ﰡ
وقال الحسن وقتادة: لما بعث الله محمدًا - ﷺ -، وخوف المشركين بالعذاب قال المشركون بعضهم لبعض: سلوا محمدًا لمن هذا العذاب؟ وبمن يقع؟. فأخبره الله عنهم بقوله: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾ حكاية لسؤالهم المعتاد على طريقة قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾. قال أبو السعود: ولعلّ هذا القول أقرب.
قوله تعالى: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ...﴾ الآيات، سبب نزولها (١) ما روي: أنه - ﷺ - كان يصلي عند الكعبة، ويقرأ القرآن، وكان المشركون يجتمعون حوله حلقًا حلقًا وفرقًا فرقًا يستمعون ويستهزئون ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد.. فلندخلنها قبلهم، فنزلت هذه الآيات.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾ من (٢) السؤال بمعنى الدعاء والطلب، يقال: دعا بكذا استدعاه، وطلبه، ومنه قوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ﴾؛ أي: يطلبون في الجنة كل فاكهة.
والمعنى: دعا داع وطلب طالب من الله تعالى ﴿بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾؛ أي: بنزول عذاب واقع؛ أي: نازل لا محالة، سواء طلبه أو لم يطلبه لسبق نزوله في علم الله تعالى؛ أي: استدعاه وطلبه.
ومن التوسّعات الشائعة في "لسان العرب" حمل النظير على النظير، وحمل
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾ بالهمزة، فهي اللغة الفاشية، فهو على هذا إمّا مضمّن معنى الدعاء كما قاله الزمخشري، فلذلك عدّى بالباء، والمعنى عليه: دعا داع على نفسه بعذاب واقع. وإمّا على أصله، و (الباء) بمعنى (عن) كقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾، والمعنى على هذا: بحث باحث واستفهم عن عذاب واقع. وقرأ نافع وابن عامر ﴿سال﴾ بالألف بغير همزة، فهو إما من التخفيف بقلب الهمزة ألفًا، فيكون معناها معنى قراءة الجمهور، وإمّا من السيلان، والمعنى عليه: سال سائل: وادٍ في جهنم يقال له: سائل، كما قال زيد بن ثابت، ويؤيده قراءة ابن عباس ﴿سال سيل﴾. وقيل: إنَّ سأل بمعنى التمس، والمعنى عليه: التمس ملتمس عذابًا للكفار، فتكون الباء زائدة كقوله تعالى: ﴿تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ﴾. والوجه الأوّل هو الظاهر. وقرأ (٢) أبيُّ وعبد الله بن مسعود ﴿سال سالٌ﴾ مثل: مال مالٌ، على أنّ الأصل: سائل فحذفت العين تخفيفًا كما قيل: شاكٌ في شائك السلاح. والمراد بهذا السائل على ما روي عن ابن عباس واختاره الجمهور: هو النضر بن الحارث من بني عبد الدار، حيث قال إنكارًا واستهزاءً: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بجذاب أليم. وعبر (٣) بصيغة الماضي، وهو ﴿وَاقِعٍ﴾ دون سيوقع للدلالة على تحقق وقوعه إمّا في الدنيا، وهو عذاب يوم بدر، فإنَّ النضر قتل يومئذٍ صبرًا، وإما في الآخرة، وهو عذاب النار.
وعن معاوية رضي الله عنه أنّه قال لرجل من أهل سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة، قال الرجل: أجهل من قومي قومك، حيث قالوا لرسول الله - ﷺ - حين دعاهم إلى الحقّ: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك.. فأمطر علينا حجارة
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
وعن الإِمام الواحدي (١): أنّ الباء في ﴿بِعَذَابٍ﴾ زائدة للتأكيد كما في قوله تعالى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾؛ أي: سأل سائل عذابًا واقعًا كقولك: سألته الشيء وسألته عن الشيء.
٢ - ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ إمّا بمعنى (على)؛ أي واقع على الكافرين كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾؛ أي: فعليها، أو بمعنى (الباء)؛ أي: واقع بهم كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾؛ أي: إلّا بأن يعبدوا الله، أو على معناها، أي: نازل لأجل كفرهم. ومتعلق اللام على التقادير الثلاثة هو لفظ ﴿واقع﴾. وجملة قوله: ﴿لَيْسَ لَهُ﴾؛ أي: لذلك العذاب ﴿دَافِعٌ﴾ صفة أخرى لـ ﴿عذاب﴾ أو حال منه أو مستأنفة. والمعنى: أنّه لا يدفع ذلك العذاب الواقع بهم أحد.
٣ - وقوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ إمّا متعلق بـ ﴿وَاقِعٍ﴾؛ أي: واقع من جهته تعالى، أو بـ ﴿دَافِعٌ﴾؛ أي: ليس له دافع من جهته تعالى إذا جاء وقته، وأوجبت الحكمة وقوعه. ﴿ذِي الْمَعَارِجِ﴾ صفة للجلالة، لأنه من الأسماء المضافة مثل: ﴿فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ﴾ ونحوهما. والمعارج جمع معرج بفتح الميم هنا بمعنى مصعد، وهو موضع الصعود. والمعنى: ذي المصاعد والدرجات التي تصعد فيها الملائكة؛ أي: خالق المعارج ومالكها. والمراد (٢) بها
(٢) روح البيان.
وقرأ ابن مسعود (١): ﴿ذي المعاريج﴾ بزيادة الياء، يقال: معارج ومعاريج، وحكمهما واحد، مثل: مفاتح ومفاتيح.
والمعنى (٢): أي طلب طالب عذابًا واقعًا لا محالة سواء طلب أم لم يطلب، لأنّه نازل بالكافرين في الآخرة، لا. يدفعه عنهم أحد، فلماذا هم يطلبونه استهزاءً. ﴿مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (٣)﴾؛ أي: ليس لذلك العذاب الصادر من الله دافع من جهته إذا جاء وقته، فإذا اقتضت الحكمة وقوعه اجمتنع أن لا يفعله، وهو ذو النعم التي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة ودرجات متفاوتة.
والخلاصة: أنَّ العذاب الذي طلبه السائلون واستبطؤوه واقع لا محالة؛ وهو سبحانه لم يفعل ذلك إلّا لحكمة، وهي وضعهم في الدركات التي هم أهل لها بحسب استعدادهم وما دسوا به أنفسهم من سيء الأعمال والخطايا التي أحاطت بهم من كل صوب. وقد نظم سبحانه العوالم فجعل منها مصاعد ومنها دركات، فليكن هؤلاء في الدركات، وليكن المؤمنون وإلملائكة في الدرجات طبقًا، عن طبق على نظم ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة.
٤ - ثم بين مقدار ارتفاع تلك الدرجات، فقال: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ﴾ المأمورون بالنزول والعروج دون غيرهم من المهيمين ونحوهم؛ لأنَّ من الملائكة من لا ينزل: من السماء إلى الأرض أصلًا، ومنهم من لا يعرج من الأرض قطعًا. ﴿وَالرُّوحُ﴾؛ أي: جبريل عليه السلام، أفرده بالذكر إظهارًا لشرفه وفضله، فهو من عطف الخاص على العام، كما في قوله تعالى: ﴿تَنزلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾ فقد ذكر مع نزولهم في آية وعروجهم في أخرى، وأخّره هنا وقدّم في قوله: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا﴾؛ لأن المقام هنا يقتضي تقديم الجمع على الواحد من حيث إنه مقام تخويف وتهويل اهـ
(٢) المراغي.
وقوله: ﴿فِي يَوْمٍ﴾ متعلق (١) بـ ﴿تعرج﴾ كـ ﴿إلى﴾، و ﴿في﴾ بمعنى ﴿إلى﴾، وعبّر عنها بـ ﴿إلى﴾ فرارًا من ثقل تكرار حرفين متحدي المعنى واللفظ، والكلام على حذف مضاف والتقدير: تعرج وتصعد الملائكة المأمورون بالنزول والعروج وكذا الروح من مسقط أمره إليه تعالى مدّة دوام الدنيا إلى مجيء يوم ﴿كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ مما يعدّه الناس في الدنيا. وذلك اليوم هو يوم القيامة، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والقرطبيّ. وهذا هو مقدار يوم القيامة من وقت البعث إلى أن يفصل بين الخلق.
وقيل: يتعلق قوله: ﴿فِي يَوْمٍ﴾ بقوله (٢): ﴿دَافِعٌ﴾؛ أي: ليس له دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وقيل: يتعلق بـ ﴿وَاقِعٍ﴾، والمعنى سأل سائل بعذاب واقع للكافرين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وعلى هذين المعنييْن يكون في الكلام تقديم وتأخير؛ أي: ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه. وقيل: المعنى تصعد الملائكة من أسفل الأرض إلى عرشه في قدر يوم من أيامكم لو صعده غيرهم قطعه في خمسين ألف سنة، وهذا معنى قول مجاهد. وقيل: متعلق بمحذوف دلَّ عليه قوله: ﴿بِعَذَابٍ وَاقِعٍ﴾ أي: يقع ذلك العذاب في يوم كان مقداره في علم الله تعالى خمسين ألف سنة ممّا تعدّون، وهو يوم القيامة. وعلى هذا فلا تقديم ولا تأخير، كما في "الجلالين".
وقرأ الجمهور (٣): ﴿تَعْرُجُ﴾ بالتاء الفوقية على التأنيث نظرًا للفظ الملائكة. وقرأ عبد الله، والكسائيّ، وابن مقسم، وزائدة عن الأعمش بالياء التحتانية بالتذكير
(٢) زاد المسير.
(٣) البحر المحيط.
وقال مجاهد: المراد بالملائكة هم ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم، لا تراهم الحفظة كما لا نرى نحن حفظتنا. وقال الجمهور: والروح هو جبريل عليه السلام، وقيل: ملك غير جبريل عظيم الخلقة. وقال أبو صالح: خلق كهيئة الناس وليسوا بالناس. وقال قبيصة بن ذؤيب: روح الميت حين تقبض. والضمير في ﴿إِلَيْهِ﴾ عائد إلى الله تعالى؛ أي: إلى عرشه، أو حيث يهبط منه أمره تعالى. وقيل: ﴿إِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى المكان الذي هو محلّهم، وهو في السماء، لأنّها محل بره وكرامته.
والظاهر: أنَّ المعنى: أنّها تعرج في يوم من أيامكم هذه، ومقدار المسافة أن لو عرجها آدميّ خمسون ألف سنة، قاله ابن عباس وابن إسحاق، وجماعة من الحذّاق منهم: القاضي منذر بن سعيد. قال مجاهد: إن كان العارج ملكًا فالمسافة من قعر الأرض السابعة إلى العرش، ومن جعل الروح جنس أنواع الحيوان. قال وهب: المسافة هي من وجه الأرض إلى منتهى العرش. وقال عكرمة والحكم: أراد مدّة الدنيا، فإنها خمسون ألف سنة لا يدري أحد ما مضى منها وما بقي؛ أي: تعرج الملائكة إليه في مدة الدنيا، وبقاء هذه الدنيا التي هي يوم مقداره خمسون ألف سنة. وقال ابن عباس أيضًا: هو يوم القيامة. وقيل: طوله ذلك العدد، وهذا ظاهر ما جاء في الحديث في مانع الزكاة قال: في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري: قدره في رزاياه وهوله وشدّته للكفار ذلك العدد. وفي الحديث: "يخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة". وقال عكرمة: في يوم كان مقدار ما ينقضي فيه من الحساب قدر ما يقضى بالعدل في خمسين ألف سنة من أيّام الدنيا، وقال الحسن: نحوه. وقيل: لا يراد حقيقة العدد إنما أريد به طول الموقف يوم القيامة، وما فيه من الشدائد. والعرب تصف أيام الشدّة بالطول، وأيّام الفرح بالقصر.
والظاهر: أن قوله: ﴿فِي يَوْمٍ﴾ يتعلق بـ ﴿تَعْرُجُ﴾، وقيل: بـ ﴿دَافِعٌ﴾، والجملة من قوله: ﴿تَعْرُجُ﴾ اعتراض، ذكره أبو حيان في "البحر".
وقد قدمنا الجمع بين هذه الآية وبين قوله في سورة السجدة: {فِي يَوْمٍ كَانَ
والمعنى: أي تعرج وتصعد في تلك المعارج الملائكة، وجبريل عليه السلام إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها.. لبقي في ذلك الصعود خمسين ألف سنة، لكنّهم يصعدون إليها في الزمن القليل، وليس المراد من ذكر الخمسين تحديد العدد بل المقصد أن مقام القدس الإلهي بعيد المدى عن مقام العباد، فهم في المادة مغموسون، وهناك عوالم ألطف وألطف درجات بعضها فوق بعض، وكل عالم ألطف مما قبله، كلما لطف العالم العلوي كان أشد قوة، وهكذا ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (٤٢)﴾.
٥ - ولما كانوا قد سألوا استعجال العذاب، وكان السؤال على سبيل الاستهزاء والتكذيب، وكانوا قد وعدوا به، أمر الله سبحانه وتعالى نبيه - ﷺ - بالصبر، فقال: ﴿فَاصْبِرْ﴾ يا محمد على استهزائهم ﴿صَبْرًا جَمِيلًا﴾؛ أي: صبرًا لا جزع فيه، ولا شكوى لغير الله، فإن العذاب يقع في هذه المدة المتطاولة التي تعرج فيها الملائكة والروح. وعن الحسن: الصبر الجميل: هو المجاملة في الظاهر، وعن ابن بحر: انتظار الفرج بلا استعجال. وهو متعلق بـ ﴿سَأَلَ﴾؛ لأن السؤال كان عن استهزاء وتعنت وتكذيب بالوحي، وذلك مما يضجره - ﷺ -.
والمعنى: أي إذا عرفت يا محمد تعنّتاتهم في السؤال، وأردت بيان ما هو اللازم لك فأقول لك: اصبر يا محمد على تكذيبهم لك وكفرهم بما جئت به صبرًا جميلًا، لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله تعالى. وهذا معنى الصبر الجميل.
٦ - ﴿إنَهُمْ﴾؛ أي: إن أهل مكة ﴿يَرَوْنَهُ﴾؛ أي: يرون العذاب الواقع بهم أو يرون يوم القيامة؛ أي: يزعمونه في رأيهم ﴿بَعِيدًا﴾؛ أي: غير كائن لأنهم لا يؤمنون به؛ أي: يستبعدونه بطريق الإحالة، كما كانوا يقولون: ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا﴾ الآية، ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾، فلذلك يسألون به وسبب استبعادهم عدم علمهم باستحقاقهم إياه كما يقول المرء لخصمه: هذا بعيد ردًّا لوقوعه وإمكانه.
٧ - ﴿وَنَرَاهُ﴾؛ أي: نعلم ذلك العذاب الواقع بهم ﴿قَرِيبًا﴾؛ أي: كائنًا قريبًا؛ لأنّ ما هو آت قريب لعلمنا باستحقاقهم إيّاه بحسب استعدادهم. وقيل: المعنى: ونراه هينا في قدرتنا غير متعسر ولا متعذر علينا، فالمراد بالبعد هو البعد عن الإمكان، وبالقرب هو القرب منه. والجملة تعليل للأمر بالصبر. وقال سهل رحمه الله تعالى: إنهم يرون المقضيّ عليهم من الموت والبعث والحساب بعيدًا لبعد آمالهم ونراه قريبًا، فإن كل كائن قريب والبعيد ما لا يكون. وفي الحديث: "ما الدنيا فيما مضى وما بقي إلا كثوب شق باثنين، وبقي خيط واحد، ألا وكان ذلك الخيط قد انقطع". قال الشاعر:
هَلِ الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا جَمِيْعًا | سِوَى ظِلٍّ يَزُوْلُ مَعَ النَّهَارِ |
وَمِنْ عَجَبِ الأَيَّامِ أَنَّكَ قَاعِدٌ | عَلَى الأَرْضِ فِيْ الدُّنْيَا وَأَنْتَ تَسِيْرُ |
فَسَيْرُكَ يَا هَذَا كَسَيْرِ سَفِيْنَةٍ | بِقَوْمٍ قُعُوْدٍ وَالْقُلُوْبُ تَطِيْرُ |
٩ - وجملة قوله: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (٩)﴾ معطوفة على ما قبلها؛ أي: تصير
١٠ - ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠)﴾؛ أي: لا يسأل قريب قريبه عن شأنه في ذلك اليوم لما نَزَل بهم من شدة الأهوال التي أذهلت القريب عن قريبه، والخليل عن خليله، كما قال سبحانه: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)﴾. وقيل: الأصل، ولا يسأل حميم عن حيمم، فحذف الحرف، ووصل الفعل؛ أي: لا يسأل قريب قريبًا عن أحواله ولا يكلمه لابتلاء كل منهم بما يشغله عن ذلك. وإذا كان الحال بين الأقارب هكذا، فكيف يكون بين الأجانب؟ والتنكير فيه للتعميم.
وقرأ الجمهور ﴿وَلَا يَسْأَلُ﴾ مبنيًا للفاعل، قيل: والمفعول الثاني محذوف والتقدير؛ أي: لا يسأله نصره ولا شفاعته ولا منفعة لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده. وقال قتادة: لا يسأله عن حاله؛ لأنّها ظاهرة. وقيل: لا يسأله أن يحمل عنه من أوزاره شيئًا ليأسه عن ذلك. وقرأ أبو حيوة، وشيبة، وأبو جعفر، والبزي بخلاف عن ثلاثتهم، وابن كثير في رواية عنه على البناء للمفعول؛ أي: لا يسأل إحضاره كل من المؤمن والكافر له سيماء يعرف بها. وقيل: عن ذنوب حميمه ليؤخذ بها بل كل إنسان يسأل عن نفسه، وعن عمله.
ومعنى هذه الآيات: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (٥)﴾؛ أي: إذا سألوا استعجال العذاب على سبيل الاستهزاء والتكذيب بالوحي، وكان هذا يورث ضجرك أيها الرسول فاصبر صبرًا جميلًا بلا جزع ولا شكوى؛ لأنّه أمر محقّق، وكل آتٍ قريب. ثم بين أن هذا اليوم لا شك فيه، فقال: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ﴾ إلخ؛ أي: إن هؤلاء المشركين يرون هذا اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة بعيدًا محالًا غير ممكن، ونحن نراه قريبًا هيّنًا غير بعيد علينا، ولا متعذّر. ثم ذكر وقت حدوثه فقال: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (٨)﴾؛ أي: إنَّ العذاب واقع بالكافرين يوم تكون السماء كأنّها عكر الزيت، والمراد أنَّها تكون واهية ضعيفة غير متماسكة. ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (٩)﴾؛
١١ - وقوله: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ مستأنف أو صفة لقوله: ﴿حَمِيمًا﴾؛ أي: يبصر كل حميم حميمه لا يخفى منهم أحد عن أحد، وليس في القيامة مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه، ولا يتساءلون، ولا يكلم بعضهم بعضًا لاشتغال كل منهم بنفسه. وهذه الجملة مستأنفة كما مرّ آنفًا، واقعة في جواب سؤال مقدر كأنّه قيل: لعله لا يبصره فكيف يسأل عن حاله؟ فقيل: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾. والضمير الأول (١) للحميم الأول، والثاني للثاني، وجمع الضميرين لعموم الحميم لكل حميمين لا لحميمين اثنين، لأنهما نكرتان في سياق النفي. قال في "تاج المصادر": التبصير: التعريف والإيضاج، ويعدى إلى المفعول الثاني بالباء، وقد تحذف الباء، وعلى هذا جاء ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ انتهى. يعني: عدّى ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ بالتضعيف إلى ثان وقام الأول مقام الفاعل. والمعنى: يبصر الأحماء فلا يخفون عليهم ولا يمنعهم من التساؤل إلا تشاغلهم بأحوال أنفهسم، فيبصر الرجل أباه وأخاه وأقرباءه وعشيرته، ولكن لا يسأله ولا يكلمه لاشتغاله بما هو فيه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: يتعارفون ساعة ثم يتناكرون ويفر بعضهم من بعض بعد ذلك.
وقال ابن زيد (٢): يبصر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا، وهم الرؤساء المتبوعون عبرةً وانتقامًا وحزنًا. وقيل: إن قوله: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾. يرجع إلى الملائكة؛ أي: يعرفون أحوال الناس، لا يخفون عليهم. وقرأ قتادة (٣): ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ مخففًا مع كسر الصاد؛ أي: يبصر المؤمن الكافر في النار، قاله مجاهد.
﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ﴾؛ أي: يتمنى الكافر، وقيل: كلّ مذنب. ﴿لَوْ﴾ بمعنى التمنّي،
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
١٢ - ﴿وَصَاحِبَتِهِ﴾؛ أي: صاحبته التي يصاحبها ﴿وَأَخِيهِ﴾ الذي كان ظهيرًا له ومعينًا.
وجملة قوله: ﴿يَوَدُّ﴾ مستأنفة (٢) مسوقة لبيان أنَّ اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حيث يتمنّى أن يفتدى بأقربهم إليه وأعلقهم بقلبه ويجعله فداء لنفسه حتى ينجو هو من العذاب، فضلًا عن أن يهتم بحاله ويسأل عنها، كأنّه قيل: كيف لا يسأل مع تمكنه من السؤال؟ فقيل: ﴿يَوَدُّ﴾... إلخ.
١٣ - ﴿وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣)﴾؛ أي: وعشيرته الأقربين الذين يضمونه في النسب أو عند الشدائد، ويأوي إليهم فيلوذ بهم. قال أبو عبيد: الفصيلة دون القبيلة. وقال ثعلب: هم آباؤهم الأدنون، وهي في الأصل القطعة المفصولة من الجسد، وتطلق على الآباء الأقربين، وعلى الأولاد؛ لأنَّ الولد يكون مفصولًا من الأبوين، فلمّا كان الولد مفصولًا منهما كانا مفصولين منه أيضًا، فسمّي فصيلة لهذا السبب، والمراد بالفصيلة في الآية هو الآباء الأقربون والعشيرة الأدنون لقوله: ﴿وبنيه﴾.
وقوله: ﴿تُؤْوِيهِ﴾ من آوى إلى كذا انضم إليه، وآواه غيره كما قال تعالى: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾؛ أي: إلى نفسه.
١٤ - ﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ من الثقلين والخلائق. و ﴿مَنْ﴾ للتغليب. ﴿ثُمَّ يُنْجِيهِ﴾ معطوف على ﴿يَفْتَدِى﴾؛ أي: يَوَدُّ لو يفتدى ثم ينجيه الافتداء. و ﴿ثُمَّ﴾ لاستبعاد الإنجاء. يعني: لو كان هؤلاء جميعًا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثمّ ينجيه ذلك، وهيهات أن ينجيه. وقرأ (٣) الزهريّ ﴿تؤويه﴾ و ﴿تنجيه﴾ بضمّ الهاءين.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
والخلاصة: يتمنى الكافر لو كان هؤلاء جميعًا في قبضة يده.. ليبذلهم فدية عن نفسه ثم ينجيه ذلك هيهات.
١٥ - ﴿كَلَّا﴾ ردع للمجرم عن الودادة والتمنّي، وتصريح بامتناع إنجاء الافتداء؛ أي: لا يكون كما يتمنّى فإنّه بهيئته الظلمانية الحاصلة من الإجرام استحق العذاب، فلا ينجو منه. وفي الحديث: "يقول الله عَزَّ وَجَلَّ لأهون أهل النار عذابًا يوم القيامة: لو أنَّ لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدى به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي". وعن "القرطبي": أن ﴿كَلَّا﴾ يكون بمعنى الردع والزجر وبمعنى حقًّا، وكلا الوجهين جائزان هنا، فعلى الثاني يكون تمام الكلام ﴿يُنْجِيهِ﴾، فيوقف عليه، ويكون ﴿كَلَّا﴾ من الجملة الثانية التي تليه. والمحققون على الأول، ومن ذلك وضع السجاوندي علامة الوقف على ﴿كَلَّا﴾. ﴿إِنَّهَا﴾؛ أي: إنَّ النار المدلولى عليها بذكر العذاب، والمراد جهنم. ﴿لَظَى﴾ علم للنار، أو للدرك الثاني منها، منقول من اللظى بمعنى اللهب الخالص الذي لا يخالطه دخان، فيكون في غاية الإحراق لقوة حرارته النارية بالصفاء. وهو خبر ﴿إن﴾ بمعنى إن النار التي أعدت لعذابه مسماة بهذا الاسم. ويجوز أن يراد بـ ﴿لَظَى﴾: اللهب الخالص على الأصل، فيكون خبرًا بلا تأويل؛ أي: إنَّ النار التي يعذّب بها لهب خالص ليس فيه دخان.
١٦ - ﴿نَزَّاعَة﴾ خبر ثان لـ ﴿أَنّ﴾؛ أي: قلاعة ﴿لِلشَّوَى﴾؛ أي: للأعضاء التي في أطراف الجسد كالأيدي والأرجل؛ أي: مزيلة للأعضاء عن أماكنها لقوّة حرارتها ثم تعود الأعضاء كما كانت، وهكذا أبدًا، فلا تترك لحمًا ولا جلدًا، إلا أحرقته. من نزع الشيء إذا جذبه، وأزاله من مقرّه وموضعه. و ﴿الشوى﴾: الأطراف؛ أي: الأعضاء التي ليست بمقتل كالأيدي والأرجل. أو جمع شواة، وهي جلدة الرأس. يعني: أنَّ النار تنزع جلود الرأس وتقشّرها عنه، وذلك لأنهم كانوا يسعون بالأطراف للأذى والجفاء، ويصرفون عن الحق الأعضاء الرئيسية التي تشتمل عليها الرأس خصوصًا العقل الذي كانوا لا يعقلون إلا به في الرأس.
أَنَا أَبُو الْمِنْهَالِ بَعْضَ الأَحَيْانِ
أي: المشهور بعض الأحيان. أو بالنصب على الاختصاص للتهويل، قاله الزمخشري.
١٧ - ﴿تَدْعُو﴾ تلك النار ﴿مَنْ أَدْبَرَ﴾ عن الحق ومعرفته، وهو مقابل أقبل. ومعنى ﴿تَدْعُو﴾: تجذب إلى نفسها، وتحضر، فهو مجاز عن إحضارهم كأنها تدعوهم فتحضرهم وتقول لهم: إلى إلى يا كافر، ويا منافق، ويا زنديق فإني مستقرك. أو تدعو الكافرين، والمنافقين بلفظ فصيح بأسمائهم، ثم تلتقطهم كالتقاط الطير الحب. ويجوز أن يخلق الله فيها كلامًا كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم وكما خلقه في الشجرة. أو تدعو زبانيتها على حذف المضاف أو على الإسناد المجازي حيث أسند فعل الداعي إلى المدعوّ إليه، من باب إسناد ما هو للحال إلى المحل. وقيل: هو تمثيل وتخييل، ولا دعاء في الحقيقة. ﴿وَتَوَلَّى﴾؛ أي: أعرض عن الطاعة؛ لأن من أعرض يولّي وجهه. وفي "التأويلات النجمية": من أدبر عن التوجه إلى الحق بموافقات الشريعة ومخالفات الطبيعة، وتولى عن الإقبال على الآخرة والإدبار عن الدنيا.
١٨ - ﴿وَجَمَعَ﴾ المال حرصًا وحبًّا للدنيا ﴿فَأَوْعَى﴾؛ أي: فجعله في وعاء وكنزه، ولم يؤد زكاته وحقوقه الواجبة فيه، وتشاغل به عن الدين، وتكبر باقتنائه. وذلك لطول أمله وانعدام شفقته على عباد الله، وإلا ما ادخر بلْ بذل. وفي جمع الجمع مع الإدبار والتولي تنبيه على قباحة البخل وخساسة البخيل، وعلى أنه لا يليق بالمؤمن.
قَالَتْ قُتَيْلَةُ مَالَهُ | قَدْ جُلِّلَتْ شَيْبًا شَوَاتُهُ |
١٩ - ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: جنس الإنسان ﴿خُلِقَ﴾ حال كونه ﴿هَلُوعًا﴾؛ أي: شديد الحرص سيّىء الجزع وأفحشه، مبالغة هالع من الهلع، وهو سرعة الجزع عند مسّ المكروه بحيث لا يستمسك، وسرعة المنع عند مسّ الخير، يقال: ناقة هلوع: سريعة السير، وهو من باب علم، وقد فسره أحسن تفسير على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
٢٠ - قوله تعالى: ﴿إِذَا﴾ ظرف لـ ﴿جَزوُعُا﴾ ﴿مَسَّهُ الشَّرُّ﴾؛ أي: أصابه الشر، ووصل إليه الفقر، أو المرض أو نحوهما ﴿جَزُوعًا﴾ أي: كثير الجزع، مبالغة في الجزع مُكْثِرًا منه لجهله بالقدر، وهو ضد الصبر. وقال ابن عطاء: الهلوع الذي عند الموجود يرضى، وعند المفقود يسخط. وفي الحديث: "شر ما أعطي ابن آدم شح هالع، وجبن خالع" فالهالع المحزن، والخالع الذي يخلع قلبه. قال بعضهم: إنما كرهت نفوس الخلق المرض؛ لأنّه شاغل لهم عن أداء ما كلفوا به من حقوق الله تعالى؛ إذ الروح الحيواني حين يحس بالألم يغيب عن تدبير الجسد الذي يقوم بالتكليف، وإنما لم تكره نفوس العارفين الموت لما فيه من لقاء الله تعالى، فهو نعمة ومنة، ولذلك ما خير نبيٌّ في الموت إلا اختاره.
٢١ - ﴿وإِذَا﴾ ظرف لـ ﴿مَنُوعًا﴾ ﴿مَسَّهُ الْخَيْرُ﴾؛ أي: السعة أو الصحة أو غيرهما ﴿مَنُوعًا﴾؛ أي: مبالغًا في المنع والإمساك لجهله بالقسمة وثواب الفضل. وللصحة مدخل في الشحّ، فإن الغني قد يعطي في المرض ما لا يعطيه في الصحة، ولذا كانت الصدقة حال الصحة أفضل. والأوصاف الثلاثة، وهي: ﴿هَلُوعًا﴾ و ﴿جَزُوعًا﴾ و ﴿مَنُوعًا﴾ أحوال مقدرة؛ لأنَّ المراد بها ما يتعلق به الذمّ والعقاب، وهو ما يدخل
الظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النَّفُوسِ فَإنْ تَجِدْ | ذَا عِفّةٍ فِلِعِلَّةٍ لا يَظْلِمُ |
قلنا: الحكمة في خلق الشهوة أن يمانع نفسه إذا نازعته نحوها، ويحارب شيطانه عند تزيينه المعصية، فيستحق من الله سبحانه مثوبة وجنة انتهى.
والمعنى: أي إنّ الإنسان جُبِلَ على الهلع، فهو قليل الصبر شديد الحرص، فإذا افتقر أو مرض أخذ في الشكاة والجزع، وإذا صار غنيًّا أو سليمًا معافًى منع معروفه، وشحّ بماله، وما ذاك إلا لاشتغاله بأحواله الجسمانية العاجلة، وقد كان من الواجب عليه أن يكون مشغولًا بأحوال الآخرة، فإذا مرض، أو افتقر رضي بما قسم له علمًا بأن الله يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، وإذا وجد المال والصحة صرفهما في طلب السعادة الأخروية.
والخلاصة: أنه إذا أصابه الفقر والحاجة أو المرض أو نحو ذلك.. فهو جزوع؛ أي: كثير الجزع، وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة ونحو ذلك فهو كثير المنع والإمساك.
٢٢ - وقد استثني من هذه الحال من اتصفوا بالصفات الآتية، فقال:
١ - ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢)﴾ استثناء من الإنسان؛ لأنه جنس في معنى الجمع، وهذا الاستثناء باعتبار الاستمرار؛ أي: إنّ المطبوعين على الصفات الرذيلة مستمّرون عليها إلا المصلين؛ أي: المقيمين للصلاة، فإنهم بدلوا تلك الطبائع واتصفوا بأضدادها. وقيل: المراد بهم: أهل التوحيد. يعني: أنهم ليسوا على تلك الصفات من الهلع والجزع والمنع، وأنهم على صفات محمودة وخلال مرضيّة؛ لأن إيمانهم وما تمسكوا به من التوحيد ودين الحق يزجرهم عن الاتصال بتلك الصفات، ويحملهم على الاتصاف بصفات الخير.
والمعنى (٢): أي إنّ الإنسان بطبعه متصف بصفات الذمّ، خليق بالمقت إلَّا من عصمهم الله ووفقهم، فهداهم إلى الخير، ويسّر لهم أسبابه، وهم المصلون الذين يحافظون على الصلوات في أوقاتها، لا يشغلهم عنها شيء من الشواغل. وفي هذا إيماء إلى فضيلة المداومة على العبادة.
أخرج ابن حبان عن أبي سلمة قال: حدّثتني عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - ﷺ -: "خذوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يملّ حتى تملوا"، قالت: فكان أحب الأعمال إلى رسول الله - ﷺ - ما داوم عليه، وإن قل، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها". وقرأ أبو سلمة ﴿الذين هم على صلاتهم دائمون﴾.
٢ - ٢٤ ﴿وَالَّذِينَ﴾ أي: وإلا الذين ﴿فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾ أي: نصيب معين يستوجبونه على أنفهسم تقربًا إلى الله تعالى، وإشفاقًا على الناس من الزكاة المفروضة، كما قاله قتادة ومحمد بن سيرين. وقال مجاهد: سوى الزكاة. وقيل: صلة الرحم. والظاهر: أنه الزكاة لوصفه بكونه معلومًا ولجعله قرينًا للصلاة.
(٢) المراغي.
والمعنى (٢): أي والذين في أموالهم نصيب معين لذوي الحاجات، والبائسين تقرَّبًا إلى الله وإشفاقًا على خلقه سواء سألوا، واستجدوا أو لم يسألوا تعففًا منهم، والمراد بهذا الحق المعلوم ما يوظّفه الرجل على نفسه فيؤديه كل جمعة، أو كل شهر أو كلما جدت حاجة تدعو إلى بذل المال كإغاثة فرد أو إغاثة أمة طرأ عليها ما يستدعي البذل لمصلحة هامة لها كالدفاع ضدّ عدوّ أو دفع مجاعة أو ضرورة ملحّة مفاجئة.
٣ - ٢٦ ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦)﴾؛ أي: يوم الجزاء، وهو يوم القيامة، لا يشكون فيه ولا يجحدونه بل يصدّقونه بأعمالهم، حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات البدنيّة والمالية طمعًا في التوبة الأخروية، بحيث يستدل بذلك على تصديقهم بيوم الجزاء. فمجرد التصديق بالجنان واللسان، وإن كان ينجي من الخلود في النار، لكن لا يؤدي إلى أن يكون صاحبه مستثنى من المطبوعين بالأحوال المذكورة.
والمعنى: أي والذين يوقنون بالمعاد والحساب، فيعملون عمل من يرجو الثواب، ويخاف العقاب، وتظهر آثار ذلك في أفعالهم وأقوالهم ومعتقداتهم، فينيبون إلى الله ويخبتون إليه.
٤ - ٢٧ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧)﴾، أي: خائفون على أنفسهم مع ما لهم من الأعمال الفاضلة استقصارًا لها، واستعظامًا لجنابه تعالى. وتقديم ﴿مِنْ﴾ على متعلقه وإن كان للفاصلة يجوز أن يكون للحصر امتثالًا لأمره تعالى ﴿فَارْهَبُونِ﴾ مع جواز أن يكون للتقوية؛ أي: والذين هم خائفون وجلون من تركهم الواجبات وإقدامهم على المحظورات، ومن يدم به الخوف والإشفاق فيما كلف به يكن حذرًا
(٢) المراغي.
٢٨ - ثم ذكر الداعي لهم إلى هذا الخوف، فقال: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨)﴾ وهو اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذابه تعالى، وإن بالغ في الطاعة والاجتهاد بل يكون بين الخوف والرجاء؛ لأنه لا يعلم أحد عاقبته، ومِنْ ثم أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا كثيري الخوف والوجل، كما يشعر بذلك قول بعضهم: لَيْتَ أمي لم تَلِدْنِي، وقول آخر: ليتني شجرةً تعضد، إلى أشباه ذلك مما يعبر عن شديد الوجل والخشية.
٥ - ٢٩ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ﴾ فرج الرجل والمرأة سوءاتهما؛ أي: قبلهما. عبّر به عنها رعايةً للأدب في الكلام، وأدب المرء خير من ذهبه، والجار متعلق بقوله: ﴿حَافِظُونَ﴾ من الزنا؛ أي: متعفّفون عن مباشرة الحرام، كافون لها عن الحرام، فإن حفظ الفرج كناية عن العفة.
٣٠ - ﴿إِلَّا عَلَى﴾ بمعنى (من) كما في كتب النحو. ﴿أَزْوَاجِهِمْ﴾ الأربع؛ أي: نسائهم المنكوحات ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ من الجواري من غير حصر في أوقات حلها كالطهر من الحيض والنفاس ومضيّ مدة الاستبراء. وعبر عنهن بـ ﴿ما﴾ إجراءً لهن لمملوكيتهن مجرى غير العقلاء أو لأنوثتهن المنبئة عن القصور. وإيراد ما ملكت الإيمان يدل على أن المراد من الحافظين هنا المذكور، وإن كان الحفظ لازمًا للإناث أيضًا، بل أشد؛ لأنه لازم عليهن على عبيدهن، وإن كانوا مما ملكت أيمانهن ترجيحًا لجانب الذكور في صيانة عرضهم. ﴿فَإِنَّهُمْ﴾؛ أي: فإن الحافظين ﴿غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ على عدم حفظها منهن؛ أي: غير معيوبين شرعًا فلا يؤاخذون بذلك في الدنيا والآخرة. وفيه إشعار بأن من لم يحفظ تكفيه ملامة اللائمين، فكيف العذاب؟.
٣١ - ﴿فَمَنِ ابْتَغَى﴾ وطلب لنفسه الاستمتاع ﴿وَرَاءَ ذَلِكَ﴾؛ أي: وراء ما ذكر من الأزواج والمملوكات. ﴿فَأُولَئِكَ﴾ المبتغون ﴿هُمُ الْعَادُونَ﴾؛ أي: المتجاوزون لحدود الله، الكاملون في العدوان المتناهون فيه؛ لأنّه من عدا عليه إذا تجاوز الحد في الظلم، ودخل فيه حرمة وطْءِ الذكران والبهائم والزنا، وقيل: يدخل فيه الاستمناء أيضًا. روي: أنَّ العرب كانوا يستمنون في الأسفار، فنزلت الآية. وفي
٦ - ٣٢ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ﴾؛ أي: لما ائتمنوا عليه من الدين والدنيا. ﴿وَعَهْدِهِمْ﴾ فيما بينهم وبين ربهم أو فيما بينهم، وبين الناس ﴿رَاعُونَ﴾؛ أي: حافظون بالوفاء. يعني: إذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا عاهدوا لم يغدروا.
قرأ الجمهور ﴿لِأَمَانَاتِهِمْ﴾ بالجمع. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ﴿لأمانتهم﴾ بالإفراد، والمراد به الجنس، أي: فالأمانة اسم لجنس ما يؤتمن عليه الإنسان سواء من جهة البارىء سبحانه، وهي أمانات الدين التي هي الشرائع والأحكام أو من جهة الخلق، وهي الودائع ونحوها. والجمع بالنظر إلى اختلاف الأنواع، وكذا العهد شامل لعهد الله وعهد الناس، وهو ما عقده الإنسان على نفسه لله أو لعباده، وهو يضاف إلى المعاهد والمعاهد فيجوز هنا الإضافة إلى الفاعل والمفعول.
٧ - ٣٣ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ﴾ الباء: متعلقة بقوله: ﴿قَائِمُونَ﴾ سواء كانت للتعدية أم للملابسة، والجمع باعتبار أنواع الشهادة؛ أي: والذين هم يقيمون الشهادة، ويؤدونها على من كانت عليه قريب أو بعيد رفيع أو وضيع، ولا يكتمونها ولا يغيّرونها. قال النبي - ﷺ -: "إذا علمت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع". وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الأمانات لإبانة فضلها؛ لأن في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها، وفي كتمها وتركها تضييعها وابطالها، وفي "الأشباه" إذا كان الحقُّ يقوم بغيرها، أو كان القاضي فاسقًا أو كان يعلم أنها لا تقبل.. جاز الكتمان.
وقرأ الجمهور ﴿بشهادتهم﴾ بالإفراد. وقرأ حفص ويعقوب، وهي رواية عن ابن كثير بالجمع. قال الواحدي: والإفراد أولى؛ لأنّه مصدر، ومن جمع ذهب إلى
والمعنى: أي والذين يقومون بأداء الشهادة عند الحكام، ولا يكتمونها ولا يغيّرونها. والشهادة من جملة الأمانات، وخصَّها بالذكر لعظم شأنها؛ إذ بها تحيا الحقوق وبتركها تموت.
٨ - ٣٤ ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٣٤)﴾ تقديم ﴿عَلَى صَلَاتِهِمْ﴾ يفيد الاختصاص الدال عل أن محافظتهم مقصورة على صلاتهم، لا تتجاوز إلى أمور دنياهم؛ أي: يراعون شرائطها، ويكملون فرائضها وسننها ومستحباتها وآدابها، ويحفظونها من الإحباط باقتران الذنوب. فالدوام المذكور أوّلًا يرجع إلى أنفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها. قال أبو حيان: وأقول: إنَّ الديمومة على الشيء والمحافظة عليه شيء واحد، لكنّه لما كانت الصلاة هي عمود الإِسلام بولغ في التوكيد فيها، فذكرت أوَّل خصال الإِسلام المذكورة في هذه السورة وآخرها ليعلم مرتبتها في الأركان التي بني الإِسلام عليها. وقال الشوكاني: والمراد يحافظون على أذكارها وأركانها وشرائطها، لا يخلون بشيء من ذلك. قال قتادة: على وضوئها وركوعها وسجودها. وقال ابن جريج: المراد: التطوع، وكرر ذكر الصلاة لاختلاف ما وصفهم به أوّلًا، وما وصفهم به ثانيًا، فإن معنى الدوام هو أن لا يشتغل عنها بشيء من الشواغل كما سلف، ومعنى المحافظة: أن يراعي الأمور التي لا تكون صلاةً بدونها. وقيل: المراد يحافظون عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يحبطها ويبطل ثوابها، وكرر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته يستحق أن يستقل بموصوف منفرد.
٣٥ - والإشارة: بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ إلى الموصوفين بتلك الصفات؛ أي: أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الفاضلة. ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾؛ أي: مستقرون في جنات لا يقادر قدرها، ولا يدرك كنهها. ﴿مُكْرَمُونَ﴾ بالثواب الأبدي والجزاء السرمدي؛ أي: سيكونون كذلك، فكأنّ الإكرام فيها واقع لهم الآن. وهو خبر ثان أو هو الخبر، و ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ متعلق به، قدم عليه لمراعاة الفواصل، أو بمضمر هو حال من الضمير في الخبر؛ أي: مكرمون حال كونهم كائنين في جنات.
٣٦ - ﴿فَمَالِ الَّذِينَ﴾؛ أي: فما بال الذين ﴿كَفَرُوا﴾ وحرموا من الاتصاف بالصفات الجليلة المذكورة. و ﴿ما﴾ استفهامية للإنكار في موضع رفع بالابتداء، ولـ ﴿الَّذِينَ﴾ خبرها، واللام الجارة كتبت مفصولة اتباعًا لمصحف عثمان رضي الله عنه. ﴿قِبَلَكَ﴾ حال من المنوي في ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: فما لهم ثابتين حولك ﴿مُهْطِعِينَ﴾ حال من المستكن في ﴿قِبَلَكَ﴾. من الإهطاع، وهو الإسراع؛ أي: مسرعين نحوك؛ أي: أيّ شيء ثبت لكفّار مكة مسرعين جهتك، مادي أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك.
٣٧ - وقوله: ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ﴾ متعلق بـ ﴿عِزِينَ﴾، لأنّه بمعنى مفترقين أو بـ ﴿مُهْطِعِينَ﴾، و ﴿عِزِينَ﴾ حال بعد حال من المنوي في ﴿الَّذِينَ﴾ أي: فرقًا شتَّى، جمع عزة، وهي الفرقة من الناس. وأصلها (١): عزو من العزو بمعنى الانتماء، والانتساب، فعوضوا عن اللام الهاء كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى إما في الولادة، أو في المظاهرة، فهم مفترقون. كان المشركون يتحلقون حول رسول الله - ﷺ - حلقًا حلقًا وفرقًا فرقًا، ويستهزئون بكلامه ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم. فنزلت هذه الآية وما بعدها، كما مرّ في الأسباب.
والمعنى (٢): فما بال كفار مكة؟ يسرعون إليك ويجلسون حواليك عن يمينك، وعن شمالك جماعات متفرقة، نافرين منك لا يلتفتون إلى ما تلقيه عليهم من رحمة الله وهديه ونصحه وإرشاده وما فيه سعادتهم في معاشهم ومعادهم. ونحو الآية قوله: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١)﴾.
أخرج مسلم وغيره عن جابر قال: دخل علينا رسول الله - ﷺ - المسجد ونحن حلق، متفرقون، فقال: "ما لي أراكم عزين؟ ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ " قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: "يتمون الصفوف الأول
(٢) المراغي.
تَرَانَا عِنْدَهُ وَالْلَّيْلُ دَاجٍ | عَلَى أَبْوابِهِ حِلَقًا عَزِينَا |
٣٩ - ﴿كَلَّا﴾ ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ؛ أي: اتركوا هذا الطمع، واقطعوا مثل هذا الكلام؛ أي: لا يدخلها.
والمعنى: أيطمع هؤلاء المشركون وهم نافرون من الرسول - ﷺ -، معرضون عن سماع الحق أن يدخلوا جنتي كما يدخلها المؤمنون المخبتون الذين يدعون ربهم خوفًا وطمعًا؟ كلا لا مطمع لهم في ذلك مع ما هم عليه.
ولعل (٢) وجه إيراد ﴿يُدْخَلَ﴾ مجهولًا من الإدخال دون يدخل معلومًا من الدخول مع أنه الظاهر في رد قولهم: ﴿لَنَدْخُلَنَّهَا﴾. إشعار بأنه لا يدخل من يدخل إلا بإدخال الله، وأمره للملائكة به، وبأنهم محرومون من شفاعة تكون سببًا للدخول، وبأن إسناد الدخول إخبارًا وإنشاءً، إنما يكون للمرضي عنهم، والمكرمين عند الله بإيمانهم وطاعتهم كقوله تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ﴾ وقوله: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾.
وفي تنكير (٣) ﴿جَنَّةَ﴾ إشعارًا بأنهم مردودون عن كل جنة، وإن كانت الجنان كثيرةً، وفي توصيفها بـ ﴿نَعِيمٍ﴾ إشعار بأن كل جنة مملوءة بالنعمة، وأن من طرد من
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
ثم ذكر السبب في تيئيسهم منها، فقال: ﴿إنَا خَلَقْنَاهُمْ﴾؛ أي: أنشأناهم وأوجدناهم ﴿مِمَّا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: من النطفة القذرة التي يعلمونها، فكيف يتشرفون ويدعون المتقدم ويقولون: لندخلن الجنة قبلهم؟ فكيف يليق ويصح دخولهم الجنة، ولم يتصفوا بالإيمان والمعرفة. وهذا كلام مستأنف، ولذلك وضع السجاوندي علامة الطاء على ﴿كَلَّا﴾ لتمام الكلام عنده، قد سيق تمهيدًا لما بعده من بيان قدرته تعالى على أن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء واستهزائهم برسول الله - ﷺ -، وبما نزل عليه من الوحي وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية، وينشيء بدلهم قومًا آخرين. فإن قدرته تعالى على ما يعلمون من النشأة الأولى من حال النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة حجة بينة على قدرته تعالى على ذلك.
وقيل المعنى (١): إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون، وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة، فمن لم يكملها بذلك فهو بمعزل عن أن يتبوأ متبوأ الذين أخلصوا لله وحده، وبعدت نفوسهم عن دنس الشرك والمعاصي.
٤٠ - ثم توعدهم بأنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم أهلكوا، واستبدل بهم قومًا غيرهم خيرأ منهم، فقال: ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾؛ أي: أقسم ﴿بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾ جمع (٢) المشارق والمغارب إما لأن المراد بها مشرق كل يوم من السنة ومغربه، فيكون لكل من الصيف والشتاء مائة وثمانون مشرقًا ومغربًا أو مشرق كل كوكب ومغربه. أو المراد بالمشرق ظهور دعوة كل نبيّ، وبالمغرب موته. أو المراد أنواع الهدايات والخذلانات. ﴿إِنَّا لَقَادِرُونَ﴾ جواب القسم.
٤١ - ﴿عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ﴾؛ أي: نبدلهم. حذف المفعول الأول للعلم به، و ﴿خَيْرًا﴾ مفعوله الثاني بمعنى التفضيل على التسليم؛ إذ لا خير في المشركين. أو نهلكهم بالمرة حسبما تقتضيه جناياتهم، ونأتي بدلهم بخلق آخرين ليسوا على صفتهم، ولم يقع هذا التبديل، وإنما ذكر الله ذلك تهديدًا لهم، لكي يؤمنوا. وقيل: بدل الله بهم الأنصار والمهاجرين. ﴿وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾؛
(٢) روح البيان.
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَلَا أُقْسِمُ﴾ على صورة ﴿لا﴾ النافية. وقرأ قوم ﴿فلأقسم﴾ بلام دون ألف. وقرأ الجمهور ﴿الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾ بالجمع. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن والجحدري وحميد ﴿المشرق والمغرب﴾ بالإفراد.
والمعنى (٢): أي أقسم برب الكواكب ومشارقها، ومغاربها إنا لقادرون على أن نخلق أمثل منهم، يستمعون دعوة الداعي ونصح الناصح، ونهلك هؤلاء، ولن يعجزنا ذلك لكن مشيئتنا اقتضت تأخير عقوبتهم.
والخلاصة: أنّ هؤلاء المشركين في تناقض واضطراب في الرأي فكيف ينكرون البعث ثم يطمعون في دخول الجنة؟ وكيف ينكرون الخالق وقد خلقهم أولًا مما يعلمون، وهو قادر على خلق مثلهم ثانيًا. وفي هذا تهكّم بهم وتنبيه إلى تناقضهم في كلامهم، فإن الاستهزاء بالساعة ودخول الجنة مما لا يقبله إلا من عنده دخل في العقل ومجانفة لصواب الرأي.
٤٢ - ثم سلّى رسوله - ﷺ - يقولون ويفعلون، فقال: ﴿فَذَرْهُمْ﴾؛ أي: فخلهم وشأنهم ﴿يَخُوضُوا﴾ ويشرعوا في باطلهم الذي من جملته ما حكي عنهم. وهو جواب الأمر، وهو تهديد لهم وثوبيخ كقوله: ﴿اعْمَلُوَا مَا شِئتمْ﴾. ﴿وَيَلْعَبُوا﴾ في الدنيا بالاشتغال بما لا ينفعهم، وأنت مشتغل بما أمرت به، فليس عليك إلا البلاغ. وهذه الآية منسوخة بآية السيف. ﴿حَتَّى يُلَاقُوا﴾ ويعاينوا، من الملاقاة بمعنى المعانية. ﴿يَوْمَهُمُ﴾ هو يوم البعث عند النفخة الثانية. وأضافه إليهم لأنّه يوم جمع كل الخلائق وهم منهم، أو لأن يوم القيامة يوم الكفار من حيث العذاب، ويوم المؤمنين من حيث الثواب، فكأنّه يومان: يوم للكافرين ويوم للمؤمنين. ﴿الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ الآن أو على الاستمرار. وهو من الوعد كقولهم: متى هذا الوعد، ويجوز أن يكون من الإيعاد. وقرأ الجمهور (٣) ﴿حَتَّى يُلَاقُوا﴾ من الملاقاة. وقرأ أبو جعفر، وابن محيصن،
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
والمعنى: دعهم في تكذيبهم وعنادهم إلى يوم البعث، وحينئذٍ يعلمون عاقبة وبالهم ويذوقون شديد نكالهم، حين يعرضون للحساب والجزاء يوم تجزى كل نفس بما عملت، يوم لا شفيع ولا نصير، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتي الله بقلب سليم.
٤٣ - ثم فصل أحوالهم في هذا اليوم، فقال: ﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ بدل من ﴿يومهم﴾، ولذا حمل على يوم البعث. والأجداث: جمع جدث، وهو القبر. وقرأ الجمهور (١): ﴿يَخْرُجُونَ﴾ مبنيًا للفاعل. وقرأ السلميّ (٢) والأعمش، والمغيرة، وعاصم في رواية مبنيًا للمفعول. ﴿سِرَاعًا﴾ منتصب على الحال من ضمير ﴿يَخْرُجُونَ﴾. جمع سريع كظراف جمع ظريف، أي: مسرعين إلى جانب الداعي وصوته، وهو إسرافيل ينادي على الصخرة، كما سبق. وقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ﴾ حال ثانية (٣) من الضمير المذكور، وهو كل ما نصب وعبد من دون الله. وعن أبي عمرو: هو شبكة يقع فيها الصيد فيسارع إليها صاحبها، واحد الأنصاب كعنق وأعناق، كما قال تعالى: ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾. وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها. وقال الأخفش: جمع نصب كرهن ورهن، والأنصاب جمع الجمع. ﴿يُوفِضُونَ﴾؛ أي: يسرعون أيّهم يستلمه أوّلًا من الإيفاض، وهو الإسراع. وفيه تهجين لحالهم الجاهلة، وتهكم بهم بذكر جهالتهم التي اعتادوها من الإسراع إلى ما لا يملك نفعًا ولا ضرًّا.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿نصب﴾ بفتح النون وسكون الصاد. وأبو عمران الجوني ومجاهد بفتحهما، وابن عامر وحفص بضمّهما، والحسن وقتادة بضم النون وسكون الصاد. والنصب: ما نصب الإنسان فهو يقصده مسرعًا إليه من علم أو بناء أو صنم، وغلب في الأصنام حتى قيل: الأنصاب هي الأصنام.
٤٤ - ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾ حال من فاعل ﴿يُوفِضُونَ﴾، و ﴿أَبْصَارُهُمْ﴾ فاعلها على الإسناد المجازي. يعني: وصفت بالخشوع مع أنه وصف للكل لغاية ظهور آثاره فيها.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
والمعنى (١): أي يوم يخرجون من قبورهم إذا دعاهم الداعي إلى موقف الحساب سراعًا، يسابق بعضهم بعضًا كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه، يبتدرون أيهم يستلمه قبل مع خشوع الأبصار وذلتها لهول ما تحققوا من العذاب، تعلو وجوههم القترة لما أصابهم من الكآبة والحزن.
ثم ذكر أن ذلك العذاب الذي وقعوا فيه كانوا قد أنذروا به، ولم يأتهم بغتة، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ اليوم المذكور الذي سيقع فيه الأهوال الهائلة. وهو مبتدأ، خبره قوله: ﴿الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾؛ أي: يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل، وهم يكذّبون به. فاندفع توهم التكرار؛ لأن الوعد الأول محمول على الآتي والاستمراريّ كما مرّ، وهذا الوعد محمول على الماضي بدلالة لفظ ﴿كان﴾.
والمعنى: أي ذلك اليوم وما فيه من أهوال عظام كانوا قد أنذروا في الدنيا أنهم ملاقوه، وانوا به يكذّبون، فلا عذر لهم فيما سيموا به من سوء العذاب.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿ذِلَّةٌ﴾ منونًا، ﴿ذَلِكَ الْيَوْمُ﴾ برفع الميم، مبتدأ وخبر. وقرأ عبد الرحمن بن خلاد عن داود بن سالم عن يعقوب، والحسن بن عبد الرحمن عن التفار ﴿ذلّة﴾ بغير تنوين مضافًا إلى ﴿ذلك﴾، و ﴿اليوم﴾ بخفض الميم.
الإعراب
﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (٢) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)﴾.
﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿بِعَذَابٍ﴾ متعلق بـ ﴿سَألَ﴾، والباء بمعنى عن، و ﴿وَاقِعٍ﴾ صفة لـ ﴿عذاب﴾، ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ متعلق بـ ﴿وَاقِعٍ﴾، واللام بمعنى على، ﴿لَيْسَ﴾ فعل ماض ناقص، ﴿لَهُ﴾ خبرها مقدم، ﴿دَافِعٌ﴾ اسمها مؤخر،
(٢) البحر المحيط.
﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠)﴾.
﴿فَاصْبِرْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ذكرته لك، وتدبّرت فيه وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: اصبر. ﴿اصبر﴾ فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول لجواب (إذا) المقدرة، وجملة (إذا) المقدرة مستأنفة. ﴿صَبْرًا﴾ مفعول مطلق، ﴿جَمِيلًا﴾ صفة ﴿صَبْرًا﴾. ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿يَرَوْنَهُ﴾ خبره، والضمير لـ ﴿عذاب﴾، ﴿بَعِيدًا﴾ مفعول ثان؛ لأنّ الرؤية علميّة. وجملة ﴿إنّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧)﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعولان، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، داخلة في حيّز الخبر. ﴿يَوْمَ﴾ ظرف متعلق بمحذوف تقديره: يقع بهم العذاب يوم تكون السماء كالمهل، أو متعلق بـ ﴿قَرِيبًا﴾. ﴿تَكُونُ السَّمَاءُ﴾. فعل ناقص واسمه، ﴿كَالْمُهْلِ﴾ خبره، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾، ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (٩)﴾ معطوف على الجملة السابقة، مماثلة لها في إعرابها، ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠)﴾ فعل وفاعل ومفعول به ثان، والأوّل محذوف تقديره: شفاعته أو نصره. والجملة في محل الجر معطوفة على جملة قوله: ﴿تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ﴾.
﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤)﴾.
﴿كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (١٦) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (١٨)﴾.
﴿كَلَّا﴾ حرف ردع وزجر لودادتهم الافتداء، وتنبيه على أن ذلك التمنّي غير وارد، وليس بذي طائل. ﴿إِنَّهَا﴾ ناصب واسمه، ﴿لَظَى﴾ خبرها، والضمير للنار الدال عليها العذاب، ﴿نَزَّاعَةً﴾ حال مؤكدة أو مبيّنة، أو نصبت على الاختصاص للتهويل، وعلى الحال يكون العامل فيها ما دلت عليه ﴿لَظَى﴾ من معنى الفعل؛ أي: تتلظى نزاعة. وقرىء بالرفع، فهو خبر ثان لـ ﴿إن﴾، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي نزاعة. وقيل: ﴿لَظَى﴾ بدل من اسم ﴿إنّ﴾، و ﴿نَزَّاعَةً﴾ خبرها، ﴿لِلشَّوَى﴾ متعلق بـ ﴿نَزَّاعَةً﴾، ﴿تَدْعُو﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿لَظَى﴾، ﴿مَنْ﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة حال من الضمير في ﴿نَزَّاعَةً﴾، وجملة ﴿أَدْبَر﴾ صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، وَتَوَلَّى معطوف على ﴿أَدْبَرَ﴾، ﴿وَجَمَعَ﴾ معطوف أيضًا على ﴿أَدْبَرَ﴾، ﴿فَأَوْعَى﴾ معطوف على ﴿جمع﴾، ومعنى ﴿أوعى﴾: جمع المال فجعله في وعاء وكنزه، ولم يؤد حقه تعالى فيه.
﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿خُلِقَ﴾ في محل الرفع خبره، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿الْإِنْسَانَ﴾، ﴿هَلُوعًا﴾ حال مقدرة من ﴿الْإِنْسَانَ﴾؛ لأنه ليس متصفًا بهذه الصفات قبل ولادته ووقت خلقه. ﴿إِذَا﴾ ظرف مجرد عن معنى الشرط، متعلق بـ ﴿جَزُوعًا﴾، وجملة ﴿مَسَّهُ الشَّرُّ﴾ مضاف إليه لـ ﴿إذَا﴾ و ﴿جَزُوعًا﴾ حال من الضمير في ﴿هَلُوعًا﴾ أو نعت له، أو حال من ﴿الْإِنْسَانَ﴾. ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ﴾ متعلق بـ ﴿مَنُوعًا﴾، و ﴿مَنُوعًا﴾ حال من الضمير في ﴿هَلُوعًا﴾ أو نعت ثان له أو حال من ﴿الْإِنْسَانَ﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء، ﴿الْمُصَلِّينَ﴾ مستثنى من ﴿الْإِنْسَانَ﴾ المراد به الجنس، فهو استثناء متصل، ﴿الَّذِينَ﴾ نعت لـ ﴿الْمُصَلِّينَ﴾، ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، ﴿عَلَى صَلَاتِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿دَائِمُونَ﴾، و ﴿دَائِمُونَ﴾ خبر ﴿هُمْ﴾، والجملة الاسمية صلة الموصول.
﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٢٩) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على الموصول الأول على كونه نعتا لـ ﴿الْمُصَلِّينَ﴾، ﴿فِي أَمْوَالِهِمْ﴾ خبر مقدم، ﴿حَقٌّ﴾ مبتدأ مؤخّر، و ﴿مَعْلُومٌ﴾ نعت له، والجملة الاسمية صلة الموصول، ﴿لِلسَّائِلِ﴾ نعت ثان لـ ﴿حَقٌّ﴾، ﴿وَالْمَحْرُومِ﴾ معطوف على السائل، ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على الموصول الأول، وجملة ﴿يُصَدِّقُونَ﴾ صلة الموصول ﴿بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ متعلق بـ ﴿يُصَدِّقُونَ﴾، ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف أيضًا على الموصول الأوّل ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، ﴿مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿مُشْفِقُونَ﴾، و ﴿مُشْفِقُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول. ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿غَيْرُ مَأْمُونٍ﴾ خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾ معترضة مسوقة لتعليل الإشفاف، ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على الموصول الأول أيضًا، ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، ﴿لِفُرُوجِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿حَافِظُونَ﴾، و ﴿حَافِظُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول، ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغّ من أعم الأحوال، ﴿عَلَى أَزْوَاجِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿حَافِظُونَ﴾؛ أي: حافظون لفروجهم من المحرمات في جميع الأحوال إلا في حال استمتاعهم بأزواجهم الخ. ﴿أَوْ﴾ حرف
﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٣٤) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥)﴾.
﴿فَمَنِ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت حكم هذا الاستثناء، وأردت بيان حكم من ابتغى وراء ذلك فأقول لك: من ابتغى. ﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الجواب، أو الشرط أو هما، ﴿ابْتَغَى﴾ فعل ماض وفاعل مستتر في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿وَرَاءَ ذَلِكَ﴾ مفعول به، ومضاف إليه، فقد خرجت ﴿وَرَاءَ﴾ عن الظرفية؛ أي: طلب وراء الاستمتاع بالنكاح، أو بملك اليمين. ﴿فَأُولَئِكَ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَنْ﴾ الشرطية وجوبًا، ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ، ﴿هُمْ﴾ ضمير فصل، ﴿الْعَادُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية جواب لـ ﴿من﴾ الشرطية، وجملة ﴿مَنْ﴾ الشرطية مقول لجواب (إذا) المقدرة، وجملة (إذا) المقدرة معترضة لا محل لها من الإعراب لاعتراضها بين المتعاطفين. ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على الموصول الأول أيضًا، ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، ﴿لِأَمَانَاتِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿رَاعُونَ﴾، ﴿وَعَهْدِهِمْ﴾ معطوف على ﴿آماناتهم﴾، ﴿رَاعُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول. ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على الموصول الأول أيضًا، ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، ﴿بِشَهَادَاتِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿قَائِمُونَ﴾، و ﴿قَائِمُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة صلة الموصول. ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على الموصول الأول، ﴿هُمْ﴾ مبتدأ، ﴿عَلَى صَلَاتِهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿يُحَافِظُونَ﴾، وجملة ﴿يُحَافِظُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول. ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ، ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ خبر المبتدأ، ﴿مُكْرَمُونَ﴾ خبر ثان، ولك أن تعلق ﴿فِي جَنَّاتٍ﴾ بـ ﴿مُكْرَمُونَ﴾.
﴿فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩)﴾.
﴿فَمَالِ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿ما﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ،
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (٤٠) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١)﴾.
﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾ استئنافية؛ ﴿لا﴾ زائدة، ﴿أُقْسِمُ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله سبحانه، والجملة مستأنفة، ﴿بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ﴾ متعلق بـ ﴿أُقْسِمُ﴾، ﴿إِنَّا﴾ ناصب واسمه، ﴿لَقَادِرُونَ﴾ ﴿اللام﴾ حرف ابتداء، و ﴿قادرون﴾ خبره، وجملة ﴿إنّ﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب، ﴿عَلَى﴾ حرف جر، ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر، ﴿نُبَدِّلَ﴾ فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿عَلَى﴾؛ أي: على تبديلنا. الجار والمجرور متعلق بـ ﴿قادرون﴾، ﴿خَيْرًا﴾ مفعول به، ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق بـ ﴿خَيْرًا﴾، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿ما﴾ حجازية، ﴿نَحْنُ﴾ اسمها، ﴿بِمَسْبُوقِينَ﴾ خبرها، و ﴿الباء﴾: زائدة، والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿نُبَدِّلَ﴾.
﴿فَذَرْهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أنهم لا يفوتوننا، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: ﴿ذرهم﴾. ﴿ذر﴾ فعل أمر وفاعل مستتر، والهاء: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب ﴿إذا﴾ المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة. ﴿يَخُوضُوا﴾ فعل مضارع، مجزوم بالطلب السابق، و ﴿الواو﴾: فاعل، والجملة جملة جوابية لا محل لها من الإعراب. ﴿وَيَلْعَبُوا﴾ فعل وفاعل، معطوف على ﴿يَخُوضُوا﴾، ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية، ﴿يُلَاقُوا﴾ فعل مضارع منصوب بـ (أن) مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾ الجارة، و ﴿الواو﴾: فاعل، ﴿يَوْمَهُمُ﴾ مفعول به. والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾، تقديره: إلى ملاقاتهم يومهم الذي يوعدون، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿ذرهم﴾، ﴿الَّذِي﴾ نعت لـ ﴿يَوْمَهُمُ﴾، وجملة ﴿يُوعَدُونَ﴾ من الفعل المغيّر، ونائب فاعله صلة الموصول.
﴿يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (٤٤)﴾.
﴿يَوْمَ﴾ بدل من ﴿يَوْمَهُمُ﴾، وجملة ﴿يَخْرُجُونَ﴾ في محل الجرح بإضافة الظرف إليه ﴿مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ متعلق بـ ﴿يَخْرُجُونَ﴾، ﴿سِرَاعًا﴾ حال من الواو في ﴿يَخْرُجُونَ﴾، ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿إِلَى نُصُبٍ﴾ متعلق بـ ﴿يُوفِضُونَ﴾، وجملة ﴿يُوفِضُونَ﴾ من الفعل والفاعل في محل الرفع خبر ﴿كأنّ﴾، وجملة ﴿كأنّ﴾ في محل النصب حال ثانية من الواو أيضًا، فتكون مترادفة أو من الضمير في ﴿سِرَاعًا﴾، فتكون متداخلة ﴿خَاشِعَةً﴾ حال من فاعل ﴿يُوفِضُونَ﴾، أو من فاعل ﴿يَخْرُجُونَ﴾، والأول أقرب، ﴿أَبْصَارُهُمْ﴾ فاعل بـ ﴿خَاشِعَةً﴾، ﴿تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ﴾ فعل ومفعول وفاعل، والجملة حال ثانية من فاعل ﴿يُوفِضُونَ﴾، ولك أن تجعلها مستأنفة. ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ، ﴿الْيَوْمُ﴾ خبره، والجملة الاسمية مستأنفة أو مفسرة لا محل لها من الإعراب. ﴿الَّذِى﴾ صفة لـ ﴿يوم﴾، ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يُوعَدُونَ﴾ خبره، وجملة كان صلة الموصول.
التصريف ومفردات اللغة
﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾ قرىء ﴿سَألَ﴾ بهمزة هي عين الفعل، وعليه فقوله: ﴿سَائِلٌ﴾ لا
الأوّل: أن يكون من السؤال كالقراءة بالهمز، لكن الهمزة أبدلت ألفًا على غير القياس، لكنه مسموع عن العرب، ومنه: قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:
سَالَتْ هُذِيل رَسُوْلَ اللهِ فَاحِشَةً | ضَلَّتْ هُذَيْلُ بِمَا جَاءَتْ وَلَمْ تُصِبِ |
رَاحَتْ بِمَسْلَمَةً البِغَالُ عَشِيَّةً | فَارْعيْ فَزَاوَةً لَا هَنَاكَ المَرْتَعُ |
والوجه الثاني: أن الألف فيه مبدلة من واو كالألف في ﴿خاف﴾، وعليه فتكون الهمزة في ﴿سَائِلٌ﴾ مبدلة من واو كما في خائف.
والوجه الثالث: أن تكون الألف فيه مبدلة من ياء، والأصل: سيل من السيل، قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح كالألف في قال، وعليه فتكون الهمزة في ﴿سَائِلٌ﴾ بدلًا من ياء. وفسروه بأنه وأد في جهنم اسمه سائل. فالمعنى: سأل هذا الوادي الذي في جهنم بعذاب، وعليه فالباء هنا في موضعها، وإذا جعل من السؤال فالباء بمعنى عن.
﴿ذِي الْمَعَارِجِ﴾؛ أي: المصاعد، والمعارج: جمع معرج بفتح الميم هنا بمعنى مصعد، وهو موضع الصعود. قال الراغب: العروج: ذهاب في صعود، والمعارج: المصاعد.
﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ﴾ أصله: يرأيونه، نقلت حركة الهمزة إلى الراء نقلًا مطردًا كما تقدم ثم حذفت للتخفيف، فصار اللفظ: يريونه فقلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت لما التقت سنة مع واو الجماعة. ﴿وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧)﴾ أصله أيضًا: نرأيه فعل بالهمز ما فعل بهمزة ﴿يرونه﴾، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ولم تحذف لعدم التقاء الساكنيني. ﴿كَالْمُهْلِ﴾ المهل: درديّ الزيت، وهو ما يكون في قعر الإناء منه
﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (٩)﴾ ﴿والعهن﴾: الصوف مطلقًا، وقيل: بقيد كونه أحمر، وقيل: بقيد كونه مصبوغًا، وقيل: بقيد كونه مصبوغًا بألوان شتّى اهـ سمين. وهذه الأقوال في معنى ﴿العهن﴾ في اللغة اهـ. ﴿حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ و ﴿الحميم﴾: القريب. ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾؛ أي: يبصر الأحماء الأحماء، ويرونهم. ﴿يَوَدُّ الْمُجْرِمُ﴾؛ أي: يتمنى الكافر، أصله: يودد مضارع ودد بكسر العين. وفي "المصباح": نقلت حركة الدال إلى الواو، وهذا النقل غير معهود؛ إذ المعهود نقل حركة حرف اللين إلى الساكن الصحيح، وهنا بالعكس. فلما وقع هذا النقل سكنت الدال الأولى، وأدغمت في الثانية. ﴿لَوْ يَفْتَدِي﴾ من الافتداء، والافتداء: حفظ الإنسان نفسه عن النائبة بما يبذل عنه. ﴿وَفَصِيلَتِهِ﴾ الفصيلة؛ العشيرة، وقال ثعلب: الآباء الأدنون، فهي فعيلة بمعنى مفعولة؛ أي: مفصول منها. ﴿تُؤْوِيهِ﴾ من أوى إلى كذا: انضم إليه، وآواه غيره، كما قال تعالى: ﴿آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾؛ أي: ضمه إلى نفسه. فمعنى ﴿تُؤْوِيهِ﴾: تضمه إليها في النسب، أو عند الشدائد، فيلوذ بها.
﴿كَلَّا﴾ ردع للمجرم عن الودادة، وتصريح بامتناع إنجاء الافتداء؛ أي: ليس الأمر كما يتمنى. ﴿إنَهَا لَظَى﴾ علم لجهنم؛ لأنها تتلظى؛ أي: تتلهب على من يصلاها. ﴿نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (١٦)﴾ يقال: نزع الشيء: جذبه من مقره وقلعه. والشوى: جمع شواة، وهي جلدة الرأس، وفيه إعلال بالقلب، أصله: الشوي قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿وَجَمَعَ فَأَوْعَى (١٨)﴾ أوعى فيه إعلال بالقلب، أصله: أوعى بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿هَلُوعًا﴾ قال في "الصحاح": الهلع في اللغة: أشد الحرص وأسوأ الجزع وأفحشه، يقال: هلع بالكسر من باب فرح، فهو هلع وهلوع على التكثير، والهلوع مبالغة هالع. وقال عكرمة: هو الضجور، وقيل غير ذلك، فالهلوع والجزوع والمنوع كل من الثلاثة صيغة مبالغة؛ لأنها على زنة فعول كضروب بمعنى: كثير الضرب. ﴿إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢)﴾ أصله: المصليين بياءين، الأولى لام الكلمة والثانية ياء الجمع، حذفت حركة الياء الأولى للتخفيف، ثم حذفت لالتقاء الساكنين. ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (٢٣)﴾ الأصل: داومون بالواو، أبدلت الواو همزة في الوصف حملًا له على فعله "دام" في الإعلال، فأصل دام
﴿عِزِينَ﴾ جمع عزة. قال أبو عبيدة: جماعات في تفرقة، وقيل: الجمع اليسير كثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة. وقال الأصمعي: في الدار عزون؛ أي: أصناف من الناس. وعزين: جمع عزةٍ، والهاء فيه عوض عن لام الكلمة التي قيل: إنها واو، يقال: عزاه يعزوه إذا أضافه إلى غيره، وقيل: إنها ياء يقال: عزيته بالياء أعزيه بمعنى: عزوته. وقيل: إنها هاء، والأصل: عزهة. والقولان الأولان أولى من الثالث، وعليه فلام الكلمة محذوفة، والياء الموجودة ياء الجمع؛ لأن هذا اللفظ من الألفاظ الملحقة بالجمع المذكر السالم، فوزنه: فعين. ﴿يَخُوضُوا﴾ أصله: يخوضوا بوزن يفعلوا، نقلت حركة الواو إلى الخاء فسكنت إثر ضمة، فصارت حرف مد. ﴿يُلَاقُوا﴾ أصله: يلاقيوا، استثقلت الضمة على الياء، فحذفت فسكنت، فالتقى ساكنان فحذفت الياء وضمت القاف لمناسبة الواو، فوزنه: يفاعوا. ﴿نُصُبٍ﴾ تقدم القول فيه مفصلًا، ونضيف إليه هنا أنه قرىء ﴿نصب﴾ بالفتح والإسكان، وقراءتنا بضقتين، وقرىء بفتحتين، وقرىء بضم فسكون، فالأول اسم مفرد بمعنى العلم المنصوب الذي يسرع الشخص نحوه. وقال أبو عمرو: هو شبكة الصائد يسرع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته. وأما الثانية فتحتمل ثلاثة أوجه:
والثاني: أنه جمع نصاب ككتب وكتاب.
والثالث: أنه جمع نصب كرهن في رهن وسقف في سقف، وجمع الجمع: أنصاب. وأما الثالثة ففعل بمعنى مفعول؛ أي: منصوب كالقبض بمعنى المقبوض، والرابعة تخفيف من الثانية. ﴿يُوفِضُونَ﴾ من الإيفاض، وهو الإسراع.
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ﴾ وقوله: ﴿تَعْرُجُ﴾ و ﴿ذِي الْمَعَارِجِ﴾.
ومنها: إيراد صيغة تدل على الماضي في قوله: ﴿وَاقِعٍ﴾ دون سيوقع، للدلالة على تحقق وقوعه إمّا في الدنيا كما في يوم بدر، وإمّا في الآخرة وهو عذاب النار.
ومنها: فن التمثيل والتشبيه في قوله: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)﴾، فهذا من التمثيل، فليس المراد حقيقة ذلك العدد، بل المراد الإشارة إلى أنه يبدو للكافر طويلًا لما يلقاه خلاله من الهول والشدائد، فلا تنافي مع آية السجدة ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾. والعرب تصف أيام الشدة بالطول، وأيام الفرح بالقصر. قال الشاعر:
فَقِصَارُهُنَ مَعَ الْهُمُومِ طَوِيلَةٌ | وَطِوَالُهُنَّ مَعَ السُّرُوْرِ قِصَارُ |
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (٥)﴾.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: ﴿تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ﴾، فالروح هو جبريل، أفرده بالذكر إظهارًا لشرفه وفضله.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (٨)﴾ لحذف وجه الشبه، ووجه الشبه فيه التلون، وكذلك قوله: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (٩)﴾، ووجه الشبه في هذا التطاير والتناثر. وقد رمق أبو العلاء هذه السماء العالية من البلاغة، إذ قال في رثاء أبيه:
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلَ يَخِفُّ وَقَارُهُ | إِذَا صَارَ أُحْدٌ في الْقِيامَةِ كَالعِهْن |
ومنها: التنكير في قوله: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠)﴾ إفادة للتعميم.
ومنها: ذكر العام بعد الخاص في قوله: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤)﴾، جاء بالتعميم في قوله: ﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ بعد التخصيص فيما قبله لبيان هول الموقف.
ومنها: إيراد لفظ ﴿مَنْ﴾ في قوله: ﴿وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ تغليبًا للعاقل على غيره.
ومنها: المجاز العقليّ في قوله: ﴿تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧)﴾، فهو مجاز عن إحضارهم كأنها تدعوهم فتحضرهم، أو من مجاز الحذف؛ أي: تدعو زبانيتها، فهو على حذف مضاف، أو من الإسناد المجازي حيث أسند فعل الداعي إلى المدعوّ له.
ومنها: المقابلة اللطيفة في قوله: ﴿إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠)﴾، قابله بقوله: ﴿وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١)﴾.
ومنها: تقديم لفظ ﴿هم﴾ في قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (٢٣)﴾ إفادة لتقوية الحكم، وتقريره في ذهن السامع كما في قولك: هو يعطي الجزيل قصدًا إلى تحقيق أنه يفعل إعطاء الجزيل.
ومنها: الطباق بين السائل والمحروم في قوله: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥)﴾.
ومنها: التعبير عن سوءتي الرجل والمرأة؛ أي: قبلهما بلفظ الفروج في قوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٢٩)﴾، تعليمًا للأدب في الكلام وأدب المرء خير من ذهبه.
ومنها: التعبير بـ ﴿ما﴾ في قوله: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ﴾ من الولائد إجراءً لهن لمملوكيتهن مجرى غير العقلاء، أو لأنوثتهن المنبئة عن القصور كما مرّ.
ومنها: تكرير الصلاة في قوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٣٤)﴾ اهتمامًا بشأنها وتنويهًا بفضلها، وفيه أيضًا تصدير الجملة بالضمير تقويةً للحكم وتقريرًا له
ومنها: تقديم الجار والمجرور على الفعل إفادة للاختصاص الدال على أن محافظتهم مقصورة على صلاتهم، لا تجاوز إلى أمور دنياهم.
ومنها: فعلية الخبر، فتفيد الجملة الاسمية الدوام والاستمرار. وتفيد الجملة الفعلية التجدد مع الاستمرار. وهذا نمط عجيب انفرد به كتاب الله تعالى.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخيّ في قوله: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨)﴾.
ومنها: إيراد لفظ ﴿كُلُّ﴾ في قوله: ﴿أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ﴾ إشعارًا بأن من آمن منهم بعد قولهم هذا، وأطاع الله ورسوله حق له الطمع، وتعميمًا للردع لكل منهم كائنًا من كان ممن لم يؤمن.
ومنها: تنكير ﴿جَنَّةَ﴾ إشعارًا بأنهم مردودون من كل جنة، وإن كانت الجنان كثيرة.
ومنها: توصيفها بنعيم إشعارًا بأن كل جنة مملوءة بالنعمة، وأن من طرد من راحة النعيم، وقع في كدر الجحيم، كما مرّ جميع ذلك.
ومنها: الكناية الفائقة الرائقة في قوله: ﴿إنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ﴾، فإنّه كناية عن المنيّ القذر مع النزاهة التامّة في التعبير، وحسن الإيقاظ والتذكير بألطف عبارة وأبلغ إشارة.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ﴾، وفي هذا التشبيه تهجين لحالهم الجاهلية، وتهكّم بهم بذكر جهالتهم التي اعتادوها من الإسراع إلى ما لا يملك نفعًا ولا ضرًّا، وتعريض بسخافة عقولهم، وتسجيل عليهم بالجهل المشين، حيث أسرعوا إلى عبادة من لا يستحق العبادة.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
* * *
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - وصف يوم القيامة وأهواله.
٢ - وصف النار وعذابها.
٣ - صفات الإنسان التي أوجبت له الجحيم، وكيف يجتهد لإزالة ما به من النقص حتى يرتقي إلى المعارج، ويخرج من عالم المادّة.
٤ - وعيد الكافرين على ما يلاقونه في ذلك اليوم الرهيب من الأهوال العجيبة (١).
والله أعلم
* * *
سورة نوح عليه السلام مكيّة، نزلت بعد سورة النحل. وأخرج ابن الضريس والنحاس، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت سورة ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا﴾ بمكة.
وآياتها (١): سبع أو ثمان وعشرون آية. وكلماتها: مئتان وأربع وعشرون كلمة. وحروفها: تسع مئة وتسعة وتسعون حرفًا.
مناسبتها لما قبلها (٢):
١ - أنّه قال في السورة السابقة: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (٤٠) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١)﴾ وذكر هنا قصة نوح المشتملة على إغراقهم. إلا من قد آمن، وإبدالهم بمن هو خير منهم، فكأنَّها وقعت موقع الاستدلال على تلك الدعوى.
٢ - تواخي مطلع السورتين في ذكر العذاب الموعود به الكفار.
وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها (٣): أنه تعالى لما أقسم على أن يبدل خيرًا منهم، وكانوا قد سخروا من المؤمنين، وكذَّبوا بما وعدوا به من العذاب ذكر قصة نوح وقومه معه، وكانوا أشد تمردًا من المشركين، فأخذهم الله أخذ استئصال حتى إنه لم يبق لهم نسلًا على وجه الأرض، وكانوا عباد أصنام كمشركي مكة، فحذَّر تعالى قريشًا أن يصيبهم عذاب يستأصلهم إن لم يؤمنوا.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال محمد بن حزم: سورة نوح كلها محكم، ليس فيها ناسخ ولا منسوخ. وسميت سورة نوح لذكر قصة نوح فيها.
والله أعلم
* * *
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (١٢) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (٢٠) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (٢١) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (٢٤) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (٢٥) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (٢٨)﴾.المناسبة
قد تقدم لك بيان المناسبة بين هذه السورة والسورة التي قبلها، وأخبر سبحانه في بداية هذه السورة أنه أرسل نوحًا إلى قومه، وأمره أن ينذرهم بأسه قبل حلوله بهم، فقال نوح: يا قوم إني لكم نذير، فعليكم أن تعبدوا الله وحده وتطيعوه، فإن فعلتم ذلك.. غفر لكم ذنوبكم، ومد في أعماركم، ودرأ عنكم العذاب، وأمر الله إذا جاء لا يرد ولا يدفع، فهو العظيم الذي قهر كل شيء العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.
قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا...﴾ الآيات، مناسبتها لما