تفسير سورة يس

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة يس من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة يس
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» آية افتتح بها خطابه فمن علمها أجزل ثوابه، ومن عرفها أكثر إيجابه، ومن أكبر قدرها أكرم مآبه.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥)
يقال معناه: يا سيد. ويقال: الياء تشير إلى يوم الميثاق، والسين تشير إلى سرّه مع الأحباب فيقال بحقّ يوم الميثاق وسرّى مع الأحباب، وبالقرآن الحكيم: - «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي إنّك- يا محمد لمن المرسلين، وإنّك لعلى صراط مستقيم.
«تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ» أي هذا الكتاب تنزيل (العزيز) : المتكبر الغنى عن طاعة المطيعين، (الرحيم) :
المتفضّل على عباده المؤمنين.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ٦]
لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦)
أي خصصناك بهذا القرآن، وأنزلنا عليك هذا الفرقان لتنذر به قوما حصلوا في أيام الفترة، وانقرض أسلافهم على هذه الصّفة.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ٧]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧)
أي حقّ القول بالعقوبة على أكثرهم لأنهم أصرّوا على جحدهم، وانهمكوا في جهلهم، فالمعلوم منهم والمحكوم عليهم أنّهم لا يؤمنون «١».
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٨ الى ٩]
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)
سنجرّهم إلى هوانهم وصغرهم، وسنذيقهم وبال أمرهم.
«وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ» أغرقناهم اليوم في بحار الضلالة، وأحطنا بهم سرادقات الجهالة. وفي الآخرة سنغرقهم فى النار والأنكال، ونضيّق عليهم الحال، بالسلاسل والأغلال.
«فَأَغْشَيْناهُمْ» : أعميناهم اليوم عن شهود الحجّة، ونلبّس عليهم في الآخرة سبيل المحجّة، فيتعثّرون في وهدات جهنم داخرين، ويبقون في حرقاتها مهجورين، مطرودين ملعونين، لا نقطع عنهم ما به يعذّبون «٢»، ولا نرحمهم مما منه يشكون تمادى بهم حرمان الكفر، وأحاطت بهم سرادقات الشقاء، ووقعت عليهم السّمة بالفراق.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ١٠]
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠)
مهجور الحقّ لا يصله أحد، ومردود الحقّ لا يقبله أحد. والذي قصمته المشيئة وأقمته القضية لا تنجع فيه النصيحة.
(١) أريد أن أنبه دائما إلى أن الجبرية عند الشيخ لا تتعارض مع الحرية الإنسانية، فالإنسان حسرّ فيما يفعل ولكن في دائرة ما حددته له القضية السابقة التي ترتبط بالعلم الإلهى السابق للإبداء والإنشاء.. نحن نعلم ما حسدث ولكن العلم الإلهى يسجل بدءا كل ما سيحدث.
(٢) من هذا نفهم أن القشيري لا يؤمن بأبدية الجنة وحسب، بل يؤمن بأبدية النار أيضا.. على خلاف جهم الذي يرى أن حركاتهم تتناهى، فهما ليستا أبديتين- كما قلنا من قبل. وعلى خلاف ابن القيم الذي يرى أبدية الجنة فقط حيث بستوقفه الاستثناء في قوله تعالى «لهم فيها زفير وشهيق. خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك» فيقول: إذا فعذابها ينقطع (حادى الأرواح ص ٢٦٣ وشفاه الغليل ص ٢٦٢) ولكن يردّ على ابن القيم أن المقصود في الآية هم عصاة المؤمنين وليس الكفار الذين هم- طبقا لنصوص كثيرة- خالدون فيها أبدا «لا يجدون وليا ولا نصيرا».

[سورة يس (٣٦) : آية ١١]

إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١)
أي إنما ينتفع بإنذارك من اتّبع الذّكر فإنّ إنذارك- وإن كان عاما في الكلّ وللكلّ- فإنّ الذين كفروا على غيّهم يصرّون.. ألا ساء ما يحكمون، وإن كانوا لا يعلمون قبح ما يفعلون. أمّا الذين اتبعوا الذكر، واستبصروا، وانتفعوا بالذي سمعوه منك، وبه عملوا- فقد استوجبوا أن تبشّرهم فبشّرهم، وأخبرهم على وجه يظهر السرور بمضمون خبرك عليهم.
«وَأَجْرٍ كَرِيمٍ» : كبير وافر على أعمالهم- وإن كان فيها خلل.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ١٢]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)
نحيى قلوبا ماتت بالقسوة بما نمطر عليها من صوب الإقبال والزلفة، ونكتب ما قدّموا.
«وَآثارَهُمْ» : خطاهم إلى المساجد «١»، ووقوفهم على بساط المناجاة معنا، وترقرق دموعهم على عرصات خدودهم، وتصاعد أنفاسهم.
«وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ» أثبتنا تفصيله في اللوح المحفوظ.. لا لتناسينا لها- وكيف وقد أحصينا كل شىء عددا؟ - ولكننا أحببنا إثبات آثار أحبائنا في المكنون من كتابنا.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ١٣]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣)
انقرض زمانهم، ونسى أوانهم وشأنهم! ولكننا نتذكر أحوالهم بعد فوات أوقاتهم، ولا نرضى بألا يجرى بين أحبائنا وعلى ألسنة أوليائنا ذكر الغائبين والماضين، وهذا مخلوق يقول في صفة مخلوق:
(١) قال أبو سعيد الخدري: كان بنو سلمة في ناحية من المدينة، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فأنزل الله الآية، وقال لهم النبيّ (ص) :«إن آثاركم تكتب فسلم تنتقلون» أسباب النزول للواحدى ص ٢٤٥.
إذا نسى الناس إخوانهم... وخان المودّة خلّانها
فعندى لإخوانى الغائبين... صحائف ذكرك عنوانها
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ١٦ الى ١٨]
قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨)
قال الرسل: «رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ» وليس علمنا إلّا بما أمرنا به من التبليغ والإنذار.
«قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ» لنرجمنّكم، ولنصنعنّ، ولنفعلنّ... فأجابهم الرسل: إنكم لجهلكم ولجحدكم سوف تلقون ما توعدون.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١)
فى القصة أنه جاء من قرية فسّماها مدينة، وقال من أقصى المدينة، ولم يكن أقصاها وأدناها ليتفاوتا بكثير، ولكنه- سبحانه- أجرى سنّته في استكثار القليل من فعل عبده إذا كان يرضاه، ويستنزر الكثير من فضله إذا بذله وأعطاه.
«اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً..» فأبلغ الوعظ وصدق النّصح.. ولكن كما قالوا:
وكم سقت في آثاركم من نصيحة... وقد يستفيد البغضة المتنصّح
فلمّا صدق في حاله، وصبر على ما لقى من قومه، ورجع إلى التوبة، لقّاه حسن أفضاله، وآواه إلى كنف إقباله، ووجد ما وعده ربّه من لطف أفضاله.

[سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧)
تمنّى أن يعلم قومه حاله، فحقّق الله مناه، وأخبر عن حاله، وأنزل به خطابه، وعرف قومه ذلك. وإنما تمنّى وأراد ذلك إشفاقا عليهم، ليعملوا مثلما عمل ليجدوا مثلما وجد.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)
ما كانت إلا قضية منّا بعقوبتهم، وتغييرا لما كانوا به من السلامة إلى وصف البلاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ٣٠]
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠)
إن لم يتحسّروا هم اليوم فلهم موضع التحسّر وذلك لانخراطهم في سلك واحد من التكذيب ومخالفة الرسل، ومناوءة أوليائه- سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢)
ألم يروا ما فعلنا بمن قبلهم من القرون الماضية، وما عاملنا به الأمم الخالية، فلم يرجع إليهم أحد، فكلّهم في قبضة القدرة، ولم يفتنا أحد، ولم يكن لواحد منهم علينا عون ولا مدد، ولا عن حكمنا ملتحد قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ٣٣]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣)
لمّا كان أمر البعث أعظم شبههم، وكثر فيه إنكارهم كان تكرار الله سبحانه لحديث
البعث، وقد ضرب- سبحانه- المثل له بإحياء الأرض بالنبات في الكثير من الآيات.
والعجب ممّن ينكر علوم الأصول ويقول ليس في الكتاب عليها دليل! وكيف يشكل ذلك وأكثر ما في القرآن من الآيات يحت على سبيل الاستدلال، وتحكيم أدلة العقول «١» ؟
ولكن يهدى الله لنوره من يشاء. ولو أنهم أنصفوا من أنفسهم، واشتغلوا بأهم شىء عندهم لما ضيّعوا أصول الدّين، ولكنهم رضوا فيها بالتقليد، وادّعوا في الفروع رتبة الإمامة والتصدّر.. ويقال في معناه:
يا من تصدّر في دست الإمامة فى مسائل الفقه إملاء وتدريسا
غفلت عن حجج التوحيد تحكمها شيّدت فرعا وما مهّدت تأسيسا!
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ٣٦]
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦)
تنبّه هذه الاية على التفكّر في بديع صنعه فقال: تنزيها لمن خلق الأشياء المتشاكلة فى الأجزاء والأعضاء، من النبات، ومن أنفسهم، ومن الأشياء الأخرى التي لا يعلمون تفصيلها، كيف جعل أوصافها في الطعوم والروائح، فى الشكل والهيئة، فى اختلاف الأشجار فى أوراقها وفنون أغصانها وجذوعها وأصناف أنوارها وأزهارها، واختلاف أشكال تمارها فى تفرّقها واجتماعها، ثم ما نيط بها من الانتفاع على مجرى العادة مما يسميه قوم: الطبائع فى الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، واختلاف الأحداث التي يخلقها الله عقيب شراب هذه الأدوية وتناول هذه الأطعمة على مجرى العادة من التأثيرات التي تحصل في الأبدان. ثم اختلاف صور هذه الأعضاء الظاهرة والأجزاء الباطنة، فالأوقات متجانسة، والأزمان متماثلة، والجواهر متشاكلة.. وهذه الأحكام مختلفة، ولولا تخصيص حكم لكل شىء بما اختصّ به لم يكن تخصيص بغير ذلك أولى منه. وإنّ من كحّل الله عيون بصيرته بيمن التعريف، وقرن أوقاته بالتوفيق، وأتم نظره، ولم يصده مانع.. فما أقوى في المسائل حجّته! وما أوضح فى السلوك نهجه!.
(١) فى هذا ردّ على من يتهم الصوفية بمجافاتهم للعقل والعلم.
إنّها لأقسام سبقت على من شاءه الحقّ بما شاء.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ٣٧]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧)
نبطل ضوء النهار بهجوم الليل عليه، وتزيل ظلام الليل بهجوم النهار عليه، كذلك نهار الوجود يدخل على ليالى التوقف، ويقود بيد كرمه عصا من عمى عن سلوك رشده فيهديه إلى سواء الطريق.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)
على ترتيب معلوم لا يتفاوت في فصول السنة، وكل يوم لها مشرق جديد ولها مغرب جديد.. وكل هذا بتقدير العزيز العليم.
«وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» الإشارة منه أن العبد في أوان الطلب رقيق الحال، ضعيف، مختصر الفهم.. ثم يفكّر حتى تزداد بصيرته... إنه كالقمر يصير كاملا، ثم يتناقص، ويدنو من الشمس قليلا قليلا، وكلّما ازداد من الشمس دنوّا ازداد في نفسه نقصانا حتى يتلاشى ويختفى ولا يرى...
ثم يبعد عن الشمس فلا يزال يتباعد ويتباعد حتى يعود بدرا- من الذي يصرّفه في ذلك إلّا أنه تقدير العزيز العليم؟ وشبيه الشمس عارف أبدا في ضياء معرفته، صاحب تمكين غير متلوّن «١»، يشرق من برج سعادته دائما، لا يأخذه كسوف، ولا يستره سحاب.
وشبيه القمر عبد تتلون أحواله في تنقله فهو في حال من البسط يترقّى إلى حدّ الوصال، ثم يردّ إلى الفترة، ويقع في القبض مما كان به من صفاء الحال، فيتناقص، ويرجع إلى نقصان أمره إلى أن يرفع قلبه عن وقته، ثم يجود الحقّ- سبحانه- فيوفّقه لرجوعه عن فترته،
(١) سبق أن أوضحنا الفرق بين حالى التلوين والتمكين.
وإفاقته عن سكرته، فلا يزال يصفو حاله إلى أن يقرب من الوصال، ويرزق صفة الكمال، ثم بعد ذلك يأخذ في النقص والزوال.. كذلك حاله إلى أن يحقّ له بالمقسوم ارتحاله، كما قالوا:
ما كنت أشكو ما على بدني... من كثرة التلوين من بدّته «١»
وأنشدوا: كلّ يوم تتلون... غير هذا بك أجمل
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢)
الإشارة فيه إلى حمل الخلق في سفينة السلامة في بحار التقدير عند تلاطم أمواجها بفنون من التغيير والتأثير. فكم من عبد غرق في اشتغاله في ليله ونهاره، لا يستريح لحظة من كدّ أفعاله ومقاساة التعب في أعماله، وجمع ماله.
فجرّه ذلك إلى نسيان عاقبته ومآله، واستيلاء شغله بولده وعياله على فكره وباله- وما سعيه إلّا في وباله! وكم من عبد غرق في لجّة هواه، فجرّته مناه إلى تحمّل بلواه، وخسيس من أمر مطلوبه ومبتغاه.. ثم لا يصل قط إلى منتهاه، خسر دنياه وعقباه، وبقي عن مولاه! ومن أمثال هذا وذاك ما لا يحصى، وعلى عقل من فكّر واعتبر لا يخفى.
أمّا إذا حفظ عبدا في سفينة العناية أفرده- سبحانة- بالتحرّر من رقّ خسائس الأمور، وشغله بظاهره بالقيام بحقّه، وأكرمه في سرائره بفراغ القلب مع ربّه، ورقّاه إلى ما قال: «أنا جليس من ذكرنى».. وقل في علوّ شأن من هذه صفته.. ولا حرج! قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤).
(١) البدة النصيب والقسمة (اللسان). [.....]
لولا جوده وفضله لحلّ بهم من البلاء ما حلّ بأمثالهم، لكنه بحسن الأفضال، يحفظهم فى جميع الأحوال.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧)
الآيات هذه صفات من سيّبهم «١» فى أودية الخذلان، ووسمهم بسمة الحرمان، وأصمّهم عن سماع الرّشد، وصدّهم بالخذلان عن سلوك القصد، فلا تأتيهم آية في الزّجر إلا قابلوها بإعراضهم، وتجافوا عن الاعتبار بها على دوام انقباضهم، وإذا أمروا بالإنفاق والإطعام عارضوا بأنّ الله رازق الأنام، وإن يشأ نظر إليهم بالإنعام: - «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ» ثم قال جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٤٨ الى ٥٠]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠)
يستعجلون هجوم الساعة، ويستبطئون قيام القيامة- لا عن تصديق يريحهم من شكّهم، أو عن خوف يمنعهم عن غيّهم، ولكن تكذيبا لدعوة الرسل، وإنكارا لصحة النبوة، واستبعادا للنشر والحشر.
ويوم القيامة هم في العذاب محضرون، ولا يكشف عنهم، ولا ينصرون.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤)
(١) سيبه تركه وخلّاه يسيب حيث شاء (الوسيط).
يموتون قهرا، ويحشرون جبرا، ويلقون أمرا، ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.
«قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا «١» مِنْ مَرْقَدِنا؟» يموتون على جهل، لا يعرفون ربّهم، ويبعثون على مثل حالهم، لا يعرفون من بعثهم، ويعدون ما كانوا فيه في قبورهم من العقوبة الشديدة- بالإضافة إلى ما سيلقون من الآلام الجديدة- نوما ورقادا، وسيطئون من الفراق المبرح والاحتراق العظيم الضخم مهادا، لا يذوقون بردا ولا شرابا إلا حميما وغسّاقا، ولقد عوملوا بذلك استحقاقا: فقد قال جل ذكره: - «فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧)
إنما يضاف العبد إلى ما كان الغالب عليه ذكره والآخذ بمجامع قلبه، فصاحب الدنيا من فى أسرها، وأصحاب الجنة من هم طلّابها والساعون لها والعاملون لنيلها قال تعالى مخبرا عن أقوالهم وأخوالهم: «لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ» «٢». وهذه الأحوال- وإن جلّت منهم ولهم- فهى بالإضافة إلى أحوال السادة والأكابر تتقاصر، قال صلى الله عليه وسلم: «أكثر أهل الجنة البله» «٣» ومن كان في الدنيا عن الدنيا حرّا فلا يبعد أن يكون في الجنة عن الجنة حرا، والله يختص برحمته من يشاء.
وقيل إنما يقول هذا الخطاب لأقوام فارغين، فيقول لهم: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ»
(١) سقطت (بعثنا) من الناسخ في ص.
(٢) آية ٦١ سورة الصافات.
(٣) جاء في اللسان أن الأبله من تغلب عليه سلامة الصدر، وحسن الظنّ بالناس لأنه يغفل أمر دنياه، ويقبل على آخرته ويشغل نفسه بها، قال ﷺ «أكثر أهل الجنة البله» فهم أكياس في أمر الآخرة (اللسان ح ١٩ ص ٤٧٧) ط بيروت.
220
وهم أهل الحضرة والدنو، لا تشغلهم الجنة عن أنس القربة، وراحات الوصلة، والفراغ للرؤية «١» ويقال: لو علموا عمّن شغلوا لما تهنّأوا بما شغلوا.
ويقال بل إنما يقول لأهل الجنة: «إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ..» كأنه يخاطبهم مخاطبة المعاينة إجلالا لهم كما يقال: الشيخ يفعل كذا، ويراد به: أنت تفعل كذا.
ويقال: إنما يقول هذا لأقوام في العرصة أصحاب ذنوب لم يدخلوا النار، ولم يدخلوا الجنة بعد لعصيانهم فيقول الحق: عبدى.. أهل النار لا يتفرغون إليك لأهوالهم، وما هم فيه من صعوبة أحوالهم، وأهل الجنة وأصحابها اليوم في شغل عنك لأنهم في لذّاتهم، وما وجدوا من أفضالهم مع أهلهم وأشكالهم فليس لك اليوم إلا نحن! وقيل شغلهم تأهبهم لرؤية مولاهم، وذلك من أتمّ الأشغال، وهي أشغال مؤنسة مريحة لا متعبة موحشة.
ويقال: الحقّ لا يتعلّق به حقّ ولا باطل فلا تنافى بين اشتغالهم بأبدانهم مع أهلهم، وشهودهم مولاهم، كما أنهم اليوم مشغولون مستديمون لمعرفته بأى حالة هم، ولا يقدح اشتغالهم- باستيفاء حظوظهم- فى معارفهم.
ويقال شغل نفوسهم بشهواتها «٢» حتى يخلص الشهود لأسرارهم على غيبة من إحساس النّفس الذي هو أصعب الرّقباء، ولا شىء أعلى من رؤية الحبيب مع فقد الرقيب.
قوله جل ذكره: «هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ».
(١) هكذا فى م وهي في ص (لله وبه)، وقد آثرنا (الرؤية) متأثرين برواية القرطبي عن الثعلبي والقشيري-- ابن المصنف- حيث تقول هذه الرواية: «فينظر إليهم الحق وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شىء من النعيم ماداموا ينظرون إليه» القرطبي ح ١٥ ص ٤٥.
(٢) قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد: شغلهم افتضاض العذارى.
وفي الخبر عن أبى سعيد الخدري قال (ص) :«إن أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارا». ذكر ابن عباس: كلما أتى الرجل من أهل الجنة الحوراء وجدها بكرا، وكلما رجع إليها عادت إليه شهوته، ولا يكون بينهما منى، منه أو منها. (القرطبي ح ١٥ ص ٤٥).
221
«أَزْواجُهُمْ» : قيل أشكالهم في الحال والمنزلة، كقوله: «احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ» «١» وقيل حظاياهم «٢» من زوجاتهم.
«لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» «لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ» : أي نصيب أنفسهم. ويقال الإشارة فيها إلى راحات الوقت دون حظوظ النفس.
«لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ» : ما يريدون، ويقال تسلم لهم دواعيهم، والدعوى- إذا كانت بغير حقّ- معلولة.
قوله تعالى:
[سورة يس (٣٦) : آية ٥٨]
سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)
يسمعون كلامه وسلامه بلا واسطة، وأكّد ذلك بقوله: «قَوْلًا».
وبقوله: «مِنْ رَبٍّ» ليعلم أنه ليس سلاما على لسان سفير.
«مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ». والرحمة في تلك الحالة أن يرزقهم الرؤية في حال ما يسلّم عليهم لتكمل لهم النعمة. ويقال الرحمة في ذلك الوقت أن ينقّيهم في حال سماع السلام وحال اللقاء لئلا يصحبهم دهش، ولا تلحقهم حيرة.
ويقال إنما قال: «مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ» ليكون للعصاة من المؤمنين فيه نفس، ولرجائهم مساغ فإن الذي يحتاج إلى الرحمة العاصي.
ويقال: قال ذلك ليعلم العبد أنه لم يصل إليه بفعله واستحقاقه، وإنما وصل إليه برحمة ربه.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ٥٩]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)
غيبة الرقيب أتمّ نعمة، وإبعاد العدوّ «٣» من أجلّ العوارف «٤» فالأولياء في إيجاب القربة، والأعداء في العذاب والحجبة.
(١) آية ٢٢ سورة الصافات.
(٢) جمع حظية وهي المرأة التي تفضل على غيرها في المحبة.
(٣) يقول قتادة فى «امتازوا» إنها بمعنى عزلوا عن كل خير.
(٤) العوارف جمع عارفة وهي الفضل والإحسان.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٦٠ الى ٦١]
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
لو كان هذا القول من مخلوق إلى مخلوق لكان شبه اعتذار أي لقد نصحتكم ووعظتكم، ومن هذا حذّرتكم، وكم أوصلت لكم القول، وذكّرتكم فلم تقبلوا وعظي، ولم تعملوا بأمرى، فأنتم خالفتم، وعلى أنفسكم ظلمتم، وبذلك سبقت القضية منّا لكم.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ٦٥]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥)
اليوم سخّر الله أعضاء بدن الإنسان بعضها لبعض، وغدا ينقض هذه العادة، فتخرج بمض الأعضاء على بعض، وتجرى بينها الخصومة والنزاع فأمّا الكفار فشهادة أعضائهم عليهم مبيدة، وأمّا العصاة من المؤمنين فقد تشهد عليهم بعض أعضائهم بالعصيان، ولكن تشهد لهم بعض أعضائهم أيضا بالإحسان، وكما قيل:
بينى وبينك يا ظلوم الموقف والحاكم العدل الجواد المنصف
وفي بعض الأخبار المروية المسندة أنّ عبدا تشهد عليه أعضاؤه بالزّلّة فيتطاير شعره من جفن عينيه، فيستأذن بالشهادة له فيقول الحق: تكلمى يا شعرة جفن عبدى واحتجّى عن عبدى، فتشهد له بالبكاء من خوفه، فيغفر له، وينادى مناد: هذا عتيق الله بشعرة.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ٦٨]
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)
؟ يردّه إذا استوى شبابه وقوّته إلى العكس، فكما كان يزداد في القوة يأخذ في النقصان إلى أن يبلغ أرذل العمر في السن فيصير إلى مثل حال الطفولية في الضعف، ثم لا يبقى بعد النقصان شىء، كما قيل:
طوى العصران ما نشراه منى وأبلى جدنى نشر وطيّ
أرانى كلّ يوم في انتقاص ولا يبقى مع النقصان شيّ
هذا في الجثث والمبانى دون الأحوال والمعاني فإن الأحوال في الزيادة إلى أن يبلغ حدّ الخرف «١» فيختلّ رأيه وعقله. وأهل الحقائق تشيب ذوائبهم ولكنّ محابّهم ومعانيهم فى عنفوان شبابها، وطراوة جدّتها.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ٦٩]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩)
كلامه ﷺ كان خارجا عن أوزان الشّعر، والذي أتاهم به من القرآن لم يكن من أنواع الشعر، ولا من طرق الخطباء.
تحيّر القوم في بابه ولم تكتحل بصائرهم بكحل التوحيد فعموا عن شهود الحقائق.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧١ الى ٧٥]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥)
ذكر عظيم منّته عليهم، وجميل نعمته لديهم بما سخر لهم من الأنعام التي ينتفعون بها بوجوه الانتفاع.
ولفظ «أَيْدِينا» توسّع. أي مما عملنا وخلقنا، وذلك أنهم ينتفعون بركوبها وبأكل لحومها وشحومها، وبشرب ألبانها، وبالحمل عليها، وقطع المسافات بها، ثم بأصوافها وأوبارها وشعرها ثم بعظم بعضها.. فطالبهم بالشكر عليها، ووصفهم بالتقصير في شكرهم.
ثم أظهر- ما إذا كان في صفة المخلوقين لكان شكاية- أنهم مع كل هذه الوجوه من الإحسان: -
[سورة يس (٣٦) : آية ٧٦]
فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)
(١) الخرف فساد العقل من الكبر.
اكتفوا بأمثالهم «١» معبودات لهم، ثم سلّى نبيّه- ﷺ بأن قال له: - «فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» وإذا علم العبد أنّه بمرأى من الحقّ هان عليه ما يقاسيه، ولا سيما إذا كان في الله.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ٧٧]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧)
أي شددنا أسرهم، وجمعنا نشرهم، وسوّينا أعضاءهم، وركّببنا أجزاءهم، وأودعناهم العقل والتمييز.. ثم إنه «خَصِيمٌ مُبِينٌ» : ينازعنا في خطابه، ويعترض علينا في أحكامنا بزعمه واستصوابه، وكما قيل:
أعلّمه الرماية كلّ يوم فلمّا اشتدّ ساعده رمانى
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : الآيات ٧٨ الى ٨١] «٢»
وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١)
مهّد لهم سبيل الاستدلال، وقال إن الإعادة في معنى الإبداء، فأى إشكال بقي في جواز الإعادة في الانتهاء؟ وإنّ الذي قدر على خلق النار في الأغصان الرّطبة من المرخ والعفار «٣» قادر على خلق الحياة في الرّمة البالية، ثم زاد في البيان بأن قال: إن القدرة على مثل الشيء
(١) أي أمثالهم من المخلوقين والمخلوقات.
(٢) نزلت حين سأل أبى بن خلف الجمحي رسول الله (ص) وقد جاءه بعظم حائل قائلا: يا محمد، أترى الله يحيى هذا بعد ما رم؟ فقال: نعم، ويبعثك ويدخلك في النار. (أسباب النزول للواحدى ص ٢٤٦).
(٣) المرخ شجر طويل ليس له ورق ولا شوك، سريع الورى، يقتدح به. والعفار الجوز المأكول.
وفي المثل: «فى كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار» (الوسيط).
م (١٥) لطائف الإشارات- ح ٣ [.....]
كالقدرة عليه لاستوائهما بكلّ وجه، وإنه يحيى النفوس بعد موتها في العرصة كما يحى الإنسان من النطفة، والطير «١» من البيضة، ويحيى القلوب بالعرفان لأهل الإيمان كما يميت نفوس أهل الكفر بالهوى والطغيان.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ٨٢]
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)
«إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» بخلقه وقدرته. وأخبرنا أنه تتعلّق بالمكوّن كلمته على ما يجب في صفته، وسيّان عنده خلق الكثير في كثرته والقليل في قلّته.
قوله جل ذكره:
[سورة يس (٣٦) : آية ٨٣]
فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٣)
أي بقدرته ظهور كلّ شىء: فلا يحدث شىء- قلّ أو كثر- إلا بإبداعه وإنشائه، ولا يبقى منها شىء إلا بإبقائه، فمنه ظهور ما يحدث، وإليه مصير ما يخلق
(١) وردت (والطين) والصواب أن تكون (والطير).
Icon