ﰡ
كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة ونزول العذاب بهم يوم بدر استهزاء وتكذيباً بالوعد فقيل لهم ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ أي هو بمنزلة الآتى الواقع وان كان منتظر القرب وقوعه ﴿فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سبحانه وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ تبرأ جل وعز عن أن يكون له شريك وعن إشراكهم فما موصولة أو مصدرية واتصال هذا باستعجالهم من حيث إن استعجالهم استهزاء وتكذيب وذلك من الشرك
﴿ينزل الملائكة﴾ وبالتحفيف مكي وأبو عمرو ﴿بالروح﴾ بالوحي أو بالقرآن لأن كلاً منهما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد أو يحيي القلوب الميتة بالجهل ﴿مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ﴾ أن مفسرة لأن تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول ومعنى أنذروا ﴿أَنَّهُ لآ إله إِلا أَنَاْ فاتقون﴾ أعلموا بأن الأمر ذلك من نذرت بكذا إذا علمته والمعنى أعلموا الناس قولي لا إله إلَّا أنا فاتقون فخافون وبالياء يعقوب
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)
وخلق الإنسان وما يكون منه وهو قوله ﴿خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مبين﴾ أي فاذا هو منطبق مجادل عن نفسه مكافح لخصومه مبين لحجته بعد ما كان نطفة لاحس به ولا حركة أو فإذا هو خصيم لربه منكر على خالقه قائل من يحيى العظام وهي رميم وهو وصف للإنسان بالوقاحة والتمادي في كفران النعمة
وخلق ما لا بد له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه وحمل أثقاله وسائر حاجاته وهو قوله ﴿والأنعام خَلَقَهَا لكم﴾ هي الأزواج الثمانية وأكثر ما يقع على الإبل وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر كقوله والقمر قدرناه منازل أو بالعطف على الإنسان أي خلق الإنسان والأنعام ثم قال خلقها لكم أي ما خلقها إلا لكم يا جنس الإنسان
النحل (٥ _ ٩)
﴿فِيهَا دِفْءٌ﴾ هو اسم ما يدفأ به من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر ﴿ومنافع﴾ وهي نسلها ودرها ﴿وَمِنْهَا تأكلون﴾ قدم الظرف وهو يؤذن بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها لأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها كالدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به وكالجاري مجرى التفكه
﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ﴾ تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي ﴿وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ ترسلونها بالغداة إلى مسارحها من الله تعالى بالتجميل بها كما
﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ﴾ أحمالكم ﴿إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس﴾ وبفتح الشين أبو جعفر وهما لغتان في معنى المشقة وقيل المفتوح مصدر شق الأمر عليه شقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع وأما الشق فالنصف كأنه يذهب نصف قوته لما ينال من الجهد والمعنى وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه لو لم تخلق الإبل إلا بجهد ومشقة فضلاً أن تحملوا أثقالكم على ظهورهم أو معناه لم تكونوا بالغيه بها إلا بشق الأنفس وقيل أثقالكم أبدانكم ومنه الثقلان للجن والانس ومنه وأخرجت الأرض اثقالها أي بني آدم ﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح
﴿والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ عطف على الأنعام أي وخلق هذه للركوب والزينة وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله على حرمة أكل لحم الخيل لأنه علل خلقها للركوب والزينة ولم يذكر الأكل بعد ما ذكره في الأنعام ومنفعة الأكل أقوى والآية سيقت لبيان النعمة ولا يليق بالحكيم أن يذكر في مواضع المنة أدنى النعمتين ويترك أعلاهما وانتصاب زينة على المفعول له عطفاً على محل لتركبوها وخلق ما لا تعلمون من أصناف خلائقه وهو قوله ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ومنْ هذا وصفه يتعالى عن أن يشرك به غيره
﴿وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل﴾ المراد به الجنس ولذا قال ﴿وَمِنْهَا جَائِرٌ﴾ والقصد مصدر بمعنى الفاعل وهو القاصد يقال سبيل قصد وقاصد
النحل (٩ _ ١٤)
وليس ذلك للوجوب إذ لا يجب على الله شيء ولكن يفعل ذلك تفضيلا وقيل معناه وإلى الله وقال الزجاج معناه وعلى الله تبيين الطريق الواضح المستقيم والدعاء إليه بالحجج ومنها جائر أي من السبيل مائل عن الاستقامة ﴿وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أراد هداية اللطف بالتوفيق والانعام به الهدى العام
﴿هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً لَّكُم منه شراب﴾ لكم متعلق بإنزال أو خبر لشراب وهو ما يشرب ﴿وَمِنْهُ شَجَرٌ﴾ يعني الشجر الذي ترعاه المواشي ﴿فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ من سامت الماشية إذا رعت فهي سائمة وأسامها صاحبها وهو من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالمرعى علامات في الأرض
﴿يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والاعناب وَمِن كُلِّ الثمرات﴾ ولم يقل كل الثمرات لأن كلها لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض من كلها للتذكرة ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيستدلون بها عليه وعلى قدرته وحكمته والآية الدلالة الواضحة
﴿وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بِأَمْرِهِ﴾ بنصب الكل عليّ وجعل النجوم مسخرات والنجوم مسخرات
﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأرض﴾ معطوف على الليل والنهار أي ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك ﴿مُخْتَلِفًا﴾ حال ﴿أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ يتعظون
﴿وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّاً﴾ هو السمك ووصفه بالطراوة لأن الفساد يسرع إليه فيؤكل سريعاً طرياً خيفة الفساد وإنما لا يحنث بأكله إذا حلف لا يأكل لحماً لأن مبني الإيمان على العرف ومن قال لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحماً فجاء بالسمك كان حقيقاً بالإنكار ﴿وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حلية﴾ هي اللؤلؤة والمرجان ﴿تَلْبَسُونَهَا﴾ المراد بلبسهم لبس نسائهم ولكنهن إنما يتزين بها من أجلهم فكأنها زينتهم ولباسهم ﴿وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ﴾
جوارى تجرى جريا وتشق الماء والمخر شق الماء بحيزومها ﴿فِيهِ﴾ في البحر ﴿وَلِتَبْتَغوُا مِن فَضْلِهِ﴾ هو عطف على محذوف أي لتعتبروا ولتبتغوا وابتغاء الفضل التجارة ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ الله على ما أنعم عليكم به
﴿وألقى فِى الأرض رَوَاسِيَ﴾ جبالاً ثوابت ﴿أَن تميد بكم﴾ كراهية أن تميل بكم أو تضطرب أو لئلا تميد بكم لكن حذف المضاف أكثر قيل خلق الله الأرض فجعلت تميد فقالت الملائكة ما هي بمقر أحد على ظهرها
﴿وعلامات﴾ هي معالم الطرق وكل ما يستدل به السابلة من جبل وغير ذلك ﴿وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ المراد بالنجم الجنس أو هو التريا والفرقدان وبنات نعش والجدى فإن قلت وبالنجم هم يهتدون مخرج عن سنن الخطاب مقدم فيه النجم مقحم فيه هم كأنه قيل وبالنجم خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدون فمن المراد بهم قلت كأنه أراد قريشاً فلهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم ولهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم فخصصوا
﴿أَفَمَن يَخْلُقُ﴾ أي الله تعالى ﴿كَمَن لاَّ يخلق﴾ أي الأصنام وجىء بمن الذي هو لأولي العلم لزعمهم حيث سموها آلهة وعبدوها فأجروها مجرى أولي العلم أو لأن المعنى أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده وإنما لم يقل أفمن لا يخلق كمن يخلق مع اقتضاء المقام بظاهره إياه لكونه إلزاماً للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيهاً بالله لأنهم حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيهاً بها فأنكر عليهم ذلك بقوله أفمن يخلق كمن لا يخلق وهو حجة على المعتزلة في خلق الأفعال ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ فتعرفون فساد ما أنتم عليه
﴿وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها﴾ لاتضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم فضلاً أن تطيقوا القيام بحقها من أداء الشكر وإنما اتبع ذلك ما عدد من نعمه تنبيهاً على أن ما وراءها لا ينحصر ولا يعد ﴿إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعمة ولا يقطعها عنكم لتفريطكم
﴿والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ من أقوالكم وأفعالكم وهو وعيد
﴿والذين يدعون﴾ والآلهة الذين
النحل (٢٠ _ ٢٦)
يدعوهم الكفار ﴿مِن دُونِ الله﴾ وبالتاء غير عاصم ﴿لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ﴾
﴿أَمْوَاتٌ﴾ أي هم أموات ﴿غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين وأحياء لا يموتون وعالمين بوقت البعث وأثبت لهم صفات الخلق بأنهم مخلوقون أموات جاهلون بالبعث ومعنى أموات غير أحياء أنهم لو كانوا آلهة على الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات أي غير جائز عليها الموت وأمرهم بالعكس من ذلك والضمير في يبعثون للداعين أي لا يشعرون متى تبعث عبدتهم وفيه تهكم بالمشركين وأن آلهتم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء أعمالهم منهم على عبادتهم وفيه دلالة على أنه لا بد من البعث
﴿إلهكم إله واحد﴾ أي ثبت بما مر أن الإلهية لا تكون لغير الله وأن معبودكم واحد ﴿فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ﴾ للوحدانية ﴿وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ﴾ عنها وعن الإقرار بها
﴿لاَ جَرَمَ﴾ حقا ﴿أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ أي سرهم وعلانيتهم فيجازيهم وهو وعيد ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين﴾ عن التوحيد يعني المشركين
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ لِهؤلاء الكفار ﴿مَّاذَا أَنزَلَ ربكم قالوا أساطير الأولين﴾ ماذا منصوب بأنزل أي أيَّ شيء أنزل ربكم أو مرفوع على
﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ﴾ أي قالوا ذلك إضلالاً للناس فحملوا أوزار إضلالهم كاملة وبعض أوزار من ضل بضلالهم وهو وزر الإضلال لأن المضل والضال شريكان واللام للتعليل ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال ﴿أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾ محل ما رفع
﴿قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بنيانهم من القواعد﴾ أي من جهة
النحل (٢٦ _ ٣٠)
القواعد وهي الأساطين هذا تمثيل يعني أنهم سوّوا منصوبات ليمكروا بها رسل الله فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وماتوا وهلكوا والجمهور على أن المراد به نمرود بن كنعان حين بني الصرح ببابل طوله خمسة آلاف ذراع وقيل فرسخان فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا فأتى الله أي أمره بالاستئصال ﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ من حيث لا يحتسبون ولا يتوقعون
﴿ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ﴾ يذلهم بعذاب الخزي سوى ما عذبوا به في الدنيا ﴿وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ﴾ على الإضافة إلى نفسه حكاية لإضافتهم
﴿الذين تتوفاهم الملائكة﴾ وبالياء حمزة وكذا ما بعده ﴿ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ﴾ بالكفر بالله ﴿فَأَلْقَوُاْ السلم﴾ أي الصلح والاستسلام اي اخبتوا وجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق وقالوا ﴿مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ﴾ وجحدوا ما وجد منهم من الكفران والعدواة فرد عليهم أولوا العلم وقالوا ﴿بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فهو يجازيكم عليه وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك
﴿فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾ جهنم
﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا﴾ الشرك ﴿مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا﴾ وإنما نصب هذا ورفع أساطير لأن التقدير هنا أنزل خيراً فأطبقوا الجواب على السؤال وثمة التقدير هو أساطير الأولين فعدلوا بالجواب عن السؤال ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا﴾ أي آمنوا وعملوا الصالحات أو قالوا لا إله إلا الله ﴿حَسَنَةٌ﴾ بالرفع أي ثواب وأمن وغنيمة وهو بدل من خيرا لقول الذين اتقوا أي قالوا هذا القول فقدم عليه تسميته خيرا ثم حكاه
النحل (٣٠ _ ٣٥)
أو هو كلام مستأنف عدة للقائلين وجعل قولهم
﴿جنات عدن﴾ خبر لمبتدأ محذوف أو هو مخصوص بالمدح ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ حال ﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار لهم فيها ما يشاؤون كَذَلِكَ يَجْزِي اللهُ المتقين﴾
﴿الذين تتوفاهم الملائكة طَيِّبِينَ﴾ طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم ﴿يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ﴾ قيل إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فقال السلام عليك يا ولي الله الله يقرأ عليك السلام ويبشره بالجنة ويقال لهم في الآخرة ﴿ادخلوا الجنة بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ بعملكم
﴿هَلْ يَنظُرُونَ﴾ ما ينتظر هؤلاء الكفار ﴿إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة﴾ لقبض أرواحهم وبالياء علي وحمزة ﴿أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ﴾ أي العذاب المستأصل أو القيامة ﴿كذلك﴾ مثل ذلك الفعل من مشرك والتكذيب ﴿فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ الله﴾ بتدميرهم ﴿ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ حيث فعلوا ما استحقوا به التدمير
﴿فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ﴾ جزاء سيئات أعمالهم ﴿وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون﴾ وأحاط بهم جزاء استهزائهم
﴿وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلآ آباؤنا﴾ هذا كلام صدر منهم استهزاء ولو قالوه اعتقاداً لكان صواباً ﴿وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ﴾ يعني البحيرة والسائبة ونحوهما ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي كذبوا الرسل وحرموا الحلال وقالوا مثل قولهم استهزاء ﴿فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين﴾ إلا أن يبلغوا الحق ويطّلعوا على بطلان الشرك وقبحه
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله﴾
بأن وحدوه ﴿واجتنبوا الطاغوت﴾ الشيطان يعني طاعته ﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله﴾ لاختيارهم الهدى ﴿وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة﴾ أي لزمته لاختياره إياها ﴿فَسِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين﴾ حيث أهلكهم الله وأخلى ديارهم عنهم
ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله ﷺ على إيمانهم وأعلمه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة فقال ﴿إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ﴾ بفتح الياء وكسر الدال كوفي الباقون بضم الياء وفتح الدال والوجه فيه أن من يضل مبتدأ ولا يهدي خبره ﴿وَمَا لَهُم مِّن ناصرين﴾ يمنعونهم من جريان حكم الله عليهم ويدفعون عنهم عذابه الذي أعد لهم
﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم﴾ معطوف على وقال الذين أشركوا ﴿لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ بلى﴾ هو إثبات لما بعد النفي أي بل يبعثهم ﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا﴾ وهو مصدر مؤكد لما دل عليه بلى لأن يبعث موعد من الله وبين أن
﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ﴾ متعلق بما دل عليه بلى أي يبعثهم ليبين لهم والضمير لمن يموت وهو يشمل ٢ المؤمنين والكافرين ﴿الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ هو الحق ﴿وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين﴾ في قولهم لا يبعث الله من يموت
﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أي فهو يكون وبالنصب شامي وعلي على جواب كن قولنا مبتدأ وأن نقول خبره وكن فيكون من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود أي إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له أحدث فهو يحدث بلا توقف وهذه عبارة عن سرعة الإيجاد يبين أن مراداً لا يمتنع عليه وأن وجوده عند إرادته غير متوقف كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذ أورد على المأمور المطيع الممتثل ولا قول ثَم والمعنى أن إيجاد كل مقدور على الله بهذه
النحل (٤١ _ ٤٦)
السهولة فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من بعض المقدورات
﴿والذين هاجروا فِى الله﴾ في حقه ولوجهة ﴿مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ﴾ هم رسول الله وأصحابه ظلمهم أهل مكة ففروا بدينهم إلى الله منهم من هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة فجمع بين الهجرتين ومنهم من هاجر إلى المدينة ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدنيا حَسَنَة﴾ صفة للمصدر أي تبوئة حسنة أو لنبوئنهم مباءة حسنة وهي المدنية حيث آواهم أهلها ونصروهم ﴿وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ﴾ الوقف لازم عليه لأن جواب ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ محذوف والضمير للكفار أي لو علموا ذلك لرغبوا في الدين أو للمهاجرين أي لو كانوا يعلمون لزادوا في اجتهادهم وصبرهم
﴿الذين صَبَرُواْ﴾ أي هم الذين صبروا أو أعني الذين صبروا وكلاهما مدح أي صبروا على مفارقة الوطن الذي هو حرم الله المحبوب في كل قلب فكيف بقلوب قوم هو مسقط رءوسهم وعلى المجاهدة وبذل الأرواح في سبيل الله ﴿وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أي يفوضون الأمر إلى ربهم ويرضون بما أصابهم في دين الله
ولما قالت قريش الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً نزل ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قبلك إلا رجالا نوحي اليهم﴾ على ألسنة الملائكة نوحي حفص ﴿فاسألوا أَهْلَ الذكر﴾ أهل الكتاب ليعلموكم أن الله لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشراً وقيل للكتاب الذكر لأنه موعظة وتنبيه للغافلين ﴿إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ﴾
﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾ أي بالمعجزات والكتب والباء يتعلق برجالا صفة له أي رجالاً ملتبسين بالبينات أو بأرسلنا مضمراً كأنه قيل بم أرسل الرسل فقيل بالبينات أو بيوحى أي يوحى اليهم بالبينات أو بلا تعلمون وقوله فاسئلوا أهل الذكر اعتراض على الوجوه المتقدمة وقوله ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر﴾ القرآن ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ في الذكر مما أمروا به ونهوا عنه ووعدوا به وأوعدوا ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في تنبيهاته فينتبهوا
﴿أفأمن الذين مكروا السيئات﴾ أي المكرات والسيئات وهم أهل مكة وما مكروا به رسول الله عليه السلام ﴿أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض﴾ كما فعل بمن تقدمهم ﴿أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ أي بغتة
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ﴾ متقلبين في مسايرهم ومتاجرهم ﴿فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ﴾
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ﴾
متخوفين وهو أن يهلك قوماً قبلهم فيتخوفوا فيأخذهم العذاب وهم متخوفون متوقعون وهو خلاف قوله من حيث لا يشعرون ﴿فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ حيث يحلم عنكم ولا يعاجلكم مع استحقاقكم والمعنى أنه إذا لم يأخذكم مع ما فيكم فإنما رأفته تقيكم ورحمته تحميكم
﴿أو لم يَرَوْاْ﴾ وبالتاء حمزة وعلي وأبو بكر ﴿إلى ما خلق الله﴾ ما موصولة بخلق الله وهو مبهم بيانه ﴿من شيء يتفيأ ظلاله﴾ أي يرجع من موضع إلى موضع وبالتاء بصري ﴿عَنِ اليمين﴾ أي الأيمان ﴿والشمآئل﴾ جمع شمال ﴿سُجَّدًا لِلَّهِ﴾ حال من الظلال عن مجاهد إذا زالت الشمس سجد كل شيء ﴿وهم داخرون﴾ صاغرون وهو خال من الضمير في ظلاله لأنه في معنى الجمع وهو ما خلق الله من كل شيء له ظل وجمع بالواو والنون لأن الدخور من أوصاف العقلاء أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب والمعنى أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها أي ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله تعالى غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً صاغرة منقادة لأفعال الله فيها غير ممتنعة
﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض مِن دَآبَّةٍ﴾ من بيان لما في السموات وما في الأرض جميعاً على أن في السموات خلقاً يدبون فيها كما تدب الأناسي في الأرض أو بيان لما في الأرض وحده والمراد بما في السموات ملائكتهن وبقوله ﴿والملائكة﴾ ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم قيل المراد
﴿يخافون رَبَّهُمْ﴾ هو حال من الضمير في لا يستكبرون أي لا يستكبرون خائفين ﴿مِّن فوقهم﴾ ان علقته بيخافون فمعناه يخافونه أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم وان علقته بربهم حالاً منه فمعناه يخافون ربهم غالباً لهم قاهرا كقوله وهو القاهر فوق عباده ﴿وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ وفيه دليل على أن الملائكة مكلفون مدارون على الأمر والنهي وأنهم بين الخوف والرجاء
﴿وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ﴾ فإن قلت إنما جمعوا بين العدد والمعدود فيما وراء الواحد والاثنين فقالوا عندي رجال ثلاثة لأن المعدود عار
النحل (٥١ _ ٥٧)
عن الدلالة على العدد الخاص فأما رجل ورجلان فمعدودان فيهما دلالة على العدد فلا حاجة إلى أن يقال رجل واحد ورجلان اثنان قلت الاسم الحامل لمعنى الإفراد والتثنية دال على شيئين على الجنسية والعدد المخصوص فإذا أريدت الدلالة على أن المعنيّ به منهما هو العدد شفع بما يؤكده فدل به على القصد إليه والعناية به ألا ترى أنك لو قلت إنما هو إله ولم تؤكده بواحد لم يحسن وخيل أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية ﴿فإياي فارهبون﴾ نقل الكلام عن الغيبة إلى التكلم وهو من طريقة الالتفات وهو أبلغ في الترغيب من قوله فاياه فارهبوا فارهبونى يعقوب
﴿وله ما في السماوات والأرض وَلَهُ الدين﴾ أي الطاعة ﴿وَاصِبًا﴾ واجباً ثابتاً لأن كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه وهو حال عمل فيه
﴿وَمَا بِكُم مّن نِّعْمَةٍ﴾ وأي شيء اتصل بكم من نعمة عافية وغنى وخصب ﴿فَمِنَ الله﴾ فهو من الله ﴿ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر﴾ المرض والفقر والجدب ﴿فإليه تجأرون﴾ فما تتضرعون إلا إليه والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة
﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ منكم بربهم يشركون﴾ الخطاب في وما بكم من نعمة ان كان من نعمة إن كان عاماً فالمراد بالفريق الكفرة وإن كان الخطاب للمشركين فقوله منكم للبيان لا للتبعيض كأنه قال فإذا فريق كافر وهم أنتم ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر كقوله فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فمنهم مقتصد
﴿ليكفروا بما آتيناهم﴾ من نعمة الكشف عنهم كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة ثم أوعدهم فقال ﴿فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ هو عدول إلى الخطاب على التهديد
﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رزقناهم﴾ أي لآلهتم ومعنى لا يعلمون أنهم يسمونها آلهة ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله وليس كذلك لأنها جماد لا تضر ولا تنفع أو الضمير في لا يعلمون للآلهة أي لأشياء غير موصوفة بالعلم ولا تشعر أجعلوا لها نصيباً في أنعامهم وزروعهم أم لا وكانوا يجعلون لهم ذلك تقرباً إليهم ﴿تالله لتسألن﴾ وعيد ﴿عما كنتم تفترون﴾ أنها آلهة وأنها أهل للتقرب إليها
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات﴾ كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله ﴿سبحانه﴾ تنزيه لذاته من نسبة الولد إليه أو تعجب من قولهم ﴿وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ﴾ يعني البنين ويجوز في ما الرفع على الابتداء ولهم الخير والنصب على العطف على البنات
النحل (٥٨ _ ٦٢)
وسبحانه اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه أي وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدَّا﴾ أي صار فظل وأمسى وأصح وبات تستعمل بمعنى الصيرورة لأن أكثر الوضع يتفق بالليل فيظل نهاره معتما مسود الوجه من الكآبة والحياء من الناس ﴿وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ مملوء حنقاً على المرأة
﴿يتوارى مِنَ القوم مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾ يستخفى منهم من أجل سوء المبشر به ومن أجل تعييرهم ويحدث نفسه وينظر ﴿أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ﴾ أيمسك ما بشر به على هون وذل ﴿أَمْ يَدُسُّهُ فِى التراب﴾ أم يئده ﴿أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ﴾ حيث يجعلون الولد الذي هذا محله عندهم لله ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف
﴿لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء﴾ صفة السوء وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق ﴿وَلِلَّهِ المثل الأعلى﴾ وهو الغني عن العالمين والنزاهة عن صفات المخلوقين ﴿وَهُوَ العزيز﴾ الغالب في تنفيذ ما أراد ﴿الحكيم﴾ في إمهال العباد
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ﴾ بكفرهم ومعاصيهم ﴿مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا﴾ على الأرض ﴿مِن دَآبَّةٍ﴾ قط ولأهلكها كلها بشؤم ظلم الظالمين عن أبي هريرة
﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ﴾ ما يكرهونه لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رياستهم ومن الاستخفاف برسلهم ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها ﴿وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب﴾ مع ذلك أي ويقولون الكذب ﴿أَنَّ لَهُمُ الحسنى﴾ عند الله وهي الجنة إن كان البعث حقاً كقوله وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى وأن لهم الحسنى بدل من الكذب ﴿لاَ جَرَمَ أن لهم النار وأنهم مفرطون﴾ مفرطون
النحل (٦٣ _ ٦٦)
نافع مفرِّطون أبو جعفر فالمفتوح بمعنى مقدمون إلى النار معجلون إليها من أفرطت فلاناً فرطته في طلب الماء إذا قدمته أو منسيون متروكون من أفرطت فلاناً خلفي إذا خلفته ونسيته والمكسور المخفف من الإفراط في المعاصي والمشدد من التفريط في الطاعات أي التقصير فيها
﴿تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ أي أرسلنا رسلاً إلى من تقدمك من الأمم ﴿فزين لهم الشيطان أَعْمَالَهُمْ﴾ من الكفر والتكذيب بالرسل ﴿فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم﴾ أي قرينهم في الدنيا تولى إضلالهم بالغرور أو الضمير لمشركي قريش أي زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم
﴿وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب﴾ القرآن ﴿إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ﴾ للناس ﴿الذى اختلفوا فِيهِ﴾ هو البعث لأنه كان فيهم من يؤمن به ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً﴾ معطوفان على محل لتبين إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ودخلت اللام على لتبين لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل ﴿لّقَوْمٍ يؤمنون﴾
﴿والله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرض بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ سماع إنصاف وتدبر لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه لا يسمع
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ﴾ وبفتح النون نافع وشامي وأبو بكر قال الزجاج سقيته وأسقيته بمعنى واحد ذكر سيبويه الأنعام في الأسماء المفردة الواردة على أفعال ولذا رجع الضمير إليه مفرداً وأما في بطونها في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع وهو استئناف كأنه قيل كيف العبرة فقال تسقيكم مما في بطونه ﴿مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا﴾ أي يخلق الله اللبن وسيطاً بين الفرث والدم يكتفانه وبينه وبينهما برزخ لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله قيل إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها وطبخته فكان أسفله فرثاً وأوسطه لبناً وأعلاه دماً والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها فتجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث في
النحل (٦٧ _ ٦٩)
﴿وَمِن ثمرات النخيل والأعناب﴾ بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما وحذف لدلالة نسقيكم قبله عليه وقوله ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا﴾ بيان وكشف عن كنه الإسقاء أو تتخذون ومنه من تكرير الظرف للتوكيد والضمير في منه يرجع إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير والسكر الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو رشد رشداً ورشداً ثم فيه وجهان أحدهما أن الآية سابقة على تحريم الخمر فتكون منسوخة وثانيهما أن يجمع بين العتاب والمنة وقيل السكر النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد وهو حلال عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلى حد السكر ويحتجان بهذه الآية وبقوله عليه السلام الخمر حرام لعينها والسكر من كل شراب وبأخبار جمة ﴿وَرِزْقًا حَسَنًا﴾ هو الخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك ﴿إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يعقلون﴾
﴿وأوحى ربك إلى النحل﴾ ولهم ﴿أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا﴾ هي أن المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول قال الزجاج واحد النحل نحلة كنحل ونخلة والتأنيث باعتبار هذا ومن في من الجبال ﴿وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾
﴿ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات﴾ أي ابني البيوت ثم كلى كل ثمرة تشتهيها فإذا أكلتها ﴿فاسلكى سُبُلَ رَبِّكِ﴾ فادخلي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك لا تضلين فيها ﴿ذُلُلاً﴾ جمع ذلول وهي حال من السبل لأن الله تعالى ذللها وسهلها أو من الضمير في فاسلكي أي وأنت ذلل منقادة لماامرت به غير ممتنعة ﴿يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ﴾ يريد العسل لأنه مما يشرب تلقيه من فيها ﴿مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ﴾ منه أبيض وأصفر وأحمر من الشباب والكهول والشيب أو على ألوان أغذيتها ﴿فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ﴾ لأنه من جملة الأدوية النافعة وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل وليس الغرض أنه شفاء لكل مريض كما أن كل دواء كذلك وتنكيره لتعظيم الشفاء الذي فيه أو لأن فيه بعض الشفاء لأن
النحل (٦٩ _ ٧٢)
النكرة في الإثبات تخص وشكا رجل استطلاق بطن أخيه فقال عليه السلام اسقه عسلاً فجاءه وقال زاده شراً فقال عليه السلام صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلاً فسقاه فصح وعن ابن مسعود رضي الله عنه العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل ومن بدع الروافض أن المراد بالنحل عليّ وقومه وعن بعضهم أن رجلاً قال عند المهدي إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم فقال له رجل جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهم ٢ ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في
﴿والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يتوفاكم﴾ بقبض أرواحكم من أبدانكم ﴿وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر﴾ إلى أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة أو ثمانون أو تسعون ﴿لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا﴾ لينسى ما يعلم أو لئلا يعلم زيادة علم على علمه ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ﴾ بحكم التحويل إلى الأرذل من الأكمل أو إلى الإفناء من الإحياء ﴿قَدِيرٌ﴾ على تبديل ما يشاء كما يشاء من الأشياء
﴿والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق﴾ أي جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم ﴿فَمَا الذين فُضِّلُواْ﴾ في الرزق يعني الملاك ﴿بِرَآدِّي﴾ بمعطي ﴿رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أيمانهم﴾ فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تتساووا في الملبس والمطعم ﴿فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ﴾ جملة اسمية وقعت في موضع جملة فعلية في موضع النصب لأنه جواب النفي بالفاء وتقديره فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فيستووا مع عبيدهم في الرزق وهو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء فقال لهم أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ولا تجعلونهم فيه شركاء ولا ترضون ذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء ﴿أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ﴾ وبالتاء أبو بكر فجعل ذلك من جملة جحود النعمة
﴿والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا﴾ أي من جنسكم ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم بَنِينَ وَحَفَدَةً﴾ جمع حافد وهو الذي يحفد أي يسرع في الطاعة والخدمة ومنه قول القانت وإليك نسعى ونحفد واختلف فيه فقيل هم الأختان على البنات وقيل أولاد الأولاد والمعنى وجعل لكم حفدة
النحل (٧٢ _ ٧٦)
يحفدون في مصالحكم ويعينونكم ﴿وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات﴾ أي بعضها لأن كل الطيبات في الجنة وطيبات الدنيا أنموذج منها ﴿أفبالباطل يُؤْمِنُونَ﴾ هو ما يعتقدونه من منفعة الأصنام وشفاعتها ﴿وبنعمة اللهِ﴾ أي الإسلام ﴿هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ أو الباطل الشيطان والنعمة محمد ﷺ أو الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله ما أحل لهم
﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السماوات والأرض شَيْئًا﴾ أي الصنم وهو جماد لا يملك أن يرزق شيئاً فالرزق يكون بمعنى المصدر وبمعنى ما يرزق فإن أردت المصدر نصبت به شيئاً أي لا يملك أن يرزق شيئاً وإن اردت المرزوق كان شيئا بدلا منه اى قليلا ومن السموات ة الأرض صلة للرزق إن كان مصدراً أي لا يرزق من السموات مطراً ولا من الأرض نباتاً وصفة إن كان اسماً لما يرزق والضمير في ﴿ولاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ لما لأنه في معنى الآلهة بعدما قال لا يملك على اللفظ والمعنى لا يملكون الرزق ولا يمكنهم أن يملكوه ولا يتأتى ذلك منهم
﴿فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال﴾ فلا تجعلوا لله مثلًا فإنه لا مثل له أي فلا تجعلوا له شركاء ﴿أَنَّ الله يَعْلَمُ﴾ أنه لا مثل له من الخلق ﴿وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ ذلك أو إن الله يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك والوجه الأول
ثم ضرب المثل فقال ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا﴾ هو بدل من مثلاً ﴿مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرَّا وَجَهْرًا﴾ مصدران في موضع الحال أي مثلكم في إشراككم بالله الأوثان مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف وبين حر مالك قد رزقه الله ما لا فهو يتصرف فيه وينفق منه
ثم زاد في البيان فقال ﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ على شَىْءٍ﴾ الأبكم الذي ولد أخرس فلا يفهم ولا
النحل (٧٦ _ ٧٩)
يفهم ﴿وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ﴾ أي ثقل وعيال على من يلي أمره ويعوله ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ﴾ حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح ﴿هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل﴾ أي ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة فهو يأمر الناس بالعدل والخير ﴿وَهُوَ﴾ في نفسه ﴿على صراط مُّسْتَقِيمٍ﴾ على سيرة صالحة ودين قويم وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده من آثار رحمته ونعمته وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع
﴿وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض﴾ أي يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه أو اراد بغيب السموات والأرض يوم القيامة على أن علمه غائب عن اهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم ﴿وَمَآ أَمْرُ الساعة﴾ في قرب كونها وسرعة قيامها ﴿إِلاَّ كَلَمْحِ البصر﴾ كرجع طرف وإنما ضرب به المثل لأنه لا يعرف زمان أقل منه ﴿أَوْ هُوَ﴾ أي الأمر ﴿أَقْرَبُ﴾ وليس هذا لشك المخاطب ولكن المعنى كونوا في كونها على هذا الاعتبار وقيل بل هو أقرب ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ فهو يقدر
ثم دل على قدرته بما بعده فقال ﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أمهاتكم﴾ وبكسر الألف وفتح الميم عليّ اتباعاً لكسرة النون وبكسرهما حمزة والهاء مزيدة في أمهات للتوكيد كما زيدت في أراف فقيل أهراق وشذت زيادتها في الواحدة ﴿لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ حال أي غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه والأفئدة في فؤاد كالأغربة في غراب وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة لعدم السماع في غيرها
﴿أَلَمْ يَرَوْاْ﴾ وبالتاء شامي وحمزة ﴿إلى الطير مسخرات﴾ مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المواتية لذلك ﴿فِى جَوِّ السمآء﴾ هو الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ﴾ في قبضهن وبسطهن ووقوفهن ﴿إِلاَّ الله﴾ بقدرته وفيه نفي لما يصوره الوهم عن خاصية القوى الطبيعية ﴿إِنَّ فِى ذلك لآيات لقوم يؤمنون﴾
بأن الخلق لا غنى به عن الخالق
﴿والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا﴾ هو فعل بمعنى مفعول أي ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلف ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا﴾ هي قباب الأدم ﴿تَسْتَخِفُّونَهَا﴾ ترونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل ﴿يَوْمَ ظَعْنِكُمْ﴾ بسكون العين كوفي وشامي وبفتح العين غيرهم
﴿والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظلالا﴾ كالأشجار والسقوف ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أكنانا﴾ جمع كن وهو ما سترك من كهف أو غار ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ﴾ هي القمصان والثياب من الصوف والكتان والقطن ﴿تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ وهي تقي البرد أيضاً إلا أنه اكتفى بأحد الضدين ولأن الوقاية من الحر أهم عندهم سكون البرد يسيراً محتملاً ﴿وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ﴾ ودروعاً من الحديد ترد عنكم سلاح عدوكم في قتالكم والبأس شدة الحرب والسربال وعام يقع على ما كان من حديد أو غيره ﴿كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ أي تنظرون في نعمته الفائضة فتؤمنون به وتنقادون له
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أعرضوا عن الإسلام ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين﴾ أي فلا تبعة عليك في ذلك لأن الذي عليك هو التبليغ الظاهر وقد فعلت
﴿يعرفون نعمة الله﴾ التي عددناها بأقوالهم فإنهم يقولون إنها من الله ﴿ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾ بأفعالهم حيث عبدوا غير المنعم أو في الشدة ثم في الرخاء ﴿وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون﴾ أي الجاحدون غير المعترفين أو نعمة الله نبوة محمد ﷺ كانوا يعرفونها ثم ينكرونها عناداً وأكثرهم الجاحدون المنكرون بقلوبهم وثم يدل على إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول
﴿ويوم﴾ انتصابه باذكر ﴿نبعث﴾ نحشر
النحل (٨٤ _ ٨٩)
﴿مِْن كُلِّ أُمَةٍ شَهِيداً﴾ نبياً يشهد لهم وعليهم بالتصديق والتكذيب والإيمان والكفر ﴿ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلِّذِيِنَ كَفَرُوا﴾ في الاعتذار والمعنى لا حجة لهم فدل بترك الاذن على أن لا حجة لهم ولا عذر ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ ولا هم يسترضون أي لا يقال لهم ارضوا ربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل ومعنى ثم أنهم يمنون أي يبتلون بعد شهادة الأنبياء عليهم السلام بما هو اطم وأغلب منها وهو أنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في الفاء معذرة ولا ادلاء بحجة
﴿وإذا رأى الذين ظَلَمُواْ﴾ كفروا ﴿العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ﴾ أي العذاب بعد الدخول ﴿وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ﴾ يمهلون قبله
﴿وإذا رأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ﴾ أوثانهم التي عبدوها ﴿قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا﴾ أي آلهتنا التي جعلناها شركاء ﴿الذين كنا ندعو مِن دُونِكَ﴾ أي نعبد ﴿فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون﴾ أي أجابوهم بالتكذيب لأنها كانت جماداً لا تعرف من عبدها ويحتمل أنهم كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة تنزيهاً لله عن الشرك
﴿وَأَلْقَوْاْ﴾ يعني الذين ظلموا ﴿إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم﴾ إلقاء السلم الاستسلام لأمر الله وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا ﴿وَضَلَّ عَنْهُم﴾ وبطل عنهم ﴿مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ من أن لله شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرءوا منهم
﴿الذين كَفَرُواْ﴾ في أنفسهم ﴿وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله﴾ وحملوا غيرهم على الكفر ﴿زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب﴾ أي عذاباً بكفرهم وعذاباً بصدهم عن سبيل الله ﴿بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾ بكونهم مفسدين الناس بالصد
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾ يعني نبيهم لأنه كان يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم ﴿وَجِئْنَا بِكَ﴾ يا محمد ﴿شَهِيدًا على هَؤُلآءِ﴾ على أمتك ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا﴾ بليغاً ﴿لّكُلِّ شَىْءٍ﴾ من أمور الدين أما في الأحكام المنصوصة فظاهر وكذا فيما ثبت بالسنة أو بالإجماع أو بقول الصحابة أو بالقياس لأن مرجع الكل إلى الكتاب حيث أمرنا فيه باتباع رسوله عليه السلام وطاعته بقوله أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وحثنا على الإجماع فيه بقوله
النحل (٨٩ _ ٩٢)
ويتبع غير سبيل المؤمنين وقد رضى رسول الله ﷺ لأمته باتباع أصحابه بقوله أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقد اجتهدوا وقاسوا ووطّئوا طرق الاجتهاد والقياس مع أنه أمرنا به بقوله فاعتبروا يا أولى الأبصار فكانت السنة والإجماع وقول الصحابي والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب فنتبين أنه كان تبياناً لكل شيء ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ ودلالة إلى الحق ورحمة لهم وبشارة لهم بالجنة
﴿إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل﴾ بالتسوية في الحقوق فيما بينكم وترك الظلم وإيصال كل ذي حق إلى حقه ﴿والإحسان﴾ إلى من أساء إليكم أو هما الفرض والندب لأن الفرض لا بد من أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب ﴿وَإِيتَآءِ ذِى القربى﴾ وإعطاء ذي القرابة وهو صلة الرحم {وينهى عَنِ
﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عاهدتم﴾ هي البيعة لرسول الله ﷺ على الإسلام إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ﴿وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان﴾ أيمان البيعة ﴿بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ بعد توثيقها باسم الله وأكد ووكد لغتان فصيحتان والأصل الواو والهمزة بدل منها ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً﴾ شاهداً ورقيباً لأن الكفيل مراع لحال المكفول به مهيمن عليه ﴿إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ من البر والحنث فيجازيكم به
﴿وَلاَ تَكُونُواْ﴾ في نقض الأيمان ﴿كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته وأبرمته فجعلته ﴿أنكاثا﴾ جمع نكث وهو ما ينكث فتله قيل هي ريطة وكانت حمقاء تغزل هي وجواربها من الغداة إلى الظهر
النحل (٩٢ _ ٩٦)
ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن ﴿تَتَّخِذُونَ أيمانكم﴾ حال كأنكاثا ﴿دَخَلاً﴾ أحد مفعولي تتخذ أي ولا تنقضوا
﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدة﴾ حنيفة مسلمة ﴿ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ﴾ من علم منه اختيار الضلالة ﴿وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ من علم منه اختيار الهداية ﴿ولتسألن عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يوم القيامة فتجزون به
﴿وَلاَ تَتَّخِذُواْ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ﴾ كرر النهي عن اتخاذ الإيمان دخلاً بينهم تأكيداً عليهم واظهار العظمة ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ فتزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها وإنما وحدت القدم ونكرت الاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن تثبت عليه فكيف بأقدام كثيرة ﴿وَتَذُوقُواْ السوء﴾ في الدنيا ﴿بِمَا صَدَدتُّمْ﴾ بصدودكم ﴿عَن سَبِيلِ الله﴾ وخروجكم عن الدين أو بصدكم غيركم لأنهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدوا لا تخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها ﴿وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ في الآخرة
﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ﴾ ولا تستبدلوا ﴿بِعَهْدِ الله﴾ وبيعة رسول الله ﷺ {ثَمَناً
﴿ما عندكم﴾ من
النحل (٩٦ _ ١٠١)
أعراض الدنيا ﴿يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله﴾ من خزائن رحمته ﴿باق﴾ لا ينفد / وليجزين / وبالنون مكي وعاصم ﴿الذين صَبَرُواْ﴾ على أذى المشركين ومشاق الإسلام ﴿أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يعملون﴾
﴿مَنْ عَمِلَ صالحا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى﴾ من مبهم يتناول النوعين إلا أن ظاهره للذكور فبين بقوله من ذكر أو أنثى ليعم الموعد النوعين ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ شرط الإيمان لأن أعمال الكفار غير معتد بها وهو يدل على أن العمل ليس من الإيمان ﴿فلنحيينه حياة طيبة﴾ أي في الدنيا ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ وعده الله ثواب الدنيا والآخرة كقوله فاتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وذلك أن المؤمن مع العمل الصالح موسراً كان أو معسراً يعيش عيشاً طيباً إن كان موسراً فظاهر وإن كان معسراً فمعه ما يطيب عيشه وهو القناعة والرضا بقسمة الله تعالى وأما الفاجر فأمره بالعكس إن كان معسراً فظاهر وإن كان موسراً فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه وقيل الحياة الطيبة القناعة أو حلاوة الطاعة أو المعرفة بالله وصدق المقام مع الله وصدق الوقوف على أمر الله والإعراض عما سوى الله
﴿فإذا قرأت القرآن﴾ فإذا أردت قراءة القرآن ﴿فاستعذ بالله﴾ فعبر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل لأنها سبب له والفاء للتعقيب إذ القراءة المصدرة بالاستعاذة من العمل الصالح المذكور ﴿مِنَ الشيطان﴾ يعني إبليس ﴿الرجيم﴾ المطرود أو الملعون قال ابن مسعود رضي الله عنه قرأت على رسول الله ﷺ فقلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال لي قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام
﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ﴾ لإبليس ﴿سلطان﴾ تسلط وولاية ﴿على الذين آمنوا وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ فالمؤمن المتوكل لا يقبل منه وساوسه
﴿إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ يتخذونه ولياً ويتبعون وساوسه ﴿والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ الضمير يعود إلى ربهم أو إلى الشيطان أي بسببه
﴿وإذا بدلنا آية مكان آية﴾ تبديل الآية مكان الآية هو النسخ والله تعالى ينسخ الشرائع بالشرائع لحكمة رآها وهو معنى قوله ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ وبالتخفيف
النحل (١٠١ _ ١٠٥)
مكي وأبو عمرو ﴿قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ﴾ هو جواب إذا وقوله والله أعلم بما ينزل اعتراض كانوا يقولون إن محمداً يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً فيأتيهم بما هو أهون ولقد افتروا فقد كان ينسخ الأشق بالأهون والأهون بالأشق ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ الحكمة في ذلك
﴿قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس﴾ أي جبريل عليه السلام أضيف إلى إلى القدس وهو الطهر كما يقال حاتم الجود والمراد الروح والمقدس وخاتم الجواد والمقدس المطهر من المآثم ﴿مِن رَبِّكَ﴾ من عنده امره ﴿بالحق﴾ حال أي نزله ملتبساً بالحكمة ﴿لِيُثَبِّتَ الذين آمنوا﴾ ليبلوهم بالنسخ حتى إذا قالوا فيه هو الحق من ربنا والحكمة لأنه حكيم لا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب حكم لهم بثبات القدم وصحة اليقين وطمأنينة القلوب ﴿وَهُدًى وبشرى﴾ مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت والتقدير تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة ﴿لِلْمُسْلِمِينَ﴾ وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم
﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ﴾ أراودا به غلاما كان لحو يطب قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب أو هو جبر غلام رومي لعامر بن الحضرمي أو عبدان جبر ويسار كانا يقرآن التوراة والإنجيل فكان رسول الله ﷺ يسمع ما يقرآن أو سلمان الفارسي ﴿لِّسَانُ الذى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ﴾ وبفتح الياء والحاء حمزة وعلي ﴿أَعْجَمِىٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ﴾ أي لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بيّن وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة رداً لقولهم وإبطالاً لطعنهم وهذه الجملة أعني لسان الذي يلحدون إليه أعجمي لا محل لها لأنها مستأنفة جواب لقولهم واللسان اللغة ويقال الحد القبر ولحده وهو وملحود وملحوذ إذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه ثم استعير لكل إمالة عن الاستقامة فقالوا ألحد فلان في قوله وألحد في دينه ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها
﴿إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله﴾ أي القرآن ﴿لاَ يَهْدِيهِمُ الله﴾ ما داموا مختارين الكفر ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة على كفرهم
﴿إِنَّمَا يَفْتَرِى الكذب﴾ على الله ﴿الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله﴾ أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن لأنه
النحل (١٠٥ _ ١٠٧)
لا يترقب عقاباً عليه وهو رد لقولهم إنما أنت مفتر ﴿وَأُوْلئِكَ﴾ إشارة إلى الذين لا يؤمنون أي وأولئك ﴿هُمُ الكاذبون﴾ على الحقيقة الكاملون في الكذب لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب أو وأولئك هم الكاذبون في قولهم إنما أنت مفتر جوزوا أن يكون
﴿مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمانه﴾ شرطاً مبتدأ أو حذف جوابه لأن جواب من شرح دال عليه كأنه قيل من كفر بالله فعليهم غضب ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان﴾ ساكن به ﴿ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾ أي طاب به نفساً واعتقده ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ وأن يكون بدلاً من الذين لا يؤمنون بآيات الله على أن يجعل وأولئك هم الكاذبون اعتراضاً بين البدل والمبدل منه والمعنى إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الإفتراء ثم قال ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله وأن يكون بدلاً من المبتدأ الذي هو أولئك أي ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون أو من الخبر الذي هو الكاذبون أي وأولئك هم من كفر بالله من بعد ايمانه وأن ينتصب على الذم رُوى أنَّ ناساً من أهل مكة فتنوا فارتدوا وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان منهم عمار وأما أبواه ياسر
﴿ذلك﴾ إشارة إلى الوعيد وهو لحوق الغضب والعذاب العظيم ﴿بِأَنَّهُمُ استحبوا﴾ آثروا ﴿الحياة الدُّنْيَا على الآخِرَةِ﴾ أي بسبب إيثارهم الدنيا على الآخرة ﴿وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين﴾ ما داموا مختارين للكفر
﴿أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وأبصارهم﴾ فلا يتدبرون ولا يصغون إلى المواعظ ولا يبصرون طريق الرشاد ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الغافلون﴾ أي الكاملون في الغفلة لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها
النحل (١٠٩ _ ١١٢)
﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الآخرة هُمُ الخاسرون﴾ ﴿ثم إن ربك﴾ ثم يدل على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك ﴿لِلَّذِينَ هاجروا﴾ من مكة أي أنه لهم لا عليهم يعني أنه وليهم وناصرهم لا عدوهم وخاذلهم كما يكون الملك للرجل لا عليه فيكون محمياً منفوعاً غير مضرور
﴿يوم تأتي﴾ منصوب برحيم أو باذكر ﴿كُلُّ نَفْسٍ تجادل عَن نَّفْسِهَا﴾ وإنما أضيفت النفس إلى النفس لأنه يقال لعين الشيء وذاته نفسه وفي نقيضه غيره والنفس الجملة كما هي فالنفس الأولى هي الجملة والثانية عينها وذاتها فكأنه قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره كلٌّ يقول نفسي نفسي ومعنى المجادلة عنها الاعتذار كقولهم هؤلاء أضلونا ربنا انا أطعنا سادتنا وكبراءنا الآية والله ربنا ما كنا مشركين ﴿وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ تعطى جزاء عملها وافياً ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ في ذلك
﴿وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً﴾ أي جعل القرية التي هذه حالها مثلاً لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة فكفروا وتولوا فأنزل الله بهم نقمته فيجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها فضربها الله مثلا لمكة انذارا من مثل عاقبتها ﴿كانت آمنة﴾ من القتل والسبى ﴿مُّطْمَئِنَّةً﴾ لا يزعجها خوف لأن الطمأنينة مع الأمن والانزعاج والقلق مع الخوف ﴿يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا﴾ واسعاً ﴿مِّن كُلِّ مَكَانٍ﴾ من كل بلد ﴿فَكَفَرَتْ﴾ أهلها ﴿بِأَنْعُمِ الله﴾ جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع أو جمع نعم كبؤس وأبؤس {فَأَذَاقَهَا الله
النحل (١١٣ _ ١١٦)
فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس فكأنه قيل فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف
﴿ولقد جاءهم رسول منهم﴾ أي محمد ﷺ ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظالمون﴾ أي في حال التباسهم بالظلم قالوا إنه القتل بالسيف يوم بدر روى أن رسول الله ﷺ وجه إلى أهل مكة في سني القحط بطعام ففرق فيهم فقال الله لهم بعد أن أذاقهم الجوع
﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله﴾ على يدي محمد ﷺ ﴿حلالا طَيِّباً﴾ بدلاً عما كنتم تأكلونه حراماً خبيثاً من الأموال المأخوذة بالغارات والغصوب وخبائث الكسوب ﴿واشكروا نعمة الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ تطيعون أو إن صح زعمكم أنكم تعبدون الله بعبادة الآلهة لأنها شفعاؤكم عنده
ثم عدد عليهم محرمات الله ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم فقال ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ إنما للحصر أي المحرم هذا دون البحيرة وأخواتها وباقي الآية قد مر تفسيره
﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب﴾ هو منصوب بلا تقولوا أي ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي أو إلى القياس المستنبط منه واللام مثلها في قولك لا تقولوا لما أحل الله هو حرام وقوله ﴿هذا حلال وهذا حَرَامٌ﴾ بدل من الكذب ولك أن تنصب الكذب بتصف وتجعل ما مصدرية وتعلق هذا حلال وهذا حرام بلا تقولوا أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام وهذا لوصف ألسنتكم الكذب أي ولا تحوموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ويجول في أفواهكم لا لأجل حجة وبينة ولكن قول ساذج ودعوى بلا برهان وقوله تصف ألسنتكم الكذب من فصيح الكلام جعل قولهم كأنه عين الكذب فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته وصورته بصورته كقولك وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر واللام في ﴿لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب﴾ من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض ﴿إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يفلحون﴾
﴿متاع قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾
هو خبر مبتدأ محذوف أي منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعذابها عظيم
﴿وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ﴾ في سورة الأنعام يعني وَعَلَى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية ﴿وَمَا ظلمناهم﴾ بالتحريم ﴿ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ فحرمنا عليهم عقوبة على معاصيهم
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوء بجهالة﴾ في موضع الحال أي
﴿إِنَّ إبراهيم كَانَ أُمَّةً﴾ إنه كان وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير كقوله
ليس على الله بمستنكر | أن يجمع العالم في واحد |
﴿شَاكِراً لأَنْعُمِهِ﴾ رُوى أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذاماً فقال الآن وجبت مؤاكلتكم
﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً﴾ نبوة وأموالاً وأولاداً أو تنويه الله بذكره فكل أهل دين يتولونه أو قول المصلى منا
النحل (١٢٢ _ ١٢٦)
كما صليت على إبراهيم ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ لمن أهل الجنة
﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكين﴾ في ثم تعظيم منزلة نبينا عليه السلام وإجلال محله والإيذان بأن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة اتباع رسولنا ملته
﴿إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اختَلَفُوا فِيهِ﴾ أي فرض عليهم تعظيمه وترك الاصطياد فيه ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ رُوى أن موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة وأن يكون يوم الجمعة فأبوا عليه وقالوا نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة فهذا اختلافهم في السبت لأن بعضهم اختاروه وبعضهم اختاروا عليه الجمعة فأذن الله لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فأطاع أمر الله الرضوان بالجمعة فكانوا لا يصيدون وأعقابهم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك وهو يحكم بينهم يوم القيامة فيجازي كل واحد من الفريقين بما هو أهله
﴿ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ﴾ إلى الإسلام ﴿بِالْحِكْمَةِ﴾ بالمقالة الصحيحة المحكمة وهو الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة ﴿وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾ وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها أو
﴿وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ﴾ سمى الفعل الأول عقوبة والعقوبة هي الثانية لازدواج الكلام كقوله جزاء سيئة سيئة مثلها فالثانية ليست بسيئة والمعنى إن صنع بكم صنيع سوء من قتل أو نحوه فقابلوه بمثله ولا تزيدوا عليه رُوى أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد بقروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم فرأى النبي عليه السلام حمزة
النحل (١٢٦ _ ١٢٨)
مبقور البطن فقال أما والذي أحلف به لأمثلن بسبعين مكانك فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراده ولا خلاف في تحريم المثلة لورود الأخبار بالنهي عنها حتى بالكلب العقور ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ﴾ الضمير في له يرجع إلى مصدر صبرتم والمراد بالصابرين المخاطبون أي ولئن صبرتم لصبركم خير لكم فوضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله عليهم لأنهم صابرون على الشدائد
ثم قال لرسول الله ﷺ ﴿وَاصْبِرْ﴾ أنت فعزم عليه بالصبر ﴿وَمَا صبَرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ أي بتوفيقه وتثبيته ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ على الكفار أن لم يؤمنوا وعلى المؤمنين
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا والَّذِينَ هُم محسنون﴾ أي هو ولى الذين اجتنبوا السيآت وولي العاملين بالطاعات قيل من اتقى في أفعاله وأحسن في أعماله كان الله معه في أحواله ومعينه نصرته في المأمور وعصمته في المحظور
بسم الله الرحمن الرحيم
الإسراء (١)