ﰡ
مكية، وآياتها ٣٦ [نزلت بعد العنكبوت، وهي آخر سورة نزلت بمكة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤)لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦)
التطفيف: البخس في الكيل والوزن، لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير. وروى أن رسول الله ﷺ قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا، فنزلت، فأحسنوا الكيل «١» وقيل: قدمها وبها رجل يعرف بأبى جهينة ومعه صاعان: يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر «٢».
وقيل: كان أهل المدينة تجارا يطففون، وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة، فنزلت فخرج رسول الله ﷺ فقرأها «٣» عليهم. وقال: «خمس بخمس» : قيل: يا رسول الله، وما خمس بخمس؟ قال «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر «٤» » وعن على رضى الله عنه: أنه مر برجل يزن الزعفران وقد أرجح فقال له: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها ويفصل الواجب من النفل. وعن ابن عباس: إنكم معشر الأعاجم وليتم أمرين: بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان، وخص الأعاجم لأنهم يجمعون الكيل والوزن جميعا وكانا مفرّقين في الحرمين: كان أهل مكة يزنون
(٢). نقله الثعلبي عن السدى.
(٣). لم أجده.
وعن أبىّ رضى الله عنه: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤس المكاييل وألسن الموازين. لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرهم «١» ويتحامل فيه عليهم: أبدل «على» مكان «من» للدلالة على ذلك. ويجوز أن يتعلق «على» بيستوفون، ويقدم المفعول على الفعل لإفادة الخصوصية، أى:
يستوفون على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفون لها: وقال الفراء «من» و «على» يعتقبان في هذا الموضع، لأنه حق عليه، فإذا قال: اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك، فكقوله: استوفيت منك. والضمير في كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ ضمير منصوب راجع إلى الناس. وفيه وجهان: أن يراد: كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف الجار وأوصل الفعل، كما قال،
(٤). أخرجه الحاكم من رواية عبد الله بن بريدة عن أبيه رفعه «ما نقض قوم العهد | الحديث» وفيه بشر ابن المهاجر. وفيه مقال، ومن طريق عطاء بن أبى رباح عن عبد الله بن عمرو مرفوعا نحوه. |
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا | ولقد نهيتك عن نبات الأوبر «٢» |
(٢). «جنى لا يتعدى إلا لواحد والثاني باللام، فالأصل: جنيت لك، فحذف الجار وأوصل الضمير.
أو ضمنه معنى: أبحتك، فعداه لهما. والأكمؤ: جمع كمأ، كأفلس وفلس، وهو واحد الكمأة، وهي لنوع كبير من نبات يسمى شحمة الأرض، سمى كمأة لاشتهاره بها. والعساقل: جمع عسقول كعصفور، وكان حقه: عساقيل، فحذفت الياء الوزن. وقيل: إنه جمع عسقل، وهو نوع صغير منها جيد أبيض، ونبات أوبر: نوع ردىء منها أسود مزغب، كأن عليه وبر. وقيل: هو جنس آخر يشبه القلقاس أو اللفت. ونبات أوبر: جمع ابن أوبر، لأنه علم لما لا يعقل. وأل فيه زائدة. وقال المبرد: هو اسم جنس، قال فيه معرفة، والبيت من باب التمثيل مثال؟؟؟ من أغرى على الطيب، فعدل إلى الخبيث، ثم يرجع يتندم على عاتبته.
هلا قيل: أو اتزنوا، كما قيل أَوْ وَزَنُوهُمْ؟ قلت: كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة، لأنهم يدعدعون «١» ويحتالون في الملء، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعا يُخْسِرُونَ ينقصون. يقال: خسر الميزان «٢» وأخسره أَلا يَظُنُّ إنكار وتعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون ببالهم ولا يخمنون تخمينا أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ ومحاسبون على مقدار الذرّة والخردلة. وعن قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحب أن يوفى لك، واعدل كما تحب أن يعدل لك. وعن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة.
وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابيا قال له: قد سمعت ما قال الله في المطففين: أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن. وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصفه ذاته برب العالمين: بيان بليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط، والعمل على السوية والعدل في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل. وقيل: الظنّ بمعنى اليقين، والوجه ما ذكر، ونصب يَوْمَ يَقُومُ بمبعوثون. وقرئ بالجر بدلا من لِيَوْمٍ عَظِيمٍ وعن ابن عمر أنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بكى نحيبا وامتنع من قراءة ما بعده.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٧ الى ٩]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩)
ملأته. (ع)
(٢). قوله «يقال خسر الميزان» عبارة الصحاح: خسرت الشيء وأخسرته: نقصته. (ع)
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١٠ الى ١٧]
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ مما وصف به للذم لا للبيان، كقولك فعل ذلك فلان الفاسق الخبيث كَلَّا ردع للمعتدى الأثيم عن قوله رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ركبها كما يركب الصدأ وغلب عليها:
وهو أن يصر على الكبائر ويسوّف التوبة حتى يطبع على قلبه، فلا يقبل الخير ولا يميل إليه.
وعن الحسن: الذنب بعد الذنب حتى يسودّ القلب. يقال: ران عليه الذنب وغان عليه، رينا وغينا، والغين: الغيم، ويقال: ران فيه النوم رسخ فيه، ورانت به الخمر: ذهبت به. وقرئ بإدغام اللام في الراء وبالإظهار، والإدغام أجود، وأميلت الألف وفخمت كَلَّا ردع عن
إذا اعتروا باب ذى عبية رجبوا | والنّاس من بين مرجوب ومحجوب «٣» |
عن كرامته:
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١٨ الى ٢١]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١)
كَلَّا ردع عن التكذيب. وكتاب الأبرار: ما كتب من أعمالهم. وعليون: علم لديوان الخير الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثقلين، منقول من جمع «علىّ» فعيل من العلو كسجين من السجن، سمى بذلك إمّا لأنه سبب الارتفاع إلى أعالى الدرجات في الجنة، وإمّا لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون، تكريما له وتعظيما. روى «إن الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله من سلطانه أوحى إليهم إنكم الحفظة على عبدى وأنا الرقيب على ما في قلبه، وأنه أخلص عمله فاجعلوه في عليين، فقد غفرت له، وإنها لتصعد بعمل العبد فيزكونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء الله أوحى إليهم: أنتم الحفظة على
(٢). قوله «تمثيل للاستخفاف بهم» مبنى على مذهب المعتزلة: وهو عدم جواز الرؤية عليه تعالى. وذهب أهل السنة إلى جوازها. وفي النسفي: قال الزجاج: في الآية دليل على أن المؤمنين يرون ربهم، وإلا لا يكون التخصيص مفيدا، وقال الحسن بن الفصل: كما حجبهم في الدنيا عن توحيده، حجبهم في العقبى عن رؤيته. وقال مالك بن أنس: لما حجب أعداءه فلم يروه، تجلى لأوليائه حتى رأوه. وكذا في الخازن. وفيه أيضا: قال الشافعي: في الآية دلالة على أن أولياء الله يرون الله جل جلاله.
(٣). غزوا: قصدوا. وروى: اعتروا، أى: نزلوا به وأصابوه. والعبية: الكبر والفخر. قال ﷺ «إن الله تعالى قد أذهب عنكم عبية الجاهلية بالآباء» الناس رجلان: مؤمن تقى وكافر شقى». ورجبة الرجل: عظمته. يقول إنهم يلجون أبواب العظماء لا تمنعهم الحجاب، بخلاف غيرهم فإنهم تارة وتارة.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٢٢ الى ٢٨]
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
الْأَرائِكِ الأسرة في الحجال «٢» يَنْظُرُونَ إلى ما شاءوا مدّ أعينهم إليه من مناظر الجنة، وإلى ما أولاهم الله من النعمة والكرامة، وإلى أعدائهم يعذبون في النار، وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك نَضْرَةَ النَّعِيمِ بهجة التنعم وماءه ورونقه، كما ترى في وجوه الأغنياء وأهل الترفه. وقرئ: تعرف، على البناء للمفعول. ونضرة النعيم- بالرفع. الرحيق الشراب الخالص الذي لا غش فيه مَخْتُومٍ تختم أوانيه من الأكواب والأباريق بمسك مكان الطينة. وقيل خِتامُهُ مِسْكٌ مقطعه رائحة مسك إذا شرب. وقيل: يمزج بالكافور، ويختم مزاجه بالمسك. وقرئ: خاتمه، بفتح التاء وكسرها، أى: ما يختم به ويقطع فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ فليرتغب المرتغبون تَسْنِيمٍ علم لعين بعينها: سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه:
إمّا لأنها أرفع شراب في الجنة وإمّا لأنها تأتيهم من فوق، على ما روى أنها تجرى في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم. وعَيْناً نصب على المدح. وقال الزجاج: نصب على الحال.
وقيل: هي للمقربين، يشربونها صرفا. وتمزج لسائر أهل الجنة.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٣]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣)
هم مشركو مكة: أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم: كانوا يضحكون
(٢). قوله «الأسرة في الحجال» في الصحاح: الحجلة- بالتحريك-: واحدة حجال العروس: وهي بيت يزين بالثياب والأسرة والستور. (ع)
يغمز بعضهم بعضا، ويشيرون بأعينهم فَكِهِينَ ملتذين بذكرهم والسخرية منهم، أى: ينسبون المسلمين إلى الضلال وَما أُرْسِلُوا على المسلمين حافِظِينَ موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم، ويهيمنون على أعمالهم، ويشهدون برشدهم وضلالهم، وهداتهكم بهم. أو هو من جملة قول الكفار، وإنهم إذا رأوا المسلمين قالوا: إنّ هؤلاء لضالون، وإنهم لم يرسلوا عليهم حافظين إنكارا لصدّهم إياهم عن الشرك، ودعائهم إلى الإسلام، وجدّهم في ذلك.
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٣٤ الى ٣٦]
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ حال من يَضْحَكُونَ أى: يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والصغار بعد العزة والكبر. ومن ألوان العذاب بعد النعيم والترفه: وهم على الأرائك آمنون. وقيل: يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم: اخرجوا إليها، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم، يفعل ذلك بهم مرارا، فيضحك المؤمنون منهم. ثوّبه وأثابه: بمعنى، إذا جازاه. قال أوس:
سأجزيك أو يجزيك عنّى مثوّب | وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي «١» |
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة المطففين سقاه الله من الرحيق المختوم يوم القيامة «٢» ».
نائب الفاعل. ويجوز أن يكون المثوب المنادى للحرب مشيرا بطرف ثوبه، ليرى من بعيد فيغاث. [.....]
(٢). أخرجه ابن مردويه والثعلبي والواحدي سندهم إلى أبى بن كعب.