تفسير سورة غافر

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة غافر من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية قال الحسن : إلا قوله :﴿ وسبح بحمد ربك ﴾ لأن الصلوات نزلت بالمدينة، وقد قيل في الحواميم : أنها كلها مكية عن ابن عباس وابن الحنفية، وتسمى : سورة الطول وسورة غافر وهي : خمس وقيل : اثنتان وثمانون آية وألف ومائة وتسع وتسعون كلمة وأربع آلاف وتسعمائة وستون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الملك الأعظم الذي يعطي كلاً من عباده ما يستحقه فلا يقدر أحد أن يناقض في شيء من ذلك ولا يعارض. ﴿ الرحمان ﴾ الذي عمهم برحمته في الدنيا بالخلق والرزق والبيان الذي لا خفاء معه. ﴿ الرحيم ﴾ الذي يخص برحمته من يشاء من عباده فيجعله حكيماً وفي ملك الأرض وملكوت السماوات عليماً.

وقوله تعالى :﴿ حم ﴾ قرأه ابن ذكوان وشعبة وحمزة والكسائي بإمالة الحاء محضة، وورش وأبو عمرو بين بين والباقون بالفتح وقد سبق الكلام في حروف التهجي، وقال ابن عباس :﴿ حم ﴾ اسم الله الأعظم وعنه قال : الر وحم ون حروف الرحمان مقطعة وقيل : حم اسم السورة، وقيل : الحاء افتتاح أسمائه حليم وحميد وحي وحكيم وحنان والميم افتتاح أسمائه ملك مجيد منان، وقال الضحاك والكسائي : معناه قضى ما هو كائن كأنهما أشارا إلى أن معنى حم : حم بضم الحاء وتشديد الميم، وهل يجوز أن يجمع حم على حواميم ؟ نقل ابن الجوزي عن شيخه الجواليقي أنه خطأ وليس بصواب بل الصواب أن يقول : قرأت آل حم. وفي الحديث عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم :«إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات ». وقال الكميت :
وجدنا لكم في آل حم آية تأولها منا تقي ومعرب
ومنهم من جوزه، وروي في ذلك أحاديث منها : قوله صلى الله عليه وسلم :«الحواميم ديباج القرآن ». وقوله صلى الله عليه وسلم :«الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع جهنم والحطمة ولظى والسعير وسقر والهاوية والجحيم، فتجيء كل حم منهن يوم القيامة على باب من هذه الأبواب فتقول لا يدخل النار من كان يؤمن بي ويقرؤني ». وقوله صلى الله عليه وسلم :«لكل شيء ثمرة وثمرة القرآن ذوات حم هن روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم ». وقوله صلى الله عليه وسلم :«الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب ». وقال ابن عباس : لكل شيء لباب ولباب القرآن الحواميم، قال ابن عادل : فإن صحت هذه الأحاديث فهي الفصل في ذلك أي : فتدل على جواز الجمع، وقال البيضاوي في حم السجدة : ولعل افتتاح هذه السبع بحم وتسميتها به لكونها مصدرة بيان الكتاب متشاكلة في النظم والمعنى أي : أخذاً مما قيل إن حم اسم من أسماء القرآن.
وقوله تعالى :﴿ تنزيل الكتاب ﴾ أي : الجامع من الحدود والأحكام والمعارف والإكرام إما خبر لحم إن كانت مبتدأ، وإما خبر لمبتدأ مضمر وإما مبتدأ وخبره ﴿ من الله ﴾ أي : الجامع لجميع صفات الكمال، ولما كان النظر هنا من بين جميع الصفات إلى العزة والعلم أكثر لأجل أن المقام لإثبات الصدق وعداً ووعيداً قال تعالى :﴿ العزيز ﴾ أي : في ملكه ﴿ العليم ﴾ بخلقه، فبين تعالى أنه بقدرته وعلمه أنزل القرآن الذي يتضمن المصالح والإعجاز ولولا كونه عزيزاً عالماً لما صح ذلك.
﴿ غافر الذنب ﴾ أي : بتوبة وغير توبة للمؤمن إن شاء وأما الكافر فلا بد من توبته بالإسلام ﴿ وقابل التوب ﴾ أي : ممن عصاه وهو يحتمل أن يكون اسماً مفرداً مراداً به الجنس كالذنب وأن يكون جمعاً لتوبة كتمر وتمرة ﴿ شديد العقاب ﴾ أي : على الكافر، فإن قيل : إن شديد صفة مشبهة فإضافته غير محضة بكل حال بخلاف اسم الفاعل إذا لم يرد به الحال ولا الاستقبال كغافر الذنب وقابل التوب فإن إضافته محضة تفيد التعريف، قال سيبويه : كل ما إضافته غير محضة يجوز أن تجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة ولم يستثن الكوفيون شيئاً ؟ أجيب : بأن شديد معناه مشدد كأذين بمعنى مأذون فتتمحض إضافته أو الشديد عقابه، فحذف اللام للازدواج مع أمن الالتباس أو بالتزام مذهب الكوفيين هو أن الصفة المشبهة يجوز أن تتمحض إضافتها أيضاً فتكون معرفة يقولون في نحو حسن الوجه يجوز أن تصير إضافته محضة وقال الرازي : لا نزاع في جعل غافر وقابل صفتين وإنما كان كذلك لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار فكذلك شديد العقاب لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد فمعناه كونه بحيث يقال شديد عقابه وهذا المعنى حاصل أبداً، فلا يوصف بأنه حصل بعد أن لم يكن قال أبو حيان : وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ولا نظر فيه ويلزمه أن يكون :﴿ حكيم عليم ﴾ و﴿ مليك مقتدر ﴾ معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد، ولأنها صفات لم تحصل بعد إن لم تكن ويكون تعريف صفاته بأل وتنكيرها سواء وهذا لا يقوله مبتدئ في علم النحو فكيف من يصنف فيه ويقدم على تفسير كتاب الله تعالى.
قال الزمخشري : فإن قلت ما بال الواو في قوله :﴿ وقابل التوب ﴾ قلت : فيها نكتة جليلة وهي إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات، وأن يجعلها محاءة للذنوب كأن لم يذنب، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول. قال ابن عادل : وبعد هذا الكلام الأنيق وإبراز هذه المعاني الحسنة، قال أبو حيان : وما أكثر تبجح هذا الرجل وشقشقته والذي أفادته الواو الجمع وهذا معلوم من ظاهر علم النحو. وأنشد بعضهم :
وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم
وقال آخر :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
ولما أتم الترغيب بالعفو والترهيب بالعقوبة أتبعه التشويق إلى الفضل فقال تعالى ﴿ ذي الطول ﴾ أي : سعة الفضل والإنعام والقدرة والغنى والسعة والمنة فلا يماثله في شيء من ذلك أحد ولا يدانيه، قال ابن عباس : غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله وقابل التوب ممن قال لا إله إلا الله شديد العقاب لمن لا يقول : لا إله إلا الله ذي الغنى عمن لا يقول لا إله إلا الله، وقال الحسن : ذو الفضل، وقال قتادة : ذو النعم ثم علل تمكنه من كل شيء من ذلك بوحدانيته فقال تعالى :﴿ لا إله إلا هو إليه ﴾ وحده ﴿ المصير ﴾ أي : المرجع فلو جعل معه إلهاً آخر يشاركه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة فكان الترغيب والترهيب الكاملان حاصلين بسبب هذا التوحيد وقوله تعالى :﴿ إليه المصير ﴾ مما يقوي الرغبة في الإقرار بالعبودية له، روي أن عمر رضي الله تعالى عنه افتقد رجلاً ذا بأس شديد من أهل الشام، فقيل له : تتابع في هذا الشراب، فقال عمر لكاتبه : اكتب من عمر إلى فلان، سلام عليك وأنا أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو بسم الله الرحمان الرحيم حم إلى قوله تعالى :﴿ إليه المصير ﴾ وختم الكتاب وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحياً، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول قد وعدني الله أن يغفر لي وحذرني عقابه، فلم يبرح يرددها حتى بكى ثم نزع وأحسن النزوع وحسنت توبته، فلما بلغ عمر أمره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه وقفوه وادعوا له الله تعالى أن يتوب عليه ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه.
ولما قرر تعالى أن القرآن كتاب أنزله ليهتدي به في الدين ذكر أحوال من يجادل لغرض إبطاله فقال :﴿ ما يجادل ﴾ أي : يخاصم ويماري أي : يفتل الأمور إلى مراده ﴿ في آيات الله ﴾ أي : في إبطال أنوار الملك الأعظم المحيط بصفات الكمال الدال كالشمس على أنه تعالى إليه المصير بأن يغش نفسه بالشك في ذلك ﴿ إلا الذين كفروا ﴾ قال أبو العالية : آيتان ما أشدهما على الذين يجادلون في القرآن قوله تعالى :﴿ ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ﴾ وقوله تعالى :﴿ وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ﴾ ( البقرة : ١٧٦ ) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :«إن جدالاً في القرآن كفر ». وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :«سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتمارون في القرآن فقال : إنما أهلك من كان قبلكم أنهم ضربوا كتاب الله بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوه وما جهلتم عنه فكلوه إلى عالمه ». وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب فقال :«إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب ».
تنبيه : الجدال نوعان : جدال في تقرير الحق وجدال في تقرير الباطل. أما الأول : فهو حرفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ ( النحل : ١٢٥ ) وحكى عن قوم نوح قولهم :﴿ يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا ﴾ ( هود : ٣٢ ). وأما الثاني : فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية فجدالهم في آيات الله هو قولهم مرة هذا سحر، ومرة هذا شعر، ومرة هو قول الكهنة، ومرة أساطير الأولين، ومرة إنما يعلمه بشر، وأشباه هذا.
ولما أثبت أن الحشر لا بد منه وأن الله تعالى قادر كل القدرة لأنه لا شريك له، وهو محيط بجميع أوصاف الكمال تسبب عن ذلك قوله تعالى :﴿ فلا يغررك تقلّبهم ﴾ أي : تنقلهم بالتجارات والفوائد والجيوش والعساكر وإقبال الدنيا عليهم ﴿ في البلاد ﴾ كبلاد الشام واليمن فإنهم مأخوذون عما قريب بكفرهم أخذ من قبلهم كما قال تعالى :﴿ كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم ﴾.
﴿ كذبت قبلهم قوم نوح ﴾ وقد كانوا في غاية القوة والقدرة على القيام بما يحاولونه وكانوا حزباً واحداً لم يفرقهم شيء، ولما كان الناس من بعدهم قد كثروا وفرقهم اختلاف الألسنة والأديان وكان للإجمال من الردع في بعض المواطن ما ليس للتفصيل، قال تعالى :﴿ والأحزاب ﴾ أي : الأمم المتفرقة الذين لا يحصون عدداً ودل على قرب زمان الكفر من الإنجاء من الغرق بقوله :﴿ من بعدهم ﴾ كعاد وثمود ﴿ وهمت كل أمة ﴾ أي : من هؤلاء ﴿ برسولهم ﴾ أي : الذي أرسلناه إليهم ﴿ ليأخذوه ﴾ أي : ليتمكنوا من إصابته بما أرادوه من تعذيب أو قتل. ويقال للأسير : أخيذ، وقال ابن عباس : ليقتلوه ويهلكوه ﴿ وجادلوا بالباطل ﴾ أي : بالأمر الذي لا حقيقة له وليس له من ذاته إلا الزوال كما تفعل قريش ومن ضاهاهم من العرب ثم بين علة مجادلتهم بقوله تعالى :﴿ ليدحضوا ﴾ أي : ليزيلوا ﴿ به الحق ﴾ أي : الذي جاءت به الرسل عليهم السلام ﴿ فأخذتهم ﴾ أي : أهلكتهم وهم صاغرون، وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار الذال والباقون بالإدغام ﴿ فكيف كان عقاب ﴾ لهم أي : هو واقع موقعه وهم يمرون على ديارهم ويرون أثرهم وهذا تقريع فيه معنى التعجب.
تنبيه : حذفت ياء المتكلم إشارة إلى أن أدنى شيء من عذابه بأدنى نسبة كاف في المراد.
ولما كان التقدير فحقت عليهم كلمة الله تعالى عطف عليه ﴿ وكذلك ﴾ أي : ومثل ما حقت عليهم كلمتنا بالأخذ ﴿ حقت كلمة ربك ﴾ أي : المحسن إليك وهي ﴿ لأملأن جهنم ﴾ الآية ﴿ على الذين كفروا ﴾ لكفرهم، وقرأ نافع وابن عامر بألف بعد الميم على الجمع والباقون بغير ألف على الإفراد، وقوله :﴿ أنهم أصحاب النار ﴾ في محل رفع بدل من ﴿ كلمة ربك ﴾ أي : مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار ومعناها : كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل كذلك وجب هلاكهم بعذاب النار في الآخرة أو في محل نصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل.
ولما بين تعالى أن الكفار بالغوا في إظهار العداوة للمؤمنين بقوله :﴿ ما يجادل في آيات الله ﴾ وما بعده، بين تعالى أن الملائكة الذين هم حملة العرش والحافون حوله يبالغون في إظهار المحبة والنصر للمؤمنين فقال تعالى :﴿ الذين يحملون العرش ﴾ وهو مبتدأ وقوله :﴿ ومن حوله ﴾ عطف عليه وقوله تعالى :﴿ يسبحون ﴾ خبره ﴿ بحمد ربهم ﴾ أي : المحسن إليهم، قال شهر بن حوشب : حملة العرش ثمانية أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك فلك الحمد على حلمك بعد علمك، وأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك فلك الحمد على عفوك بعد قدرتك قال : وكأنهم يرون ذنوب بني آدم وقيل : إنهم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى بأربعة أخر كما قال تعالى :﴿ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ﴾ ( الحاقة : ١٧ ) وهم من أشراف الملائكة وأفضلهم لقربهم من محل رحمة ربهم قال ابن الخازن : وجاء في الحديث : أن لكل ملك منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، ولكل واحد منهم أربعة أجنحة جناحان منها على وجه مخافة أن ينظر إلى العرش فيضعف وجناحان يهفو بهما في الهواء، ليس لهم كلام غير التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد، ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء. وقال ابن عباس : حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام، ويروى أن أقدامهم في تخوم الأرض والأرضون والسماوات إلى حجزتهم وهم يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وقال ميسرة بن عرفة : أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وهم أشد خوفاً من أهل السماء السابعة وأهل السماء السابعة أشد خوفاً من أهل السماء التي تليها والتي تليها أشد خوفاً من التي تليها. وقال مجاهد : بين الملائكة والعرش سبعون ألف حجاب من نور وسبعون ألف حجاب من ظلمة. وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام »، وأما صفة العرش فقيل : أنه من جوهرة خضراء وهو من أعظم المخلوقات خلقاً. روى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال : بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطائر المسرع ثلاثين ألف عام، ويكسي العرش كل يوم سبعين ألف لون من نور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله تعالى كلها، والأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة، وقال مجاهد : بين السماء السابعة والعرش سبعون ألف حجاب حجاب نور وحجاب ظلمة وحجاب نور وحجاب ظلمة. وقيل : إن العرش قبلة أهل السماء كما أن الكعبة قبلة أهل الأرض، وأما من حول العرش فهم الكروبيون وهم سادات الملائكة. قال وهب بن منبه : إن حول العرش سبعين ألف صف من الملائكة صف خلف صف يطوفون بالعرش يقبل هؤلاء ويقبل هؤلاء، فإذا استقبل بعضهم بعضاً هلل هؤلاء وكبر هؤلاء، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام أيديهم على أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم فإذا سمعوا تكبير هؤلاء وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا : سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأحلمك أنت الله لا إله غيرك أنت الأكبر، الخلق كلهم لك راجعون ومن وراء هؤلاء وهؤلاء مائة ألف صف من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى، ليس منهم أحد إلا يسبح بتحميد لا يسبحه الآخر، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلثمائة عام، وما بين شحمتي أذنيه إلى عاتقه أربعمائة عام، وقد احتجب الله عز وجل عن الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجاباً من نار وسبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور وسبعين حجاباً من در أبيض وسبعين حجاباً من ياقوت أحمر وسبعين حجاباً من زبرجد أخضر وسبعين حجاباً من ثلج وسبعين حجاباً من ماء وسبعين حجاباً من برد، وما لا يعلم علمه إلا الله تعالى، فسبحان من له هذا الملك العظيم.
ولما كان تعالى لا يحيط به علماً أحد من خلقه أشار إلى أنهم مع قربهم كغيرهم لا فرق في ذلك بينهم وبين من في الأرض السفلى بقوله تعالى :﴿ ويؤمنون به ﴾ لأن الإيمان إنما يكون بالغيب فهم يصدقون بأنه واحد لا شريك له ولا مثل له ولا نظير له، فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى :﴿ ويؤمنون به ﴾ ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمده مؤمنون ؟ أجيب : بأن فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله والترغيب فيه كما وصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في غير موضع من كتابه بالصلاح، لذلك وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى :﴿ ثم كان من الذين آمنوا ﴾ فأبان بذلك فضل الإيمان ولما كانوا لقربهم أشد الخلق خوفاً لأنه على قدر القرب من تلك الحضرات يكون الخوف وكان أقرب ما يتقرب به إلى الملك لتقربه إلى أهل وده نبه سبحانه بقوله تعالى :﴿ ويستغفرون ﴾ أي : يطلبون محو الذنوب عيناً وأثراً ﴿ للذين آمنوا ﴾ أي : أوقعوا هذه الحقيقة فهم يستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم، وفي ذلك تنبيه على أن الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة وأبعث على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان ولا بين سماوي وأرضي قط، ولكن لما جاء جامع الإيمان جاء معه التجانس الكلي والتناسب الحقيقي حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض قال تعالى :﴿ ويستغفرون لمن في الأرض ﴾ ( الشورى : ٥ )
واستغفارهم بأن يقولوا ﴿ ربنا ﴾ أي : أيها المحسن إلينا بالإيمان وغيره فهو معمول لقول مضمر في محل نصب على الحال من فاعل يستغفرون أو خبر بعد خبر ﴿ وسعت كل شيء رحمة وعلماً ﴾ أي : وسعت رحمتك كل شيء وعلمك كل شيء، فأزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم كأنَّ ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء، وأكثر ما يكون الدعاء بذكر الرب لأن الملائكة قالوا في هذه الآية وقال آدم عليه السلام :﴿ ربنا ظلمنا أنفسنا ﴾ ( الأعراف : ٢٣ ) وقال نوح عليه السلام :﴿ رب إن قومي كذّبون ﴾ ( الشعراء : ١١٧ ) وقال :﴿ رب اغفر لي ولوالدي ﴾ ( إبراهيم : ٤١ ) وقال إبراهيم عليه السلام :﴿ رب أرني كيف تحيي الموتى ﴾ ( البقرة : ٢٦٠ ) وقال :﴿ ربنا واجعلنا مسلمين لك ﴾ ( البقرة : ١٢٨ ) وقال يوسف عليه السلام :﴿ رب قد آتيتني من الملك ﴾ ( يوسف : ١٠١ ) وقال موسى عليه السلام :﴿ ربّ أرني أنظر إليك ﴾ ( الأعراف : ١٤٣ ) وقال :﴿ رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ﴾ ( القصص : ١٦ ) وقال سليمان عليه السلام :﴿ رب اغفر لي وهب لي ملكاً ﴾ ( ص : ٣٥ ) وقال عيسى عليه السلام :﴿ ربنا أنزل علينا مائدة من السماء ﴾ ( المائدة : ١١٤ ) وقال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم :﴿ وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ﴾ ( المؤمنون : ٩٧ ).
فإن قيل : لفظ الله أعظم من لفظ الرب فلم خص لفظ رب بالدعاء ؟ أجيب : بأن العبد يقول : كنت في العدم المحض والنفي الصرف فأخرجتني إلى الوجود وربيتني فاجعل تربيتك وإحسانك سبباً لإجابة دعائي ﴿ فاغفر للذين تابوا ﴾ أي : رجعوا إليك عن ذنوبهم برحمتك لهم بأن تمحوها عيناً وأثراً فلا عقاب ولا عتاب ولا ذكر لها ﴿ واتبعوا ﴾ أي : كلفوا أنفسهم على مالها من العوج أن لزموا ﴿ سبيلك ﴾ المستقيم الذي لا لبس فيه. ولما كان الغفران قد يكون لبعض الذنوب وكان سبحانه وتعالى له أن يعذب من لا ذنب له وأن يعذب من غفر ذنبه قالوا :﴿ وقهم عذاب الجحيم ﴾ أي : اجعل بينهم وبينه وقاية بأن تلزمهم الاستقامة وتتم نعمتك عليهم فإنك وعدت من كان كذلك بذلك ولا يبدل القول لديك وإن كان يجوز أن تفعل ما تشاء وإن الخلق عبيدك.
ولما طلبوا من الله سبحانه وتعالى إزالة العذاب عنهم وكان ذلك لا يستلزم الثواب قالوا مكررين صفة الإحسان زيادة في الرقة في طلب الامتنان :﴿ ربنا ﴾ أيها المحسن إلينا ﴿ وأدخلهم جنات عدن ﴾ أي : إقامة ﴿ التي وعدتهم ﴾ أي : إياها وقولهم :﴿ ومن صلح ﴾ معطوف على هم في وعدتهم وقدموا قولهم :﴿ من آبائهم ﴾ على قولهم :﴿ وأزواجهم وذرياتهم ﴾ لأن الآباء أحق الناس بالإجلال وقدموا الأزواج في اللفظ على الذرية لأنهم أشد إلصاقاً بالشخص وطلبوا لهم ذلك لأن الإنسان لا يتم نعيمه إلا بأهله، قال سعيد بن جبير : يدخل الجنة المؤمن فيقول : أين أبي أين ولدي وزوجتي ؟ فيقال له : إنهم لم يعملوا مثل عملك، فيقول : إني كنت أعمل لي ولهم، فيقال : أدخلوهم الجنة. ﴿ إنك أنت ﴾ أي : وحدك ﴿ العزيز ﴾ أي : فأنت تغفر لمن شئت ﴿ الحكيم ﴾ فكل فعلك في أتم مواضعه فلا يتهيأ لأحد نقضه ولا نقصه.
﴿ وقهم السيئات ﴾ أي : بأن تجعل بينهم وبينها وقاية بأن تطهرهم من الأخلاق الحاملة عليها، فإن قيل : هذا مكرر مع قوله :﴿ وقهم عذاب الجحيم ﴾ ؟ أجيب : بأن التفاوت حاصل من وجهين : أحدهما : أن يكون قولهم وقهم عذاب الجحيم دعاء مذكوراً للأصول وقولهم : وقهم السيئات دعاء مذكوراً للفروع وهم الآباء والأزواج والذريات، ثانيهما : أن يكون قوله :﴿ وقهم عذاب الجحيم ﴾ مقصوراً على إزالة عذاب الجحيم وقوله :﴿ وقهم السيئات ﴾ يتناول عذاب الجحيم وعذاب موقف يوم القيامة والسؤال والحساب، فيكون تعميماً بعد تخصيص وهذا أولى. وقال بعض المفسرين : إن الملائكة طلبوا إزالة عذاب النار عنهم بقولهم وقهم عذاب الجحيم، وطلبوا إيصال الثواب إليهم بقولهم : وأدخلهم جنات عدن، ثم طلبوا بعد ذلك أن يصونهم الله تعالى في الدنيا من العقائد الفاسدة بقولهم وقهم السيئات. وقرأ أبو عمرو في الوصل بكسر الميم والهاء، وحمزة والكسائي بضم الهاء والميم والباقون بكسر الهاء وضم الميم. ثم قالت الملائكة :﴿ ومن تق السيئات ﴾ أي : جزاءها كلها ﴿ يومئذ ﴾ أي : يوم تدخل فريقاً الجنة وفريقاً النار المسببة عن السيئات وهو يوم القيامة ﴿ فقد رحمته ﴾ أي : الرحمة الكاملة التي لا يستحق غيرها معها أن يسمى رحمة فإن تمام النعيم لا يكون إلا بها لزوال التحاسد والتباغض والنجاة من النار باجتناب السيئات ولذلك قالوا :﴿ وذلك ﴾ أي : الأمر العظيم جداً ﴿ هو الفوز العظيم ﴾ أي : النعيم الذي لا ينقطع في جوار ملك لا تصل العقول إلى كنه عظمته وإجلاله هذا آخر دعاء الملائكة للمؤمنين، قال مطرف : أنصح عباد الله تعالى للمؤمنين الملائكة وأغش الخلق للمؤمنين هم الشياطين.
ثم إنه تعالى بعد أن ذكر أحوال المؤمنين عاد إلى ذكر أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله تعالى وهم المذكورون في قوله تعالى :﴿ ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ﴾ ( غافر : ٤ ) فقال تعالى مستأنفاً مؤكداً لإنكارهم آيات الله تعالى :﴿ إن الذين كفروا ﴾ أي : أوقعوا الكفر ولو لحظة ﴿ ينادون ﴾ يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم حين عرض عليهم سيئاتهم وعاينوا العذاب فيقال لهم :﴿ لمقت الله ﴾ أي : الملك الأعظم إياكم ﴿ أكبر ﴾ والتقدير : لمقت الله لأنفسكم أكبر ﴿ من مقتكم أنفسكم ﴾ فاستغنى بذكرها مرة وقوله تعالى :﴿ إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ﴾ منصوب بالمقت الأول والمعنى : أنه يقال لهم يوم القيامة : كان الله تعالى يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان يدعوكم إلى الإيمان فتأبون قبوله وتختارون عليه الكفر، أشد ما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار إذا وقعتم فيها باتباعكم هواهن. وذكروا في تفسير مقتهم أنفسهم وجوهاً ؛ أولها : أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا. ثانيها : أن الأتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين يدعونهم إلى الكفر في الدنيا، والرؤساء أيضاً يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضاً بأنهم مقتوا أنفسهم كقوله تعالى :﴿ اقتلوا أنفسكم ﴾ ( النساء : ٦٦ ) والمراد أن يقتل بعضكم بعضاً. ثالثها : قال محمد بن كعب : إذا خطبهم إبليس وهو في النار بقوله :﴿ ما كان لي عليكم من سلطان ﴾ إلى قوله ﴿ ولوموا أنفسكم ﴾ ( إبراهيم : ٢٢ )، ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم. وأما الذين ينادون الكفار بهذا الكلام فهم خزنة جهنم، وعن الحسن : لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا لمقت الله أكبر، وقيل : معناه لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض كقوله تعالى :﴿ يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ﴾ ( العنكبوت : ٢٥ ) و﴿ إذ تدعون ﴾ تعليل، والمقت : أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال فالمراد منه : أبلغ الإنكار وأشده، وعن مجاهد : مقتوا أنفسهم حين رأوا أعمالهم ومقت الله تعالى إياهم في الدنيا، إذ يدعون إلى الإيمان فيكفرون أكبر، وقال الفراء : معناه : ينادون إن مقت الله يقال : ناديت أن زيداً قائم وناديت لزيد قائم، وقرأ أبو عمرو وهشام وحمزة والكسائي بإدغام الذال في التاء والباقون بالإظهار.
ثم إنه تعالى بين أن الكفار إذا خوطبوا بهذا الخطاب :﴿ قالوا ربنا ﴾ أي : أيها المحسن إلينا بما تقدم في دار الدنيا ﴿ أمتنا اثنتين ﴾ أي : إماتتين ﴿ وأحييتنا اثنتين ﴾ أي : إحيائتين، قال ابن عباس وقتادة والضحاك : كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله تعالى في الدنيا ثم أماتهم الموتة الأولى التي لا بد منها ثم أحياهم للبعث يوم القيامة فهما موتتان وحياتان وهو كقوله تعالى :﴿ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ﴾ ( البقرة : ٢٨ ) وقال السدي : أميتوا في الدنيا ثم أحيوا في قبورهم للمسألة ثم أميتوا في قبورهم ثم أحيوا في الآخرة، وقيل : واحدة عند انقضاء الآجال في الحياة الدنيا وأخرى بالصعق بعد البعث أو الإرقاد بعد سؤال القبر ورد بأن الصعق ليس بموت وما في القبر ليس بحياة حتى يكون عنه موت وإنما هو إقدار على الكلام كما أقدر سبحانه الحصا على التسبيح والحجر على التسليم والضب على الشهادتين. ﴿ فاعترفنا بذنوبنا ﴾ أي : بكفرنا بالبعث ﴿ فهل إلى خروج ﴾ من النار إلى الدنيا فنصلح أعمالنا ونعمل بطاعتك ﴿ من سبيل ﴾ أي : طريق ونظيره ﴿ هل إلى مردٍّ من سبيل ﴾ ( الشورى : ٤٤ )، والمعنى : أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسداً باطلاً تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليشتغلوا بالأعمال الصالحة، فإن قيل : الفاء في قوله تعالى :﴿ فاعترفنا بذنوبنا ﴾ تقتضي أن تكون الإماتة مرتين والإحياء مرتين سبباً لهذا الاعتراف فما وجه هذه السببية ؟ أجيب : بأنهم كانوا منكرين البعث فلما شاهدوا هذا الإحياء بعد الإماتة مرتين لم يبق لهم عذر في الإقرار بالبعث، فلا جرم وقع هذا الإقرار كالمسبب عن تلك الإماتة والإحياء.
ولما كان الجواب قطعاً لا سبيل إلى ذلك علله بقوله تعالى :﴿ ذلكم ﴾ أي : القضاء النافذ العظيم العالي بتخليدكم في النار مقتاً منه لكم ﴿ بأنه ﴾ أي : كان بسبب أنه ﴿ إذا دُعي الله ﴾ أي : الملك الأعظم من أي داع وفي إعراب قوله تعالى ﴿ وحده ﴾ وجهان ؛ أحدهما : أنه مصدر في موضع الحال وجاز مع كونه معرفة لفظاً لكونه في قوة النكرة كأنه قيل : منفرداً، ثانيهما : وهو قول يونس : أنه منصوب على الظرف، والتقدير : دعي على حِدَته وهو مصدر محذوف الزوائد، والتقدير : أوحدته إيحاداً. ﴿ كفرتم ﴾ بتوحيده ﴿ وإن يشرك به ﴾ أي : يجعل له تعالى شريك ﴿ تؤمنوا ﴾ أي : تصدقوا بالإشراك ﴿ فالحكم ﴾ أي : فتسبب عن القطع بأنه لا رجعة وأن الكفار ما ضروا إلا أنفسهم مع ادعائهم العقول الراجحة ونحو ذلك أن الحكم كله ﴿ لله ﴾ أي : المحيط بصفات الكمال ﴿ العلي ﴾ أي : عن أن يكون له شريك ﴿ الكبير ﴾ أي : الذي لا يليق الكبر إلا له.
ولما قصر الحكم عليه دل على ذلك بقوله تعالى :﴿ هو ﴾ أي : وحده ﴿ الذي يريكم ﴾ أي : بالصبر والبصيرة ﴿ آياته ﴾ أي : علاماته الدالة على تفرده بصفات الكمال وأنه لا يجوز جعل هذه الأحجار المنحوتة والخشب المصور شركاء لله عز وجل في العبودية، ومن آياته الدالة على كمال القدرة والعظمة قوله تعالى :﴿ وينزل لكم من السماء ﴾ أي : جهة العلو الدالة على قهر ما نزل منها بإمساكه إلى حين الحكم بنزوله ﴿ رزقاً ﴾ أي : أسباب رزق كالمطر لإقامة أبدانكم لأن أهم المهمات رعاية مصالح الأديان ومصالح الأبدان، والله تعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار البينات والآيات، وراعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء، فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان وعند حصولهما يكمل الأنعام الكامل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي ﴿ وما يتذكر ﴾ ذلك تذكراً تاماً فيتعظ بهذه الآيات ﴿ إلا من ينيب ﴾ أي : يرجع إلى الله تعالى ويقبل بكليته إلى الله تعالى في جميع أموره فيعرض عن غير الله تعالى. ولهذا قال عز من قائل :﴿ فادعوا ﴾
﴿ فادعوا ﴾ وصرح بالاسم الأعظم فقال تعالى :﴿ الله ﴾ الذي له صفات الكمال أي : فاعبدوه ﴿ مخلصين له الدين ﴾ أي : الأفعال التي يقع الجزاء عليها فمن كان يصدق بالجزاء وبأن ربه غني لا يقبل إلا خالصاً، اجتهد في تصفية أعماله فيأتي بها في غاية الخلوص عن كل ما يمكن أن يكدر من غير شائبة شرك جلي أو خفي كما أن معبوده واحد من غير شائبة نقص ﴿ ولو كره ﴾ أي : الدعاء منكم ﴿ الكافرون ﴾ أي : السائرون لأنوار عقولهم.
ولما ذكر تعالى من صفات كبريائه كونه مظهراً للآيات ذكر ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهي قوله تعالى :﴿ رفيع الدرجات ﴾ وهذا يحتمل أن يكون المراد منه الرافع، وأن يكون المراد منه المرتفع، فإن حملناه على الأول ففيه وجهان : أولها : أنه تعالى يرفع درجات الأنبياء والأولياء، ثانيهما : يرفع درجات الخلق في العلوم والأخلاق الفاضلة فجعل لكل أحد من الملائكة درجة معينة كما قال تعالى عنهم :﴿ وما منا إلا له مقام معلوم ﴾ ( الصافات : ١٦٤ ) وجعل لكل واحد من العلماء درجة معينة فقال تعالى :﴿ يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ﴾ ( المجادلة : ١١ ) وعين لكل جسم درجة معينة، فجعل بعضها سفلية كدرة وبعضها فلكية وبعضها من جواهر العرش والكرسي، وأيضاً جعل لكل واحد مزية معينة في الخلق والخلق والرزق والأجل فقال تعالى :﴿ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ﴾ ( الأنعام : ١٦٥ ) وجعل لكل واحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة، وفي الآخرة تظهر تلك الآثار وإن حملنا الرفيع على المرتفع فهو سبحانه وتعالى أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال.
تنبيه : في رفيع وجهان ؛ أحدهما : أنه مبتدأ والخبر ﴿ ذو العرش ﴾ أي : الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو فهو محيط بجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان وعال بجلاله وعظمته عن كل ما يخطر في الأذهان وقوله تعالى :﴿ يلقي الروح ﴾ أي : الوحي سماه روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح.
﴿ من أمره ﴾ قال ابن عباس : أي : رضاه، وقوله :﴿ يلقي ﴾ يجوز أن يكون خبراً ثانياً وأن يكون حالاً، ويجوز أن تكون الثلاثة أخباراً لقوله تعالى :﴿ هو الذي يريكم آياته ﴾.
ولما كان أمره تعالى غالباً على كل أمر أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال تعالى :﴿ على من يشاء ﴾ أي : يختار ﴿ من عباده ﴾ للنبوة وفي هذا دليل على أنها عطائية وقوله :﴿ لينذر ﴾ أي : يخوف غاية الإلقاء والفاعل هو الله تعالى، أو الروح، أو من يشاء، أو الرسول. والمنذر به محذوف تقديره لينذر العذاب. ﴿ يوم التلاق ﴾ أي : يوم القيامة فإن فيه تتلاقى الأرواح والأجساد وأهل السماء والأرض، وقال مقاتل : يلتقي الخلق والخالق تعالى. وقال ميمون بن مهران : يلتقي الظالم والمظلوم، وقيل : يلتقي العابدون والمعبودون. وقيل : يلتقي فيه المرء مع عمله والأولى أن تفسر الآية بما يشمل الجميع.
﴿ يوم هم بارزون ﴾ أي : خارجون من قبورهم وقيل : ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو شجر أو تلال أو غير ذلك، وقيل : بارزون كناية عن ظهور حالهم وانكشاف أسرارهم كما قال تعالى :﴿ يوم تبلى السرائر ﴾ ( الطلاق : ٩ ) والأولى أيضاً أن تفسر الآية بما يشمل الجميع كما قال تعالى :﴿ لا يخفى على الله ﴾ أي : المحيط علماً وقدرة ﴿ منهم ﴾ أي : من أعمالهم وأحوالهم ﴿ شيء ﴾ وإن دق وخفي ويقول الله تعالى في ذلك اليوم بعد فناء الخلق ﴿ لمن الملك اليوم ﴾ أي : يا من كانوا يعملون أعمال من يظن أنه لا يقدر عليه أحد، فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه فيقول تعالى :﴿ لله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ثم دل على ذلك بقوله تعالى :﴿ الواحد ﴾ أي : الذي لا يمكن أن يكون له ثان بشركة ولا قسيمة ولا غيرهما ﴿ القهار ﴾ أي : الذي قهر الخلق بالموت، وقيل : يجيبونه بلسان الحال أو المقال فيقولون ذلك، وقال الرازي : لا يبعد أن يكون السائل والمجيب هو الله تعالى، ولا يبعد أيضاً أن يكون السائل جمعاً من الملائكة والمجيب جمعاً آخرين وليس على التعيين، فإن قيل : الله تعالى لا يخفى عليه شيء منهم في جميع الأيام فما معنى تقييد هذا العلم بذلك اليوم ؟ أجيب : بأنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله تعالى لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمون في الدنيا كما قال تعالى :﴿ ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون ﴾ ( فصلت : ٢٢ ) وقال تعالى :﴿ يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم ﴾ ( النساء : ١٠٨ ) وهو معنى قوله تعالى :﴿ وبرزوا لله الواحد القهار ﴾ ( إبراهيم : ٤٨ ).
ولما أخبر تعالى عن إذعان كل نفس بانقطاع الأسباب أخبرهم بما يزيد رعبهم ويبعث رغبتهم وهو نتيجة تفرده بالملك فقال تعالى :﴿ اليوم تجزى ﴾ أي : تقضى وتكافأ ﴿ كل نفس بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ كسبت ﴾ أي : عملت لا تترك نفس واحدة لأن العلم قد شملهم والقدرة قد أحاطت بهم وعمتهم، والحكمة قد منعت إهمال أحد منهم فيجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ﴿ لا ظلم اليوم ﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿ إن الله ﴾ أي : التام القدرة الشامل للعلم ﴿ سريع الحساب ﴾ أي : بليغ السرعة فيه لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره في وقت حساب ذلك الغير ولا يشغله شأن عن شأن لأنه تعالى لا يحتاج إلى تكلف عدّ ولا يفتقر إلى مراجعة كتاب ولا شيء، فكان في ذلك ترجية وخوف الفريقين لأن المؤمن يرجو إسراع البسط بالثواب والظالم يخشى إسراع الأخذ بالعذاب، وعن ابن عباس : إذا أخذ في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها.
ثم نبه تعالى بقوله سبحانه :﴿ وأنذرهم يوم الآزفة ﴾ أي : القيامة على أن يوم القيامة قريب، ونظيره قوله تعالى :﴿ اقتربت الساعة ﴾ ( القمر : ١ ) قال الزجاج : إنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس مداها لأن ما هو كائن قريب، والآزفة فاعلة من أزف الأمر إذا دنا وحضر كقوله تعالى في صفة القيامة :﴿ أزفت الآزفة ﴾ ( النجم : ٥٧ ) أي : قربت قال النابغة :
أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن وقد
وقال كعب بن زهير :
بان الشباب وهذا الشيب قد أزفا ولا أرى لشباب بائن خلفا
تنبيه : الآزفة : نعت لمحذوف مؤنث كيوم القيامة الآزفة أو يوم المجازاة الآزفة.
قال القفال : وأسماء القيامة تجري على التأنيث كالطامة والحاقة لأنها مرجع معناها على الداهية، ويوم القيامة له أسماء كثيرة تدل على أهواله باعتبار مواقفه وأحواله، منها يوم البعث وهو ظاهر ومنها يوم التلاق لما مر ومنها يوم التغابن لغبن أكثر من فيه وخسرانه، وقيل : المراد بيوم الآزفة مشارفتهم دخول النار فإن عند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها من شدة الخوف، وقال أبو مسلم : هو يوم حضور الأجل فإن يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب.
ولما ذكر تعالى اليوم هوَّل أمره بما يحصل فيه من المشاق بقوله تعالى :﴿ إذ القلوب ﴾ أي : من كل من حضره ترتفع ﴿ لدى ﴾ أي : عند ﴿ الحناجر ﴾ أي : حناجر المجموعين فيه وهو جمع حنجور وهو الحلقوم يعني أنها زالت عن أماكنها صاعدة من كثرة الرعب حتى كادت تخرج.
ثم أسند إليها ما يسند للعقلاء فقال تعالى :﴿ كاظمين ﴾ أي : ممتلئين خوفاً ورعباً وحزناً مكروبين فقد استدت مجاري أنفاسهم وأخذ بجميع إحساسهم.
ولما كان من المعهود أن الصداقات تنفع في مثل ذلك والشفاعات قال تعالى مستأنفاً :﴿ ما للظالمين ﴾ أي : العريقين في الظلم ﴿ من حميم ﴾ أي : قريب صادق في مودتهم مهتم بأمورهم مزيل لكروبهم ﴿ ولا شفيع يطاع ﴾ فيشفع لهم.
تنبيه : احتج المعتزلة بهذه الآية على نفي الشفاعة عن المذنبين، فقالوا : نفي حصول شفيع لهم يطاع يوجب أن لا يحصل لهم هذا الشفيع وأجيبوا بوجوه ؛ أولها : أنه تعالى نفى أن يحصل لهم شفيع يطاع وهذا لا يدل على نفي الشفيع كقولك ما عندي كتاب يباع، لا يقتضي نفي الكتاب فهذا ينفي أن لهم شفيعاً يطيعه الله تعالى ﴿ ما من شفيع إلا من بعد إذنه ﴾ ( يونس : ٣ ) ثانيها : أن المراد بالظالمين في هذه الآية ههنا الكفار لأنها وردت في زجر الكفار قال تعالى :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ ( لقمان : ١٣ )، ثالثها : أن لفظ الظالمين إما أن يفيد الاستغراق أو لا، فإن كان المراد : جميعهم فيدخل فيه الكفار، وعندنا أنه ليس لهذا الجمع شفيعاً لأن بعضه كفار وليس لهم شفيع، فحينئذ لا يكون لهذا الجمع شفيع، وإن لم يفد الاستغراق كان المراد من الظالمين بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيع.
ولما أمر الله تعالى بإنذار يوم الآزفة وما يعرض فيه من شدة الغم والكرب وأن الظالم لا يجد من يحميه ولا يشفع له، ذكر اطلاعه على جميع ما يصدر من الخلق سراً وجهراً فقال تعالى :﴿ يعلم خائنة الأعين ﴾ أي : خيانتها التي هي أخفى ما يقع من أفعال الظاهر، جعل الخيانة مبالغة في الوصف وهو الإشارة بالعين، قال أبو حيان : من كسر عين وغمز ونظر يفهم المراد.
ولما ذكر أخفى أفعال الظاهر أتبعه أخفى أفعال الباطن فقال تعالى :﴿ وما تخفي الصدور ﴾ أي : القلوب فعلم من ذلك أن الله تعالى عالم بجميع أفعالهم لأن الأفعال على قسمين أفعال الجوارح وأفعال القلوب، فأما أفعال الجوارح فأخفاها خيانة الأعين والله تعالى عالم بها فكيف الحال في سائر الأعمال، وأما أفعال القلوب فهي معلومة لله تعالى لقوله عز وجل :﴿ وما تخفي الصدور ﴾.
وقوله تعالى :﴿ والله ﴾ أي : المتصف بجميع صفات الكمال ﴿ يقضي بالحق ﴾ أي : الثابت الذي لا ينتفي يوجب عظيم الخوف لأن الحاكم إذا كان عالماً بجميع الأحوال وثبت أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل كان خوف المذنب منه في الغاية القصوى. ولما عول الكفار في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام بين الله تعالى أنه لا فائدة فيها البتة فقال تعالى :﴿ والذين يدعون ﴾ أي : يعبدون ﴿ من دونه ﴾ وهم الأصنام ﴿ لا يقضون ﴾ لهم ﴿ بشيء ﴾ من الأشياء أصلاً فكيف يكونون شركاء لله تعالى، وقرأ نافع وهشام تدعون بتاء الخطاب للمشركين والباقون بياء الغيبة إخباراً عنهم بذلك.
ولما أخبر تعالى أنه لا فعل لشركائهم وأن الأمر له وحده قال تعالى مؤكداً لأجل أن أفعالهم تقتضي إنكار ذلك ﴿ إن الله ﴾ أي : المنفرد بصفات الكمال ﴿ هو ﴾ أي : وحده ﴿ السميع ﴾ أي : لجميع أقوالهم ﴿ البصير ﴾ أي : بجميع أفعالهم، ففي ذلك تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وقضائه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون وتعريض بحال ما يدعون من دونه، فثبت أن الأمر له وحده فما تنفعهم شفاعة الشافعين ولا تقبل فيهم من أحد شفاعة بعد الشفاعة العامة التي هي خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، فإن كان أحد يحجم عنها حتى يصل الأمر إليه صلى الله عليه وسلم فيقول : أنا لها أنا لها، ثم يذهب إلى المكان الذي أذن له فيه فيشفع فيشفعه الله تعالى، فيفصل سبحانه وتعالى بين الخلائق ليذهب كل أحد إلى داره جنته أو ناره.
ولما أوعدهم سبحانه بصادق الأخبار عن قوم نوح ومن تبعهم من الكفار وختمه بالإنذار بما يقع في دار القرار للظالمين الأشرار أتبعه الوعظ والتخويف بالمشاهدة ممن تتبع الديار، والاعتبار بما كان لهم فيها من عجائب الآثار فقال عز من قائل :
﴿ أولم يسيروا في الأرض ﴾ أي : في أي أرض ساروا فيها ﴿ فينظروا ﴾ أي : نظر اعتبار كما هو شأن أهل البصائر ﴿ كيف كان عاقبة ﴾ أي : آخر أمر ﴿ الذين كانوا ﴾ أي : سكاناً للأرض عريقين في عمارتها ﴿ من قبلهم ﴾ أي : قبل زمانهم من الكفار كعاد وثمود ﴿ كانوا هم ﴾ أي : المتقدمون لما لهم من القوة الظاهرة والباطنة ﴿ أشد منهم ﴾ أي : من هؤلاء ﴿ قوة ﴾ أي : ذوات ومعاني وإنما جيء بالفصل وحقه أنه يقع بين معرفتين لمضارعة أفعل من المعرفة في امتناع دخول اللام عليه، وقرأ ابن عامر منكم بكاف والباقون بهاء الغيبة ﴿ و ﴾ أشد ﴿ آثاراً في الأرض ﴾ لأن آثارهم لم يندرس بعضها إلى هذا الزمان وقد مضى عليه ألوف من السنين، وأما المتأخرون فتنطمس آثارهم في أقل من قرن ومع قوتهم ﴿ فأخذهم الله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال أخذ غلبة وقهر وسطوة ﴿ بذنوبهم ﴾ أي : بسببها ﴿ وما كان لهم ﴾ من شركائهم الذين ضلوا بهم هؤلاء ومن غيرهم ﴿ من الله ﴾ أي : المتصف بجميع صفات الكمال ﴿ من واق ﴾ أي : يقيهم عذابه والمعنى : أن العاقل من اعتبر بغيره وأن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء، ولما كذبوا رسلهم أهلكهم الله تعالى عاجلاً، وقرأ ابن كثير في الوقف بالياء بعد القاف والباقون بغير ياء واتفقوا على التنوين في الوصل.
ثم ذكر تعالى سبب أخذهم بقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ أي : الأخذ العظيم ﴿ بأنهم ﴾ أي : الذين كانوا من قبل ﴿ كانت تأتيهم رسلهم بالبينات ﴾ أي : الآيات الدالة على صدقهم دلالة هي من وضوح الأمر بحيث لا يسع منصفاً إنكارها، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بضمها.
ولما كان مطلق الكفر كافياً في العذاب عبر بالماضي فقال تعالى :﴿ فكفروا ﴾ أي : سببوا عن إتيان الرسل عليهم السلام إليهم الكفر بهم ﴿ فأخذهم الله ﴾ أي : الملك الأعظم أخذ غضب ﴿ إنه قوي ﴾ أي : متمكن مما يريد غاية التمكن ﴿ شديد العقاب ﴾ لا يؤبه بعقاب دون عقابه.
ولما سلَّى تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء عليهم السلام قبله وبمشاهدة آثارهم، سلاّه أيضاً بذكر قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿ موسى بآياتنا ﴾ أي : الدالة على جلالنا ﴿ وسلطان ﴾ أي : أمر قاهر عظيم جداً لا حيلة لهم في مدافعة شيء منه ﴿ مبين ﴾ أي : بين في نفسه يتبين لكل من يمكن إطلاعه عليه أنه ظاهر، وذلك الأمر هو الذي كان يمنع فرعون من الوصول إلى أذاه مع ما له من القوة والسلطان.
﴿ إلى فرعون ﴾ أي : ملك مصر ﴿ وهامان ﴾ أي : وزيره ﴿ وقارون ﴾ أي : قريب موسى ﴿ فقالوا ﴾ أي : هؤلاء ومن معهم هو ﴿ ساحر ﴾ لعجزهم عن مقاهرته أما من عدا قارون فأولاً وآخراً بالقوة والفعل، وأما قارون ففعله آخراً بين أنه مطبوع على الكفر وإن آمن أولاً، وإن هذا كان قوله وإن لم يقله بالفعل في ذلك الزمان فقد قاله في النية، فدل ذلك على أنه لم يزل قائلاً به لأنه لم يتب منه ثم وصفوه بقولهم :﴿ كذاب ﴾ لخوفهم من تصديق الناس له.
﴿ فلما جاءهم بالحق ﴾ أي : بالأمر الثابت الذي لا طاقة لأحد بتغيير شيء منه كائناً ﴿ من عندنا ﴾ على ما لنا من القهر فآمن معه طائفة من قومه ﴿ قالوا ﴾ أي : فرعون وأتباعه ﴿ اقتلوا ﴾ أي : قتلاً حقيقياً بإزالة الروح ﴿ أبناء الذين آمنوا ﴾ به أي : فكانوا ﴿ معه ﴾ أي : خصوهم بذلك واتركوا من عداهم فلعلهم يكذبونه ﴿ واستحيوا نساءهم ﴾ أي : اطلبوا حياتهن بأن لا تقتلوهن، قال قتادة : هذا غير القتل الأول لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان، فلما بعث موسى عليه السلام أعاد القتل عليهم فمعناه أعيدوا عليهم القتل لئلا ينشؤوا على دين موسى فيقوى بهم، وهذه العلة مختصة بالبنين فلهذا أمر بقتل الأبناء واستحياء نسائهم ﴿ وما ﴾ أي : والحال أنه ما ﴿ كيد الكافرين ﴾ تعميماً وتعليقاً بالوصف ﴿ إلا في ضلال ﴾ أي : مجانبة للسداد الموصل إلى الظفر والفوز لأنه ما أفادهم أولاً في الحذر من موسى عليه السلام ولا آخراً في صد من آمن به مرادهم بل كان فيه تبارهم وهلاكهم، وكذا أفعال الفجرة مع أوليائه تعالى ما حفر أحد منهم لأحد منهم حفرة مكراً إلا أركسه الله تعالى فيها.
﴿ وقال فرعون ﴾ أي : أعظم الكفرة في ذلك الوقت لرؤساء أتباعه عندما علم أنه عاجز عن قتله، وملأه ما رأى منه خوفاً دافعاً عن نفسه ما يقال من أنه ما ترك موسى عليه السلام مع استهانته به إلا عجزاً منه موهماً أن قومه هم الذين يردونه عنه وأنه لولا ذلك لقتله. ﴿ ذروني ﴾ أي : اتركوني على أي حالة كانت ﴿ أقتل موسى ﴾ وزاد في الإيهام للأغبياء والمناداة على نفسه عند البصراء بقوله :﴿ وليدع ربه ﴾ أي : الذي يدعوه ويدعي إحسانه إليه بما يظهر على يديه من هذه الخوارق، وقيل : كان في خاصة قوم فرعون من يمنعه من قتل موسى، وفي منعه من قتله وجوه ؛ أولها : لعله كان فيهم من يعتقد بقلبه كون موسى عليه السلام صادقاً فيتحيل في منع فرعون من قتله، وثانيها : قال الحسن : إن أصحابه قالوا له : لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكن أن يغلب سحرنا فإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس ويقولون : إنه كان محقاً وعجزوا عن جوابه فقتلوه، وثالثها : أنهم كانوا يحتالون في منعه من قتله لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب تلك الأقوام ؛ لأن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكهم بخصم خارجي حتى يصيروا آمنين من قبل ذلك الملك، وقرأ ابن كثير بفتح الياء والباقون بالسكون.
ثم ذكر فرعون السبب الموجب لقتل موسى عليه السلام وهو إما فساد الدين أو فساد الدنيا فقال :﴿ إني أخاف ﴾ أي : إن تركته ﴿ أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد ﴾ أي : لا بد من وقوع أحد الأمرين إما فساد الدين، وإما فساد الدنيا. أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو دينهم الذي كانوا عليه فلما كان موسى عليه السلام ساعياً في إفساده اعتقدوا أنه ساع في إفساد الدين الحق، وأما فساد الدنيا فهو أن يجتمع عليه أقوام ويصير ذلك سبباً في وقوع الخصومات وإثارة الفتن، وبدأ فرعون بذكر الدين أولاً لأن حب الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم.
ولما توعد فرعون موسى عليه السلام بالقتل لم يأت في دفع شره إلا بأن استعان بالله واعتمد على فضله كما قال تعالى :﴿ وقال موسى إني عذت ﴾ أي : اعتصمت عند ابتداء الرسالة ﴿ بربي ﴾ ورغبهم في الاعتصام به وثبتهم بقوله :﴿ وربكم ﴾ أي : المحسن إلينا أجمعين وأرسلني لاستنقاذكم من أعداء الدين والدنيا ﴿ من كل متكبر ﴾ أي : عات طاغ متعظم على الحق هذا وغيره ﴿ لا يؤمن ﴾ أي : لا يتجدد له تصديق ﴿ بيوم الحساب ﴾ من ربه له وهو يعلم أنه لا بد من حسابه هو لمن تحت يده من رعاياه وعبيده فيحكم على ربه بما لا يحكم به على نفسه، وبهذين الأمرين يقدم الإنسان على اتقاء الناس لأن المتكبر القاسي القلب قد يحمله طبعه عن إيذاء الناس إلا أنه إذا كان مقراً بالبعث والحساب صار خوفه من الحساب مانعاً له عن الجري على موجب تكبره، فإذا لم يحصل له الإيمان بالبعث والقيامة كان طبعه داعياً له إلى الإيذاء لأن المانع وهو الخوف من السؤال والحساب زائل فلا جرم تعظم القسوة والإيذاء.
واختلف في الرجل المؤمن في قوله تعالى :﴿ وقال رجل مؤمن ﴾ أي : راسخ الإيمان ﴿ من آل فرعون ﴾ أي : من وجوههم ورؤسائهم ﴿ يكتم إيمانه ﴾ أي : يخفيه خفاء شديداً خوفاً على نفسه، فقال مقاتل والسدي : كان قبطياً ابن عم فرعون وهو الذي حكى الله تعالى عنه :﴿ وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى ﴾ ( القصص : ٢٠ )، وقيل : كان إسرائيلياً، وعن ابن عباس : لم يكن في آل فرعون غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى عليه السلام الذي قال : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«الصديقون حبيب النجار مؤمن آل يس، ومؤمن آل فرعون الذي قال ﴿ أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ﴾ ( غافر : ٢٨ )
والثالث أبو بكر الصديق وهو أفضلهم ». وعن جعفر بن محمد أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سراً وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه جهاراً ﴿ أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ﴾ وروي عن عروة بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً وقال له : أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا ؟ قال : أنا ذلك فأقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :﴿ أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ﴾ فكان أبو بكر أشد من ذلك ». وعن أنس بن مالك قال :«ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله قالوا : من هذا ؟ قيل : هذا ابن أبي قحافة ». قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : وأكثر العلماء كان اسم الرجل حزقيل، وقال ابن إسحاق : جبريل، وقيل : حبيب.
ولما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه ما زاد في دفع فرعون وشره على الاستعاذة بالله تعالى، بين أنه تعالى قبض له إنساناً أجنبياً حتى ذب عنه بأحسن الوجوه، وبالغ في تسكين تلك الفتنة فقال :﴿ أتقتلون رجلاً ﴾ أي : هو عظيم في الرجال حساً ومعنى ثم علل قتلهم له بما ينافيه فقال :﴿ أن ﴾ أي : لأجل أن ﴿ يقول ﴾ قولاً على سبيل الإنكار ﴿ ربي ﴾ أي : المربي والمحسن إلي ﴿ الله ﴾ أي : الجامع لصفات الكمال ﴿ وقد ﴾ أي : والحال أنه قد ﴿ جاءكم بالبينات ﴾ أي : الآيات الظاهرات من غير لبس ﴿ من ربكم ﴾ أي : الذي لا إحسان عندكم إلا منه ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية على أن الإقدام على قتله غير جائز وهي حجة مذكورة على طريق التقسيم فقال :﴿ وإن يك ﴾ أي : هذا الرجل ﴿ كاذباً فعليه ﴾ أي : خاصة ﴿ كذبه ﴾ أي : كان وبال كذبه عليه وليس عليكم منه ضرر فاتركوه ﴿ وإن يك صادقاً يصيبكم بعض الذي يعدكم ﴾ أي : العذاب عاجلاً وله صدقه ينفعه ولا ينفعكم شيئاً، فإن قيل : لم قال ﴿ بعض الذي يعدكم ﴾ وهو نبي صادق لا بد لما يعدهم أن يصيبهم كله ؟ أجيب : بأنه إنما قال ذلك ليهضم موسى بعض حقه في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً فضلاً عن أن يتعصب له، وهذا أولى من قول أبي عبيدة وغيره أن بعض بمعنى كل، وأنشد قول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو ترتبط بعض النفوس حمامها
وأنشد أيضاً قول عمرو بن سهم :
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقال الآخر :
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
وقوله :﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له مجامع العظمة ﴿ لا يهدي ﴾ إلى ارتكاب ما ينفع واجتناب ما يضر ﴿ من هو مسرف ﴾ بإظهار الفساد وبتجاوز الحدود ﴿ كذاب ﴾ فيه احتمالان ؛ أحدهما : أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى عليه السلام، والمعنى أن الله تعالى هدى موسى عليه السلام إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة ومن هداه الله تعالى إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذاباً، فدل على أن موسى عليه السلام ليس من المسرفين الكذابين، ثانيهما : أن يكون المراد أن فرعون مسرف في عزمه على قتل موسى عليه السلام كذاب في ادعائه الإلهية والله تعالى لا يهدي من هذا شأنه وصفته بل يبطله ويهدم أمره.
ولما استدل مؤمن آل فرعون على أنه لا يجوز قتل موسى عليه السلام، خوف فرعون وقومه ذلك العذاب الذي توعدهم به في قوله :﴿ يصيبكم بعض الذي يعدكم ﴾ فقال :﴿ يا قوم ﴾ وعبر بأسلوب الخطاب دون التكلم تصريحاً بالمقصود فقال :﴿ لكم الملك ﴾ ونبه على ما يعرفونه من تقلبات الدهر بقوله :﴿ اليوم ﴾ وأشار إلى ما عهدوه من الخذلان في بعض الأزمان بقوله :﴿ ظاهرين ﴾ أي : عالين على بني إسرائيل وغيرهم، وما زال أهل البلاء يتوقعون الرخاء وأهل الرخاء يتوقعون البلاء ونبه بقوله :﴿ في الأرض ﴾ أي : أرض مصر على الاحتياج ترهيباً لهم وعرفها لأنها كالأرض كلها لحسنها وجمعها المنافع ثم حذرهم من سخط الله تعالى فقال :﴿ فمن ينصرنا ﴾ أي : أنا وأنتم أدرج نفسه فيهم عند ذكر الشر بعد إفراده لهم بالملك إبعاداً للتهمة وحثاً على قبول النصيحة. ﴿ من بأس الله ﴾ أي : الذي له الملك كله ﴿ إن جاءنا ﴾ أي : غضباً لهذا الذي يدعي أنه أرسله فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله تعالى بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد.
ولما قال المؤمن هذا الكلام ﴿ قال فرعون ﴾ أي : لقومه جواباً لما قاله هذا المؤمن :﴿ ما أريكم ﴾ من الآراء ﴿ إلا ما أرى ﴾ أي : إنه صواب على قدر مبلغ علمي ولا أرى لكم إلا ما أرى لنفسي، وقال الضحاك : ما أعلمكم إلا ما أعلم ﴿ وما أهديكم ﴾ أي : بما أشرت به عليكم من قتل موسى وغيره ﴿ إلا سبيل الرشاد ﴾ أي : الذي أرى أنه صواب لا أظهر شيئاً وأبطن غيره.
ولما ظهر لهذا المؤمن أن فرعون ذل لكلامه ارتفع إلى أصرح من الأسلوب الأول كما أخبرنا الله تعالى بقوله :﴿ وقال الذي آمن ﴾ أي : بعد قول فرعون هذا الكلام الذي دل على عجزه وجهله وذله ﴿ يا قوم ﴾ وأكد لما رأى عندهم من إنكار أمره وخاف منهم اتهامه فقال :﴿ إني أخاف عليكم ﴾ أي : من المكابرة في أمر موسى عليه السلام ﴿ مثل يوم الأحزاب ﴾ أي : أيام الأمم الماضية يعني وقائعهم وجمع الأحزاب مع التفسير أغنى عن جمع اليوم مع أن إفراده أردع وأقوى في التخويف وأفظع للإشارة إلى قوة الله تعالى وأنه قادر على إهلاكهم في أقل زمان.
ولما أجمل فصل وبين أو أبدل بعد أن هول بقوله :﴿ مثل دأب ﴾ أي : عادة ﴿ قوم نوح ﴾ أي : فيما دهمهم من الهلاك الذي محقهم فلم يطيقوه مع ما كان فيهم من قوة المجادلة والمقاومة لما يريدونه ﴿ وعاد وثمود ﴾ مع ما بلغكم من جبروتهم.
تنبيه : لا بد من حذف مضاف يريد مثل جزاء دأبهم.
ولما كان هؤلاء أقوى الأمم اكتفى بهم وأجمل من بعدهم فقال :﴿ والذين من بعدهم ﴾ أي : بالقرب من زمانهم كقوم لوط ﴿ وما الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿ يريد ظلماً للعباد ﴾ أي : فلا يهلكهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم ولا يهلكهم بغير ذنب ولا يخلي الظالم منهم بغير انتقام وهو أبلغ من قوله تعالى :﴿ وما ربك بظلام للعبيد ﴾ ( فصلت : ٤٦ ) من حيث أن المنفي فيه حدوث تعلق إرادته بالظلم.
ولما أشرق من آفاق هذا الوعظ شمس البعث ونور الحشر قال :﴿ ويا قوم إني أخاف عليكم ﴾ وقوله :﴿ يوم التناد ﴾ أجمع المفسرون أنه يوم البعث وفي تسميته بهذا الاسم وجوه ؛ أولها : أن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة وأصحاب الجنة ينادون أصحاب النار كما حكى الله تعالى عنهم، ثانيها : قال الزجاج : هو قوله تعالى ﴿ يوم ندعو كل أناس بإمامهم ﴾ ( الإسراء : ٧١ ) ثالثها : ينادي بعض الظالمين بعضاً بالويل والثبور فيقولون يا ويلنا. رابعها : ينادون إلى المحشر. خامسها : ينادى المؤمن ﴿ هاؤم اقرءوا كتابيه ﴾ ( الحاقة : ١٩ ) والكافر ﴿ يا ليتني لم أوت كتابيه ﴾ ( الحاقة : ٢٥ ). سادسها : ينادى باللعنة على الظالمين. سابعها : يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح بين الجنة والنار ثم ينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت. ثامنها : ينادى بالسعادة والشقاوة إلا إن فلان بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً وفلان بن فلان شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبداً وهذه الأمور كلها تجتمع في هذا اليوم فلا بد من تسميته بها كلها.
ولما كان عادة المتنادين الإقبال وصف ذلك اليوم بضد ذلك لشدة الأهوال فقال تعالى مبدلاً أو مبيناً :﴿ يوم تولّون ﴾ أي : عن الموقف ﴿ مدبرين ﴾ قال الضحاك : إذا سمعوا زفير النار وفروا هرباً فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً فيرجعون إلى أماكنهم فذلك قوله تعالى :﴿ والملك على أرجائها ﴾ ( الحاقة : ١٧ )
وقوله تعالى :﴿ يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ﴾ ( الرحمان : ٣٣ ) وقال مجاهد : فارين من النار غير معجزين، وقيل : منصرفين عن الموقف إلى النار ثم أكد التهديد بقوله تعالى :﴿ مالكم من الله ﴾ أي : الملك الجبار الذي لا يذل ﴿ من عاصم ﴾ أي : من فئة تحميكم وتنصركم وتمنعكم من عذابه.
ثم نبه على قوة ضلالهم وشدة جهالتهم فقال تعالى :﴿ ومن يضلل الله ﴾ أي : الملك المحيط بكل شيء ﴿ فما له من هاد ﴾ أي : إلى شيء ينفعه بوجه من الوجوه.
تنبيه : في قراءة هاد ما تقدم في قوله :﴿ من واقٍ ﴾ ( الرعد : ٣٤ ).
ولما قال لهم مؤمن آل فرعون :﴿ ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾ ذكر لهم مثالاً بقوله تعالى :﴿ ولقد جاءكم ﴾ أي : جاء آباءكم يا معشر القبط، ولكنه عبر بذلك دلالة على أنهم على مذهب الآباء كما جرت به العادة من التقليد ومن أنهم على طبعهم لاسيما أن كانوا لم يفارقوا مساكنهم ﴿ يوسف ﴾ أي : نبي الله ابن نبي الله يعقوب ابن نبي الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم عليهم وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام ﴿ من قبل ﴾ أي : قبل زمن موسى عليه السلام ﴿ بالبينات ﴾ أي : الآيات الظاهرات لاسيما في أمر يوم التناد ﴿ فما زلتم ﴾ أي : ما برحتم أنتم تبعاً لآبائكم ﴿ في شك ﴾ أي : محيط بكم لم تصلوا إلى رتبة الظن ﴿ مما جاءكم به ﴾ من التوحيد، وقال ابن عباس : من عبادة الله وحده لا شريك له فلم تنتفعوا البتة بتلك البينات ودل على تمادي شكهم بقوله تعالى :﴿ حتى إذا هلك ﴾ فهو غاية أي : فما زلتم في شك حتى هلك ﴿ قلتم لن يبعث الله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ من بعده ﴾ أي : يوسف عليه السلام ﴿ رسولاً ﴾ أي : أقمتم على كفركم وظننتم أن الله لا يجدد عليكم الحجة، وهذا ليس إقراراً منهم برسالته بل هو ضم منهم إلى الشك في رسالته والتكذيب برسالة من بعده وقوله تعالى :﴿ كذلك ﴾ خبر مبتدأ مضمر أي : الأمر كذلك أو مثل هذا الضلال ﴿ يضل الله ﴾ أي : بما له من صفات القهر ﴿ من هو مسرف ﴾ أي : مشرك متغال في الأمور خارج عن الحدود ﴿ مرتاب ﴾ أي : شاك فيما تشهد به البينات بغلبة الوهم والانهماك في التقليد.
ثم بين تعالى ما لأجله بقوا في الشك والإسراف فقال سبحانه :﴿ الذين يجادلون ﴾ وهو مبتدأ أي : يخاصمون خصاماً شديداً ﴿ في آيات الله ﴾ أي : المحيط بأوصاف الكمال لاسيما الآيات الدالة على يوم التناد فإنها أظهر الآيات، وكذا الآيات الدالة على وجوده سبحانه وتعالى وعلى ما هو عليه من الصفات والأفعال وما يجوز عليه أو يستحيل ﴿ بغير سلطان ﴾ أي : برهان ﴿ أتاهم ﴾ وقوله :﴿ كبر ﴾ أي : جدالهم ﴿ مقتاً ﴾ خبر المبتدأ ويجوز في الذين أوجه أيضاً منها : أنه بدل من قوله تعالى :﴿ من هو مسرف ﴾ وإنما جمع اعتباراً بمعنى من، ومنها : أن يكون بياناً له، ومنها : أن يكون صفة له وجمع على معنى من أيضاً، ومنها أن ينصب بإضمار أعني، وقال الزجاج قوله :﴿ الذين يجادلون ﴾ تفسير لمسرف مرتاب يعني هم الذين يجادلون في آيات الله أي : في إبطالها بالتكذيب بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً ﴿ عند الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ و ﴾ كبر مقتاً أيضاً ﴿ عند الذين آمنوا ﴾ أي : الذين هم خاصته، ودلت الآية على أنه يجوز وصفه تعالى بأنه مقت بعض عباده إلا أنها صفة واجبة التأويل في حق الله تعالى كالغضب والحياء والعجب وقوله تعالى :﴿ كذلك ﴾ أي : ومثل هذا الطبع العظيم ﴿ يطبع الله ﴾ أي : الذي له جميع العظمة يدل على أن الكل من عند الله كما هو مذهب أهل السنة ﴿ على كل قلب متكبر ﴾ أي : متكلف ما ليس له وليس لأحد غير الله ﴿ جبار ﴾ أي : ظاهر الكبر قويه قهار.
وقال مقاتل : الفرق بين المتكبر والجبار أن المتكبر عن قبول التوحيد والجبار في غير الحق، قال الرازي : كما أن السعادة في أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، فعلى قول مقاتل المتكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله والجبار كالمضاد للشفقة على خلق الله، وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان : بتنوين الباء الموحدة، ووصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم : رأت عيني وسمعت أذني أو على حذف مضاف أي : على كل ذي قلب متكبر جبار فهي حينئذ مساوية لقراءة الباقين بغير تنوين.
ثم إن فرعون عليه اللعنة أعرض عن جواب المؤمن لأنه لم يجد فيه
مطعناً. ﴿ وقال فرعون يا هامان ﴾ وهو وزيره ﴿ ابن ﴾ وعرفه بشدة اهتمامه بالإضافة إليه في قوله ﴿ لي صرحاً ﴾ أي : بناء مكشوفاً عالياً لا يخفى على الناظر وإن بعد، من صرح الشيء إذا ظهر ﴿ لعلي أبلغ الأسباب ﴾ أي : التي لا أسباب غيرها لعظمها، وتعليله بالترجي الذي لا يكون إلا في الممكن دليل على أنه كان يلبس على قومه وهو يعرف الحق فإن عاقلاً لا يعد ما رامه في عداد الممكن العادي.
ولما كان بلوغها أمراً عظيماً أورده على نمط مشوق إليه ليعطيه السامع حقه من الاهتمام تفخيماً لشأنه ليتشوف السامع إلى بنائه بقوله :﴿ أسباب السماوات ﴾ أي : الأمور الموصلة إليها وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب إليه، وقرأ الكوفيون بسكون الياء والباقون بالفتح وقرأ ﴿ فأطّلع ﴾ حفص بنصب العين وفيه ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه جواب الأمر في قوله ابن لي فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه على قاعدة البصريين كقوله :
يا ناق سيري عنقاً فسيحاً إلى سليمان فنستريحا
وهذا أوفق لمذهب البصريين، ثانيها : قال أبو حيان : أنه منصوب على التوهم لأن خبر لعل جاء مقروناً بأن كثيراً في النظم وقليلاً في النثر، فمن نصب توهم أن الفعل المرفوع الواقع خبراً منصوب بأن والعطف على التوهم كثير وإن كان لا ينقاس، ثالثها : على جواب الترجي في لعل وهو مذهب كوفي وإلى هذا نحا الزمخشري وتبعه البيضاوي قال : وهو الأولى تشبيهاً للترجي بالتمني والباقون عطفاً على أبلغ أي : فلعله يتسبب عن ذلك ويتعقبه أني أتكلف الطلوع ﴿ إلى إله موسى ﴾ ولعله أراد أن يبني له صرحاً في موضع عال يرصد فيه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله تعالى إياه أو أن يرى فساد قول موسى، فإن أخباره عن إله السماء يتوقف على اطلاعه ووصوله إليه وذلك لا يتأتى إلا بالصعود إلى السماء وهو مما لا يقوى عليه الإنسان وذلك لجهله بالله تعالى وكيفية أسبابه ﴿ وإني لأظنه ﴾ أي : موسى عليه السلام ﴿ كاذباً ﴾ في دعوى الرسالة وفي أن له إلهاً غيري قال فرعون ذلك تمويهاً ﴿ وكذلك ﴾ أي : مثل ذلك التزيين العظيم الشأن ﴿ زين ﴾ أي : زين المزين النافذ الأمر وهو الله تعالى حقيقة بخلقه وإلزامه لأن كل ما دخل في الوجود من المحدثات فهو خلقه والشيطان مجازاً بالتسبب بالوسوسة التي هي بخلق الله تعالى ﴿ لفرعون سوء عمله ﴾ في جميع أمره فأقبل عليه راغباً فيه مع بعده عن عقل أقل ذوي العقول فضلاً عن ذوي الهمم منهم فضلاً عن الملوك وأطاعه فيه قومه وقرأ غير الكوفيين ﴿ وصد ﴾ بفتح الصاد أي : نفسه ومنع غيره، وقرأ الكوفيون بضمها أي : منعه الله تعالى ﴿ عن السبيل ﴾ أي : طريق الهدى وهي الموصلة إلى الله تعالى ﴿ وما كيد فرعون ﴾ أي : في إبطال ما جاء به موسى عليه السلام ﴿ إلا في تباب ﴾ أي : خسار وهلاك عظيم محيط به لا يقدر على الخروج منه.
ولما كان فساد ما قال فرعون أظهر من أن يحتاج إلى بيان أعرض المؤمن عنه :
﴿ وقال الذي آمن ﴾ أي : مشيراً إلى وهن قول فرعون بالإعراض عنه بقوله :﴿ يا قوم ﴾ أي : يا من لا قيام لي إلا بهم وأنا غير متهم في نصيحتهم ﴿ اتبعوني ﴾ أي : كلفوا أنفسكم اتباعي لأن السعادة غالباً تكون فيما يكره الإنسان ﴿ أهدكم سبيل ﴾ أي : طريق ﴿ الرشاد ﴾ أي : الهدى لأنه مع سهولته واتساعه موصل ولا بد إلى المقصود، وأما ما قال فرعون مدعياً أنه سبيل الرشاد فلا يوصل إلا إلى النار فهو تعريض به شبيه بالتصريح به، وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي لأدنى أهل الإيمان أن لا يخلي نفسه عن الوعظ لغيره، وقرأ ابن كثير بإثبات الياء بعد النون وقفاً ووصلاً، وأثبتها قالون وأبو عمرو وصلاً لا وفقاً، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً.
ثم إن ذلك المؤمن زهدهم في الدنيا وكرر :﴿ يا قوم ﴾ كما كرر إبراهيم عليه السلام ﴿ يا أبت ﴾ زيادة في استعطافهم بقوله :﴿ إنما هذه الحياة ﴾ وحقرها بقوله :﴿ الدنيا ﴾ إشارة إلى دناءتها بقوله :﴿ متاع ﴾ إشارة إلى أنها جيفة لأنها في اللغة من جملة مدلولات المتاع فلا يتناول منها إلا كما يتناول المضطر من الجيفة لأنها دار النقلة والزوال والتزود والارتحال، والإخلاد إليها هو أصل الشر كله ومنه تشعب جميع ما يؤدي إلى سخط الله تعالى ويجلب الشقاوة في العاقبة ثم رغبهم في الآخرة بقوله :﴿ وإن الآخرة ﴾ أي : لكونها مقصودة بالذات ﴿ هي دار القرار ﴾ أي : التي لا تحول منها أصلاً لأنها الوطن المستقر، قال بعض العارفين : لو كانت الدنيا ذهباً فانياً والآخرة خزفاً باقياً لكانت الآخرة خيراً من الدنيا فكيف والدنيا خزف فان والآخرة ذهب باق بل أشرف وأحسن، وكما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب فكان الترغيب في نعيم الجنان والترهيب من عذاب النيران من أعظم وجوه الترغيب والترهيب. والآية من الاحتباك ذكر المتاع أولاً دليلاً على حذف التوسع ثانياً والقرار ثانياً دليلاً على حذف الارتحال أولاً.
ثم قال ذلك المؤمن لقومه :﴿ من عمل سيئة ﴾ أي : ما يسوء من أي صنف كان الذكور والإناث المؤمنين والكافرين ﴿ فلا يجزى ﴾ أي : من الملك الذي لا ملك سواه ﴿ إلا مثلها ﴾ عدلاً منه لا يزاد عليها مقدار ذرة ولا أصغر منها ﴿ ومن عمل صالحاً ﴾ أي : ولو قل ﴿ من ذكر أو أنثى وهو ﴾ أي : والحال أنه ﴿ مؤمن ﴾ إذ لا يصح عمل بدون إيمان ﴿ فأولئك ﴾ أي : العالو الرتبة والهمة ﴿ يدخلون الجنة ﴾ أي : بأمر من له الأمر كله بعد أن تضاعف لهم أعمالهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وشعبة بضم الياء وفتح الخاء والباقون بفتح الياء وضم الخاء ﴿ يرزقون فيها ﴾ أي : الجنة من غير احتياج إلى تحيل ولا إلى أسباب ﴿ بغير حساب ﴾ لخروج ما فيها لكثرته عن الحصر فإن أدنى أهلها منزلة لو أضاف كل أهل الأرض لكفاهم من غير أن ينقص من ملكه شيء، وهذا من باب الفضل وفضل الله لا حد له ورحمته غلبت غضبه، وأما جزاء السيئة فمن باب العدل فلذلك وقع الحساب فيها لئلا يقع الظلم، قال الأصبهاني : فإذا عارضنا عمومات الوعيد بعمومات الوعد ترجح الوعد بسبق الرحمة الغضب فانهدمت قواعد المعتزلة.
ثم كرر الوعظ عليهم بقوله :﴿ ويا قوم ما ﴾ أي : أي شيء من الحظوظ والمصالح ﴿ لي ﴾ في أني ﴿ أدعوكم إلى النجاة ﴾ والجنة شفقة عليكم ورحمة لكم واعترافاً بحقكم ﴿ وتدعونني إلى النار ﴾ والهلاك بالكفر فالآية من الاحتباك، ذكر النجاة الملازمة للإيمان أولاً دليلاً على حذف الهلاك الملازم للكفران ثانياً والنار ثانياً دليلاً على حذف الجنة أولاً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بفتح ياء مالي والباقون بسكونها واتفقوا على سكون الياء من تدعونني.
ولما أخبر ذلك المؤمن بقلة إنصافهم إجمالاً بينه بقوله :﴿ تدعونني ﴾ أي : توقعون دعائي إلى معبوداتكم ﴿ لأكفر ﴾ أي : لأجل أن أكفر ﴿ بالله ﴾ الذي له مجامع القهر والعز والعظمة والكبرياء ﴿ وأشرك به ﴾ أي : أجعل له شريكاً ﴿ ما ليس لي به ﴾ أي : بربوبيته ﴿ علم ﴾ أي : نوع من العلم بصلاحيته لشيء من الشركة فهو دعاء إلى الكذب في شيء لا يحل الإقدام عليه إلا بالدليل القطعي الذي لا يحتمل نوعاً من الشرك، فالمراد بنفي العلم نفي الإله كأنه قال وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكاً للإله.
ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر بين أنه يدعوهم إلى الإيمان بقوله :﴿ وأنا أدعوكم ﴾ أي : أوقع دعاءكم الآن وقبله وبعده ﴿ إلى العزيز ﴾ أي : البالغ العزة الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، وأما فرعون فهو في غاية العجز فكيف يكون إلهاً وأما الأصنام فإنها أحجار منحوتة فكيف يعقل كونها آلهة، وقرأ نافع وأنا بالمد بعد النون، وقالون يمد ويقصر وورش بالمد لا غير والباقون بغير مد. وقوله :﴿ الغفار ﴾ أي : الذي يتكرر منه دائماً محو الذنوب عيناً وأثراً إشارة إلى أنهم يجب عليهم أن لا ييأسوا من رحمة الله تعالى بسبب إصرارهم على الكفر مدة مديدة فإن الإله العالم وإن كان عزيزاً لا يغلب قادراً لا يعارض لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة.
وقوله :﴿ لا جرم ﴾ رد لما دعوه إليه وجرم فعل بمعنى حق وفاعله ﴿ أنما ﴾ أي : الذي ﴿ تدعونني إليه ﴾ من هذه الأنداد ﴿ ليس له دعوة ﴾ بوجه من الوجوه فإنه لا إدراك له هذا إن أريد ما لا يعقل وإن أريد شيء مما يعقل فلا دعوة له مقبولة بوجه فإنه لا يقوم عليها دليل بل ولا شبهة موهمة ﴿ في الدنيا ﴾ أي : التي هي محل الأسباب الظاهرة ﴿ ولا في الآخرة ﴾ أي : ليس له استجابة دعوة فيهما فسمى استجابة الدعوة دعوة إطلاقاً لاسم أحد المتضايفين على الآخر كقوله تعالى ﴿ وجزاء سيئة سيئة مثلها ﴾ ( الشورى : ٤٠ ) وكقولهم :«كما تدين تدان »، وقيل : ليس له دعوة أي : عبادة في الدنيا لأن الأوثان لا تدعي الربوبية ولا تدعو إلى عبادتها وفي الآخرة تتبرأ من عابديها ثم قال :﴿ وأن مردنا ﴾ أي : مرجعنا ﴿ إلى الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بصفات الكمال فيجازي كل أحد بما يستحقه ﴿ وأن المسرفين ﴾ أي : المجاوزين للحدود العريقين في هذا الوصف، قال قتادة : وهم المشركون لقوله تعالى :﴿ هم ﴾ أي : خاصة ﴿ أصحاب النار ﴾ أي : ملازموها، وعن مجاهد : هم السفاكون للدماء بغير حلها، وقيل : الذين غلب شرهم هم المسرفون.
ولما بالغ هذا المؤمن في هذا الشأن ختم كلامه بخاتمة لطيفة هي قوله :﴿ فستذكرون ﴾ أي : قطعاً بوعد لا خلف فيه مع القرب ﴿ ما أقول لكم ﴾ حين لا ينفعكم الذكر في يوم الجمع الأعظم والزحام الذي يكون فيه القدم على القدم إذا رأيتم الأهوال والنكال والزلزال إن قبلتم نصحي أو لم تقبلوه.
ولما خوفهم بذلك توعدوه وخوفوه بالقتل فعوّل في دفع تخويفهم وكبرهم ومكرهم على الله تعالى بقوله :﴿ وأفوض ﴾ أي : أنا الآن بسبب أنه لا دعوة لغير الله ﴿ أمري ﴾ أي : فيما تمكرونه بي ﴿ إلى الله ﴾ أي : الذي أحاط بكل شيء قدرة وعلماً فهو يحمي منكم من شاء وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه السلام حين خوفه فرعون بالقتل فرجع موسى عليه السلام في دفع ذلك الشر إلى الله تعالى فقال :﴿ إني عُذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ﴾ ( غافر : ٢٧ )، وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالسكون.
ولما علق تفويضه بالاسم العلم الجامع المقتضي للإحاطة علل ذلك بقوله :﴿ إن الله ﴾ أي : الذي لا يخفى عليه شيء ﴿ بصير ﴾ أي : بالغ العلم ﴿ بالعباد ﴾ ظاهراً وباطناً فيعلم من يستحق النصرة فينصره لاتصافه بأوصاف الكمال ويعلم من يمكر فيرد مكره عليه بما له من الإحاطة، قال مقاتل : فلما قال هذه الكلمات قصدوا قتله.
﴿ فوقاه الله ﴾ أي : حصل له وقاية تنجيه منهم جزاء على تفويضه ﴿ سيئات ﴾ أي : شدائد ﴿ ما مكروا ﴾ ديناً ودنيا فنجاه مع موسى عليه السلام، قال قتادة : وكان قبطياً تصديقاً لوعده سبحانه بقوله تعالى :﴿ أنتما ومن اتّبعكما الغالبون ﴾ ( القصص : ٣٥ ).
ولما كان المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله قال تعالى :﴿ وحاق ﴾ أي : نزل محيطاً بعد إحاطة الإغراق ﴿ بآل فرعون ﴾ أي : فرعون وأتباعه لأجل إصرارهم على الكفر ومكرهم هذا إن قلنا : إن الآل مشترك بين الشخص وأتباعه وإن لم نقل ذلك فالإحاقة بفرعون من باب أولى لأن العادة جرت أنه لا يوصل إلى جميع أتباع الإنسان إلا بعد إذلاله وأخذه ﴿ سوء العذاب ﴾ أي : الغرق في الدنيا والنار في الآخرة، فإن قيل : قوله تعالى :﴿ وحاق بآل فرعون سوء العذاب ﴾ معناه : أنه رجع إليهم ما هموا به من المكر بالمسلمين، كقول العرب : من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً، فإذا فسر سوء العذاب بالغرق في الدنيا ونار جهنم في الآخرة لم يكن مكرهم راجعاً إليهم لأنهم لا يعذبون بذلك ؟ أجيب : بأنهم هموا بشر فأصابهم ما وقع عليه اسم السوء ولا يشترط في الحيق أن يكون الحائق ذلك السوء بعينه.
وقوله تعالى :﴿ النار ﴾ في إعرابه ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه بدل من سوء العذاب، قاله الزجاج، ثانيها : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هو أي : سوء العذاب النار لأنه جواب لسؤال مقدر وقوله تعالى :﴿ يعرضون ﴾ على هذين الوجهين يجوز أن يكون حالاً من النار وأن يكون حالاً من آل فرعون، ثالثها : أنه مبتدأ وخبره يعرضون ﴿ عليها غدواً وعشياً ﴾ أي : صباحاً ومساء، قال ابن مسعود : أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدو وتروح إلى النار ويقال : يا آل فرعون هذه منازلكم حتى تقوم الساعة. وقال قتادة : تعرض روح كل كافر على النار بكرة وعشياً ما دامت الدنيا. وروى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى يوم القيامة ».
ثم أخبر الله تعالى عن مستقر آل فرعون يوم القيامة بقوله سبحانه وتعالى :﴿ ويوم تقوم الساعة ﴾ يقال لهم :﴿ أدخلوا آل ﴾ أي : يا آل ﴿ فرعون ﴾ أي : هو بنفسه وأتباعه لأجل اتباعهم له فيما أضلهم به ﴿ أشد العذاب ﴾ وهو عذاب جهنم، أجارنا الله تعالى نحن وأحباءنا منها فإنه أشد مما كانوا فيه أو أشد عذاب جهنم، وهذه الآية نص على إثبات عذاب القبر كما نقل عن عكرمة ومحمد بن كعب، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بقطع الهمزة مفتوحة وكسر الخاء وصلاً وابتداء على أمر الملائكة بإدخالهم النار، والباقون بوصل الهمزة وضم الخاء وصلاً في الابتداء بضم الهمزة.
واختلف في العامل في قوله تعالى :﴿ وإذا ﴾ على ثلاثة أوجه ؛ أحدها : أنه معطوف على غدواً فيكون معمولاً ليعرضون على النار في هذه الأوقات كلها، قاله أبو البقاء، ثانيها : أنه معطوف على قوله إذا القلوب لدى الحناجر قاله الطبري ونظر فيه لبعد ما بينهما، وثالثها : أنه منصوب بإضمار اذكر أي : واذكر يا أشرف الخلق لقومك إذ ﴿ يتحاجون ﴾ أي : الكفار ﴿ في النار ﴾ أي : يتخاصمون فيها أتباعهم ورؤساؤهم مما لا يغنيهم ﴿ فيقول الضعفاء ﴾ أي : الأتباع ﴿ للذين استكبروا ﴾ أي : طلبوا أن يكونوا كبراءهم الرؤساء ﴿ إنا كنا لكم ﴾ أي : دون غيركم ﴿ تبعاً ﴾ أي : أتباعاً فتكبرتم على الناس بنا ﴿ فهل أنتم ﴾ أيها الكبراء ﴿ مغنون ﴾ أي : كافون ومجزئون وحاملون ﴿ عنا نصيباً من النار ﴾.
تنبيه : تبعاً اسم جمع لتابع ونحوه خادم وخدم، قال البغوي : والتبع يكون واحداً وجمعاً في قول أهل البصرة واحده تابع، وقال الكوفيون : هو جمع لا واحد له وجمعه أتباع، وقيل : إنه مصدر واقع موقع اسم الفاعل أي : تابعين، وقيل : مصدر ولكنه على حذف مضاف أي : ذوي تبع ونصيباً منصوب بفعل مقدر يدل عليه قولهم مغنون وتقديره : هل أنتم دافعون عنا نصيباً، وقيل : منصوب على المصدر، قال البقاعي : كما كان شيئاً كذلك ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ﴾ ( آل عمران : ١٠ ) في موضع غني فكذلك نصيباً ومن النار صفة لنصيباً.
﴿ قال الذين استكبروا ﴾ أي : من شدة ما هم فيه ﴿ إنا كل ﴾ أي : نحن وأنتم ﴿ فيها ﴾ فكيف نغني عنكم ولو قدرنا أغنينا عن أنفسنا ﴿ إن الله ﴾ أي : المحيط بأوصاف الكمال ﴿ قد حكم ﴾ بالعدل ﴿ بين العباد ﴾ أي : فأدخل أهل الجنة دارهم وأهل النار دارهم فلا يغني أحد عن أحد شيئاً فعند ذلك يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون كلهم إلى خزنة جهنم يسألونهم كما حكى الله عنهم بقوله سبحانه وتعالى :﴿ وقال الذين في النار ﴾.
﴿ وقال الذين في النار ﴾ أي : جميعاً الأتباع والمتبوعون ﴿ لخزنة جهنم ﴾ أي : لخزنتها فوضع جهنم موضع المضمر للتهويل أو لبيان محلهم فيها، قال البيضاوي : ويحتمل أن تكون جهنم أبعد دركاتها من قولهم بئر جهنام أي : بكسر الجيم والهاء وتشديد النون بعيد القعر، وقال بعض أهل اللغة : هي مشتقة من الجهومة وهي الغلظ سميت بذلك : لغلظ عذابها وهي عجمية منعت من الصرف للتعريف والعجمة، وقيل : عربية ومنعت من الصرف للتعريف والتأنيث ﴿ ادعوا ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم بأنكم لا تجدون ألماً من النار ﴿ يخفف عنا يوماً ﴾ أي : قدر يوم ﴿ من العذاب ﴾ أي : شيئاً، فيوماً ظرف ليخفف ومفعول يخفف محذوف أي : يخفف عنا شيئاً من العذاب في يوم ويجوز أن يكون من العذاب هو المفعول ليخفف ومن تبعيضية ويوماً ظرفاً، سألوا أن يخفف عنهم بعض العذاب لا كله في يوم ما لا في كل يوم ولا في يوم معين.
﴿ قالوا ﴾ أي : الخزنة لهم ﴿ أولم تك تأتيكم ﴾ على سبيل التجدد شيئاً في أثر شيء ﴿ رسلكم ﴾ أي : الذين هم منكم وأنتم جديرون بالإصغاء إليهم والإقبال عليهم لأن الجنس إلى الجنس أميل والإنسان من مثله أقبل ﴿ بالبينات ﴾ أي : التي لا شيء أوضح منها أرادوا بذلك إلزامهم الحجة وتوبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء وتعطيلهم أسباب الإجابة، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بضمها وكذلك رسلنا ورسلهم ﴿ قالوا ﴾ أي : الكفار ﴿ بلى ﴾ أي : أتونا كذلك ﴿ قالوا ﴾ أي : الخزنة لهم ﴿ فادعوا ﴾ أي : أنتم فإنا لا نشفع لكافر ﴿ وما دعاء الكافرين ﴾ أي : الذين ستروا مرأى عقولهم عن أنوار الحق ﴿ إلا في ضلال ﴾ أي : ذهاب في غير طريق موصل كما كانوا هم في الدنيا كذلك فإن الدنيا مزرعة الآخرة، من زرع شيئاً في الدنيا حصده في الآخرة والآخرة ثمرة الدنيا لا تثمر إلا من جنس ما غرس في الدنيا وفي هذا إقناطهم عن الإجابة.
ولما ذكر تعالى وقاية موسى عليه السلام وذلك المؤمن من مكر فرعون وقومه منّ بقوله تعالى :﴿ إنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ لننصر رسلنا ﴾ أي : على من عاداهم ﴿ والذين آمنوا ﴾ أي : اتسموا بهذا الوصف ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ أي : بإلزامهم طريق الهدى الكفيلة بكل فوز وبالحجة والغلبة وإن غلبوا في بعض الأحيان، فإن العاقبة تكون لهم ولو بأن يقيض الله تعالى لأعدائهم من يقتص منهم ولو بعد حين وقل أن يتمكن أعداؤهم من كل ما يريدون منهم ﴿ ويوم يقوم الأشهاد ﴾ وهو جمع شاهد كصاحب وأصحاب والمراد بهم : من يقوم يوم القيامة للشهادة على الناس من الملائكة والأنبياء والمؤمنين، أما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب، وأما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال تعالى :﴿ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ﴾ ( النساء : ٤١ ) وأما المؤمنون فقال تعالى :﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ﴾ ( البقرة : ١٤٣ ).
وقوله تعالى :﴿ يوم ﴾ بدل من يوم قبله أو بيان له أو نصب بإضمار أعني يوم ﴿ لا تنفع الظالمين ﴾ أي : الذين كانوا عريقين في وضع الأشياء في غير موضعها ﴿ معذرتهم ﴾ أي : اعتذارهم، فإن قيل : هذا يدل على أنهم يذكرون الأعذار ولكن تلك الأعذار لا تنفعهم فكيف هذا مع قوله تعالى :﴿ ولا يؤذن لهم فيعتذرون ﴾ ( المرسلات : ٣٦ ) ؟ أجيب : بأن هذا لا يدل على أنهم ذكروا الاعتذار بل ليس فيه إلا أن ليس عندهم عذر مقبول، وهذا لا يدل على أنهم ذكروه أم لا وأيضاً يوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت ولا يعتذرون في وقت آخر، وقرأ نافع والكوفيون بالياء التحتية والباقون بتاء الخطاب ﴿ ولهم ﴾ أي : خاصة ﴿ اللعنة ﴾ أي : البعد عن كل خير مع الإهانة بكل ضير ﴿ ولهم ﴾ أي : خاصة ﴿ سوء الدار ﴾ أي : الآخرة أي : أشد عذابها.
ولما بين تعالى أنه ينصر الأنبياء والمؤمنين في الدنيا والآخرة ذكر نوعاً من أنواع تلك النصرة في الدنيا فقال تعالى :﴿ ولقد آتينا ﴾ أي : بما لنا من العزة ﴿ موسى الهدى ﴾ أي : ما يُهتَدَى به في الدنيا من المعجزات والصحف والشرائع ﴿ وأورثنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ بني إسرائيل ﴾ أي : بعدما كانوا فيه من الذل ﴿ الكتاب ﴾ أي : الذي أنزلناه عليه وآتيناه الهدى به وهو التوراة إيتاء هو الإرث لا ينازعهم فيه أحد توارثوه خلفاً عن سلف ولا أهل له في ذلك الزمان غيرهم وأورثناه لهم من بعد موسى عليه السلام حال كونه.
﴿ هدى ﴾ أي : بياناً عاماً لكل من تبعه ﴿ وذكرى ﴾ أي : عظة عظيمة ﴿ لأولي الألباب ﴾ أي : القلوب الصافية والعقول الوافية الشافية.
ولما بين تعالى أنه ينصر رسله وينصر المؤمنين في الدنيا والآخرة وضرب المثال في ذلك بحال موسى عليه السلام خاطب بعد ذلك محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :﴿ فاصبر ﴾ أي : يا أشرف الخلق على أذى قومك كما صبر موسى عليه السلام على أذى فرعون ﴿ إن وعد الله ﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿ حق ﴾ أي : في إظهار دينك وإهلاك أعدائك قال الكلبي : نسخت آية القتل آية الصبر، وقوله تعالى :﴿ واستغفر لذنبك ﴾ إما أن يكون المصدر مضافاً للمفعول أي : لذنب أمتك في حقك، وإما أن يكون ذلك تعبداً من الله تعالى ليزيده به درجة وليصير سنة يستن به من بعده ﴿ وسبح بحمد ربك بالعشي ﴾ هو من بعد الزوال ﴿ والإبكار ﴾ قال الحسن رضي الله عنه : يعني صلاة العصر وصلاة الفجر. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : الصلوات الخمس وذلك أن العشي من زوال الشمس إلى غروبها والإبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
ولما ابتدأ بالرد على الذين يجادلون في آيات الله واتصل الكلام بعضه ببعض على الترتيب المتقدم إلى هنا نبه تعالى على الماهية التي تحمل الكفار على تلك المجادلة فقال تعالى :﴿ إن الذين يجادلون ﴾ أي : يناصبون العداوة ﴿ في آيات الله ﴾ أي : الملك الأعظم الدالة على تمام قدرته اللازم منه قدرته على البعث الذي في تذكره صلاح الدين والدنيا ﴿ بغير سلطان ﴾ أي : برهان ﴿ أتاهم أن ﴾ أي : ما ﴿ في صدورهم ﴾ أي : بصدهم عن سواء السبيل، قال ابن عادل : ما حملهم على تكذيبك ﴿ إلا كبر ﴾ أي : تكبر عن الحق وتعظم عن التفكير والتعلم وآذن ذكر الصدور دون القلوب بعظمه جداً فإنه قد ملأ القلوب وفاض منها حتى شغل الصدور التي هي مساكنها ﴿ ما هم ببالغيه ﴾ قال مجاهد : ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لأن الله تعالى مذلهم، وقال ابن قتيبة : إن في صدورهم إلا كبر على محمد صلى الله عليه وسلم وطمع أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك، قال المفسرون : نزلت في اليهود وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :«إن صاحبنا المسيح بن داود يعنون الدجال يخرج في آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر ويرد الملك علينا » قال الله تعالى :﴿ فاستعذ ﴾ أي : اعتصم ﴿ بالله ﴾ أي : المحيط بكل شيء من فتنة الدجال ومن كيد من يحسدك ويبغى عليك وغير ذلك كما عاذ به موسى عليه السلام لينجز لك ما وعدك به كما أنجز له ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿ إنه هو ﴾ أي : وحده ﴿ السميع ﴾ أي : لأقوالهم ﴿ البصير ﴾ أي : لأفعالهم.
ولما وصف تعالى جدالهم في الآيات بأنه بغير سلطان ولا حجة ذكر لهذا مثالاً فقال :
﴿ لخلق السماوات ﴾ أي : على عظمها وارتفاعها وكثرة منافعها واتساعها ﴿ والأرض ﴾ أي : على ما ترون من عجائبها وكثرة منافعها ﴿ أكبر ﴾ عند كل من يعقل ﴿ من خلق الناس ﴾ أي : خلق الله تعالى لهم لأنهم شعبة يسيرة من خلقهما فعلم قطعاً أن الذي قدر على ابتدائه مع عظمه قادر على إعادة الناس على حقارتهم ﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ وهم الذين ينكرون البعث وغيره ﴿ لا يعلمون ﴾ أي : لا علم لهم أصلاً بل هم كالبهائم لغلبة الغفلة عليهم.
تنبيه : تقدير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره ينقسم ثلاثة أقسام ؛ أحدها : أن يقال لما قدر على الأضعف وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد. ثانيها : أن يقال لما قدر على الشيء قدر على مثله فهذا الاستدلال صحيح لما ثبت في الأصول أن حكم الشيء حكم مثله. ثالثها : أن يقال لما قدر على الأقوى الأكمل قدر على الأقل الأرذل بالأولى، وهذا الاستدلال في غاية الصحة والقوة ولا يرتاب فيه عاقل البتة ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السماوات والأرض هو الله تعالى ويعلمون بالضرورة أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، وكان من حقهم أن يقروا بأن القادر على خلق السماوات والأرض يكون قادراً على إعادة الإنسان الذي خلقه أولاً فهذا برهان كلي في إفادة هذا المطلوب، ثم إن هذا البرهان على قوته صار لا يعرفه أكثر الناس، والمراد منه : الذين ينكرون الحشر والنشر فظهر بهذا المثال أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم ولا حجة بل بمجرد الحسد والكبر والغضب.
ثم لما بين تعالى أن الجدال المقرون بالكبر والحسد والجهل كيف يكون وإن الجدال بالحجة والبرهان كيف يكون نبه تعالى على الفرق بين البيانين بذكر مثال فقال تعالى :﴿ وما يستوي ﴾ أي : بوجه من الوجوه من حيث البصر ﴿ الأعمى والبصير ﴾ أي : وما يستوي المستدل والجاهل المقلد ﴿ والذين آمنوا ﴾ أي : أوجدوا حقيقة الإيمان ﴿ وعملوا الصالحات ﴾ أي : تحقيقاً لإيمانهم ﴿ ولا المسيء ﴾ أي : وما يستوي المحسن والمسيء فلا زائدة للتوكيد لأنه لما طال الكلام بالصلة بعد قسم المؤمنين أعاد معه لا توكيداً، والمراد بالأول : التفاوت بين العالم والجاهل، وبالثاني : التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال السيئة الباطلة.
ولما تقرر هذا على هذا النحو من الوضوح الذي لا مانع للإنسان من فهمه ورسوخه قال تعالى :﴿ قليلاً ما يتذكرون ﴾ أي : يتعظ المجادلون وإن كانوا يعلمون أن العلم خير من الجهل وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد إلا أنه قليلاً ما يتذكرون، فبين في النوع الأول المعنى من الاعتقاد أنه علم أو جهل وفي النوع الثاني المعنى من العمل أنه عمل صالح أو فاسد.
تنبيه : التقابل يأتي على ثلاث طرق ؛ إحداها : أن يجاور المناسب ما يناسبه كهذه الآية. والثانية : أن يتأخر المتقابلان كقوله تعالى :﴿ مثل الفريقين ﴾ كالأعمى والأصم والبصير والسميع. الثالثة : أن يقدم مقابل الأول ويؤخر مقابل الآخر كقوله تعالى :﴿ وما يستوي الأعمى والبصير ( ١٩ ) ولا الظلمات ولا النور ﴾ ( فاطر : ١٩ ٢٠ )
كل ذلك تفنن في البلاغة، وقدم الأعمى في نفي التساوي لمجيئه بعد صفة الذم في قوله :﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ وقرأ الكوفيون بالتاء على تغليب المخاطب أو الالتفات للمذكورين بعد الإخبار عنهم، أو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة، والباقون بياء الغيبة نظراً لقوله تعالى :﴿ إن الذين يجادلون ﴾ وهم الذين التفت إليهم في قراءة الخطاب.
ولما قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة أردفه بالإخبار عن وقوعها فقال تعالى :﴿ إن الساعة ﴾ أي : القيامة التي يجادل فيها المجادلون ﴿ لآتية ﴾ أي : للحكم بالعدل بين المسيء والمحسن لأنه لا يسوغ في الحكمة عند أحد من الخلق أن يساوي بين محسن عبيده ومسيئهم ﴿ لا ريب ﴾ أي : لا شك ﴿ فيها ﴾ أي : في إتيانها.
ولما حصل الحال في أمرها إلى حد لا خفاء به أصلاً نفى الإيمان دون العلم فقال تعالى :﴿ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ أي : لا يصدقون بها وما ذاك إلا لعناد بعضهم ولقصور نظر الباقين على الحس.
تنبيه : يأتي قبل قيام الساعة فتن أعظمها فتنة المسيح الدجال فعن هشام بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«ما بين خلق آدم عليه السلام إلى قيام الساعة أكبر من خلق الدجال ». معناه أكبر فتنة وأعظم شوكة من الدجال، وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدجال فقال :«إنه أعور عين اليمنى كأنها عنبة طافية » ولأبي داود والترمذي عنه قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله تعالى بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال :«إني أنذركموه وما من نبي إلا أنذر قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه تعلمون إنه أعور والله سبحانه ليس بأعور ». وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما من نبي إلا وأنذر قومه وأمته الأعور الدجال ألا وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر » وفي رواية مسلم :«بين عينيه ك ف ر يقرؤه كل مسلم ». وعن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فذكر الدجال فقال :«إن بين يديه ثلاثة سنين سنة تمسك السماء ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها، والثالثة تمسك السماء قطرها كله والأرض نباتها كله فلا تبقى ذات ظلف ولا ذات ضرس من البهائم إلا هلكت، ومن أشد فتنته أن يأتي الأعرابي فيقول : أرأيت إن أحييت لك إبلك ألست تعلم أني ربك ؟ فيقول : بلى، فيمثل له مثل إبله كأحسن ما تكون ضروعاً وأسنمة، ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه فيقول : إن أحييت لك أباك وأحييت لك أخاك ألست تعلم أني ربك ؟ فيقول : بلى، فيمثل له الشيطان نحو أبيه ونحو أخيه قالت : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته ثم رجع والقوم في اهتمام وغم مما حدثهم فأخذ بلحمتي الباب فقال : مهيم أسماء قلت : يا رسول الله قد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال قال : إن يخرج وأنا حي فأنا حجيجه وإلا فربي خليفتي على كل مؤمن، قالت : فقلت يا رسول الله : إنا لنعجن عجيننا فما نخبزه حتى نجوع فكيف بالمؤمنين حينئذ ؟ قال : يجزيهم ما يجزي أهل السماء من التسبيح والتقديس ». وروى البغوي بسنده عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كاضطرام السعفة في النار » انتهى. والذي جاء في صحيح مسلم قالت : قلت يا رسول الله ما مكثه في الأرض ؟ قال :«أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم قلنا : يا رسول الله فذلك اليوم الذي كسنة يكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : لا اقدروا له قدراً، قلنا : يا رسول الله وما إسراعه في الأرض ؟ قال : كالغيث استدبرته الريح ». وفي رواية أبي داود :«فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فإنها جواركم من فتنته » ومنه :«ثم ينزل عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيدركه عند باب لد فيقتله » وعن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن مع الدجال إذا خرج ماء وناراً، فأما الذي يرى الناس أنه نار فماء بارد وأما الذي يرى الناس أنه ماء فنار تحرق، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يرى الناس أنه نار فإنه ماء عذب بارد ». وعن أبي هريرة :«ألا أحدثكم حديثاً عن الدجال ما حدث به نبي قومه إنه أعور وإنه يجيء بمثال الجنة والنار فالتي يقول : إنها الجنة هي النار وإني أنذركم كما أنذر نوح قومه » وعن المغيرة بن شعبة قال :«ما سأل أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدجال أكثر ما سألته وأنه قال لي : ما يضرك قلت إنهم يقولون : أن معه جبال خبز ونهر ماء قال : هو أهون على الله من ذلك ».
أي : أهون على الله من أن يجعل ما خلق الله بيده مضلاً للمؤمنين ومشككاً لقلوبهم، بل إنما جعله الله تعالى ليزدادوا إيماناً وتثبت الحجة على الكافرين والمنافقين، وليس معناه ليس معه شيء من ذلك لما مر في الحديث أن معه ماء وناراً وذكر فيه أحاديث كثيرة، وفي هذا القدر تذكرة لأولي الألباب أجارنا الله تعالى وأحبابنا من فتنته آمين.
ولما بين تعالى أن القول بالقيامة حق وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله والتضرع إليه لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات. ولما كان أشق أنواع الطاعات الدعاء والتضرع لا جرم أمر الله تعالى به فقال سبحانه :﴿ وقال ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم بهدايتكم ووعدكم النصرة ﴿ ادعوني ﴾ أي : اعبدوني دون غيري ﴿ أستجب لكم ﴾ أي : أثبكم وأغفر لكم بقرينة قوله تعالى :﴿ إن الذين يستكبرون ﴾ أي : يوجدون الكبر ﴿ عن عبادتي ﴾ أي : عن الاستجابة لي فيما دعوت إليه من العبادة بالمجادلة في آياتي والإعراض عن دعائي ﴿ سيدخلون ﴾ أي : بوعد لا خلف فيه ﴿ جهنم ﴾ فتلقاهم جزاء على كفرهم بالتجهم والعبوسة والكراهة ﴿ داخرين ﴾ أي : صاغرين حقيرين ذليلين وإن فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلاً منزلته للمبالغة والمراد بالعبادة : الدعاء فإنه من أبوابها، روي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«الدعاء مخ العبادة » وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من لم يسأل الله تعالى يغضب عليه »، فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم قال حكاية عن ربه عز وجل :«من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين » فهذا يقتضي أن ترك الدعاء أفضل فكيف من لم يسأل الله يغضب ؟ أجيب : بأنه إن كان مستغرقاً في الثناء على الله تعالى فهو أفضل من الدعاء لأن الدعاء طلب الجنة والاستغراق في معرفة الله تعالى وجلاله أفضل من طلب الجنة وإلا فالدعاء أفضل، وعن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر :«الدعاء هو العبادة » ثم قرأ الآية، فإن قيل : كيف قال تعالى :﴿ ادعوني أستجب لكم ﴾ وقد يدعو الإنسان كثيراً فلا يستجاب له ؟ أجاب الكعبي : بأن الدعاء إنما يصح بشرط ومن دعا كذلك أستجيب له، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة، ثم سأل نفسه فقال : إن الله تعالى يفعل ما هو الأصلح بغير دعاء فما فائدة الدعاء وأجاب عنه بأن فيه الفزع والانقطاع إلى الله تعالى، وأجاب الرازي عن الأول : بأن كل من دعا الله تعالى وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأصدقائه واجتهاده فهو في الحقيقة ما دعا الله تعالى إلا باللسان وأما القلب فهو يعول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله تعالى، فهذا إنسان ما دعا ربه وأما إذا دعا في وقت لا يكون القلب فيه ملتفتاً إلى غير الله تعالى فالظاهر أنه يستجاب له، وقال القشيري : الدعاء مفتاح الإجابة وأسنانه لقمة الحلال، وقرأ ابن كثير وشعبة بضم ياء سيدخلون وفتح الخاء والباقون بفتح الياء وضم الخاء.
ولما أمر الله تعالى بالدعاء فكأنه قيل الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بحصول المعرفة فما الدليل على وجود الإله القادر فقال تعالى مفتتحاً بالاسم الأعظم :
﴿ الله ﴾ أي : المحيط بصفات الكمال ﴿ الذي جعل لكم ﴾ لا غيره ﴿ الليل ﴾ أي : مظلماً ﴿ لتسكنوا فيه ﴾ راحة ظاهرة بالنوم الذي هو الموت الأصغر وراحة حقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة ﴿ والنهار مبصراً ﴾ لتنظروا فيه باليقظة التي هي إحياء بالمعنى، فالآية من الاحتباك حذف الظلام أولاً لكونه ليس من النعم المقصودة في نفسها لما دل عليه من الإبصار الذي هو المقصود من نعمة الضياء المقصود في نفسه، وحذف الانتشار لأنه بعض ما ينشأ عن نعمة الإبصار لما دل عليه من السكون الذي هو المقصود الأعظم من الليل للراحة لمن أرادها والعبادة لمن اعتمدها واستزادها، فإن قيل : هلا قيل بحسب رعاية النظم : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه أو يقال جعل لكم الليل ساكناً والنهار مبصراً ولكنه لم يقل ذلك فما الحكمة فيه وفي تقديم ذكر الليل ؟ أجيب عن الأول : بأن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عدمية فهو غير مقصود بالذات وأما النور واليقظة فأمور وجودية مقصودة بالذات، وقد بين الشيخ عبد القادر في دلائل الإعجاز أن دلالة صيغة الاسم على التمام والكمال أقوى من دلالة صيغة الفعل عليها فهذا هو السبب في الفرق، وأجيب عن الثاني : بأن الظلمة طبيعة عدمية والنور طبيعة وجودية والعدم في المحدثات مقدم على الوجود فلهذا السبب قال تعالى في سورة الأنعام ﴿ وجعل الظلمات والنور ﴾ ( الأنعام : ١ ). ﴿ إن الله ﴾ أي : ذا الجلال والإكرام ﴿ لذو فضل ﴾ أي : عظيم جداً باختياره ﴿ على الناس ﴾ أي : كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع ﴿ ولكن أكثر الناس لا يشكرون ﴾ الله فلا يؤمنون وينسبون أفعاله سبحانه إلى غيره جهلاً ويعلمون بما يسلب عنهم اسم الشكر من الشرك وغيره، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى :﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ ولم يقل ولكن أكثرهم ولا يكرر ذكر الناس ؟ أجيب : بأن في هذا التكرار تخصيصاً لكفران النعمة بهم وأنهم هم الذين يكفرون فضل الله تعالى ولا يشكرونه كقوله تعالى :﴿ إن الإنسان لظلوم كفار ﴾ ( إبراهيم : ٣٤ ).
ولما بين تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر قال تعالى :﴿ ذلكم ﴾ أي : أيها المخاطبون ﴿ الله ﴾ أي : الملك الأعظم المعلوم لكل أحد المتميز عن كل شيء بالأفعال التي لا يشاركه فيها أحد ﴿ ربكم ﴾ أي : المربي لكم المحسن إليكم ﴿ خالق كل شيء ﴾ أي : بما ثبت من تمام قدرته لأنه ﴿ لا إله إلا هو ﴾ أي : هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية فهي أخبار مترادفة وإذا كان خالق كل شيء ﴿ فأنى ﴾ أي : فكيف ومن أي وجه ﴿ تؤفكون ﴾ أي : تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.
﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا الصرف البعيد عن مناهج العقلاء ﴿ يؤفك ﴾ أي : يصرف ﴿ الذين كانوا ﴾ أي : مطبوعين على أنهم ﴿ بآيات الله ﴾ أي : ذي الجلال والكمال ﴿ يجحدون ﴾ أي : ينكرون عناداً ومكابرة.
ولما كان دلائل وجوده تعالى إما أن تكون من دلائل الآفاق وهي غير الإنسان وهي أقسام وذكر منها أحوال الليل والنهار كما تقدم، ذكر أيضاً منها ههنا الأرض والسماء فقال تعالى :﴿ الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ﴿ الذي جعل ﴾ أي : وحده ﴿ لكم الأرض ﴾ أي : مع كونها فراشاً ممهداً ﴿ قراراً ﴾ مع كونها في غاية الثقل ولا ممسك لها سوى قدرته ﴿ والسماء ﴾ أي : على علوها وسعتها مع كونها أفلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة ينشأ عنها الليل والنهار والأظلام ﴿ بناء ﴾ مظلة كالقبة من غير عماد وحامل. ثم ذكر دلائل النفس وهي دلالة أحوال بدن الإنسان على وجود الصانع القادر الحكيم بقوله تعالى :﴿ وصوركم ﴾ والتصوير على غير نظام واحد لا يكون إلا بقدرة قادر تام القدرة مختار ﴿ فأحسن صوركم ﴾ على أشكال وأحوال مع أنها أحسن الصور ليس في الوجود ما يشبهها لم يخلق الله تعالى حيواناً أحسن صورة من الإنسان كما قال تعالى :﴿ في أحسن تقويم ﴾ ( التين : ٤ ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : خلق الإنسان قائماً معتدلاً يأكل ويتناول بيده وغير ابن آدم يتناول بفيه.
ولما ذكر تعالى المساكن والساكن ذكر ما يحتاج إليه في مدة السكن فقال سبحانه ﴿ ورزقكم من الطيبات ﴾ أي : الشهية الملائمة للطباع وقيل : هو ما خلق الله تعالى لعباده من المأكل والمشرب من غير رزق الدواب، وعن الحسن : أنه قال لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام وذريته قالت الملائكة عليهم السلام : إن الأرض لا تسعهم قال الله تعالى : فإني جاعل موتاً، قالوا : إذاً لا يهنأ لهم العيش قال تعالى : فإني جاعل أملاً.
ولما دل هذا على التفرد قال تعالى على وجه الإنتاج ﴿ ذلكم ﴾ أي : الرفيع الدرجات ﴿ الله ﴾ أي : المالك لجميع الملك ﴿ ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم لا غيره ﴿ فتبارك ﴾ أي : ثبت ثباتاً عظيماً مع اليمن والخير وحسن المدد والفيض ﴿ الله ﴾ المختص بالكمال ﴿ رب العالمين ﴾ كلهم فهو المحسن إليهم بالتربية وغيرها.
ثم نبه تعالى بقوله سبحانه :﴿ هو الحي ﴾ بما يفيد الحصر بأنه لا حي على الدوام إلا هو ثم نبه تعالى على وحدانيته بقوله سبحانه :﴿ لا إله إلا هو ﴾ ثم أمر العباد بالإخلاص في الدعاء فقال تعالى :﴿ فادعوه ﴾ أي : اعبدوه ﴿ مخلصين له الدين ﴾ أي : من كل شرك جلي أو خفي.
ولما كان تعالى موصوفاً بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له :﴿ الحمد ﴾ أي : الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿ لله ﴾ أي : المسمى بهذا الاسم الجامع لمجامع معاني الأسماء الحسنى ﴿ رب العالمين ﴾ أي : الذي رباهم هذه التربية، وقال الفراء : هو خبر وفيه إضمار الأمر ومجازه فادعوه واحمدوه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من قال لا إله إلا الله فليقل : على أثرها الحمد لله رب العالمين.
ولما أورد على المشركين تلك الأدلة الدالة على إثبات إله العالم أمره بقوله تعالى :
﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء الذين يجادلونك في البعث مقابلاً لإنكارهم بالتوكيد ﴿ إني نهيت ﴾ أي : ممن لا نهي لغيره نهياً عاماً ببراهين العقول ونهياً خاصاً بأدلة النقل ﴿ أن أعبد الذين تدعون ﴾ أي : تعبدون ﴿ من دون الله ﴾ أي : الذي له الكمال كله، قال البقاعي : ودل على أنه ما كان متعبداً قبل البعثة بشرع أحد بقوله :﴿ لما جاءني البينات ﴾ أي : الحجج وهي ما تقدم من الدلائل الدالة على أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا له وأما الأحجار المنحوتة والأخشاب المصورة فلا تصح أن تكون شركاء له. ثم نبه على أنه تعالى كما يستحق الإفراد بالعبادة لذاته يستحقها شكراً لإحسانه بقوله :﴿ من ربي ﴾ أي : المربي لي تربية خاصة هي أعلى من كل مخلوق سواي فأنا أعبده عبادة تفوق عبادة كل عابد.
ولما أمره بما ينهى عنه أمره بما يتحلى به فقال :﴿ وأمرت أن أسلم ﴾ أي : حين دعي إلى الكفر ﴿ لرب العالمين ﴾ لأن كل ما سواه مربوب له فالإقبال عليه خسار وإذا نهى صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمر بهذا لكون الآمر والناهي هو رب العالمين كان غيره مشاركاً له في ذلك لا محالة.
ولما استدل تعالى على إثبات الإلهية بدليل الآفاق وذكر منها الليل والنهار والأرض والسماء، ثم ذكر الليل على إثبات الإله القادر بخلق الأنفس وهو نوعان ؛ أحدهما : حسن الصورة ورزق الطيبات، ذكر النوع الثاني : وهو كيفية تكوين البدن من ابتداء كونه نطفة وجنيناً إلى آخر الشيخوخة والموت فقال تعالى :﴿ هو ﴾ أي : لا غيره ﴿ الذي خلقكم من تراب ﴾ أي : بخلق أبيكم آدم عليه السلام منه، قال الرازي : وعندي لا حاجة إلى ذلك لأن كل إنسان فهو مخلوق من المني ومن دم الطمث، والمني مخلوق من الدم والدم إنما يتولد من الأغذية إما حيوانية وإما نباتية، والحال في ذلك الحيوان كالحال في تكوين الإنسان فكانت الأغذية كلها منتهية إلى النبات، والنبات إنما يكون من التراب والماء، فثبت أن كل إنسان متكون من التراب، ثم إن ذلك التراب يصير نطفة كما قال تعالى :﴿ ثم من نطفة ﴾ أي : من مني ﴿ ثم من علقة ﴾ أي : دم غليظ متباعد حاله عن حال النطفة كما كان حال النطفة متباعداً عن حال التراب ﴿ ثم ﴾ بعد أن جرت شؤون أخرى ﴿ يخرجكم ﴾ أي : يجدد إخراجكم شيئاً بعد شيء ﴿ طفلاً ﴾ أي : أطفالاً والتوحيد لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد منكم لا تملكون شيئاً ولا تعلمون شيئاً ﴿ ثم ﴾ يدرجكم في مدارج التربية صاعدين بالقوة في أوج الكمال طوراً بعد طور وحالاً بعد حال ﴿ لتبلغوا أشدكم ﴾ أي : تكامل قوتكم من الثلاثين سنة إلى الأربعين وعن الشعبي صغر الغلام لسبع سنين ويحتلم لأربع عشرة وينتهي طوله لإحدى وعشرين وينتهي عقله لثمان وعشرين ويبلغ أشده لثلاث وثلاثين ﴿ ثم ﴾ يهبطكم بالضعف والوهن في مهاوي السفول ﴿ لتكونوا شيوخاً ﴾ ضعفاء غرباء قد ماتت قوتكم ووهنت أركانكم، وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص بضم الشين والباقون بكسرها ﴿ ومنكم من يتوفى ﴾ بقبض روحه ﴿ من قبل ﴾ أي : قبل حال الشيخوخة أو قبل حال الأشدية أو قبل هذه الأحوال إذا خرج.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ لتبلغوا أشدكم ﴾ متعلق قال الزمخشري : بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا أشدكم وكذلك لتكونوا وأما قوله :﴿ ولتبلغوا ﴾ أي : كل واحد منكم ﴿ أجلاً مسمى ﴾ فمعناه ويفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى وهو وقت الموت وقيل : يوم القيامة ﴿ ولعلكم تعقلون ﴾ أي : ما في ذلك من العبر والحجج وتستدلون بهذه الأحوال العجيبة على وحدانية الله تعالى.
ولما ذكر تعالى انتقال الأجسام من كونها تراباً إلى أن بلغت الشيخوخة واستدل بهذه التقديرات على وجود الإله القادر أنتج قوله تعالى :﴿ هو ﴾ أي : لا غيره ﴿ الذي يحيي ويميت ﴾ كما تشاهدونه في أنفسكم فكما أن الانتقال من صفة إلى صفة أخرى من الصفات المتقدمة يدل على الإله القادر فكذلك الانتقال من الحياة إلى الموت وبالعكس يدل على الإله القادر.
ولما كانت إرادته لا تكون إلا تامة تسبب عن ذلك قوله تعالى :﴿ فإذا قضى أمراً ﴾ أي أراد أي : أمر كان من القيامة أو غيرها ﴿ فإنما يقول له كن فيكون ﴾ فلا يحتاج في تكوينه إلى عدة وتجشم كلفة، وقرأ ابن عامر بنصب النون والباقون بالرفع وتقدم توجيه ذلك في سورة البقرة.
ثم إنه تعالى عاد إلى ذم الذين يجادلون في آيات الله مخاطباً بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم فقال :﴿ ألم تر ﴾ أي : يا أنور الناس قلباً وأصفاهم لباً ﴿ إلى الذين يجادلون ﴾ أي : بالباطل ﴿ في آيات الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ أنى ﴾ أي : كيف ومن أي وجه ﴿ يصرفون ﴾ أي : عن التصديق وتكرير ذم المجادلة بتعدد المجادل والمجادل فيه أو للتوكيد.
وقوله تعالى :﴿ الذين كذبوا ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من الموصول قبله أو بياناً أو نعتاً أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوباً على الذم ﴿ بالكتاب ﴾ أي : بسببه في جمع ما له من الشؤون التي تفوق الحصر وهو القرآن أو بجنس الكتب السماوية ﴿ وبما أرسلنا ﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿ به رسلنا ﴾ أي : من جميع الملل والشرائع بكتاب كان أو بغيره ولذا تسبب عنه تهديدهم في قوله تعالى :﴿ فسوف يعلمون ﴾ أي : بوعد صادق لا خلف فيه ما يحل بهم من سطواتنا.
وقوله تعالى :﴿ إذِ الأغلال في أعناقهم ﴾ ظرف ليعلمون، فإن قيل : سوف للاستقبال وإذ للماضي فهو مثل قولك سوف أصوم أمس ؟ أجيب : بأن المعنى على إذا إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقنة مقطوعاً بها عبر عنها بلفظ ما كان ووجد والمعنى على الاستقبال قالوا وكما تقع إذا موقع إذ في قوله تعالى :﴿ وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها ﴾ ( الجمعة : ١١ ) كذلك تقع إذ موقعها وقوله تعالى :﴿ والسلاسل ﴾ عطف على الأغلال، فتكون في الأعناق، والسلسلة معروفة، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره في أرجلهم وخبره ﴿ يسحبون ﴾ والعائد محذوف أي : بها والسحب الجر بعنف، والسحاب من ذلك لأن الريح تجره أو أنه يجر الماء.
﴿ في الحميم ﴾ أي : الماء الحار الذي يكسب الوجوه سواداً والأعراض عاراً والأرواح عذاباً والأجسام ناراً ﴿ ثم في النار يسجرون ﴾ أي : يلقون فيها وتوقد بهم مكردسين كما يسجر التنور بالحطب، كما قال تعالى :﴿ وقودها الناس والحجارة ﴾ ( البقرة : ٢٤ )
والسجير الخليل الذي يسجر في مودة خليله، كقولهم : فلان يحترق في مودة فلان، هذه كيفية عقابهم.
﴿ ثم قيل لهم ﴾ تبكيتاً أي : بعد أن طال عذابهم وبلغ منهم كل مبلغ ولم يجدوا ناصراً يخلصهم ولا شافعاً يخصصهم ﴿ أين ﴾ وأكد التعبير عنهم بأداة ما لا يعقل في قوله تعالى :﴿ ما كنتم ﴾ أي : دائماً ﴿ تشركون ﴾.
﴿ من دون الله ﴾ أي : معه وهي الأصنام ﴿ قالوا ضلوا ﴾ أي : غابوا ﴿ عنا ﴾ فلا نراهم كما ضللنا نحن في الدنيا عما ينفعنا وذلك قبل أن تقرن آلهتهم أو ضاعوا عنا فلم نجد منهم ما كنا نتوقع منهم ﴿ بل لم نكن ندعو ﴾ أي : لم يكن ذلك في طباعنا ﴿ من قبل ﴾ أي : قبل هذه الإعادة ﴿ شيئاً ﴾ لنكون قد أشركنا به أنكروا عبادتهم إياها كقولهم في سورة الأنعام :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ ( الأنعام : ٢٣ ) وقال الحسن بن الفضل : أي : لم نكن نصنع من قبل شيئاً، أي : ضاعت عبادتنا لها كما يقول من ضاع عمله ما كنت أعمل شيئاً ثم يقرنون بآلهتهم كما قال تعالى :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ﴾ ( الأنبياء : ٩٨ ) أي : وقودها ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل إضلال هؤلاء المكذبين ﴿ يضل الله ﴾ أي : المحيط علماً وقدرة عن القصد النافع من حجة وغيرها ﴿ الكافرين ﴾ أي : الذين ستروا مرائي بصائرهم لئلا ينجلي فيها الحق ثم صار لهم ذلك ديدناً.
﴿ ذلكم ﴾ أي : الجزاء العظيم ﴿ بما كنتم ﴾ أي : دائماً ﴿ تفرحون ﴾ أي : تبالغون في السرور وتستغرقون فيه ﴿ في الأرض بغير الحق ﴾ من الإشراك وإنكار البعث فأشعر ذلك أن السرور لا ينبغي إلا إذا كان مع كمال هذه الحقيقة وهي الثبات دائماً للمفروح به وذلك لا يكون إلا في الجنة ﴿ وبما ﴾ أي : وبسبب ما ﴿ كنتم تمرحون ﴾ أي : تبالغون في الفرح مع الأشر والبطر والنشاط الموجب للاختيال والتبختر والخفة بعدم احتمال الفرح.
تنبيه : قوله تعالى :﴿ تفرحون وتمرحون ﴾ من باب التجنيس المحرف وهو أن يقع الفرق بين اللفظين بحرف.
ولما كان السياق لذم الجدال وكان الجدال إنما يكون عن الكبر قال تعالى :﴿ ادخلوا ﴾ أي : أيها المكذبون ﴿ أبواب جهنم ﴾ أي : الأبواب السبعة المقسومة لكم قال تعالى :﴿ لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ﴾ ( الحجر : ٤٤ )، وسميت : جهنم لأنها تلقى صاحبها بتكبر وعبوس وتجهم ﴿ خالدين فيها ﴾ أي : مقدرين الخلود ﴿ فبئس مثوى ﴾ أي : مأوى ﴿ المتكبرين ﴾ أي : عن الحق والمخصوص بالذم محذوف أي : مثواكم، فإن قيل : كان قياس النظم أن يقول : فبئس مدخل المتكبرين كما تقول : زرت بيت الله فنعم المزار وصليت في المسجد فنعم المصلى ؟ أجيب : بأن الدخول لا يدوم وإنما يدوم المثوى فلذلك خصه بالذم وإن كان الدخول أيضاً مذموماً.
ولما زيف تعالى طريقة المجادلين في آيات الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر بقوله :﴿ فاصبر ﴾ أي : على أذاهم بسبب المجادلة وغيرها ﴿ إن وعد الله ﴾ أي : الجامع لصفات الكمال ﴿ حق ﴾ أي : بنصرتك في الدارين فلا بد من وقوعه ﴿ فإما نرينك ﴾ قال الزمخشري : أصله فإن نرك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ولذلك ألحقت النون بالفعل ألا تراك لا تقول : إن تكرمني أكرمك ولكن إما تكرمني أكرمك، قال أبو حيان : وما ذكره من تلازم النون وما الزائدة ليس مذهب سيبويه إنما هو مذهب المبرد والزجاج ونص سيبويه على التخيير ﴿ بعض الذي نعدهم ﴾ به من العذاب في حياتك وجواب الشرط محذوف أي : فذاك ﴿ أو نتوفينك ﴾ أي : قبل تعذيبهم ﴿ فإلينا يرجعون ﴾ أي : فنعذبهم أشد العذاب فالجواب المذكور للمعطوف فقط.
﴿ ولقد أرسلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿ رسلاً ﴾ أي : بكثرة ﴿ من قبلك ﴾ إلى أممهم ليبلغوا عنا ما أمرناهم به ﴿ منهم من قصصنا ﴾ بما لنا من العظمة ﴿ عليك ﴾ أي : أخبارهم وأخبار أممهم ﴿ ومنهم من لم نقصص عليك ﴾ لا أخبارهم ولا أخبار أممهم ولا ذكرناهم لك بأسمائهم وإن كان لنا العلم التام والقدرة الكاملة، روي أن الله تعالى بعث ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف من بني إسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس ﴿ وما ﴾ أي : أرسلناهم والحال أنه ما ﴿ كان لرسول ﴾ أصلاً ﴿ أن يأتي بآية ﴾ أي : ملجئة أو غير ملجئة مما يطلب الرسول استعجالاً لاتباع قومه له أو اقتراحاً من قومه عليه ﴿ إلا بإذن الله ﴾ أي : بأمره وتمكينه فإن له الإحاطة بكل شيء فلا يخرج شيء عن أمره وهم عبيد مربوبون.
تنبيه : معنى الآية أن الله تعالى قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أنت كالرسل من قبلك وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين وليس منهم أحد أعطاه الله آيات ومعجزات إلا وقد جادله قومه وكذبوه فيها فصبروا وكانوا أبداً يقترحون على أنبيائهم عليهم السلام إظهار المعجزات الزائدة على الحاجة عناداً وعبثاً، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله تعالى والله سبحانه علم الصلاح في إظهار ما أظهروه دون غيره ولم يقدح ذلك في نبوتهم، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحاً لا جرم ما أظهرناها ﴿ فإذا جاء أمر الله ﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً بنزول العذاب على الكفار ﴿ قُضِي ﴾ أي : بأمره على أيسر وجه وأسهله بين الرسل ومكذبيهم ﴿ بالحق ﴾ الأمر الثابت ﴿ وخسر هنالك ﴾ أي : في ذلك الوقت العظيم ﴿ المبطلون ﴾ أي : المنسوبون إلى إيثار الباطل على الحق المعاندون الذين يجادلون في آيات الله، فيقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة تعنتاً وعبثاً، وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر، وسهل ورش وقنبل الهمزة الثانية وأبدلاها أيضاً ألفاً، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين.
ولما ذكر الله تعالى الوعيد عاد إلى ذكر ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم، وإلى ذكر ما يصلح أن يعد إنعاماً على العباد فقال تعالى :﴿ الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ الذي جعل لكم ﴾ أي : لا غيره ﴿ الأنعام ﴾ أي : الأزواج الثمانية بالتذلل والتسخير، وقال الزجاج : الأنعام الإبل خاصة ﴿ لتركبوا منها ﴾ وهي الإبل مع قوتها ونفرتها وقد تركب البقر أيضاً ﴿ ومنها ﴾ أي : من الأنعام كلها ﴿ تأكلون ﴾.
ولما كان التصرف فيها غير منضبط أجمله بقوله تعالى :﴿ ولكم فيها ﴾ أي : كلها ﴿ منافع ﴾ أي : كثيرة بغير ذلك من الدر والوبر والصوف وغيرها ﴿ ولتبلغوا عليها ﴾ وهي في غاية الذل والطواعية ونبههم على نقصهم وعظم نعمته عليهم بقوله تعالى :﴿ حاجة ﴾ أي : جنس الحاجة، وقوله تعالى :﴿ في صدوركم ﴾ إشارة إلى أن حاجة واحدة ضاقت عنها قلوب الجميع حتى فاضت منها فملأت مساكنها ﴿ وعليها ﴾ أي : الإبل في البر ﴿ وعلى الفلك ﴾ أي : في البحر ﴿ تحملون ﴾ أي : تحملون أمتعتكم الثقيلة من مكان إلى مكان آخر وأما حمل الإنسان نفسه فقد مر بالركوب، فإن قيل : لِمَ لم يقل وفي الفلك كما قال تعالى في سورة هود :﴿ قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين ﴾ ( هود : ٤٠ )
أجيب : بأن كلمة على للاستعلاء فالشيء الذي يوضع على الفلك كما صح أن يقال وضع فيه صح أن يقال وضع عليه، ولما صح الوجهان كانت لفظة على أولى حتى تتم المزاوجة في قوله تعالى ﴿ وعليها وعلى الفلك تحملون ﴾ ( المؤمنون : ٢٢ ) وقال بعضهم : أن لفظ فيها هناك أليق لأن سفينة نوح عليه السلام كما قيل مطبقة عليهم وهي محيطة بهم كالوعاء وأما غيرها فالاستعلاء فيه واضح لأن الناس على ظهرها.
ولما كانت هذه آية عظيمة جعلها الله سبحانه وتعالى مشتملة على آيات كثيرة قال تعالى :﴿ ويريكم ﴾ أي : في كل لحظة ﴿ آياته ﴾ أي : دلائل قدرته ﴿ فأي آيات الله ﴾ أي : المحيط بصفات الكمال الدالة على وحدانيته ﴿ تنكرون ﴾ حتى تتوجه لكم المجادلة في آياته وهذا استفهام توبيخ.
تنبيه : أي : منصوب بتنكرون وقدم وجوباً لأن له صدر الكلام وتذكيره أشهر من تأنيثه، قال الزمخشري : وقولك فأية آيات الله قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهو في أي : أغرب لإبهامه، قال أبو حيان : ومن قلة تأنيث أي : قول الشاعر :
بأي كتاب أم بأية سنة ترى حبهم عاراً علي وتحسب
قال ابن عادل : وقوله وهو في أي أغرب إن عنى أياً على الإطلاق فليس بصحيح ؛ لأن المستفيض في النداء أن تؤنث في نداء المؤنث كقوله تعالى :﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ﴾ ( الفجر : ٢٧ ) ولا نعلم أحداً ذكر تذكيرها فيه فيقول : يا أيها المرأة إلا صاحب «البديع في النحو » وإن عني غير المناداة فكلامه صحيح، يقل تأنيثها في الاستفهام وموصولة وشرطية.
ولما وصل الأمر إلى حد من الوضوح لا يخفى على أحد تسبب عنه لفت الخطاب عنهم دلالة على الغضب الموجب للعقاب المقتضي للرهب فقال تعالى :﴿ أفلم يسيروا ﴾ أي : هؤلاء الذين هم أضل من الأنعام، لما حصل في صدورهم من الكبر العظيم طلباً للرياسة والتقديم على الغير في المال والجاه ﴿ في الأرض ﴾ أي أرض كانت سير اعتبار ﴿ فينظروا ﴾ نظر تفكر فيما سلكوه من سبلها ونواحيها ﴿ كيف كان عاقبة ﴾ أي : آخر ﴿ الذين من قبلهم ﴾ أي : مع قرب الزمان والمكان أو بعد ذلك ﴿ كانوا أكثر منهم ﴾ عَدداً وعُدداً ومالاً وجاهاً ﴿ وأشد قوة ﴾ في الأبدان كقوم هود عليه السلام وبناء ﴿ وآثاراً في الأرض ﴾ بنحت البيوت في الجبال وحفر الآبار وبناء المصانع الجليلة وغير ذلك ﴿ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ﴾ بقوة أبدانهم وعظم عقولهم واحتيالهم وما رتبوا من المصانع لنجاتهم حين جاءهم الموت بل كانوا كأمس الذاهب.
تنبيه : ما الأولى نافية أو استفهامية منصوبة بأغنى، والثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به.
﴿ فلما جاءتهم رسلهم ﴾ أي : الذين قد أرسلناهم إليهم وهم يعرفون صدقهم وأماناتهم ﴿ بالبينات ﴾ أي : المعجزات الظاهرات الدالة على صدقهم لا محالة واختلف في عود ضمير فرحوا في قوله تعالى :﴿ فرحوا بما عندهم من العلم ﴾ على وجهين ؛ أحدهما : أنه عائد إلى الكفار واختلف في ذلك العلم الذي فرحوا به فقيل : هو الأشياء التي كانوا يسمونها علماً وهي الشبهات المحكية عنهم في القرآن كقولهم :﴿ ما يُهلكنا إلا الدهر ﴾ ( الجاثية : ٢٤ ) وقولهم :﴿ لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ﴾ ( الأنعام : ١٤٨ )
وقولهم :﴿ من يحيي العظام وهي رميم ﴾ ( يس : ٧٨ ) ﴿ ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً ﴾ ( الكهف : ٣٦ ) فكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء كما قال تعالى :﴿ كل حزب بما لديهم فرحون ﴾ ( الروم : ٣٢ ) وقيل : المراد علم الفلاسفة فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علوم الأنبياء عن علومهم، كما روي عن بقراط أنه سمع بمجيء بعض الأنبياء عليهم السلام فقيل له : لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهتدون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا. وقيل : المراد علمهم بأمر الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كقوله تعالى :﴿ يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ﴾ ( الروم : ٧ ) ﴿ ذلك مبلغهم من العلم ﴾ ( النجم : ٢٩ ) فلما جاءت الرسل عليهم السلام بعلوم الديانات ومعرفة الله عز وجل ومعرفة المعاد وتطهير النفس من الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزؤوا بها واعتقدوا أن لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به، ويجوز أن يكون المراد علم الأنبياء وفرح الكفار به ضحكهم واستهزاؤهم به ويؤيده قوله تعالى :﴿ وحاق ﴾ أي : أحاط على وجه الشدة ﴿ بهم ما كانوا به يستهزئون ﴾ أي : من الوعيد الذي كانوا قاطعين ببطلانه، والوجه الثاني : أنه عائد على الرسل وفيه وجهان ؛ أحدهما : أن تفرح الرسل إذا رأوا من قوم جهلاً كاملاً وإعراضاً عن الحق وعلموا سوء غفلتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله تعالى وحاق بالجاهلين جزاء جهلهم واستهزائهم، الثاني : أن المراد أن الرسل فرحوا بما عند الكفار من العلم فرح ضحك واستهزاء.
﴿ فلما رأوا ﴾ أي : عاينوا ﴿ بأسنا ﴾ أي : عذابنا الشديد ومنه قوله تعالى :﴿ بعذاب بئيس ﴾ ( الأعراف : ١٦٥ ) ﴿ قالوا آمنا بالله ﴾ أي : الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز ونفوذ الكلمة ﴿ وحده ﴾ لا نشرك به شيئاً ﴿ وكفرنا بما كنا ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ به مشركين ﴾ يعنون الأصنام أي : لأنا علمنا أنه لا يغني من دون الله شيء.
ولما كان الكفر بالغيب سبباً لعدم قبول الإيمان عند الشهادة قال تعالى :﴿ فلم يك ينفعهم ﴾ أي : لم يصح ولم يقبل بوجه من الوجوه ﴿ إيمانهم ﴾ أي : لا يتجدد لهم نفعه بعد ذلك لأنه إيمان الجاء واضطرار، لا إيمان طواعية واختيار ﴿ لما رأوا ﴾ وأظهر موضع الإضمار زيادة في الترهيب فقال تعالى شأنه :﴿ بأسنا ﴾ أي : عذابنا لامتناع قبول الإيمان حينئذ لأنه لا يتحقق ولا يتصور إلا مع الغيب، وأما عند الشهادة فقد كشفت سريرته على انه قد فاتت حقيقته وصورته، ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه، فإن قيل : أي : فرق بين قوله تعالى :﴿ فلم يك ينفعهم إيمانهم ﴾ وبينه، لو قيل فلم ينفعهم إيمانهم ؟ أجيب : بأنه من كان في نحو قوله تعالى :﴿ ما كان لله أن يتخذ من ولد ﴾ ( مريم : ٣٥ ) والمعنى فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم. فإن قيل : كيف ترادفت هذه الفاءات ؟ أجيب : بأن قوله تعالى :﴿ فما أغنى عنهم ﴾ نتيجة قوله تعالى :﴿ كانوا أكثر منهم ﴾ وأما قوله تعالى :﴿ فلما جاءتهم رسلهم ﴾ فجار مجرى البيان والتفسير لقوله تعالى :﴿ فما أغنى عنهم ﴾ كقولك رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء وقوله تعالى ﴿ فلما رأوا بأسنا ﴾ تابع لقوله تعالى :﴿ فلما جاءتهم ﴾ كأنه قال : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا فكذلك فلم يك ينفعهم إيمانهم تابع لإيمانهم لما رأوا بأس الله تعالى، وقوله تعالى :﴿ سنة الله ﴾ أي : الملك الأعظم، يجوز انتصابها على المصدر المؤكد لمضمون الجملة أي : الذي فعله الله تعالى بهم سنة سابقة من الله تعالى ويجوز انتصابها على التحذير أي : احذروا سنة الله تعالى في المكذبين ﴿ التي قد خلت في عباده ﴾ وتلك السنة أنهم إذا عاينوا العذاب آمنوا ولم ينفعهم إيمانهم.
فائدة : رسمت سنة بتاء مجرورة ووقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء، وأمال الكسائي الهاء في الوقف ﴿ وخسر ﴾ أي : هلك أي : تحقق وتبين أنه خسر ﴿ هنالك الكافرون ﴾ أي : العريقون في هذا الوصف فلا انفكاك بينهم وبين الكفر.
تنبيه : هنالك في الأصل اسم مكان قيل : استعير هنا للزمان ولا حاجة له فالمكانية فيه ظاهرة، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي صلى الله عليه وسلم :«من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي ولا صديق ولا شهيد ولا مؤمن إلا صلى عليه واستغفر له » حديث موضوع. وعن ابن سيرين رأى رجل في المنام سبع جوار حسان في مكان واحد لم ير أحسن منهن فقال لهن : لمن أنتن فقلن لمن يقرأ آل حم.
Icon