تفسير سورة الحاقة

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

شرح الكلمات:
الحاقة١: أي الساعة الواجبة الوقوع وهي القيامة.
بالقارعة: أم بالقيامة لأنها تقرع القلوب بالخوف والهول.
فأهلكوا بالطاغية: أي بطغيانهم وعتوهم عن أمر ربهم فأخذتهم صيحة طاغية أيضاً.
بريح صرصر عاتية: أي ذات صوت لشدة عصوفها عاتية على خزانها في الهبوب.
حسوماً: أي متتابعات الهبوب فلا فاصل كتتابع الكي القاطع للداء.
كأنهم أعجاز نخل خاوية: أي أصول نخل ساقطة فارغة ليس في جوفها شيء.
والمؤتفكات بالخاطئة: أي أهلها وهي قرى لوط بالفعلات ذات الخطأ.
أخذة رابية: أي زائدة في الشدة على غيرها.
لما طغا الماء: أي علا فوق كل شيء من الجبال وغيرها.
حملناكم في الجارية: أي السفينة التي صنعها نوح ونجا بها هو ومن معه من المؤمنين.
وتعيها أذن واعية: أي وتحفظها أذن واعية أي حافظة لما تسمع.
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ﴾ ٢ أي أي شيء هي٣؟ وما أدراك٤ ما الحاقة أي أي شيء أعلمك بها، والمراد بها القيامة لأنها حاقة المجيء لا محالة. وقوله تعالى ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ٥ بِالْقَارِعَةِ﴾ أي كذبت ثمود قوم صالح وعاد قوم هود بالقارعة أي بالقيامة. فهم ككفار قريش مكذبون بالبعث والجزاء. فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية أي بطغيانهم وعتوهم عن أمر ربهم
١ هي أسم للسورة روى أحمد أن عمر رضي الله عنه قال خرجت يوما بمكة أتعرض لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد الحرام فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت هذا والله شاعر (أي في خاطري) فقرأ ﴿وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون﴾ قلت: في خاطري كاهن، فقرأ ﴿ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين﴾ إلى آخر السورة فوقع في قلبي كل موقع. وسماها بعضهم (السلسلة) وبعضهم (الداعية).
٢ الحاقة أسم فاعل من حق الشيء فهو حاق إذا ثبت وقوعه، والظاهر أنها لموصوف محذوف أي الساعة الحاقة أو الواقعة الحاقة، وما في التفسير واضح وأولى.
٣ ما اسم استفهام مستعمل في التهويل والتعظيم والمعنى الحاقة أمر عظيم لا يدرك كنهه والحاقة مبتدأ وما مبتدأ ثان والحاقة خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول وجملة وما أدراك ما الحاقة معترضة بين جملة الحاقة وكذبت ثمود.
٤ روي عن ابن عباس وسفيان بن عيينة. كل ما ورد في القرآن بلفظ وما أدراك بصيغة الماضي فقد أدراه أي أعلمه به، وكل ما ورد بصيغة المضارع وما يدريك فقد طوي عنه ولم يعلمه به فالأول (وما أدراك ماهية نار حامية) (وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر) والثاني (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا)....
٥ كذبت ثمود كلام مستأنف بين فيه من كذبوا بالحاقة وهي الفارقة وسميت بالقارعة من قولهم (قوارع الدهر) أي أهواله وشدائده فهي تقرع القلوب.
420
فأخذتهم صيحة طاغية١، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر أي ذات صوت شديد عاتية أي عتت على خزانها في الهبوب. سخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام ٢حسوماً أي متتابعات بلا انقطاع حسما لوجودهم كما يحسم الدواء بالكي الحاسم للداء المتتابع. وقوله تعالى فترى أيها الرسول القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية أي فترى القوم في تلك الليالي والأيام صرعى ساقطين على الأرض كأنهم أصول نخل ساقطة فارغة ليس في أجوافها شيء فهل ترى لهم من باقية أي من نسلهم لا شيء إذ هلكوا كلهم أجمعون، وقوله تعالى ﴿وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ﴾ كقوم نوح وعاد وثمود والمؤتفكات٣ بالخاطئة أي بالأفعال الخاطئة وهي الشرك والمعاصي وبينها بقوله تعالى بقوله ﴿فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً﴾ أي زائدة في الشدة على غيرها وقوله تعالى ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ﴾ أي ماء الطوفان الذي أهلك الله به قوم نوح حملناكم في الجارية أي حملنا آباءكم في الجارية التي هي سفينة نوح عليه السلام وقوله لنجعلها لكم٤ تذكرة أي لنجعل السفينة تذكرة لكم عظة وعبرة وتعيها أي وتحفظ هذه العظة أذن حافظة لا تنسى ما هو حق وخير من المعاني.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
٢- بيان أن كلا من عاد وثمود كانوا يكذبون بالبعث وبيان ما أهلكهم الله به.
٣-بيان أن معصية الرسول موجبة للعذاب الدنيوي والأخروي.
٤-التذكير بحادثة الطوفان وما فيها من عظة وعبرة.
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ
١ هي أشبه بصيحة النفخ في الصور وثمود هم قوم صالح ومنازلهم بالحجر بين الشام والحجاز وتعرف اليوم بمدائن صالح على أميال من مدينة العلا اليوم. وأما عاد فمنازلهم كانت بالأحقاف وهي رمال بين عمان وحضرموت باليمن وأهلكوا بريح صرصر.
٢ قيل بدأ من صباح يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال وكانت في آخر الشتاء.
٣ أي المتقلبات من ائتفك الشيء إّذ قلب قراهم الخمسة منع وصعر وعمر ودوما وسدوم وهي القرية العظمى قلبها الملك فجعل عاليها سافلها.
٤ وجائز أن يكون الضمير في ليجعلها عائد إلى العملية عملية إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين تذكرة وموعظة.
421
(١٦) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (١٨)
شرح الكلمات:
نفخة واحدة: أي النفخة الأولى.
حملت الأرض والجبال: أي رفعت من أماكنها.
فدكتا دكة واحدة: أي ضرب بعضها ببعض فاندكت وصارت كثيبا مهيلا.
وقعت الواقعة: أي قامت القيامة.
فهي يومئذ واهية: أي مسترخية ضعيفة القوة.
على أرجائها: أي على أطرافها وحافاتها.
ثمانية: أي من الملائكة وهم حملة العرش الأربعة وزيد عليهم أربعة.
لا تخفى منكم خافية: أي لا تخفى منكم سريرة من السرائر التي تخفونها.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن القيامة تقريرا لعقيدة البعث والجزاء التي هي الدافع إلى فعل الخير وترك الشر في الدنيا فقال تعالى ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ١﴾ أي نفخ اسرافيل في الصور الذي هو البوق أو القرن النفخة الأولى وهو المراد بقوله ﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾، وقوله تعالى ﴿وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً﴾ أي ضرب بعضها ببعض فاندكت فصارت هباء منبثا، ﴿فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ﴾ أي قامت القيامة ﴿وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ﴾ أي انفطرت وتمزقت ﴿فهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَة﴾ ضعيفة مسترخية. ﴿وَالْمَلَكُ٢عَلَى أَرْجَائِهَا﴾ أي على أطرافها وحافاتها، ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ أي ثمانية٣ من الملائكة أربعة هم حملة العرش دائما وزيد عليهم أربعة فصاروا ثمانية قال تعالى ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ٤ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ﴾ أي سريرة مما كنتم تسرون.
١ الفاء تفريعية لتفريع ما بعدها من تفصيل أحوال الدار الآخرة على ما تقدم من ذكر الحاقة أي القيامة والمكذبين بها وما نالهم من عذاب في الدنيا.
٢ الملك اسم جنس المراد به أعداد هائلة من الملائكة.
٣ قيل هم ثمانية صفوف، وقيل ثمانية أعشار أي نحو ثمانين من عدد الملائكة. وما في التفسير هو الراجح الصحيح.
٤ أصل العرض إمرار الشيء على من يريد التأمل فيه كعرض السلعة على المشتري وكاستعراض الجيوش اليوم والمراد بالعرض الحساب والجزاء.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء.
٢-بيان كيفية الانقلاب الكوني لنهاية الحياة الأولى وبداية الحياة الثانية.
٣-تقرير العرض على الله عز وجل للحساب ثم الجزاء.
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (٢٤)
شرح الكلمات:
هاؤم: أي خذوا
إني ظننت: أي علمت.
راضية: أي يرضى بها صاحبها.
قطوفها دانية: أي ما يقتطف ويجنى من الثمار.
بما أسلفتم: أي بما قدمتم.
في الأيام الخالية: أي الماضية.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان ما يجري في يوم القيامة فقال تعالى ١ ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ ٢هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ٣﴾ أي إنه بعد مجيء الرب تبارك وتعالى لفصل
١ الفاء لتفصيل ما أجمل فيما تقدمها من الكلام، وفي الكلام إيجاز بالحذف تقديره فيؤتى كل آخذ كتاب أعماله فأما من أوتي كتابه.... الخ والباء للمصاحبة في يمينه وفي إعطاء الكتاب باليمين كرامة وتبشير لصاحبه كقول الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
٢ هاؤم هذا اللفظ وركب من ها ممدود أو مقصور مبني على الفتح ومعناه تعالوا أو خذوا كما في الرباء ها وهاء أي خذ. يقال ها يا رجل اقرأ وللإثنين هاؤما يا رجلان وهاؤم يا رجال. وللمرأة هاء بكسر الهمزة وهاؤما للاثنتين وهاؤمن لجمع الإناث والأصل هاكم فأبدلت الهمزة من الكاف.
٣ قيل نزلت هذه الآية فأما من أوتي كتابه بيمينه الخ.... في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي والآية التالية لها وأما من أوتي كتابه بشماله نزلت في أخيه الأسود بن عبد الأسد المخزومي، والمعنى عام في كل سعيد وشقي.
423
القضاء تعطى الكتب فمن آخذ كتابه بيمينه، ومن آخذ كتابه بشماله فأما من أوتي كتابه الذي ضم حسناته بيمينه فيقول في فرح عظيم هاؤم أي خذوا كتابي فاقرأوه إنه مشرق كله ما فيه سواد السيئات، ويعلل لسلامة كتابه١ من السيئات فيقول إني ظننت أي علمت أني ملاقٍ حسابيه لا محالة فلذا لم أقارف السيئات وإن قدر على شيء فقارفته جهلا فأني تبت منه فورا فانمحى أثره من نفسي فلم يكتب علي قال تعالى مخبراً عن آثار نجاحه في سلامة كتابه من السيئات فهو في عيشة راضية. أي يرضاها لهناءتها وسعة خيراتها في جنة عالية قطوفها٢ أي جناحها وما يقتطف منها دانية أي قريبة التناول ينالها بيده وهو متكئ على أريكته ويقال لهم كلوا واشربوا من طعام الجنة وشرابها هنيئاً ويذكر لهم سبب فوزهم فيقول ﴿بِمَا أَسْلَفْتُمْ﴾ أي قدمتم لأنفسكم ﴿فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ أي أيام الدنيا الماضية إذ كانوا مؤمنين صوامين قوامين بالمعروف آمرن وعن المنكر ناهين.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء أي الإيمان باليوم الآخر.
٢- آثار الإيمان بالبعث والجزاء ظاهرة في سلامة كتاب المؤمن من السيئات. وقد علل لذلك بقوله إني ظننت أني ملاق حسابي فلذا لم أعص ربي.
٣-إثبات حقيقة هي قول العامة الدنيا مزرعة الآخرة أي من عمل في الدنيا نال ثمار عمله في الآخرة خيراً أو شراً.
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (٢٦) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (٢٧) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)
١ كتابيه الهاء فيه وفي الأتي بعده هي هاء السكت عند الوقف إلا أنها أبقيت في الوصل والوقف مراعاة للسجع ولعلها تحكي صوت صاحبها يوم القيامة زيادة في التقرير والتوكيد حتى لهجة أحدهم محفوظة لم تتغير.
٢ القطوف جمع قطف بكسر القاف وسكون الكاف.
424
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (٣٧)
شرح الكلمات:
يا ليتني لم أوت كتابية: أي يتمنى أنه لم يعط كتابه لما رأى فيه من السيئات.
كانت القاضية: أي الموتة في الدنيا كانت القاطعة لحياتي حتى لا أبعث.
هلك عني سلطانية: أي قوتي وحجتي.
خذوه: أي أيها الزبانية خذوا هذا الكافر.
فغلوه: أي اجعلوا يديه إلى عنقه في الغل.
ثم الجحيم صلوه: أي ثم في النار المحرقة أدخلوه وبالغوا في تصليته كالشاة المصلية.
حميم: أي من قريب ينفعه أو صديق.
إلا من غسلين: أي صديد أهل النار الخارج من بطونهم لأكلهم شجر الغسلين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما يجري من أحداث وقد تقدم ذكر الذي أوتي كتابه١بيمينه وما له من كرامة عند ربه وفي هذه الآيات ذكر الذي أوتي كتابه بشماله وما له من مهانة وعذاب جزاء كفره فقال تعالى ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ﴾ ٢ أي في عرصات القيامة فيقول بعد النظر فيه وما يلوح له فيه من السيئات ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ يتمنى لو أنه لم يعط كتابه ولم يدر٣ ما حسابه وأن الموتة التي ماتها في الدنيا يتمنى لو كانت القاطعة لحياته حتى لا يبعث، ثم يواصل تحسره وتحزنه قائلا ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ﴾ أي مالي والهاء في ماليه وفي كتابيه وحسابيه وفي ماليه وسلطانيه يقال لها هاء السكت يوقف عليها بالسكون قراءة كافة القراء وقوله ﴿هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ أي ذهبت عني حججي٤ فلم أجد ما أحتج به لنفسي قال تعالى للزبانية
١ تقدم أنه أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وزوجته هي أم المؤمنين تزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد موت زوجها أبي سلمة وإن الشقي هو الأسود بن عبد الأسد أخو أبي سلمة.
٢ أي بشماله ووراء ظهره وهو كتاب سيئاته من الشرك والمعاصي كبيرها وصغيرها.
٣ هذا من عظم ما يشاهد من شدة الحساب وشناعته هذا داخل في حيز متمناتيه، كما هو إشارة إلى أنه كان في الدنيا لا يؤمن بالحساب ولم يدر ما يجري فيه ولذا اصابته الحيرة هنا وألم به الكرب.
٤ عن أبن عباس رضي الله عنهما.
425
﴿خُذُوهُ١ فَغُلُّوهُ﴾ أي شدوا يديه في عنقه بالغل ﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ٢﴾ أي أدخلوه فيها وصلوه بحرها المرة بعد المرة كما يصلى الكبش المشوى المصلي، ﴿ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ﴾ طويلة ﴿ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ﴾ ولم يعرف مدى طول هذه الذراع إلا انه إذا كان الكافر ما بين كتفيه كما بين مكة وقديد قرابة مائة وخمسين ميلا فإن السلسلة في ذرعها السبعين ذراعا لابد وأن تكون مناسبة لهذا الجسم ﴿فَاسْلُكُوهُ﴾ أي ادخلوه فيهل فتدخل من فمه وتخرج من دبره كسلك الخرزة في الخيط وذكر تعالى علة هذا الحكم عليه فقال ﴿إِنَّهُ كَانَ﴾ أي في الدنيا ﴿لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ٣﴾ فانحصرت جريمته في شيئين الكفر بالله ومنع الحقوق الواجب في المال ثم أخبر تعالى عن حال هذا الكافر الشقي في جهنم فقال ﴿فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا﴾ أي في جهنم ﴿حَمِيمٌ٤﴾ أي صديق أو قريب ينتفع به فيدفع عنه العذاب أو يخففه ﴿وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ٥﴾ أي وليس له طعام يأكله إلا من طعام الغسلين الذي هو صديد أهل النار فإنهم عندما يأكلون شجر الغسلين يكون كالمسهل في بطونهم فيخرج كل ما في بطونهم وذلك هو الغسلين الذي يأكلونه ذلك الغسلين الذي لا يأكله إلا الخاطئون أي الذين ارتكبوا خطيئة الكفر والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها.
٢-المال الذي باع المفلسون فيه الأمة والملة لا يغني يوم القيامة عن صاحبه شيئا.
٣-التنديد بالكفر بالله وأهله.
٤-عظم جريمة منع الحقوق المالية من الزكاة وغيرها.
١ خذوه مقول قول ذكر في التفسير وغلوه أمر من غله يغله إذا وضع الغل وهو القيد الذي يجعل في عنق الجاني.
٢ صلى النار يصلاها إذا أصابه حرها أو استدفأ بها، ويعدى بالتضعييف فيقال صلاه النار وبالهمز أيضاً أصلاه يصليه ناراً.
٣ الطعام بمعنى الإطعام وضع موضعه كوضع العطاء موضع الإعطاء كما في قول الشاعر:
أكفراً بعد رد الموت عنى
وبعد عطائك المائه الرتاعا
الرتاع الإبل ترتع
٤الحميم هنا الغريب الذي يرق له ويدفع عنه المكروه، وهو مأخوذ من الماء الجار كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له.
٥ الغسلين فعلين مأخوذ من الغسل كأنه ينغسل في أبدانهم وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم وخروجهم قال الضحاك: الغسلين شجر وهو شر الطعام وأبشعه وهو من أطعمة أهل النار مثل الضريع والزقوم وبناء على ما ذكر أن الغسلين مجموع شجر اسمه الغسلين وما تجمع من صديد أهل النار من دم وعرق ونحوه فصدق عليه لفظ الغسلين وهذا من إعجاز القرآن البلاغي.
426
فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)
شرح الكلمات:
بما تبصرون وما لا تبصرون: أي بكل مخلوق في الأرض وفي السماء.
انه لقول رسول كريم: أي القرآن قاله تبليغا رسول كريم هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وما هو بقول كاهن: أي ليس القرآن بقول كاهن إذ ليس فيه من سجع الكهان شيء.
لأخذنا منه باليمين: أي بالقوة أو لأخذنا بيمينه لنقتله.
ثم لقطعنا منه الوتين: أي نياط القلب الذي إذا انقطع مات الإنسان.
حاجزين: أي مانعين وهو خبر ما النافية العاملة عمل ليس وجمع لأن احد يدل على الجمع نحو لا نفرق بين أحد من رسله وبين لا تقع إلا بين اثنين فأكثر.
وإنه لحسرة على الكافرين: أي التكذيب بالقرآن حسرة يوم القيامة على المكذبين به.
وإنه لحق اليقين: أي الثابت يقينا أو اليقين الحق.
فسبح باسم ربك العظيم١: أي نزه ربك العظيم الذي كل شيء أمام عظمته صغير حقير أي قل سبحان ربي العظيم.
١ الباء للمصاحبة والزيادة لتقوية الكلام والتقدير سبح اسم ربك والتقدير نزه اسم ربك في أن يسمى به غيره إذ سمى المشركون العزى بدل العزيز واللات بدل الله وجائز أن يكون اسم مقحماً والتقدير فسبح ربك أي نزهه عن الشريك والشبيه وعن كل نقص وهو العظيم الذي ليس شيء أعظم منه.
427
معنى الآيات:
قوله تعالى فلا أقسم١ بما تبصرون وما لا تبصرون أي فلا٢ الأمر كما ترون وتقولون أيها المكذبون أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون من المخلوقات في الأرض وفي السماوات إنه أي القرآن لقول رسول كريم على ربه تعالى وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي إنه تبليغه وقوله إليكم وما هو بقول شاعر. كما تقولون كذباً قليلا ما تؤمنون٣ أي أن إيمانكم قليل ضيق الدائرة فلو كان واسعاً لاتسع للإيمان بالقرآن إنه كلام الله ووحيه وليس هو من جنس الشعر لمخالفته له نظماً ومعنىً. وما هو بقول كاهن قليلا ما تذكرون أي وليس القرآن بقول كاهن قليلا ما تذكرون أي تذكركم قليل جدا فلو تذكرتم كثيرا لعلمتم أن القرآن ليس بكلام الكهان لملازمته للصدق والحق والهدى ولبعد قائله عن الإثم والكذب بخلاف قول الكهان فإن سداه ولحمته الكذب وقائله هو الإثم كله فأين القرآن من قول الكهان؟ وأين محمد الرسول من الكهان إخوان الشيطان إنه تنزيل من رب العالمين أيها المكذبون الضالون. وأمر آخر وهو أن الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو تقول٤ علينا بعض الأقاويل ونسبها إلينا لأخذنا منه باليمين أي لبطشنا به وأخذنا بيمينه ثم لقطعتا منه الوتين فيهلك إذ الوتين هو عرق القلب إذا قطع مات الإنسان وإذا فعلنا به هذا فمن منكم يحجزنا عنه؟ وهو معنى قوله تعالى ﴿فَمَا مِنْكُمْ٥ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ وقوله تعالى ﴿وَإِنَّهُ﴾ أي القرآن ﴿لَتَذْكِرَةٌ٦﴾ أي موعظة عظيمة للمتقين٧ الذين يخافون عقاب الله ويخشون نقمه وعذابه وإنا لنعلم أن ٨منكم أيها الناس مكذبين ليس بخاف عنا أمرهم وسنجزيهم وصفهم وإنه لحسرة٩ على الكافرين أي يوم القيامة عندما يرون المؤمنين به يؤخذ بهم ذات اليمين إلى دار السلام والمكذبين به يؤخذ بهم ذات الشمال إلى دار
١ الفاء للتفريع لإثبات أن القرآن منزل من عند الله تعالى ونفي ما ادعاه المشركون.
٢ هذا بناء على أن لا رد لكلام سابق وليست زائدة وكونها زائدة لتأكيد الكلام أولى من كونها نافية، إذ وجدت في فاتحة سورتي القيامة والبلد وليس قبلهما ما ينفي كأنه يقول لا أقسم لأن الأمر لا يحتاج إلى قسم كالمتحرج من الإقسام.
٣ جائز أن يكون لفظ قليلا في الموضعين مراداً به انتفاء ذلك كلية لأنه وقع بقلة، وقليلاً صفة لموصوف محذوف أي إيماناً قليلاً، وتذكراً قليلاً، وما مزيدة لتوكيد الكلام كما في قول الشاعر:
قليلاً به ما يحمدنك وارث
إذا نال مما كنت تجمع مغنماً
٤ التقول نسبة قول إلى من لم يقله، والأقاويل جمع أقوال الذي هو جمع قول.
٥ من مزيدة لتأكيد النفي وللتنصيص على العموم وفي الآية دليل أن من يدعي أنه يوحى إليه لا يلبث طويلاً حتى يأخذه الله تعالى.
٦ التذكرة اسم مصدر بمعنى التذكير وهو التنبيه إلى مغفول عنه.
٧ خص المتقون لأنهم هم المنتفعون به لاستعدادهم بقوة إيمانهم وصحة علمهم وكمال رغبتهم في الطاعة.
٨ في الكلام إيجاز والتقدير إنا بعثنا إليكم الرسول بهذا القرآن ونحن نعلم أنه سيكون منكم مكذبون.
٩ جائز أن يكون الضمير عائداً على التكذيب إذ به كانت حسرة الكافرين يوم القيامة وجائز أن يكون عائداً على القرآن لأنهم لم يؤمنوا به ويعملوا بما دعا إليه من الإيمان وصالح الأعمال.
428
البوار. وإنه لحق اليقين١ أي اليقين الحق. بعد هذا التقرير في إثبات الوحي والنبوة أمر تعالى رسوله الذي كذب برسالته المكذبون أمره أن يستعين على الصبر بذكر الله تعالى فقال له ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ أي قل سبحان ربي العظيم منزها اسمه عن تحريفه وتسمية المحدثات به معظما ربك غاية التعظيم إذ هو العلي العظيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١-لله تعالى أن يحلف بما يشاء من مخلوقاته لحكم عالية وليس للعبد أن يحلف بغير الرب تعالى.
٢-تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.
٣-وصف الرسول بالكرم وبكرامته على الرب تعالى.
٤-عجز الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الكذب على الله تعالى وعدم قدرته على ذلك لو أراده ولكن الذي لا يكذب على الناس لا يكذب على الله كما قال هرقل ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله رداً على أبي سفيان لما قال له لم نجرب عليه كذبا قط..
٥-مشروعية التسبيح بقول سبحان ربي العظيم إن صح أنه لما نزلت قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه اجعلوها في ركوعكم فكانت سنة مؤكدة سبحان ربي العظيم ثلاثا في الركوع أو أكثر.
١ أي القرآن الكريم بلا خلاف.
429
سورة المعارج
مكية وآياتها أربع وأربعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (١) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَرَاهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ
429
Icon