تفسير سورة غافر

الدر المصون
تفسير سورة سورة غافر من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ﴿حم﴾ : كقوله: ﴿الم﴾ وبابه. وقرأ الأخَوان وأبو بكر وابن ذكوان بإمالة حاء في السورِ السبعِ إمالةً محضةً وورش وأبو عمرو بالإِمالة بينَ بينَ، والباقون بالفتح. والعامَّةُ على سكونِ الميم كسائرِ الحروفِ المقطعة. وقرأ الزهري برفعِ الميم على أنَّها خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أو مبتدأٌ والخبرُ ما بعدها. وابن أبي إسحاق وعيسى بفتحِها، وهي تحتملُ وجهين، أحدهما: أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ أي: اقرأ حم، وإنما مُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيثِ، أو للعلميَّة وشبهِ العُجمة. وذلك أنه ليس في الأوزان العربيةِ وزنُ فاعيل بخلافِ الأعجمية، نحو: قابيل وهابيل. والثاني: أنها حركةُ بناءٍ تخفيفاً ك أينَ وكيف. وفي احتمال هذين الوجهين قولُ الكميت:
451
وقول شريح بن أوفى:
٣٩٠٩ - يُذَكِّرُني حمَ والرُّمْحُ شاجِرٌ... فهلا تلا حمَ قبلَ التقدُّمِ
وقرأ أبو السَّمَّال بكسرِها، وهل يجوزُ أَنْ تُجْمَعَ «حم» على حواميم، نَقَل ابنُ الجوزي عن شيخِه الجواليقي أنه خطأٌ، بل الصوابُ أَنْ يقولَ: قَرَأْتُ آلَ حم. وفي الحديث عن ابن مسعود عنه عليه السلام: «إذا وَقَعْتَ في آلِ حم وَقَعْتَ في رَوْضَاتٍ» وقال الكميت:
٣٩١٠ - وَجَدْنا لكم في آلِ حم................................................
البيت. ومنهم مَنْ جَوَّزَه. ورُويَ في ذلك أحاديثُ منها: «الحواميم ديباجُ القرآن» ومنها: «مَنْ أرادَ أَنْ يرتعَ في رياضٍ مُوْنَقَةٍ من الجنة فليقرأْ الحواميم» ومنها: «مَثَلُ الحواميم في القرآن مَثَلُ الحَبِرات في الثياب» فإنْ صَحَّتْ هذه الأحاديثُ فهي الفَيْصَلُ في ذلك.
452
قوله: ﴿تَنزِيلُ﴾ : إمَّا خبرٌ ل «حَم» إنْ كانت مبتدأً، وإمَّا خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، وإمَّا مبتدأٌ. وخبرُه الجارُّ بعدَه.
قوله: ﴿غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب﴾ في هذه الأوصافِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها كلَّها صفاتٌ للجلالة كالعزيز العليم. وإنما جازَ وَصْفُ المعرفةِ بهذه وإنْ كانَتْ إضافتُها لفظيةً؛ لأنه يجوزُ أَنْ تُجْعَلَ إضافتُها معنويةً فتتعرَّفَ بالإِضافةِ. نَصَّ سيبويه على أنَّ كلَّ ما إضافتُه غيرُ مَحْضةٍ جاز أن يُجْعَلَ مَحْضةً، وتُوصفَ به المعارفُ، إلاَّ الصفةَ المشبهةَ، ولم يَسْتَثْنِ غيرُه شيئاً وهم الكوفيون. يقولون في نحو: «حَسَنُ الوجهِ» إنه يجوزُ أن تصيرَ إضافتُه محضةً. وعلى هذا فقولُه «شديد العقابِ» من بابِ الصفةِ المشبهةِ فكيف أجزْتَ جَعْلَه صفةً للمعرفة وهو لا يَتَعَرَّفُ بالإِضافة؟
والجواب: إمَّا بالتزامِ مَذْهَبِ الكوفيين: وهو أنَّ الصفةَ المشبهةَ يجوزُ أَنْ تَتَمَحَّضَ إضافتُها أيضاً، فتكونَ معرفةً، وإمَّا بأنَّ شديداً بمعنى/ مُشَدِّد ك أَذِيْن بمعنى مُؤَذِّن فتتمحَّضُ إضافتُه.
الثاني: أَنْ يكونَ الكلُّ أبدالاً لأنَّ إضافتَها غيرُ محضةٍ، قاله الزمخشري. إلاَّ أنَّ الإِبدال بالمشتقِّ قليلٌ جداً، إلاَّ أن يُهْجَرَ فيها جانبُ الوصفية.
453
الثالث: أَنْ يكونَ «غافر» و «قابل» نعتَيْن و «شديد» بدلاً، لِما تقدَّم: مِنْ أنَّ الصفةَ المشبهةَ لا تتعرَّفُ بالإِضافة، قاله الزجَّاج. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال: «جَعْلُ الزجَّاجِ» شديد العقاب «وحدَه بدلاً من الصفاتِ، فيه نُبُوٌّ ظاهرٌ، والوجهُ أن يُقال: لَمَّا صُودِفَ بين هذه المعارفِ هذه النكرةُ الواحدةُ فقد آذنَتْ بأنَّ كلَّها أبدالٌ غيرُ أوصافٍ. ومثالُ ذلك قصيدةٌ جاءت تفاعيلُها كلُها على مستفعلن فهي محكومٌ عليها أنها من الرَجَز، وإنْ وقع فيها جزءٌ واحدٌ على مَتَفاعلن كانت من الكامِل». وقد ناقشه الشيخ فقال: «ولا نُبُوَّ في ذلك لأنَّ الجَرْيَ على القواعِدِ التي قد استقرَّتْ وصَحَّتْ هو الأصلُ وقوله:» فقد آذنَتْ بأنَّ كلّها أبدالٌ «تركيبٌ غيرُ عربيٍ؛ لأنه جَعَل» فقد آذنَتْ «جوابَ لَمَّا، وليس من كلامهم» لَمَّا قام زيدٌ فقد قام عمروٌ «. وقولُه: بأنَّ كلَّها أبدْالٌ فيه تكريرٌ للأبدالِ. أمَّا بَدَلُ البَداءِ عند مَنْ أثبتَه فقد تكرَّرَتْ فيه الأبدالُ. وأمَّا بدلُ كلٍ مِنْ كل وبعضٍ مِنْ كل وبدلُ اشتمالٍ فلا نصَّ عن أحد من النحويين أَعْرِفُه في جوازِ التكرارِ فيها أو مَنْعِه. إلاَّ أنَّ في كلامِ بعضِ أصحابِنا ما يَدُلُّ على أنَّ البدلَ لا يُكَرَّرُ، وذلك في قول الشاعر:
٣٩٠٨ - وَجَدْنا لكم في آلِ حَمَ آيةً تَأَوَّلَها منا تقيٌّ ومُعْرِبُ
454
قال:» فَ «مَلكٍ» بدلٌ مِنْ «عمرو» بدلُ نكرةٍ مِنْ معرفة قال: «فإنْ قلتَ: لِمَ لا يكونُ بدلاً من» ابن أمِّ أناسٍ؟ «قلت: لأنَّه أبدلَ منه عَمْراً، فلا يجوزُ أَنْ يُبْدَلَ منه مرة أخرى لأنَّه قد طُرِحَ» انتهى.
قال الشيخ: «فَدَلَّ هذا على أنَّ البدلَ لا يتكَرَّرُ ويَتَّحد المبدلُ منه، ودَلَّ على أنَّ البدلَ من البدلِ جائزٌ». قلت: وقد تقدَّم له هذا البحثُ آخرَ الفاتحةِ عند قوله: ﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم﴾ [الفاتحة: ٧] فعليك بمراجعته قال: «وقولُه تفاعيلُها هو جمعُ تِفْعال أو تَفْعُول أو تُفْعُول أو تَفْعيل وليس شيءٌ منها معدوداً من أجزاء العَروض فإنَّ أجزاءَه منحصرةٌ ليس فيها شيءٌ من هذه الأوزانِ، فصوابُه أَنْ يقولَ: جاءت أجزاؤُها كلُّها على مُستفعلن».
وقال الزمخشري أيضاً: «ولقائل أَنْ يقولَ: هي صفاتٌ وإنما حُذِفت الألفُ واللامُ مِنْ» شديد «ليزاوجَ ما قبلَه وما بعدَه لفظاً فقد غَيَّروا كثيراً مِنْ كلامِهم عن قوانينِه لأجلِ الازدواجِ، فقالوا:» ما يعرف سحادليه مِنْ عبادليه «فَثَنُّوا ما هو وِتْرٌ لأجلِ ما هو شَفْعٌ. على أن الخليلَ قال في قولهم:» ما يَحْسُنُ بالرجلِ مثلِك أَنْ يَفْعل ذلك «و» ما يَحْسُن بالرجلِ خيرٍ منك «إنه على نيةِ الألفِ واللامِ، كما كان» الجَمَّاء الغفير «على نيةِ طرحِ الألفِ واللامِ. ومما سهَّل ذلك الأمنُ من اللَّبْسِ وجَهالَةُ الموصوفِ». قال الشيخُ: «ولا ضرورةَ
455
إلى حَذْفِ أل مِنْ» شديد العقاب «وتشبيهُه بنادرٍ مُغَيَّرٍ وهو تثنيةُ الوِتْر لأجلِ الشَّفْعِ، فيُنَزَّه كتابُ اللَّهِ عن ذلك». قلت: أمَّا الازدواجُ - وهو المشاكلة - من حيث هو فإنه واقعٌ في القرآن، مضى لك منه مواضعُ.
وقال الزمخشري أيضاً: «ويجوزُ أَنْ يقالَ: قد تُعُمِّد تنكيرُه وإبهامُه للدلالةِ على فَرْطِ الشِّدَّةِ وعلى ما لا شيءَ أَدْهَى منه وأَمَرُّ لزيادةِ الإِنذار. ويجوز أَنْ يُقالَ: هذه النكتةُ هي الداعيةُ إلى اختيار البدلِ على الوصفِ، إذا سُلِكَتْ طريقةُ الإِبدالِ» انتهى. وقال مكي: «يجوزُ في» غافر «و» قابل «البدلُ على أنهما نكرتان لاستقبالِهما، والوصفُ على أنهما معرفتان لمُضِيِّهما».
وقال فخر الدين الرازي: «لا نِزاعَ في جَعْل غافر وقابِل صفةً، وإنما كانا كذلك لأنهما يُفيدان معنى الدَّوامِ والاستمرارِ، فكذلك» شديدُ العقابِ «يُفيدُ ذلك؛ لأنَّ صفاتِه مُنَزَّهةٌ عن الحدوث والتجدُّدِ فمعناه كونُه بحيث شديدٌ عقابُه. وهذا المعنى حاصلٌ أبداً لا يُوْصَف/ بأنَّه حَصَلَ بعد أَنْ لم يكنْ».
قال الشيخ: «وهذا كلامُ مَنْ لم يَقِفْ على علمِ النحوِ ولا نظرَ فيه ويَلْزَمُه أَنْ يكونَ ﴿حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾ [النمل: ٦] و ﴿مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ﴾ [القمر: ٥٥] معارفَ لتنزيهِ صفاتِه عن الحُدوثِ والتجدُّدِ، ولأنها صفاتٌ لم تَحْصُلْ بعد أَنْ لم تكنْ، ويكونُ تعريفُ صفاتِه بأل وتنكيرُها سواءً، وهذا لا يقولُه مُبْتدئ في علم النحو، بَلْهَ أَنْ يُصَنِّفَ فيه ويُقْدِمَ على تفسيرِ كتابِ اللَّهِ تعالى» انتهى.
456
وقد سُرِدَتْ هذه الصفاتُ كلُّها مِنْ غير عاطفٍ إلاَّ «قابِل التوب» قال بعضهم: «وإنما عُطِفَ لاجتماعِهما وتلازُمِهما وعَدَمِ انفكاكِ أحدِهما عن الآخر، وقَطَعَ» شديدِ «عنهما فلم يُعْطَفْ لانفرادِه». قال الشيخ: «وفيه نَزْعَةٌ اعتزاليَّةٌ. ومَذْهَبُ أهلِ السنة جوازُ الغفران للعاصي وإن لم يَتُبْ إلاَّ الشركَ». قلت: وما أبعده عن نزعةِ الاعتزال. ثم أقول: التلازمُ لازمٌ مِنْ جهةِ أنه تعالى متى قَبِل التوبة فقد غَفَرَ الذنب وهو كافٍ في التلازم.
وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما بالُ الواوِ في قولِه:» وقابلِ التَّوْبِ؟ «قلت: فيها نُكْتةٌ جليلةٌ: وهي إفادةُ الجمعِ للمذنب التائبِ بين رحمتين: بين أَنْ يَقْبَلَ توبتَه فيكتبَها طاعةً من الطاعات وأنْ يجعلَها مَحَّاءةً للذنوب كمَنْ لم يُذْنِبْ كأنه قال: جامع المغفرةِ والقَبول» انتهى.
وبعد هذا الكلام الأنيق وإبرازِ هذه المعاني الحسنةِ. قال الشيخ: «وما أكثرَ تبجُّجَ هذا الرجلِ وشَقْشَقَتَه والذي أفاد أن الواوَ للجمعِ، وهذا معروفٌ من ظاهرِ عَلِمِ النحوِ». قلت: وقد أنشدني بَعضُهم:
٣٩١١ - فإلى ابنِ أُمِّ أُناسٍ أَرْحَلُ ناقتي عمْروٍ فتُبْلِغُ حاجتي أو تُزْحِفُ
مَلِكٍ إذا نَزَلَ الوفودُ ببابِه عَرَفُوا موارِدَ مُزْبِدٍ لا يُنْزَفُ
٣٩١٢ - وكم مِنْ عائبٍ قَوْلاً صحيحاً وآفَتُه من الفَهْمِ السَّقيمِ
وقال آخر:
457
٣٩١٣ - قد تُنْكِرُ العينُ ضوءَ الشمسِ مِنْ رَمَدٍ ويُنكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماءِ مِنْ سَقَمِ
والتَّوْبُ: يُحتمل أَنْ يكونَ اسماً مفرداً مُراداً به الجنسُ كالذَّنْب، وأَنْ يكونَ جمعاً لتَوْبة كتَمْرٍ وتَمْرَة. و «ذي الطَّوْلِ» نعتٌ أو بدلٌ كما تقدَّمَ. والطَّوْلُ: سَعَةُ الفَضْلِ.
و ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ يجوزُ أَنْ يكون مستأنفاً، وأَنْ يكونَ حالاً، وهي حالٌ لازمةٌ، وقال أبو البقاء: «يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً»، وعلى هذا ظاهرُه فاسدٌ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ صفةً للمعارفِ. ويمكنُ أَنْ يريدَ أنه صفةٌ ل «شديد العقاب» لأنَّه لم يتعرَّفْ عنده بالإِضافةِ. والقولُ في «إليه المصيرُ» كالقولِ في الجملةِ قبله، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الجملةِ قبلَه.
458
وقرأ العامَّةُ «فلا يَغْرُرْكَ» بالفكِّ، وهي لغةُ الحجازِ. وزيد ابن علي وعبيد بن عُمَيْر «فلا يَغُرَّكَ» بالإِدغامِ مفتوحَ الراءِ، وهي لغةُ تميمٍ.
وقرأ عبد الله «برَسولها» أعاد الضميرَ على لفظ «أُمَّة». والجمهورُ على معناها، وفي قوله: «ليَأْخُذوه» عبارةٌ عن المُسَبَّبِ بالسبب؛ وذلك أنَّ القَتْلَ مُسَبَّبٌ عن الأَخْذِ، ومنه قيل للأسير: «أَخِيْذ». وقال:
458
وقوله: «عِقابِ» فيه اجتزاءٌ بالكسرةِ عن ياء المتكلم وصلاً، ووقفاً، لأنَّها رأسُ فاصلةٍ.
459
قوله: ﴿وَكَذَلِكَ﴾ : تحتمل الكافُ أَنْ تكونَ مرفوعةَ المحلِّ على خبرِ مبتدأ مضمرٍ أي: والأمرُ كذلك، ثم أخبر بأنه حَقَّتْ كلمةُ اللَّهِ عليهم بالعذاب، وأَنْ تكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: مثلَ ذلك الوجوبِ مِنْ عقابِهم وَجَبَ على الكفرةِ.
وقوله: «أنهم أصحابُ» يجوزُ أَنْ يكونَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ أي: لأنَّهم، فَحَذَفَ، فيجري في محلِّها القولان. ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ «كلمةُ». وقد تقدَّم خلافُهم في إفراد «كلمة» وجَمْعِها.
قوله: ﴿الذين يَحْمِلُونَ﴾ : مبتدأٌ «ويُسَبِّحون» خبرُه.
والعامَّةُ على فتح عين «العَرْش». وابن عباس في آخرين بضمها فقيل: يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ جمعاً ل «عَرْش» ك سُقْف في سَقْف.
وقوله: «ومَنْ حَوْلَه» يَحْتمل أَنْ يكونَ مرفوعَ المحلِّ عطفاً على «الذين يَحْملون» أَخْبر عن الفريقين بأنهم يُسَبِّحون، وهذا هو الظاهرُ، وأَنْ يكونَ منصوبَ المحلِّ عَطْفاً على العرش، يعني أنَّهم يَحْملون أيضاً الملائكةَ الحافِّين بالعرشِ. وليس بظاهرٍ.
قوله: «رَبَّنا» / معمولٌ لقولٍ مضمرٍ تقديرُه: يقولون ربَّنا. والقولُ المضمرُ
459
في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل «يَسْتَغْفرون» أو خبرٌ بعد خبرٍ، و «رحمةً وعِلْماً» تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية، أي: وسِع كلَّ شيءٍ رحمتُك وعِلْمُك.
460
قوله: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ﴾ : قد تقدَّمَ نظيرُها في مريم. والعامَّةُ على «جناتِ» جمعاً، والأعمش وزيد بن علي «جنة» بالإِفراد.
قوله: «ومَنْ صَلَحَ» في محلِّ نصبٍ: إمَّا عطفاً على مفعولِ «أدْخِلْهُمْ»، وإمَّا على مفعولِ «وَعَدْتَهم». وقال الفراء والزجاج: «نصبُه مِنْ مكانَيْنِ: إنْ شئتَ على الضميرِ في» أَدْخِلْهم «، وإنْ شِئْتَ على الضميرِ في وَعَدْتَهم».
والعامَّةُ على فتحِ لامِ «صَلَح» يقال: صَلُح فهو صالحٌ. وابنُ أبي عبلة بضمِّها يُقال: صَلَح فهو صَليح. والعامَّةُ على «ذُرِّيَّاتهم» جمعاً. وعيسى «وذُرِّيَّتهم» إفراداً.
قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ : التنوينُ عِوَضٌ مِنْ جملةٍ محذوفةٍ، ولكنْ ليس في الكلامِ جملةٌ مُصَرَّحٌ بها، عُوِّض منها هذا التنوينُ، بخلافِ قولِه: ﴿وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ﴾ [الواقعة: ٨٤] أي: حينَ إذْ بَلَغَتِ الحلقومَ، لتقدُّمِها في اللفظِ، فلا بُدَّ مِنْ تقديرِ جملةٍ، يكون هذا عوضاً منها تقديرُه: يوم إذْ يُؤَاخَذُ بها.
قوله: ﴿إِذْ تُدْعَوْنَ﴾ : منصوبٌ بمقدرٍ، يَدُلُّ عليه هذا الظاهرُ، تقديرُه: مَقْتِكم إذ تُدْعَوْن. وقَدَّره بعضُهم: اذكُروا إذْ تُدْعَوْن. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ يكونَ منصوباً بالمَقْتِ الأول. ورَدَّ عليه الشيخُ: بأنَّه يَلْزَمُ منه الفَصْلُ بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ. وقال: «هذا مِنْ ظواهرِ علمِ النحوِ التي لا تكاد تَخْفَى على المبتَدِئ فَضْلاً عَمَّنْ يُدْعَى من العجم أنه شيخُ العربِ والعَجَم». قلت: مثلُ هذا لا يَخْفى على أبي القاسم، وإنما أراد أنه دالٌّ على ناصبِه، وعلى تقديرِ ذلك فهو مذهبٌ كوفيٌّ قال به، أو لأنَّ الظرفَ يُتَّسَعُ فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيره. وأيُّ غُموضٍ في هذا حتى يُنْحِي عليه هذا الإِنْحاءَ؟ ولله القائلُ:
٣٩١٤ - فإمَّا تَأْخُذُوني تَقْتُلوني فكَمْ مِنْ آخِذٍ يَهْوَى خُلودي
٣٩١٥ - حَسَدُوا الفتى إذ لم يَنالُوا سَعْيَه فالقومُ أعداءٌ له وخُصومُ
كضَرائرِ الحَسْناءِ قُلْنَ لِوَجْهها كَذِباً وزُوْراً إنه لدَمِيمُ
وهذا الردُّ سبقه إليه أبو البقاء، فقال: «ولا يجوزُ أن يَعْمَلَ فيه» مَقْتُ الله «لأنه مصدرٌ أُخْبِرَ عنه، وهو قولُه:» أكبرُ «. فمِنْ ثَمَّ أَخَذه الشيخُ. ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ بالمَقْتِ الثاني؛ لأنهم لم يَمْقُتوا أنفسَهم وَقْتَ دعائِهم إلى الإِيمان، إنما مَقَتُوها يومَ القيامةِ. والظاهرُ أنَّ مَقْتَ اللَّهِ واقعٌ في الدنيا. وجَوَّزَ
461
الحسنُ أَنْ يكون في الآخرة. وضَعَّفه الشيخُ: بأنه» يَبْقى «إذْ تُدْعَوْن» مُفْلَتاً من الكلامِ؛ لكونِه ليس له عاملٌ مقدمٌ ولا ما يُفَسِّر عاملاً. فإذا كان المَقْتُ في الدنيا أَمْكَنَ أَنْ يُضْمَرَ له عاملٌ تقديرُه: مَقْتِكم «. قلت: وهذا التجرُّؤُ على مثلِ الحسنِ يُهَوِّنُ عليك تَجَرُّؤَه على الزمخشريِّ ونحوهِ.
واللامُ في»
لَمَقْتُ «لامُ ابتداءٍ أو قسمٍ. ومفعولُه محذوفٌ أي: لمقتُ اللَّهِ إياكم أو أنفسَكم، فهو مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه كالثاني. ولا يجوزُ أَنْ تكون المسألةُ من بابِ التنازع في» أنفسَكم «بين المقتَيْن لئلا يَلزمَ الفصلُ بالخبرِ بين المَقْتِ الأول ومعمولِه على تقديرِ إعمالِه، لكنْ قد اختلف النحاةُ في مسألةٍ: وهي التنازعُ في فِعْلَيْ التعجب، فَمَنْ مَنَعَ اعتَلَّ بما ذكرْتُه؛ لأنه لا يُفْصَلُ بين فعلِ التعجبِ ومعمولِه. ومَنْ جَوَّزَ قال: يُلتزم إعمالُ الثاني؛ حتى لا يَلْزَمَ الفَصْلُ. فليكُنْ هذا منه. والحقُّ عدمُ الجوازِ فإنَّه على خلافِ قاعدةِ التنازع.
462
قوله: ﴿وَحْدَهُ﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، وجاز كونُه معرفة لفظاً لكونِه في قوةِ النكرةِ كأنه قيل: منفرداً. والثاني: - وهو قولُ يونس - أنه منصوبٌ على الظرفِ، والتقدير: دُعِي على حِيالِه، وهو مصدرٌ محذوفُ الزوائدِ والأصلُ: أَوْحَدْتُه إيحاداً.
قوله: ﴿رَفِيعُ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ مبتدأً والخبرُ «ذو العرشِ»، و «يُلْقي الروحَ» / يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأن يكونَ حالاً، ويجوزُ أَنْ تكونَ الثلاثةُ أخباراً لمبتدأ محذوفٍ. ويجوزُ أَنْ تكونَ الثلاثةُ أخباراً لقولِه: ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾. قال الزمخشري: «ثلاثةُ أخبارٍ يجوزُ
462
أَنْ تكونَ مترتبةً على قولِه: ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾، أو أخبارَ مبتدأ محذوفٍ وهي مختلفةٌ تعريفاً وتنكيراً». قلت: أمَّا الأولُ ففيه طولُ الفَصْلِ وتعدُّدُ الأخبارِ، وليسَتْ في معنى خبرٍ واحدٍ. وأمَّا الثاني ففيه تَعدُّدُ الأخبارِ وليسَتْ في معنى خبرٍ واحدٍ، وهي مسألةُ خلافٍ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ «ذو العرش» صفةً ل «رفيعُ الدرجاتِ» إنْ جَعَلْناه صفةً مشبهةً، أمَّا إذا جَعَلْناه مثالَ مبالغةٍ، أي: يرفع درجاتِ المؤمنين، فيجوزُ ذلك على أَنْ تُجْعَلَ إضافتُه مَحْضَةً، وكذلك عند مَنْ يُجَوِّزُ تمحُّضَ إضافةِ الصفةِ المشبهة أيضاً، وقد تقدَّمَ.
وقُرِئ «رفيعَ» بالنصبِ على المدح، و «مِنْ أَمْرِه» متعلِّقٌ ب «يُلْقِي» و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. ويجوزُ أَن يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «الروح».
قوله: «لِيُنْذِرَ» العامَّةُ على بنائِه للفاعلِ، ونصبِ اليوم. والفاعلُ هو اللَّهُ تعالى أو الروح أو مَنْ يشاء أو الرسول. ونَصْبُ اليوم: إمَّا على الظرفيَّةِ. والمُنْذَرُ به محذوفٌ تقديرُه: ليُنْذِرَ بالعذابِ يومَ التَّلاق، وإمَّا على المفعول به اتِّساعاً في الظرفِ.
وقرأ أُبَيٌّ وجماعةٌ كذلك، إلاَّ أنه رَفَع اليوم على الفاعليَّةِ مجازاً أي: ليُنْذِر الناسَ العذابَ يومُ التلاق. وقرأ الحسن واليمانيُّ «لِتُنْذِرَ» بالتاءِ من فوقُ. وفيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الفاعلَ ضميرُ المخاطبِ، وهو الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم. والثاني: أنَّ الفاعلَ ضميرُ الروحِ فإنَّها مؤنثةٌ على رَأْيٍ. وقرأ اليمانيُّ أيضاً «لِيُنْذَرَ» مبنياً للمفعول، «يومُ» بالرفعِ، وهي تُؤَيِّدُ نصبَه في قراءةِ الجمهورِ على المفعولِ به اتِّساعاً.
463
وأثبت ياءَ «التلاقي» وَصْلاً ووَقْفاً ابن كثير وأَثْبَتها في الوقف دونَ الوصل - مِنْ غير خِلافٍ - ورشٌ، وحَذَفها الباقون وَصْلاً ووقفاً، إلاَّ قالونَ فإنه رُوِيَ عنه وجهان: وجهٌ كورش، ووجهٌ كالباقين، وكذلك هذا الخلافُ بعينِه جارٍ في ﴿يَوْمَ التناد﴾ [غافر: ٣٢]. وقد تقدَّم توجيهُ هذَيْن الوجهَيْن في الرعد في قولِه: ﴿الكبير المتعال﴾ [الرعد: ٩].
464
قوله: ﴿يَوْمَ هُم بَارِزُونَ﴾ : في «يوم» أربعةُ أوجهٍ، أحدها: أنه بدلٌ مِنْ «يوم التلاق» بدلُ كل مِنْ كل. الثاني: أَنْ ينتصِبَ بالتلاق أي: يقع التلاقي في يومِ بُروزِهم. الثالث: أنْ ينتصِبَ بقولِه: ﴿لاَ يخفى عَلَى الله﴾، ذكره ابنُ عطيةَ، وهذا على أحدِ الأقوالِ الثلاثةِ في «لا» : هل يعملُ ما بعدَها فيما قبلها؟ ثالثها: التفصيلُ بين أَنْ تقعَ جوابَ قسمٍ فيمتنعَ، أو لا فيجوزَ. فيجوزُ هذا على قولين من هذه الأقوالِ. الرابع: أن ينتصِبَ بإضمار «اذكُرْ». و «يومَ» ظرفٌ مستقبلٌ ك «إذا». وسيبويه لا يرى إضافةَ الظرفِ المستقبلِ إلى الجمل الاسمية، والأخفشُ يراه، ولذلك قدَّر سيبويه في قولِه: ﴿إِذَا السمآء انشقت﴾ [الانشقاق: ١] ونحوهِ فعلاً قبل الاسم، والأخفشُ لم يُقَدِّرْه، وعلى هذا فظاهرُ الآيةِ مع الأخفش. ويُجاب عن سيبويه: بأنَّ «هم» ليس مبتدأ بل مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّره اسمُ الفاعل أي: يومَ برزوا، ويكون «بارِزون»
464
خبرَ مبتدأ مضمر فلمَّا حُذِف الفعلُ انفصل الضميرُ فبقي كما ترى، وهذا كما قالوا في قوله:
٣٩١٦ - لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ كُنْتُ كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري
في أنَّ «حَلْقي» مرفوعُ فعلٍ يُفَسِّره «شَرِقٌ» لأنَّ «لو» لا يَليها إلاَّ الأفعالُ، وكذا قولُه:
٣٩١٧ -........................ فهَلاَّ نَفْسُ لَيْلى شَفيعُها
لأنَّ «هَلاَّ» لا يَليها إلاَّ الأفعالُ، فالمُفَسَّرُ في هذه المواضعِ أسماءٌ مُسْبَقَةٌ، وهو نظيرُ «أنا زيداً ضاربُه» من حيث التفسيرُ. وحركة «يومَ هم» حركةُ إعرابٍ على المشهورِ. ومنهم مَنْ جَوَّزَ بناءَ الظرفِ، وإنْ أضيف إلى فعلٍ مضارعٍ أو جملة اسميةٍ، وهم الكوفيون. وقد وَهِم/ بعضُهم فحتَّم بناءَ الظرفِ المضافِ للجملِ الاسمية. وقد عَرَفْتَ ممَّا تقدَّمَ أنه لا يُبْنَى عند البصريين إلاَّ ما أُضيف إلى فعلٍ ماض، كقولِه:
465
البيت. وقد تقدَّم هذا مستوفىً في آخره المائدة. وكتبوا «يومَ هم» هنا وفي الذاريات منفصلاً، وهو الأصلُ.
قوله: «لا يَخْفَى» يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً، وأَنْ تكونَ حالاً من ضميرِ «بارِزون» وأَنْ تكونَ خبراً ثانياً.
466
قوله: ﴿اليوم﴾ : ظرفٌ لقولِه «لِمَن المُلْكُ»، و [يجوز] أَنْ يكونَ ظرفاً للجارِّ بعده؛ لأنَّ التقدير: المُلْكُ لله، فهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ، واليومَ معمولٌ ل «تُجْزَى»، و «اليومَ» الأخير خبرُ «لا ظلمَ».
قوله: ﴿يَوْمَ الأزفة﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به اتِّساعاً، وأَنْ يكونَ ظرفاً، والمفعولُ محذوفٌ. والآزِفَةُ: القريبةُ، مِنْ أَزِفَ الشيءُ، أي: قَرُبَ. قال النابغةُ:
٣٩١٨ - على حينَ عاتَبْتَ المشيبَ على الصِّبا ............................
٣٩١٩ - أَزِف التَّرَحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا لَمَّا تَزَلْ برِحالِنا وكأنْ قَدِ
وقال كعبُ بن زهير:
٣٩٢٠ - بان الشبابُ وهذا الشيبُ قد أَزِفا ولا أرَى لشبابٍ بائنٍ خلفا
وقال الراغب: «أَزِفَ وأَفِدَ يتقارَبان، لكنَّ» أَزِفَ «يقال اعتباراً بضيقِ
466
وقتِها. ويقال: أزِفَ الشُّخوصُ. والأَزَفُ: ضيقُ الوقت»، قلت: فجَعَلَ بينهما فَرْقاً، ويُرْوَى بيتُ النابغة: أَفِدَ الترحُّلُ. والآزِفَةُ: صفةٌ لمحذوفٍ، فيجوز أَنْ يكونَ التقديرُ: الساعة الآزِفَةُ أو الطامَّةُ الآزِفة.
قوله: «إذ القلوبُ» بدْلٌ من يومِ الآزِفةِ، أو مِنْ «هم» في «أَنْذِرْهُمْ» بدلُ اشتمالٍ.
قوله: «كاظِمين» نصبٌ على الحالِ. واختلفوا في صاحبها والعاملِ فيها. وقال الحوفي: «القلوبُ» مبتدأ. و «لدى الحناجِر» خبرُه، و «كاظمين» حالٌ من الضميرِ المستكنِّ فيه «. قلت: ولا بُدَّ مِنْ جوابٍ عن جمعِ القلوبِ جمعَ مَنْ يَعْقِل: وهو أنْ يكونَ لَمَّا أَسْند إليهم ما يُسْنَدُ للعقلاءِ جُمِعَتْ جَمْعَه، كقولِه: ﴿رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ [يوسف: ٤]، ﴿فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ﴾ [الشعراء: ٤]. الثاني: أنها حالٌ من» القلوب «. وفيه السؤالُ والجوابُ المتقدِّمان. الثالث: أنه حالٌ من أصحاب القلوب. قال الزمخشري:» هو حالٌ مِنْ أصحاب القلوب على المعنى؛ إذ المعنى: إذْ قلوبُهم لدى الحناجر كاظمين عليها «. قلت: فكأنَّه في قوةِ أنْ جَعَلَ أل عِوَضاً من الضمير في حناجرهم: الرابع: أَنْ يكونَ حالاً مِنْ» هم «في» أَنْذِرْهم «، وتكونُ حالاً مقدرةً؛ لأنهم وقتَ الإِنذارِ غيرُ كاظمين.
وقال ابن عطية:»
كاظِمين حالٌ ممَّا أُبْدِلَ منه «إذ القلوب» أو ممَّا تُضاف القلوبُ إليه؛ إذ المرادُ: إذ قلوبُ الناس لدى حناجرِهم، وهذا كقولِه: ﴿تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار﴾ [إبراهيم: ٤٢] أراد: تَشْخَصُ فيه أبصارُهم «. قلت: ظاهرُ قولِه أنه حالٌ ممَّا أُبْدِل منه.
467
قوله:» إذ القلوبُ «مُشْكِلٌ؛ لأنه أُبْدِل مِنْ قوله:» يومَ الآزِفَة «وهذا لا يَصِحُّ البتةَ، وإنما يريد بذلك على الوجه الثاني: وهو أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ» هم «في» أَنْذِرْهُمْ «بدلَ اشتمالٍ، وحينئذ يَصِحُّ. وقد تقدَّم الكلامُ على الكَظْمِ، والحناجر، في آل عمران والأحزاب.
قوله: ﴿وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ »
يُطاعُ «يجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعِه بالجرِّ نعتاً على اللفظِ، وبالرفعِ نعتاً على المحلِّ؛ لأنه معطوفٌ على المجرور بمِنْ المزيدةِ.
وقوله: ﴿وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ مِنْ باب:
٣٩٢١ - على لاحِبٍ لا يُهْتَدى بمَنارِه .......................
أي: لا شفيعَ فلا طاعةَ، أو ثَمَّ شفيعٌ ولكن لا يُطاعُ.
468
قوله: ﴿يَعْلَمُ﴾ : فيه أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: - وهو الظاهر - أنه خبرٌ آخرُ عن «هو» في قوله: ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: بِمَ اتَّصلَ قولُه: ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين﴾ ؟ قلت: هو خبرٌ من أخبارِ» هو «في قولِه: ﴿هُوَ الذي يُرِيكُمْ﴾ مثل: ﴿يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ﴾ [غافر: ١٥] ولكنْ» يُلْقي الروحَ «قد عُلِّلَ بقولِه:» لِيُنْذِرَ «ثم استطرد لذِكْرِ أحوالِ يومِ التَّلاقِ إلى قوله: ﴿وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ﴾ فبَعُدَ لذلك عن أخواته».
468
الثاني: أنه مُتَّصلٌ بقولِه: «وأَنْذِرْهم» لَمَّا أُمِرَ بإنذاره يوم الآزفة وما يَعْرِضُ فيه مِنْ شدَّة الغمِّ والكَرْبِ، وأنَّ الظالمَ لا يجدُ مَنْ يَحْميه، ولا شفيعَ له، ذَكَر اطِّلاعَه على جميع ما يَصْدُر مِنَ الخلقِ سِرّاً وجَهْراً. وعلى هذا فهذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها في قوة التعليلِ للأمرِ بالإِنذار.
الثالث: أنها متصلةٌ بقولِه ﴿سَرِيعُ الحساب﴾ [غافر: ١٧].
الرابع: أنها متصلة بقولِه: ﴿لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ﴾ [غافر: ١٦]. وعلى هذين الوجهين فيُحْتمل أَنْ تكونَ جاريةً مَجْرَى العلةِ، وأنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال.
وخائنةُ الأَعْيُن فيه وجهان، أحدهما: أنه مصدرٌ كالعافيةِ، أي: يَعْلَمُ خيانةَ الأعين. / والثاني: أنها صفةٌ على بابِها، وهو مِنْ بابِ إضافةِ الصفةِ للموصوفِ، والأصلُ: الأعين الخائنة، كقوله:
٣٩٢٢ -............................ وإن سَقَيْتِ كِرامَ الناسِ فاسْقِينا
وقد رَدَّه الزمخشريُّ وقال: «لا يَحْسُنُ أَنْ يُراد: الخائنة من الأعين؛ لأنَّ قولَه: ﴿وَمَا تُخْفِي الصدور﴾ لا يُساعِدُ عليه» يعني أنه لا يناسِبُ أن يقابلَ المعنى إلاَّ بالمعنى. وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلِ أَنْ يقولَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ «ما» في {وَمَا
469
تُخْفِي الصدور} مصدريةٌ حتى يَلْزَمَ ما ذكره، بل يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي، وهو عبارةٌ عن نفس ذلك الشيءِ المَخْفِيِّ، فيكونُ قد قابَلَ الاسمَ غيرَ المصدرِ بمثلهِ.
470
قوله: ﴿والذين يَدْعُونَ﴾ : قرأ نافع وهشام «تَدْعُون» بالخطاب للمشركين، والباقون بالغَيْبة إخباراً عنهم بذلك.
قوله: ﴿فَيَنظُرُواْ﴾ : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً في جواب الاستفهام، وأَنْ يكونَ مجزوماً نَسَقاً على ما قبله كقولِه:
٣٩٢٣ - ألم تَسْأَلْ فتُخْبِرْكَ الرُّسومُ ...........................
رواه بعضُهم بالجزمِ والنصب.
قوله: «منهم قوةً» قرأ ابنُ عامرٍ «منكم» على سبيلِ الالتفاتِ، والباقون بضميرِ الغَيْبة جَرْياً على ما سَبَقَ من الضمائرِ الغائبةِ.
قوله: «وآثاراً» عطفٌ على «قوةً»، وهو في قوة قولِه: ﴿يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ﴾ [الحجر: ٨٢]، وجعله الزمخشريُّ منصوباً بمقدر قال: «أو أراد: وأكثرَ آثاراً كقولِه:
٣٩٢٤ -.......................
470
قد غدا... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحا
يعني: ومُعْتَقِلاً رمحاً». ولا حاجةَ إلى هذا مع الاستغناء عنه.
471
قوله: ﴿أَوْ أَن﴾ : قرأ الكوفيون «أو أَنْ» بأو التي للإِبهام والباقون بواو النسق على تَسَلُّط الحرفِ على التبديل وظهور الفساد معاً. وقرأ نافعٌ وأبو عمروٍ وحفصٌ «يُظْهِرَ» بضم الياءِ وكسرِ الهاء مِنْ أَظْهر، وفاعلُه ضميرُ موسى عليه السلام، «الفسادَ» نصباً على المفعول به. والباقون بفتح الياء والهاء مِنْ ظهر، «الفسادُ» رفعاً بالفاعلية وزيدُ بن علي «يُظْهَرَ» مبنياً للمفعول، «الفسادُ» مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعل. ومجاهد «يَظَّهَّرَ» بتشديد الظاء والهاء، وأصلها يَتَظَهَّر مِنْ تَظَهَّر بتشديد الهاء فأدغم التاء في الظاء. و «الفسادُ» رفعٌ على الفاعلية. وفتح ابن كثير ياءَ ﴿ذروني أَقْتُلْ موسى﴾ وسَكَّنها الباقون.
قوله: ﴿عُذْتُ﴾ : أدغم أبو عمروٍ والأخَوان، وأظهروا الذال مع التاء، والباقون بالإِظهار فقط. و «لا يُؤْمِنُ» صفةٌ لمتكبِّر.
قوله: ﴿مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ : يُحتمل أَنْ يكونَ متعلِّقاً ب «يَكْتُمُ» بعده أي: يكتمه مِنْ آلِ فرعون. والثاني: - وهو الظاهرُ - أنَّه متعلق بمحذوفٍ صفةً لرجل. وجاء هنا على أحسنِ ترتيبٍ: حيث قَدَّمَ المفردَ ثم
471
ما يَقْرُبُ منه وهو حرفُ الجرِّ، ثم الجملةَ. وقد تقدم إيضاحُ هذه المسألةِ في المائدةِ وغيرِها. ويترتَّبُ على الوجهين: هل كان هذا الرجلُ مِنْ قَرابَةِ فرعونَ؟ فعلى الأولِ لا دليلَ فيه، وعلى الثاني فيه دليلٌ. وقد رَدَّ بعضُهم الأولَ: بأنه لا يُقال: كَتَمْتُ مِنْ فلانٍ كذا، إنما يقال: كَتَمْتُ فلاناً كذا، فيتعدَّى لاثنين بنفسِه. قال تعالى: ﴿وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً﴾ [النساء: ٤٢]. وقال الشاعر:
٣٩٢٥ - كَتَمْتُكَ هَمَّاً بالجَمومَيْنِ ساهِراً وهَمَّيْن هَمَّاً مُسْتَكِنَّاً وظاهراً
أحاديثَ نَفْسٍ تشتكي ما برَبِّها ووِرْدَ هُمومٍ لَنْ يَجِدْنَ مَصادِرا
أي: كتمتُك أحاديثَ نفسٍ وهَمَّيْن، فقدَّم المعطوفَ على المعطوفِ عليه، ومحلُّه الشعرُ.
قوله: ﴿أَن يَقُولَ رَبِّيَ﴾ أي: كراهةَ أَنْ يقولَ أو لأَنْ يقولَ. والعامَّةُ على ضَمِّ عين «رَجُل» وهي الفصحى. والأعمش وعبد الوارث على تسكينها، وهي لغةُ تميمٍ ونجد. وقال الزمخشري: «ولك أَنْ تُقَدِّرَ مضافاً محذوفاً أي: وقت أَنْ يقولَ. والمعنى: أتقتلونه ساعةَ سَمِعْتم منه هذا القولَ من غير رَوِيَّةٍ ولا فِكْرٍ». وهذا الذي أجازه رَدَّه الشيخ: بأنَّ تقديرَ هذا الوقتِ لا يجوزُ إلاَّ مع
472
المصدرِ المُصَرَّحِ به تقول: جِئْتُكَ صياحَ الدِّيْكِ أي: وقتَ صِياحِه، ولو قلت: أجيْئُك أنْ صاحَ الديكُ، أو أَنْ يصيحَ، لم يَصِحَّ. نصَّ عليه النحويون.
قوله: «وقد جاءَكم» جملةٌ حالية يجوز أَنْ تكونَ من المفعول. فإنْ قيلَ: هو نكرةٌ. / فالجوابُ: أنه في حيِّزِ الاستفهام وكلُّ ما سَوَّغ الابتداءَ بالنكرةِ سَوَّغ انتصابَ الحال عنها. ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل.
قوله: ﴿بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ﴾ «بعض» على بابِها، وإنما قال ذلك ليهضِمَ موسى عليه السلام بعضَ حقه في ظاهرِ الكلام، فيُرِيَهم أنه ليس بكلامِ مَنْ أعطاه حقه وافياً فَضْلاً أَنْ يتعصَّبَ له، قاله الزمخشري. وهذا أَحسنُ مِنْ قولِ غيرِه: إنَّها بمعنى كل، وأنشدوا قولَ لبيد:
٣٩٢٦ - تَرَّاكُ أَمْكنةٍ إذا لم يَرْضَها أو يَرْتَبِطْ بعضُ النفوسِ حِمامُها
وأنشدوا قولَ عمرو بن شُيَيْم:
٣٩٢٧ - قد يُدْرِكُ المتأنِّي بعضَ حاجتِه وقد يكونُ مع المستعجِلِ الزَّلَلُ
وقول الآخر:
473
ولا أدري كيف فَهِموا الكلَّ من البيتين الأخيرين؟ وأَمَّا الأولُ ففيه بعضُ دليلٍ؛ لأنَّ الموتَ يأتي على الكلِّ. ولَمَّا حكى هذا الزمخشريُّ عن أبي عبيدة، وأنشد عنه بيتَ لبيدٍ قال: «إن صَحَّتِ الروايةُ عنه فقد حَقَّ فيه قولُ المازني في مسألة العَلْقى:» كان أَجْفَى مِنْ أن يفقهَ ما أقولُ له «.
قلتُ: ومسألةُ المازني معه أنَّ أبا عبيدةَ قال للمازني: «ما أكذبَ النحويين!! يقولون: هاءُ التأنيثِ لا تدخل على ألفِ التأنيثِ وأن الألفَ في»
عَلْقَى «مُلْحقة. قال: فقلت له: وما أنكرْتَ من ذلك؟ فقال: سَمِعْتُ رؤبةَ يُنْشِد:
٣٩٢٩ - يَنْحَطُّ في عَلْقَى وفي مُكُوْرِ... فلم يُنَوِّنْها. فقلتُ: ما واحدُ عَلْقى؟ قال: عَلْقاةٌ. قال المازني: فامتنعْتُ ولم أُفَسِّرْ له لأنه كان أَغْلظَ مِنْ أَنْ يفهمَ مثلَ هذا»
قلت: وإنما استغلظَه المازنيُّ؛ لأنَّ الألفَ التي للإِلحاق تَدْخُل عليها تاءُ التأنيثِ دالةً على الوَحْدة فيقال: أَرْطى وأَرْطاة، وإنما الممتنعُ دخولُها على ألفِ التأنيثِ نحو: دَعْوى وصَرْعى. وأمَّا عدمُ تنوين «عَلْقَى» فلأنَّه سَمَّى بها شيئاً بعينِه [
474
وألفُ الإِلحاقِ المقصورةُ حالَ العلميَّة تَجْري مَجْرى تاءِ التأنيث فيمتنعُ الاسمُ الذي هي فيه، كما تمتنعُ فاطمة. وتَنْصَرِفُ قائمة].
475
قوله: ﴿ظَاهِرِينَ﴾ : حالٌ من الضميرِ في «لكم»، والعاملُ فيها وفي «اليومَ» ما تَعَلَّقَ به «لكم».
قوله: «ما أُرِيْكُمْ» هي مِنْ رؤيةِ الاعتقادِ، فتتعدَّى لمفعولَيْن، ثانيهما ﴿إِلاَّ مَآ أرى﴾.
قوله: «الرَّشادِ» العامَّةُ على تخفيفِ الشينِ مصدرَ رشَدَ يَرْشُدُ. وقرأ معاذ بن جبل بتشديدِها، وخَرَّجها أبو الفتح وغيرُه على أنه صفةُ مبالغةٍ نحو: ضَرَب فهو ضرَّاب، وقد قال النحاس: «هو لحنٌ، وتَوَهَّمه من الرباعي» يعني أَرْشد. ورُدَّ على النحاس قولُه: بأنه يُحْتمل أَنْ يكونَ مِنْ رَشَدَ الثلاثي، وهو الظاهرُ. وقد جاء فَعَّال أيضاً مِنْ أَفْعَل وإنْ كان لا يَنْقاسُ. قالوا: أَدْرَك فهو دَرَّاك وأَجْبَرَ فهو جَبَّار، وأَقْصَر فهو قَصَّار، وأَسْأَر فهو سَآَّر، ويَدُلُّ على أنه صفةُ مبالغةٍ أنَّ معاذاً كان يُفَسِّرها بسبيل الله.
قال ابنُ عطية: «ويَبْعُدُ عندي على معاذ - رضي الله عنه - وهل كان فرعونُ يَدَّعي إلاَّ الإِلهيَّة؟ ويَقْلَقُ بناءُ اللفظِ على هذا التركيبِ». قلت: يعني
475
ابنُ عطية أنه كيف يقول فرعونُ ذلك، فيُقِرُّ بأنَّ ثَمَّ مَنْ يهدي إلى الرشادِ غيرُه، مع أنه يَدَّعي أنه إلهٌ؟ وهذا الذي عَزاه ابنُ عطية والزمخشري وابن جُبارة صاحب «الكامل» إلى معاذ بن جبل من القراءة المذكورة ليس في «الرشاد» الذي هو في كلامِ فرعونَ كما توهَّموا، وإنما هو في «الرشاد» الثاني الذي مِنْ قول المؤمنِ بعد ذلك. ويَدُلُّ على ذلك ما قاله أبو الفضل الرازي في كتابه «اللوامح» :«معاذ بن جبل» سبيل الرشاد «، الحرف الثاني بالتشديد، وكذلك الحسنُ، وهو سبيلُ اللَّهِ تعالى الذي أوضحه لعبادِه، كذلك فسَّره معاذ، وهو منقولٌ مِنْ مُرْشِد كدَرَّاك مِنْ مُدْرِك وجَبَّار مِنْ مُجْبر، وقَصَّار مِنْ مُقْصِر عن الأمر، ولها نظائرُ معدودةٌ. فأمَّا» قَصَّار الثوب «مِنْ قَصَر الثوبَ قِصارةً» فعلى هذا يزولُ إشكالُ ابنِ عطية المتقدمُ، وتتضح القراءةُ والتفسيرُ.
وقال أبو البقاء: «وهو الذي يَكْثُر منه الإِرشادُ أو الرُّشْدُ» يعني يُحْتمل أنه مِنْ أرشدَ الرباعيِّ أو رَشَد الثلاثي. والأَوْلَى أَنْ يكونَ من الثلاثيِّ لِما عَرَفْتَ أنه يَنْقاسُ دونَ الأول.
476
قوله: ﴿مِثْلَ دَأْبِ﴾ :«مثل» يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً، وأَنْ يكون عطفَ بيانٍ.
قوله: ﴿يَوْمَ التناد﴾ : قد تقدَّم الخلافُ/ في يائِه:
476
كيف تُحذف وتُثْبَت؟ وهو مصدرُ «تَنادَى» نحو: تقاتَلَ تقاتُلاً. والأصلُ: تَنادُياً بضم الدالِ ولكنهم كسروها لتصِحَّ الياءُ. وقرأت طائفةٌ بسكون الدالِ إجراءً للوصل مُجْرى الوقفِ. وتنادَى القومُ أي: نادى بعضُهم بعضاً. قال:
٣٩٣٠ - تنادَوْا فقالوا أَرْدَتِ الخيلُ فارساً... فقُلْنا: عُبَيْدُ الله ذلكمُ الرَّدِي
وقال آخر:
٣٩٢٨ - إنَّ الأمورَ إذا الأحداثُ دَبَّرها دون الشيوخِ ترى في بعضِها خَلَلا
٣٩٣١ - تنادَوْا بالرحيلِ غَداً وفي تَرْحالِهم نَفْسي
وقرأ ابن عباس والضحاك والكلبي وأبو صالح وابن مقسم والزعفراني في آخرين بتشديدِها، مصدرُ «تَنادَّ» مِنْ نَدَّ البعيرُ إذا هَرَبَ ونَفَرَ، وهو في معنى قولِه تعالى: ﴿يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس: ٣٤] الآية. وفي الحديث: «إن للناسِ جَوْلةً يندُّون، يظنُّون أنهم يَجِدُون مهرباً» وقال أمية بن أبي الصلت:
477
قوله: ﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من «يوم التَّناد»، وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ أعني. ولا يجوزُ أَنْ يُعْطَفَ عطفَ بيان لأنه نكرةٌ، وما قبله معرفةٌ. وقد تقدَّم لك في قوله: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: ٩٧] أنَّ الزمخشريَّ جعله بياناً مع تخالُفِهما تعريفاً وتنكيراً، وهو عكسُ ما نحن فيه، فإن الذي نحن فيه الثاني نكرةٌ، والأولُ معرفةٌ.
قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ﴾ يجوزُ في «مِنْ عاصِمٍ» أَنْ يكونَ فاعلاً بالجارِّ لاعتمادِه على النفي، وأَنْ يكون مبتدأ، و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا التقديرَيْن. و «من الله» متعلقٌ ب «عاصِم».
قوله: ﴿حتى إِذَا﴾ : غايةٌ لقولِه: «فما زِلْتُمْ». وقُرئ ﴿ألَن يَبْعَثَ الله﴾ بإدخالِ همزةِ التقرير، يُقرِّر بعضُهم بعضاً.
قوله: «كذلك» أي: الأمر كذلك. «ويُضِلُّ الله» مستأنفٌ أو نعتُ مصدرٍ أي: مثلَ إضلالِ اللَّهِ إياكم - حين لم يَقْبَلوا مِنْ يوسفَ عليه السلام - يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هو مُسْرِفٌ.
قوله: ﴿الذين يُجَادِلُونَ﴾ يجوز فيه عشرةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ قولِه: ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾ وإنما جُمِع اعتباراً بمعنى «مَنْ». الثاني: أَنْ يكونَ بياناً له. الثالث: أَنْ يكونَ صفةً له. وجُمِع على معنى «مَنْ» أيضاً. الرابع: أَنْ ينتصِبَ بإضمار أعني. الخامس: أَنْ يرتفعَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هم الذين. السادس: أَنْ يرتفعَ مبتدأً، خبرُه «يَطْبَعُ اللَّهُ». و «كذلك» خبرُ مبتدأ مضمرٍ أيضاً، أي: الأمرُ كذلك. والعائدُ من الجملةِ وهي «يَطْبَعُ» على
478
المبتدأ محذوفٌ، أي: على كلِّ قلبِ متكبِّرٍ منهم. السابع: أنْ يكونَ مبتدأً، والخبر «كَبُرَ مَقْتاً»، ولكنْ لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضاف ليعودَ الضميرُ مِنْ «كَبُرَ» عليه. والتقديرُ: حالُ الذين يُجادلون كَبُرَ مَقتاً ويكون «مَقْتاً» تمييزاً، وهو مَنْقولٌ مِنَ الفاعليةِ إذ التقديرُ: كَبُرَ مَقْتُ حالِهم أي: حالِ المجادلين. الثامن: أَنْ يكونَ «الذين» مبتدأً أيضاً، ولكن لا يُقَدَّرُ حَذْفُ مضافٍ، ويكونُ فاعلُ «كَبُرَ» ضميراً عائداً على جدالِهم المفهومِ من قوله: «ما يُجادِلُ». والتقدير: كَبُرَ جِدالُهم مَقْتاً. و «مَقْتاً» على ما تقدَّمَ أي: كَبُرَ مَقْتُ جدالِهم. التاسع: أَنْ يكونَ «الذين» مبتدأً أيضاً، والخبرُ ﴿بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾. قاله الزمخشري: ورَدَّه الشيخ: بأنَّ فيه تفكيكَ الكلامِ بعضِه من بعضٍ؛ لأنَّ الظاهرَ تعلُّقُ «بغير سُلْطان» ب «يُجادلون»، ولا يُتَعَقَّلُ جَعْلُه خبراً ل الذين لأنه جارٌّ ومجرورٌ، فيصيرُ التقديرُ: الذين يُجادلون كائنون أو مستقرون بغيرِ سلطان، أي: في غير سلطان؛ لأنَّ الباءَ إذ ذاك ظرفيةٌ خبرٌ عن الجُثَث. العاشر: أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ أي: مُعانِدون ونحوه، قاله أبو البقاء.
قوله: «كَبُرَ مَقْتاً» يُحْتمل أَنْ يُرادَ به التعجبُ والاستعظامُ، وأَنْ يُرادَ به الذمُّ كبِئْس؛ وذلك أنه يجوزُ أَنْ يُبْنَى فَعُل بضمِّ العَيْن مِمَّا يجوزُ التعجُّبُ منه، ويَجْري مَجْرى نِعْم وبئس في جميعِ الأحكامِ. وفي فاعلِه ستةُ أوجهٍ، الأول: أنه ضميرٌ عائدٌ على حالِ المضافِ إلى الذين، كما تقدَّم تقريرُه. / الثاني: أنه ضميرٌ يعودُ على جدالِهم المفهوم مِنْ «يُجادلون» كما تقدَّم أيضاً. الثالث: أنه الكافُ في «كذلك». قال الزمخشري: «وفاعلُ» كَبُرَ «قولُه:» كذلك «أي:
479
كَبُرَ مَقْتاً مثلُ ذلك الجدالِ، ويَطْبع اللَّهُ كلامٌ مستأنفٌ» ورَدَّه الشيخُ: بأنَّ فيه تَفْكيكاً للكلامِ وارتكابَ مذهبٍ ليس بصحيحٍ. أمَّا التفكيكُ فلأنَّ ما جاء في القرآن مِنْ «كذلك نَطْبَعُ» أو «يَطْبع» إنما جاء مربوطاً بعضُه ببعض فكذلك هذا، وأمَّا ارتكابُ مذهبٍ غيرِ صحيح فإنه جَعَل الكافَ اسماً ولا تكونُ اسماً إلاَّ في ضرورةٍ، خلافاً للأخفش.
الرابع: أنَّ الفاعلَ محذوفٌ، نقله الزمخشري. قال: «ومَنْ قال: كَبُرَ مَقْتاً عند الله جِدالُهم، فقد حَذَفَ الفاعلَ، والفاعلُ لا يصِحُّ حَذْفُه». قلت: القائلُ بذلك الحوفيُّ، لكنه لا يريدُ بذلك تفسيرَ الإِعراب، إنما يريدُ به تفسيرَ المعنى، وهو معنى ما قَدَّمْتُه مِنْ أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على جدالِهم المفهومِ مِنْ فعلِه، فصَرَّح الحوفيُّ بالأصلِ، وهو الاسمُ الظاهرُ، ومرادُه ضميرٌ يعودُ عليه.
الخامس: أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على ما بعدَه، وهو التمييزُ نحو: «نِعْمَ رَجُلاً زيدٌ»، و «بئس غلاماً عمروٌ». السادس: أنه ضميرٌ يعودُ على «مَنْ» مِنْ قولِه: ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ﴾. وأعاد الضميرَ مِنْ «كَبُرَ» مفرداً اعتباراً بلفظِها، وحينئذٍ يكونُ قد راعَى لفظَ «مَنْ» أولاً في ﴿مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾، ثم معناها ثانياً في قوله: ﴿الذين يُجَادِلُونَ﴾ إلى آخره، ثم لفظَها ثالثاً في قوله: «كَبُر». وهذا كلُّه إذا أَعْرَبْتَ «الذين» تابعاً لمَنْ هو مُسْرِفٌ نعتاً أو بياناً أو بدلاً.
وقد عَرَفْتَ أن الجملةَ مِنْ قولِه: «كَبُرَ مَقْتاً» فيها وجهان، أحدهما: الرفعُ إذا جَعلْناها خبراً لمبتدأ. والثاني: أنها لا محلَّ لها إذا لم تجْعَلْها خبراً. بل هي
480
جملةٌ استِئْنافية. وقوله: «عندَ الله» متعلقٌ ب «كَبُرَ»، وكذلك قد تقدَّم أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، وأنْ يكونَ فاعلاً وهما ضعيفان. والثالث - وهو الصحيحُ - أنه معمولٌ ل «يَطْبَعُ» أي: مثلَ ذلك الطَّبْعِ يطبعُ اللَّهُ. و «يطبعُ اللَّهُ» فيه وجهان، أظهرُهما: أنه مستأنفٌ. والثاني: أنه خبرٌ للموصولِ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك كلِّه.
قوله: «قَلْبِ متكبِّرٍ» قرأ أبو عمروٍ وابن ذكوان بتنوين «قلب»، وَصَفا القلبَ بالتكبُّر والجَبَروتِ؛ لأنهما ناشئان منه، وإنْ كان المرادُ الجملةَ، كما وُصِف بالإِثمِ في قوله: ﴿فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣]. والباقون بإضافة «قلب» إلى ما بعدَه أي: على كلِّ قَلْبِ شخصٍ متكبِّرٍ. وقد قَدَّرَ الزمخشريُّ مضافاً في القراءةِ الأولى أي: على كلِّ ذي قلب متكبر، تجعلُ الصفةَ لصاحبِ القلب. قال الشيخ: «ولا ضرورةَ تَدْعو إلى اعتقادِ الحذفِ». قلت: بل ثَمَّ ضرورةٌ إلى ذلك وهو توافُقُ القراءَتَيْن، فإنه يَصيرُ الموصوفُ في القراءتَيْن واحداً، وهو صاحبُ القلب، بخلافِ عَدَم التقديرِ، فإنه يَصيرُ الموصوفُ في إحداهما القلبَ وفي الأخرى صاحبَه.
481
قوله: ﴿أَسْبَابَ السماوات﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه تابعٌ للأسبابِ قبله بدلاً أو عطفَ بيان. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار أَعْني، والأولُ أَوْلَى؛ إذ الأصلُ عدمُ الإِضمارِ.
481
قوله: «فَأَطَّلِعَ» العامَّةُ على رفعِه عَطْفاً على «أَبْلُغُ» فهو داخِلٌ في حَيِّزِ الترجِّي. وقرأ حفصٌ في آخرين بنصبِه. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه جوابُ الأمرِ في قولِه: «ابْنِ لي» فنُصِبَ بأَنْ مضمرةً بعد الفاءِ في جوابِه على قاعدة البصريين كقولِه:
٣٩٣٢ - وبَثَّ الخَلْقَ فيها إذ دَحاها فهُمْ سُكَّانُها حتى التنادي
٣٩٣٣ - يا ناقُ سِيْري عَنَقاً فَسِيحا إلى سليمانَ فَنَسْتريحا/
وهذا أَوْفَقُ لمذهب البصريين. الثاني: أنه منصوبٌ. قال الشيخ: «عَطْفاً على التوهُّمِ لأنَّ خبر» لعلَّ «كثيراً جاء مَقْروناً ب» أن «، كثيراً في النظمِ وقليلاً في النثر. فمَنْ نَصَبَ تَوَهَّم أنَّ الفعلَ المرفوعَ الواقعَ خبراً منصوبٌ ب» أنْ «، والعطفُ على التوهُّمِ كثيرٌ، وإنْ كان لا ينقاسُ» انتهى. الثالث: أن يَنْتَصِبَ على جوابِ الترجِّي في «لعلَّ»، وهو مذهبٌ كوفي استشهد أصحابُه بهذه القراءةِ وبقراءة عاصم ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ﴾ [عبس: ٣-٤] بنصب «فتنفَعَه» جواباً لِقوله: «لعلَّه». وإلى هذا نحا الزمخشري قال: «تشبيهاً للترجِّي بالتمني» والبصريُّون يأبَوْن ذلك، ويُخَرِّجُون القراءتَيْنِ على ما تقدَّم.
482
وفي سورة عبس يجوز أن [يكون] جواباً للاستفهام في قولِه: «وما يُدْريك» فإنه مترتبٌ عليه معنىً. وقال ابن عطية وابن جُبارة الهُذلي: «على جواب التمني» وفيه نظرٌ؛ إذ ليس في اللفظِ تَمَنٍّ، إنَّما فيه تَرَجٍّ. وقد فَرَّقَ الناسُ بين التمني والترجِّي: بأنَّ الترجِّيَ لا يكونُ إلاَّ في الممكنِ عكسَ التمني، فإنه يكونُ فيه وفي المستحيلِ كقولِه:
٣٩٣٤ - لَيْتَ الشبابَ هو الرَّجيعُ على الفتى والشيبُ كان هو البَدِئُ الأولُ
وقُرِئ «زَيَّنَ لفرعونَ» مبنياً للفاعلِ وهو الشيطانُ. وتقدَّم الخلافُ في ﴿وَصُدَّ عَنِ السبيل﴾ في الرعد فمَنْ بناه للفاعلِ حَذَفَ المفعولَ أي: صَدَّ قومَه عن السبيلِ. وابنُ وثَّاب «وصِدَّ» بكسرِ الصادِ، كأنه نَقَل حركةَ الدالِ الأولى إلى فاءِ الكلمة بعد توهُّمِ سَلْبِ حركتِها. وقد تقدَّم ذلك في نحو «رِدَّ» وأنه يجوزُ فيه ثلاثُ اللغاتِ الجائزةِ في قيل وبِيع. وابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة «وصَدٌّ» بفتح الصادِ ورفع الدالِ منونةً جعله مصدراً منسوقاً على «سوءُ عملِه» أي: زَيَّن له الشيطانُ سوءَ العملِ والصدَّ. والتَّباب: الخَسارُ. وقد تقدَّم ذلك في قوله: ﴿غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ [هود: ١٠١]. وتقدَّم الخِلافُ أيضاً في
483
قوله: ﴿يَدْخُلُونَ الجنة﴾ في سورة النساء [الآية: ٤٠].
484
قوله: ﴿وياقوم﴾ : قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ولِمَ جاء بالواوِ في النداء الثالثِ دونَ الثاني؟ قلت: لأنَّ الثاني داخلٌ في كلامٍ هو بيانٌ للمُجْمَلِ وتفسيرٌ له، فأُعْطِي الداخلُ عليه حكمَه في امتناعِ دخولِ الواو. وأما الثالثُ فداخِلٌ على كلامٍ ليس بتلك المَثابةِ».
قوله: ﴿وتدعونني إِلَى النار﴾ هذه الجملةُ مستأنفةٌ أخبر عنهم بذلك بعد استفهامِه عن دعاءِ نفسِه. ويجوز أن يكونَ التقديرُ: وما لكم تَدْعُونني إلى النارِ، وهو الظاهرُ. ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً أي: ما لكم أدعوكم إلى النجاةِ حالَ دعائِكم إياي إلى النار؟
قوله: ﴿تَدْعُونَنِي﴾ : هذه الجملةٌ بدلٌ مِنْ «تَدْعونني» الأولى على جهةِ البيان لها، وأتى في قولِه «تَدْعُونني» بجملةٍ فعليةٍ ليدُلَّ على أنَّ دعوتَهم باطلةٌ لا ثبوتَ لها، وفي قوله: «وأنا أَدْعوكم» بجملة اسميةٍ ليدُلَّ على ثبوتِ دعوتِه وتقويتِها.
وقد تقدَّم الخلافُ في ﴿لاَ جَرَمَ﴾ [غافر: ٤٣]. وقال الزمخشري هنا: ورُوي عن العرب «لا جُرْمَ أنه يفعل كذا» بضم الجيم وسكونِ الراء بمعنى لا بُدَّ، وفُعْل وفَعَل أخَوان كرُشْد ورَشَد وعُدْم وعَدَم «.
قوله: ﴿وَأُفَوِّضُ﴾ : هذه مستأنفةٌ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعل «أَقول».
قوله: ﴿النار﴾ : الجمهورُ على رفعِها. وفيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أنه بدلٌ مِنْ «سوءُ العذاب». الثاني: أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: هو أي سوءُ العذابِ النارُ؛ لأنه جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ و «يُعْرَضُون» على هذين الوجهين: يجوز أَنْ يكون حالاً من «النار» ويجوز أن يكونَ حالاً من «آل فرعون». الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبرُه «يُعْرَضون». وقُرئ «النارَ» منصوباً. وفيه وجهان، أحدهما: أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره «يُعْرَضون» من حيث المعنى أي: يَصْلَوْن النارَ يُعْرَضون عليها، كقوله: ﴿والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ﴾ [الإنسان: ٣١]. والثاني: أَنْ ينتصبَ على الاختصاص. قاله الزمخشري، فعلى الأولِ لا مَحَلَّ ل «يُعْرَضُون» لكونِه مفسِّراً، وعلى الثاني هو حالٌ كما تقدَّمَ.
قوله: «ويومَ تقومُ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرها: أنه معمولٌ لقولٍ مضمرٍ، وذلك القولُ المضمرُ محكيٌّ به الجملةُ الأمريَّةُ من قوله «أدخِلوا» والتقدير: ويُقال له/ يومَ تقومُ الساعةُ: أدْخِلوا. الثاني: أنه منصوبٌ بأَدخِلوا أي: أدْخِلوا يومَ تقومُ. وعلى هذين الوجهين فالوقفُ تامٌّ على قوله «وعَشِيَّاً». والثالث: أنه معطوفٌ على الظرفَيْن قبلَه، فيكونُ معمولاً ل «يُعْرَضُون». فالوقفُ على هذا على قولِه «الساعة» و «أَدْخِلوا» معمولٌ لقولٍ مضمرٍ أي: يُقال لهم كذا وكذا.
485
وقرأ الكسائي وحمزة ونافع وحفص «أدْخِلُوا» بقطع الهمزةِ أمراً مِنْ أَدْخَلَ، فآلَ فرعون مفعولٌ أولُ، و «أشدَّ العذاب» مفعولٌ ثانٍ. والباقون «ادْخُلوا» بهمزةِ وصلٍ مِنْ دَخَلَ يَدْخُلُ. فآلَ فرعونَ منادى حُذِف حرفُ النداءِ منه، و «أشدَّ» منصوبٌ به: إمَّا ظرفاً، وإمّا مفعولاً به، أي: ادخلوا يا آل فرعونَ في أشدِّ العذاب.
486
قوله: ﴿وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ﴾ : في العاملِ في «إذ» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه معطوفٌ على «غُدُوَّاً» فيكونُ معمولاً ل «يُعْرَضون» أي: يُعْرَضُونَ على النار في هذه الأوقاتِ كلِّها، قاله أبو البقاء. والثاني: أنه معطوفٌ على قولِه ﴿إِذِ القلوب لَدَى الحناجر﴾ [غافر: ١٨] قاله الطبري. وفيه نظرٌ لبُعْدِ ما بينهما، ولأنَّ الظاهرَ عَوْدُ الضميرِ مِنْ «يَتَحاجُّون» على آل فرعون. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمارِ «اذْكُرْ» وهو واضحٌ.
قوله: «تَبَعاً» فيه ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه اسمُ جمعٍ لتابعٍ، ونحوه: خادِم وخَدَم، وغائِب، وغَيَبَ، وأَديم وأَدَم. والثاني: أنه مصدرٌ واقع موقعَ اسمِ الفاعلِ أي: تابِعين. والثالث: أنه مصدرٌ أيضاً، ولكنْ على حَذْفِ مضاف أي: ذوي تَبَع.
قوله: «نصيباً» فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ ينتصبَ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُّ عليه
486
قولُه «مُغْنُون» تقديرُه: «هل أنتم دافِعون عنا نصيباً. الثاني: أَنْ يُضمَّنَ» مُغْنون «معنى حامِلين. الثالث: أَنْ ينتصبَ على المصدرِ. قال أبو البقاء:» كما كان «شيءٌ» كذلك، ألا ترى إلى قولِه ﴿لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً﴾ [آل عمران: ١١٦] ف «شيْئاً» في موضعِ غَناء، فكذلك «نصيباً». و «من النار» صفةٌ ل «نَصيباً».
487
قوله: ﴿إِنَّا كُلٌّ﴾ : العامَّةُ على رفع «كلٌ»، ورفعُه على الابتداء و «فيها» خبرُه، والجملةُ خبرُ «إنَّ»، وهذا كقولِه في آل عمران: ﴿قُلْ إِنَّ الأمر كُلُّهُ للَّهِ﴾ في قراءة أبي عمروٍ. وقرأ ابن السَّمَيْفع وعيسى بن عمر بالنصب وفيه ثلاثة أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ تأكيداً لاسم «إنَّ». قال الزمخشري: «توكيدٌ لاسم إنَّ، وهو معرفةٌ. والتنوينٌ عوضٌ من المضافِ إليه، يريد: إنَّا كلَّنا فيها» انتهى. يعني فيكون «فيها» هو الخبر. وإلى كونِه تأكيداً ذهب ابنُ عطية أيضاً. وقد رَدَّ ابن مالكٍ هذا المذهبَ فقال في «تسهيله» :«ولا يُستغنى بنية إضافتِه خلافاً للزمخشري» : قلت: وليس هذا مذهباً للزمخشري وحدَه بل هو منقول عن الكوفيين أيضاً. الثاني: أَنْ تكونَ
487
منصوبةً على الحال، قال ابن مالك: «والقولُ المَرْضِيُّ عندي أنَّ» كلاً «في القراءة المذكورة منصوبةٌ على الحال من الضمير المرفوع في» فيها «، و» فيها «هو العاملُ وقد قُدِّمَتْ عليه مع عَدَمِ تصرُّفه، كما قُدِّمَتْ في قراءةِ مَنْ قرأ: ﴿والسماوات مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ﴾. وكقولِ النابغة:
٣٩٣٥ - رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحقِبيْ أَدْراعِهم فيهمْ ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذار
وقول بعض الطائيين:
٣٩٣٦ - دعا فَأَجَبْنَا وَهْو بادِيَ ذلَّةٍ لديكمْ وكان النصرُ غيرَ بعيدِ
يعني بنصب»
باديَ «وهذا هو مذهبُ الأخفش، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ مَنَعَ مِنْ ذلك قال:» فإنْ قلتَ: هل يجوزُ أَنْ يكونَ «كلاًّ» حالاً قد عَمِل فيه «فيها» ؟ قلت: لا؛ لأنَّ الظرفَ لا يعملُ في الحال متقدمةً كما يعملُ في الظرفِ متقدِّماً. تقول: كلَّ يوم لك ثوبٌ. ولا تقول: قائماً في الدار زيد «. قال الشيخ:» وهذا الذي منعه أجازه الأخفشُ إذا توسَّطَتِ الحالُ نحو: «زيدٌ قائماً
488
في الدار» و «زيدٌ قائماً عندك»، والمثالُ الذي ذكره ليس مطابقاً لِما في الآية؛ لأنَّ الآيةَ تَقَدَّمَ فيها المسندُ إليه الحكمُ وهو اسمُ إنَّ، وتوسَّطَتِ الحالُ إذا قلنا إنها حالٌ، وتأخَّر العاملُ فيها. وأمَّا تمثيلُه بقولِه: ولا تقولُ: «قائماً في الدار زيد»، فقد تأخَّر فيه المسندُ والمسندُ إليه. وقد ذكر بعضُهم أنَّ المنعَ في ذلك إجْماعٌ من النحاة «.
قلت: الزمخشريُّ مَنْعُه صحيحٌ لأنه ماشٍ على مذهبِ الجمهور، وأمَّا تمثيلُه بما ذَكَر فلا يَضُرُّه لأنه في محلِّ المَنْعِ، فعدمُ تجويزِه صحيحٌ.
الثالث أنَّ»
كلاً «بدلٌ مِنْ» ن «في» إنَّا «، لأَنَّ» كلاً «قد وَلِيَتْ العوامِل/ فكأنه قيل: إنَّ كلاً فيها.
وإذا كانوا قد تأوَّلوا قولَه:
٢٩٣٧ -.................... حَوْلاً أَكْتعاً... [وقوله:].
489
وأَحْرى. وأيضاً فإنَّ المشهورَ تعريفُ «كل» حالَ قَطْعها. حُكي في الكثير الفاشي: «مررتُ بكلٍ قائماً وببعض جالساً»، وعزاه بعضُهم لسيبويه. وتنكيرُ «كل» ونصبها حالاً في غايةِ الشذوذ نحو: «مررت بهم كلاً» أي: جميعاً. فإن قيل: فيه بدلُ الكل من الكل في ضمير الحاضر، وهو لا يجوز. أجيب بوجهين، أحدهما: أن الكوفيين والأخفشَ يَرَوْن ذلك، وأنشدوا قولَه:
٢٩٣٨ -...................... وحَوْلاً أَجْمعا على البدلِ مع عدم تصرُّفِ أكتع وأَجْمع فلأَنْ يجوزَ ذلك في «كل» أَوْلَى
٣٩٣٩ - أنا سيفُ العشيرةِ فاعْرِفوني حُمَيْداً قد تَذَّرَّيْتُ السَّناما
فحُميداً بدل من ياء «اعرِفوني»، وقد تأوَّلَه البصريون على نصبه على الاختصاص. والثاني: أن هذا الذي نحن فيه ليس محلَّ الخلافِ لأنه دالٌّ على الإِحاطة والشمول. وقد قالوا: إنه متى كان البدل دالاًّ على ذلك جاز، وأنشدوا:
٣٩٤٠ - فما بَرِحَتْ أقدامنا في مكانِنا ثلاثتِنا حتى أُزِيْرُوا المنَائيا
ومثلُه قولُه تعالى: ﴿تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا﴾ [المائدة: ١١٤]، قالوا «ثلاثتنا» بدلٌ من «ن» في «مكاننا» لدلالتِها على الإِحاطة، وكذلك «لأوَّلنا وآخِرنا» بدلٌ من «ن» في «لنا»، فلأَنْ يجوزَ ذلك في «كل» التي هي أصلٌ في الشمولِ والإِحاطة بطريق الأَوْلَى. هذا كلامُ الشيخِ في الوجه الثالث وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المبردَ
490
ومكيَّاً نَصَّاً على أن البدلَ في هذه الآيةِ لا يجوزُ، فكيف يُدَّعَى أنه لا خِلافَ في البدلِ والحالةُ هذه؟ لا يُقال: إنَّ في الآية قولاً رابعاً: وهو أنَّ «كلاً» نعتٌ لاسم «إنَّ» وقد صَرَّح الكسائيُّ والفراء بذلك فقالا: هو نعتٌ لاسمِ «إنَّ» لأنَّ الكوفيين يُطْلقون اسمَ النعتِ على التأكيدِ، ولا يريدون حقيقةَ النعتِ. وممن نَصَّ على ما قلتُه من التأويلِ المذكورِ مكيٌّ رحمه الله تعالى، ولأنَّ الكسائيَّ إنما جَوَّز نعتَ ضميرِ الغائبِ فقط دونَ المتكلمِ والمخاطبِ.
491
قوله: ﴿يَوْماً مِّنَ العذاب﴾ : في «يوماً» وجهان، أحدهما: أنه ظرفٌ ل «يُخَفِّفْ». ومفعولُ «يُخَفِّفْ» محذوفٌ أي: يُخَفِّف عنا شيئاً من العذاب في يوم. ويجوز على رأي الأخفش أن تكون «مِنْ» مزيدةً، فيكون «العذاب» هو المفعولَ، أي: يُخَفف عنا في يوم العذاب. الثاني: أَنْ يكونَ مفعولاً به، واليوم لا يُخَفَّف، وإنما يُخَفَّفُ مظروفُه فالتقديرُ: يُخَفِّف عذابَ يومٍ. وهو قَلِقٌ لقولِه «من العذاب»، والقولُ بأنَّه صفةٌ مؤكِّدةٌ كالحالِ أقلقُ منه. والظاهرُ أنَّ «مِن العذاب» هو المفعولُ ل «يُخَفِّف»، و «مِنْ» تبعيضيَّةٌ، و «يوماً» ظرفٌ. سألوا أَنْ يخففَ عنهم بعضَ العذابِ لا كلَّه في يومٍ ما، لا في كلِّ يومٍ ولا في يومٍ معين.
قوله: ﴿وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد﴾ : قرأ الجمهور «يقوم» بالياء مِنْ أسفلَ. وأبو عَمْروٍ في روايةِ المنقريِّ عنه وابنُ هرمز وإسماعيل بالتاء مِنْ فوقُ لتأنيثِ الجماعةِ، والأشهادُ يجوزُ أَنْ يكونَ جمعَ شهيد ك شَريف
491
وأَشْراف، وهو مطابِقٌ لقولِه: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ [النساء: ٤١] وأَنْ يكونَ جمعَ شاهِد ك صاحِب وأصحاب، وهو مطابِقٌ لقولِه: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً﴾ [الأحزاب: ٤٥].
492
قوله: ﴿يَوْمَ﴾ : بدلٌ مِنْ «يوم» قبلَه أو بيانٌ له، أو نُصِب بإضمار أَعْني. وقد تقدَّم الخلافُ في قولِه «يَنْفَع الظالمين» بالتاء والياء آخر الروم.
قوله: ﴿هُدًى وذكرى﴾ : فيهما وجهان، أحدهما: أنهما مفعولٌ مِنْ أجلهما أي: لأجلِ الهدى والذَّكْر. والثاني: أنهما مصدران في موضعِ الحالِ.
قوله: ﴿لِذَنبِكَ﴾ : قيل: المصدرُ مضافٌ للمفعولِ أي: لذنب أمَّتِك في حَقِّك. والظاهرُ أنَّ اللَّهَ يقولُ ما أرادَ، وإنْ لم يَجُزْ لنا نحن أَنْ نُضيفَ إليه صلَّى الله عليه وسلَّم ذنباً.
قوله: ﴿لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس﴾ : المصدران مُضافان لمَفْعولِهما. والفاعلُ محذوفٌ وهو اللَّهُ تعالى. ويجوزُ أَنْ يكونَ الثاني مضافاً للفاعلِ أي: أكبرُ ممَّا يَخْلُقُه الناسُ أي: يَصْنَعونه. ويجوزُ أَنْ يكونا مصدرَيْن واقعَيْن موقعَ المخلوقِ أي: مَخلوقُهما أكبرُ مِنْ مَخْلوقهم أي: جُرْمُها أكبرُ مِنْ جُرْمِهم.
قوله: ﴿وَلاَ المسياء﴾ :«لا» زائدةٌ للتوكيدِ لأنه لَمَّا طالَ الكلامُ بالصلة بَعُدَ قَسِيْمُ المؤمنين، فأعاد معه «لا» توكيداً. وإنما قَدَّم
492
المؤمنين لمجاوَرَتهم/ قولَه: «والبصير»، واعلَمْ أنَّ التقابلَ يجيْءُ على ثلاثِ طرقٍ، أحدُها: أَنْ يجاوِرَ المناسبُ ما يناسِبُه كهذه الآيةِ. والثانية: أَنْ يتأخَّرَ المتقابِلان كقولِه تعالى: ﴿مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع﴾ [هود: ٢٤]. والثالثة: أن يُقَدِّمَ مقابلَ الأولِ، ويُؤَخِّرَ مقابلَ الآخر، كقولِه تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور﴾ [فاطر: ١٩] وكلُّ ذلك تَفَنُّنٌ في البلاغة. وقَدَّم الأعمى في نَفْيِ التساوي لمجيئِه بعد صفةِ الذم في قولِه ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
قوله: «تَتَذَكَّرون» قرأ الكوفيون بتاء الخطاب، والباقون بياءِ الغَيْبة. فالخطابُ على الالتفاتِ للمذكورَيْن بعد الإِخبار عنهم، والغيبةُ نظراً لقولِه: ﴿إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ﴾ وهم الذين التفتَ إليهم في قراءةِ الخطاب.
493
قوله: ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ : العامَّةُ على الرفعِ، وزيد بن علي نصبَه، قال الزمخشري: «على الاختصاص». وقرأ طلحة بيَاءِ الغيبة.
قوله: ﴿كَذَلِكَ يُؤْفَكُ﴾ : أي: مثلَ ذلك الإِفك.
قوله: ﴿فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ : قرأ أبو رزين والأعمش: «صِوَرَكم» بكسر الصاد فِراراً من الضمة قبل الواوِ، وقرأَتْ فرقةٌ بضم الصادِ وسكونِ الواو وجَعَلْته اسمَ جنسٍ لصورةٍ كبُسْرٍ وبُسْرَة.
قوله: ﴿الذين كَذَّبُواْ﴾ : يجوز فيه أوجه: أَنْ يكونَ بدلاً من الموصول قبلَه، أو بياناً له، أو نعتاً، أو خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أو منصوباً على الذمِّ. وعلى هذه الأوجهِ فقولُه «فسوف يعلمونَ» جملةٌ مستأنفةٌ سِيقَتْ للتهديدِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً، والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه «فسوف يَعْلَمون» ودخولُ الفاءِ فيه واضحٌ.
قوله: ﴿إِذِ الأغلال﴾ : جَوَّزوا في «إذ» هذه أَنْ تكونَ بمعنى «إذا» لأنَّ العاملَ فيها محقَّقُ الاستقبالِ، وهو «فسوف يَعْلمون»، قالوا: وكما تقع «إذا» موقعَ «إذ» في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا﴾ [الجمعة: ١١] كذلك تقع «إذ» مَوْقِعَها، وقد مضى نحوٌ من هذا في البقرة عند قوله ﴿وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب﴾ [البقرة: ١٦٥]. قالوا: والذي حَسَّن هذا تَيَقَّنَ وقوعَ الفعلِ فأُخْرِجَ في صورةِ الماضي. قلت: ولا حاجةَ إلى إخراجِ «إذ» عن موضوعِها، بل هي باقيةٌ على دلالتِها على المضيِّ، وهي منصوبةٌ بقولِه «فسوفَ يَعْلَمون» نَصْبَ المفعولِ به أي: فسوف يعلمونَ يومَ القيامة وَقْتَ الأغلالِ في أعناقِهم أي: وقتَ سببِ الأغلالِ، وهي المعاصي التي كانوا يَفْعَلونها في الدنيا كأنَّه قيل: سيعرفون وقتَ معاصيهم التي تجعل الأَغلالَ في أعناقِهم. وهو وجهٌ واضحٌ، غايةُ ما فيه التصرُّف في «إذ» بجَعْلِها مفعولاً بها، ولا يَضُرُّ ذلك؛ فإنَّ
494
المُعْرِبين غالِبُ أوقاتِهم يقولون: منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدراً ولا يكون حينئذٍ إلاَّ مفعولاً به لاستحالةِ عملِ المستقبل في الزمنِ الماضي. وجَوَّزوا أَنْ يكونَ منصوباً ب اذْكُرْ مقدَّراً أي: اذكُرْ لهم وقتَ الأغلالِ ليخافوا ويَنْزَجِروا. فهذه ثلاثةُ أوجهٍ، خيرُها أوسطُها.
قوله: «والسَّلاسِلُ» العامَّةُ على رَفْعِها. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه معطوفٌ على الأغلال، وأخبر عن النوعَيْن بالجارِ، فالجارُّ في نية التأخير. والتقديرُ: إذ الأغلالُ والسَّلاسلُ في أعناقِهم. الثاني: أنه مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأولِ عليه. الثالث: أنه مبتدأٌ أيضاً، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه «يُسْحَبُون». ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ يعودُ عليه منها. والتقديرُ: والسَّلاسل يُسْحَبُون بها حُذِفَ لقوةِ الدلالةِ عليه. فَيُسْحَبُون مرفوع المحلِّ على هذا الوجهِ. وأمَّا في الوجهَيْن المتقدِّمين فيجوز فيه النصبُ على الحالِ من الضمير المَنْوِيِّ في الجارِّ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً.
وقرأ ابن مسعود وابنُ عباس وزيد بن علي وابن وثاب والمسيبي في اختيارِه «والسلاسلَ» نَصْباً «يَسْحَبون» بفتح الياءِ مبنياً للفاعلِ، فيكون «السلاسلَ» مفعولاً مقدماً، ويكونُ قد عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسميةٍ. قال ابن عباس في معنى/ هذه القراءة: «إذ كانوا يَجُرُّوْنها، فهو أشدُّ عليهم يُكَلَّفون ذلك، ولا يُطيقونه». وقرأ ابنُ عباس وجماعةٌ «والسلاسلِ» بالجرِّ، «يُسْحَبون» مبنياً للمفعولِ. وفيها ثلاثةُ تأويلاتٍ، أحدُها: الحَمْلُ على المعنى تقديرُه: إذ أعناقُهم في الأغلالِ والسلاسلِ، فلمَّا كان معنى الكلام ذلك حُمِل عليه في العطف. قال الزمخشري: «ووجهُه أنه لو قيل: إذ أعناقُهم
495
في الأغلال، مكانَ قوله: ﴿إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ﴾ لكان صحيحاً مستقيماً، فلمَّا كانتا عبارتين مُعْتَقِبتين حَمَلَ قولَه:» والسلاسل «على العبارةِ الأخرى.
ونظيرُه:
٣٩٤١ - مَشائيمُ ليسوا مُصْلِحين عشيرةً ولا ناعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرابُها
كأنه قيل: بمُصْلحين «وقُرِئ»
بالسلاسِل «. وقال ابن عطية:» تقديرُه: إذ أعناقُهم في الأغلالِ والسلاسِل، فعُطِفَ على المرادِ من الكلام لا على ترتيبِ اللفظِ، إذ ترتيبُه فيه قَلْبٌ وهو على حَدِّ قولِ العرب «أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رأسي». وفي مصحف أُبَيّ ﴿وفي السلاسل يُسْحَبُونَ﴾. قال الشيخ بعد قولِ ابنِ عطيةَ والزمخشريِّ المتقدِّم: «ويُسمَّى هذا العطفَ على التوهُّم، إلاَّ أنَّ تَوَهُّمَ إدخالِ حرفِ الجرِّ على» مُصْلِحين «أقربُ مِنْ تغييرِ تركيب الجملةِ بأَسْرها، والقراءةُ مِنْ تغييرِ تركيبِ الجملةِ السابقة بأَسْرِها. ونظيرُ ذلك قولُه:
496
التقدير: لستَ براءٍ ولا متداركٍ. وهذا الذي قالاه سَبَقهما إليه الفراء فإنه قال:» مَنْ جَرَّ السلاسل حَمَله على المعنى، إذ المعنى: أعناقُهم في الأغلال والسلاسل «.
الوجه الثاني: أنه عطفٌ على»
الحميم «، فقدَّم على المعطوف عليه، وسيأتي تقريرُ هذا. الثالث: أن الجرَّ على تقدير إضمار الخافِضِ، ويؤيِّدُه قراءةُ أُبيّ» وفي السلاسل «وقرأه غيرُه» وبالسلاسل «وإلى هذا نحا الزجَّاج. إلاَّ أنَّ ابنَ الأنباري رَدَّه وقال:» لو قلتَ: «زيد في الدارِ» لم يَحْسُنْ أَنْ تُضْمَر «في» فتقول: «زيدٌ الدارِ» ثم ذكر تأويلَ الفراء. وخَرَّج القراءةَ عليه ثم قال: كما تقول: «خاصَمَ عبدُ الله زيداً العاقلَيْن» بنصب «العاقلين» ورفعِه؛ لأنَّ أحدَهما إذا خاصمه صاحبه، فقد خاصمه الآخرُ. وهذه المسألةُ ليسَتْ جاريةً على أصول البصريين، ونَصُّوا على مَنْعها، وإنما قال بها من الكوفيين ابنُ سعدان. وقال مكيٌّ: «وقد قُرِئَ والسلاسلِ، بالخفضِ على العطف على» الأَعْناق «وهو غَلَط؛ لأنه يَصير: الأغلال في الأعناق وفي السلاسل، ولا معنى للأغلال في السلاسل». قلت: وقوله على العطفِ على «الأعناقِ» ممنوعٌ بل خَفْضُه على ما تقدَّم. وقال أيضاً: «وقيل: هو معطوفٌ على» الحميم «وهو أيضاً لا يجوزُ؛ لأنَّ المعطوفَ المخفوضَ لا يتقدَّم على المعطوفِ عليه، لو قلت:» مررتُ وزيدٍ بعمروٍ «لم يَجُزْ، وفي المرفوع يجوزُ نحو:» قام وزيدٌ عمرو «ويَبْعُد في المنصوب، لا يَحْسُنُ:» رأيتُ وزيداً عمراً «ولم يُجِزْه في المخفوض أحدٌ».
قلت: وظاهرُ كلامِه أنه يجوزُ في المرفوع بعيدٌ، وقد نصُّوا أنه لا يجوزُ
497
إلاَّ ضرورةً بثلاثة شروطٍ: أن لا يقعَ حرفُ العطفِ صدراً، وأَنْ يكونَ العاملُ متصرفاً، وأَنْ لا يكونَ المعطوفُ عليه مجروراً، وأنشدوا:
٣٩٤٢ - أجِدَّكَ لن تَرَى بثُعَيْلِباتٍ ولا بَيْداءَ ناجيةً ذَمُوْلا
ولا متدارِكٍ والليلُ طَفْلٌ ببعضِ نواشِغِ الوادي حُمُوْلا
٣٩٤٣ -........................ عليكِ ورحمةُ اللَّهِ السَّلامُ
إلى غيرِ ذلك من الشواهدِ، مع تَنْصيصِهم على أنه مختصُّ بالضرورة.
والسِّلْسِلَةُ معروفةٌ. قال الراغب «وتَسَلْسَلَ الشيءُ: اضطرَبَ كأنه تُصُوِّرَ منه تَسَلُّلٌ مترددٌ، فتَرَدُّدُ لفظِه تنبيهٌ على تردُّد معناه. وماءٌ سَلسَلٌ متردد في مقرِّه». والسَّحْبُ: الجرّ بعنفٍ، والسَّحابُ من ذلك؛ لأنَّ الريحَ تجرُّه، أو لأنه يجرُّ الماءَ. وسَجَرْتُ التنُّورَ أي: ملأتُه ناراً وهَيَّجْتُها. ومنه البحر المَسْجُور أي: المملوء. وقيل: المضطرِمُ ناراً. قال الشاعر:
٣٩٤٤ - إذا شاءَ طالعَ مَسْجُوْرَةً تَرَى حَوْلَها النَّبْعَ والشَّوْحَطا
فمعنى قولِه تعالى هنا: ﴿ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ﴾ أي: يُوْقَدُ لهم، كقوله: ﴿وَقُودُهَا الناس﴾ [البقرة: ٢٤] والسَّجِيْرُ: الخليلُ الذي يُسْجَرُ في مودَّةِ خليلِه، كقولهم: فلان يحترق في مودةِ فلان.
498
قوله: ﴿تَفْرَحُونَ﴾ :«تَمْرَحون» مِنْ باب التجنيس المحرَّفِ، وهو أن يقعَ الفرقُ بين اللفظَيْنِ بحرفٍ.
قوله: ﴿فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾ : المخصوصُ محذوفٌ أي: جهنم، أو مثواكم، ولم يَقُلْ فبِئْسَ مَدْخَلُ؛ لأنَّ الدخولَ لا يَدوم وإنما يَدُوْمُ الثَّواءُ؛ فلذلك خَصَّه بالذمِّ، وإنْ كان الدخولُ أيضاً مَذْموماً.
قوله: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ : قال الزمخشري: «أصلُه: فإنْ نَرَكَ و» ما «مزيدةٌ لتأكيدِ معنى الشرطِ، ولذلك أُلْحِقَتِ النونُ بالفعل. ألا تراك لا تقول: إنْ تُكْرِمَنّي أُكْرِمْك، ولكنْ إمَّا تُكْرِمَنِّي أكرمْك». قال الشيخ: «وما ذكره مِنْ تلازُمِ النونِ، و» ما «الزائدة ليس مذهبَ سيبويه، إنما هو مذهبُ المبردِ والزجَّاجِ، ونصَّ سيبويه على التخيير». / قلت: وهذه القواعدُ وإنُ تقدَّمَتْ مُسْتَوفاةً، إلاَّ أنِّي أذكُرها لذِكْرِهم إياها، وفي ذلك تنبيهٌ أيضاً وتذكيرٌ بما تقدَّم.
قوله: «فإلينا يُرْجَعُون» ليس جواباً للشرطِ الأولِ، بل جواباً لِما عُطِفَ عليه، وجوابُ الأولِ محذوفٌ. قال الزمخشري: «فإلينا يُرْجَعُون» متعلِّق بقولِه: «نَتَوَفَّيَنَّك» وجوابُ «نُرِيَنَّك» محذوفٌ تقديرُه: فإنْ نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم مِنَ العذابِ وهو القَتْلُ يومَ بدرٍ فذاك، وإنْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبلَ يومِ بَدْرٍ فإلينا
499
يُرْجَعُون فننتقمُ منهم أشدَّ الانتقامَ «. قلت: قد تقدَّمَ مثلُ هذا في سورةِ يونس وبحثُ الشيخِ معه فَلْيُلْتَفَتْ إليه. وقال الشيخ:» وقال بعضُهم: جوابُ «فإمَّا نُرِيَنَّك» محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه أي: فَتَقَرُّ عَيْنك. ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ «فإلينا يُرْجَعُون» جواباً للمعطوفِ عليه والمعطوفِ، لأنَّ تركيبَ «فإمَّا نُرِيَنَّكَ بعضَ الذين نَعِدُهم في حياتك فإلينا يُرْجَعون» ليس بظاهرٍ، وهو يَصِحُّ أَنْ يكونَ جوابَ «أو نَتَوَفَّيَنَّك» أي: فإلينا يُرْجَعُون فننتقمُ منهم ونُعَذِّبُهم لكونِهم لم يَتَّبِعوك. نظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالى: ﴿فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ﴾ [الزخرف: ٤٢] إلاَّ أنه هنا صَرَّح بجوابِ الشرطَيْن «. قلت: وهذا بعينِه هو قولُ الزمخشريِّ.
وقرأ السُّلميُّ ويعقوبُ»
يَرْجَعون «بفتح ياءِ الغَيْبَةِ مبنياً للفاعلِ. وابنُ مصرف ويعقوب أيضاً بفتح تاءِ الخطابِ.
500
قوله: ﴿مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ «منهم» صفةً ل «رُسُلاً»، فيكون «مَنْ قَصَصْنا» فاعِلاً به لاعتمادِه، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً مقدماً، و «مَنْ» مبتدأٌ مؤخر. ثم في الجملة وجهان: الوصفُ ل «رُسُلاً» وهو الظاهرُ والاستئنافُ.
قوله: ﴿مِنْهَا، وَمِنْهَا﴾ :«مِنْ» الأولى يجوزُ أَنْ تكونَ للتبعيضِ، إذ ليس كلُّها تُرْكَبُ، ويجوزُ أَنْ تكونَ لابتداءِ الغايةِ إذ المرادُ
500
بالأنعامِ شيءٌ خاصٌّ، وهي الإِبل. قال الزجَّاج: «لأنه لم يُعْهَدْ للركوبِ غيرُها». وأمَّا الثانيةُ فكالأولى. وقال ابنُ عطية: «هي لبيانِ الجنسِ» قال: «لأنَّ الخيلَ منها ولا تُؤْكَلُ».
501
قوله: ﴿وَعَلَى الفلك﴾ : اخْتِير لفظُ «على» هنا على لفظِ «في» كقولِه: ﴿قُلْنَا احمل فِيهَا﴾ [هود: ٤٠] لمناسبةِ قولِه: «وعليها»، كذا أجابُوا. ويظهر أنَّ «في» هناك أليقُ؛ لأنَّ سفينةَ نوحٍ عليه السلام على ما يقالُ كانَتْ مُطْبِقَةً عليهم، وهي محيطةٌ بهم كالوعاءِ. وأمَّا غيرُها فالاستعلاءُ فيه واضحٌ؛ لأنَّ الناسَ على ظهرِها.
قوله: ﴿فَأَيَّ آيَاتِ الله﴾ : منصوبٌ ب «تُنْكِرون» وقُدِّمَ وجوباً؛ لأنَّ له صَدْرَ الكلامِ. قال مكي: «ولو كان مع الفعلِ هاءٌ لكان الاختيارُ الرفعَ في» أي «بخلافِ ألفِ الاستفهامِ تَدْخُلُ على الاسمِ، وبعدها فعلٌ واقعٌ على ضميرِ الاسمِ، فالاختيارُ النصبُ نحو قولِك: أزيداً ضَرَبْتُه، هذا مذهبُ سيبويهِ فرَّقَ بين الألفِ وبين أيّ» قلت: يعني أنَّك إذا قلتَ: «أيُّهم ضربْتَه» كان الاختيارُ الرفعَ لأنه لا يُحْوِج إلى إضمارٍ، مع أنَّ الاستفهامَ موجودٌ في «أزيداً ضربْتُه» يُختار النصبُ لأجلِ الاستفهامِ فكان مُقْتضاه اختيارَ النصبِ أيضاً، فيما إذا كان الاستفهامُ بنفس الاسمِ. والفرقُ عَسِرٌ. وقال
501
الزمخشري: «فأيَّ آياتِ جاءتْ على اللغةِ المستفيضةِ. وقولك:» فأيةَ آياتِ اللَّهِ «قليلٌ؛ لأنَّ التفرقةَ بين المذكرِ والمؤنثِ في الأسماءِ غير الصفاتِ نحو: حِمار وحِمارة غريبٌ، وهو في» أَيّ «أغربُ لإِبهامِه». قال الشيخ: «ومِنْ قِلَّةِ تأنيثِ» أيّ «قولُه:
٣٩٤٥ - بأيِّ كتابٍ أم بأيةِ سُنَّةٍ ترى حُبَّهم عاراً عليَّ وتَحْسَبُ
قوله:»
وهو في أيّ أغربُ «إنْ عنى» أيًّا «على الإِطلاق فليس بصحيحٍ، لأنَّ المستفيضَ في النداء أَنْ يُؤَنَّثَ في نداء المؤنث كقولِه تعالى: ﴿ياأيتها النفس المطمئنة﴾ [الفجر: ٢٧] ولا نعلَمُ أحداً ذكر تَذْكيرها فيه، فيقولُ: يا أيُّها المرأة، إلاَّ صاحبَ» البديع في النحو «، وإنْ عنى غيرَ المناداةِ فكلامُه صحيحٌ يَقِلُّ تأنيثها في الاستفهامِ وموصولةً وشرطيةً». قلت: وأمَّا إذا وقعَتْ صفةً لنكرةٍ وحالاً لمعرفةٍ، فالذي ينبغي أَنْ يجوزَ الوجهان كالموصولةِ، ويكون التأنيثُ أقلَّ نحو: «مررتُ بامرأةٍ أيةِ امرأة» و «جاءَتْ هندٌ أيةَ امرأةٍ»، وكان ينبغي للشيخِ أن ينبِّهَ على هذين الفرعَيْنِ.
502
قوله: ﴿فَمَآ أغنى عَنْهُم﴾ : يجوزُ في ما أَنْ تكونَ نافيةً، واستفهاميةً بمعنى النفي، ولا حاجةَ إليه.
502
قوله: «ما كانوا» يجوزُ أَنْ تكونَ «ما» مصدريةً، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي، فلا عائدَ على الأولِ، وعلى الثاني هو محذوفٌ أي: يَكْسِبونه، وهي فاعلٌ ب «أَغْنَى» على التقديرَيْن.
503
قوله: ﴿بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم﴾ : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه تهكُّمٌ بهم. والمعنى: ليس عندهم علمٌ. الثاني: أنَّ ذلك جاء على زَعْمِهم أنَّ عندهم عِلْماً يَنْتَفعون به. الثالث: أنَّ «مِنْ» بمعنى بَدَل أي: بما عندهم من الدنيا بدلَ العلمِ. وعلى هذه الأوجه فالضميران للكفارِ. الرابع: / أَنْ يكونَ الضَميران للرسل أي: فَرِحَ الرسُل بما عندهم من العلم. الخامس: أنَّ الأولَ للكفارِ، والثاني للرسل، ومعناه: فَرِحَ الكفارُ فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاءٍ بما عند الرسُلِ مِن العلمِ، إذ لم يَأْخُذوه بقَبولٍ ويمتثِلوا أوامرَ الوحيِ ونواهيه. وقال الزمخشري: «ومنها - أي من الوجوه - أَنْ يُوْضَعَ قولُه: ﴿فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم﴾ مبالغةً في نَفْيِ فَرَحِهم بالوحيِ الموجِبِ لأَقْصى الفرحِ والمَسَرَّةِ مع تهكُّمٍ بفَرْطِ خُلُوِّهم من العلم وجَهْلِهم». قال الشيخ: «ولا يُعَبَّرُ بالجملةِ الظاهرِ كونُها مُثْبتةً عن الجملةِ المنفيةِ، إلاَّ في قليلٍ من الكلام نحو:» شَرٌّ أهرَّ ذا نابٍ «، على خلافٍ فيه، ولما آلَ أمرُه إلى الإِثباتِ المحصورِ جازَ. وأمَّا في الآيةِ فينبغي أَنْ لا يُحْمَلَ على القليلِ؛ لأن في ذلك تَخْليطاً لمعاني الجملِ المتباينةِ.
قوله: ﴿فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ﴾ : يجوزُ رفعُ «
503
إيمانُهم» اسماً ل «كان»، و «يَنْفَعُهم» جملةٌ خبراً مقدماً، ويجوزُ أَنْ يرتفعَ بأنه فاعلُ «يَنْفَعُهم»، وفي «كان» ضمير الشأن. وقد تقدَّم لك هذا مُحَقَّقاً عند قولِه: ﴿مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ﴾ [الأعراف: ١٣٧] وأنه لا يكونُ من بابِ التنازع فعليك بالالتفاتِ إليه، ودَخل حرفُ النفي على الكونِ لا على النفيِ؛ لأنه بمعنًى لا يَصِحُّ ولا ينبغي، كقوله: ﴿مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ﴾ [مريم: ٣٥].
قوله: «سُنَّةَ اللَّهِ» يجوزُ انتصابُها على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمونِ الجملةِ، يعني: أنَّ الذي فَعَلَ اللَّهُ بهم سُنَّةٌ سابقةٌ من الله. ويجوزُ انتصابُها على التحذيرِ أي: احذروا سنةَ اللَّهِ في المكذِّبين التي قد خَلَتْ في عبادِه. و «هنالك» في الأصل مكان. قيل: واسْتُعير هنا للزمانِ، ولا حاجةَ له، فالمكانيَّةُ فيه ظاهرةٌ.
504
Icon