تفسير سورة النازعات

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة النازعات من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة والنازعات وهي مكية، والله أعلم.

قَوْله تَعَالَى: ﴿والنازعات غرقا﴾ فِيهِ أَقْوَال: أظهرها: أَنَّهَا الْمَلَائِكَة تنْزع أَرْوَاح الْكفَّار بِشدَّة، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَجَمَاعَة وَرُوِيَ مثله عَن ابْن مَسْعُود فِي رِوَايَة مَسْرُوق.
قَوْله: ﴿غرقا﴾ أَي: إغراقا يُقَال: أغرق فِي النزع إِذا بلغ الْغَايَة.
وَعَن الْحسن: أَنَّهَا النُّجُوم تنْزع من أفق إِلَى أفق، أَي: تطلع وتغرب، وَعَن عَطاء بن أبي رَبَاح: أَنَّهَا القسي وَهُوَ من نزع الْقوس والإغراق فِيهِ.
وَقَوله: ﴿والناشطات نشطا﴾ على القَوْل الأول هِيَ الْمَلَائِكَة أَيْضا تنشط أَرْوَاح الْكفَّار أَي: تجذبها بِسُرْعَة، قَالَ الشَّاعِر:
(أمست همومي تنشط المناشطا الشَّام بِي طورا وطورا واسطا)
والنشط فِي اللُّغَة: هُوَ الجذب، وَيُقَال: تجذب روح الْكفَّار كَمَا يجذب السفود من الصُّوف الرطب، وَقيل: إِن معنى الناشطات أَخذ الْمَلَائِكَة أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ بسهولة كَمَا ينشط الْبَعِير من العقال.
وَفِي الْأَخْبَار: أَن الْمَلَائِكَة تَأْخُذ روح الْكفَّار بغاية الشدَّة، فَإِذا بلغت ترقوته ردوا الرّوح فِي جسده، ثمَّ نَزَعته هَكَذَا مَرَّات عُقُوبَة لَهُ، وَتَأْخُذ روح الْمُؤمن سرعَة وسهولة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الناشطات هِيَ النُّجُوم على مَا ذكرنَا عَن الْحسن، وَالْمرَاد سرعَة
145
﴿والسابحات سبحا (٣) فالسابقات سبقا (٤) فالمدبرات أمرا (٥) ﴾. سَيرهَا، وَيُقَال: رُجُوعهَا من الْمغرب إِلَى مطالعها، وَذَلِكَ فِي السَّبع السيارة، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿فَلَا أقسم بالخنس الْجوَار الكنس﴾ على مَا سنبين، ذكره النقاش.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الأوهاق.
146
وَقَوله تَعَالَى: ﴿والسابحات سبحا﴾ على القَوْل الأول هِيَ الْمَلَائِكَة، وسبحها سَيرهَا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض، وعَلى القَوْل الثَّانِي أَنَّهَا النُّجُوم، وسبحها فِي الْفلك، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنَّهَا الْخَيل، وسبحها سرعَة جريها، يُقَال للْفرس الْجواد: سابح.
وَقَوله: ﴿فالسابقات سبقا﴾ على القَوْل الأول هِيَ الْمَلَائِكَة، وسبقها مبادرتها إِلَى الْأَعْمَال الصَّالِحَة والخيرات.
وَيُقَال: سبقها: هُوَ الْمُسَابقَة إِلَى تَبْلِيغ الْوَحْي قبل استراق الشَّيَاطِين السّمع، وعَلى القَوْل الثَّانِي هِيَ النُّجُوم تسبق بَعْضهَا بَعْضًا فِي السّير، وعَلى القَوْل الثَّالِث هِيَ الْخَيل أَيْضا يسْبق بَعْضهَا بَعْضًا عِنْد الْمُسَابقَة، وَيُقَال: إِنَّهَا النُّفُوس تسبق إِلَى الْخُرُوج عِنْد الْمَوْت.
وَقد ذكر السّديّ أَيْضا أَن معنى النازعات: هِيَ النُّفُوس والأرواح تنْزع عِنْد الْمَوْت.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فالمدبرات أمرا﴾ هِيَ الْمَلَائِكَة فِي قَول الْجَمِيع، إِلَّا مَا روى فِي رِوَايَة غَرِيبَة بِرِوَايَة خَالِد بن معدان، عَن معَاذ بن جبل: أَنَّهَا النُّجُوم.
فَمَعْنَى التَّدْبِير من الْمَلَائِكَة هُوَ مَا جعل الله إِلَيْهَا من الْأُمُور.
قَالَ عبد الرَّحْمَن بن سابط: فَإلَى جِبْرِيل الْجنُود، وَإِلَى مِيكَائِيل الْقطر والنبات، وَإِلَى عزرائيل قبض الْأَرْوَاح، وَإِلَى إسْرَافيل إِنْزَال
146
﴿يَوْم ترجف الراجفة (٦) تتبعها الرادفة (٧) قُلُوب يَوْمئِذٍ واجفة (٨) أبصارها خاشعة (٩) يَقُولُونَ﴾. لأمور إِلَيْهِم فِي هَذِه الْأَشْيَاء [إِلَى] : الْمَلَائِكَة، وَأما إِذا حملناه على النُّجُوم، فَيجوز أَن يعلق الله تَعَالَى على مطالعها وَمَغَارِبهَا وسيرها أَشْيَاء، وأضاف التَّدْبِير إِلَيْهَا على طَرِيق الْمجَاز.
وَاخْتلف القَوْل فِي الْمقسم بِهِ والمقسم عَلَيْهِ: فأحذ الْقَوْلَيْنِ: أَنه أقسم بِهَذِهِ الْأَشْيَاء، وَللَّه أَن يقسم من خلقه بِمَا شَاءَ، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: وَرب النازعات، فَذكر الرب مُضْمر فِي هَذِه الْكَلِمَات، وَإِنَّمَا أقسم بِنَفسِهِ لَا بِهَذِهِ الْأَشْيَاء.
وَأما الَّذِي وَقع عَلَيْهِ الْقسم فَفِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه مَحْذُوف، وَالْمعْنَى: لتبعثن ولتحاسبن، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الَّذِي وَقع عَلَيْهِ الْقسم هُوَ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يغشى﴾.
147
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم ترجف الراجفة﴾ الرجف والراجفة هِيَ الِاضْطِرَاب والزلزال الشَّديد، وَهُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذا زلزلت الأَرْض زِلْزَالهَا﴾ وَقيل: الراجفة هِيَ الصَّيْحَة الأولى الَّتِي يُمِيت بهَا الْخَلَائق.
وَقَوله: ﴿تتبعها الرادفة﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنَّهَا الْقِيَامَة، وَالْآخر: أَنَّهَا الصَّيْحَة الثَّانِيَة.
وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن بَينهمَا أَرْبَعِينَ سنة، وتمطر السَّمَاء فِي هَذِه الْأَرْبَعين فتهتز الأَرْض، وتنبت النَّاس فِي الْقُبُور، ثمَّ ترد إِلَيْهِم أَرْوَاحهم فِي الصَّيْحَة الثَّانِيَة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قُلُوب يَوْمئِذٍ واجفة﴾ أَي: مضطربة، يُقَال: وجف يجِف، وَوَجَب يجب بِمَعْنى وَاحِد وَقيل: واجفة أَي: وَجلة.
وَقَوله: ﴿أبصارها خاشعة﴾ أَي: ذليلة.
وَقَوله: ﴿يَقُولُونَ﴾ هَذَا إِخْبَار عَن قَوْلهم فِي الدُّنْيَا أَي: يَقُولُونَ فِي الدُّنْيَا: {أئنا
147
﴿أئنا لمردودون فِي الحافرة (١٠) أءذا كُنَّا عظاما نخرة (١١) قَالُوا تِلْكَ إِذا كرة خاسرة (١٢) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة (١٣) فَإِذا هم بالساهرة (١٤) ﴾. لمردودون فِي الحافرة) أَي: إِلَى أول أمرنَا، وَالْمعْنَى: أنرد أَحيَاء بعد أَن متْنا على طَرِيق الْإِنْكَار، يُقَال: رَجَعَ فلَان على حافرته إِذا رَجَعَ من حَيْثُ جَاءَ.
الْعَرَب تَقول: النَّقْد عِنْد الحافرة أَي: عِنْد أول كلمة، أَي: فِي السّوم.
وَقَالَ الشَّاعِر:
(أحافرة على صلع وشيب معَاذ الله من سفه وعار)
وَقَالَ السّديّ: ﴿أئنا لمردودون فِي الحافرة﴾ أَي: إِلَى الْحَيَاة، وَهُوَ على مَا قُلْنَا وَقيل: إِلَى النَّار.
148
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أئذا كُنَّا عظاما نخرة﴾ وَقُرِئَ: " ناخرة "، قَالَ الْفراء: هما وَاحِدَة، وَهِي البالية الفانية.
وَعَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء: أَن النخرة هِيَ الَّتِي قد بليت، والناخرة هِيَ الَّتِي لم تبل بعد، وَعَن وَكِيع قَالَ: هِيَ الَّتِي تدخل الرّيح فِي جوفها فتنخر، وَهُوَ مَنْقُول أَيْضا عَن أهل اللُّغَة.
وَقَوله: ﴿قَالُوا تِلْكَ إِذا كرة خاسرة﴾ أَي: رَجْعَة ذَات خسران، وَالْمعْنَى: أَنا نَكُون فِي خسار إِن رَجعْنَا، وَيجوز أَن يكون المُرَاد أَنهم يخسرون إِذا رجعُوا.
وَعَن الْحسن قَالَ: خاسرة أَي: كَاذِبَة يَعْنِي: لَيست بكائنة.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة﴾ هُوَ إِخْبَار عَن سهولة الْأَمر على الله فِي الْفَهم، والزجرة: الصحية.
وَقَوله: ﴿فَإِذا هم بالساهرة﴾ القَوْل الْمَعْرُوف أَنَّهَا وَجه الأَرْض يَعْنِي: أَنهم يخرجُون من بَطنهَا إِلَى ظهرهَا، وَسميت الأَرْض ساهرة، لِأَن عَلَيْهَا سهر الْخلق ونومهم، وَقَالَ النَّخعِيّ " فَإِذا هم بالساهرة " أَي: فَوق الأَرْض.
وَعَن وهب بن مُنَبّه أَنه قَالَ: الساهرة جبل بِجنب بَيت الْمُقَدّس، قَالَ الشَّاعِر فِي الساهرة:
148
﴿هَل أَتَاك حَدِيث مُوسَى (١٥) إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى (١٦) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى (١٧) فَقل هَل لَك إِلَى أَن تزكّى (١٨) وأهديك إِلَى رَبك فتخشى (١٩) فَأرَاهُ الْآيَة الْكُبْرَى (٢٠) ﴾.
(من بعد مَا كُنَّا عظاما ناخرة... )
149
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَل أَتَاك حَدِيث مُوسَى﴾ أَي: قد أَتَاك.
وَقَوله: ﴿إِذْ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس﴾ أَي: المطهر.
وَقَوله: ﴿طوى﴾ أَي: طوى بِالْبركَةِ وَالتَّقْدِيس مرَّتَيْنِ، وَقيل: سَمَّاهُ طوى لِأَن مُوسَى وَطئه بقدمه، وَقيل: إِنَّه اسْم الْوَادي وَقيل: هُوَ الأَرْض الَّتِي بَين الْمَدِينَة ومصر.
وَقَرَأَ الْحسن: " طوى " بِكَسْر الطَّاء، وَالْمَعْرُوف طوى، وَهُوَ غير مَصْرُوف لِأَنَّهُ اسْم الْبقْعَة من الْوَادي وَهُوَ مَعْرُوف وَعَن الزّجاج قَالَ: يجوز أَن يكون معدولا من طاو، فَلهَذَا لم يصرف مثل: عَمْرو معدول عَامر، وَقُرِئَ: مصروفا وأنشدوا:
(فَإِنَّمَا قصرك ترب الساهرة ثمَّ تعود بعْدهَا فِي الحافرة)
وَقَول: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْن إِنَّه طَغى﴾ قد بَينا، والطغيان هُوَ مُجَاوزَة الْحَد.
وَقَوله: ﴿فَقل هَل لَك إِلَى أَن تزكّى﴾ وَقُرِئَ: " تزكّى " بالتشديدين.
قَالَ أَبُو عَمْرو ابْن الْعَلَاء: لَا يجوز بالتشديدين، وَيجوز بِالتَّخْفِيفِ؛ لِأَن تزكّى هُوَ من إِعْطَاء الزَّكَاة.
وَقَوله: ﴿تزكّى﴾ هُوَ الدُّخُول فِي طَهَارَة الْإِسْلَام، وَتَابعه أَبُو عبيد على هَذَا [وَذكر] النّحاس فِي تَفْسِيره: أَن هَذَا غلط، وتزكى وتزكى بِمَعْنى وَاحِد، فتزكى مدغم، وتزكى مَحْذُوف مِنْهُ يُقَال: زَكَّاهُ الله أَي: طهره بِالْإِسْلَامِ فتزكى وَيُقَال أَيْضا لمن أعْطى زَكَاة مَاله: تزكّى.
وَقَوله: ﴿وأهديك إِلَى رَبك فتخشى﴾ أَي: إِذا أصبت الْهِدَايَة حسنت مِنْك.
وَقَوله: ﴿فَأرَاهُ الْآيَة الْكُبْرَى﴾ يُقَال: (هِيَ) الْعَصَا، وَقيل: إِنَّهَا الْيَد الْبَيْضَاء، وَيُقَال: كِلَاهُمَا.
149
﴿فكذب وَعصى (٢١) ثمَّ أدبر يسْعَى (٢٢) فحشر فَنَادَى (٢٣) فَقَالَ أَنا ربكُم الْأَعْلَى (٢٤) فَأَخذه الله نكال الْآخِرَة وَالْأولَى (٢٥) إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى (٢٦) أأنتم أَشد خلقا أم السَّمَاء بناها (٢٧) ﴾.
150
وَقَوله: ﴿فكذب وَعصى ثمَّ أدبر يسْعَى﴾ أَي: أعرض وَجعل يسْعَى فِي إبِْطَال أَمر مُوسَى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١:وقوله :( فكذب وعصى ثم أدبر يسعى ) أي : أعرض وجعل يسعى في إبطال أمر موسى.
وَقَوله: ﴿فحشر فَنَادَى﴾ الْحَشْر هُوَ الْجمع من كل جِهَة.
وَقَوله: ﴿فَنَادَى﴾ أَي ناداهم، وَقَالَ لَهُم ﴿أَنا ربكُم الْأَعْلَى﴾ أَي: لَا رب فَوقِي.
قَالَ الْحسن: كَانَ فِرْعَوْن علجا من أهل أَصْبَهَان طوله أَرْبَعَة أشبار، وَعَن مُجَاهِد: علج من أهل همذان، وَعَن بَعضهم: أَنه من أهل اصطخر.
وَفِي الْقِصَّة: أَن مُوسَى قَالَ لفرعون: لَك ملك لَا يَزُول، وشباب لَا هرم فِيهِ، وَلَك الْجنَّة فِي الْآخِرَة فَقل: هُوَ رَبِّي وَأَنا عَبده فَقَالَ: حَتَّى استشير هامان، فَلَمَّا اسْتَشَارَ هـ قَالَ: أتصير عبدا بعد أَن كنت معبودا، لَا تقل هَذَا.
فَأبى أَن يَقُول.
ذكره النقاش فِي تَفْسِيره.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٣:وقوله :( فحشر فنادى ) الحشر هو الجمع من كل جهة.
وقوله :( فنادى ) أي ناداهم، وقال لهم ( أنا ربكم الأعلى ) أي : لا رب فوقي. قال الحسن : كان فرعون علجا من أهل أصبهان طوله أربعة أشبار، وعن مجاهد : علج من أهل همذان، وعن بعضهم : أنه من أهل اصطخر. وفي القصة : أن موسى قال لفرعون : لك ملك لا يزول، وشباب لا هرم فيه، ولك الجنة في الآخرة فقل : هو ربي وأنا عبده فقال : حتى استشير هامان، فلما استشار ه قال : أتصير عبدا بعد أن كنت معبودا، لا تقل هذا. فأبى أن يقول. ذكره النقاش في تفسيره.

وَقَوله: ﴿فَأَخذه الله نكال الْآخِرَة وَالْأولَى﴾ أَي: أَخذه أخذا نكالا لمقالته الْآخِرَة وَالْأولَى، فمقالته الأولى قَوْله: ﴿مَا علمت لكم من إِلَه غَيْرِي﴾، ومقالته الْآخِرَة، قَوْله ﴿أَنا ربكُم الْأَعْلَى﴾ وَيُقَال: نكل بِهِ وعاقبه فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، فَفِي الدُّنْيَا هُوَ الْغَرق، وَفِي الْآخِرَة هُوَ النَّار.
وَقَوله: ﴿إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى﴾ أَي: اعْتِبَارا لمن يخَاف الله تَعَالَى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أأنتم أَشد خلقا﴾ اسْتدلَّ عَلَيْهِم بِهَذِهِ الْآيَات فِي قدرته على الْبَعْث، وَالْمعْنَى بِأَن إعادتكم خلقا جَدِيدا أَشد أم خلق السَّمَاء؟ وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿لخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض أكبر من خلق النَّاس﴾.
وَقَوله: ﴿أم السَّمَاء بناها﴾ مَعْنَاهُ: أم السَّمَاء الَّتِي بناها؟ وَقيل الْمَعْنى: أأنتم أَشد
150
﴿رفع سمكها فسواها (٢٨) وأغطش لَيْلهَا وَأخرج ضحاها (٢٩) وَالْأَرْض بعد ذَلِك﴾. خلقا أم السَّمَاء؟ وَتمّ الْكَلَام ثمَّ قَالَ: ﴿بناها﴾ أَي: بناها الله تَعَالَى.
151
وَقَوله: ﴿رفع سمكها فسواها﴾ هُوَ فِي معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿هَل ترى من فطور﴾ أَي: من شقوق وفروج، وَقيل: معنى التَّسْوِيَة هَاهُنَا هُوَ أَنه لَيْسَ بَعْضهَا أرفع من بعض وَلَا أَخفض من بعض، والسمك الِارْتفَاع.
وَقَوله: ﴿وأغطش لَيْلهَا وَأخرج ضحاها﴾ أَي: أظلم لَيْلهَا.
وَقَوله: ﴿وَأخرج ضحاها﴾ أَي: أبرز نَهَارهَا، وَقيل: أظهر ضوءها، وأضاف الظلمَة والضوء إِلَى السَّمَاء لِأَنَّهُمَا يظهران من جَانب السَّمَاء عِنْد طُلُوع الشَّمْس وغروبها
﴿وَالْأَرْض بعد ذَلِك دحاها﴾ أَي: بسطها.
قَالَ أُميَّة بن أبي الصَّلْت:
﴿أعاذل إِن اللوم فِي غير كنهه على طوى من غيك المتردد﴾.
(وَبث الْخلق فِيهَا إِذْ دحاها فهم قطانها حَتَّى التنادي)
وَقَالَ سعيد بن زيد:
(أسلمت بوجهي لمن أسلمت لَهُ الأَرْض تحمل صخرا ثقالا)
دحاها فَلَمَّا اسْتَوَت شدها وأرسى عَلَيْهَا جبالا)
وَقَوله: ﴿بعد ذَلِك﴾ أَي: مَعَ ذَلِك، وَقيل: إِنَّه خلق الأَرْض قبل السَّمَاء على مَا قَالَ فِي " حم السَّجْدَة "، ثمَّ بسطها بعد خلق السَّمَاء.
وَفِي الْأَثر عَن ابْن عَبَّاس: أَنه لم يكن إِلَّا الْعَرْش وَالْمَاء، فخلق على المَاء حجرا كالفهر، ثمَّ خلق عَلَيْهِ دخانا ملتصقا بِهِ، ثمَّ خلق موجا على المَاء، ثمَّ رفع الدُّخان من الْحجر، وَخلق من الْحجر الأَرْض، وَمن الدُّخان السَّمَاء، وَمن الموج الْجبَال.
151
﴿دحاها (٣٠) أخرج مِنْهَا ماءها ومرعاها (٣١) وَالْجِبَال أرساها (٣٢) مَتَاعا لكم ولأنعامكم (٣٣) فَإِذا جَاءَت الطامة الْكُبْرَى (٣٤) يَوْم يتَذَكَّر الْإِنْسَان مَا سعى (٣٥) وبرزت الْجَحِيم لمن يرى (٣٦) فَأَما من طَغى (٣٧) وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا (٣٨) فَإِن الْجَحِيم هِيَ المأوى (٣٩) ﴾.
152
وَقَوله: ﴿أخرج مِنْهَا ماءها ومرعاها﴾ أَي: أخرج من الأَرْض المَاء لحياة النُّفُوس، والمرعى للأنعام.
وَقَوله: ﴿وَالْجِبَال أرساها﴾ أَي: أثبتها.
وَقَوله: ﴿مَتَاعا لكم﴾ أَي: إمتاعا لكم ﴿ولأنعامكم﴾ وَإِنَّمَا انتصب لِأَن مَعْنَاهُ: للإمتاع، ثمَّ نزعت اللَّام الخافضة فانتصب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا جَاءَت الطامة الْكُبْرَى﴾ الطامة فِي اللُّغَة: هِيَ الداهية الْعَظِيمَة، وَقيل: هِيَ الْأَمر الَّذِي لَا يُسْتَطَاع وَلَا يُطَاق، يُقَال: طم الْوَادي إِذا جَاءَ مِنْهُ مَا لَا يُطَاق وَعلا كل شَيْء، وَعَن ابْن عَبَّاس: أَن الطامة اسْم الْقِيَامَة، وَسميت الْقِيَامَة طامة؛ لِأَنَّهَا تطم كل شَيْء أَي: فَوق كل شَيْء.
وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا من طامة إِلَّا وفوقها طامة " وَهُوَ خبر غَرِيب.
وَقَوله: ﴿يَوْم يتَذَكَّر الْإِنْسَان مَا سعى﴾ أَي: يذكر.
قَوْله: ﴿وبرزت الْجَحِيم لمن يرى﴾ وَفِي التَّفْسِير: أَن الْحِكْمَة فِي إِظْهَار الْجَحِيم مُشَاهدَة الْكفَّار مَكَان عقوبتهم، وليعلم الْمُؤْمِنُونَ من أَي عَذَاب نَجوا.
وَقَوله: ﴿فَأَما من طَغى وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ أَي: على الْآخِرَة.
وَحكى أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس فِي تَفْسِيره عَن حُذَيْفَة: أَن من أكل على مائدة ثَلَاثَة ألوان من الطَّعَام، فقد آثر الْحَيَاة الدُّنْيَا، وَأورد فِي خبر مَرْفُوع أَن النَّبِي قَالَ: " من آثر الْحَيَاة الدُّنْيَا على الْآخِرَة شتت الله عَلَيْهِ همه، ثمَّ لم يبال بأيها هلك ".
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٧:وقوله :( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا ) أي : على الآخرة. وحكى أبو الحسين بن فارس في تفسيره عن حذيفة : أن من أكل على مائدة ثلاثة ألوان من الطعام، فقد آثر الحياة الدنيا، وأورد في خبر مرفوع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال :" من آثر الحياة الدنيا على الآخرة شتت الله عليه همه، ثم لم يبال بأيها هلك ".
وَقَوله: ﴿فَإِن الْجَحِيم هِيَ المأوى﴾ أَي: مَأْوَاه الْجَحِيم، وَهُوَ مُعظم النَّار.
152
﴿وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى (٤٠) فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى (٤١) يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها (٤٢) فيمَ أَنْت من ذكرَاهَا (٤٣) إِلَى رَبك مُنْتَهَاهَا (٤٤) إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشاها (٤٥) ﴾.
153
وَقَوله: ﴿وَأما من خَافَ مقَام ربه﴾ أَي: قِيَامه عِنْد ربه لِلْحسابِ.
وَقَوله: ﴿وَنهى النَّفس عَن الْهوى﴾ أَي: عَمَّا هَوَاهُ ويشتهيه على خلاف الشَّرْع.
وَقَوله: ﴿فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى﴾ أَي: منزلَة ومأواه الْجنَّة، وَفِي بعض التفاسير: أَن الْآيَة الأولى نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث وَأُميَّة بن خلف وَعقبَة وَعتبَة ابْني أبي لَهب وَجَمَاعَة، وَالْآيَة الثَّانِيَة نزلت فِي مُصعب بن عُمَيْر، وَكَانَ قد وقِي رَسُول الله بِنَفسِهِ يَوْم أحد حَتَّى دخلت المشاقص فِي جَوْفه، وَاسْتشْهدَ فِي ذَلِك الْيَوْم، وَكَانَ صَاحب لِوَاء الْمُهَاجِرين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَسْأَلُونَك عَن السَّاعَة أَيَّانَ مرْسَاها﴾ أَي: مَتى قِيَامهَا؟ وَمرْسَاهَا: مُنْتَهَاهَا، وَالْمعْنَى عَن ماهيتها.
وَقَوله: ﴿فيمَ أَنْت من ذكرَاهَا﴾ أَي: مَالك وَمَعْرِفَة وَقت قيام السَّاعَة؟ وَفِي بعض التفاسير: " أَن النَّبِي كَانَ يسْأَل كثيرا جِبْرِيل مَتى السَّاعَة، فَلَمَّا أنزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة، ارتدع وكف وَلم يسْأَل بعد ذَلِك " وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل لغيره: مَالك وَهَذَا الْأَمر؟ وَفِيه زجر إِيَّاه عَن السُّؤَال.
قَوْله: ﴿إِلَى رَبك مُنْتَهَاهَا﴾ أَي: مُنْتَهى علم قِيَامهَا، وَقيل مَعْنَاهُ: أَن كل من يسْأَل عَنهُ يَقُول: الله أعلم، فَيرد علمهَا إِلَى الله.
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا أَنْت مُنْذر من يخشاها﴾ أَي: تنذر بِعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة من يخْشَى الْقِيَامَة.
153
﴿كَأَنَّهُمْ يَوْم يرونها لم يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها (٤٦) ﴾.
154
وَقَوله: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْم يرونها لم يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها﴾ أَي: أول نَهَار أَو آخر نَهَار، فَأول النَّهَار من طُلُوع الشَّمْس إِلَى ارتفاعها، وَآخر النَّهَار من الْعَصْر إِلَى غُرُوبهَا، وَهُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة من نَهَار بَلَاغ﴾ فَإِن قيل: كَيفَ أضَاف ضحى النَّهَار إِلَى عشيته، وَإِنَّمَا ضحى النَّهَار يُضَاف إِلَى النَّهَار فَبِأَي وَجه تستقيم هَذِه الْإِضَافَة؟ وَالْجَوَاب: أَنه يجوز مثل هَذَا فِي كَلَام الْعَرَب، وهم يَفْعَلُونَ كَذَلِك ويريدون بِمثل هَذِه الْإِضَافَة، الْإِضَافَة إِلَى النَّهَار.
قَالَ الشَّاعِر:
(نَحن صبحنا عَامِرًا فِي دارها عيشة الْهلَال أَو سرارها)
وَقيل معنى ذَلِك: كَأَن لم يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّة أَو ضحاها أَي: يَوْمًا من الْأَيَّام، فَالْمُرَاد من العشية هُوَ الْيَوْم، وَالضُّحَى هُوَ الْيَوْم أَيْضا، فَإِن قيل: كَيفَ يَصح هَذَا الظَّن، وعندكم أَنهم يُعَذبُونَ فِي قُبُورهم؟ وَالْجَوَاب: أَنهم يخفتون خفتة بَين النفختين، فَإِذا بعثوا ظنُّوا مَا بَينا، لأَنهم نسوا الْعَذَاب فِي تِلْكَ الخفتة، وَالله أعلم.
154

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿عبس وَتَوَلَّى (١) أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢) ﴾.
تَفْسِير سُورَة عبس
وَهِي مَكِّيَّة، وَالله أعلم.
155
Icon