تفسير سورة الحاقة

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة الحاقة١
مقصودها تنزيه الخالق ببعث الخلائق لإحقاق الحق وإزهاق الباطل بالكشف التام لشمول العلم ٢للكليات والجزئيات٣، وكمال القدرة٤ علىالعلويات٥ والسفليات، وإظهار العدل بين سائر المخلوقات، ليميز المسلم من المجرم بالملذذ والمؤلم٦، وتسميتها بالحاقة في غاية الوضوح في ذلك وهو أدل ما فيها عليه ( بسم الله ) الذي له الكمال كله نزاهة وحمدا ( الرحمن ) الذي عم جوده٧ بالعدل كبرا ومجدا ( الرحيم ) الذي خص أهل وده بالوقوف عند حدوده لينالوا بطيب جواره٨ علوا وجدا ٩وفوزا بالأماني وسعدا١٠.
١ - التاسعة والستون من سور القرآن الكريم، مدنية، وعدد آيها اثنتان وخمسون..
٢ - من ظ وم، وفي الأصل: بالجزئيات والكليات..
٣ - من ظ وم، وفي الأصل: بالجزئيات والكليات..
٤ - من ظ وم، وفي الأصل: للعلويات..
٥ - من ظ وم، وفي الأصل: للعلويات..
٦ - من ظ وم، وفي الأصل: المالم..
٧ - من ظ وم، وفي الأصل: وجوده..
٨ - من ظ وم، وفي الأصل: علوه..
٩ - من ظ وم، وفي الأصل: بالأماني والفوز..
١٠ - من ظ وم، وفي الأصل: بالأماني والفوز..

لما قدم سبحانه في «نون» الإنكار الشديد لأن يسوي المسيء بالمحسن، وذكر القيامة وبينها بيوم كشف الساق وزيادة المشاق، وهدد التهديد العظيم بآية الاستدراج الذي لا يدفع بعلاج، وختم بأن القرآن ذكر - أي شرف - وتذكير، ومواعظ للعالمين في شمولهم كلهم
337
برحمته، أما من بعد إنزاله فبوعيده ووعده ووعظه وقصه وأمره ونهيه، وأما من قبل إنزاله فبالشهادة لهم وعليهم، وكان تأويل ذلك وجميع آثاره إنما يظهر ظهوراً تاماً يوم الجمع الأكبر، وكان ذلك اليوم أعظم مذكر للعالمين وواعظ لهم وزاجر، تنبني جميع الخيرات على تذكره وتذكر العرض على الملك الديان، والسر في إنزال القرآن هو التذكير بذلك اليوم الذي هو نظام الوجود، قال واصفاً للقيامة واليوم الذي يكشف فيه عن ساق، واعظاً بذكرها ومحذراً من أمرها: ﴿الحاقة *﴾ أي الساعة التي يكذب بها هؤلاء وهي أثبت الأشياء وأجلاها فلا كاذبة لها ولا لشيء عنها، فلا بد من حقوقها فهي ثابتة في نفسها، ومن إحضار الأمور فيها بحقائقها، والمجازاة عليها بالحق الذي لا مرية فيه لأحد من الخلق، فهي فاعلة بمعنى مفعول فيها، وهي فاعلة أيضاً لأنها غالبة لكل خصم، من حاققته فحققته أحقه أي غالبته في الحق فغلبته فيه، فهي تحق الحق ولا بد فتعلو الباطل فتدمغه وتزهقه فتحق العذاب للمجرمين والثواب للمسلمين، وكل ما فيها داثر على الثبات والبيان، لأن ذلك مقتضى الحكمة ولا
338
يرضى لأحد من الحكام ترك رعيته بغير إنصاف بينهم على زعمه فكيف بالحكيم العليم، وقصة صاحب الحوت عليه السلام أدل دليل على القدرة عليها.
ولما كان ذلك كله أمراً رائعاً للعقول، هازاً للقلوب، مزعجاً للنفوس، وكان ربما توقف فيه الجلف الجافي، أكد أمره وزاد في تهويله، وأطنب في تفخيمه وتبجيله، إشارة إلى أن هوله يفوت الوصف بقوله، معلماً أنه مما يحق له أن يستفهم عنه سائقاً له بأداة الاستفهام مراداً بها التعظيم للشأن، وأن الخبر ليس كالعيان: ﴿ما الحاقة *﴾ فأداة الاستفهام مبتدأ أخبر عنه بالحاقة وهما خبر عن الأولى، والرابط تكرير المبتدأ بلفظه نحو زيد أي ما هو، وأكثر ما يكون ذلك إذا أريد معنى التعظيم والتهويل.
ولما كان السياق لترجمة المراد بكشف الساق، عظم التهويل بقوله: ﴿وما أدراك﴾ أي في الزمن الماضي، وقصره لتذهب النفس فيه كل مذهب، أي وأي شيء أعلمك بشيء من الأشياء مع تعاطيك للبحث والمداورة، ثم زاد التحذير منها بقوله على النهج الأول مستفهماً والمراد به التفخيم ومزيد التعظيم: ﴿ما الحاقة *﴾ أي إنها بحيث
339
لا يعلم كنهها أحد ولا يدركها ولا يبلغها درايته وكيف ما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك، فلا تعلم حق العلم إلا بالعيان.
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما بنيت سورة ﴿ن والقلم﴾ على تقريع مشركي قريش وسائر العرب وتوبيخهم وتنزيه نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شنيع قولهم وقبيح بهتهم، وبين حسدهم وعداوتهم ﴿وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم﴾ [القلم: ٥١] أتبعت بسورة الحاقة وعداً لهم وبياناً أن حالهم في سوء ذلك المرتكب قد سبق إليه غيرهم ﴿كذبت ثمود وعاد بالقارعة﴾ [الحاقة: ٤] ﴿فهل ترى لهم من باقية﴾ [الحاقة: ٨] ﴿ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من قرن﴾ [الأنعام: ٦] ﴿فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم﴾ [يونس: ١٠٢]، و ﴿كم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً﴾ [مريم: ٩٨] فسورة الحاقة جارية مجرى هذه الآي المعقب بها ذكر عناد مشركي العرب ليتعظ بها من رزق التوفيق لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية.
ولما ذكر حال من هلك من الأمم السالفة بسوء تكذيبهم وقبيح عنادهم، أتبع ذلك بذكر الوعيد الأخراوي ﴿يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية﴾ [الحاقة: ١٨] ثم عاد الكلام إلى ما بنيت عليه سورة ﴿ن والقلم﴾
340
من تنزيهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتكريمه مقسماً على ذلك ﴿إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر - ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون﴾ [الحاقة: ٤١، ٤٢] وانتهى نفي ما تقوله منصوصاً على نزاهته عن كل خلة منها في السورتين ﴿ما أنت بنعمة ربك بمجنون﴾ [القلم: ٢] وما الذي جئت به بقول شاعر ولا بقول كاهن بل هو تنزيل من رب العالمين، وأنه لتذكرة للمتقين وإنه لحق اليقين، فنزه ربك وقدسه من عظيم ما ارتكبوه - انتهى. فلما بلغ التهويل حده، وكان سبب الإنكار للساعة ظن عدم القدرة عليها مطلقاً أو لعدم العلم بالجزئيات، قال دالاً على تمام القدرة والعلم بالكليات والجزئيات، محذراً من أنكرها بأنه قادر على تعجيل الانتقام ولكنه لإكرامه لهذه الأمة أخر عذابها إلى الآخرة إلى لمن كان منهم من الخواص فإنه يظهرهم في الدنيا ليتم نعيمهم بعد الموت بادئاً بأشد القبائل تكذيباً بالبعث لكون ناقتهم أول دليل على القدرة عليه، وقالوا مع ذلك ﴿أبشر منا واحداً نتبعه﴾ [القمر: ٢٤] إلى أن قالوا: ﴿بل هو كذاب أشر﴾ [القمر: ٢٥] وقالوا في التكذيب بها {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن
341
هي إلا حياتنا الدنيا نموت} [المؤمنون: ٣٥، ٣٦، ٣٧]- الآية، فإن الامر فيهم دائر بين عاد وثمود: ﴿كذبت ثمود﴾ وتقديمهم أيضاً من حيث أن بلادهم أقرب إلى قريش، وواعظ القرب أكبر وإهلاكهم بالصيحة وهي أشبه بصيحة النفخ في الصور المبعثر لما في القبور ﴿وعاد﴾ وكان الأصل أن يقال: بها، ولكنه أظهرها بوصف زادها عظماً وهولاً فقال: ﴿بالقارعة *﴾ أي التي تقرع، أي تضرب ضرباً قوياً وتدق دقاً عنيفاً شديداً للأسماع وجميع العالم بانفطار السماوات وتناثر النيرات ونسف الجبال الراسيات، فلا يثبت لذلك الهول شيء.
ولما جمعهم في التكذيب، فصلهم في التعذيب لأجل ذلك التكذيب فقال: ﴿فأما ثمود﴾ وهم قوم صالح عليه السلام.
ولما كان الهائل لهم لتقيدهم بالمحسوسات إنما هو العذاب، لا كونه من معين، بنى للمجهول قوله: ﴿فأهلكوا﴾ أي بأيسر أمر من أوامرنا ﴿بالطاغية *﴾ أي الصيحة التي جاوزت الحد في الشدة فرجفت منها الأرض والقلوب.
ولما ذكر المهلكين بالصيحة لأجل التكذيب بالقارعة تحذيراً لمن يكذب بها، أتبعه المهلكين بما هو سبب لإنفاذ الصيحة وتقويتها دلالة على تمام القدرة على كل نوع من العذاب بالاختيار
342
فقال تعالى: ﴿وأما عاد﴾ وهم قوم هود عليه السلام ﴿فأهلكوا﴾ أي بأشق ما يكون عليهم وأيسر ما يكون في قدرتنا ﴿بريح صرصر﴾ أي هي في غاية ما يكون من شدة البرد والصوت كأنه كرر فيها البرد حتى صار يحرق بشدته والصوت حتى صار يصم بقوته، وقال الملوي: أصله صر وهو البرد الشديد أو الحر الشديد ﴿عاتية *﴾ أي مجاوزة للحد من شدة عصفها وعظمة قصفها تفعل أفعال المستكبر الذي لا يبالي بشيء فلم يستطع خزانها ضبطها، ولم يملك المعذب بها ردها ولا ربطها، بل كانت تنزعهم من مكامنهم التي احتفروها ومصانعهم التي أتقنوها واختاروها فتهلكهم، قال الملوي: قال علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهما: «لم ينزل قط ماء ولا ريح إلا بمكيال على يد ملك إلا يوم الطوفان فإن الله تعالى أذن للماء فطغى على الخزان ويوم عاد أذن للريح فعتت على خزانها» انتهى.
ولما وصفها بالعتو على الخلق والغلبة لهم بحيث كانت خارقة للعادة لم يأت مثلها قبل ولا بعد، دل على صغارها بالنسبة إلى عظمته، وأنه هو الذي أوجدها لا الطبيعة ولا غيرها، بل إنما كانت بقدرته واختياره قهراً لمن طعن في ملكه وكذب رسله فيما أخبروا به من أمر الساعة
343
التي هي موضع الحكمة وإظهار جميع العظمة، فقال مستأنفاً دلالة على ذلك: ﴿سخرها﴾ أي قهرها على أن سلطها، والتسخير: استعمال الشيء بالاقتدار، ودل على أنه تسخير تعذيب لا رحمة وتأديب بأداة الاستعلاء، فقال: ﴿عليهم﴾ وكلفها ذلك وذللها له فلم يمكنها مع عتوها إلا أن كانت طوع أمره وصنيعة عظمته وقهره.
ولما كانت هذه السورة لتحقيق الأمور، وكشف المشكل وإيضاح الخفي، حقق فيها زمن عذابهم تحقيقاً لم يتقدم مثله، فذكر الأيام والليالي، وقدم الليالي لأن المصايب فيها أفظع وأقبح وأشنع لقلة المغيث والجهل بالمأخذ والخفاء في المقاصد والمنافذ، ولأن عددها مذكر في اللفظ، وتذكير اللفظ أدل على قوة المعنى ولذلك جعل المميز جمع كثرة، ولأنها سبع، والسبع مبالغ فيه وهو أجمع العدد كما يأتي تحقيقه قريباً في حملة العرش ولا يمكن أن يظن بتقديمها أن ابتداء العذاب كان فيها لأنه يلزم حينئذ أن يكون بعدد الأيام فلذلك قال: ﴿سبع ليال﴾ أي لا تفتر فيها الريح لحظة لأنه بولغ في شدتها مبالغة لم يكن مثلها قط ولا يكون بعدها أبداً ﴿وثمانية أيام﴾ كذلك حال كونها ﴿حسوماً﴾ جمع حاسم أي بحس مانع من التصرف دائم متتابع لا فترة له، من حسم الكي - إذا تابع فيه بالمكواة،
344
قاطع لكل خير، مستأصل له، فأتت عليهم من غير فترة أصلاً في جميع الوقت فاستأصلتهم لم تبق منهم أحد حتى أن عجوزاً منهم توارت في سرب فانتزعتها وأهلكتها، وبها سميت أيام العجوز، أو لأنها عجز الشتاء وهي ذات برد ورياح شديدة وهي من صبيحة الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر وهو آخر الشهر، وقد لزم من زيادة عدد الأيام أن الابتداء كان بها قطعاً وإلا لم تكن الليالي سبعاً - فتأمل ذلك.
ولما كان الحاسم المهلك، سبب عنه قوله مصوراً لحالهم الماضية: ﴿فترى القوم﴾ أي الذين هم في غاية القدرة على ما يحاولونه: ﴿فيها﴾ أي في تلك المدة من الأيام والليالي لم يتأخر أحد منهم عنها ﴿صرعى﴾ أي مجدلين على الأرض موتى معصورين مجهزة على كل منهم من شدة ضغطها باد عليهم الذل والصغار، جمع صريع ﴿كأنهم أعجاز﴾ أي أصول ﴿نخل﴾ قد شاخت وهرمت فهي في غاية العجز والهرم ﴿خاوية *﴾ أي متآكلة الأجواف ساقطة، من
345
خوي النجم - إذا سقط للغروب، ومن خوي المنزل - إذا خلا من قطانه، قالوا: كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم، فالوصف بذلك لعظم أجسامهم وتقطيع الريح لهم وقطعها لرؤوسهم وخلوهم من الحياة وتسويدها لهم.
346
ولما كان هذا أمراً رائعاً لمن له أدنى معقول، وكان الاستفهام مما يزيد الروعة، قال مسبباً عن استئصالهم ليكون الإخبار به المستلزم لغاية العلم بالجزئيات كالدعوى بدليلها: ﴿فهل ترى﴾ أي أيها المخاطب الخبير الناس في جميع الأقطار ﴿لهم﴾ أي خصوصاً، وأعرق في النفي وعبر بالمصدر الملحق بالهاء مبالغة فقال: ﴿من باقية *﴾ أي بقاء أو نفس موصوفة بالبقاء، وأنجى الله سبحانه وتعالى صالحاً عليه السلام ومن آمن به من بين ثمود ولم تضرهم الطاغية وهوداً عليه السلام ومن آمن به من بين عاد لم يهلك منهم أحد، فدل ذلك دلالة واضحة على أن له تعالى تمام العلم بالجزئيات كما أن له كمال الإحاطة بالكليات وعلى قدرته واختياره وحكمته، فلا يجعل المسلم أصلاً كالمجرم ولا المسيء كالمحسن.
ولما أخبر تعالى عمن أهلك بالريح ومن أهلك بما سببه الريح تسبيباً قريباً بغير واسطة، وكان ذلك كله - لخروجه عن العادة - راداً على أهل الطبائع، أخبر بمن أهلك مما سببته الريح من الماء
346
بواسطة السحاب، وكانت سبب تطابقه عليهم مع أن كفرهم بالتعطيل الذي هو أنحس أنواع الكفر للقول بالطبيعة التي تتضمن الإنكار للبعث، وكان إغراقهم بما يكذب معتقدهم لخروجه عن العادة، فقال منبهاً على قوة كفرهم بالمجيء: ﴿وجاء﴾ أي أتى إتياناً عالياً شديداً ﴿فرعون﴾ أي الذي ملكناه على طائفة من الأرض فعتى وتجبر وادعى الإلهية ناسياً هيبتنا وقدرتنا بنقمتنا وأنكر الصانع وقال بالطبائع ﴿ومن قبله﴾ أي في جهته وفي حيزه وما يليه وفي السير بسيرته من العلو في الأرض بغير الحق والعتو في الكفر، وهو ظرف مكان، هكذا على قراءة البصريين والكسائي بكسر الكاف وفتح الموحدة، فعم ذلك كل من كان كافراً عاتياً من قبله ومن بعده، وهو معنى قراءة الباقين بفتح القاف وإسكان الباء الموحدة على أنه ظرف يقابل «بعد» بزيادة.
ولما كان قوم لوط عليه السلام قد جمعوا أنواعاً من الفسوق لم يشاركهم فيها أحد، فاشتمل عذابهم على ما لم يكن مثله عذاب، فكان كل من فعلهم الذي لم يسبقهم به أحد من العالمين وعذابهم الذي ما كان مثله قبل ولا بعد، راداً على أهل الطبائع، نص عليهم من بين من دخل فيمن قبله على القراءتين فقال: ﴿والمؤتفكات﴾ أي
347
أهل المدائن المنقلبات بأهلها حتى صار عاليها سافلاً لما حصل لأهلها من الانقلاب حتى صاروا إياه واتبعت حجارة الكبريت وخسف بها وغمرت بما ليس في الأرض مثله وهي قرى قوم لوط عليه السلام ﴿بالخاطئة *﴾ أي الخطأ أو الأفعال ذات الخطأ التي تتخطى منها إلى نفس الفعل القبيح من اللواط والصفع والضراط مع الشرك وغير ذلك من أنواع الفسق والعناد والطغيان.
ولما كان الرسل كلهم جميعاً كالفرد الواحد لاتفاق مقاصدهم في الدعاء إلى الله والحمل على طاعته، قال مستأنفاً مسبباً عن مجيئهم بذلك موحداً في اللفظ ما هو صالح للكثير بإرادة الجنس: ﴿فعصوا﴾ أي خالفوا ونابذوا ﴿رسول ربهم﴾ أي خالفت كل أمة من أرسله المحسن إليها بإبداعها من العدم وإيداعها القوى وترزيقها وبعث رسولها لإرشادهها اغتراراً بإحسانه ولم يجوزوا أن المحسن يقدر على الضر كما قدر على النفع، لأنه الضار كما أنه النافع فللتنبيه على مثل ذلك لا يجوز نقل أحد الاسمين عن الآخر، وسبب عن العصيان قوله: ﴿فأخذهم﴾ أي ربهم أخذ قهر وغضب ﴿أخذة﴾ لم يبق من أمة منهم أحداً ممن كذب الرسول فلم يكن كمن ينصر على عدو من الآدميين لا بد من أن يفوته كثير منهم وإن اجتهد في الطلب، وما ذاك إلا لتمام علمه
348
سبحانه وتعالى بالجزئيات والكليات، وشمول قدرته، وتلك الأخذة - مع كونها بهذه العظمة من أنها أخذتهم كنفس واحدة - جعلها سبحانه ﴿رابية *﴾ أي عالية عليهم علية القدر في قوة البطش وشدة الفتك زائدة على الحد نامية بقدر زيادة أعمالهم في القبح، والربا: النمو، وأصله الزيادة، فأغرق فرعون وجنوده، وأغرق كل من كذب نوحاً عليه السلام، وهم كل أهل الأرض غير من ركب معه في السفينة، وحمل مدائن لوط عليه السلام بعد أن نتقها من الأرض على متن الريح بواسطة من أمره بذلك من الملائكة ثم قلبها وأتبعها الحجارة وخسف بها وغمرها بالماء المنتن الذي ليس في الأرض ما يشبهه.
ولما كان ربما وقع في وهم التعجب من وجود فرعون ومن بعده من الإخبار بأخذ من قبله على قراءة الجماعة مع أن «من» من صيغ العموم، أشار إلى أنه أهلك جميع المخالفين وأنجى جميع الموافقين، قال جواباً لذلك السؤال مؤكداً لأجل من يتعنت ولأن ذلك كان مما يتعجب منه ويتلذذ بذكره: ﴿إنا﴾ أي
349
على قدرتنا وعظمتنا وإحاطتنا ﴿لما طغا الماء﴾ أي فزاد عن الحد حتى علا على أعلى جبل في الأرض بقدر ما يغرق من كان عليه حين أغرقنا قوم نوح عليه السلام به فلم يطيقوا ضبطه ولا قاووه بوجه من الوجوه، ولا وفقوا لركوب السفينة، فكان خروجه عن العادة راداً على أهل الطبائع.
ولما كان الإيجاد نعمة فكان إنجاء آبائهم من الغرق حتى كان ذلك سبباً لوجودهم نقمة عليهم قال تعالى: ﴿حملناكم﴾ أي في ظهور آبائكم بعظمتنا ومشيئتنا وقدرتنا ﴿في الجارية *﴾ أي السفينة التي جعلناها بحكمتنا عريقة في الجريان حتى كأنه لا جارية غيرها على وجه الماء الذي جعلنا من شأنه الإغراق، وهو تعبير بالصفة عن الموصوف، ونوح عليه السلام أول من صنع السفينة، وإنما صنعها بوحي الله تعالى وبحفظه له من أن يزل في صنعتها، قال: اجعلها كهيئة صدر الطائر ليكون ما يجري في الماء مقارباً لما يجري في الهواء، وأغرقنا سوى من في السفينة من جميع أهل الأرض من أدمي وغيره.
ولما بدأ سبحانه وتعالى بثمود الذين هم أقرب المهلكين إلى مكة المشرفة لأن التخويف بالأقرب أقعد، وختم بقوم نوح عليه السلام لأنهم كانوا جميع أهل الأرض ولم يخف أمرهم على أحد ممن
350
بعدهم، علل اختيار إنجائهم بالسفينة دون غيرها فقال: ﴿لنجعلها﴾ أي هذه الفعلات العظيمة من إنجاء المؤمنين بحيث لا يهلك منهم بذلك العذاب أحد وإهلاك الكافرين بحيث لا يشذ منهم أحد، وكذا السفينة التي حملنا فيها نوحاً عليه السلام ومن معه بإبقائها آية من آياته وأعجوبة من بدائع بيناته وغريبة في الدهر من أعجوباته ﴿لكم﴾ أي أيها الأناسي ﴿تذكرة﴾ أي سبباً عظيماً لذكر أول إنشائه والموعظة به لتستدلوا بذلك على كمال قدرته تعلى وتمام علمه وعظمة رحمته وقهره، فيقودكم ذلك إليه وتقبلوا بقلوبكم عليه ﴿وتعيها﴾ أي ولتحفظ قصة السفينة وغيرها مما تقدم، حفظاً ثابتاً مستقراً كأنه محوى في وعاء.
ولما كان المنتفع بما يسمع الحافظ له قليلاً جداً، دل على ذلك يتوحيد الأذن فقال موحداً منكراً مع الدلالة على تعظيمها: ﴿أذن﴾ أي عظيمة النفع ﴿واعية *﴾ أي من شأنها أن تحفظ ما ينبغي حفظه من الأقوال والأفعال الإلهية والأسرار الربانية لنفع عباد الله كما كان نوح عليه السلام ومن معه وهم قليل سبباً لإدامة النسل والبركة فيه
351
حتى امتلأت منه الأرض. والوعي: الحفظ في النفس، والإيعاء: الحفظ في الوعاء، وفي ذلك توبيخ للناس بقلة الواعي منهم، ودلالة على أن الأذن الواحدة إذا غفلت عن الله تعالى فهي السواد الأعظم، وما سواها لا يبالي بهم الله بالة - قاله الأصبهاني والزمخشري وغيرهما.
ولما ذكر القيامة وهول أمرها بالتعبير بالحاقة وغيرها، ودل على قدرته عليها وعلى حكمته بقصص من ذكر على الوجه الذي مر إلى أن ختم بالذين كانت قصتهم أشبه تلك القصص بالقيامة من حيث أن أمر الله فيها عم أهل الأرض وفي زمن يسير، وكان الناجون منها بالنسبة إلى المهلكين كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، سبب عن جميع ما مضى قوله شرحاً لأمرها: ﴿فإذا نفخ﴾ وبنى الفعل للمجهول دلالة على هوان ذلك عليه وأنه ما تأثر عنه لا يتوقف على نافخ معين بل من أقامه من جنده لذلك تأثر عنه ما يريده وذكره وإن كان المسند إليه مؤنثاً للفصل ولكونه غير حقيقي التأنيث وللدلالة على قوة النفخ ﴿في الصور﴾ أي القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام كأنه عبر عنه به دون القرن مثلاً لأنه يتأثر عنه تارة إعدام الصورة وتارة إيجادها وردها إلى أشكالها سعة فمه كما بين السماء والأرض،
352
وأسند الفعل إلى المصدر ليفيده بادىء بدء لا ليؤكده وإن كان التأكيد يفهم منه وهو غير مقصود بالذات فقال: ﴿نفخة﴾ ولما دل بالفعلة على الواحدة، أكده دلالة على عظيم قدرته وحقارة الأشياء عنده بقوله: ﴿واحدة *﴾ أي فهلك الخلائق كلهم، هكذا قالوا إن هذه النفخة هي الأولى، قالوا: وعندها خراب العالم، وظاهر السياق أنها الثانية التي بها البعث، وخراب ما ذكر بعد قيامهم أنسب لأنه لهم أهيب، وكونها الثانية إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما.
353
ولما ذكر التأثير في الإحياء، أتبعه التأثير في الجمادات، وبدأ بالسفليات لملابستها للإنسان فتكون عبرته بها أكثر فقال: ﴿وحملت﴾ أي بمجرد القدرة ﴿الأرض﴾ أي المنبسطة ورجت رجاً ﴿والجبال﴾ أي التي بها ثباتها فرفعت من أماكنها، وبستا بساً فكانت هباء منبثاً، لم يبق فيهما حجر ولا كدية.
ولما أريد قوة الدك والإبلاغ في تأثيره، جعل الجبال شيئاً واحداً فقال: ﴿فدكتا﴾ أي مسحت الجملتان الأرض وأوتادها وبسطتا ودق بعضها ببعض ﴿دكة واحدة *﴾ أي فصارتا كثيباً مهيلاً وسويتا بأيسر أمر فلم يميز شيء منهما من الآخر، بل صارا في غاية الاستواء، من قولهم: ناقة دكاء، أي لا سنام لها. وأرض دكاء، أي متسعة مستوية،
353
قالوا: والدك والدق - أخوان، والدك أبلغ، قال أبو حيان: والدك فيه تفرق الأجزاء، والدق فيه اختلاط الأجزاء.
ولما ذكر نفخ الصور سبب عنه قوله: ﴿فيومئذ﴾ أي إذا دكتا وهي بدل من «إذ» كرر لطول الفصل وأفاد تهويلاً لها وتعظيماً، ونصب الظرف بقوله: ﴿وقعت الواقعة *﴾ أي التي وقع الوعد والوعيد بها، فكانت كأنها شيء ثقيل جداً ليس له ممسك. فما له من ذاته غير السقوط، وهي القيامة والحاقة والقارعة، نوع أسماءها تهويلاً لها أي قامت القيامة، وكان المراد بها النفخة الثانية.
ولما ذكر تأثير العالم السفلي ذكر العلوي فقال: ﴿وانشقت السماء﴾ أي هذا الجنس لشدة ذلك اليوم، ولما كان الشيء لا ينشق إلا لخلل فيه، سبب عنه قوله تحقيقاً لذلك. ﴿فهي يومئذ﴾ أي إذا وقعت الواقعة ﴿واهية *﴾ أي ضعيفة متساقطة خفيفة لا تتماسك.
ولما كانت العادة جارية فيما يعرف أن الملك يظهر أنواعاً من عظمته يوم عرض الجند، قال معرفاً لنا بنحو ما ألفناه: ﴿والملك﴾
354
أي هذا النوع الذي يصدق على الواحد فما فوقه، والجمع لا يصدق على ما دون الجمع فهذا أشمل ﴿على أرجائها﴾ أي نواحي السماء وأطرافها وحواشي ما لم يتشقق منها، قال الضحاك: يكونون بها حتى يأمرهم الله فينزلون فيحيطون بالأرض ومن عليها - انتهى. وقيل: أرجاء الأرض واحدها رجا، مقصور، والاثنان رجوان، فيحيطون بالجن والإنس فيحشرونهم حشر الصيد لإرادة أخذه.
ولما كان الملك يظهر يوم العرض سرير ملكه ومحل عزه قال: ﴿ويحمل عرش﴾ ولما كان هذا أمراً هائلاً مقطعاً للقلوب، قال مؤنساً للمنزل عليه هذا الذكر مؤمناً له من كل ما يحذر: ﴿ربك﴾ أي المحسن إليك بكل ما يريده لا سيما في ذلك اليوم بما يظهر من رفعتك.
ولما كان العرش عاماً لجهة الفوق كلها، أسقط الجار فقال: ﴿فوقهم﴾ أي فوق رؤوسهم ﴿يومئذ﴾ أي يوم إذ وقعت الواقعة بعدد ما كان تحته من السماوات السبع والكرسي ﴿ثمانية *﴾ أي من الملائكة أشخاص أو صفوف يؤيد حملته الأربعة في الدنيا بأربعة أخرى لشدة ذلك اليوم وثقله، وهو في حديث أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأبو يعلى والبغوي عن العباس
355
بن عبد المطلب رضي الله عنه، فظاهره أنهم أشخاص ولفظه: «ثمانية أوعال بين ركبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض» وظاهر ذلك أنهم في الدنيا، وكونهم في الدنيا أربعة فقط ذكره المفسرون ورواه الطبراني من طريق ابن إسحاق، قال: بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم بأربعة آخرين» وهو مذكور في حديث الصور الطويل الذي يرويه أبو يعلى وغيره من طريق إسماعيل بن رافع عن يزيد بن زياد عن القرطبي عن رجل عن أبي هريرة رضي الله عنه وهذا العدد يحتمل أن يراد به أهل السماوات السبع والكرسي فتلك ثمانية، وهم خلق لا يحصيهم إلا الله سبحانه وتعالى، وهو أوفق لإظهار العظمة، ويمكن أن يراد بهم ثمانية أفراد ويكون حملهم له أظهر في العظمة ليعلم كل من يرى ذلك أن مثلهم لا يقدر على حمل مثله في عظمته وإحاطته، وهذا هو أظهر المعاني من الأحاديث الواردة فيه، واختيار هذا العدد أوفق للوجه الذي قبله لأنه يزيد على العدد الموضوع للمبالغة - وهو السبع - بواحدة إشارة إلى أنه أبلغ من عدة المبالغة لأنه إشارة إلى أنك كلما بالغت زاد الأمر على مبالغتك بما هو أول العدد، وذلك إشارة إلى عدم الانتهاء والوقوف عند حد، وإلى ذلك يشير أيضاً
356
أن للثمانية من الكسور النصف والربع والثمن، وذلك سبعة، والسبعة عدد جامع لجميع أنواع العدد الفرد والزوج وزوج الزوج وزوج الفرد، وكل ذلك إشارة إلى المبالغة في إظهار العظمة والكبرياء والعزة وتمثيل لنا بما نعرف من أحوال الملوك وإلا:
فالأمر أعظم من مقالة قائل إن رقق البلغاء أو إن فخموا
إعلاماً بعظمة ذلك اليوم ليخشى العباد فيلزموا أسباب الإسعاد، وهذا الذي قلته من سر السبعة قد ذكره الإمام بدر الدين بن الدماميني قرين شيوخنا في الكلام على الواو من حاشيته على مغني ابن هشام عن تفسير العماد الكندي قاضي الإسكندرية المسمى الكفيل بمعاني التنزيل فقال: ونقل الأستاذ عبد الله الكفيف المالقي أنها لغة فصيحة لبعض العرب أن يقول: واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة ثمانية تسعة عشرة - هكذا لغتهم، ومتى جاء في كلامهم لفظ الثمانية أدخلوا الواو وقد نظم بعض أصحابنا في كون السبعة منتهى العدد أبياتاً وهي:
357
يا سائلي عن سر كون العدد غايته في سبعة لم تزد
ما سره إلا انحصار قسيمه في واحد فرد وشيء مسند
وذلك الشيء الذي تسنده منحصر في واحد وأزيد
فالفرد والفرد إذا ما اجتمعا زوج مع الفرد الذي لم يسند
واثنان واثنان إذا ما اجتمعت أربعة تضم مع فيء اليد
فتلك سبعة إذا تكاملت أربعة واثنان مع منفرد
وما أتى من بعد هذا فهو تك رار له لا زائد في العدد
ثلاثة مع مثلها فرد وفر د قد مضى وما مضى لا يعدد
وهكذا أربعة مع مثلها زوج وزوج قد مضى لا تزد
وقال الإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في مقدمة كتابه الملل والنحل: أكثر أصحاب العدد على أن الواحد لا يدخل في العدد، فالعدد مصدره الأول الاثنان، وهو ينقسم إلى زوج وفرد، فالفرد الأول ثلاثة، والزوج الأول أربعة، وما وراء الأربعة مكرر كالخمسة فإنها مركبة من فرد وزوج، ويسمى العدد الدائر، والستة مركبة من فردين، ويسمى العدد التام، والسبعة مركبة من فرد وزوج، وتسمى العدد الكامل، والثمانية مركبة من زوجين وهي بداية الأخرى فصدر الحساب في مقابلة الواحد الذي هو علة العدد وليس يدخل فيه، ولذلك هو فرد لا أخ له.
ولما كان العدد مصدره من اثنين صار منهما المحقق محصوراً في قسمين،
358
ولما كان العدد منقسماً إلى فرد وزوج، صار من ذلك الأصل محصوراً في سبعة، فإن الفرد الأول ثلاثة، والزوج الأول أربعة، وهي النهاية، وما عداها مركب منها، وكان البسائط عامة الكلية في العدد واحد واثنان وثلاثة وأربعة وهي الكمال، وما زاد عليها من المركب الكلي فمركبات كلها ولا حصر لها، وقال أبو الحكم ابن برجان في تفسير سورة القدر: انتهاء العدد ستة والسابع وترها.
ولما بلغ النهاية في تحذير العباد من يوم التناد، وكان لهم حالتان: خاصة وعامة، فالعامة العرض، والخاصة التقسيم إلى محسن ومسيء، زاده عظماً بقوله: ﴿يومئذ﴾ أي إذا كان ما تقدم.
ولما كان المهول نفس العرض، بنى فعله للمفعول ولأنه كلام القادرين فقال: ﴿تعرضون﴾ أي على الله سبحانه وتعالى للحساب كما يعرض السلطان الجند لينظر في أمرهم ليختار منهم المصلح للإكرام والتقريب والإثابة، والمفسد للإبعاد والتعذيب والإصابة، عبر عن الحساب بالعرض الذي هو جزؤه، فالمحسن لا يكون له غير ذلك والمسيء يناقش ﴿لا تخفى منكم﴾ أي في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه ﴿لا تخفى منكم﴾ أي في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه ﴿خافية *﴾ أي لا يقع أصلاً على حال من الأحوال شيء من خفاء لشيء كان من حقه الخفاء في الدنيا لا من الأعمال ولا من
359
الأنفس وإن كان في غاية الدقة والغموض لأن ذلك يوم الظهور التام من القبور ومن الصدور، وغير ذلك من الأمور، ليكون ذلك أجل لسعادة من سعد، وأقبح لشقاوة من شقي فأبعد، قال أبو موسى رضي الله عنه: هي ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعندها تتطاير الصحف فأخذ بيمينه وأخذ بشماله.
360
ولما كان من المعلوم أنهم قسمان: محسن ومسيء، وكان التقدير: فنعطي كلاًّ منكم صحيفة أعماله من أفعاله وأقواله وجميع خلائقه وأحواله، فمنكم من تدفع إليه في يمينه فتظهر له حسناته وتستر عنه سيئاته، ومنكم من يعطاها في شمالها فتبدو له سيئاته ويمحي ما كان من حسناته، لأنه أوتي ثوابه في الدنيا بما عجل له من طيباته، عطف عليه مفصلاً له قوله: ﴿فأما من أوتي﴾ بناه للمفعول لأن دلالة السعادة الوقوع في اليمين لا من معط معين ﴿كتابه﴾ أي الذي أثبت فيه أعماله ﴿بيمينه فيقول﴾ لما رأى من سعادته تبجحاً بحاله وإظهاراً لنعمة ربه لأن الإنسان مطبوع على أن يظهر ما آتاه من خير تكميلاً للذته بكبت أعدائه وتفريح أوليائه، قيل: إنه تكتب سيئاته في باطن صحيفته وحسناته في ظاهرها، فيقرأ الباطن ويقرأ الناس الظاهر، فإذا أنهاه قيل له: قد غفرها الله، اقلب الصحيفة، فحينئذ يكون قوله: ﴿هاؤم﴾ أي خذوا أيها الحاضرون من الخلائق الملائكة وغيرهم، فيها صوت يفهم منه معنى:
360
خذوا، ويوصل تارة بالكاف وتارة بالهمزة، اسم فعل، وإنما اختارها هنا ليعلم أن خطابها لجميع أهل الموقف من كان منهم باطناً من الملائكة والجن وغيرهم، ومن كان منهم ظاهراً لأن الألف عند الربانيين غيب وإحاطة كما دل عليها مخرجها، فهي عبارة عندهم عن القائم الأعلى المحيط، وروي معنى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، والهمزة بدء غيبه ولذا كان مخرجها أقصى الحروف الحلقية دلالة على ذلك، وبدء غيب الله سبحانه وتعالى أفعاله وهي تشمل الظاهر والخفي أصلها الكاف فهي عندهم ظهور متكامل ذو استقلال، وهو من يكون من شأنه الظهور، وأبناء الجنس أحق بهذا، وقد دل على ذلك مخرج الكاف الذي بعد القاف من أصل اللسان الأقرب إلى وسطه، ومفعول «ما» محذوف عند البصريين دل عليه «كتابيه» من قوله: ﴿اقرءوا كتابيه *﴾ وهاؤه للسكت، كأنها إشارة إلى شدة الكرب في ذلك اليوم للدلالة على أنه إذا كان هذا السعيد بسكت في كل جملة للاستراحة لا يقدر في الكلام على المضي فما الظن بغيره، وتشير أيضاً مع ذلك إلى فراغ الأمر ونجازة الجزم به والوثوق بأنه لا يغير.
ولما كانت حقيقة الحساب ذكر الأعمال والمجازاة عليها، وكان
361
الآدمي - لأنه مجبول على النقص - لا يقدر أن يقدر الله حق قدره، وكلما كان الإنسان أعلى كان الاستشعار والنقص من نفسه أكثر، وكان من نوقش الحساب - كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عذب، قال مؤكداً لأن من يرى حاله وكتابه ينكر أن يكون له ذنب أو منه تقصير: ﴿إني ظننت﴾ أي في هذا اليوم خوفاً من من سوء أعمالي التي أعرفها من نفسي ﴿أني ملاق﴾ أي ثابت لي ثباتاً لا ينفك أني ألقى بين يدي الديان ﴿حسابيه *﴾ لأني كنت جامعاً كما أمرت بين الخوف والرجاء، فأخاف أن يقابل بين حسناتي وبين النعم فلا تقوم لي أصغر نعمة فأعذب على سيئاتي وأرجو غفرانه، فحقق سبحانه رجائي وأمن خوفي، فعلمت الآن أني لا أناقش الحساب، وإنما حسابي العرض وهو الحساب اليسير بأن تعرض أعمالي فلا أجازى على سيئها وأثاب على حسنها مناً ورحمة وفضلاً ونعمة، ويجوز أن يكون الظن في الدنيا، عبر به عن اليقين إشارة إلى أنه يكفي العاقل في الخوف الحامل له على العمل ظن الخطر، وفيه إشعار بهضم النفس لأن الإنسان لا ينفك عن خطرات من الشبه تعرض له وتهجم عليه وإيذان بأن مثل ذلك لا يقدح في الجزم بالاعتقاد وتنبيه على أنه يكفي في
362
إيجاب العمل الظن فيكون حينئذ تعليلاً لإعطاء الكتاب باليمين، وفيه تبكيت للكفار ونداء عليهم بأنهم لم يصلوا في هذا الأمر المحقق إلى مرتبة الظن، فكيف بالمحقق من العلم فأهملوا العمل له فخالفوا.
ولما كان تقدير هذا واضحاً، سبب عند ما تأثر عن الحساب اليسير من إعطاء الثواب فقال: ﴿فهو في عيشة﴾ أي حالة من العيش.
ولما كان الرضى بالشيء لا يكون إلا إذا بلغ نهاية السؤل وغاية المأمول، قال مسنداً الرضا إلى العيشة كناية عن رضا صاحبها على الوجه الأبلغ: ﴿راضية *﴾ أي ثابت له الرضا ودائم لها لأنها في غاية الحسن والكمال، والعرب لا تعبر عن أكثر السعادات بأكثر من العيشة الراضية بمعنى أن أهلها راضون بها، والمعتبر في كمال اللذة الرضى أو أنه لو كان للعيشة عقل لرضيت لنفسها بحالتها.
ولما شوق سبحانه إلى حال صاحب هذه العيشة، وكانت أمراً إجمالياً، فصلها وبينها بالإبدال منها زيادة في التشويق فقال: ﴿في جنة﴾ أي بساتين جامعه لجميع ما يراد منها.
ولما كان شرف المسكن العلو قال: ﴿عالية *﴾ أي في المكان والمكانة والأبنية والدرجات والأشجار وكل اعتبار.
363
ولما كان من شأن المعالي عسر الوصول إليه قال: ﴿قطوفها﴾ أي جمع كثرة لقطف - بالكسر وهو ما يجنى من الثمرات المجتمعة في عرق من عروقه ﴿دانية *﴾ أي قريبة المأخذ سهلة التناول جداً، لراكب والقائم والقاعد والمضطجع، كل ذلك على حد سواء دائماً من غير انقطاع ولا كلفة على أحد من أهلها في تناول شيء من ذلك.
ولما كان كون الثمار بهذه الصفة دالاً على كثرة الري، وكثرة الري دالة على المشرب، وكانت من مفردات اللفظ عامة المعنى، فكان قد أفرد الضمائر باعتبار لفظها تنصيصاً على كل فرد فرد جمع باعتبار المعنى إعلاماً باشتراك جميع أهلها في النعم حال الانفراد والاجتماع فقال: ﴿كلوا واشربوا﴾ أي مولى لهم ذلك إشارة إلى أن ذلك لا مانع منه وإلى أنهم يؤمرون به صريحاً دلالة على رضا صاحب الجنة لئلا يتنغص عليهم عيشهم بنوع من الأنواع الموهمة للخطر، وحذف المفعول إيذاناً بالتعميم لئلا يظن أنه يستثني منها شيء فيكون سبب الفتنة كما وقع لآدم صلوات الله وسلامه عليه.
ولما كان المآكل والمشارب في هذه الدار تورث التخم والأمراض وفيها ما لا يلذ، وكان ما وقع لأبينا آدم وأمنا حواء عليهما
364
الصلاة والسلام على أكلة واحدة من وخامة العاقبة معروفاً، قال مؤمناً من ذلك: ﴿هنيئاً﴾ أي أكلاً طيباً لذيذاً شهياً مع البعد عن كل أذى وسلامة العاقبة بكل اعتبار ولا فضلة هناك من بول ولا غائط ولا بصاق ولا مخاط ولا قرف ولا قذر ولا وهن ولا صداع ولا ثقل ولا شيء مؤذ.
ولما شوق إلى المسببات حملهم على أسبابهم وحضهم على المسابقة في تحصيلها والمثابرة والمداومة على الاستكثار منها؛ فقال زيادة في لذتهم بأن ذلك على وجه العوض لا امتنان عليهم في شيء منه لأحد من الخلق، فإن أحب ما إلى الإنسان أن يأكل مما أفادته يمينه وحصله بعمله مع ما في ذلك من الشرف: ﴿بما أسلفتم﴾ أي أعطيتم من أنفسكم لآخرتكم طوعاً من الأعمال الصالحة وبما تركتم من الدنيا مما هو سافل بالنسبة إلى ما عوضتم عنه من أعمال القلب والبدن والمال ﴿في الأيام﴾ ولما كان سبحانه قد ضمن كل ما يشتغل به الإنسان من مصالح دنياه فهو واصل إليه لا محالة وإن فرغ أوقاته كلها لعبادة ربه قال: ﴿الخالية *﴾ أي الماضية في الدنيا التي انقضت وذهبت واسترحتم من تعبها والتي لا شاغل فيها عن العبادة. إما بترك الاشتغال بالمعاش للواصل إلى درجة التوكل، وإما بالسعي على وجه الاقتصاد بقصد المساعدة للعباد
365
في أمور هذه الدار والإفضال عليهم وإن لا يكون كلاًّ عليهم من غير اعتماد على السعي بل امتثالاً للأمر مع القناعة بالكفاف.
366
ولما كانت العادة جارية بأن أهل العرض ينقسمون إلى قسمين: مقبول ومردود، وذكر سبحانه وتعالى المقبول بادئاً به تشويقاً إلى حاله وتغبيطاً بعاقبته وحسن مآله، أتبعه المردود تنفيراً عن أعماله بما ذكر من قبائح أحواله فقال: ﴿وأما من﴾ ولما كان الدال على المساءة الإيتاء على وجه قبيح، لا تعيين المؤتي، قال بانياً للمفعول لذلك وللدلالة على ذل الأخذ وعدم قدرته على الامتناع عن شيء يسوءه: ﴿أوتي كتابه﴾ أي صحيفة أعماله - أعاذنا الله من ذلك ﴿بشماله فيقول﴾ أي لما يرى من سوء عاقبته التي كشف له عنها الغطاء حتى لم يشك فيها لما يرى من قبائحه التي قدمها، وكل ما يأتي مما يوهم سكتة في ذلك اليوم فمن باب المكابرة والمدافعة بالباطل على ما كان عليه في الدنيا ﴿يا ليتني﴾ تمنياً للمحال، وجرى عن نسق ما مضى في البناء للمفعول الدال على ذله وعدم جبلته فقال: ﴿لم أوت﴾ أي من مؤت ما ﴿كتابيه *﴾ أي هذا الذي ذكرني بخبائث أعمالي وعرفني جزاءها ﴿ولم﴾ أي ويا ليتني لم ﴿أدر﴾ ولو حاولت الدراية ﴿ما﴾ أي حقيقة ﴿حسابيه *﴾
366
من ذكر العمل وذكر جزائه، بل استمريت جاهلاً لذلك كما كنت في الدنيا. ولما تمنى هذين الشيئين، استأنف مراده بهما فقال لأنه رأى أن ما يستقبله شر مما كان فيه من البرزخ: ﴿يا ليتها﴾ أي الموتة التي منها ﴿كانت القاضية *﴾ أي الباتة الجازمة الملزمة لدوام الموت الخاتمة عليها حتى لا يكون بعدها بعث ولا شيء غير الموت كما كنت أعتقد في الدنيا؛ قال الإمام الرازي: وفي الحديث «تمنوا الموت» أي إذ ذاك ولم يكن في الدنيا شيء أكره منه عندهم.
ولما كان التمني مفهماً لأنه كان له ضد ما تمناه من البعث على ما كانت تخبره به الرسل ومن الحساب الذي هو سر البعث وخالصه، وقد كان يقول: إنه يتخلص منه، على تقدير كونه، بماله وجاهه قال معللاً لتمنيه: ﴿ما أغنى﴾ نافياً تأسفاً على فوات ما كان يرجو من نفعه، والمفعول على هذا التقدير محذوف للتعميم، أو مستفهماً استفهام إنكار على نفسه وتوبيخ حيث سولت له ما أثمر له كل سوء وكل محال منازعة للفطرة الأولى المؤيدة بما أخبرت به الرسل حتى أوقعه ذلك التسويل في الهلكة ﴿عني ماليه *﴾ أي الذي منعت منه حق الله وتعظمت به على عباده. وهذا النفي للإغناء سائغ مفهوم على كل من تقريري النفي والاستفهام.
367
ولما كان المال سبب الوصول إلى السلطان، قال نافياً لما أوصله إليه ماله شارحاً لعدم إغنائه، ﴿هلك عني﴾ أي مجاوزاً لي حتى كأني لم أكن فيه ساعة قط ﴿سلطانيه *﴾ أي تسلطي على الدعاة إلى الله بالشبه الباطلة التي كان يطلق اللسان بها فأساعده عليها مع ظهور بطلانها الملك الذي أوصل إليه المال فعاد لأن ذلك الملك الأعظم هلك والمساعد أبعد مباعد.
ولما كان كأنه قيل: هذا ما قال، فما يقال؟ أجيب بأنه يقال للزبانية تعذيباً لروحه بالتوبيخ والأمر بالتعذيب على رؤس الأشهاد: ﴿خذوه﴾ أي أيها الزبانية الذين كان يستهين بهم عند سماع ذكرهم.
ولما كان الأخذ دالاً على الإهانة الناشئة عن الغضب، سبب عنه قوله: ﴿فغلوه *﴾ أي اجمعوا يديه إلى عنقه ورجليه من وراء قفاه إلى ناصيته.
ولما كان الغل لما بعده من العقاب، قال معظماً رتبة عقابه في الشدة والهول بالتعبير بأداة التراخي: ﴿ثم الجحيم﴾ أي النار العظمى التي تجمح على من يريد دفاعاً وتحجم عنها من رآها لأنها في غاية الحمو والتوقد والتغيظ والتشدد ﴿صلوه *﴾ أي بالغوا في تصليته إياها
368
وكرروها لغمسه في النار كالشاة المصلية مرة بعد أخرى ولا تصلوه في أول أمره غيرها لأنه كان لا يألو جهداً أن يحرق قلوب النصحاء بأشد ما يقدر عليه من الكلام وغيره، وكان يتعظم على الضعفاء، فناسب أن يصلي أعظم النيران، وعبر أيضاً بأداة التراخي لعلو رتبة مدخولها، فقال مؤذناً بعدم الخلاص: ﴿ثم في سلسلة﴾ أي عظيمة جداً لا ما هو دونها.
ولما قدمها دلالة على الاهتمام بها وعلى تخصيصها لشدة مخافتها، عرف بعظيم هولها وشدة فظاعتها ليجتمع المفهوم والمنطوق على تهويلها فقال: ﴿ذرعها﴾ أي في أيّ شيء فرضت من طول أو عرض ﴿سبعون ذراعاً﴾ يحتمل أن يكون هذا العدد حقيقة، وأن يكون مبالغة، والذي يدل على أنها للمبالغة ما رواه الترمذي - وقال: إسناده حسن - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن رصاصة مثل هذه - وأشار إلى مثل الجمجمة - وأرسلت من السماء إلى الأرض - وهي مسيرة خمسمائة سنة - لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها وقعرها» وأشار سبحانه
369
إلى ضيقها على ما تحيط به من بدنه بتعبيره بالسلك فقال: ﴿فاسلكوه *﴾ أي أدخلوه بحث يكون كأنه السلك - أي الحبل - الذي يدخل في ثقب الخرزة بعسر لضيق ذلك الثقب إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأن تلف عليه فيصير في غاية الضنك والهوان لا يقدر على حركة أصلاً، وهذا تعذيب القالب لأنه أفسد القلب بعدم الإيمان والقالب بعدم الأعمال.
ولما ذكر على الإجمال عقابه أتبعه أسبابه، فقال بادئاً بأعظمها مؤكداً لأن كل كافر حتى المعطل يقر بالله تعالى نوع إقرار ويدعي الإيمان به نوع ادعاء، لأنه لا يقدر على غير ذلك لما له سبحانه من غلبة الظهور وانتشار الضياء والنور: ﴿إنه كان﴾ أي جبلة وطبعاً وإن أظهر شيئاً يلبس به على الضعفاء ويدلس على الأغنياء ﴿لا يؤمن﴾ أي الآن ولا في مستقبل الزمان ﴿بالله﴾ أي الملك الأعلى الذي يعلم السر وأخفى.
ولما كانت عظمة الملك موجبة لزيادة النكال لمن يعانده على قدر علوها، وكان الذي أورث هذا الشقي هذا الخزي هو تعظمه على أمر الله وعباده، أشار إلى أنه لا يستحق العظمة غيره سبحانه فقال: ﴿العظيم *﴾ أي الكامل العظم.
370
ولما بين عناده للملك الأعظم بإفساده القوة العلمية بين ما يوجبه الكفر من احتقاره للضعفاء إفساداً للقوة العملية إعلاماً بأنه مكلف بفروع الشريعة كما أنه مكلف بأصولها، وبياناً لأن عناده لمن فوقه لرداءة طبعه لا لعلو همته، فقال معظماً لهذا الذنب لجعله في سياق الكفر وبالتعبير بالحض مشيراً به إلى أن فاعل ذلك شديد الاستغراق في حب الدنيا لأنه لا يمنعه من حث غيره على الخير إلا ادخاره لنفسه: ﴿ولا يحض﴾ أي يحمل ويحث ﴿على﴾ بذل ﴿طعام﴾ أو إطعام ﴿المسكين *﴾ أي تسهيله بإعانته عليه إن كان موجوداً، والسؤال في بذله وما يقوم مقامه إن كان مفقوداً، فكيف بالبذل من عنده، فإن ذلك لا يحمل عليه إلا الإيمان لخلوه عن حظ، والتقييد يفهم أنه يحث على خدمة الأكابر الجبابرة ويحب العكوف على أبوابهم والإضافة مع التعبير بالطعام دون الإطعام تشعر بأن الفقراء يملكون كفايتهم من أموال الأغنياء، فدل ذلك على أنه مع كفره هو أشنع صفات الباطن في غاية الشح والقساوة وعدم المروءة للإعراض عن أسباب التمدح وعن التنزه عن سوء القالة وقبيح الذكر، وذلك أشنع الرذائل، فلذلك خصص هذين الأمرين، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يحض على طعامهم ويقول: خلعنا نصف السلسة بالإيمان أفلا نخلع الآخر -
371
يعني بالحث على الإطعام، وذمه على الاستهان بالمساكين يفهم الذم على الاستهانة بمن هم دونهم ممن هو أسوأ حالاً منهم بطريق الأولى.
ولما وصفه سبحانه وتعالى بأقبح العقائد وأشنع الرذائل، سبب عنهما في مقابلة إفساد القوتين العلمية قوله: ﴿فليس له اليوم﴾ ولما ذكر الزمان المتعقب للبعث، ذكر المكان الكائن فيه وهو الدار الآخرة فقال: ﴿ههنا﴾ أي في مجمع القيامة كله ﴿حميم *﴾ أي صديق خالص يحترق له ويحميه من العذاب لأنهم كلهم له أعداء كما أنه هو كان لا يرق على الضعفاء فيما هم فيه من الإقلال من حطام الأموال.
ولما نفى عنه الجاه لانسلاخه من حزب الملك الولي الودود، وتحيزه إلى حزب الشيطان العدو الجحود، أتبعه المقصود بالمال الذي تنشأ عنه جميع الاستمتاعات ويقصد عنده الاجتماع والأنس بالأصحاب لإخلاده إلى ماله وإعراضه عن عيال الملك لأجل ضعفهم الذي وهبه المال وأمره بمواساتهم فيه فقال: ﴿ولا طعام﴾ ولما كان الاستثناء معياراً للعموم قال: ﴿إلا من غسلين *﴾ أي غسالة أهل النار من فيحهم وصديدهم، فعلين من الغسل، ويلزم من هذا الطعام أن
372
يكون تحت غيره ليسيل ماء غسالته إليه.
ولما حصر طعامهم فيما لا يقربه أحد باختياره، حصر من يتناوله معبراً عنهم بالوصف الذي أوجب لهم أكله فقال: ﴿لا يأكله﴾ وفرغ الاستثناء تنبيهاً على أن المستثنى هو المقصود حتى كأنه لا مستنثى منه فقال: ﴿إلا الخاطئون *﴾ أي يأكله المتعمدون للخطايا لا غيرهم، وهو من خطأ الرجل بوزن فرح مهموزاً - إذا تعمد الذنب، وأما المخطىء فهو من قصد الخير فلم يصبه بغير تعمد ﴿فليس عليكم جناح فيما أخطأتم به﴾ أي أردتم الصواب فلم تصيبوه، وهذا الطعام يغسل ما في بطونهم من الأعيان والمعاني التي بها قوام صاحبها، وهو بمنزلة ما كانوا يشحون به من أموالهم التي أبطنوها وادخروها في خزائنهم واستأثروا بها على الضعفاء.
ولما ذكر سبحانه وتعالى الحاقة التي جعلها دار الحساب للمحسن والمسيء اللذين قسمتهما القدرة واقتضتهما الحكمة، وصوب إليهما القرآن الذي هو ذكر للعالمين بالوعد والوعيد والبشارة والتهديد، ومن المعلوم ببديهة العقل أنه لا يصح أصلاً في حكمة أحد أن يترك من تحت يده هملاً لا سيما إن كان تقدم إليهم بالأمر والنهي، وأقام الدليل على قدرته عليها بتعذيب من استأصلهم لأجل تكذيب رسله ليكون
373
عذابهم وتنجية المحسنين منهم مثلاً محسوساً تشهد فيه الحاقة، لأن من قدر على ذلك كانت له القدرة التامة على كل ممكن، وذكر ما دلت الحكمة عليه من تنعيم الطائع وتعذيب العاصي بما هو أنسب الأشياء لعمل كل منهما في هذه الأساليب المعجزة مفردات وتراكيب ومعاني، فدل ذلك على آخر سورة «ن» عاد إلى تقريره بوجه آخر، وهو أنه لتمام علمه وكمال قدرته لا يقرر من كذب عليه على كذبه فضلاً عن أن يؤيده، فقال مسبباً عن ذلك حين بلغ الأمر في الوضوح إلى النهاية، ذاكراً ما هو أبلغ من القسم لأن بعض أهل الجدل إذا حجه خصمه يقول: إنما غلبتني بأنك أتقن مني في الجدل بالحق، فإن الحق معي، فيحلف له صاحبه أنه ما غالطه ولا تعمد في جدله إلا الحق، ﴿فلا أقسم﴾ أي لا يقع مني إقسام ﴿بما﴾ أي بمجموع ما ﴿تبصرون *﴾ أي لكم أهلية إبصاره من كل ما دخل في عالم الشهادة ﴿وما لا تبصرون *﴾ أي ما ليس لكم في هذا الدار أهلية إبصاره، وذلك جميع الموجودات واجبها وجائزها معقولها ومحسوسها، لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى إقسام وإن كنت أقسم في غير هذا الموضع بما شئت من أفراد هذا المجموع.
374
ولما أكد غاية التأكيد بما قال من أن الأمر وصل في الوضوح إلى حد لا يحتمل التأكيد، فكان ذلك تأكيداً بعدم التأكيد، استأنف الخبر عما أخبر أنه لا يحتاج إلى إقسام بإثبات أداة التأكيد لأجل إنكارهم ليكون الكلام جامعاً بين التأكيد بالنفي وبين التأكيد بالإثبات فقال: ﴿إنه﴾ أي هذا الذي ختمت به سورة «ن» ودل على الساعة بما أتى به من هذه الأساليب التي هي مع كونها حكيمة معجزة ﴿لقول﴾ أي تلاوة ﴿رسول﴾ أي أنا أرسلته وعني أخذه، وليس فيه شيء من تلقاء نفسه إنما هو كله رسالة واضحة جداً، أنا شاهد بها بما له من الإعجاز الذي يشهد أنه كلامي.
ولما كان من شأن الرسول أن لا يبلغ إلا ما أرسله به مرسله، وكان بعض الرسل ربما زاد أو نقص تعمداً أو سهواً، أخبر أن له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوصف ما يحفظه فقال: ﴿كريم *﴾ أي هو في غاية الكرم الذي هو البعد عن مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها لشرف النفس وشرف الآباء فهو لا يزيد ولا ينقص، وكرم الشيء اجتماع الكمالات اللائقة به فيه.
375
ولما أثبت أنه قوله سبحانه وتعالى لأنه قول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنا وهولا ينطق عن الهوى، نفى عنه ما يتقولونه عليه، فبدأ بالشعر وهو ما يقوله الإنسان من تلقاء نفسه على وزن مقصود صدقاً كان أو كذباً، ولا بد فيه للتقيد بالوزن والقافية من التكلف الذي القرآن بعيد عنه، وهو مع مشاركته للسجع في التكلف الناقص للمعنى أعلى منه بالوزن الذي يكسبه الرونق والحلاوة فقال: ﴿وما هو﴾ أي هذا الذكر في باطن أمره ولا ظاهره، وأكد النفي فقال: ﴿بقول شاعر﴾ أي يأتي بكلام مقفى موزون بقصد الوزن، وإنما قيل أنه ليس بقول من هو كذلك لأنه، لا يوافق الوزن فيه إلا أماكن نادرة بالنسبة إلى مجموع القرآن، ومن المقطوع به أن ذلك لا يرضى به شاعر وهو أنه ينصب نفسه منصب النظم والارتهان بعهدة الوزن، ثم يأتي بكلام أكثره غير موزون، فعلم قطعاً أن الذي وافق الوزن فيه غير مقصود فليس بشعر.
ولما كانت مخالفة القرآن للشعر خفية من حيث أنه لا يعرف ذلك إلا الشعراء وهم قليل في الناس، والأغلب لا يعرفون ذلك، ختم الآية بالإيمان الذي هو التصديق بالغيب فقال تعالى: ﴿قليلاً ما تؤمنون *﴾ أي ما توجدون التصديق الذي هو الإيمان إلا إيجاداً أو زماناً قليلاً، وذلك لأني قد أخبرتكم بذلك في غير موضع فلم تصدقوا وفيكم شعراء كثير يعرفون
376
معرفة تامة أنه مخالف للشعر، وقد أخبركم بعضهم بذلك كالوليد بن المغير وعتبة ابن ربيعة وغيرهما ثم لا تتبعون ذلك ثمرته، وهو الإيمان بالله ورسوله، وإيمانهم القليل إقرار من أقر من شعرائهم أنه ليس بشعر، وإخلاصهم بالوحدانية عند الاضطرار وإفرادهم الخالق بالخلق والربوبية، وهو إيمان لغوي لا شرعي، ولما كان من يعرف الشعر يعرف النثر فهو أعلى فقدمه، أتبعه النثر فقال: ﴿ولا بقول كاهن﴾ وهو المنجم الذي يخبر عن أشياء يوهمها لرئي يخبره بذلك، وأغلبها ليس لها صحة، وعبارته عن ذلك بالسجع المتكلف المقصود كونه سجعاً الذي يكون المعنى فيه تابعاً للفظ للتحلية بمشاكلة المقاطع.
ولما كانت مباينة القرآن للسجع خفية جداً لما فيه من الفواصل في الأغلب وتركها في البعث فارق لأن الساجعين لا يرضون أن يأتوا بقرينة لا أخت لها ويعدون ذلك وعياً عيباً رديئاً، وكذا تطويل السجعة عن قرينتها وتضعيفها على عديلتها لا يرضى به ساجع ولو أنه هاجع، ومباينة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للكهنة ظاهرة جداً، فإن الكاهن من ينصب نفسه للدلال على الضوائع والإخبار بالمغيبات يصدق فيها تارة ويكذب كثيراً، ويأخذ الجعل على ذلك، ويقتصر على من يسأله، فعبر لذلك ب «كاهن» دون «ساجع» أدار أمره على التفكر
377
فقال: ﴿قليلاً ما﴾ وأكد أمر القلة والخفاء بإدغام تاء التفعل فقال تعالى: ﴿تذكرون *﴾ فلذلك يلتبس عليكم الأمر أو على من تلبسون عليه بذلك، فعلم أن الذي يفرق بينهما موجود فيهم لأنه يرى أن الكتاب تابع للمعنى الصحيح الثابت، فإن صح غاية الصحة مع وجود القرائن المتوافقة في الروي كان وإلا انتقل عن ذلك إلى قرائن غير متوافقة في روي ولا ما يقاربه، أو قريبة مفردة مع إمكان جعلها كما قبلها لكن مع نقصان المقصور وطول الكلام ونحو ذلك، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدّع يوماً من الأيام علم الغيب ولا نصيب نفسه الشريفة لشيء مما الكهان فيه ولا نقل في ساعة من الدهر عن الجن خبراً ذكر أنه استفاده منهم ولا مدحهم لذلك كما تفعل الكهان، بل ذم الفاسقين منهم غاية الذم وقال: إن أكثر ما يأتون به الكذب، ولا سأل جعلاً عما يدعو إليه ولا اقتصر على من يأتيه للسؤال، بل هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتبع الناس في مجامعهم يدعوهم إلى الله بإنقاذهم نم الضلال فمباينته للكهان لا يحتاج إلى غير تذكر قليل - كما أشار إليه إدغام تاء التفعل - فثبت أن القول ليس بكهانة، وقائله والمؤدي له ليس بكاهن، ونسبة القول إلى المبلغ لكونه مبلغاً واضحة الصحة.
378
ولما أثبت أنه قول الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، ونفى عنه ما قد يلبس من الشعر والكهانة، ولم يذكر ما كانوا يرمونه به من السحر والأضغاث لأنه عتاد محض لا يرتاب أحد فيه، وكانت السورة مقصوداً فيه إثبات الحقائق التي قد تخفى، وصفه بما يحقق ما أريد من نسبته إلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ﴿تنزيل﴾ أي على وجه التنجيم وأشار إلى إرساله إلى جميع الخلق من أهل السماوات والأرض بقوله: ﴿من رب العالمين *﴾ أي موجدهم ومدبرهم بالإحسان إليهم بما يفهم كل منهم من هذا الذكر الذي رباهم به، ورتب سبحانه نظمه على وجه سهله على كل منهم شيئاً يكفي في هدايته البيانية بخلاف الشعر والكهانة فإنه لا يفهمهما إلا قليل من الناس لا جميع العالمين، بل كثير من أكابر العلماء وحذاقهم ربما قرىء على أحد منهم الآن القصيدة من قصائد العرب فلا يفهم المراد منها ولا يتضح له بوجه.
ولما كان قد بقي من الأقسام التي كانوا يتقولونها عليه الافتراء في الرسالة بمعنى أنه عثر على بعض كتب الله تعالى التي نزلت على من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فانتحلها من غير أن يوحى إليه، وكان الدليل على أن ذلك ليس كذلك أن العادة تحيل أن يطلع شخص من الناس على شيء لم يطلع أحد منهم ولا سيما إن كان ذلك الشخص قليل المخالطة للعلماء فكيف إذا كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ كما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
379
قال عاطفاً على ما تقديره: فلو لم يكن تنزيل رب العالمين عليه لم يعجزوا عنه: ﴿ولو تقوّل﴾ أي كلف نفسه أن يقول مرة من الدهر كذباً ﴿علينا﴾ على ما لنا من صفات العظمة والجلال والبهاء والكمال والكبرياء ﴿بعض الأقاويل *﴾ التي لم نقلها أو قلناها ولم نأذن له فيها، وهو جمع أفعولة من القول كالأضاحيك جمع أضحوكة، لا جمع أقوال، ليكون جمع الجمع، لأنه يلزم عليه أن لا يعاقب بما دون ثلاثة أقوال ﴿لأخذنا﴾ أي بعظمتنا أخذ قوة وغضب وقهر وإهلاك، وأكده للإعلام بشدة الغضب من الكذب وشدة قبحه.
ولما كان أخذه أخذاً يتلاشى عنده كل أخذ لأن من افترى على الملوك لا يفعل به إلا ذلك قال: ﴿منه﴾ أي خاصة ﴿باليمين *﴾ أي التي هي العضو الأقوى منه فيها يكون بطشه فنذهبه بشدة بطشنا، أو اليمين منا، فيكون كناية عن أخذنا له بغاية القوة، فإن قوة كل شيء في ميامنه، وقيل: إذا أراد الملك إهانة شخص قال: خذه يا فلان، فيأخذه بيمينه، فهو كناية عن الإذلال، وقيل: هذا تصوير قتل الصبر بأشنع صورة، فإن الملك إذا أراد التخفيف على من يقتله أمر السياف فأخذ يساره بيساره، وضرب بالسيف من ورائه لأن العنق
380
من خلف أوسع فيكون أسرع قطعاً ولا يرى المقتول لمع السيف، وإن أراد التعذيب والمبالغة في الإهانة أخذ يده اليمنى بيده اليسرى وضربه وهو مستقبل له يرى لمع السيف، وربما وقعت الضربة لضيق المجال من قدام في حنكه فيحتاج إلى ثانية وثالثة فهو أفحش.
ولما صور مبدأ الإهلاك بأفظع صورة، أتمه مشيراً إلى شدة بشاعته بحرف التراخي فقال: ﴿ثم لقطعنا﴾ حتماً بلا مثنوية بما لنا من العظمة قطعاً يتلاشى عنده كل قطع ﴿منه الوتين﴾ أي العرق الأعظم في العنق الثابت الدائم المتين الذي يسمى الوريد، وهو بين العلباء والحلقوم، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نياط القلب، وفي القاموس: عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه - انتهى. واختير التعبير به لأن مادته بهذا الترتيب تدور على المتانة والدوام، فلذا كان يفوت صاحبه بفواته، وقال ابن برجان: عرق متصل بنياط القلب مستبطن للصلب يملأ الجسد كله تسقيه الكبد وهي بيت الدم وهو يجري منها الدم في البدن يأخذ منه ستون عرقاً هي أنهار الدم في الجسد كله، من هذه الأنهار تأخذ الجسد ثمانية عشر تسقي الصدر، وسبعة تسقي العين، وأربعة تسقي الدماغ، والوتين من مجمع الوركين إلى مجمع
381
الصدر بين الترقوتين، ثم ينقسم عنه سائر العروق إلى سائر الجسد، ولا يمكن في العادة الحياة بعد قطعه، وفي المائدة عند قوله ﴿والله يعصمك من الناس﴾ [المائدة: ٦٧] ما ينفع هنا.
382
ولما أتم تصوير ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه من أن يأخذ السيئات أو أعوانه بيمينه ويكبحه كالسيف فيضربه عنقه، سبب عنه قوله إتماماً لعظمته بقوله: ﴿فما منكم﴾ أي أيها الناس، وأعرق في النفي فقال: ﴿من أحد عنه﴾ أي القتل أو المقتول المنقول، ولما كان «أحد» عاماً حقق عمومه واصفاً له، وأخبر عن «ما» على لغة الحجاز بقوله: ﴿حاجزين *﴾ أي يكون حاجزاً جزماً كثيفاً مانعاً من الوصول إليه فلا غرض يتعلق من عاقل أن ينصح لأحد بنصيحة تعود إلى المنصوح وحده بالنفع ولاحظ للقائل فيها بكذب يكلف نفسه تقوله على ملك لا يقدر ذلك المنضوح أن يحميه من عقوبته على ذلك الكذب، واختار الإخبار بالجمع لأنه يدل على عدم حجز الفرد من باب الأولى و «منكم» حال لتقدمه، وهذا كله كناية على أبلغ الوجوه عن أن هذا الذكر كلام الله لا شبهة فيه بوجه، مضموماً ذلك إلى وجوه إعجازه، فإن «لو» لامتناع الثاني لأجل امتناع الأول، فالتقدير كما يقال في القياس الاستثنائي: لكنا لم نأخذه هذا الأخذ فثبت أنه ما تقول علينا شيئاً، فثبت أن ما قال كلامنا ثبوتاً تاماً بالبرهان على وجه لا يرام نقضه.
382
ولما كان هذا كناية عن هذا من غير نظر إلى حقائق مفرداته ولا معنى شيء منها على انفراده، فكان كأنه قيل: تنزيل من رب العالمين غير متخيل فيه الكذب بوجه، عطف على ذلك قوله: ﴿وإنه﴾ أي القرآن بعد أن كان ذكراً لجميع العالمين ﴿لتذكرة﴾ أي مذكر عظيم جداً ﴿للمتقين *﴾ أي من العالمين لأنهم المنتفعون به لإقبالهم عليه إقبال مستفيد.
ولما علم من هذا أنه سبحانه عالم بقسمي المسيء والحسن ظواهرهم وبواطنهم، صرح بالقسم الآخر، فقال مؤكداً لأجل إنكار الضلال: ﴿وإنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿لنعلم﴾ أي علماً عظيماً محيطاً ﴿أن منكم﴾ أيها الأرضيون السفليون الذين ليس لهم أهلية العلو إلى تجريد الأرواح عن علائق الجسد الكثيفة ﴿مكذبين *﴾ أي عريقين في التكذيب فأنزلنا الكتب وأرسلنا الرسل ليظهر منكم إلى عالم الشهادة منها ما كنا نعمله في الأزل غيباً من تكذيب وإيمان فتستحقون بذلك العقاب أو الثواب، فلذلك وجب في الحكمة التي لا يكذب بها أحد ولا يشك في أنها خاصة الملك المظهرة للكمال أن يعيد الخلق إلى ما كانوا عليه من أجسامهم قبل الموت لنحكم بينهم فنجازي كلاًّ
383
بما يليق به إظهاراً للعدل.
ولما كان سبب التكذيب ستر ما تجليه مرائي العقول من الدلائل، وكان التقدير: فإنه بشرى للمؤمنين، ولكنه طواه لأن السيق للتهديد بالحاقة، عطف عليه قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب به، ﴿وإنه﴾ أي القرآن العظيم ﴿لحسرة﴾ أي بما يرى من تأويله في الدنيا والآخرة ﴿على الكافرين *﴾ أي العريقين في الكفر لكونهم كذبوا به لما يظهر لهم من جزائهم وجزاء المؤمنين.
ولما كان كل من الفريقين يذوق جزاءه في الآخرة، هـ وكان كل أحد سمع القرآن ذاق أنه لا يقدر على الإتيان بشيء يماثله ولا يدانيه، قال مؤكداً تنزيلاً لهم في عداد الجاهلين: ﴿وإنه﴾ أي القرآن أو الجزاء في يوم الجزاء ﴿لحق اليقين *﴾ أي الأمر الثابت الذي يذاق فيصير لا يقبل الشك فهو يقين مؤكد بالحق. من إضافة الصفة إلى الموصوف، وهو فوق علم اليقين، وفي ذلك إشارة إلى أن العبد ينبغي له أن يتحقق لذلك معرفة الحق فيكون مشاهداً للغيوب كمشاهدة المرئيات لما يشاهد من أمثالها، فأمر البعث يشاهد كل يوم في الليل والنهار وفي العام في النبات وغير ذلك.
ولما كان البعث لهذا المقصد من أعظم الكمال، وكان عدمه موجباً للنقص، سبب عن كلا الأمرين إشارة وعبارة قوله آمراً بعد
384
الإخبار في أول المسبحات: ﴿فسبح﴾ أي أوقع التنزيه الكامل عن كل شائبة نقص ﴿باسم﴾ أي بسبب علمك بصفات ﴿ربك﴾ أي الموجد والمربي لك والمحسن إليك بأنواع الإحسان ﴿العظيم *﴾ الذي ملأت الأقطار كلها عظمته، وزادت على ذلك بما شاءه سبحانه مما لا تسعه العقول لا سيما عن قولهم: لن يعيدنا، فإنه سبحانه وتعالى قادر على ذلك لا يعجزه شيء، وقد وعد بذلك وهو صادق الوعد، وعدم البعث مخل بالحكمة لظلم أكثر الناس، وفيه إشارة إلى المتاركة، وتعجيب من حالهم في تصميمهم على الكذب والعناد، والجلد على الجدل والفساد، فقد رجع آخر السورة على أولها بإحقاق الحاقة لنفي ما وقع الخبط فيه في دار الاحتجاب بالأسباب من مواقع النقص ومظنات اللبس، فيثبت الحق وينفي الباطل فيفرق بين المحسن والمسيء والسعيد والشقي، فيحق السلام لحزب الرحمن، ويثبت الهلاك لأصحاب الشيطان، ويظهر اسمه الظاهر لكل مؤمن وكافر، إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب والله الهادي.
(سورة المعارج)
وتسمى سأل.
مقصودها إثبات القيامة وأنذار من كفر بها وتصوير عظمتها بعظمة
385
ملكها وطول يومهت وتسلية المنذر بها بما لمن كذبه بما له من الصغار والذل والتبار، ودل على وجوب وقوعها سابقا بما ختمه بتسميتها في السورة الماضية بالحاقة تنبيها على أنه لا بد منها ولا محيد عنها، ودل على ذلك بالقدرة في أ، لها والعلم في اثنائها والتنزه عما في إهمالها من النقص في آخرها ولا خفاء بما أخبر من أنه أرسل جميع رسله بالتحذير منها فأرسل نوحا عليه السلام يفي الزمان الأقدم كما ذكر في سورته عند ما اختلف الناس بعدما كانوا عليه يفي زمان أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام من الاتفاق على الدين الحق فافترقوا إلى مصدق ومكذب، فعلم منه أ، من بعده أولى بذلك لقربهم منها وأتبع ذلك الإعلام أنه دعاإلى ذلك الجن الذين كان سبيلهم فيها سبيل الآدميين، وأتبع ذلك بعد إرسال أول الرسل بها زمانا - آخرهم زمانات وأولهم نبوة حين كان نبيا وآدم بين الروح والجسد، فبدا بسورة المزمل بنبوته ومزيد ترزكيته وتقديسه ورفعته والإخبار عن رسالته والتحذي من مخالفته، وأتبع ذلك الإنذار بها بالصدع بالرسالة بمحو كل ضلالة، فلما تقررت نبوته وثبتت رسالته على أجمل الوجوه وأجلاها
386
وأبينها وأعلاها، اشرفها وأولاها، جعل سبحانه سورة القيامة كلها لها إعلاما بأن الأمر عظيم جدا يجب الاعتناء به والتأهب له والاجتهاد بغاية القوة وإفراغ الجهد، ثم اتبع ذلك الإنسان دلالة على أنه المقصود بالذات من الأكوان، فاليسوغ في الحكمة أن يجعله سبحانه سدى وبين كثيرا من أحوالها ثم أقسم في المرسلات أن أملاها حق لا بد منه ولا مندوحة عنه، ثم عجب في " عم " منهم في تساؤلهم عنها وتعجيبهم منها ثم أقسم على زقزعها في النازعات وصور من أمرها وهزاهزها ما أراد، ثم أولى ذلك الدلالة في سورة عبس على أن من الناس من طبع على قلبه فلا حيله في تصديقه بها مع ما تبين بالسورة الماضية وغيرها من أمرها، ثم صورها في " كورت " تصوير صارت من رأي عين لو
كشف الغطاء ما ازداد الموقنون بها يقينا، ثم بين في الانفطار أن الأمور فيها ليست على منهاج الأمور هنأ، بل الأسباب كلها منقطعة والأنساب مرتفعة، والكل خاضعون مخبتون خاشعون، أعظمهم في الدنيا تجبرا أشدهم هنالك صغارا وتحسرا، ثم أتبع ذلك من يستحق هنالك النكال والسلاسل والأغلال، ثم أولاه رفعة أهل الإيمان الذين طبعهم على الإقرار بها والعرفان، واستمر على هذا إلى آخر القرآن قل أن تأتي سورة إلا وهي معرفة بها غاية المعرفة إلى أن ختمك بالدين إشارة بذلك إلى أن معرفتها هي الدين
387
وأشار في " تبت " إليها وأتبعها الإخلاص إشارة إلى أنه لا يسلم فيها إلا الموحدون المعاذون من الفتن الظاهرة والباطنة، المتصفون بالمحامد المتعاظمة المتكاثرة، فآذن ذلك أن أكثر غاية القرآن في أمرها العظيم الشأن لأنه لا كتاب بعد هذا الكتاب ينتظر ولا أمة أشرف من هذه تخص ببيان أعظم من بيانها وهو أحد الأوجه التي فاق بها القرآن على الكتب الماضية والصحف الكائنة في القرون الخالية، وآذن ذلك بأن الأمر قد قرب والهول قد دهم والخوف قد قدح، ليشمر أهل الاختصاص في النجاة من عذابها والخلاص حين لا مفر ولا ملجأ ولات حين مناص، نسأل الله العافية في يومها والعيشة الراضية، وعلى هذا المقصد دل اسمها " سأل " وكذا المعارج وهما أنسب ما فيها للدلالة على ذلك، وقانا الله سبحانه وتعالى من آفاتها والمهالك آمين) بسم الله (الملك الأعظم الذي تنقطع الأعناق والآمال دون عليائه) الرحيم (الذي أوضح نعمة البيان وعم بها وشهرها حتى صارت في الوضوح إلى حد لا مطمع لأحد في ادعاء خفائه) الرحيم (الذي اصطفى من عباده من وفقهم للفهم عنه والطاعة له، فكان من أوليائه.
388
Icon