليه خافية.
* * *
﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٥٦)﴾.
[٥٦] ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ صلاةُ الله: رحمة، وصلاة الملائكة: الدعاء، وصلاة المؤمنين: سؤال الصلاة عليه.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ﴾ ادعوا له.
﴿وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ حيوه بتحية الإسلام.
سئل رسول الله - ﷺ -: كيفَ الصلاة عليكم أهل البيت؟ قال: "قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" (١).
واختلف المفسرون وأصحاب المعاني في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ هل (يصلون) راجعة على الله والملائكة، أم لا؟ فأجازه بعضهم، ومنعه آخرون؛ لعلة التشريك، وخصوا الضمير بالملائكة، وقدروا الآية: إن الله يصلي وملائكته، والملائكة يصلون، واختلف الأئمة في الصلاة على النبي - ﷺ - في التشهد الأخير في الصلاة، فقال أبو حنيفة: هي سنة، وتجب في العمر مرة، والمختار في مذهبه أنها مستحبة كلما ذكر، وعليه الفتوى، وقال مالك: هي سنة في الصلاة، ولكنها واجبة في الجملة، وقال الشافعي: هي فرض، وقال أحمد: هي ركن، فتبطل الصلاة عندهما بتركها، عمدًا كان أو سهوًا.
* * *
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾ أي: يخالفون أمره ويعصونه بنسبة الولد
(١) رواه البخاري (٤٥١٩) كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾، من حديث كعب بن عُجرة رضي الله عنه.
387
والشريك إليه سبحانه، هم اليهود، قالوا: عزير ابن الله، ويد الله مغلولة، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة، والمشركون قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه.
﴿وَرَسُولَهُ﴾ بتكذيبه، وقولهم: شاعر ومجنون.
﴿لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا﴾ بالقتل ﴿وَالْآخِرَةِ﴾ بالنار.
﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا﴾ فيحرم أذى النبي - ﷺ - بالقول والفعل بالاتفاق.
واختلفوا في حكم من سبه والعياذ بالله تعالى من المسلمين، فقال أبو حنيفة والشافعي: هو كفر كالردة يقتل ما لم يتب، وقال مالك وأحمد: يقتل ولا تقبل توبته، [وقتله حدًّا لا كفرًا إن أظهر التوبة منه، ولهذا لا تقبل توبته] (١).
وأما الكافر إذا سبه صريحًا بغير ما كفر به؛ من تكذيبه ونحوه، فقال أبو حنيفة: لا يقتل؛ لأن ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدب ويعزر، وقال الشافعي: ينتقض عهده، فيخير الإمام فيه بين القتل والاسترقاق، والمن والفداء، ولا يبلغ المأمن؛ لأنه كافر لا أمان له، ولو لم يشرط عليه الكف عن ذلك، بخلاف ما إذا ذكره بسوء يعتقده ويتدين به؛ كتكذيب ونحوه، فإنه لا ينتقض عهده بذلك إلا باشتراطه، وتقدم التنبيه على ذلك في سورة التوبة، وقال مالك وأحمد: يقتل ما لم يسلم، واختار جماعة من أئمة مذهب أحمد أن سابه -عليه السلام- يقتل بكل حال، منهم الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقال: هو الصحيح من المذهب، وأما حكم قذفه - ﷺ -،
(١) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
388
فعند أبي حنيفة حكمه كالسب من مسلم وكافر كما تقدم، وظاهر كلام أصحاب مالك فيما اطلعت عليه من كتبهم، ومنهم القاضي عياض في "الشفا" (١): أنه كالسب، يقتل به المسلم، ويسقط القتل عن الكافر بإسلامه، وحكى القاضي عياض عن ابن سحنون أنه أوجب على الذمي إذا قذف النبي - ﷺ - حد القذف، ثم قال: ولكن انظر ماذا يجب عليه، هل حد القذف في حق النبي - ﷺ - هو القتل؛ لزيادة حرمته - ﷺ - على غيره، أم هل يسقط القتل بإسلامه، ويحد ثمانين جلدة؟ فتأمله، انتهى.
وفي مذهب الشافعي ثلاثة أقوال حكاها النووي رحمه الله في "الروضة": أحدها: أنه كالمرتد، والثاني: أنه يقتل حدًّا، والثالث: أنه يجلد ثمانين جلدة (٢).
ومذهب أحمد -رضي الله عنه-: أن من قذفه - ﷺ -، أو قذف أمه، قتل، مسلمًا كان أو كافرًا، فلا تقبل من المسلم توبة، ولا من الكافر إسلامه.
وحكم من سب سائر أنبياء الله وملائكته حكمُ من سب نبينا عليهم السلام، وأما من سب الله سبحانه وتعالى والعياذ بالله من المسلمين بغير الارتداد عن الإسلام، ومن الكفار بغير ما كفروا به من معتقدهم في عزير والمسيح ونحو ذلك، فحكمه حكم من سب النبي - ﷺ -، وكل من الأئمة الأربعة -رضي الله عنهم- على أصله كما قدمته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
(١) انظر: (٢/ ٢٦٦) وما بعد.
(٢) انظر: "روضة الطالبين" للنووي (١٠/ ٣٣٢).
389
﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (٥٨)﴾.
[٥٨] ونزل في عائشة وصفوان رضي الله عنهما: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا﴾ بغير ذنب.
﴿فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ ظاهرًا.
* * *
﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥٩)﴾.
[٥٩] كان زي الحرائر والإماء واحدًا، فربما تعرض ببعض الحرائر، فنزل نهيًا للحرائر عن التشبه بالإماء: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ﴾ يُرْخين.
﴿عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾ جمع جلباب، وهي الملاءة تشتمل ما المرأة فوق الدرع والخمار (١) ﴿ذَلِكَ﴾ الفعل ﴿أَدْنَى﴾ أقربُ إلى.
﴿أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ﴾ بأن يتعرض لهن ذو ريبة.
﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا﴾ لما سلف مع التوبة ﴿رَحِيمًا﴾ بعباده.
* * *
﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (٦٠)﴾.
[٦٠] ونزل فيمن كان يظهر خلاف ما يضمر، وفيمن كان يرعب قلوب
(١) "والخمار" زيادة من "ت".
المسلمين: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ﴾ عن نفاقهم وكذبهم.
﴿وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ فجور؛ يعني: الزناة ﴿وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾ بالكذب بما يضعون من الأخبار الكاذبة عن سرايا المسلمين؛ بأنهم قتلوا وكسروا وأخذوا، فترعب قلوب المؤمنين.
﴿لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ﴾ لنسلطنك عليهم.
﴿ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ إلا زمانًا قليلًا حتى يخرجوا منها.
* * *
﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (٦١)﴾.
[٦١] ﴿مَلْعُونِينَ﴾ مطرودين، نصب على الحال من (لاَ يُجَاوِرُونَك) ﴿أَيْنَمَا ثُقِفُوا﴾ وجدوا.
﴿أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ أي: الحكم فيهم هذا على جهة الأمر به.
* * *
﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿سُنَّةَ اللَّهِ﴾ أي: كسنة الله.
﴿فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ﴾ من المنافقين؛ أي: هذا الحكم فيهم.
﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ لأنه لا يبدلها.
* * *
﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (٦٣)﴾.
[٦٣] وكان اليهود والمشركون يسألونه - ﷺ - عن الساعة امتحانًا
واستهزاءً، فنزل: ﴿يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ﴾ أي: أي شيء يعلمك أمر الساعة؟ ثم أومأ إلى قربها فقال: ﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ﴾ شيئًا ﴿قَرِيبًا﴾ وانتصابه على الظرف، وفيه تهديد لهم.
* * *
﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤)﴾.
[٦٤] ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ﴾ أي: عذب ﴿الْكَافِرِينَ﴾ المكيين بالقتل ببدر.
﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا﴾ نارًا في الاخرة.
* * *
﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا﴾ يحفظهم.
﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ يدفع عنهم.
* * *
﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾ ظهرًا لبطن حين يُسحبون عليها ﴿يَقُولُونَ﴾ المعنى: اذكر يوم يقول التابع والمتبوع: ﴿يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا﴾ في الدنيا.
* * *
﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا﴾ أي: مقدمينا في الكفر.
﴿فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا﴾ أخطؤوا بنا طريق الهداية. قرأ ابن عامر، ويعقوب: (سَادَاتِنَا) بكسر التاء وألف قبلها على جمع (١) الجمع، وقرأ الباقون: [بفتح التاء بلا ألف قبلها (٢)، وتقدم اختلافهم في (الرَّسُولاَ) و (السَّبِيلاَ) عند (الظُّنُونَا) [الآية: ١٠].
﴿رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ أي: عذبهم مثل عذاب غيرهم ﴿وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا﴾ قرأ عاصم: (كَبِيرًا) بالباء الموحدة من تحت، وقرأ الباقون] (٣): بالثاء المثلثة، واختلف عن هشام راوي ابن عامر (٤).
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (٦٩)﴾.
[٦٩] ونزل نهيًا عن أذى النبي - ﷺ -: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى﴾ بأن رموه بالأُدرة، وهو مرض الأنثيين، فوضع ثوبه على الحجر
(١) "جمع" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٧٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٣٦).
(٣) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٢٣ - ٥٢٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٧٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٨٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٣٦).
ليتوضأ، فهرب الحجر بثوبه حتى وقف به بين ملأ بني إسرائيل، فأدركه فضربه ثنتي عشرة ضربة، فرأوه أحسنَ الناس جسدًا (١)، واتهموه بقتل هارون في التيه، فأمر الله الملائكة حتى مروا به على بني إسرائيل، فعرفوا أنه لم يقتله، وقذفوه بالبغي أنه فجر بها، وجعلوه ساحرًا مجنونًا.
﴿فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا﴾ بأن أوضح ما نسب إليه، فظهرت براءته منهم.
﴿وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ ذا جاه.
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ أي: صوابًا.
﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (٧١)﴾.
[٧١] ﴿يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ يتقبل حسناتكم، ويثيبكم عليها.
﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ نال غاية مطلوبه، والطاعة: موافقة الأمر، والمعصية: مخالفته.
(١) انظر ما رواه البخاري في (٢٧٤)، كتاب: الغُسل، باب: من اغتسل عُريانًا وحده في الخلوة، ومسلم (٣٣٩)، كتاب: الحيض، باب: جواز الاغتسال عريانًا في الخلوة، من حديث أبي هريرة.
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ﴾ هي كل ما افترض على العباد؛ كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار، فعرضت الأمانة بما فيها.
﴿عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ﴾ عرضَ تخيير، فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة بما فيها؟ قلن: وما فيها؟ قال: إن أحسنتن جوزيتن، وإن عصيتن عوقبتن.
﴿فَأَبَيْنَ﴾ امتنعن ﴿أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا﴾ خِفْن منها خشية ألَّا يؤدينها، فيلحقهن العقاب.
﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ مع ضعفه، وهو آدم -عليه السلام-، روي أنه قال: أحمل الأمانة بقوتي أم بالحق؟ فقيل: من يحملها يحملها بنا، فإن ما هو منا لا يحمل إلا بنا، فحملها.
﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا﴾ لنفسه بمعصية ربه.
﴿جَهُولًا﴾ بأمر الله، وما احتمل من الأمانة.
﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٣)﴾.
[٧٣] ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾ بما خانوا الأمانة، ونقضوا الميثاق، واللام تعليل.
395
﴿وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ يهديهم ويرحمهم بما أدوا من الأمانة، ونصبه عطف على (لِيُعَذِّبَ)، واللام في قوله (لِيُعَذِّبَ) متعلقة بحمل؛ أي: حملها؛ ليعذب العاصي، ويثيب المطيع.
﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ حيث تاب على فرطاتهم، وأثاب بالفوز على طاعاتهم.
وقد تقدم في تفسير هذه السورة (١) أن من خصائص رسول الله وجوب تخيير نسائه بين فراقه والإقامة معه، وأن يتزوج بأي عدد شاء، وأن يتزوج بلا ولي ولا شهود، وإذا خطب امرأة يحرم على غيره خطبتها حتى يتركها، وله خصائص غير ذلك، منها: أن له أن يتزوج في زمن الإحرام، وكان واجبًا عليه السواك والأضحية والوتر، ووجب عليه قيام الليل ولم ينسخ، وفرض عليه إنكار المنكر إذا رآه على كل حال.
ومُنِع من الرمز بالعين، والإشارة بها، وإذا لبس لأْمَة الحرب أن ينزعها حتى يلقى العدو، ومنع أيضًا من الشِّعر والخط وتعليمهما، ومنع من نكاح الكتابية كالأَمَةِ مطلقًا، ومنع من الأخذ من صدقة التطوع.
وأبيح له الوصال في الصيام، وهو ألَّا يفطر بين يومين فأكثر، وأبيح له خمس خمس الغنيمة وإن لم يحضره، وأبيح له الصفا من المغنم، وهو ما كان يختاره قبل القسمة؛ كجارية وعبد وثوب وسيف ونحوه، ودخول مكة محلًا ساعة، وإذا ادعي عليه أو ادعى هو فقوله بلا يمين، وجعلت تركته صدقة، وله أخذ الماء من العطشان، ويلزم كلَّ أحد أن يقيه بنفسه وماله، فله طلب ذلك، وحرم على غيره نكاح زوجاته فقط، وتقدم في
(١) عند تفسير الآية (٥٠).
396
التفسير، وهن أزواجه في الدنيا والآخرة، وهن أمهات المؤمنين بمعنى: في حكم الأمهات في تحريم النكاح، وتقدم في التفسير، والنجس منا طاهر منه، ولم يكن له فيء في شمس ولا قمر، لأنه يوارى، والظل نوع ظلمة، وكانت تجتذب الأرض أثقاله، وساوى الأنبياء في معجزاتهم، وانفرد بالقرآن والغنائم، وجُعلت له الأرض مسجدًا وترابها طهورًا، ونُصر بالرعب مسيرة شهر، وبُعث إلى الناس كافة، وكل نبي إلى قومه، ومعجزاته باقية إلى يوم القيامة، وانقطعت معجزات الأنبياء بموتهم، وتنام عينه ولا ينام قلبه، فلا ينقض وضوءه بنومه مضطجعًا، ويرى من خلفه كما يرى أمامه، قال الإمام أحمد وجمهور العلماء: هذه الرؤية رؤية بالعين حقيقة، والدفن في البنيان مختص به، قالت عائشة: "لئلا يتخذ قبره مسجدًا"، وقال جماعة: لوجهين: أحدهما: قوله: "تدفن الأنبياء حيث يموتون" رواه الإمام أحمد (١)، والثاني: لئلا تمسه أيدي المنافقين، وزيارة قبره - ﷺ - مستحبة للرجال والنساء، ومنها: أن الله تعالى خاطب جميع الأنبياء بأسمائهم، فقال: (يا آدمُ) (يا نوحُ) (يا إبراهيمُ) (يا داودُ) (يا زكريا) (يا يحيى)، ولم يخاطَب هو إلا (يا أيها الرسولُ) (يا أيها النبيُّ) (٢) (يا أيها المزملُ) (يا أيها المدثرُ)، وتقدم في التفسير، قال الإمام أحمد رضي الله عنه: خص النبي - ﷺ - بواجبات ومحظورات ومباحات وكرامات، والله أعلم.
(١) لم أقف عليه هكذا. وقد روى ابن ماجه (١٦٢٨)، كتاب: الجنائز، باب: ذكر وفاته ودفنه - ﷺ -، من حديث ابن عباس في حديث طويل وفيه: "ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض" وإسناده ضعيف كما ذكر الحافظ في "الفتح" (١/ ٥٢٩).
(٢) "يا أيها النبي" سقط من "ت".
397
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
ظاهر هذا ناسخ لما كان قد ثبت له عليه الصلاة والسلام من أنه إذا رأى واحدة فوقعت في قلبه موقعًا كانت تحرم على الزوج ويجب عليه طلاقها ففي أول الأمر أحلَّ الله من وقع في قلبه؛ تفريغًا لقلبه وتوسعًا لصدره لئلا يكون مشغول القلب بغير الله، ثم لما استأنس بالوحي نُسخ ذلك.