تفسير سورة فصّلت

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة فصلت من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

وتطوراته المتفرعة على أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى فلك ان لا نغفل في عموم احوالك عن مطالعة جمال الله وجلاله في كل ذرة من ذرائر الأكوان على وجه الاستبصار والاعتبار بلا شائبة شك وانكار وتردد واستكبار لئلا تلحق بالأخسرين الذين يؤمنون بالله وبتوحيده حين لم يك ينفعهم ايمانهم لانقضاء نشأة التلافي والاختبار وذلك حين يعرضون على الملك الجبار ويساقون نحو النار بأنواع الخسار والبوار. ربنا آتنا من لدنك رحمة وقنا عذاب النار
[سورة فصلت]
فاتحة سورة فصلت
لا يخفى على المستبصرين المستكشفين عن سرائر الكتب الإلهية واسرار الآيات المنزلة من عنده سبحانه على رسله وأنبيائه المؤيدين من لدنه بتكميل مرتبتي الولاية والنبوة المتفرعتين على اسمى الظاهر والباطن والاول والآخر ان سر الإنزال والإرسال اللذين قد جرت عليه السنة السنية الإلهية واقتضت حكمته البالغة العلية وعلمه الشامل ورحمته العامة الواسعة انما هو لتنبيه اهل الحيرة والضلال من المترددين في فضاء الوجود بلا شعور منهم الى مبدأهم ومعادهم لاحتجابهم بالقرب المفرط المعمى عيون بصائرهم وأبصارهم حتى يتفطن منهما ويتذكر بهما من كان له قلب يقلبه الرحمن بأصابع أسمائه وصفاته كيف يشاء او القى السمع وهو وان كان محجوبا بهويته شهيد حاضر القلب غير مغيب عن الله وعن آثار ألوهيته وربوبيته ليفنى كل من سمع وتذكر عن هويته الباطلة ويبقى بهوية الله الغير الزائلة ولهذا خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ورمز في خطابه بعد ما تيمن بأمهات أسمائه التي هي مقاليد كنوز الوجود ومفاتيح خزائن مطلق الفيض والجود حيث قال سبحانه بِسْمِ اللَّهِ المدبر لأمور عموم مظاهره بمقتضى استعداداتها الفائضة عليها حسب جوده الرَّحْمنِ عليها بإخراجها عن مكمن العدم الى فضاء الوجود الرَّحِيمِ بخواص عباده بايصالهم الى الحوض المورود والمقام المحمود
[الآيات]
حم يا حافظ وحى الله المؤيد من عنده لحفظ حدوده حسب أوامره ونواهيه هذا القرآن الجامع لمصالح عموم المظاهر والأكوان
تَنْزِيلٌ وارد صادر ناش مِنَ الرَّحْمنِ اى من الذات الاحدية بمقتضى اسمه الرحمن المستوي به على عروش عموم الأكوان لإصلاح حال كل ما لاحت عليه شمس ذاته تتميما لتربيته إياه إذ ما من رطب ولا يابس الا هو سبحانه مشتمل عليه متكفل لتدبيره وتربيته الرَّحِيمِ بانزاله لخواص عباده ليتنبهوا من رموزه وإشاراته الى وحدة الحق وكمالات أسمائه وصفاته. وانما صار القرآن جامعا بين مرتبتي الظاهر والباطن والاول والآخر إذ هو
كِتابٌ كامل شامل فُصِّلَتْ بينت وأوضحت آياتُهُ المشتملة على دلائل التوحيد وشواهد القصص والاحكام ومنبهات العبر والحكم ومحاسن الأخلاق والأعمال ومقابيح المناهي والمنكرات من الأفعال والأحوال في النشأة الاولى والاخرى ولهذا صار قُرْآناً فرقانا واضحا موضحا بيانا وتبيانا عَرَبِيًّا نظما وأسلوبا إذ لا لغة احسن منه واشتمل وأفضل وأكمل وانما فصلت وأوضحت آيات هذا الكتاب لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اى يوفقون من لدنه سبحانه على العلم اللدني والفطرة الاصلية التي هي المعرفة والتوحيد ولهذا ايضا قد صار
بَشِيراً يبشر اهل العناية والسعادة بالفوز العظيم الذي هو تحققهم بمقام الرضا والتسليم وَنَذِيراً ينذر اصحاب الشقاوة والحرمان عن خلود النيران والعذاب الأليم ومع علو شأنه ووضوح تبيانه وبرهانه فَأَعْرَضَ عنه وانصرف عن قبوله
وسماعه سمع تدبر وتأمل أَكْثَرُهُمْ اى اكثر المكلفين المأمورين من عنده سبحانه بامتثال ما فيه من الأوامر والاحكام وباتصاف ما ذكر فيه من الأخلاق والأعمال وما رمز اليه من المعارف والأحوال فَهُمْ من شدة قساوتهم وغفلتهم لا يَسْمَعُونَ ولا يلتفتون نحوه عتوا وعنادا فكيف عن فحصه وقبوله ودراية ما فيه من الرموز والإشارات
وَمن غاية عمههم وسكرتهم ونهاية عتوهم واستكبارهم عن استماع كلمة الحق والالتفات إليها قالُوا على وجه التهكم والتمسخر قُلُوبُنا التي هي وعاء الايمان والاعتقاد فِي أَكِنَّةٍ واغطية كثيفة وغشاوة غليظة مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ أنتم من المعرفة والتوحيد لا نتنبه به ولا نتفطن بحقيته وَايضا فِي آذانِنا التي هي وسائل قبول العظة والتذكير وَقْرٌ صمم مانع عن استماع آياتك الدالة على صدقك في دعواك المثبتة لمدعاك وَبالجملة قد حال مِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ ايها الموحد المؤيد بالوحي والإلهام حِجابٌ عظيم يمنعنا عما تدعونا اليه بحيث لا يتيسر لنا رفعه ولا نقدر نحن على كشفه فَاعْمَلْ ايها المدعى حسب ما اوحاك إليك ربك وألهمك عليه إِنَّنا ايضا عامِلُونَ بما تيسر لنا ووفقنا عليه آلهتنا واربابنا إذ كل ميسر لما خلق له وبعد ما استنكفوا واستكبروا عليك وعلى دينك وكتابك
قُلْ لهم يا أكمل الرسل كلاما ناشئا عن محض اليقين والتوحيد خاليا عن وصمة التخمين والتقليد إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ اى ما أنا الا بشر مثلكم وما ادعى الملكية لنفسي غاية ما في الباب انه يُوحى إِلَيَّ اى يوحى ربي الى بمقتضى سنته السنية المستمرة في سالف الزمان أَنَّما إِلهُكُمْ الذي أظهركم من كتم العدم وأخرجكم الى فضاء الوجود إِلهٌ واحِدٌ احد صمد فرد وتر لا تعدد فيه بوجه من الوجوه فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وتوجهوا نحوه موحدين مخلصين وَاسْتَغْفِرُوهُ لفرطاتكم التي صدرت عنكم بمقتضى بشريتكم ليغفر لكم ربكم ما تقدم من طغيانكم وبهيميتكم وَعليك ان لا تشركوا معه سبحانه شيأ من مظاهره ومصنوعاته إذ وَيْلٌ وعذاب اليم معد عنده سبحانه لِلْمُشْرِكِينَ له الخارجين عن مقتضى توحيده واستقلاله في ألوهيته ظلما وزورا والمشركون المستكبرون عن آيات الله هم
الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ المفروضة لهم من أموالهم تطهيرا لنفوسهم عن رذالة البخل ولقلوبهم عن الميل الى ما سوى الحق وَسبب امتناعهم عن التخلية والتطهير انه هُمْ بمقتضى اهويتهم الفاسدة وآرائهم الباطلة بِالْآخِرَةِ المعدة لتنقيد اعمال العباد هُمْ كافِرُونَ منكرون جاحدون لذلك يمتنعون عن قبول التكاليف الشرعية وعن الامتثال بالأوامر الدينية المنزلة على مقتضى الحكمة الإلهية. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته السنية
إِنَّ الموحدين الَّذِينَ آمَنُوا بوحدة الحق وباستقلاله في ألوهيته وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ اى أكدوا ايمانهم بصوالح أعمالهم مخلصين فيها بمجرد امتثال امر العبودية بلا ترقب منهم الى ما يترتب عليها من المثوبات لَهُمْ عند ربهم بدل إخلاصهم وتخصيصهم أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ اى بلا منة مستتبعة للثقل والأذى بل يحسن ويتفضل عليهم سبحانه من محض اللطف والرضا
قُلْ يا أكمل الرسل لمن أشرك بالله وجحد توحيده على سبيل التوبيخ والتقريع أَإِنَّكُمْ ايها الجاحدون المسرفون لَتَكْفُرُونَ وتنكرون بِالَّذِي اى بالقادر العليم الحكيم الذي خَلَقَ الْأَرْضَ اى عالم الطبيعة والهيولى فِي يَوْمَيْنِ يوما لاستعداداتها القابلة لانعكاس اشعة نور الوجود ألا وهو يوم الدنيا والنشأة الاولى ويوما لاتصافها بها بمقتضى الجود الإلهي ألا وهو يوم العقبى والنشأة الاخرى وَمن كمال غفلتكم وضلالكم عن توحيد الحق
وتوحده في ذاته تَجْعَلُونَ وتتخذون لَهُ أَنْداداً وتثبتون له شركاء في الوجود مشاركين معه سبحانه في الآثار والتصرفات الواقعة في الكائنات وتتوجهون نحوهم في الخطوب والملمات مع انه لا رب لكم سواه سبحانه ولا مرجع لكم غيره بل ذلِكَ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ذكر نبذ من أخص أوصافه وأسمائه رَبُّ الْعالَمِينَ اى موجد عموم ما لاح عليه برق الوجود وهو مربى الكل بمقتضى الجود
وَكيف تنكرون وحدة الحق واستقلاله في ملكه وملكوته مع انه قد جَعَلَ بمقتضى حكمته فِيها اى في الأرض التي هي عالم الطبيعة والأركان رَواسِيَ اقطابا وأوتادا رفيعة الهمم عالية القدر مستمدة مِنْ فَوْقِها اى من عالم الأسماء والصفات وَلهذا قد بارَكَ فِيها وكثر الخير والبركات عليها بيمن هممهم العالية وَمن كمال حكمته سبحانه قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها اى قدر واظهر في عالم الطبيعة جميع ما يحتاج اليه أهلها من الرزق الصوري والمعنوي تتميما لتربيتهم وتكميلا لهم حسب نشأتهم كل ذلك صدر منه سبحانه فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يومين للنشأة الاولى المتعلقة بالظهور والبروز حسب استعدادها واتصافها ويومين للنشأة الاخرى المتعلقة بالكمون والبطون كذلك ولهذا قد كانت الأيام المذكورة سَواءً اى سبيلا سويا وطريقا مستقيما لِلسَّائِلِينَ المستكشفين عن مدة بروز عالم الطبيعة عن مكمن الغيب في النشأة الاولى وكذا عن ظهور النشأة الاخرى والطامة الكبرى عند رجوع الكل الى مبدئه
ثُمَّ اى بعد ما هبط ونزل من عالم الأسماء الى مهبط الطبيعة والهيولى متنازلا وصعد منها إليها متصاعدا اسْتَوى واستولى إِلَى السَّماءِ اى سماء الأسماء وتمكن عليها مستعليا مستغنيا فارغا عن الصعود والهبوط وَالحال انه هِيَ اى عالم الأسماء والصفات في أنفسها ايضا دُخانٌ حجاب بالنسبة الى صرافة الوحدة واطلاق الذات إذ لا يخلو عن شوب الكثرة المستلزمة لنوع من الكدورة وبعد ما استقر عليها سبحانه وتمكن فَقالَ لَها اى لسماء الأسماء والصفات وَلِلْأَرْضِ اى للطبيعة والهيولى إظهارا للقدرة الغالبة والسلطنة الشاملة ائْتِيا وتوجها نحو جنابنا منسلختين عن هوياتكما الباطلة ووجوداتكما العاطلة الزائلة طَوْعاً أَوْ كَرْهاً يعنى طائعتين او كارهتين حسب النشأتين المركوزتين في فطرتكما الاصلية إذ لا وجود لكما في أنفسكما وبعد ما سمعتا من النداء الهائل ما سمعتا قالَتا على وجه التضرع والتذلل حسب استعداداتهما النظرية وقابلياتهما الجبلية أَتَيْنا نحو بابك يا ربنا طائِعِينَ من اين يتأتى منا الكراهة لحكمك يا من لا وجود لنا الا منك ولا تحقق الا بك نعبد لك ونستعين منك على عبادتك إذ لا معبود لنا سواك ولا مقصود لنا غيرك وبعد ما اعترفتا بالعبودية طوعا والتزمتا بالاطاعة والانقياد رغبة
فَقَضاهُنَّ اى قدر وقضى سبحانه لإمدادهما سَبْعَ سَماواتٍ على عدد الصفات السبع التي هي أمهات الأسماء الإلهية فِي يَوْمَيْنِ اى يومى الظهور والبطون يوما لتحصيل المادة ويوما لتكميل الصورة وَبعد ما حكم وقضى سبحانه قد أَوْحى والهم فِي كُلِّ سَماءٍ من الأسماء أَمْرَها اى أمورها التي طلب منها ووضع لأجلها وَقال سبحانه بعد ما رتبها تتميما لتربيته وتكميلا للقدرة الكاملة الشاملة قد زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا اى القربى اى عالم الشهادة المشتملة على الآثار والأعمال الصادرة من المظاهر والاظلال بِمَصابِيحَ مقتبسة مسرجة من اشعة أنوار الذات وَجعلناها حِفْظاً اى وقاية ورقيبا واقيا لأرباب العناية من وساوس شياطين الأوهام والخيالات المترتبة
على القوى الطبيعة المائلة بالذات الى السفل ذلِكَ الذي سمعت من الخلق والإيجاد على النظام البديع والترتيب العجيب تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الحكيم الغالب القادر على إيجاد عموم ما دخل في حيطة ارادته الْعَلِيمِ بإظهاره على جميع الصور الممكنة الظهور وبعد ما ظهر من دلائل توحيد الحق ما ظهر ولاح من آثار قدرته الكاملة ما لاح
فَإِنْ أَعْرَضُوا اى الكفرة الجهلة المستكبرون عنك يا أكمل الرسل وعن جميع ما اوحيت به من الآيات البينات المبينات لدلائل توحيد الذات وكمالات الأسماء والصفات الإلهية فَقُلْ لهم على وجه التحذير والتنبيه قد أَنْذَرْتُكُمْ ايها التائهون في تيه الغفلة والضلال وخوفتكم اتى بالماضي تنبيها على تحقق وقوعه صاعِقَةً اى بلية عظيمة نازلة عليكم من شدة قساوتكم وأعراضكم عن الحق واهله كأنها في الهول والشدة صاعقة مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وقت
إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ المبعوثون إليهم لتكميلهم وإرشادهم المبلغون لهم الوحى الإلهي مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ اى في حضورهم وغيبتهم بواسطة وبغير واسطة المنبهون عليهم القائلون لهم عليكم ايها المجبولون على فطرة التوحيد أَلَّا تَعْبُدُوا ولا تتوجهوا بالعبودية الخالصة إِلَّا اللَّهَ الواحد الأحد الصمد الحقيق بالاطاعة والانقياد إذ لا معبود لكم سواه ولا مقصود الا هو وبعد ما سمعوا قالُوا متهكمين مستهزئين لَوْ شاءَ رَبُّنا الذي ادعيتم ربوبيته وألوهيته بالانفراد والاستقلال لَأَنْزَلَ بمقتضى قدرته الكاملة التي قد ادعيتم أنتم له مَلائِكَةً سماويين يخرجوننا من اودية الجهالات وبادية الضلال والغفلات وبالجملة فَإِنَّا بأجمعنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ اى بجميع ما قد جئتم به وادعيتم الرسالة فيه كافِرُونَ منكرون جاحدون إذ ما أنتم الا بشر مثلنا فلا مزية لكم علينا ومن اين يتأتى لكم هذا ثم فصل سبحانه ما أجمل بقوله
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا على عباد الله فِي الْأَرْضِ التي هي محل الاختبارات الإلهية بِغَيْرِ الْحَقِّ اى بلا اطاعة وانقياد وسابقة دين ونبي يرشدهم الى طريق الحق وَهم من شدة تعنتهم وبطرهم قد قالُوا على سبيل الشرف والمباهات مَنْ أَشَدُّ على وجه الأرض مِنَّا قُوَّةً واكثر عددا وعددا وأتم بسطة واستيلاء وانما قالوا هذه حين تخويف الرسل إياهم بإلمام العذاب عليهم وهم قد كانوا أعظم الناس جسامة وأوفرهم قوة وقدرة لذلك اغتروا بما عندهم من الثروة والرياسة فكذبوا الرسل وقالوا لهم نحن ندفع العذاب الذي ادعيتم نزوله ايها الكاذبون المفترون بوفور حولنا وقوتنا أَيغترون على قوتهم وجسامتهم وينكرون كمال قدرة الله وشدة انتقامه وَلَمْ يَرَوْا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ العزيز القدير الَّذِي خَلَقَهُمْ وأظهرهم من كتم العدم ولم يكونوا شيأ مذكورا هُوَ سبحانه بعلو شأنه وبكمالات أسمائه وصفاته أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وأتم حولا وقدرة واحكم بطشا وانتقاما وَلكن قد كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وينكرون بحسب الظاهر عنادا ومكابرة واغترارا بما معهم من الثروة والجسامة وبعد ما تمادوا على غيهم وأصروا على عتوهم وضلالهم
فَأَرْسَلْنا بمقتضى قهرنا وجلالنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً باردة شديدة عقيمة من المطر تعميهم بنقعها وغبارها وتصمهم بصرصرها فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لا سعود فيها يعنى بدلنا مسعودات ايامهم بالمنحوسات لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ اى المذلة والهوان اللازم على العذاب حيث كان ونزل فِي الْحَياةِ الدُّنْيا التي هم مغرورون فيها مسرورون بلذاتها وشهواتها وَالله لَعَذابُ النشأة الْآخِرَةِ المعدة للجزاء والانتقام أَخْزى اى أشد خزيا وأتم تذليلا وتصغيرا إذ هو
بأضعاف عذاب الدنيا وآلافها وَبالجملة هُمْ لا يُنْصَرُونَ ولا يشفعون فيها لا يدفع العذاب عنهم طرفة ولا يخفف لمحة بل يخلدون في العذاب الأليم ما شاء الله لا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ بإرسال الرسل إياهم ليرشدوهم الى طريق النجاة وينقذوهم عن الضلال وبعد ما بلغهم الرسل من آيات الهداية وامارات الرشد كذبوهم وأنكروا على هدايتهم وإرشادهم فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى والضلال حسب عمههم وغفلتهم عَلَى الْهُدى المنزل إليهم من لدنا على ألسنة رسلنا وبعد ما أصروا على ما هم عليه من الغواية فَأَخَذَتْهُمْ بغتة صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ المخزى المذل النازل من نحو السماء على صورة الصاعقة السريعة الجري والحركة فاستأصلهم بالمرة بِما كانُوا يَكْسِبُونَ اى بشؤم ما يقترفون من المعاصي والآثام الجالبة إياهم شدة غضب الله وعذابه
وَمن كمال قدرتنا على الانعام والانتقام نَجَّيْنَا من تلك الصاعقة المهولة المهلكة القوم الَّذِينَ آمَنُوا برسلنا واهتدوا بهدايتهم مع انهم قد كانوا فيهم مجاورين معهم وَسبب تخليصنا إياهم انهم قد كانُوا يَتَّقُونَ عن محارمنا ومنهياتنا مع كونهم متصفين بكمال الايمان والتوحيد
وَاذكر يا أكمل الرسل لمن عاندك من المشركين يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ بعد العرض والحساب إِلَى النَّارِ المعدة لجزائهم فَهُمْ حينئذ يُوزَعُونَ اى يذبون ويدفعون يعنى يحبس اولهم ومقدمهم على آخرهم لئلا ينقطع ائتلافهم وتلاحقهم
حَتَّى إِذا ما جاؤُها اى حضروا النار وازدحموا حولها مجتمعين كالحين فزعين مجادلين منكرين بصدور اسباب العذاب عنهم مع انهم يحاسبون أولا ثم يساقون نحو النار ولإسكاتهم وتبكيتهم عن الجدال والمراء شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ اى اعترفت جوارحهم وقواهم بإنطاق الله إياها بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ويقترفون بها من المعاصي والمحرمات والمنهيات
وَبعد ما سمعوا من اركانهم وقواهم ما سمعوا من الاعتراف قالُوا موبخين مقرعين لِجُلُودِهِمْ وجوارحهم المعترفة بذنوبهم لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا مع انا لا نعذب الا بكم ومعكم من اين تجترءون على نفوسكم بالعرض على العذاب المؤبد ايها الحمقى الجهلاء قالُوا اى الجوارح والقوى ما كنا مختارين في هذه الشهادة والاعتراف بل قد أَنْطَقَنَا اللَّهُ القادر المقتدر الحكيم العليم الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ بآيات وجوب وجوده ودلائل وحدته بمقتضى جوده وليس بعجب من قدرته سبحانه انطاقنا بما اقترفتم بنا من المعاصي والآثام المخالفة لأمره وحكمه غيرة منه سبحانه وقهرا على من خرج عن ربقة عبوديته بترك أوامره وأحكامه وَكيف لا يغار ولا يقهر سبحانه عليكم ايها المفسدون المسرفون مع انه هُوَ بذاته وبمقتضى أسمائه وصفاته خَلَقَكُمْ وأظهركم من كتم العدم خلقا إبداعيا أَوَّلَ مَرَّةٍ بلا سبق مادة ومدة وشركة من احد ومظاهرة وَإِلَيْهِ ايضا آخر مرة كذلك تُرْجَعُونَ رجوع العكوس والاظلال الى الأضواء والأمواج الى الماء فمن اين تستنكفون عن عبوديته وتخرجون عن حكمه وامره. ثم قال سبحانه تذكيرا لما هم عليه عند ارتكاب المعاصي توبيخا لهم وتقريعا
وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ يعنى لم تكونوا متسترين مستترين عند ارتكاب الفواحش والمحظورات مخافة أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ عند الله في يوم الجزاء لإنكاركم به وبما فيه بل انما تستترون وتكتمون معاصيكم وقبائحكم مخافة فضاحتكم واشتهاركم بين بنى نوعكم بالمذامّ والمقابح وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ بالله ظن السوء وهو أَنَّ اللَّهَ المطلع بسرائر الأمور وخفياتها لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ
في خلواتكم لذلك اجترأتم على اقتراف المعاصي وارتكاب المحرمات
وَذلِكُمْ اى هذا الذي نسبتم الى الله بقولكم هذا ظَنُّكُمُ السوء وزعمكم الفاسد الَّذِي ظَنَنْتُمْ به بِرَبِّكُمْ العليم الخبير بجميع ما صدر عنكم وبالجملة هذا الظن الفاسد والوهم الكاسد أَرْداكُمْ وأهلككم في تيه الجهل والضلال وبعد ما قد فوتم على انفسكم اسباب السعادة والهداية وأصررتم على ما يوجب الشقاوة والضلال فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ زمرة الْخاسِرِينَ وانقلبتم صاغرين مهانين فصرتم في النار خالدين وبعد ما ادخلوا في النار المسعرة بأنواع المذلة والهوان
فَإِنْ يَصْبِرُوا على فوحاتها والتهاباتها الشديدة فَالنَّارُ مَثْوىً ومنزلا لَهُمْ ابد الآباد ولا نجاة لهم منها أصلا وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا ويبثوا الشكوى والعتبى ويظهروا الكآبة وعدم الطاقة فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ المجابين بازالة العتبى والشكوى بل كلما يظهروا العتاب يضاعف لهم العذاب
وَكيف يزال عتابهم ولا يضاعف عليهم عذابهم إذ قد قَيَّضْنا وقدرنا لَهُمْ فيما هم عليه من الكفر والشقاق وانواع الفسوق والنفاق قُرَناءَ إخوانا وأخلاء من الشياطين يوحون إليهم ما يبعدهم عن الحق واهله فَزَيَّنُوا لَهُمْ وحسنوا لطباعهم ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من اتباع الشهوات وارتكاب المناهي والمحظورات وَانكار ما خَلْفَهُمْ من الأمور الاخروية مواعيدها ووعيداتها وَبسبب ارتكاب المعاصي واصغائهم قول قرنائهم قد حَقَّ وثبت عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وصدرت كلمة العذاب المؤبد من لدنا إياهم وما يبدل القول لدينا وليس هذا مخصوصا بقوم دون قوم بل قد جرت ومضت سنتنا كذلك فِي كل أُمَمٍ مفسدة مشركة قَدْ خَلَتْ ومضت مِنْ قَبْلِهِمْ اى قبل هؤلاء المشركين المسرفين سواء مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ اى المكلفين منهما وانما استحقوا العذاب المؤبد والنكال المخلد إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ خسرانا مبينا لاستبدالهم اسباب السعادة والهداية بالشقاوة والضلال
وَمن شدة غيهم وضلالهم المفضى الى الخسران العظيم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك وبدينك وكتابك يا أكمل الرسل حين تلاوتك وتبليغك عليهم آيات القرآن لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ولا تلتفتوا الى محمد حين قراءته بل وَالْغَوْا فِيهِ بالصياح وإنشاد الاشعار وخلط الأصوات وسائر الخرافات لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ محمدا وتدفعون قراءته وتخجلونه فيسكت وبالجملة هم من شدة شكيمتهم وغيظهم وان بالغوا في تخجيلك وتخذيلك يا أكمل الرسل لا تبال بهم وبفعلهم هذا
فَلَنُذِيقَنَّ لهؤلاء المفرطين المسرفين الَّذِينَ كَفَرُوا بك وأساءوا الأدب معك عَذاباً شَدِيداً منتقمين عنهم في النشأة الاولى وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ في النشأة الاخرى أَسْوَأَ اى أشد وأقبح من الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ معك بأضعافها وآلافها
ذلِكَ العذاب الأسوء الأشد جَزاءُ اعمال أَعْداءِ اللَّهِ الذين عاندوا معك يا أكمل الرسل واستهزؤا بك وبكتابك بطرين بما معهم من الجاه والثروة ألا وهي النَّارُ المسعرة المعدة لدخولهم ونزولهم فيها بل لَهُمْ فِيها اى في النار دارُ الْخُلْدِ والاقامة على وجه الخلود وانما صارت كذلك ليكون جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وينكرون بها ويكذبون بمن انزل اليه ويستهزؤن
وَبعد ما استقر اهل النار في النار بأنواع السلاسل والأغلال قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله وبرسله وكتبه في النشأة الاولى متحسرين متأسفين متضرعين الى الله مناجين له رَبَّنا يا من ربانا على فطرة الإسلام والتوحيد فكفرنا بك وأشركنا معك غيرك في الوهيتك بإضلال قرنائنا الضالين المضلين أَرِنَا وبصرنا حسب لطفك وجودك الشيطانين
الَّذِينَ قد أَضَلَّانا عن طريق توحيدك وتصديق كتبك ورسلك الكائنين مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ اى المضلين اللذين قد أضلانا من هذين الجنسين بأنواع الوساوس والتلبيسات والتغريرات نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لننتقم عنهم جزاء ما قد فوتوا عنا سعادة الدارين وفلاح النشأتين وانما نرجو منك هذا يا مولانا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ التابعين لنا كما قد كنا كذلك بالنسبة إليهم في النشأة الاولى وبالجملة انما قالوا ما قالوا تحسرا وتضجرا. ثم قال سبحانه على مقتضى سنته في كتابه
إِنَّ الموحدين الَّذِينَ قالُوا في السراء والضراء وفي السر والعلن رَبُّنَا اللَّهُ الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد ثُمَّ اسْتَقامُوا وثبتوا على ما اعترفوا وأقروا بأعمالهم وأحوالهم ونياتهم المترتب عليها عموم أفعالهم تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ وعلى اعانتهم وشرح صدورهم وتهذيب أخلاقهم الْمَلائِكَةُ المترصدون لأمر الله القائمون لحكمه قائلين لهم مبشرين إياهم أَلَّا تَخافُوا على فرطاتكم التي صدرت عنكم قبل انكشافكم بسرائر التوحيد واليقين وَلا تَحْزَنُوا بما جرى عليكم من مقتضيات بشريتكم وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بألسنة انبيائكم ورسلكم الهادين المهديين وكما وفقناكم على انكشاف سرائر توحيدنا والتخلق باخلاقنا
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ
نتولى عموم أموركم كذلك بحيث نكون سمعكم وبصركم وجميع قواكم وجوارحكم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
حسب اسمنا الظاهر وَفِي الْآخِرَةِ
ايضا كذلك حسب اسمنا الباطن
وَبالجملة لَكُمْ
منا وراء ذلك تفضلا من لدنا وإحسانا فِيها
اى في الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
من اللذات الروحانية حسب استعداداتكم الفطرية وقابلياتكم الجبلية الفائضة عليكم حسب جودنا الواسع
وَبالجملة لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
تطلبون وتتمنون وقت دعائكم في نشأة الدنيا حسب عقولكم وهوياتكم كل ذلك قد صار
نُزُلًا معدا لكم قبل نزولكم فيها تفضلا عليكم وإحسانا مِنْ غَفُورٍ ستار لأنانياتكم محاء لذنوب هوياتكم رَحِيمٍ موصل لكم بمقتضى سعة رحمته وجوده الى زلال توحيده
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا وأصلح عملا وأكمل ايمانا واعتقادا وأتم معرفة وتوحيدا مِمَّنْ دَعا اى ارشد وهدى إِلَى اللَّهِ الواحد الأحد الفرد الصمد المستقل بالالوهية والربوبية المتفرد بالوجود والديمومية وَمع ذلك قد عَمِلَ عملا صالِحاً مطابقا موافقا لصفاء مشرب التوحيد مجتنبا عن رعونات العجب والرياء وتخمينات التقليد والهوى وَبالجملة قالَ بعد ما نال الى ما نال وفنى إِنَّنِي مِنَ زمرة الْمُسْلِمِينَ المسلمين المنقادين المفوضين الى الله جميع ما لاح عليهم من بروق تجلياته الجمالية والجلالية ومالي ايضا الا التسليم والرضاء بعموم ما مضى عليه القضاء. ثم قال سبحانه على سبيل التعليم والإرشاد لعموم العباد
وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ اى لا يستوي جنس الحسنات بل هي متفاوتة في الحسن والبهاء وَلَا السَّيِّئَةُ وكذا لا يستوي جنس السيئات ايضا كذلك إذ بعضها أسوأ من بعض ادْفَعْ ايها السالك القاصد سلوك طريق التوحيد من جادة العدالة المنكشفة لأكمل الرسل وأفضل الأنبياء الهادين المرشدين الى بحر الوحدة الذاتية من جداول الأسماء والصفات المترشحة منها حسب تموجاتها وتطوراتها المتفرعة على شئوناتها الذاتية بِالَّتِي اى بالخصلة الحسنة التي هِيَ أَحْسَنُ الحسنات أسوأ السيئات وداوم عليها وتخلق بها حتى تستوي وتستقيم أنت على جادة العدالة الإلهية وبعد استقامتك وتحققك في هذه المرتبة فَإِذَا الَّذِي قد كان بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ مستمرة ناشئة من القوى البهيمية من كلا الطرفين
قد صار صديقك وخليلك الى حيث كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حفيظ لك رقيب على حضانتك عن جميع ما يؤذيك ويرديك فكيف يتأتى منه ان يؤذيك إذ هو حَمِيمٌ مشفق كريم رؤف رحيم لك لا يخاصمك أصلا
وَلكن ما يُلَقَّاها اى تلك الخصلة الحميدة الحسنة التي هي دفع الإساءة بالإحسان والمكروه بالمعروف والقهر باللطف إِلَّا الرجال الابطال المتحملون الَّذِينَ صَبَرُوا على كظم الغيظ وتحمل المتاعب والمشاق المتعاقبة على نفوسهم لتحققهم بمقام الرضاء والتسليم بما مضى عليهم من القضاء وتمكنهم في مقر التوحيد المسقط للاضافات المستلزمة لانواع الاختلافات والانحرافات وَبالجملة ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ونصيب كامل من الكشف والشهود باسرار الوجود بمقتضى الجود الإلهي وبعد ما ارشد سبحانه عموم عباده الى طريق النجاة وعلمهم الخصلة المحمودة المخلصة لهم عن اودية الضلالات واغوار الجهالات وأوصاهم بما أوصاهم به من الصبر والثبات على تحمل المشاق والمكروهات خاطب سبحانه حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بما خاطب حثا له ولمن تبعه واسترشد منه على دفع ما يمنعهم عن الاتصاف بتلك الخصائل الحميدة ويعوقهم منها بالإضلال والإغواء فقال
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ويعرضن عليك يا أكمل الرسل مِنَ الشَّيْطانِ المضل المغوى نَزْغٌ نخس يحرك غضبك وحمية بشريتك ويوقعن فيك بوسوسته فتنة تبعثك على الانتقام ممن أساء بترك تلك الخصلة المحمودة فَاسْتَعِذْ اى بادر على الاستعاذة واللجأ بِاللَّهِ المقلب للقلوب وفوض أمورك كلها اليه سبحانه على وجه التبتل والإخلاص لتأمن من غوائله وتلبيساته إِنَّهُ سبحانه هُوَ السَّمِيعُ لمناجاتك الْعَلِيمُ بعموم حاجاتك وبخلوص نياتك فيها.
ثم قال سبحانه ردا على المشركين المتخذين شركاء لله من مظاهره ومصنوعاته ظلما وزورا يعبدونهم كعبادته
وَمِنْ آياتِهِ اى من جملة الدلائل الدالة على قدرة الصانع الحكيم اللَّيْلُ المظلم وَالنَّهارُ المبصر المضيء وَكذا الشَّمْسُ المشرقة في النهار وَالْقَمَرُ المنير في الليل قل لهم يا أكمل الرسل على سبيل التنبيه والتذكير لا تَسْجُدُوا اى لا تعبدوا ولا تتذللوا ايها الاظلال الهالكة المستهلكة في شمس الذات لِلشَّمْسِ الهالكة المستهلكة أمثالكم في شروق ذاته سبحانه وَلا لِلْقَمَرِ المستفيد منها بالطريق الاولى بل وَاسْجُدُوا وتذللوا بوضع جباهكم وجوارحكم على تراب المذلة والهوان لِلَّهِ الواحد الأحد المقتدر العزيز الَّذِي خَلَقَهُنَّ اى اوجدهن واظهرهن من كنتم العدم على سبيل الإبداع بلا سبق مادة وزمان بل بمجرد امتداد اظلال أسمائه وبسط عكوس أوصافه على مرآة العدم فعليكم الإطاعة والانقياد اليه والتوجه نحوه على وجه الإخلاص والاختصاص فاعبدوه إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ سبحانه تَعْبُدُونَ ايها العابدون المخلصون وبعد ما بلغت إليهم يا أكمل الرسل ما بلغت من الحق الحقيق بالقبول والاتباع
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا واستنكفوا عن سجود الله وأصروا على ما هم عليه من سجود غيره اعرض عنهم وعن نصحهم ولا تبال بهم وبشأنهم فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يا أكمل الرسل من الملائكة المهيمين المستغرقين بمطالعة جماله وجلاله الموحدين المفنين هوياتهم في هوية الله يُسَبِّحُونَ لَهُ ويقدسون ذاته عن شوب الشركة مطلقا قولا وفعلا خاطرا وناظرا بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ اى في عموم الأوقات والحالات وَهُمْ من غاية شوقهم وتحننهم لا يَسْأَمُونَ اى لا يملون ولا يفترون منها أصلا ومع ذلك هو سبحانه غنى عن عبادتهم فكيف عن عبادة هؤلاء الحمقى المنغمسين في بحر الجهل التائهين في تيه الضلال
وَايضا مِنْ جملة آياتِهِ
الدالة على وحدة ذاته وكمال أسمائه وصفاته أَنَّكَ يا أكمل الرسل انما وجه سبحانه أمثال هذه الخطابات للنبي صلّى الله عليه وسلّم مع انه يصلح لعموم الناس لكمال لياقته بمطالعة آيات الله وخبرته منها تَرَى الْأَرْضَ اى الطبيعة العدمية الجامدة اليابسة خاشِعَةً ذليلة ساقطة عن درجات الاعتبار فَإِذا أَنْزَلْنا من مقام جودنا ورششنا عَلَيْهَا الْماءَ المحيي المترشح من بحر الوجود الذي هو الحي الأزلي والقيوم الأبدي السرمدي اهْتَزَّتْ اى تحركت وارتعدت اهتزازا شوقيا وَرَبَتْ اى زادت ونمت مع انها لا شعور فيها بل لا وجود لها أصلا وبالجملة إِنَّ القادر المقتدر الحكيم الَّذِي أَحْياها مع انها لم تكن في ذاتها شيأ مذكورا لَمُحْيِ الْمَوْتى مرة اخرى بعد ما كانت احياء بالطريق الاولى وبالجملة إِنَّهُ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْءٍ دخل في حيطة علمه وارادته قَدِيرٌ بلا فتور وقصور. ثم قال سبحانه تهديدا على منكري الآخرة وقدرة الله على اعادة الموتى وحشر الأجساد
إِنَّ المسرفين الَّذِينَ يُلْحِدُونَ اى يميلون وينحرفون فِي آياتِنا الدالة على عظمة ذاتنا وكمال قدرتنا على انواع الانتقام لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا اى لا يشتبه حالهم علينا بل نحن عالمون بهم وبجميع ما جرى في ضمائرهم وخلج في خواطرهم من الميل والانحراف فنجازيهم بمقتضى الحادهم وانحرافهم باشد العذاب وأسوأ الجزاء أَفَمَنْ يُلْقى ويطرح فِي النَّارِ خَيْرٌ اى قل لهم يا أكمل الرسل على وجه التوبيخ والتقريع أمن يلقى في النشأة الاخرى في النار المسعرة بأنواع المذلة والهوان خير عندهم أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً من العذاب مسرورا يَوْمَ الْقِيامَةِ مقرونا بأنواع الفتوحات والكرامات الموهوبة له من ربه تفضلا عليه وإحسانا وبالجملة قل يا أكمل الرسل للملحدين المصرين على الميل والانحراف على سبيل التبكيت والتهديد اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ من الخوض في آيات الله والميل عن دلائل توحيده إِنَّهُ سبحانه بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ اى بعموم ما تعملون وتأملون خبير يجازيكم عليه بلا فوت شيء منه ثم اعرض عنهم ودعهم في خوضهم يلعبون. ثم قال سبحانه على وجه التخصيص بعد التعميم
إِنَّ المشركين المفرطين الَّذِينَ كَفَرُوا وأنكروا بِالذِّكْرِ الشامل لما في الكتب السالفة المنزل على أكمل الرسل تفضلا منا إياه وتكريما لَمَّا جاءَهُمْ اى حين جاءهم به الرسول المؤيد من لدنا المرسل إليهم ليرشدهم به الى سبيل الهداية والرشد هم يعاندون في تكذيبه ويكابرون في إنكاره وقدحه عتوا واستكبارا وَكيف يفرطون في علو شأنه سبحانه ويكابرون في سمو برهانه إِنَّهُ اى القرآن لَكِتابٌ عَزِيزٌ منيع ساحة عزته ورتبته وعلو قدره ومكانته عن ان يحوم حوله شائبة الجدل والعناد إذ
لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ الزائغ الزائل في خلال أوامره وأحكامه لا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ بان يتصف حكمه وأحكامه حين نزوله وظهوره بعدم المطابقة لما في الواقع وبما في علم الله ولوح قضائه وَلا مِنْ خَلْفِهِ بان يلحقه نسخ وتبديل كالكتب السالفة إذ هو تَنْزِيلٌ منزل مِنْ حَكِيمٍ كامل في الإتقان والاحكام عليم بأساليب الحكم والاحكام حَمِيدٍ في ذاته يحمده كل الأنام على ما أفاض عليهم من موائد الإفضال والانعام. ثم أخذ سبحانه ليسلى حبيبه صلّى الله عليه وسلّم ويزيل عنه أذى الكفرة الجهلة المعاندين معه بمقتضى آرائهم الباطلة واهويتهم الفاسدة العاطلة فقال
ما يُقالُ لَكَ اى ما يقول لك كفار قومك ليس إِلَّا مثل ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ الذين مضوا مِنْ قَبْلِكَ من قبل قومهم فصبروا على أذاهم حتى ظفروا عليهم فانتصروا فاصبر أنت ايضا أذى هؤلاء المعاندين حتى تظفر عليهم وبعد ما ظفرت يؤمنوا بك او
يصروا في عنادهم إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ على المؤمنين بك يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر ان أخلصوا في ايمانهم وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ على من تولى واستكبر وأصر على كفره ولم يؤمن وبعد ما قدح كفار مكة في شأن القرآن وقالوا هلا نزل بلغة العجم كالكتب السالفة مع انه لم يعهد منه سبحانه إنزال كتاب بلغة العرب قط رد الله عليهم قولهم هذا بقوله
وَلَوْ جَعَلْناهُ اى الذكر المنزل عليك يا أكمل الرسل قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا في شأنه من شدة بغضهم وشكيمتهم معك لَوْلا فُصِّلَتْ وهلا أوضحت وبينت آياتُهُ بلسان نفقهها وندكرها نحن مع انه انما انزل إليك وإلينا ونحن وأنت لا نفهم لغة العجم ثم يأخذون في القدح والاستهزاء بوجه آخر ويقولون على سبيل التعجب والاستبعاد أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ يعنى أينزل كلام اعجمى من قبل الحق على سبيل الوحى على بنى عربي لا شعور له بكلام العجم أصلا ليرشد العرب به ويبين لهم ما فيه كلا وحاشا ما هذا الا كذب مفترى وبالجملة لا يسكتون أولئك المعاندون عن القدح والطعن فيه بحال وبعد ما أوضح الحق حالهم في التعنت والعناد قال لحبيبه قُلْ يا أكمل الرسل كلاما خاليا عن وصمة المراء والجدال هُوَ اى القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا به وامتثلوا بأوامره واجتنبوا عن نواهيه وتنبهوا من رموزه وإشاراته واعتبروا من عبره وأمثاله وقصصه واخباره هُدىً يهديهم الى الحق الصريح ويوصلهم الى محض اليقين والتحقيق وَشِفاءٌ لما في النفوس المراض من الجهل والضلال وسائر الأمراض العضال الموروثة لهم من تقليدات آبائهم وتخمينات اوهام صناديدهم ورؤسائهم وَالمكابرون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ به ولا يصدقون نزوله بل يكذبونه ويستهزؤن مع من انزل اليه هو بالنسبة إليهم فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ مستقر وصمم شديد يصمهم عن استماع آياته الدالة على تهذيب الظاهر والباطن بل وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى يعمى عيون أبصارهم وبصائرهم عن رؤية الحق الظاهر في الأنفس والآفاق وبالجملة أُولئِكَ البعداء عن ساحة عز الحضور يُنادَوْنَ الى مقصد التوحيد مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بمراحل عن الوصول يعنى هم وان جبلوا على نشأة التوحيد صورة الا انهم قد احطوا أنفسهم عنها وألحقوها بالمراتب التي هي مرتبة البهايم بل صاروا انزل منها وابعد لذلك ينادون من مكان بعيد ان نودوا
وَبالجملة ان عاندوا معك يا أكمل الرسل واختلفوا في كتابك بالتصديق والتكذيب لا تبال بهم وبردهم وقبولهم فانا لَقَدْ آتَيْنا من كمال فضلنا وجودنا أخاك مُوسَى الكليم الْكِتابَ العظيم التورية المشتمل على ضبط ظواهر الاحكام وبواطنها حفظا لهم وضبطا لأمور معاشهم ومعادهم ومع ذلك فَاخْتُلِفَ فِيهِ وخولف في شأنه فقبله بعضهم ورده الآخر مثل ما يفعل هؤلاء الغواة مع كتابك هذا وبالجملة ليس هذه الديدنة ببدع من هؤلاء الجهلة بل هي من جملة العادات القديمة والشيم المستمرة وَبالجملة لَوْلا كَلِمَةٌ موعودة معهودة سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ من أخذ الظالم منهم على ظلمه في يوم الجزاء لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وحكم بأخذهم بمقتضى ظلمهم في يومهم هذا واستئصالهم بالكلية بلا امهال لهم لاستئصالهم واستحقاقهم بالأخذ والانتقام لكن قد ثبت حكمه سبحانه على ما قد وعد وقضى إذ ما يتبدل القول لديه وَإِنَّهُمْ من غاية تماديهم في الغفلة والاعراض عن الحق واقتداره على وجوه الانتقام لَفِي شَكٍّ عظيم مِنْهُ اى من قضاء الله وحكمه المبرم في يوم الجزاء مُرِيبٍ فيه ريبا منتهيا الى الإنكار والتكذيب وبالجملة لا تبال يا أكمل الرسل بهم وبريبهم وانكارهم وطغيانهم فاعلم انه
مَنْ عَمِلَ من عبادنا عملا صالِحاً فَلِنَفْسِهِ اى صلاحه عائد الى
نفسه راجع الى إصلاح حاله في معاشه ومعاده وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها اى رجع وبال اساءتها ايضا على نفسها وَبالجملة ما رَبُّكَ المنزه في ذاته عن اطاعة المطيع وعصيان العاصي بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اى لا ينقص من أجور المطيعين ولا يزيد على جزاء العاصين بل يتفضل على اهل الطاعة فوق ما استحقوا بأعمالهم أضعافا وآلافا عناية منه وفضلا ويقتصر على اصحاب المعصية والضلال بجزاء ما اقترفوا لأنفسهم عدلا منه وقهرا وكيف لا يتفضل سبحانه على ارباب العناية ولا يعدل على اصحاب الغواية إذ إِلَيْهِ لا الى غيره من اظلال الوسائل والأسباب
يُرَدُّ ويرجع عِلْمُ السَّاعَةِ اى العلم المتعلق بوقت قيامها وكيفية ما جرى فيها من الأهوال والافزاع إذ هي من جملة الغيوب التي قد استأثر الله بها ولم يطلع أحدا عليها وَايضا يرجع على علمه سبحانه ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ اى أجناس الثمار مع اختلاف أنواعها وأصنافها حتى تخرج مِنْ أَكْمامِها اى أوعيتها التي فيها أنوارها وازهارها الحاصلة منها الأثمار إذ هي ايضا من جملة الأمور الغيبية المستأثر بها سبحانه وَكذا ما تَحْمِلُ وتحبل مِنْ أُنْثى اى قوابل الحمل والحبل وَلا تَضَعُ حملها بمكان من الأمكنة إِلَّا بِعِلْمِهِ سبحانه وحضوره إذ هو العالم لا غيره بما في الأرحام وبمدة بقائه فيها وخروجه منها لا اطلاع لاحد عليها وَاذكر يا أكمل الرسل لمن أشرك بالله واثبت الوجود لغيره وأجاز الشركة في ألوهيته وربوبيته عدوانا وظلما يَوْمَ يُنادِيهِمْ الله حين أراد الانتقام عنهم موبخا لهم ومقرعا إياهم أَيْنَ شُرَكائِي الذين تزعمون أنتم شركتهم معى وشفاعتهم لدى احضروهم لينجوكم من عذابي ويشفعوا لكم عندي وبعد ما سمعوا النداء الهائل المهول قالُوا متأسفين متحزنين آذَنَّاكَ وقد أعلمناك يا مولانا اليوم وان كنت أنت اعلم منا بحالنا انا ما مِنَّا اى ما احد منا اليوم مِنْ شَهِيدٍ ليشهد على شركة شركائنا الذين قد ادعينا شركتهم معك ظلما وزورا
وَبعد ما تقولوا من شدة الأسف ونهاية الحسرة والضجرة قد ضَلَّ عَنْهُمْ وغاب عن بصائرهم وأبصارهم ما كانُوا يَدْعُونَ ويعبدون اليه مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا بل تيقنوا حينئذ ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب ومخلص من عذاب الله وبالجملة تندموا وما ينفعهم الندم ورجعوا الى الله حينئذ وما يفيدهم رجوعهم لانقضاء نشأة التدارك والاختبار ومن العادة القديمة والديدنة المستمرة انه
لا يَسْأَمُ اى لا يمل ولا يفتر الْإِنْسانُ المجبول على جلب الإحسان مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ لنفسه وجذب المنفعة نحو ذاته بل صار ابدا حريصا عليها مولعا لاقتنائها وجمعها وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ ولحق به الضر في حين من الأحيان فَيَؤُسٌ من قدرة الله على رفع الضر عنه وجلب النفع إياه مع انه قد أزال عنه مرارا قَنُوطٌ من فضل الله ومن سعة رحمته وجوده
وَمن غاية يأس الإنسان وشدة قنوطه عن مقتضى فضلنا وجودنا لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً ووفرناها عليه بحيث تسرى في جميع اجزائه مع كونها تفضلا مِنَّا إياه بلا استحقاق من جانبه واقتراف من لدنه غاية ما في الباب انها فائضة عليه موهوبة إياه مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ ولحقت إياه اوائلها إذ المساس يحصل بمجرد الملاقاة لَيَقُولَنَّ معرضا عن الله هذا لِي وانا استحق بها لاحتمالى الشدائد ولكمال فضلي ووفور عملي او هذالى بمقتضى ذاتى وَبالجملة ما أَظُنُّ السَّاعَةَ الموهومة الموعودة قائِمَةً آتية وَلَئِنْ فرضت وقوعها وقيامها على الوجه الذي زعم الرسل المدعون ونطقت به الكتب المزورة المفتراة ورُجِعْتُ إِلى رَبِّي كما زعموا إِنَّ لِي قد حق وثبت لي عِنْدَهُ
سبحانه لَلْحُسْنى اى الحالة التي هي احسن الحالات وأكرم الكرامات لاستحقاقى بها واقتضاء ذاتى إياها وبالجملة انما يقول على سبيل الاستهزاء والتهكم فَلَنُنَبِّئَنَّ ولنخبرن حين الجزاء الكافرين الَّذِينَ كَفَرُوا بوفور قدرتنا وقوتنا على وجوه الأخذ والانتقام بِما عَمِلُوا من الجرائم العظام وكبائر الآثام وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ مؤلم فظيع فجيع لا يمكنهم الخلاص عنه
وَمن شدة طغيان الإنسان ونهاية كفرانه وعدوانه إِذا أَنْعَمْنا وأكرمنا من مقام جودنا عَلَى الْإِنْسانِ المجبول على الكفران والنسيان أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ اى تباعد عنا ولم يشكر على نعمنا ولم يلتفت الى موائد كرمنا وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ ولحقه الضر فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كثير ممتد عرضا وطولا وهو كناية عن الحاحهم ولجاجهم في طلب الكشف والتفريج من الله عند نزول البلاء وإلمام المصيبة
قُلْ يا أكمل الرسل لمنكري القرآن والقادحين فيه على سبيل الظلم والعدوان أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ القرآن منزلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بحسب الواقع مع انه لا شك في نزوله من عنده ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ بلا تأمل وتدبر في دلائل صدقه وبراهين اعجازه لفظا ومعنى مَنْ أَضَلُّ سبيلا ورأيا وطريقا مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وخلاف شديد عن الحق وقبوله وبالجملة من أضل منكم حينئذ ايها القادحون الطاعنون المنكرون له مع وضوح محجته وسطوع برهانه. ثم أشار سبحانه الى وحدة ذاته وكمال ظهوره حسب أسمائه وصفاته في عموم مظاهره ومصنوعاته وحيطته عليها وشموله إياها ليكون دليلا على حقية كتابه وصدوره منه فقال
سَنُرِيهِمْ اى المجبولين على فطرة التوحيد المخلوقين على نشأة الايمان والعرفان الموفقين على كمال الكشف والعيان آياتِنا اى دلائل توحيدنا الدالة على وحدة ذاتنا الظاهرة فِي الْآفاقِ اى ذرات الأكوان الخارجة عن نفوسهم المدركة بآلاتهم وحواسهم سميت بها لطلوع شمس الحقيقة منها وظهورها عليها وَفِي أَنْفُسِهِمْ اى ذواتهم التي هي أدل دليل على معرفة الحق ووحدته لذلك قال اصدق القائلين وأكمل الكاملين من عرف نفسه فقد عرف ربه وانما نريهم ما نريهم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ ويظهر دونهم وينكشف عليهم أَنَّهُ اى الأمر الظاهر والشأن المحقق المتحقق في الأنفس والآفاق هو الْحَقُّ الحقيق بالتحقق والثبوت بالاستقلال والاستحقاق بمقتضى صرافة وحدته الذاتية والقرآن المعجز ايضا من جملة مظاهره وآثار صفاته الذاتية. ثم لما أشار سبحانه الى وحدة ذاته بالنسبة الى عموم عباده أراد ان ينبه على المستكشفين من ارباب المحبة والولاء الوالهين بمطالعة وجهه الكريم فخاطب لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو الحرى بأمثال هذه الخطابات العلية فقال مستفهما على سبيل التعجب والاستبعاد إذ هو ادخل في التنبيه والتنوير أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ اى أيشكون أولئك المكلفون الشاكون في وجود مربيك الذي هو مربيهم ايضا يا أكمل الرسل ويترددون في تحققه وظهوره ولم يكف لهم دليلا أَنَّهُ بذاته وبعموم أسمائه وصفاته عَلى كُلِّ شَيْءٍ مما لاح عليه برق وجوده ورشاشة نوره شَهِيدٌ حاضر غير مغيب عنه وبالجملة او لم يكف لهم دليلا على تحقق الحق حضوره مع كل شيء من مظاهره ثم نور سبحانه ما نبه عليه على سبيل التعجب والتلويح تأكيدا ومبالغة وزيادة إيضاح وتوضيح فقال
أَلا إِنَّهُمْ بعد ما أضاء لهم شمس الذات من مرايا الكائنات فِي مِرْيَةٍ شك وارتياب مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ فيها ومن مطالعة وجهه الكريم أَلا إِنَّهُ بذاته حسب شئونه وتطوراته المتفرعة على أسمائه وصفاته بِكُلِّ شَيْءٍ من مظاهره ومصنوعاته مُحِيطٌ بالاستقلال والانفراد احاطة ذاتية بلا شوب شركة وشين كثرة إذ لا وجود سواه ولا موجود غيره ولا اله الا هو
Icon