تفسير سورة إبراهيم

التفسير المنير
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

٥- ابتدأ من بين قصص بعض الأنبياء المتقدّمين عليهم السّلام بمحاورة موسى لقومه ودعوته إيّاهم لعبادة الله تعالى [الآيات ٥- ٨].
٦- دعوات إبراهيم عليه السّلام بعد بناء البيت الحرام لأهل مكة بالأمان والرّزق وتعلّق القلوب بالبيت الحرام، وتجنيبه وذريّته عبادة الأصنام، وشكره ربّه على ما وهبه من الأولاد بعد الكبر، وتوفيقه وذريّته لإقامة الصّلاة، وطلبه المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين [الآيات ٣٥- ٤١].
٧- بيان مشهد من مشاهد الحوار بين أهل النّار في عالم الآخرة [الآيات ١٩- ٢٣].
٨- ضرب الأمثال لكلمة الحقّ والإيمان وكلمة الباطل والضّلال بالشّجرة الطّيّبة والشّجرة الخبيثة [الآيات ٢٤- ٢٧].
٩- التّذكير بأهوال القيامة وتهديد الظالمين وبيان ألوان عذابهم [الآيات:
٤٢- ٥٢].
١٠- بيان الحكمة من تأخير العذاب ليوم القيامة، وهو ما ختمت به السّورة [الآيتان: ٥١- ٥٢].
الغاية من إنزال القرآن وذم الكافرين وكون الرسول بلسان قومه
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)
199
الإعراب:
الر إما خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الر، وإما في موضع نصب على تقدير: الزم أو اقرأ الر، وتكون جملة: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مفسّرة.
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ كِتابٌ: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذا كتاب. وأَنْزَلْناهُ:
جملة فعلية في موضع رفع صفة كِتابٌ. إِلى صِراطِ بدل من قوله إِلَى النُّورِ.
اللَّهِ الَّذِي بالجر بدل من قوله الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ويقرأ بالرفع، فيكون مبتدأ، وما بعده خبره، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو الله الذي له ما في السموات.
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ نعت للكافرين.
عِوَجاً منصوب على المصدر في موضع الحال. وقيل: إنه مفعول «يبغون» واللام محذوفة من المفعول الأول، تقديره: ويبغون لها عوجا.
فَيُضِلُّ اللَّهُ مرفوع على الاستئناف والاقتطاع من الأول.
البلاغة:
مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ استعارة، استعار الظلمات للكفر والضلال، والنور للهدى والإيمان. أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ جناس اشتقاق.
فَيُضِلُّ.. وَيَهْدِي بينهما طباق.
الحميد.. شديد.. بعيد فيها سجع.
المفردات اللغوية:
الر الابتداء بالحروف الهجائية في بعض السور لبيان طبيعة تكوين القرآن وأنه من جنس الحروف التي ينطق بها العرب، فهي للتحدي وبيان إعجاز القرآن، وأنه من كلام الله، بدليل العجز عن الإتيان بأقصر سورة من مثله، بالرغم من تكوينه من حروف اللغة العربية.
200
كِتابٌ أي هو كتاب. لِتُخْرِجَ النَّاسَ بدعائك إياهم إلى ما تضمنه. مِنَ الظُّلُماتِ من أنواع الضلال والكفر. إِلَى النُّورِ إلى الهدى والإيمان. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بأمره وتيسيره وتسهيله وتوفيقه. إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ إلى طريق الغالب، المحمود المثنى عليه من نفسه ومن عباده. وإضافة الصراط إلى الله تعالى إما لأنه مقصده أو المظهر له. والتخصيص بالوصفين المذكورين للتنبيه على أنه لا يذل سالكه، ولا يخيب سابله.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا. وَيْلٌ هلاك وعذاب.
يَسْتَحِبُّونَ يختارون. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بتعويق الناس عن الإيمان، واعتناق دين الإسلام. وَيَبْغُونَها عِوَجاً يطلبون السبيل معوجة، أو يطلبون لها زيغا واعوجاجا وانحرافا عن الحق ليقدحوا فيه. أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي الكافرون ضلوا عن الحق وانحرفوا عنه.
بِلِسانِ بلغة. لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ليفهمهم ما أتى به، ويوضح لهم ما آمروا به، فيفقهوه عنه بيسر وسرعة، ثم ينقلوه لغيرهم، فإنهم أولى الناس بالدعوة، وأحق بالإنذار.
فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ فيخذله عن الإيمان. وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق له. وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه، فلا يغلب على مشيئته. الْحَكِيمُ في صنعه، فلا يهدي ولا يضل إلا لحكمة.
التفسير والبيان:
هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن العظيم، لتخرج الناس به مما هم فيه من ظلمات الكفر والضلال والغي والجهل، إلى نور الإيمان والهدى والرشد، بما اشتمل عليه من أصول الحكم السديد، والدعوة إلى الحياة الكريمة والمدنية والحضارة السامقة، كما قال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة ٢/ ٢٥٧] وقال عز وجل: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ، لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الحديد ٥٧/ ٩].
وقد دلت الآية على أن القرآن موصوف بكونه منزلا من عند الله تعالى.
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بتوفيقه وتيسيره، فهو الهادي بإرسال نور الهداية إلى قلوبهم. لكن أسند الفعل لِتُخْرِجَ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه الداعي والمبلّغ.
201
إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ إلى الطريق المستقيم، طريق الله العزيز الذي لا يغالب، بل هو القاهر لكل ما سواه، الحميد أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله، وشرعه، وأمره ونهيه، والصادق في خبره.
اللَّهِ الَّذِي.. أي الإله الذي له كل ما في السموات والأرض خلقا وملكا وعبيدا وتصريفا وتدبيرا. وتكرار هذه الصفة كثيرا في القرآن للتنبيه على عظمة الخالق، ولإعمال النظر في المخلوقات، والإفادة منها.
وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ.. أي هلاك وعذاب شديد يوم القيامة لمن كفر برسالتك وجحد بوحدانية الله. وهذا وعيد شديد لهم.
ثم وصفهم الله تعالى بصفات ثلاث بقوله:
١- الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ.. أي الذين يختارون الحياة الدنيا على الآخرة، ويقدمونها ويؤثرونها عليها، ويعملون للدنيا، ونسوا الآخرة وتركوها.
٢- وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي ويمنعون من اتباع الرسل، ويعوقون عن الإيمان بالله، ويصرفون عن الإسلام كل من أراده.
٣- وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي ويحبون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة، منحرفة عن الحق، لتوافق أهواءهم وأغراضهم، وهي في واقعها مستقيمة في نفسها لا تقبل الانحراف عن الحق. والسبيل: تذكر وتؤنث.
قال في الكشاف: الأصل في الكلام أن يقال: ويبغون لها عوجا، فحذف الجار وأوصل الفعل.
ومن أمثلة ذلك في العصر الحديث الانصراف عن تطبيق الحدود الشرعية والقصاص، بحجة قسوتها، وعدم ملاءمتها لروح العصر، ومنافاتها للإنسانية:
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف ١٨/ ٥]. وقد
202
أدى هذا الاتجاه إلى كثرة الجرائم، حتى إنه في كل ثانية يقع في بريطانيا مثلا خمس عشرة ألف جريمة، وأما في أمريكا فأكثر من ذلك.
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أولئك الكفار الموصوفون بتلك الصفات السابقة في ضلال بعيد كل البعد عن الحق، وفي جهل سحيق، لا يرجى لهم- والحالة هذه- صلاح ولا فلاح.
وبعد أن بين تعالى مقاصد القرآن وأثره في الهداية، بيّن أنه سبيل ميسر للاهتداء به، لكونه بلغة قوم الرسول، فقال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ..
هذا من لطفه تعالى أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم، ليفهموا عنهم ما يريدون، وما أرسلوا به إليهم، كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا: فُصِّلَتْ آياتُهُ [فصلت ٤١/ ٤٤]
وأخرج الإمام أحمد عن أبي ذر قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم يبعث الله عز وجل نبيا إلا بلغة قومه».
فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ.. أي أنه بعد البيان وإقامة الحجة على الناس يكون الناس فريقين: فريق يضله الله عن وجه الهدى، لإيغاله في الكفر واجتراحه السيئات والآثام، وعناده، وفريق يهديه الله إلى الحق، ويشرح صدره للإسلام، فيتبع سبيل الرشاد. وهذا كلام مستأنف وليس بمعطوف على لِيُبَيِّنَ لأن الإرسال إنما وقع للتبيين، لا للإضلال.
وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ والله سبحانه القوي الذي لا يغلب، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والحكيم في صنعه وأفعاله، فيضل من يستحق الإضلال، ويهدي من هو أهل لذلك، فلا يفعل شيئا إلا على وفق الحكمة والعلم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ دليل على أن القرآن منزل من عند الله
203
تعالى، وأن مهمته إخراج الناس من ظلمات الكفر والضلالة والجهل إلى نور الإيمان والهدى والعلم، وذلك بتوفيق الله إياهم ولطفه بهم. وفيه إنعام على الرسول بتفويضه هذا المنصب العظيم، وعلى الناس لإرساله لهم من خلصهم من ظلمات الكفر، وأرشدهم إلى نور الإيمان.
٢- قال المعتزلة: في هذه الآية دلالة على إبطال القول بالجبر من جهات ثلاث:
أحدها- إخراج الكفر من الكافر بالكتاب.
وثانيها- أنه أضاف الإخراج من الظلمات إلى النور إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وثالثها- الإخراج من الكفر بالكتاب بتلاوته عليهم ليتدبروه وينظروا فيه، فيتوصلوا إلى كونه تعالى عالما قادرا حكيما، وإلى أن القرآن معجزة صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فيقبلوا منه كل ما أداه إليهم من الشرائع، باختيارهم.
قال أهل السنة: إن المؤثر الأول في صدور الفعل من العبد وترجيح جانب الوجود على جانب العدم هو الله تعالى.
وفعل العبد مخلوق لله تعالى لقوله سبحانه: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بمشيئته وتخليقه.
٣- طرق الكفر والجهل والبدعة كثيرة، وطريق الخير واحد لأنه تعالى قال: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فعبر عن الجهل والكفر بالظلمات وهو جمع، وعبر عن الإيمان والهداية بالنور، وهو لفظ مفرد.
٤- قدم ذكر العزيز على الحميد لأن الواجب أولا في العلم بالله: العلم بكونه تعالى قادرا، ثم العلم بكونه عالما، ثم العلم بكونه غنيا عن الحاجات، والعزيز: هو القادر، والحميد: هو العالم الغني.
204
٥- لله ما في السموات وما في الأرض ملكا وعبيدا واختراعا وخلقا، وهذا يدل على أنه تعالى غير مختص بجهة العلو البتة لأن كل ما سماك وعلاك فهو سماء، وبما أن كل ما في السموات فهو ملكه، فهو منزه عن الحصول في جهة فوقية. وأما قوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الملك ٦٧/ ١٦] فالمراد به سلطانه وقدرته.
وتدل الآية أيضا على الحصر، أي كل ما في السموات والأرض له، لا لغيره، وهو يدل على أنه لا مالك إلا الله، ولا حاكم إلا الله عز وجل.
ولهذا عطف عليه وعيد الكفار بقوله: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ لأنهم تركوا عبادة الله تعالى الذي هو مالك السموات والأرض وما فيهما، إلى عبادة ما لا يملك ضرا ولا نفعا، ويخلق ولا يخلق، ولا إدراك لها ولا فعل.
٦- استحقاق الكافرين الهلاك والعذاب في نار جهنم لصفات ثلاث: هي تفضيلهم أو إيثارهم الدنيا على الآخرة، ومنعهم الناس من الوصول إلى سبيل الله ودينه، وهو المنهج القويم والطريق المستقيم، وطلبهم لسبيل الله زيغا وميلا واعوجاجا، لموافقة أهوائهم، وقضاء حاجاتهم وأغراضهم، فهم في ضلال بعيد عن الحق.
٧- من فضل الله وتيسيره الاهتداء بهدايته إرسال كل رسول إلى قومه بلغتهم، ليبين لهم أمر دينهم، وليفهموا منه شرائع الله، ويفقهوها عنه بيسر وسرعة، ثم ينقلوها لغيرهم.
وإرسال جميع الرسل بلغة قومهم يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسل، وهو يدل على أن اللغات حاصلة بالاصطلاح، وليست توقيفية، كما ذكر الرازي.
٨- قوله: فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ رد على القدرية في
205
نفوذ المشيئة، وإخبار بأن الضلال والهداية من الله تعالى، فهو تعالى يضل من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته حسبما يعلم من استعداد العبد واختياره، وليس على ذلك الرسول غير التبليغ والتبيين، ولم يكلف أن يهدي، بل الهدى بيد الله على ما سبق قضاؤه.
وقال الزمخشري على طريقة الاعتزال: والمراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف، وبالهداية: التوفيق واللطف، وكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان «١».
ويؤكد الرأي الأول لأهل السنة
ما روي: أن أبا بكر وعمر أقبلا في جماعة من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ما هذا؟» فقال بعضهم:
يا رسول الله، يقول أبو بكر: الحسنات من الله، والسيئات من أنفسنا، ويقول عمر: كلاهما من الله، وتبع بعضهم أبا بكر، وبعضهم عمر، فتعرف الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما قاله أبو بكر، وأعرض عنه حتى عرف ذلك في وجهه، ثم أقبل على عمر، فتعرف ما قاله، وعرف البشر في وجهه. ثم قال: «أقضي بينكما كما قضى به إسرافيل بين جبريل وميكائيل، قال جبريل مثل مقالتك يا عمر، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكر، فقضاء إسرافيل: أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى، وهذا قضائي بينكما» «٢».
ثم ذكر الرازي تأويلات ثلاثة للآية، بعد أن قال: لا يمكن حمل الآية على أنه تعالى يخلق الكفر في العبد «٣» :
الأول- أن المراد بالإضلال: هو الحكم بكونه كافرا ضالا، كما يقال: فلان يكفّر فلانا ويضلله، أي يحكم بكونه كافرا ضالا.
(١) الكشاف: ٢/ ١٧١
(٢) تفسير الرازي: ١٩/ ٨٠
(٣) المرجع السابق ٨١
206
والثاني- أن يكون الإضلال: عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنة إلى النار، والهداية: عبارة عن إرشادهم إلى طريق الجنة.
والثالث- أنه تعالى لما ترك الضال على إضلاله، ولم يتعرض له، صار كأنه أضله، والمهتدي لما أعانه بالألطاف، صار كأنه هو الذي هداه.
والخلاصة: إنه لا إجبار على الإيمان والكفر، ولا يخلق العبد كافرا أو لا يخلق الكفر في العبد، وإنما المراد بالإضلال والهداية بيان طريقي الشر والخير، كما قال تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد ٩٠/ ١٠].
مهمة الرسول موسى عليه السلام ونصائحه لقومه
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٥ الى ٨]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨)
الإعراب:
أَنْ أَخْرِجْ أَنْ: إما أن يكون لها موضع من الإعراب، وهو النصب، وتقديره:
بأن أخرج قومك، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به، وإما ألا يكون لها موضع من الإعراب، وتكون مفسّرة بمعنى أي، مثل أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا [ص ٣٨/ ٦].
وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ أتى بالواو هنا، ليدل على أن الثاني غير الأول، وحذفت في غير هذا الموضع في سورة البقرة، ليدل على البدل، وأن الثاني بعض الأول، أي أنه في سورة البقرة تفسير لما سبق، وهنا غير تفسير، وإنما التذبيح نوع آخر من العذاب غير الأول.
إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ حذفت الفاء من جواب الشرط للشهرة.
البلاغة:
شَكَرْتُمْ وكَفَرْتُمْ بينهما طباق.
صَبَّارٍ شَكُورٍ صيغة مبالغة فيهما.
شديد.. حميد فيهما سجع.
المفردات اللغوية:
بِآياتِنا الجمهور على أنها الآيات التسع التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام، يعني اليد والعصا وسائر معجزاته. وقيل: هي الجراد والقمل والضفادع ونحوها. أَنْ أَخْرِجْ أي بأن أخرج، أو بمعنى أي كأن في الإرسال معنى القول. قَوْمَكَ بني إسرائيل. مِنَ الظُّلُماتِ الكفر والجهالات. إِلَى النُّورِ الإيمان بالله وتوحيده وجميع ما أمروا به وَذَكِّرْهُمْ عظهم، بِأَيَّامِ اللَّهِ وقائعه التي وقعت على الأمم السابقة، وأيام العرب: حروبها. وقيل: بنعمائه وبلائه. صَبَّارٍ كثير الصبر على البلاء والطاعة. شَكُورٍ أي كثير الشكر للنعم.
وَإِذْ قالَ واذكر حين قال موسى. يَسُومُونَكُمْ يذيقونكم العذاب السيء الشديد.
وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ المولودين. وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يبقونهم أحياء للذل والعار لقول بعض الكهنة: إن مولودا يولد في بني إسرائيل يكون سبب ذهاب ملك فرعون. وَفِي ذلِكُمْ الإنجاء أو العذاب. بَلاءٌ إنعام أو ابتلاء واختبار.
وَإِذْ تَأَذَّنَ واذكر حين أعلم وآذن. لَئِنْ شَكَرْتُمْ نعمتي بالتوحيد والطاعة. وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ جحدتم النعمة بالكفر والمعصية، لأعذبنكم، دل عليه إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.
لَغَنِيٌّ عن خلقه. حَمِيدٌ مستحق للحمد في ذاته، محمود في صنعه بهم، تحمده
207
الملائكة وتنطق بنعمه المخلوقات، فما ضررتم بالكفران إلا أنفسكم، حيث حرمتموها مزيد الإنعام، وعرضتموها للعذاب الشديد.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنه أرسل محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن إرساله نعمة له ولقومه، أتبع ذلك بذكر قصة موسى عليه السلام، ثم بقصص أنبياء آخرين مع أقوامهم، تنبيها على أن المقصود من بعثة الرسل واحد: وهو إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتصبيرا للرسول على أذى قومه، وإرشادا له إلى كيفية معاملتهم ومكالمتهم.
التفسير والبيان:
208
كما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس كلهم من الظلمات إلى النور، كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بالآيات التسع، وأمرناه قائلين له: أخرج قومك من الظلمات إلى النور، أي أدعهم إلى الخير، ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال، إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان.
وعظهم بأيام الله، أي بوقائعه التي مرت على أمم الأنبياء السابقين، وكيف نجا المؤمنون، وهلك الكافرون!! أو ذكّرهم بنعم الله عليهم في إخراجهم من أسر فرعون وقهره، وظلمه وغشمه، وإنجائه إياهم من عدوهم، وفلقه لهم البحر، وتظليله إياهم الغمام، وإنزاله عليهم المن والسلوى، وغير ذلك من النعم.
روى الإمام أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم حديثا مرفوعا عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ قال: بنعم الله تعالى.
وأيام الله في عهد موسى: إما محنة وبلاء: وهي الأيام التي كان فيها
209
بنو إسرائيل تحت قهر فرعون واستعباده، وإما نعمة كإنجائهم من عدوهم، وفلق البحر لهم، وإنزال المن والسلوى عليهم.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ.. أي إن في ذلك التذكير لدلائل على وحدانية الله وقدرته، وإن فيما صنعنا ببني إسرائيل حين أنقذناهم من بطش فرعون، وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين لعبرة، لكل كثير الصبر على الطاعة والبلاء أو الضراء، شكور في حال النعمة والرفاه والسرور. قال قتادة: نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر.
وجاء في صحيح البخاري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن أمر المؤمن كله عجب، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيرا له، وإن أصابته سرّاء، شكر، فكان خيرا له».
فعلى المسلم أن يكون صابرا شكورا، يصبر عند البلاء والمحنة، ويشكر عند الرخاء والنعمة.
وَإِذْ قالَ مُوسى... واذكر حين قال موسى لقومه: يا قوم، تذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون، وما كانوا يذيقونكم من العذاب والإذلال، ويكلفونكم من الأعمال ما لا تطيقون، وكانوا يذبحون أبناءكم المولودين الصغار، خوفا من ظهور ولد يكون سببا في تدمير ملك فرعون، كما فسرت الرؤيا لفرعون مصر، وكانوا يتركون الإناث أحياء ذليلات مستضعفات، وذلك من أعظم البلاء، فأنقذكم الله من عذابهم، وهذه نعمة عظيمة.
وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي وفيما ذكرت لكم اختبار عظيم من ربكم، سواء في حال النقمة، أو في حال النعمة، ليعرف الإنسان أيشكر أم يكفر؟! كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً، وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ
الأنبياء ٢١/ ٣٥] وقال سبحانه: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف ٧/ ١٦٨].
210
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ.. واذكروا يا بني إسرائيل حين آذنكم ربكم وأعلمكم بوعده لكم، وهو قوله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها.
أخرج البخاري عن أنس حديثا فيه: «ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة».
ويحتمل أن يكون المعنى: وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه، كقوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [الأعراف ٧/ ١٦٧].
وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ.. أي ولئن جحدتم النعم وسترتموها، فلم تؤدوا حقها من الشكر. إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ أي إن عقابي أليم وقعة، شديد تأثيره وألمه، في الدنيا بزوال تلك النعم، وسلبها عنهم، وفي الآخرة بالعقاب على كفرانهم، والمراد بالكفر هما: الكفران. جاء في الحديث الثابت الذي رواه الحاكم عن ثوبان: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه».
وَقالَ مُوسى.. أي وأعلن موسى مبدأ أساسيا في الدين، حينما لا حظ منهم أمارات الكفر والعناد، وهو أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى الإنسان، أما الله فهو غني عن عباده، فقال: إن تجحدوا نعمة الله عليكم أنتم وجميع من في الأرض من الثقلين: الإنس والجن، فإن الله غني عن شكر عباده.
وهو المحمود، وإن كفر به من كفر، كما قال تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ [الزمر ٣٩/ ٧] وقال تعالى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن ٦٤/ ٦] وقال سبحانه: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر ٣٩/ ٧].
جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه عن ربه عز وجل- أنه قال: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على
211
أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئا، إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
١- إن المقصود من بعثة الأنبياء واحد، وهو أن يسعوا في إخراج الناس من ظلمات الكفر والضلالات إلى أنوار الإيمان والهدايات.
٢- على الناس الاعتبار والاتعاظ بأيام الله تعالى، أي الوقائع العظيمة التي وقعت فيها، وتذكر نعم الله عليهم.
وذلك جمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، فالترغيب والوعد: أن يذكرهم النبي موسى أو غيره ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل، في سائر ما سلف من الأيام. والترهيب والوعيد: أن يذكرهم بأس الله وعذابه وانتقامه ممن كذب الرسل، ممن سلف من الأمم فيما سلف من الأيام، مثل ما نزل بعاد وثمود وغيرهم من العذاب، ليرغبوا في الوعد فيصدقوا، ويحذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب.
٣- إن في ذلك التذكير والتنبيه دلائل لمن كان صبارا شكورا. ففي حال المحنة والبلية يصبر، وفي حال المنحة والعطية يشكر، وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب ألا يخلو زمانه عن أحد هذين الأمرين: الصبر أو الشكر.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال فيما رواه البيهقي عن أنس، وهو ضعيف: «الإيمان نصفان:
212
فنصف في الصبر، ونصف في الشكر» ثم تلا هذه الآية: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.
٤- لقد تعرض بنو إسرائيل في زمن فرعون للحالتين: المحنة والنعمة، ولكنهم لم يقدروا النعمة ولم يشكروها، ولم يصبروا عند المحنة، وذلك ملحوظ من نصح موسى عليه السلام لهم حينما رأى أمارات الكفر والعناد فيهم.
٥- إن شكر النعمة سبب لزيادتها، وكفرانها سبب لزوالها، فالآية نص واضح في أن الشكر سبب المزيد، وأن جحود النعمة سبب النقص والزوال، فمن اشتغل بشكر نعم الله، زاده الله من نعمه، ومن كفر بنعمة الله فهو جاهل، والجهل بالله سبب لأعظم أنواع العقاب والعذاب، فالمراد بقوله: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ الكفران، لا الكفر.
والشكر: هو عبارة عن الاعتراف بنعمة المنعم، مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة.
والخلاصة: الاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد، وحصول الآفات في الدنيا والآخرة، والاشتغال بشكر النعمة يستوجب زيادتها.
٦- إن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود الا إلى صاحب الشكر وصاحب الكفران. أما المعبود المشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران.
والمراد من قول موسى: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ.. بيان أنه تعالى إنما أمر بهذه الطاعات، لمنافع عائدة إلى العابد، لا لمنافع عائدة إلى المعبود، بدليل قوله:
فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ أي لا يلحقه بذلك نقص، بل هو الغني، وهو المحمود في جميع الأحوال.
213
بعض أخبار الرسل السابقين مع أممهم
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٩ الى ١٢]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢)
الإعراب:
وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ ما: استفهامية في موضع رفع مبتدأ، وخبره لَنا وأن في أَلَّا في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، تقديره: وما لنا في ألا نتوكل على الله، وهو في موضع نصب على الحال، والتقدير: أيّ شيء ثبت لنا غير متوكلين.
214
البلاغة:
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا استفهام تقرير، وهذا من كلام موسى عليه السلام، أو كلام مستأنف أو مبتدأ من الله. نَبَؤُا خبر. وَثَمُودَ قوم صالح. لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جملة اعتراضية، والمعنى: أنهم لكثرتهم لا يعلم عددهم إلا الله، لذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: كذب النسابون.
بِالْبَيِّناتِ الحجج الواضحة على صدقهم. فَرَدُّوا أي الأمم. أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي فعضوها غيظا مما جاءت به الرسل عليهم السلام، كقوله تعالى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ. بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي في زعمكم. مُرِيبٍ موقع في الريبة، أي الاضطراب والقلق أَفِي اللَّهِ شَكٌّ استفهام إنكاري، أي لا شك في توحيده، للدلائل الظاهرة عليه. فاطِرِ خالق ومبدع على أكمل نظام. يَدْعُوكُمْ إلى طاعته. مِنْ ذُنُوبِكُمْ مِنْ: صلة زائدة، أو تبعيضية، والمراد على الأول: أن الإيمان أو الإسلام يغفر به ما قبله، وعلى الثاني يكون القصد هو إخراج حقوق العباد.
وَيُؤَخِّرَكُمْ بلا عذاب إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أجل الموت. قالُوا: إِنْ أي ما. عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام. بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي برهان أو حجة ظاهرة قوية على صدقكم.
إِنْ نَحْنُ أي ما نحن. يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ بالنبوة. وَما كانَ لَنا وما ينبغي. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره لأنا عبيد مربوبون لله تعالى، فليس في قدرتنا الإتيان بالآيات. وفيه دليل على أن النبوة عطائية، وأن ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئة الله تعالى. فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ يثقوا به، في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم، عمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل، وقصدوا به أنفسهم أولا.
وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ أي لا مانع لنا من ذلك، ولا عذر لنا في ألا نتوكل عليه. وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا التي نعرفه بها ونعلم أن الأمور كلها بيده. وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا على أذاكم، وهو جواب قسم محذوف، أكدوا به توكلهم وعدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم. فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم الناشئ عن إيمانهم.
المناسبة:
هذا تذكير بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل، بعد تذكير موسى لقومه بما أنعم الله عليهم من نعم، ودفع عنهم من نقم، وبما وعد به تعالى
215
الشاكرين بالزيادة، والجاحدين بالعذاب، وبأن الكفران لا يضرّ إلا أهله.
ويحتمل أن يكون المذكور هنا من تتمة كلام موسى وخطابا منه لقومه، ليخوفهم بمثل هلاك من تقدم، وهذا رأي ابن جرير، ويحتمل أن يكون ذلك خطابا جديدا مستأنفا من الله لقوم موسى وغيرهم، لتذكيرهم أمر القرون الأولى.
والمقصود إنما هو العبرة بأحوال المتقدمين، وهذا حاصل على التقديرين.
إلا أن الأكثرين ذهبوا إلى أنه ابتداء مخاطبة لقوم الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول الرازي، وقال ابن كثير: والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة، فإنه قد قيل: إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه، وقصصه عليهم، لا شك أن تكون هاتان القصتان في التوراة «١».
التفسير والبيان:
ألم يأتكم خبر أقوام من قبلكم: وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل، مما لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل. وضمير الخطاب في يَأْتِكُمْ لأمة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وضمائر: جاءتهم رسلهم، فردوا أيديهم في أفواههم للكفار.
جاءت هؤلاء رسلهم بالمعجزات والحجج والدلائل الواضحة الباهرة القاطعة، التي تثبت صدقهم ودعواهم الرسالة عن الله، لإخراجهم من ظلمات الكفر والجهالة إلى نور الإيمان والهداية.
فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي إلا أن هؤلاء القوم عضوا أناملهم من شدة الغيظ، لما جاءهم به الرسل، أي اغتاظوا منهم وعادوهم ونفروا منهم، كما فعل العرب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بدليل قوله سبحانه: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ،
(١) تفسير الرازي: ١٩/ ٨٨، تفسير ابن كثير: ٢/ ٥٢٤
216
قُلْ: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [آل عمران ٣/ ١١٩]. والمراد أنهم كذبوا واستهزءوا ولم يؤمنوا. فهو- كما قال أبو عبيدة والأخفش- مثل.
وَقالُوا: إِنَّا كَفَرْنا.. أي وقالوا للرسل: إنا كفرنا بما أرسلتم به من الآيات، أي كفرنا بدلالتها على صدق رسالتكم.
وإنا لفي شك موقع في الريبة والقلق والاضطراب مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله وحده، وترك ما سواه.
وتساءل الرازي بقوله: فإن قيل: كيف تنازلوا إلى الشك في صحة قولهم بعد تصريحهم بالكفر برسالتهم؟ ثم أجاب بأنهم أرادوا أنهم كافرون في الواقع وبنحو جازم متيقن بدعوتهم، فإن لم نكن جازمين فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم، وعلى التقديرين فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم.
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: أفي وجود الله شك؟! فإن الفطرة تقرّ بوجوده، ومجبولة على الإقرار به. وهل في تفرده بالألوهية ووجوب عبادته شك وهو الخالق لجميع الموجودات، ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له؟! فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنون أنها تقربهم من الله زلفى.
وأما دليل الفطرة فثابت كما
أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله فيما رواه ابن عدي والطبراني والبيهقي عن الأسود بن سريع: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه، أو يمجّسانه».
وأما دليل الخلق فهو أمر حسي مشاهد، وهو ما نبّه إليه بقوله مباشرة:
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي كيف تشكون في الله، وهو خالق السموات والأرض ومبدعهما على غير مثال سبق، وعلى هذا النظام المحكم البديع؟! وهو تعالى عدا كونه خالقا وهو دليل وجوده، هو كامل الرحمة لقوله:
217
يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي يدعوكم إلى الإيمان الكامل به، من أجل أن يغفر لكم في الدار الآخرة ذنوبكم- على أن من صلة زائدة- أو بعض ذنوبكم- على أن من تبعيضية- فهو يغفر الذنوب المتعلقة به، لا الذنوب التي لها صلة بحقوق العباد. وهذا هو الغرض الأول من الدعوة إلى الإيمان.
ويلاحظ أنه تعالى في كل موضع ذكر فيه مغفرة ذنوب الكفار، جاء بلفظ (من) وفي كل موضع ذكر فيه مغفرة ذنوب المؤمنين، جاء بغير لفظ (من).
مثال الحالة الأولى: قوله تعالى: وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [نوح ٧١/ ٣- ٤] وقوله سبحانه: يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ، يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الأحقاف ٤٦/ ٣١] لأنه يدعوهم إلى الإيمان الذي هو أصل الدين.
ومثال الحالة الثانية: قوله عز وجل: قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران ٣/ ٣١] وقوله عزت أسماؤه: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [الصف ٦١/ ١١- ١٢] لأنه بعد توافر الإيمان لا تكون المغفرة إلا إلى المعاصي.
وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هذا هو الغرض الثاني من الدعوة إلى الإيمان، وهو الإمهال والتأخير إلى وقت محدد معين في علم الله تعالى، وهو منتهى العمر، إن حدث الإيمان، وإلا عاجلكم الهلاك والعذاب بسبب الكفر.
فالإيمان يتحقق به رحمتان أو نعمتان وهما مغفرة الذنوب والإمهال إلى نهاية الأعمار.
ثم ذكر الله تعالى ردّ تلك الأمم على رسلها من نواح ثلاث هي:
١- قالُوا: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم، ولما نر منكم معجزة، فما أنتم إلا مثلنا في البشرية، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصصون بالنبوة دوننا، ولو شاء الله أن يبعث إلى البشر رسلا، لبعث من جنس أفضل.
218
٢- تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا أي وأنتم تريدون أن نترك ما وجدنا عليه آباءنا، بهذه الدعوى التي لا دليل على صحتها.
٣- فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي فأتونا بأمر خارق نقترحه عليكم، أو بحجة ظاهرة تدلّ على صحة ادعائكم النبوة، فنحن لا نؤمن إلا بالحسيّات، أما خلق السموات والأرض وما فيهما من عجائب، فلا نعقلهما، ولا يصلح دليلا على صحة ما تقولون.
ثم ذكر الله ما ردّ به الأنبياء على شبهاتهم الثلاث، وهو المصادقة والتسليم للشبهتين الأولى والثانية، وإسناد الأمر إلى الله في الثالثة، فقال: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ.. أي قالت الرسل للأمم: ما نحن إلا بشر مثلكم كما ذكرتم، نأكل ونشرب وننام ونمشي في الأسواق ونبحث عن الرزق، ولكن الله سبحانه يتفضل على من يشاء من عباده بالرسالة والنبوة: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام ٦/ ١٢٤] وقد منّ الله علينا بالرسالة.
وأما تقليدكم الآباء لمجرد كونهم آباء فهذا شيء لا يقبله العقل.
وأما طلبكم الحجة والبرهان على صدق رسالتنا، والإتيان بسلطان على وفق ما سألتم، بالرغم من المعجزات التي ظهرت لنا، فأمره إلى الله، ولا نتمكن من الإتيان بسلطان إلا بمشيئة الله وإرادته، ولا نقدر عليه.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي على جميع المؤمنين أن يتكلوا على الله في جميع أمورهم، لدفع شرّ عدوهم، والصبر على معاداتهم.
ثم أكدوا اعتمادهم على الله فقالوا: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ.. أي وكيف لا نتوكل على الله الذي هدانا إلى سبيل المعرفة، وأرشدنا إلى طريق النجاة؟! وما يمنعنا من التوكل عليه، وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها.
219
وَلَنَصْبِرَنَّ.. أي ولنصبرن على إيذائكم لنا بالكلام السيء والأفعال السخيفة.
ثم مدحوا التوكل فقالوا: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أي فليستمر وليثبت المتوكلون من المؤمنين على توكلهم على الله، وليثقوا به، وليتحملوا كل أذى في سبيله، ولا يبالوا بشيء صعب مهما كان.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- على الناس الاعتبار بأحوال المتقدمين الذين كذبوا رسلهم، وسخروا منهم، واستهزءوا بهم، فكان عاقبتهم الدمار والهلاك.
٢- كانت مواقف الكفار من أنبيائهم على مراتب ثلاث:
المرتبة الأولى- أنهم سكتوا عن قبول قول الأنبياء عليهم السلام، وحاولوا إسكات الأنبياء عن تلك الدعوى.
والمرتبة الثانية- أنهم صرحوا بكونهم كافرين بتلك البعثة.
والمرتبة الثالثة- أنهم أخيرا وعلى الأقل صاروا شاكين مرتابين في صحة النبوة.
وكل ذلك دليل منهم على عدم الاعتراف بالنبوة.
٣- أقام الأنبياء الأدلة على وجود الله ووحدانيته بأن الفطرة السليمة شاهدة على ذلك، وبأن خلق السموات والأرض على غير مثال سبق الدال على معنى الحدوث والإبداع والتسخير للمخلوقات دليل قاطع على وجود الخالق وألوهيته وتفرده بوجوب العبادة له، فلا يبقى شك لدى عاقل بوحدانية الله تعالى، بعد
220
أن تبين وأقرت الأمم بأنه الخالق لجميع الموجودات، وبأنه يستحيل وجود شيء كدار مثلا يتميز بالإبداع والترتيب والنظام والنقش الجميل من دون موجد عالم حكيم، وإذا كان الله هو الخالق، فلا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له.
٤- الله تعالى فاطر السموات والأرض متصف أيضا بكمال الرحمة والكرم والجود، بدليل أن الغرض من دعوة الناس إلى الإيمان به وبتوحيده أمران:
الأول- مغفرة الذنوب والخطايا والآثام، وفيها تطهير للنفس يبوئها لدخول الجنان التي لا يستحقها إلا الأطهار. والثاني- تأخير الناس إلى نهاية أعمارهم وهو الموت، فلا يعذبهم في الدنيا.
٥- كانت أجوبة الكفار واهية مشتملة على شبهات ثلاث:
الأولى- التساوي في الإنسانية يمنع وجود التفاضل بينهم، بأن يكون الواحد منهم رسولا من عند الله، مطلعا على الغيب، مخالطا لزمرة الملائكة، والباقون غافلون عن كل هذه الأحوال، وهذا معنى قولهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا.
والثانية- التمسك بطريق التقليد: وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم وكبراءهم متفقين على عبادة الأوثان، ويعبد أنهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين، وهذا معنى قولهم: تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا.
والثالثة- المعجز لا يدل على الصدق أصلا، وإن سلّم أنه يدل على الصدق، فإن ما جاء به الرسل أمور معتادة، وليست من باب المعجزات الخارجة عن قدرة البشر، وهذا معنى قولهم: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ.
٦- كان ردّ الأنبياء على تلك الشبهات الثلاث ما يأتي:
أما الشبهة الأولى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فجوابها أن التماثل في البشرية
221
والإنسانية لا يمنع من اختصاص بعض البشر بمنصب النبوة لأنه منصب يمنّ الله به على من يشاء من عباده.
وأما الشبهة الثانية: وهي توافق السلف على ذلك الدين، مما يدل على كونه حقا، فجوابها: أن التمييز بين الحق والباطل، والصدق والكذب عطية من الله تعالى وفضل منه، ولا يبعد أن يخص بعض عبيده بهذه العطية، وأن يحرم الجمع العظيم منها.
وأما الشبهة الثالثة: وهي أنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها، وإنما نريد معجزات قاهرة قوية، فالجواب عنها أن الأشياء التي طلبتموها أمور زائدة، والحكم فيها لله تعالى، فإن أظهرها فله الفضل، وإن لم يخلقها فله العدل، ولا يطلب منه شيء بعد توافر قدر الكفاية.
٧- لا سبيل أمام الأنبياء إلا الصبر على الأذى والاعتصام بالله وتفويض الأمر إليه والتوكل التام عليه، فإن الصبر مفتاح الفرج، ومطلع الخيرات، والتوكل على الله والاعتماد على فضله محقق للنصر والفتوح.
وفائدة تكرار الأمر بالتوكل: أمر أنفسهم به أولا ثم أمر أتباعهم به، فبعد أن أمروا أنفسهم بالتوكل على الله في قوله: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ أمروا أتباعهم بذلك وقالوا: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وهو يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر قوله إلا إذا أتى بذلك الخير أولا.
222
تهديد الكفار لرسلهم بالطرد أو الردة والوحي بأن العاقبة للأنبياء
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٣ الى ١٨]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨)
الإعراب:
وَمِنْ وَرائِهِ الهاء: إما عائدة على الكافر، ويكون معنى مِنْ وَرائِهِ أي قدّامه، كقوله تعالى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف ١٨/ ٧٩] أي قدّامهم وإما عائدة على العذاب، ويكون المعنى: إن وراء هذا العذاب عذاب غليظ.
مَثَلُ الَّذِينَ.. في إعرابه أربعة أوجه:
الأول- أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا.
الثاني- أنه مبتدأ على تقدير حذف مضاف، والخبر: كَرَمادٍ، تقديره: مثل أعمال الذين كفروا مثل رماد.
223
الثالث- أنه مبتدأ أول، وأَعْمالُهُمْ: مبتدأ ثان، وكَرَمادٍ: خبر المبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر عن المبتدأ الأول.
الرابع- أنه مبتدأ، وأَعْمالُهُمْ: بدل منه، وكَرَمادٍ: خبره.
فِي يَوْمٍ عاصِفٍ عاصِفٍ في تقديره وجهان: إما في يوم ذي عصوف، كقولهم:
رجل نابل ورامح أي ذو نبل ورمح، وإما في يوم عاصف ريحه، كقولك: مررت برجل حسن وجهه، ثم يحذف الوجه إذا علم المعنى.
البلاغة:
وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ استعارة لما يغشاه من كروب وشدة، فقد يوصف المغموم بأنه في حالة موت.
لَنُخْرِجَنَّكُمْ.. أَوْ لَتَعُودُنَّ بينهما طباق.
وَعِيدِ وعَنِيدٍ وصَدِيدٍ والْبَعِيدُ فيها سجع أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ تشبيه تمثيلي، وجه الشبه فيه: منتزع من متعدد.
المفردات اللغوية:
لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ حلفوا على أن يكون أحد الأمرين: إما إخراجهم للرسل أو عودتهم إلى ملتهم أَوْ لَتَعُودُنَّ لتصيرن، وتستعمل عاد بمعنى صار، ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ولمن آمن معه، فغلبوا الجماعة على الواحد. فِي مِلَّتِنا الملة: الشريعة والدين فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي أوحى إلى الرسل لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين، على إضمار القول، أو على إجراء الإيحاء مجراه لأنه نوع منه.
الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي أرضهم وديارهم من بعد هلاكهم، كقوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا [الأعراف ٧/ ١٣٧]. ذلِكَ إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين لِمَنْ خافَ مَقامِي موقفي وقيامي للحساب أو مقامه بين يدي وَخافَ وَعِيدِ أي وعيدي بالعذاب أو عذابي الموعود للكفار وَاسْتَفْتَحُوا أي طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء أي استنصر الرسل بالله على قومهم، وقيل: واستفتح الكفار على الرسل ظنا منهم بأنهم على الحق. وَخابَ خسر وهلك كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ كل متعاظم متكبر عن طاعة الله، معاند للحق المخالف له، مجانب له.
مِنْ وَرائِهِ أي أمامه، ومن بين يديه، وبعد ذلك ينتظره جَهَنَّمُ يدخلها
224
وَيُسْقى فيها مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ هو ما يسيل من جلود أو جوف أهل النار، مختلطا بالقيح والدم يَتَجَرَّعُهُ سقيته جرعة بعد جرعة، بالشدة والقهر يُسِيغُهُ يستطيبه أو يزدرده، لقبحه وكراهته وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ أي تأتيه أسبابه وتحيط به من كل جانب، وتغشاه أنواع الكروب والعذاب وَمِنْ وَرائِهِ بعد ذلك العذاب عَذابٌ غَلِيظٌ قوي متصل، وشديد غير منقطع.
مَثَلُ صفة أَعْمالُهُمْ الصالحات كصلة الرحم والصدقة على الفقراء في عدم الانتفاع بها كَرَمادٍ أثر النار بعد احتراقها عاصِفٍ شديد الريح، أي أعمالهم كالرماد الذي عصفت به الرياح العاتية، فجعلته هباء منثورا، لا يقدر عليه لا يَقْدِرُونَ أي الكفار مِمَّا كَسَبُوا عملوا في الدنيا عَلى شَيْءٍ لا يجدون له ثوابا، لعدم توافر شرطه: وهو الإيمان. ذلِكَ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون هُوَ الضَّلالُ الهلاك الْبَعِيدُ الغاية في البعد عن الحق.
المناسبة:
بعد أن أرشد الله تعالى الأنبياء إلى التوكل عليه والاعتماد على حفظه وصيانته، في دفع شرور أعدائهم، ذكر موقف الكفار العصبي المبالغ في السفاهة، وهو التهديد بأحد أمرين: الإخراج والطرد من البلاد، أو العودة إلى الملة الوثنية القديمة المتوارثة، وهذا هو الشأن في كل زمان، يعتمد فيه أهل الباطل والفسق والظلم على القوة والبطش لقوتهم، ويستغلون ضعف أهل الحق لقلتهم.
ولكن قدرة الله فوق كل شيء، والله غالب على أمره، فجعل العاقبة والنصر في النهاية للمتقين وأن الهزيمة للكافرين، وأعلمهم بالعذاب في الآخرة، وتلك سنة الله في خلقه مع كل الأمم والرسل.
ثم ضرب الله مثلا لأعمال الكافرين، بالرماد الذي عصفت به الرياح الهوج، فجعلته هباء منثورا، لعدم توافر شرطه وهو الإيمان.
التفسير والبيان:
هذا تطور طبيعي للحوار والصراع بين الرسل والأمم الكافرة، فبعد أن
225
أفلست الأمم في مناقشتها، وهزمت حجتها أمام حجة الرسل وبيانهم، لم يجدوا سبيلا إلا تأزم الوضع والدخول في صدام وعمل عدواني، فتوعدوا رسلهم بأحد أمرين:
إما الطرد والإخراج والنفي من البلاد، وإما العودة إلى ملتهم وشرعهم الموروث عن الآباء والأجداد، كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف ٧/ ٨٨] وقال تعالى إخبارا عن مشركي قريش: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ، لِيُخْرِجُوكَ مِنْها، وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء ١٦/ ٧٦] وقال سبحانه في إلجاء النبي إلى الهجرة: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ.. [الأنفال ٨/ ٣٠].
والسبب في هذا التهديد والوعيد: اغترار الكفار بقوتهم وكثرتهم، وقلة عدد المؤمنين وضعف عددهم. وأما قولهم لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فلا يعني أن الرسل كانوا وثنيين، وإنما كانوا في ظاهر الأمر معهم، من غير إظهار مخالفة، فظن القوم أنهم كانوا على دينهم.
فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ.. أي فأوحى الله إلى رسله قائلا لهم: لنهلكن الظالمين المشركين، ولنسكننكم أرضهم وديارهم من بعد هلاكهم، عقوبة لهم على تهديدهم وإنذارهم بالطرد والإبعاد.
وهذا تهديد ووعد من الله للمشركين في مقابل تهديدهم الرسل، وشتان بين التهديدين، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات ٣٧/ ١٧٠- ١٧٣] وقال تعالى:
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة ٥٨/ ٢١] وقال عز وجل: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء ٢١/ ١٠٥] وآيات كثيرة أخرى في المعنى.
226
ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي.. أي ذلك الموحى به من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم، أي ذلك الأمر حق، لمن خاف موقفي للحساب أو مقامه بين يدي، وخاف وعيدي بالعذاب والعقاب، فخشي لقائي، واتقاني بطاعتي، وتجنب سخطي وغضبي. وهذا هو سبب النصر والوحي المذكور.
وَاسْتَفْتَحُوا.. أي واستنصرت الرسل بالله على أممهم أو أقوامهم، أي على أعدائهم، كما قال تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال ٨/ ١٩] والمراد أنهم سألوا من الله الفتح على أعدائهم، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم، كما قال تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف ٧/ ٨٩] والضمير يعود للرسل أو الأنبياء عليهم السلام.
وقيل: يعود الضمير على الكفار، أي واستفتح الكفار على الرسل، ظنا منهم بأنهم على الحق، والرسل على الباطل. وقيل: للفريقين، فإنهم كلهم سألوه أن ينصر المحق، ويهلك المبطل، كما قال تعالى في شأن استفتاح الأمم على أنفسها: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال ٨/ ٣٢].
ولكن كانت النتيجة أن النصر للمتقين والخيبة والخسارة والهلاك للمشركين، فقال سبحانه: وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي وخسر وهلك كل متكبر متعاظم عن طاعة الله، معاند للحق، منحرف عنه، كقوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ، مُعْتَدٍ مُرِيبٍ، الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ [ق ٥٠/ ٢٤- ٢٦].
مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي أمام هذا الجبار العنيد جهنم له بالمرصاد تنتظره، كما قال تعالى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف ١٨/ ٧٩] أي أمامهم.
227
وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ أي ليس له في النار شراب إلا ما يسيل من جلود أهل النار ولحومهم من ماء مختلط بالقيح والدم، كما قال تعالى: هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص ٣٨/ ٥٧- ٥٨] وهذا أي الحميم حار في غاية الحرارة، وهذا أي الغساق بارد في غاية البرد والنتن.
يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي يتحساه جرعة بعد جرعة، ولا يكاد يزدرده، لكراهته، وسوء طعمه ولونه وريحه، مما يدل على التألم حين ابتلاعه، كما قال تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد ٤٧/ ١٥] وقال:
وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ، يَشْوِي الْوُجُوهَ، بِئْسَ الشَّرابُ، وَساءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف ١٨/ ٢٩].
وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ.. أي وتأتيه أسباب الموت من الشدائد وألوان العذاب من كل جهة، ولكنه لا يموت، كما قال تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها [فاطر ٣٥/ ٣٦].
وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ، أي مؤلم صعب شديد، أغلظ من الذي قبله وأدهى وأمر، وهو دائم غير منقطع، كما قال تعالى عن شجرة الزقوم: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ، فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات ٣٨/ ٦٤- ٦٨] وقال عز وجل: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، طَعامُ الْأَثِيمِ، كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ، خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ، ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [الدخان ٤٤/ ٤٣- ٥٠] وقال: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة ٥٦/ ٤١- ٤٤]. وقال تعالى: هذا وَإِنَّ
228
لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ، هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ
[ص ٣٨/ ٥٥- ٥٨].
وبالرغم مما سيلاقيه الكفار من العذاب في نار جهنم، فإنهم يأسفون على أعمالهم الصالحة في الدنيا التي ضاعت هدرا، ولم تنفعهم في الآخرة، فضرب الله المثل لأعمالهم فقال: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ...
أي مثل أعمالهم الصالحة كالصدقة وصلة الرحم وبر الوالدين، يوم القيامة، إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى، كمثل الرماد الذي اشتدت به الريح العاصفة، في يوم عاصف أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا، إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد، في هذا اليوم، ذلك هو الضلال البعيد، أي سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة، فهو مغرق في البعد عن الحق، حتى فقدوا ثوابه، لفقدهم شرط قبوله وهو الإيمان.
ونظير الآية قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣] وقوله: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ، أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَأَهْلَكَتْهُ، وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ، وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[آل عمران ٣/ ١١٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلتنا الآيات على الفوائد التالية:
١- لا قيمة لتهديد الكفار رسلهم بالطرد من البلاد أو الإكراه على العودة إلى الملة القديمة، أمام تهديد الله، فالأول يتبدد، والثاني يتحقق، وهذه سيرة الله تعالى في رسله وعباده.
٢- استحقاق النصر على الأعداء منوط بالخوف من جلال الله وهيبته
229
وموقفه للحساب في الآخرة، وخشيته من عذابه وبأسه ونقمته.
٣- سواء استفتح الرسل أو الكفار أو الفريقان، أي طلبوا الفتح والنصرة على أعدائهم، فإن النصر في النهاية للمتقين والرسل لأنهم المؤمنون حق الإيمان بالله ربهم الذي يطلبون منه النصر، وتكون الخيبة والخسارة والهلاك للكافرين المتجبرين المتعاظمين عن طاعة الله، المعاندين للحق، والمجانبين له لأنهم كفروا بالله، وتنكروا لطاعة الله، وانحازوا عن منهج الحق وسبيله.
٤- وكما يكون الهلاك للكافرين في الدنيا، يكون أمامهم العذاب في نار جهنم تنتظرهم، فمن بعد الهلاك في الدنيا، يأتي أيضا العذاب في الآخرة.
٥- ماء أهل جهنم هو صديد أهل النار الذي يسيل من أجسامهم من القيح والدم، والكافر يتحساه جرعة بعد جرعة، لا مرة واحدة، لمرارته وحرارته، ويؤلم إساغته، فهو لا يكاد يسيغه، ولكن تحصل الإساغة بصعوبة، لقوله تعالى: يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج ٢٢/ ٢٠- ٢١].
وتأتيه أسباب الموت من كل جهة عن يمينه وشماله، ومن فوقه وتحته ومن قدّامه وخلفه، كقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر ٣٩/ ١٦].
ومن أمامه عذاب شديد متواصل الآلام من غير فتور.
هذه أوصاف عذاب الكفار، في الظاهر والباطن، أولها- مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ ثانيها- وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وثالثها- وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، وَما هُوَ بِمَيِّتٍ ورابعها- وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ.
230
٦- لا جدوى ولا فائدة في الآخرة لأعمال الكفار الطيبة التي عملوها في الدنيا، مثل إطعام الطعام، وإغاثة الملهوف، وفعل المعروف، والصدقة، وصلة الرحم، وبر الوالدين، ولا ثواب على عمل البر في الدنيا لإحباطه بالكفر، وذلك هو الخسران الكبير.
فقد ضرب الله هذه الآية مثلا لأعمال الكفار، في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف. والعصف: شدة الريح، وإنما كان ذلك لأنهم أشركوا فيها غير الله تعالى، فلم يتوافر فيها أساس القبول وهو الإيمان بالله وحده لا شريك له.
دليل وحدانية الله ووجوده وقدرته على معاد الأبدان
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)
البلاغة:
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ تنظر أي تعلم يا مخاطب، وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أمته، وهو استفهام تقرير، والرؤية هنا: رؤية القلب لأن المعنى: ألم ينته علمك إليه؟ بِالْحَقِّ متعلق بخلق، أي بالحكمة والوجه الذي يحق أن يخلق عليه يُذْهِبْكُمْ يعدمكم وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بدلكم أي يخلق خلقا آخر مكانكم، وهو مرتب على كونه خالقا للسموات والأرض، استدلالا به عليه، فإن من خلق أصولهم، ثم كونهم بتبديل الصور وتغيير الطبائع، قادر أن يبدلهم بخلق آخر، ولم يمتنع ذلك
231
عليه، كما قال: وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بممتنع أو متعسر، فإنه قادر لذاته، لا اختصاص ل بمقدور دون مقدور، ومن هذا شأنه كان حقيقا بأن يؤمن به ويعبد، رجاء لثوابه، وخوفا من عقابه يوم الجزاء.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن أعمال الكفار تصير باطلة ضائعة، بيّن أن الإبطال والإحباط إنما جاء بسبب صدر منهم وهو كفرهم بالله وإعراضهم عن العبودية، فإن الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين، وكيف يليق بحكمته أن يفعل ذلك، وأنه تعالى ما خلق كل هذا العالم إلا لحكمة وصواب؟!
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة، بأنه خلق السموات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس، أفليس الذي قدر على خلق هذه السموات، في ارتفاعها واتساعها وعظمتها، وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد، وصحارى وقفار، وبحار وأشجار، ونبات وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها.
أَلَمْ تَرَ.. ألم تعلم أيها المخاطب أن الله أنشأ السموات والأرض بالحكمة وعلى الوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقا عليه، ومن قدر على خلقهما على هذا النحو البديع، فهو قادر على إفنائكم إذا خالفتم أوامره، والإتيان بخلق جديد سواكم على غير صفتكم، وما ذلك بممتنع أو متعذر عليه، بل هو سهل عليه.
ونظير الآية كثير في القرآن منها: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ، بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى، بَلى، إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف ٤٦/ ٣٣].
232
ومنها: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً، فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ، بَلى، وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ، إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ. فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس ٣٦/ ٧٧- ٨٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية للاستدلال بها على قدرته تعالى، فمن خلق السموات والأرض على ما يوافق الحكمة والصواب، قادر على إعادة الخلق بعد الموت، فالله هو القادر على الإفناء، كما هو قادر على إيجاد الأشياء، فلا تعصوه، فإنكم إن عصيتموه يعدمكم، ويأت بخلق جديد أفضل وأطوع منكم، إذ لو كانوا مثل الأولين، فلا فائدة في الإبدال، وما ذلك على الله بمنيع متعذر.
والمقصود أن الكفار أغرقوا في الكفر بالله، مع قيام الأدلة على قدرته وحكمته تعالى، وأنه الحقيق بالطاعة، الذي يرجى ثوابه ويخاف عقابه في دار الجزاء.
الحوار بين الأشقياء يوم العذاب والمناظرة بين الشيطان وأتباعه وظفر السعداء بالجنة
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣)
233
الإعراب:
بِمُصْرِخِيَّ فتحت الياء لإدغام ياء الجمع في ياء الإضافة، بعد حذف نون الإضافة، على لغة من يفتحها، وبقيت الفتحة على حالها، أو أن فتحها لالتقاء الساكنين على لغة من أسكنها، فياء الإضافة فيها لغتان: الفتح والإسكان. وعلى قراءة كسر الياء فهو عدول إلى الأصل، وهو الكسر، ليكون مطابقا لكسر همزة: إِنِّي كَفَرْتُ...
أَنْ دَعَوْتُكُمْ أن وصلتها: في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. بِما أَشْرَكْتُمُونِ ما: مصدرية أي بإشراككم.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا جملة فعلية في موضع نصب صفة جنات. خالِدِينَ حال من الَّذِينَ.
وتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ جملة اسمية في موضع نصب على الحال من الَّذِينَ وهي حال بقدرة، أو حال من الضمير في خالِدِينَ فلا تكون حالا مقدرة. أو في موضع نصب على لوصف لجنات.
234
والهاء والميم في تَحِيَّتُهُمْ إما تأويل فاعل، أضيف المصدر إليه، أي يحيي بعضهم بعضا بالسلام، وإما في موضع مفعول لم يسم فاعله (نائب فاعل) أي يحيّون بالسلام، على معنى:
تحيّيهم الملائكة بالسلام.
البلاغة:
فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ طباق السلب.
جَزِعْنا وصَبَرْنا بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَبَرَزُوا أي الخلائق، أي ظهروا بالبراز: وهي الأرض المتسعة، أي مجتمع الناس في ذلك اليوم، ومنه امرأة برزة أي تظهر للرجال، والتعبير فيه وفيما بعده بالماضي لتحقق وقوعه.
الضُّعَفاءُ الأتباع، أي ضعاف الرأي والفكر. لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا المتبوعين، وهم الرؤساء الأقوياء الذين استنفروهم. تَبَعاً جمع تابع. مُغْنُونَ دافعون. مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من الأولى: للتبيين، والثانية: للتبعيض. لَهَدَيْناكُمْ لدعوناكم إلى الهدى. ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ من: زائدة، ومحيص: ملجأ ومنجى ومهرب.
الشَّيْطانُ إبليس. لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ لما أحكم وفرغ منه، ودخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار. إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وعدا من حقه أن ينجز، أو وعدا أنجزه، وهو الوعد بالبعث والجزاء، فصدقكم الوعد. وَوَعَدْتُكُمْ وعد الباطل وهو ألا بعث ولا حساب.
فَأَخْلَفْتُكُمْ قدر إبليس تبين خلف وعده كالإخلاف منه. مِنْ سُلْطانٍ من: زائدة، والسلطان: القوة والقدرة والتسلط، فألجئكم على الكفر والمعاصي، واقهركم على متابعتي. إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ لكن. فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أسرعتم إجابتي. وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ على إجابتي وإطاعتي، ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم.
بِمُصْرِخِكُمْ بمغيثكم، والمستصرخ: المستغيث. بِما أَشْرَكْتُمُونِ بإشراككم إياي مع الله.
مِنْ قَبْلُ في الدنيا. إِنَّ الظَّالِمِينَ الكافرين، وهو قول الله تعالى. لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم. تَحِيَّتُهُمْ فِيها من الله ومن الملائكة وفيما بينهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ألوان عذاب الكفار في الآخرة، ثم ذكر عقيبه أن أعمالهم تصير محبطة باطلة، ذكر هنا مدى خجلهم أمام أتباعهم وافتضاحهم
235
عندهم، وأبان هذا بصورة محاورة بين السادة والأتباع، ومناظرة بين الشيطان وأتباعه الإنس، ثم ذكر جزاء المؤمنين السعداء وظفرهم بجنان الخلد.
التفسير والبيان:
وبرزت الخلائق كلها برّها وفاجرها لله الواحد القهار في موقف الحساب، واجتمعوا له في مكان متسع لا ساتر فيه، خلافا لحال الدنيا حيث يظن الكفار والعصاة أن الله لا يراهم.
فقال الضعفاء، أي الأتباع للقادة والسادة والكبراء في العقل والتفكير، أولئك القادة الذين استكبروا عن عبادة الله وحده وعن اتباع الرسل: إنا كنا تابعين لكم، مقلدين في الأعمال، نأتمر بأمركم ونفعل فعلكم، فكفرنا بالله، وكذبنا الرسل متابعة لكم، فهل أنتم تدفعون عنا اليوم بعض عذاب الله، كما كنتم تعدوننا وتمنوننا.
فأجابهم القادة المتبوعون متنصلين من الدفاع عنهم: لو هدانا الله لدينه الحق، ووفقنا لاتّباعه، وأرشدنا إلى الخير، لهديناكم وأرشدناكم إلى سلوك الطريق الأقوم، ولكنه لم يهدنا، فحقت كلمة العذاب على الكافرين.
ثم أعلنوا يأسهم من النجاة فقالوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا.. أي ليس لنا خلاص ولا منجى مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه، أي أن الجزع والصبر سيّان، فلا نجاة لنا من عذاب الله تعالى.
قال ابن كثير: والظاهر أن هذه المراجعة (أي الحوار) في النار، بعد دخولهم فيها «١»، كما قال تعالى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ، فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ.
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٥٢٨
236
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا: إِنَّا كُلٌّ فِيها، إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ [غافر ٤٠/ ٤٧- ٤٨] وقال تعالى: قالَ: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ، كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً، قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا، فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ. وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ
[الأعراف ٧/ ٣٨- ٣٩] وقال تعالى: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا، فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا، رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ، وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٦٧- ٦٨].
ثم ذكر الله تعالى محاورة أخرى بين الشيطان وأتباعه من الإنس، فقال:
وَقالَ الشَّيْطانُ.. أي وقال إبليس لأتباعه الإنس، بعد ما قضى الله بين عباده، فأدخل المؤمنين الجنات، وأسكن الكافرين الدركات: إن الله وعدكم بالبعث والجزاء وعد الحق على ألسنة رسله، وكان وعدا حقا وخبرا صدقا، وأما أنا فوعدتكم ألا بعث ولا جزاء، ولا جنة ولا نار، فأخلفتكم موعدي، إذ لم أقل إلا باطلا من القول وزورا، كما قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [النساء ٤/ ١٢٠] وقد اتبعتموني وتركتم وعد ربكم.
وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي وما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه دليل ولا حجة، ولا قوة ولا تسلط فيما وعدتكم به.
إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ.. أي ولكن حينما دعوتكم استجبتم لي، بمجرد ذلك.
فَلا تَلُومُونِي.. أي فلا توجهوا اللوم إلي اليوم، ولوموا أنفسكم لأنكم أسرعتم إلى إجابتي باختياركم، فإن الذنب ذنبكم لكونكم لم تستمعوا إلى دعاء ربكم، وقد دعاكم دعوة الحق بالحجج والبينات، فخالفتم البراهين الداعية لكم إلى الصواب.
237
ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ.. ما أنا بمغيثكم ولا نافعكم ولا منقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه من العذاب، وما أنتم بمغيثي ولا نافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال، كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، وَرَأَوُا الْعَذابَ [البقرة ٢/ ١٦٦].
إِنِّي كَفَرْتُ.. إني أنكرت أو جحدت اليوم بإشراككم إياي من قبل أي في الدنيا مع الله تعالى في الطاعة، كما قال سبحانه: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر ٣٥/ ١٤] والمراد بذلك تبرؤه من الشرك وإنكاره له، كما قال تعالى: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، كَفَرْنا بِكُمْ [الممتحنة ٦٠/ ٤] وقال سبحانه. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم ١٩/ ٨٢].
إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هذا في الأظهر من قول الله عز وجل، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس المحكي في القرآن قطعا لأطماع أولئك الكفار عن الإعانة والإغاثة، والمعنى: إن الكافرين في إعراضهم عن الحق، واتباعهم الباطل، لهم عذاب مؤلم.
والمقصود تنبيه الناس إلى تبرؤ الشيطان من وساوسه في الدنيا، وحضهم على الاستعداد ليوم الحساب، وتذكر أهوال الموقف.
وبعد أن أبان الله تعالى أحوال الأشقياء، أوضح أحوال السعداء، وكلا الفريقين كانوا قد برزوا للحساب والجزاء بين يدي الله، فقال: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا...
أي ويدخل الملائكة الذين صدقوا بالله ورسوله، وأقروا بوحدانيته، واتبعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، جنات (بساتين) فيها الأنهار الجارية في كل
238
مكان، وهم ماكثون فيها أبدا، لا يحولون عنها ولا يزولون منها، وذلك بإذن ربهم، أي بتوفيقه وفضله وأمره.
تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم، ويحيون بعضهم بعضا بالسلام، كما قال تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها، وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الزمر ٣٩/ ٧٣] وقال سبحانه: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ: سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد ١٣/ ٢٣- ٢٤] وقال عز وجل: وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً [الفرقان ٢٥/ ٧٥] ويحييهم ربهم بالسلام: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس ٣٦/ ٥٨] وتحية بعضهم كما قال تعالى: دَعْواهُمْ فِيها: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ، وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس ١٠/ ١٠].
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- العتاب والنزاع والخصام قائم بين أهل النار، فهذه محاورة بين القادة والأتباع تدل على عجز السادة عن تحقيق أي شيء لأتباعهم الذين اتبعوهم في الدنيا، فهم لا يستطيعون تخليص أنفسهم من عذاب الله، ولا تحقيق أي نفع لذواتهم، فبالأولى لا يتمكنون من نفع غيرهم، والكل لا يجدون مهربا ولا ملجأ من عذاب الله وعقابه على الكفر والعصيان، وذلك سواء صبروا على العذاب أو جزعوا وضجروا.
٢- إقرار السادة بالضلال، فدعوا أتباعهم إلى الضلال، ولو هدوا وأرشدوا لأرشدوا غيرهم، وهذا كذب منهم، كما قال تعالى حكاية عن المنافقين: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة ٥٨/ ١٨].
٣- أعقب الله المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع من كفرة الإنس، بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وأتباعه من الإنس، وموضوع المناظرتين
239
واحد: وهو تبرؤ المتبوع من التابع، ولكن الشيطان كان أصدق في هذه المحاورة من الإنسان لأنه أعلن أن الله وعد الناس وعد الحق وهو البعث والجزاء على الأعمال، فوفى لهم بما وعدهم، وأما هو فوعد الناس بخلاف ذلك وأنه لا بعث ولا جزاء، فأخلف الوعد.
٤- قال الرازي عن آية إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي: هذه الآية تدل على أن الشيطان الأصلي هو النفس لأن الشيطان بيّن أنه ما أتى إلا بالوسوسة، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة والغضب والوهم والخيال، لم يكن لوسوسته تأثير البتة، فدل هذا على أن الشيطان الأصلي هو النفس «١».
ومن المعلوم أن الملائكة والشياطين هي أجسام لطيفة، والله تعالى ركبها تركيبا عجيبا، ولا يستبعد أن تنفذ الأجرام اللطيفة في عمق الأجرام الكثيفة أي في بنية الإنسان.
٥- للظالمين عذاب أليم، لا مرد له، جزاء ظلمهم، أي كفرهم، فالعصيان والكفر باختيارهم وكسبهم.
٦- للمؤمنين المتقين جنات تجري من تحتها الأنهار، بأمر ربهم، ومشيئته وتيسيره، يحيون فيها بالسلام من الله تعالى، ومن الملائكة، وتكون تحية بعضهم بعضا هي السلام.
٧- كانت مواعيد الشيطان باطلة، ووعد الله هو الحق، واتبع الناس قول الشيطان بلا حجة ولا برهان، وتبرأ الشيطان منهم ومن عملهم، فليس لهم لوم عليه، إنما عليهم اللوم، وأيأسهم بأنه لا نصر عنده ولا عون ولا إغاثة، بل هو محتاج إلى من ينصره، وكفر بشركهم له في الدنيا، وهذا تنبيه لهم مما سيلقونه من العذاب.
(١) تفسير الرازي: ١٩/ ١١١ [.....]
240
مثال الكلمة الطيبة من السعداء ومثال الكلمة الخبيثة من الأشقياء
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧)
الإعراب:
كَلِمَةً طَيِّبَةً بدل من مَثَلًا أو تفسير له، وكَشَجَرَةٍ صفة للكلمة أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي كشجرة.
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا تعجيب من حال الفريقين: السعداء والأشقياء.
كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ في كل تشبيه مرسل مجمل.
أَصْلُها.. وَفَرْعُها طَيِّبَةً وخَبِيثَةٍ في كل طباق.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي ألم تنظر كيف اعتمده ووضعه، والمثل: قول يشبّه بقول
241
بينهما مشابهة في شيء محسوس، للتوضيح والبيان كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، والكلمة الطيبة: هي لا إله إلا الله وهي كلمة التوحيد ودعوة الإسلام والقرآن، والشجرة الطيبة هي النخلة ثابِتٌ في الأرض بالعروق وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أي أعلاها في جهة العلو تُؤْتِي تعطي أُكُلَها ثمرها كُلَّ حِينٍ كل وقت أقّته الله تعالى لإثمارها، أي أن كلمة الإيمان ثابتة في قلب المؤمن، وعمله يصعد إلى السماء، ويناله ثوابه كل وقت.
بِإِذْنِ رَبِّها بإرادته وَيَضْرِبُ ويبين لأن في هذا التشبيه زيادة إفهام وتذكير لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لعلهم يتعظون فيؤمنوا كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ هي كلمة الكفر كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ هي الحنظل اجْتُثَّتْ استوصلت ما لَها مِنْ قَرارٍ استقرار بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فلا يزلّون إذا افتتنوا في دينهم، كزكريا ويحيى عليهما السلام وَفِي الْآخِرَةِ فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في موقف الحساب وعند رؤيتهم أهوال الحشر، وقيل: معناه الثبات عند سؤال القبر، فحينما يسألهم الملكان عن ربهم ودينهم ونبيهم، يجيبون بالصواب، كما في حديث الشيخين. وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الكفار الذين ظلموا أنفسهم، فلا يهتدون للحق والجواب الصواب، بل يقولون: لا ندري، كما جاء في الحديث.
وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ من تثبيت بعض وإضلال آخرين من غير اعتراض عليه.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أحوال الأشقياء وما آل إليهم أمرهم من العذاب في نار جهنم، وأحوال السعداء وإدراكهم الفوز عند ربهم، ذكر مثلا يبين حال الفريقين، وسبب التفرقة بينهما، بتشبيه المعنويات بالحسيات، لترسيخ المعاني في الأذهان، كما هو الشأن في القرآن.
التفسير والبيان:
ألم تعلم أيها المخاطب كيف اعتمد الله مثلا ووضعه في موضعه المناسب له وهو تشبيه الكلمة الطيبة وهي كلمة التوحيد والإسلام ودعوة القرآن، بالشجرة الطيبة وهي النخلة الموصوفة بصفات أربع هي:
١- كون تلك الشجرة طيبة المنظر والشكل، وطيبة الرائحة، وطيبة الثمرة، وطيبة المنفعة أي يستلذ بأكلها ويعظم الانتفاع بها.
242
٢- أصلها ثابت، أي راسخ باق متمكّن في الأرض لا ينقلع.
٣- وفرعها في السماء، أي كاملة الحال لارتفاع أغصانها إلى الأعلى، وبعدها عن عفونات الأرض، فكانت ثمراتها نقية طيبة خالية من جميع الشوائب.
٤- تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي تثمر كل وقت وقّته الله لإثمارها بإرادة ربها وإيجاده وتيسيره. ولما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة، كان ذلك في حكم الحين.
روي عن ابن عباس أن الكلمة الطيبة هي قول: «لا إله إلا الله»
وأن الشجرة الطيبة هي النخلة، وكذلك
روي عن ابن مسعود أنها النخلة، وهو مروي عن أنس وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وحديث ابن عمر رواه البخاري، قال: «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
أخبروني عن شجرة تشبه الرجل المسلم- أو كالرجل المسلم- لا يتحاتّ ورقها صيفا ولا شتاء، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هي النخلة»
.
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ.. أي وهكذا يضرب الله الأمثال للناس فإن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وعظة وتصوير للمعاني لأن تشبيه المعاني المعقولة بالأمور المحسوسة يرسّخ المعاني، ويزيل الخفاء والشك فيها، ويجعلها كالأشياء الملموسة. وفي هذا لفت نظر يدعو الإنسان إلى التأمل في عظم هذا المثل، والتدبر فيه، وفهم المقصود منه.
ثم ذكر الله تعالى مثال حال كلمة الكفر، فقال: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ..
أي وصفة الكلمة الخبيثة وهي كلمة الكفر أو الشرك كصفة الشجرة الخبيثة وهي شجرة الحنظل ونحوه، كما قال أنس موقوفا فيما روى أبو بكر البزار،
ومرفوعا
243
فيما روى ابن أبي حاتم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ: هي الحنظلة
، ووصفت الشجرة الخبيثة بصفات ثلاث هي:
١- أنها خبيثة الطعم أو لما فيها من المضار، أو الرائحة وهي الحنظلة، وقيل: الثوم، وقيل: الشوك.
٢- اجتثت من فوق الأرض، أي اقتلعت واستؤصلت، وليس لها أصل ولا عرق، فكذلك الشرك بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوة.
٣- ما لها من قرار، أي ليس لها استقرار، وهذه الصفة كالمتممة للصفة الثانية.
وهذه صفات في غاية الكمال، فالخبث وصف للمضار، والاجتثاث وعدم القرار وصف للخلو عن المنافع.
وبالموازنة يتبين الفرق بين كلمتي الحق والباطل، فكلمة الحق وهي كلمة التوحيد والإيمان قوية ثابتة نافعة للناس، وكلمة الباطل وهي كلمة الشرك أو الكفر ضعيفة ضارة ليس فيها استقرار ولا ثبات.
وأصحاب الكلمة الأولى هم المؤمنون، وأولو الكلمة الثانية هم الكافرون والعصاة.
ثم أخبر الله تعالى عن فوز أهل الكلمة الأولى بمرادهم في الدنيا والآخرة، فقال: يُثَبِّتُ اللَّهُ.. أي إن كرامة الله وثوابه ثابتان للمؤمنين في الآخرة بالقول الذي كان يصدر عنهم في الدنيا، وهو الإيمان المستقر بالحجة والبرهان في قلوبهم، والمقصود: بيان أن الثبات في المعرفة والطاعة يوجب الثبات في الثواب والكرامة من الله تعالى.
أو أن المراد أن الله يثبت المؤمنين في الدنيا بعدم تعرضهم للفتنة في دينهم
244
بالرغم من التعذيب كبلال وغيره من الصحابة، فتثبيتهم به في الدنيا: أنهم إذا فتنوا في دينهم، لم يزلّوا، كما ثبّت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير، ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد.
وتثبيتهم في الآخرة: أنهم إذا سئلوا عن معتقدهم ودينهم في موقف الحساب، لم يتلعثموا، ولم تحيرهم أهوال الحشر.
وقيل وهو القول المشهور: معناه الثبات عند سؤال القبر، والمراد بالحياة الدنيا: مدة الحياة، والآخرة: يوم القيامة والحساب،
روى البخاري ومسلم وأحمد وبقية الجماعة كلهم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسلم إذا سئل في القبر، شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. وهذا مروي أيضا عن أبي هريرة.
وروى ابن أبي شيبة الحديث المتقدم نفسه عن البراء أنه قال في الآية:
التثبيت في الدنيا: إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر، فقالا له: من ربك؟
قال: ربي الله، وقالا: وما دينك؟ قال: ديني الإسلام، وقالا: وما نبيك؟
قال: نبيي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وروى أبو داود عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل»
.
قال الرازي: القول المشهور: أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال وتثبيته إياه على الحق «١».
(١) تفسير الرازي: ١٩/ ١٢٢
245
ثم ذكر الله تعالى مصير الكافرين بقوله: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أي ويمنع الله الكافرين عن الفوز بثوابه، أو يتركهم وضلالهم لعدم توافر استعدادهم للإيمان، وانزلاقهم في الأهواء والشهوات.
أو يجعلهم يترددون في الجواب ويتلعثمون إذا سئلوا في قبورهم عن دينهم ومعتقدهم روى ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «إن الكافر إذا حضره الموت، تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره، فإذا دخل قبره، أقعد، فقيل له: من ربك؟ لم يرجع إليهم شيئا، وأنساه الله تعالى ذكر ربه، وإذا قيل له: من الرسول الذي بعث إليك؟
لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئا، فذلك قوله تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ.
ثم أبان الله تعالى مشيئته المطلقة في الفريقين فقال: وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ أي إن شاء هدى، وإن شاء أضل. وإضلالهم في الدنيا: أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن، وتزلّ أقدامهم أول شيء، وهم في الآخرة أضل وأزلّ.
والضلال لسوء الاستعداد، والميل مع أهواء النفس.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- الكلمة الطيبة وهي الإيمان أو لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أو المؤمن نفسه: هي الثابتة الخالدة، الطيبة النافعة.
روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة: الإيمان عروقها، والصلاة أصلها، والزكاة فروعها، والصيام أغصانها، التأذي في الله نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكفّ عن محارم الله ثمرتها»
.
والشجرة الطيبة في الأصح: هي النخلة،
ذكر الغزنوي والطبراني فيما رواه ابن عمر عنه صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن كالنخلة، كل شيء منها ينتفع به».
246
٢- الأمثال والتشبيهات، وبخاصة تشبيه المعقول بالمحسوس، فيها ذكرى وعظة وعبرة، وإفهام وإيقاظ للمشاعر والضمائر، ولفت الأنظار، وشد الانتباه إليها.
٣- الكلمة الخبيثة وهي كلمة الكفر لا قرار لها ولا ثبات، ولا جدوى ولا نفع، ولا تعتمد على حجة مقبولة أو برهان صحيح. والشجرة الخبيثة في الأصح: شجرة الحنظل، كما في حديث أنس، وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وكذلك الكافر لا حجة له، ولا ثبات، ولا خير فيه، وليس له أصل يعمل عليه.
٤- المقصود من الآية الدعوة إلى الإيمان، ورفض الشرك.
٥- يثبّت الله المؤمنين على الحق والإيمان في الدنيا، فلا يتراجعون عنه، ويثبّت نفوسهم، فيلهمها الصواب والنطق بالإيمان في القبر لأن الموتى ما يزالون في الدنيا إلى أن يبعثوا، وكذلك يلهمها الصواب في الآخرة عند الحساب.
٦- يضلّ الله الظالمين عن حجتهم في قبورهم، كما ضلّوا في الدنيا بكفرهم، فلا يلقّنهم كلمة الحق، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري فيقول الملك:
لا دريت ولا تليت، وعند ذلك يضرب بالمقامع (سياط من حديد، رؤوسها معوجة) على ما ثبت في الأخبار.
٧- يفعل الله ما يشاء من عذاب قوم وإضلال قوم، وقيل: إن سبب نزول هذه الآية
ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وصف مساءلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت، قال عمر: يا رسول الله، أيكون معي عقلي؟ قال: نعم، قال:
كفيت إذن فأنزل الله عز وجل هذه الآية: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا..
247
كفران النعمة واتخاذ الأنداد وتهديد الكافرين بالتمتع بنعيم الدنيا وأمر المؤمنين بإقامة الصلاة والإنفاق
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٨ الى ٣١]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١)
الإعراب:
وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ قَوْمَهُمْ: مفعول أول، ودارَ الْبَوارِ: مفعول ثان.
جَهَنَّمَ: بدل من دارَ الْبَوارِ وهو ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والتأنيث.
يَصْلَوْنَها: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من قَوْمَهُمْ أو من جَهَنَّمَ أو منهما.
يُقِيمُوا الصَّلاةَ جواب الأمر وهو أقيموا وتقديره: قل لهم: أقيموا يقيموا. ويجوز جزمه بلام مقدرة، تقديره: ليقيموا، ثم حذف الأمر لتقدم لفظ الأمر. ويجوز كونه مجزوما على أنه جواب قُلْ وهذا ضعيف لأن الأمر للنبي بالقول ليس فيه أمر لهم بإقامة الصلاة.
سِرًّا وَعَلانِيَةً منصوبان على المصدر، أي إنفاق سر وعلانية، أو على الحال، أي ذوي سر وعلانية، أو على الظرف، أي وقتي سر وعلانية.
البلاغة:
سِرًّا، وَعَلانِيَةً بينهما طباق.
248
الْبَوارِ.. الْقَرارُ.. النَّارِ سجع مرصّع.
قُلْ: تَمَتَّعُوا تهديد ووعيد.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ تنظر الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً أي بدلوا شكر نعمته كفرا، بأن وضعوه مكانه، وهم كفار قريش وَأَحَلُّوا أنزلوا قَوْمَهُمْ الذين شايعوهم في الكفر، بإضلالهم إياهم دارَ الْبَوارِ دار الهلاك بحملهم على الكفر، والقوم البور: هم الهالكون كقوله تعالى: وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً [الفتح ٤٨/ ١٢] يَصْلَوْنَها يدخلونها ويقاسون حرها وَبِئْسَ الْقَرارُ أي وبئس المقر جهنم أَنْداداً شركاء، جمع ندّ: وهو المثل والشريك والشبيه لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ وهو التوحيد أو دين الإسلام، وليس الضلال والإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد، لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض تَمَتَّعُوا بدنياكم قليلا. مَصِيرَكُمْ مرجعكم.
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا خصهم بالإضافة تنويها لهم وتنبيها على أنهم المقيمون لحقوق العبودية. ومقول قُلْ محذوف، دل عليه جوابه، أي قل لعبادي الذي آمنوا: أقيموا يقيموا الصلاة سِرًّا وَعَلانِيَةً أي وقت السر والعلانية أو ذوي سر وعلانية، أو إنفاق سر وعلانية لا بَيْعٌ فِيهِ لا فداء، بأن يبيع ما يفدي به نفسه وَلا خِلالٌ مخالة، أي صداقة تنفع، وذلك اليوم هو يوم القيامة.
سبب النزول: نزول الآية (٢٨) :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا.. قال ابن عباس: هؤلاء هم كفار مكة.
وأخرج الحاكم وابن جرير والطبراني وغيرهم عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا في المبدّلين: هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة، وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر- أو فكفيتموهم
- وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، عاد إلى وصف أحوال الكفار في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا.. وهم أهل مكة، حيث أسكنهم الله تعالى حرمة الآمن، وجعل عيشهم في السعة، وبعث فيهم محمدا
249
صلّى الله عليه وسلّم، فلم يعرفوا قدر هذه النعمة، وأبان أسباب وقوعهم في سوء المصير في جهنم، ثم أمرهم على سبيل الوعيد والتهديد بالتمتع في نعيم الدنيا، ثم أمر المؤمنين بمجاهدة النفس والهوى بالصلاة والإنفاق.
التفسير والبيان:
يدعو الله تعالى إلى التعجب من أمر كفار مكة وأمثالهم الذين وصفهم الله بصفتين هما السبب الأول في دخولهم نار جهنم وهي:
١- بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً أي بدلوا شكر نعمة الله كفرا، فإن شكر النعمة واجب عقلا وشرعا، لكنهم خرجوا عن هذا الواجب، وجعلوا بدل الشكر كفرا وجحودا. وهم كفار أهل مكة، وهو المشهور الصحيح عن ابن عباس في هذه الآية، قال ابن كثير: وإن كان المعنى يعم جميع الكفار، فإن الله تعالى بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم رحمة للعالمين، ونعمة للناس، فمن قبلها وقام بشكرها، دخل الجنة، ومن ردّها وكفرها دخل النار.
٢- وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ أي وأنزلوا قومهم الذين شايعوهم في الكفر، واتبعوهم في الضلال، دار الهلاك الذي لا هلاك بعده.
ودار البوار هي جهنم مقر العذاب التي يدخلونها ويقاسون حرها، وبئس المقر جهنم.
والسبب الثاني: وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي واتخذوا لله شركاء عبدوهم معه، ودعوا الناس إلى ذلك، فقالوا في الحج مثلا: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
والسبب الثالث: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ أي اتخذوا الأنداد أو الشركاء لتكون عاقبة أمرهم إضلال من شايعهم واتبعهم، وصرفهم عن دين الله، وإبقاءهم
250
في مرتع الكفر. فاللام في لِيُضِلُّوا لام العاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال ولأنهم لم يريدوا ضلال أنفسهم، أي أن المقصود لا يحصل إلا في آخر المراتب.
ثم قال تعالى مهددا ومتوعدا لهم على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ: تَمَتَّعُوا..
أي تمتعوا بما قدرتم عليه من نعيم الدنيا، فإن جزاءكم ومرجعكم وموئلكم إلى النار، كما قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [لقمان ٣١/ ٢٤] وقال سبحانه: مَتاعٌ فِي الدُّنْيا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [يونس ١٠/ ٧٠]. وسمي ذلك تمتعا لأنهم تلذذوا به، ولأنه بالنسبة إلى عقاب الآخرة تمتع ونعيم.
ونظير الآية في أمر التهديد: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت ٤١/ ٤٠] وقوله:
قُلْ: تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا، إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ [الزمر ٣٩/ ٨].
وبعد تهديد الكفار على تمتعهم في الدنيا، أمر الله نبيه بأن يبلّغ الناس ويأمرهم بإقامة الصلاة التي هي عبادة بدنية، والإنفاق في سبيله وهو عبادة مالية، فقال: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا.. أي يأمر الله تعالى عباده بطاعته والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه، بأن يقيموا الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأن ينفقوا مما رزقهم الله، بأداء الزكوات، والنفقة على القرابات، والإحسان إلى الأباعد.
وإقامة الصلاة: أداؤها مستكملة أركانها وشروطها، مع المحافظة على وقتها، والخشوع لله في جميع أجزائها.
ويكون الإنفاق مما رزق في السرّ (أي في الخفية) والعلانية وهي الجهر، قال البيضاوي: والأحب إعلان الواجب (أي في النفقة) وإخفاء المتطوع به (أي المتبرع أو المتصدق به).
251
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ.. أي وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم، من قبل أن يأتي يوم القيامة، الذي لا بيع فيه، أي لا يقبل من أحد فيه فدية، بأن تباع نفسه، ولا تفيد فيه صداقة، للصفح والعفو والتخلص من العقاب، بل هناك العدل والقسط، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ، وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحديد ٥٧/ ١٥] وقال سبحانه: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً، وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ، وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة ٢/ ١٢٣] وقال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ، وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ، وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة ٢/ ٢٥٤].
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآية بيان الفرق بين فريقي الكفار والمؤمنين، أما الكافرون فاستحقوا دخول دار البوار: جهنم لأسباب ثلاثة: هي تبديلهم شكر نعمة الله عليهم كفرانا وجحودا، واتخاذ الأنداد أي الشركاء وهي الأصنام التي عبدوها، وإضلالهم الناس عن دين الله القويم، بمعنى أن عاقبتهم إلى الإضلال والضلال، ومردهم ومرجعهم إلى عذاب جهنم.
وأما المؤمنون فلهم الجنة بسبب إقامة الصلوات الخمس المفروضة، والإنفاق في سبيل الله، بأداء الزكاة الواجبة، والتطوع بالصدقات المستحبة، بإعلان الواجب، وإخفاء التطوع، كما قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة ٢/ ٢٧١].
ودلت الآية على أنه لا ينفع يوم القيامة فداء ولا صداقة، وأن الطاعات الأساسية ثلاث: الإيمان بالله تعالى، وشغل النفس بخدمة المعبود في الصلاة،
252
وصرف المال وبذله في طاعة الله تعالى، ليجد الإنسان ثواب ذلك الإنفاق في يوم لا مبايعة فيه ولا مخالّة، إلا المخالة التي يشترك فيها الأخلاء في عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى كما قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف ٤٣/ ٦٧].
أدلة وجود الله والتوحيد في الكون والأنفس
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)
الإعراب:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ مبتدأ وخبر. رِزْقاً منصوب على المصدرية أو مفعول:
فَأَخْرَجَ ومِنَ الثَّمَراتِ بيان له، وحال منه.
دائِبَيْنِ حال من الشمس والقمر، وذكّر تغليبا للقمر على الشمس لأن القمر مذكر والشمس مؤنث، وإذا اجتمع المذكر والمؤنث، غلّب جانب المذكر على جانب المؤنث، لأن التذكير هو الأصل.
مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ بالإضافة، على تقدير مفعول محذوف، أي وآتاكم سؤلكم من كل ما سألتموه، مثل قوله تعالى: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل ٢٧/ ١٦] أي أوتينا من كل شيء شيئا. ومن قرأ بالتنوين مِنْ كُلِّ كان المفعول ملفوظا به، أي وآتاكم ما سألتموه من كل شيء.
وما هاهنا: نكرة موصوفة، وسَأَلْتُمُوهُ: جملة فعلية صفة لها.
253
البلاغة:
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ صيغة مبالغة على وزن فعول وفعّال.
المفردات اللغوية:
السَّماواتِ جمع سماء، ولا نعرف حقيقتها، ولكن كل ما علا الإنسان وأظله فهو سماء.
رِزْقاً لَكُمْ الرزق: كل ما ينتفع به، ويشمل المطعوم والملبوس. وَسَخَّرَ ذلل أو أعد ويسّر. الْفُلْكَ السفن. بِأَمْرِهِ بإذنه أو بمشيئته إلى حيث توجهتم. وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ جعلها معدة لانتفاعكم وتصرفكم. دائِبَيْنِ دائمين في الحركة أو السير، والإنارة والإصلاح، لا يفتران. وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان، فالليل للنوم والسكن فيه والنهار للمعاش وابتغاء الفضل. وَآتاكُمْ أعطاكم. ما سَأَلْتُمُوهُ بلسان الحال، على حسب مصالحكم.
نِعْمَتَ اللَّهِ إنعامه، وفيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة. لا تُحْصُوها لا تطيقوا حصرها. إِنَّ الْإِنْسانَ الكافر. لَظَلُومٌ كَفَّارٌ أي كثير الظلم لنفسه بالمعصية وإغفال شكرها، وكثير الكفر أو الجحود لنعمة ربه.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى أوصاف أحوال السعداء والأشقياء، أتبعه بالأدلة الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته ووحدانيته، ليدل على وجوب شكر الصانع الموجد لها، ويقرّع الكافرين الذين أعرضوا عن التفكر في تلك النعم.
التفسير والبيان:
يعدد الله تعالى في هذه الآيات نعمه على خلقه، ويشير إلى دلائل وجوده وقدرته، وهي عشرة أدلة:
١- خَلَقَ السَّماواتِ: الله هو الذي خلق السموات سقفا محفوظا، وزيّنها بزينة الكواكب.
٢- وخلق الأرض فراشا وما فيها من المنافع الكثيرة لكم أيها الناس.
254
٣- وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ: أي السحاب مطرا أحيا به الأرض بعد موتها، وأنبت به الشجر والزرع، وأخرج به ما يحتاجه الإنسان من الأرزاق للأكل والعيش، بواسطة الثمار والزروع المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع، كقوله تعالى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه ٢٠/ ٥٣].
٤- وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ: أي وذلل لكم السفن، بأن ألهمكم صنعها، وجعلها طافية على وجه الماء، تجري في البحر من بلد لآخر للركوب والحمل، بإذن الله ومشيئته.
٥- وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ: أي فجر لكم ينابيع الأنهار، وشقّ الأرض من مسافة إلى مسافة، للشرب وسقي الزروع والأشجار والبهائم وغيرها من المنافع.
٦، ٧- وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ: أي ذللهما وجعلهما يسيران في حركة دائمة، لا يفتران ليلا ولا نهارا لإصلاح حياة الإنسان والنبات وغيرهما كما قال تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس ٣٦/ ٤٠].
٨، ٩- وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ: أي جعلهما يتعاقبان، ويتعارضان، فمرة يطول الليل كما في الشتاء، ومرة يطول النهار كما في الصيف، ويقصر الآخر، وبالعكس، والنهار للسعي والكسب والمعاش وشؤون الدنيا، والليل للنوم والسبات والسكن فيه كما قال تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف ٧/ ٥٤] وقال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَأَنَّ
255
اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
[لقمان ٣١/ ٢٩] وقال سبحانه: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص ٢٨/ ٧٣].
١٠- وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي أعطاكم أيها البشر سؤلكم من كل ما شأنه أن يسأل، ويحتاج إليه، وينتفع به، سواء سألتموه أو لم تسألوه، أو أعطاكم من كل مسئول سألتموه شيئا، والخطاب لجنس البشر لأن الله خلق لكم ما في الأرض جميعا، وترك استخراجها واختراع ما يكتشف منها لعقولكم بمقتضى تطور العقل البشري، وتقدم الحياة المدنية، وبالتدريج، وقد وصل الإنسان في القرن العشرين إلى قمة الاكتشاف والابتكار في مختلف المجالات، معتمدا على طاقات البخار والهواء والنفط والكهرباء والذرة وغيرها.
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي إن أردتم تعداد نعم الله المنعم بها عليكم لا تطيقوا حصرها لكثرتها. والنعمة هنا قائمة مقام المصدر، بمعنى الإنعام، كالنفقة والإنفاق، ويدل ذلك على العموم لأن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة.
والمقصود من الجملتين الأخيرتين: وَآتاكُمْ.. وَإِنْ تَعُدُّوا الإخبار عن عجز العباد عن تعداد النعم، فضلا عن القيام بشكرها.
فبعد أن ذكر الله تعالى تلك النعم العظيمة، أبان أنه لم يقتصر عليها، بل أعطى عباده من المنافع ما لا يتأتى معه الإحصاء، بقوله: وَآتاكُمْ.. ثم ختم الكلام بقوله: وَإِنْ تَعُدُّوا ليبين أنه آتى العباد من كل ما احتاجوا إليه، مما لا تصلح الأحوال والمعيشة إلا به. قال طلق بن حبيب رحمه الله تعالى: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين.
وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «اللهم لك الحمد غير مكفّي، ولا مودّع، ولا مستغنى عنه ربنا»
وقال
256
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: «الحمد لله الذي لا يؤدّى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها».
إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ أي إن الإنسان يظلم النعمة بإغفال شكرها، شديد الكفران لها، والمراد بالإنسان هنا الجنس، فلا يراد به الواحد، بل يراد به الجمع، أي توجد فيه هذه الخلال، وهي الظلم والكفر، يظلم النعمة بإغفال شكرها، ويكفرها بجحدها.
ويلاحظ أنه تعالى قال هنا: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ وقال في سورة النحل [١٨] : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها، إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ والفرق بين الخاتمتين: أن الكلام هنا مناسب لتعداد قبائح الإنسان من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك، وأما في سورة النحل فيناسب ما ذكر في الآية من تعداد فضائل الله على الإنسان، ومنها اتصافه بالمغفرة والرحمة، تحريضا على الرجوع إليه «١».
وقال الرازي عن الفرق بين الآيتين: كأنه تعالى يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة، فأنت الذي أخذتها، وأنا الذي أعطيتها، فحصل لك عند أخذها وصفان: وهما كونك ظلوما كفارا، ولي وصفان عند إعطائها، وهما كوني غفورا رحيما. والمقصود كأنه يقول: إن كنت ظلوما فأنا غفور، وإن كنت كفارا فأنا رحيم، أعلم عجزك وقصورك، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير، ولا أجازي جفاء إلا بالوفاء «٢».
(١) البحر المحيط: ٥/ ٤٢٨- ٤٢٩
(٢) تفسير الرازي: ١٩/ ١٣٠- ١٣١
257
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدتنا الآيات إلى ما يأتي:
١- لقد أقام الله تعالى أدلة كثيرة على وجوده وقدرته وعلمه ووحدانيته، منها هذه الأدلة العشرة التي ذكرها في الآية من خلق السموات والأرض، وإنزال المطر من السحاب.. إلخ.
٢- إن نعم الله تعالى على البشر لا تعد ولا تحصى لكثرتها، ولدقة إدراكها وخفائها أحيانا، كخزائن السموات والأرض، وعجائب تكوين الإنسان، وبخاصة دماغه وحواسه من سمع وبصر وملاحظة الصور، وغير ذلك من نعمة العافية، والإمداد بالرزق منذ كونه جنينا في بطن أمه، إلى حين ولادته وطفولته، إلى شبابه وكهولته وشيخوخته، وتقلّبه في أنحاء الأرض، إلى موته فلقاء ربه.
٣- إن النعم على الإنسان من الله، فلم يبدل نعمة الله بالكفر؟! وهلا استعان بها على الطاعة؟! إن من شأن الإنسان ظلم النعمة بإغفال شكرها، وكفرانها وجحودها. والإنسان: جنس، أراد به العموم، وقال بعض المفسرين: وأراد به الخصوص كأبي جهل وجميع الكفار.
دعاء إبراهيم عليه السلام مستقبل البيت الحرام
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٣٥ الى ٤١]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)
258
الإعراب:
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي المفعول محذوف، تقديره: أسكنت ناسا من ذريتي بواد.
لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ متعلق بأسكنت، وفصل بينهما بقوله: رَبَّنا لأن الفصل بالندا كثير في كلامهم.
وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي مقيمي الصلاة، فحذف الفعل لدلالة ما قبله عليه.
البلاغة:
تَبِعَنِي وعَصانِي نُخْفِي ونُعْلِنُ الْأَرْضِ والسَّماءِ بين كلّ طباق.
فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ تهوي: فيه استعارة لأن حقيقة الهويّ النزول من علو إلى انخفاض، كالهبوط، والمراد: تسرع إليهم شوقا وحبا من مكان بعيد، بعكس «تحنّ» فهو قد يكون من المقيم بالمكان.
اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ عرّف البلد هنا، ونكّر في سورة البقرة اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً لأنه في البقرة كان دعاؤه قبل بنائها، فطلب أن تجعل بلدا وآمنا، وهنا كان بعد بنائها، فطلب أن تكون بلد أمن واستقرار.
259
المفردات اللغوية:
هَذَا الْبَلَدَ بلد مكة آمِناً ذا أمن لمن فيها وَاجْنُبْنِي أبعدني. أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ عن أن نعبد. رَبِّ إِنَّهُنَّ أي الأصنام أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بعبادتهم لها، فلذلك سألت منك العصمة، واستعذت بك من إضلالهن، وإسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية.
فَمَنْ تَبِعَنِي على التوحيد فَإِنَّهُ مِنِّي من أهل ديني. وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ومن عصاني دون الشرك، فإنك تقدر أن تغفر له وترحمه ابتداء، أو بعد التوفيق للتوبة. وقوله:
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ معناه حين يؤمنوا لأنه أراد أن الله يغفر لكل كافر بعد إيمانه ما كان منه سابقا، لكنه عليه السلام استعمل هذه العبارة التي ظاهرها أن كل ذنب فلله أن يغفره حتى الشرك، بسبب ما كان يأخذ به نفسه من القول الجميل، والنطق الحسن، وجميل الأدب.
مِنْ ذُرِّيَّتِي أي بعضها، وهو إسماعيل مع أمه هاجر. بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي مكة، فإنها حجرية لا تنبت. عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي حرمت التعرض له والتهاون به، أو لم يزل معظما تهابه الجبابرة، أو منع منه الطوفان، فلم يستول عليه، ولذلك سمي عتيقا، أي أعتق منه. أَفْئِدَةً قلوبا. مِنَ النَّاسِ بعضهم. تَهْوِي إِلَيْهِمْ تسرع إليهم شوقا وحبا، قال ابن عباس: لو قال: أفئدة الناس، لحنّت إليه فارس والروم والناس كلهم. والمقصود من الدعاء لإقامة الصلاة: توفيقهم لها، أو الدعاء لهم بإقامة الصلاة. وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ أي بالإنبات في الوادي مع سكناهم. لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ تلك النعمة، فأجاب الله تعالى دعوته، فجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء، حتى توجد فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية والشتوية في يوم واحد.
نُخْفِي نسرّ. مِنْ شَيْءٍ من: زائدة أو للاستغراق، وقول وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. يحتمل أن يكون من كلامه تعالى أو كلام إبراهيم. والمقصود من قوله: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا، وأرحم منا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب، لكنا ندعوك إظهارا لعبوديتك، وافتقارا إلى رحمتك، واستعجالا لنيل ما عندك. وتكرير النداء للمبالغة في التضرع واللجوء إلى الله تعالى، والرغبة في الإجابة. وأتى بضمير جماعة المتكلمين لأنه تقدم ذكره وذكر بنيه.
وَهَبَ لِي أعطاني. عَلَى الْكِبَرِ مع الكبر، ولد إسماعيل ولأبيه تسع وتسعون سنة، وولد إسحاق ولأبيه مائة واثنتا عشرة سنة. اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ أي مواظبا عليها. وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل من ذريتي من يقيمها، وأتى بمن لإعلام الله تعالى له أن منهم كفارا.
وَلِوالِدَيَّ هذا قبل أن يتبين له عداوتهما لله عز وجل، وقيل: أسلمت أمه. وقيل:
أراد بهما آدم وحواء. يَقُومُ الْحِسابُ يثبت ويتحقق ويوجد.
260
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى بالأدلة المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه، وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى أصلا، وطلب من رسوله أن يعجب من حال قومه الذين عبدوا الأصنام، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم، وأنه دعا أن يجعل مكة بلد أمان واستقرار، وأن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام، وأنه أسكن بعض ذريته عند البيت الحرام ليعبدوه وحده بالصلاة التي هي أشرف العبادات، وأنه شكر الله تعالى على منحه بعد الكبر واليأس من الولد ولدين هما إسماعيل وإسحاق، وأنه طلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين يوم يوجد الحساب.
والخلاصة: إن إبراهيم عليه السلام هو القدوة والنموذج لعبادة الله عز وجل، فليقتد به من ينتمون إليه.
التفسير والبيان:
هذا تذكير من الله تعالى واحتجاج على مشركي العرب بأن مكة البلد الحرام إنما وضعت منذ القدم على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم عليه السلام تبرأ ممن عبد غير الله، وأنه دعا لمكة بالأمن والاستقرار في ظلّ التوحيد، فقال: رَبِّ اجْعَلْ.. أي واذكر يا محمد لقومك حين دعا إبراهيم بقوله: ربي اجعل مكة بلدا آمنا أي ذا أمن واستقرار، لا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد، وقد أجاب الله دعاءه، فجعله آمنا للإنسان والطير والنبات، فلا يقتل فيه أحد، ولا يصاد صيده، ولا يختلى خلاه، ولا يعضد شجره، كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [العنكبوت ٢٩/ ٦٧] وقال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران ٣/ ٩٧].
وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ.. أي وباعدني يا رب وبني من عبادة الأصنام، واجعل عبادتنا خالصة لك على منهج التوحيد. وهذا دليل على أنه ينبغي لكل
261
داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته. وقد استجاب الله دعاه في بعض ذريته دون بعض. وكان هذا الدعاء حين ترك هاجر وابنه إسماعيل، وهو رضيع، في مكة، قبل بناء البيت الحرام.
ثم ذكر أنه افتتن بعبادة الأصنام كثير من الناس فقال: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ.. أي يا رب إن الأصنام كانت سببا في ضلال كثير من الناس عن طريق الهدى والحق، حتى عبدوهن. وقد أضيف الإضلال إلى الأصنام لأنها كانت سببا في الضلال عند عبادتها، وذلك بطريق المجاز، فإن الأصنام جمادات لا تفعل.
فَمَنْ تَبِعَنِي.. أي فمن صدقني في ديني واعتقادي، وسار على منهجي في الإيمان بك وبتوحيدك الخالص، فإنه مني، أي على سنتي وطريقتي، مثل «من غشنا فليس منا» أي ليس على سنتنا، ومن عصاني فلم يقبل ما دعوته إليه من التوحيد لك وعدم الشرك بك، فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة.
وهذا صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة غير الكفار لأنه عليه السلام تبرأ في مقدمة هذه الآية عن الكفار بقوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، ولأنه أيضا بقوله: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه على دينه، فإنه ليس منه، ولا يهتم بإصلاح شؤونه، ولأن الأمة مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة، فكان قوله: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ شفاعة في العصاة غير الكفار.
عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تلا قول إبراهيم عليه السلام:
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ.. الآية، وقول عيسى عليه السلام:
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الآية، ثم رفع يديه، ثم قال: «اللهم أمتي، اللهم أمتي، اللهم أمتي» وبكى، فقال الله تعالى: اذهب يا جبريل إلى محمد، وربك
262
أعلم، وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام، فسأله، فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال، فقال الله تعالى: اذهب إلى محمد، فقال له: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك.
ثم دعا إبراهيم بدعاء ثان بعد بناء البيت الحرام لقوله: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ. وبعد الدعاء الأول الذي كان قبل بناء البيت، فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ.. أي يا ربنا إني أسكنت بعض ذريتي وهم إسماعيل ومن ولد منه، بواد لا زرع فيه وهو وادي مكة، عند بيتك المحرم أي الذي حرمت التعرض له والتهاون به، وجعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده، فاجعل قلوب بعض الناس تسرع إليه شوقا ومحبة، وتحن وتميل إلى رؤيته. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم: لو قال: أفئدة الناس، لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم، ولكن قال: مِنَ النَّاسِ فاختص به المسلمون.
وارزق ذريتي من أنواع الثمار الموجودة في سائر الأقطار، ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك، وكما أنه واد غير ذي زرع، فاجعل لهم ثمارا يأكلونها.
وقد استجاب الله دعاءه، كما قال: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً، يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا [القصص ٢٨/ ٥٧] وتحقق فضل الله ورحمته وكرمه، فبالرغم من أنه ليس في البلد الحرام: «مكة» شجرة مثمرة، فإنه تجبى إليها ثمرات ما حولها من البلاد، من أنواع ثمار الفصول الأربعة، استجابة لدعاء الخليل عليه السلام.
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أي وارزقهم من أنواع الثمار ليشكروك على جزيل نعمتك، أو رجاء أن يشكروك بإقامة الصلاة وكثرة العبادة. وفيه إيماء إلى أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو للاستعانة بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات.
263
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ.. أي أنت تعلم قصدي في دعائي، وهو التوصل إلى رضاك والإخلاص لك، وأنت أعلم بأحوالنا ومصالحنا، وتعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها، لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء، فلا حاجة لنا إلى الطلب، وإنما ندعوك إظهارا لعبوديتك، وافتقارا إلى رحمتك، واستعجالا لنيل ما عندك.
وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. أي ولا يغيب عن الله شيء في الأرض أو في السماء، فكله مخلوق له، وهو عالم به. وهذا من كلام الله عز وجل، تصديقا لإبراهيم عليه السلام، كقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل ٢٧/ ٣٤] أو من كلام إبراهيم، يعني وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب والشهادة من شيء في كل مكان. ومِنْ للاستغراق، كأنه قيل: وما يخفى عليه شيء ما.
ثم حمد إبراهيم عليه السلام ربه عز وجل على ما رزقه من الولد بعد الكبر، فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي.. أي الحمد والشكر كله لله الذي أعطاني ومنحني الولد بعد الكبر والإياس من الولد، أعطاني ولدين هما إسماعيل وأمه هاجر وإسحاق وأمه سارّة. وقدم إسماعيل لأنه كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. وقيل: لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة.
وقوله: عَلَى الْكِبَرِ لأن المنة بهبة الولد في هذه السن أعظم إذ الظفر بالحاجة وقت اليأس من أعظم النعم، ولان الولادة في تلك السن المتقدمة كانت آية لإبراهيم.
إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي إن الله ربي سامع دعائي وقولي، ومجيب من دعاه، وعالم بالمقصود، سواء صرحت به أو لم أصرح. وقال هذا لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض، لا على وجه الإيضاح والتصريح.
264
ومناسبة قوله: رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي.. لقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي.. هو لمراعاة الأدب الجم مع الله تعالى، فهو عليه السلام كان يريد أن يطلب من الله إعانة زوجه هاجر وابنه إسماعيل بعد موته، ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب، بل ذكر أنك يا رب تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا، ثم نوّه بحال ذريته بعد موته، فكان هذا دعاء لزوجه وابنه بالخير والمعونة بعد موته، على سبيل الرمز والتعريض.
وذلك- كما قال الرازي- يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة أفضل من الدعاء،
قال عليه الصلاة والسلام حاكيا عن ربه أنه قال فيما رواه البخاري والبزار والبيهقي عن ابن عمر: «من شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطيت السائلين».
ثم دعا بما يكون دليلا على شكر الله فقال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ.. أي رب اجعلني مؤديا صلاتي على أتم وجه، محافظا عليها، مقيما لحدودها.
واجعل بعض ذريتي كذلك مقيمي الصّلاة لأن مِنْ للتبعيض.
وخص الصلاة بالذكر لأنها عنوان الإيمان، ووسيلة تطهير النفوس من الفحشاء والمنكر.
رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ أي اقبل يا رب دعائي، أو عبادتي في رأي ابن عباس بدليل قوله تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم ١٩/ ٤٨].
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة وغيرهم عن النعمان بن بشير: «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ.
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي.. أي ربنا استرني وتجاوز عن ذنوبي وذنوب والدي وذنوب المؤمنين كلهم يوم يثبت ويوجد الحساب فتحاسب عبادك على أعمالهم
265
الخيرة والشريرة. قال الحسن: إن أمه كانت مؤمنة، وأما استغفاره لأبيه فكان عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين أنه عدو لله، تبرأ منه، كما قال عز وجل:
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة ٩/ ١١٤].
ودعاء إبراهيم لنفسه لا يلزم منه صدور ذنب منه، وإنما المقصود منه الالتجاء إلى الله تعالى، والاعتماد على فضله وكرمه ورحمته.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- تعليمنا طلب نعمة الأمان من الله، فابتداء إبراهيم عليه السلام بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات، وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به.
٢- مشروعية الدعاء للنفس والذرية والبلاد، بل ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته.
٣- كان دعاء إبراهيم مركّزا حول إخلاص التوحيد لله عز وجل، وتجنب عبادة الأصنام والأوثان، التي كانت سببا في إضلال كثير من الناس، فدعاؤه جمع بين طلب أن يرزق التوحيد، وبين طلب صونه عن الشرك، وتضمن أيضا طلب توفيقه لصالح الأعمال، وتخصيصه بالرحمة والمغفرة يوم القيامة.
٤- الالتفاف حول النبي أو المصلح واجب لقول إبراهيم: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي.
٥- طلب المغفرة للعصاة غير الكفار لأن الشرك أو الكفر لا يجوز
266
بالإجماع طلب إسقاطه ومغفرته لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨].
٦- إسكان إبراهيم زوجه وابنه إسماعيل عند البيت الحرام كان لإقامة الصلاة.
وقد روى البخاري عن ابن عباس ما مفاده أن إبراهيم ترك هاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه، عند البيت، عند دوحة فوق زمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، ووضع عندهما جرابا، وسقاء فيه ماء، ثم قفّى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء، فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيّعنا ثم رجعت، فانطلق إبراهيم، حتى إذا كان عند الثّنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات، ورفع يديه فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ حتى بلغ يَشْكُرُونَ.
وبعد أن نفد ما في السقاء، عطشت وعطش ابنها، فجعلت تسعى سعي المجهود بين الصفا والمروة، سبع مرات،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فذلك سعي الناس بينهما» ثم سمعت وهي على المروة صوتا، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فبحث بعقبه أو بجناحه، حتى ظهر الماء.
روى الدارقطني عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ماء زمزم لما شرب له، إن شربته تشتفي به شفاك الله، وإن شربته لشبعك أشبعك الله به، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه، وهي هزمة «١» جبريل، وسقيا الله إسماعيل».
(١) هزمة جبريل: أي ضربها برجله فنبع الماء.
267
٧- لا يجوز لأحد أن يفعل فعل إبراهيم في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة، اتكالا على العزيز الرحيم، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله تعالى،
لقوله في الحديث: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. وكان ذلك كله بوحي من الله تعالى.
٨- تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها لأن معنى رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه.
٩- كان من بركة دعاء إبراهيم عليه السلام واستجابة الله له أن التعلق بالبيت الحرام وحبه والشوق إليه والحنين إلى زيارته متمكن في قلب كل مؤمن.
وقال ابن عباس في الآية: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً: سأل أن يجعل الله الناس يهوون السّكنى بمكة، فيصير بيتا محرما، وكل ذلك كان، والحمد لله، وأول من سكنه جرهم.
وأن مكة أصبحت ملتقى الأثمار والفواكه الآتية من كل الأنحاء والأمصار، وأنبت الله لهم بالطائف سائر الأشجار.
١٠- احتج أهل السنة بآية وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ على أن أفعال العبد مخلوقة الله تعالى، وهذا يشمل ترك المنهيات المنصوص عليه في هذه الآية: وَاجْنُبْنِي وفعل المأمورات المنصوص عليه في آية: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه السلام كان مصرا على أن الكل من خلق الله تعالى.
١١- دلّ القرآن على أنه تعالى أعطى إبراهيم عليه السلام ولدين هما إسماعيل وإسحاق على الكبر والشيخوخة، ولم يتعرض القرآن لسن إبراهيم في ذلك الوقت، وإنما يؤخذ من روايات التاريخ.
268
ما يدل على وجود القيامة وأوصافها أو تأخير عذاب القيامة وأحوال المعذبين وتبدل السموات والأرض
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٤٢ الى ٥٢]
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦)
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١)
هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢)
الإعراب:
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ حال من ضمير يُؤَخِّرُهُمْ وتقديره: إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار في هاتين الحالتين.
269
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ.. يَوْمَ: مفعول أَنْذِرِ الثاني ولا يجوز أن يكون ظرفا لأنذر لأنه يؤدي إلى أن يكون الإنذار يوم القيامة، ولا إنذار يوم القيامة.
وَتَبَيَّنَ لَكُمْ فعل ماض فاعله مقدر، أي تبين لكم فعلنا بهم، ولا يجوز أن يكون كَيْفَ فاعل تَبَيَّنَ لأن الاستفهام لا يعمل فيما قبله، ولأن كَيْفَ لا يقع مخبرا عنه، والفاعل يخبر عنه، وإنما كَيْفَ هنا منصوبة بقوله: فَعَلْنا.
لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ اللام لام الجحود، والفعل منصوب بتقدير «أن». و «إن» بمعنى «ما» وتقديره: وما كان مكرهم لتزول منه الجبال، على التصغير والتحقير لمكرهم. ومن قرأ بفتح اللام وضم آخر الفعل «لتزول» كانت اللام للتأكيد، ودخلت للفرق بين «إن» المخففة من الثقيلة وبين «إن» بمعنى «ما» أي وإنه كان مكرهم لتزول منه الجبال. وكان هنا تامة بمعنى وقع، والجبال: عبارة عن أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم لعظم شأنه.
مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ أي مخلف رسله وعده.
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.. يوم منصوب على الظرف بالمصدر قبله، وهو انتِقامٍ. وما بعد وَالسَّماواتُ محذوف أي غير السموات، لدلالة غَيْرَ الْأَرْضِ عليه.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ.. اللام تتعلق بفعل وَتَغْشى أو بفعل وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ أو بمحذوف دل عليه قوله: ذُو انتِقامٍ.
وَلِيُنْذَرُوا فيه تقدير، أي هذا بلاغ للناس وللإنذار لأن «أن» المقدّرة بعد اللام مع «ينذروا» في تأويل المصدر، وهو الإنذار. أو تقديره: هذا بلاغ للناس وأنزل لينذروا به، كقوله تعالى: كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ، فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ [الأعراف ٧/ ٢].
البلاغة:
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ فيه جناس الاشتقاق.
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ حذف منه: «والسموات تبدل غير السموات» لدلالة غَيْرَ الْأَرْضِ.
وَبَرَزُوا عبر بالماضي محل المضارع «يبرزون» للدلالة على تحقق الوقوع، مثل أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل ١٦/ ١] أي فكأنه حدث ووقع، فأخبر عنه بصيغة الماضي.
المفردات اللغوية:
وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ.. خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد تثبيته على ما هو عليه من أنه مطلع
270
على أحوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه خافية، والوعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة، أو هو خطاب لكل من توهم غفلته جهلا بصفات الله واغترارا بإمهاله. إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يؤخر عذابهم.
أماكنها، لهول ما ترى، يقال: شخص بصر فلان، أي فتحه فلم يغمضه. مُهْطِعِينَ مسرعين إلى الداعي ومقبلين، وأصله الإقبال على الشيء. مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعيها إلى السماء ناظرة أمامها. لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لا يرجع إليهم بصرهم، بل تبقى عيونهم شاخصة لا تطرف.
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ قلوبهم خالية من العقل والفهم لفزعهم، وفرط الحيرة والدهشة.
وَأَنْذِرِ النَّاسَ خوف يا محمد الكفار. يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ هو يوم القيامة، أو يوم الموت، فإنه أول أيام عذابهم. الَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر أو الشرك والتكذيب. رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ أخر العذاب عنا، وردنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى حد من الزمان قريب، أو أخر آجالنا وأبقنا مقدار ما نؤمن بك، ونجيب دعوتك بالتوحيد. وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ الذين أرسلتهم، وهذا وما قبله جواب الأمر، ونظيره: أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقين ٦٣/ ١٠].
أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ يقال لهم توبيخا، أي حلفتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت.
مِنْ قَبْلُ في الدنيا. مِنْ زَوالٍ مِنْ: زائدة، أي زوال عن الدنيا إلى الآخرة.
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعاصي كعاد وثمود. كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من العقوبة وما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم، فلم تنزجروا. وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ بينا لكم الأمثال في القرآن فلم تعتبروا، وأنكم مثلهم في الكفر والعذاب. وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ بالنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث أرادوا قتله أو تقييده أو إخراجه، وبذلوا فيه غاية جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل. وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي علمه أو جزاؤه. وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ أي وما كان مكرهم، وإن عظم، معدّا لإزالة الجبال، أي لا يعبأ به ولا يضر إلا أنفسهم، فهم مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتا وتمكنا، والمراد بالجبال هنا: حقيقتها، وقيل: شرائع الإسلام المشبهة بها في القرار والثبات. ومن قرأ بفتح لام لِتَزُولَ ورفع الفعل، فتكون «إن» مخففة، والمراد تعظيم مكرهم، مثل قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مريم ١٩/ ٩٠].
مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ بالنصر. عَزِيزٌ غالب لا يعجزه شيء ذُو انتِقامٍ قادر من الانتقام لأوليائه من أعدائه وكل من عصاه. يَوْمَ تُبَدَّلُ اذكر ذلك وهو يوم القيامة، فيحشر الناس على أرض بيضاء نقية، كما في حديث الصحيحين. وَبَرَزُوا خرجوا من القبور.
وَتَرَى تبصر يا محمد. الْمُجْرِمِينَ الكافرين. مُقَرَّنِينَ أي مشدودين مع بعض أو مع
271
شياطينهم. فِي الْأَصْفادِ في القيود أو الأغلال، جمع صفد. سَرابِيلُهُمْ قمصهم، جمع سربال وهو القميص. مِنْ قَطِرانٍ لأنه أبلغ لاشتعال النار، والقطران: أسود منتن، تشتعل فيه النار بسرعة، يطلى به جلود أهل النار، حتى يكون طلاؤه لهم كالقمص، ليجتمع عليهم لذع القطران، ووحشة لونه، ونتن ريحه، مع إسراع النار في جلودهم. والقطران: دهن يتحلب من شجر العرعر والتوت، كالزفت، تدهن به الإبل حال الجرب، ويقال له: الهناء، تهنأ به الإبل الجربي، أي تطلي. وَتَغْشى تعلو وتحيط بها.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ متعلق بقوله: وَبَرَزُوا، فتجازى كل نفس مجرمة أو مطيعة بما فعلت في الدنيا من خير أو شر. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب جميع الخلق، في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، لحديث ورد بذلك. هذا القرآن. بَلاغٌ لِلنَّاسِ أي أنزل لتبليغهم، وهو كفاية في العظة والتذكير. وَلِيَعْلَمُوا بما فيه من الحجج. أَنَّما هُوَ أن الله إله واحد.
وَلِيَذَّكَّرَ وليتعظ. أُولُوا الْأَلْبابِ أصحاب العقول.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد، وبعد أن حكى عن إبراهيم أنه طلب من الله أن يصونه من الشرك وأن يوفقه لصالح الأعمال، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة يوم القيامة، ذكر ما يدل على وجود يوم القيامة بقوله: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ وما يدل على صفة يوم القيامة بقوله:
تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ.. إلخ.
التفسير والبيان:
ولا تحسبن يا محمد أن الله إذا أنظر الناس وأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة، أنه غافل عنهم، مهمل لهم، لا يعاقبهم على صنعهم، بل هو يحصي ذلك عليهم، ويعده عليهم عدا. والمقصود من الآية إثبات وجود يوم القيامة بطريق التنبيه على أنه تعالى سينتقم للمظلوم من الظالم.
وهو وإن كان خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم صورة، فالمراد به أمته، بأسلوب «إياك أعني واسمعي يا جارة». وفيه تسلية للمؤمنين، وتهديد للظالمين بأن الله يحصي
272
عليهم أعمالهم ويعلم بها، وسيجزيهم على ظلمهم في الوقت المناسب، فعقابهم آت لا محالة لأن العلم بالظلم الصادر منهم موجب لعقابهم.
ثم بيّن الله تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بالصفات التالية:
١- أنه تشخص فيه الأبصار، أي أنه يمهلهم ويؤخرهم ليوم شديد الهول، ومن شدة أهواله تظل الأبصار فيه مفتوحة لا تطرف ولا تغمض، من شدة الفزع والحيرة والدهشة. ثم وصف كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر، فقال:
٢- مُهْطِعِينَ أي أنهم يأتون من قبورهم إلى المحشر مسرعين بالذل والمهانة، كما قال تعالى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر ٥٤/ ٨] وقال سبحانه:
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ، فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً إلى قوله: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ.. [طه ٢٠/ ١٠٨- ١١١] وقال عز وجل: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً.. [المعارج ٧٠/ ٤٣].
٣- مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعي رؤوسهم، ينظرون في ذل وخشوع، ولا يلتفتون إلى شيء.
٤- لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم، بل تظل أبصارهم شاخصة مفتوحة تديم النظر، لا يطرفون ولا يغمضون، لكثرة ما هم فيه من شدة الهول والفزع، والمراد من هذه الصفة دوام الشخوص.
٥- وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي وقلوبهم خاوية خالية لا شيء فيها من القوة، مضطربة، لكثرة الخوف. والمراد أن قلوب الكفار خالية من الخواطر لعظم الحيرة، ومن كل رجاء وأمل لما تحققوه من العقاب، وخالية من كل سرور لكثرة الحزن.
273
ووقت حصول هذه الأوصاف عند المحاسبة لأنه تعالى ذكر هذه الصفات عقب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب.
ثم ذكر تعالى مقالة هؤلاء المعذبين حين رؤية الهول، فقال: وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ...
أي وخوّف أيها النبي الناس جميعا من أهوال عذاب يوم القيامة، حين يقول الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب هلعا وجزعا: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي ردنا إلى الدنيا، وأمهلنا إلى وقت آخر قريب العودة إليك، نتدارك فيه ما فرطنا في الدنيا، من إجابة دعوتك إلى التوحيد وإخلاص العبادة لك، واتباع رسلك فيما أرسلتهم به، مثل قوله تعالى: أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون ٦٣/ ١٠] وكقوله: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ: رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ..
[المؤمنون ٢٣/ ٩٩- ١٠٠].
فرد الله تعالى عليهم موبخا لهم بقوله: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ.. أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة حينما كنتم في الدنيا: أنكم إذا متم لا زوال لكم عما أنتم فيه، وأنه لا معاد ولا جزاء، أي كنتم تنكرون البعث والحساب، وتزعمون أنه لا انتقال لحياة أخرى، كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل ١٦/ ٣٨] فذوقوا هذا العذاب بذلك الإنكار.
وَسَكَنْتُمْ.. أي والحال أنكم أقمتم في الظلم والفساد، وصاحبتم الظالمين لأنفسهم، وسرتم سيرتهم، بالرغم من أنه تبين لكم، ورأيتم ما فعلنا بهم من الإهلاك والعقاب لتكذيبهم وجحودهم وصدودهم عن دعوة الحق، وعاينتم آثار عذابهم، وظهر لكم أن عاقبتهم آلت إلى الوبال والخزي والنكال، وضربنا لكم الأمثال، وهو ما أورده الله في القرآن مما يعلم به أنه قادر على الإعادة، كما قدر على الابتداء،
274
وقادر على التعذيب المؤجل، كما يفعل الهلاك المعجل، وذلك في كتاب الله كثير، ولكنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا، فلم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر، فكيف تطلبون العودة والتأخير للتوبة؟! وقد فات الأوان.
ثم بيّن الله تعالى تشابه أحوالهم مع أحوال السابقين، فقال: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ أي إن هؤلاء الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم لم تتغير حالهم عن حال من سبقهم، فإنهم مكروا مكرهم جهد طاقتهم في إبطال الحق وتقرير الباطل، وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي وعند الله العلم بمكرهم، أو جزاؤهم، فكل شيء معلوم منهم، ومكتوب ومسجل عليهم، وسيجازيهم عليه الجزاء العادل، ويحاسبهم الحساب الشديد.
ثم ذكر الله تعالى وقت انتقامه فقال: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.. أي إن الله تعالى ذو انتقام من أعدائه، ووعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، فتصبح على غير الصفة المألوفة المعروفة، وتبدل أيضا السموات غير السموات، أما وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً [نوح ٧١/ ٢٢] فمحال أن تزول الجبال بمكرهم، والمراد بالجبال آيات الله وشرائعه لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتا وتمكنا، فهذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به، ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها، وإنما ضر أنفسهم، وعاد وبال ذلك عليهم. والمقصود تصغير مكرهم وتحقيره وتهوينه، فليس من شأنه إزالة الآيات وإبطال النبوات الثابتة ثبوت الجبال، والجبال لا تزول، ولكن العبارة مجاز عن تعظيم الشيء ووصفه كيف يكون.
وإذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن أيها الرسول أن الله مخلف رسله وعده، بل هو منجز لهم ما وعدهم به، والمراد تثبيت أمته على الثقة بوعد ربه بنصرهم وتعذيب الظالمين، كما قال: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ
275
عَزِيزٌ
[المجادلة ٥٨/ ٢١] وقال: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر ٤٠/ ٥١] وآية فَلا تَحْسَبَنَّ هنا هي تقرير وتأكيد لهاتين الآيتين، أي من نصرتكم في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ أي إن الله ذو عزة وقدرة لا يعجزه ولا يمتنع عليه شيء أراده، وشاء عقوبته، وهو ذو انتقام ممن كفر به وجحده، أو أشرك معه إلها آخر. وهذه خاتمة مناسبة للآية، تؤكد الحرص على إنجاز الوعد للرسل.
ثم ذكر تعالى وقت انتقامه فقال: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.. أي إن الله تعالى ذو انتقام من أعدائه، ووعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض، فتصبح على غير الصفة المألوفة المعروفة، وتبدل أيضا السموات غير السموات، أما الأرض الحالية فتصبح كالدخان المنتشر، وأما السموات فتتبدد كواكبها وشمسها وقمرها.
جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقيّ، ليس فيها معلم لأحد».
وروى أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن عائشة قالت: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ:
أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال: على الصراط»
.
واختلف العلماء في تبديل الأرض والسموات، فقيل: تبدّل أوصافها فتسيّر عن الأرض جبالها، وتفجّر بحارها وتسوّى، فلا يرى فيها عوج ولا أمت «١»،
(١) الأمت: المكان المرتفع والتلال الصغار، والانخفاض والارتفاع.
276
قال ابن عباس: هي تلك الأرض، وإنما تغير. وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها.
وقيل: يخلق بدلها أرضا وسموات أخر، عن ابن مسعود وأنس: «يحشر الناس على أرض بيضاء، لم يخطئ عليها أحد خطيئته» «١».
والعلماء يقررون أن الأرض والكواكب كانت كتلة ملتهبة في الفضاء، ثم انفصلت عنها الشمس والكواكب السيارة، ثم الأرض، ثم الأقمار. وستنحل هذه المجموعة، وتكون سموات غير هذه السموات، وأرض غير هذه الأرض.
وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ أي وخرجت الخلائق جميعها من قبورهم انتظارا لحكم الله الوحد، الذي قهر كل شيء وغلبه، كما قال تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر ٤٠/ ١٦] وفي هذا تهويل وتخويف.
ولما وصف الله تعالى نفسه بكونه قهارا، أبان عجز الناس وذلتهم أمامه، وذكر من صفاتهم:
١- كون المجرمين مقرنين في الأصفاد، أي ترى يا محمد المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم مقيدين بعضهم إلى بعض في الأغلال أو القيود، فيجمع بين النظراء أو الأشكال، كل صنف إلى صنف، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات ٣٧/ ٢٢] وقال: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير ٨١/ ٧] أي تقرن نفوس المؤمنين بالحور العين، ونفوس الكافرين بالشياطين وقال: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ [الشعراء ٢٦/ ٩٤].
٢- سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ أي قمصهم من القطران، والمراد أن جلود أهل النار تطلي بالقطران، حتى تصبح كالسرابيل، ليحصل بسببها أربعة أنواع
(١) الكشاف: ٢/ ١٨٥
277
من العذاب: لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. وأيضا التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين.
٣- وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تحيط النار بأجسامهم، وإنما ذكرت الوجوه لأنها أشرف الأعضاء وأعزها، مثل قوله تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ، وَهُمْ فِيها كالِحُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١٠٤] وقوله: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر ٣٩/ ٢٤] وقوله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر ٥٤/ ٤٨].
ثم بين الله تعالى سبب الجزاء فقال: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي أنه تعالى فعل كل ذلك ليجزي يوم القيامة كل شخص بما يليق بعمله وكسبه، من خير أو شر، فيعاقب المجرمين أو الكفار على كفرهم ومعصيتهم، ويثيب المؤمنين على إيمانهم وطاعتهم، كما قال تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم ٥٣/ ٣١].
ثم قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي إنه تعالى يحاسب جميع العباد بسرعة وهي في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، كما جاء في الحديث، ولا يظلم الناس ولا يزيد في عقابهم الذي يستحقونه، وهو سريع الإنجاز لأنه يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية، وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم، كقوله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان ٣١/ ٢٨]، وهو سريع الإحصاء.
ثم قال تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ أي هذا القرآن بلاغ للناس أي تبليغ وكفاية في الموعظة، كما قال تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام ٦/ ١٩] أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن.
278
وَلِيُنْذَرُوا بِهِ أي ليكون منذرا لهم بالعقاب ومحذرا من العذاب، وهو معطوف على محذوف أي لينتصحوا ولينذروا بهذا البلاغ.
وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي وليستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو.
وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي وليتذكر ويتعظ به ذوو العقول أي أن لهذا البلاغ ثلاث فوائد: وهي التخويف من عذاب الله، والاستدلال به على وجود الخالق ووحدانيته، والاتعاظ به وإصلاح شؤون الإنسان.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- وجود يوم القيامة بنحو مؤكد مقطوع به، أما تأخير العذاب الشديد ليوم القيامة فلحكمة إلهية يعود نفعها إلى مصلحة العباد، كيلا يعجل بعقابهم وتترك الفرصة لهم لإصلاح أحوالهم، فليس تأخير العذاب للرضا بأفعالهم، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم عما ساءه من إعراض المشركين عن الإيمان بدعوته، قال ميمون بن مهران: هذا وعيد للظالمين، وتعزية للمظلوم.
٢- يسيطر على يوم الحساب الحيرة والدهشة، والخوف والفزع، والاضطراب والقلق، فترى المجرمين حيارى لا تغمض أعينهم من هول ما يرونه في ذلك اليوم، ويسرعون في الخروج من القبور إلى مكان دعاء الداعي لهم بالتجمع في موقف الحساب، ناظرين من غير أن يطرفوا، ورافعي رؤوسهم ينظرون في ذل واستكانة، لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر، فهي شاخصة النظر، وأفئدتهم خاوية خربة ليس فيها خير ولا عقل، ولا وعي ولا فهم من شدة
279
٣- لا مناص من العذاب يوم القيامة ولا مفر منه، ولا أمل ولا رجاء في العودة إلى الدنيا لإصلاح الاعتقاد والأقوال والأفعال.
٤- ما أكثر المواعظ والعبر وأقل الاتعاظ والاعتبار!! فقد سكن الناس في مساكن الظالمين، في بلاد ثمود ونحوها، ولم يعتبروا بمساكنهم، بعد ما تبين ما فعل الله بهم، وبعد أن ضرب الله لهم الأمثال في القرآن للعظة والعبرة.
٥- لا جدوى من مكر الكافرين الشديد بالشرك بالله وتكذيب الرسل والمعاندة، فعند الله العلم التام بمكرهم، وهو مجازيهم عليه. ومكرهم حقير مهين لا يؤدي إلى شيء، من إزالة جبال الأرض، وإزاحة الإسلام والقرآن الثابتين ثبوت الجبال الراسيات، وقد حفظ الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم من ألوان مكرهم.
٦- الله تعالى منجز وعده لرسله وأوليائه لا محالة، ولن يخلف الله وعده بنصر أهل الحق وعقاب المبطلين، والله تعالى قوي غالب منتقم من أعدائه، ومن أسمائه: المنتقم الجبار.
٧- تتبدل الأرض والسموات يوم القيامة، وتبدل الأرض في رأي الأكثرين: عبارة عن تغير صفاتها، وتسوية آكامها، ونسف جبالها، ومدّ أرضها. وتبدل السموات: انتثار كواكبها وتصدعها وانشقاقها وتكوير شمسها وخسوف قمرها.
٨- للمجرمين في النار صفات كئيبة، فهم مقيدون بالأغلال والقيود، وتطلي جلودهم بالقطران، وتضرب الناس وجوههم فتغشّيها وتحيط بها وبجميع أجسادهم.
٩- إن حشر الناس يوم المعاد لإنصاف الخلائق وإقامة صرح العدل المطلق بينهم، ومجازاة كل امرئ بما عمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
280
١٠- القرآن وما فيه من عظات تبليغ للناس وعظة، وإنذار وتخويف من عقاب الله عز وجل، ومصدر للعلم بوحدانية الله بما تضمنه من الحجج والبراهين، وموعظة يتعظ به أصحاب العقول. روى يمان بن رئاب أن هذه الآية هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ.. نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وسئل بعضهم، هل لكتاب الله عنوان؟ فقال: نعم قيل: وأين هو؟ قال: قوله تعالى: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ إلى آخرها.
١١- هذه الآية الأخيرة من السورة دالة على أنه لا فضيلة للإنسان ولا منقبة له إلا بسبب عقله لأنه تعالى بيّن أنه إنما أنزل هذه الكتب، وإنما بعث الرسل لتذكير أولي الألباب.
١٢- أول هذه السورة مقرون بآخرها ومطابق له في المعنى، فأولها:
لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يدل على أن المقصود من إنزال الكتاب إرشاد الخلق كلهم إلى الدين والتقوى ومنعهم عن الكفر والمعصية، وآخر السورة:
وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ يدل على أنه تعالى ذكر هذه المواعظ والنصائح لينتفع الخلق بها، فيصيروا مؤمنين مطيعين، ويتركوا الكفر والمعصية.
281

[الجزء الرابع عشر]

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الحجر
مكية، وهي تسع وتسعون آية.
تسميتها:
سميت سورة الحجر لذكر قصة أصحاب الحجر فيها، وهم ثمود، والحجر:
واد بين المدينة والشام.
مناسبتها لما قبلها:
هناك تناسب بين هذه السورة وسورة إبراهيم في البدء والختام والمضمون، أما البداية: فكلتا السورتين افتتحتا بوصف الكتاب المبين، وأما المضمون: ففي كليهما وصف السموات والأرض، وإيراد جزء من قصة إبراهيم عليه السلام وبعض قصص الرسل السابقين، تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما تعرض له من أذى قومه بتذكيره بما تعرض له الأنبياء من قبله، ونصرة الله لهم، مع نقاش الكفار والمشركين.
وأما الخاتمة: ففي سورة إبراهيم وصف تعالى أحوال الكفار يوم القيامة بقوله: وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ، سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ثم قال هنا في هذه السورة:
رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم في النار، ورأوا عصاة المؤمنين والموحدين قد أخرجوا منها، تمنوا أن لو كانوا في الدنيا مسلمين. هذا مع اختتام آخر سورة إبراهيم بوصف الكتاب:
5
هذا بَلاغٌ.. وافتتاح هذه به تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ وهذا تشابه في الأطراف بداية ونهاية «١».
ما اشتملت عليه السورة:
تتفق هذه السورة مع بيان أهداف التنزيل المكي وهي إثبات الوحدانية والنبوة والبعث والجزاء، والتذكير بمصارع الطغاة ومكذبي رسل الله الكرام، لذا ابتدأت السورة بالإنذار والتهديد، والتهويل والتوبيخ: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ. ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
وتضمنت السورة ما يأتي:
١- مناقشة الكفار والمشركين الذين كذبوا بالرسل وبما أتوا به من آيات، بدءا من أبي البشر الثاني: نوح عليه السلام إلى خاتم النبيين: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [١٠- ١١].
٢- إيراد الأدلة والبراهين على وجود الله تعالى من خلق السموات والأرض وخلق الإنسان، ومشاهد الرياح اللواقح، والحياة والموت، والحشر والنشر:
وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ.. [١٦] وَالْأَرْضَ مَدَدْناها.. [١٩] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [٢٦] وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ.. [٢٢] وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ [٢٣] وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ، إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [٢٥] وبيان حكمة خلق الموجودات: وهي عبادة الله وإقامة العدل وإرساء دعائم النظام في الحياة.
(١) تناسق الدرر في تناسق السور للسيوطي، طبع دمشق: ٦٢
6
٣- إثبات صدق الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ.. إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [٨- ٩].
٤- الإشارة لنظرية ظلمة السماء: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ، فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [١٤- ١٥].
٥- قصة آدم وإبليس المعبّرة عن الطاعة والرفض، بامتثال الملائكة أمر الله بالسجود لآدم وتعظيمه، وأمر إبليس بالسجود له وعصيانه الأمر: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [٢٩- ٣١].
٦- وصف حال أهل الشقاوة والنار، وأهل السعادة والتقوى والجنة [٤٢- ٤٨].
٧- تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم منعا لليأس والقنوط بتذكيره بقصة لوط وشعيب وصالح عليهم السلام مع أقوامهم الذين دمرهم الله [قصة آل لوط: ٥٨- ٧٧] [أصحاب الأيكة: قوم شعيب: ٧٨- ٧٩] [أصحاب الحجر: ثمود: ٨٠- ٨٤].
٨- بيان ما أنعم الله به على نبيه من إنزال القرآن [٨٧] وإهلاك أعدائه المستهزئين [٩٥] وأمره بعدم الافتتان بتمتيع الآخرين بالدنيا، وأمره بالتواضع للمؤمنين [٨٨] والجهر بالدعوة [٩٤] والصبر والتسبيح والعبادة حتى الموت عند مضايقته باستهزاء المشركين [٩٧- ٩٩].
والخلاصة: تضمنت السورة دلائل التوحيد، وأحوال القيامة، وصفة الأشقياء والسعداء، وبعض قصص الأنبياء، وأفضال الله على نبيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
7
Icon