تفسير سورة المطفّفين

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة المطففين من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة المطففين
مدنية، عددها ست وثلاثون آية كوفي

﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ﴾ [آية: ١] الويل واد في جهنم بعده مسيرة سبعين سنة، فيه تسعون ألف شعب، في كل شعب سبعون ألف شق، في كل شق سبعون ألف مغار، في كل مغار سبعون ألف قصر، في كل قصر سبعون ألف تابوت من حديد، وفى التابوت سبعون ألف شجرة، في كل شجرة سبعون ألف غصن من نار، في كل غصن سبعون ألف ثمرة، في كل ثمرة دودة طولها سبعون ذراعاً، تحت كل شجرة سبعون ألف ثعبان، وسبعون ألف عقرب، فأما الثعابين فطولهن مسيرة شهر في الغلظ مثل الجبال، وأنيابها مثل النخل، وعقاربها مثل البغال الدهم لها ثلاث مائة وستون فقار، في كل فقار قلة سم، وذلك" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى المدينة، وكان بسوق الجاهلية لهم كيلين وميزانين معلومة لا يعاب عليهم فيها، فكان الرجل إذا اشترى اشترى بالكيل الزائد، وإذا باع باعه بالناقص، وكانوا يريجون بين الكيلين، وبين الميزانين، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال لهم: " ويل لكم مما تصنعون "، فأنزل الله تعالى التصديق على لسانه، فقال: ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ﴾.
ثم ذكر مساوئهم، فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [آية: ٣] يعني ينقصون، ثم خوفهم فقال: ﴿ أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ الذين يفعلون هذا ﴿ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [آية: ٥].
﴿ يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ٦] فهو مقدار ثلاث مائة عام إذا أخرجوا من قبورهم، فهم يجولون بعضهم إلى بعض قياماً ينظرون، ثم خوفهم أيضاً، فقال: ﴿ كَلاَّ ﴾ وهى وعيد مثل ما يقول الإنسان: والله يحلف بربه والله تعالى لا يقول: والله ولكنه يقول: كلا ﴿ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴾ [آية: ٧] يعني أعمال المشركين مكتوبة مختومة بالشر، موضوعة تحت الأرض السفلى، تحت خذ إبليس، لأنه أطاعه، وعصى ربه، فذلك قوله: ﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ﴾ [آية: ٨] تعظيماً لها. قال: ﴿ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ﴾ [آية: ٩] ووعدهم أيضاً، فقال: ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آية: ١٠] بالبعث ﴿ ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ ﴾ [آية: ١١] يعني بيوم الحساب الذى فيه جزاء الأعمال، فقال: ﴿ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ ﴾ بالحساب ﴿ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ﴾ [آية: ١٢] يقول: معتد بربه حيث شك في نعمته، وتعبد غيره، فهو المعتد، أثيم قلبه ﴿ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا ﴾ يعني القرآن ﴿ قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ [آية: ١٣] يعني به كتاب الأولين، مثل كتاب رستم، وأسفندباز، نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث بن علقمة، قدم الحيرة، فكتب حديث رستم وأسفندباز، فلما قدم، قال: ما يحدثكم محمد؟ قالوا: حدثنا عن القرون الأولى، قال: وأنا أحدثكم بمثل ما يحدثكم به محمد أيضاً، فأنزل الله عز وجل، وفيه﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ ٱلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً ﴾[لقمان: ٦]، فذلك قوله: ﴿ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾.
ثم وعدهم، فقال: ﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [آية: ١٤] يقول: طبعنا على قلوبهم، فهم لا يبصرون إلى مساوئهم، فيقلعون عنها، ثم أوعدهم، فقال: ﴿ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾ [آية: ١٥] لأن أهل الجنة يرونه عياناً لا يحجبهم عنه، ويكلمهم، وأما الكافر، فإنه يقام خلف الحجاب فلا يكلمهم الله تعالى ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم حتى يأمر بهم إلى النار ﴿ ثُمَّ إِنَّهُمْ ﴾ يعني إذا حجبوا عن ربهم ﴿ لَصَالُو ٱلْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ ﴾ لهم ﴿ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾ [آية: ١٧] وذلك أن أهل النار يقول لهم مالك خازن النار هذه:﴿ ٱلنَّارِ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾[سبأ: ٤٢]،﴿ أَفَسِحْرٌ هَـٰذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ ٱصْلَوْهَا فَٱصْبِرُوۤاْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾[الطور: ١٥، ١٦] فذلك قوله: ﴿ ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ﴾.
ثم أوعدهم، فقال: ﴿ كَلاَّ ﴾ ثم انقطع الكلام، ثم رجع إلى قوله فى: ويل للمطففين، فقال: ﴿ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾ [آية: ١٨] لفي ساق العرش، يعني أعمال المؤمنين وحسناتهم ﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ﴾ [آية: ١٩] تعظيماً لها، فقال: ﴿ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ﴾ [آية: ٢٠] يعني كتاب من كتب الخير مختوم ختم بالرحمة مكتوب عند الله عز وجل ﴿ يَشْهَدُهُ ﴾ يشهد ذلك ﴿ ٱلْمُقَرَّبُونَ ﴾ [آية: ٢١] وهم الملائكة من كل سماء سعبة أملاك من مقربى أهل كل سماء يشيعون ذلك العمل الذي يرضاه الله حتى ثبوته عند الله جل وعز، ثم يرجع كل ملك إلى مكانه. ثم ذكر الأبرار، فقال: ﴿ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [آية: ٢٢] يعني نعيم الجنة، ثم بين ذلك النعيم، فقال: ﴿ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ ﴾ [آية: ٢٣] إلى ذلك النعيم وهي السرر والحجال، فإذا كان سريراً، ولم يكن عليه حجلة فهو السرير حينئذ، وإذا كانت الحجلة، ولم يكن فيها سرير فهى الحجلة، فإذا اجتمع السرير والحجلة، فهى الأرائك يعني هؤلاء جلوس ينظرون إلى ذلك النعيم. يقول: ﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ ﴾ [آية: ٢٤] لأنه يعلق في وجهه النور من الفرح والنعيم، فلا يخفى عليك إذا نظرت إليهم فرحون، ثم قال: ﴿ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ﴾ [آية: ٢٥] وهو الخمر الأبيض إذا أنتهى طيبه ﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ ﴾ إذا شرب وفرغ ونزع الإناء من فيه وجد طعم المسك ﴿ وَفِي ذَلِكَ ﴾ يعني فليتنازع المتنازعون، وفيه فليرغب الراغبون. ثم قال: ﴿ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [آية: ٢٦] يعني فليتنازع المتنازعون، وفيه فليرغب الراغبون، ثم قال: ﴿ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً ﴾ من جنة عدن، فتنصب عليم أنصباباً، فذلك قوله: ﴿ يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ ﴾ [آية: ٢٨] يقول: يشربون به الخمر من ذلك الماء، وهم أهل جنة عدن، وهي أربعة جنان، وهي قصبة الجنة، ماء تسنيم يخرج من جنة عدن، والكوثر، والسلسبيل، ثم انقطع الكلام، قوله: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ ﴾ [آية: ٢٩] نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب وأصحابه، وذلك أنهم كانوا يمرون كل يوم على المنافقين واليهود وهم ذاهبون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رأوهم سخروا منهم وتغامزوا في أمرهم، وضحكوا منهم، وإذا رجعوا إلى أصحابهم، ضحكوا منهم، وذلك أن عبدالله بن نتيل لقى بدعة بن الأقرع، فقال: أشعرت أنا رأينا اليوم الأصلع فضحكنا من؟ قال: كيف؟ قال: لأنه يمشى بين أيديهم، وهم خلفه لا يجاوزنه، كأنه هو الذي يدلهم على الطريق، فسمع بذلك أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، فشق عليه وعلى أصحابه فتركوا ذلك الطريق وأخذوا طريقاً آخر، فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ ﴾.
﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمْ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ ﴾ [آية: ٣١] يعني عبدالله بن نتيل، يعني إذا رجعوا إلى قومهم رجعوا معجبين بما هم عليه من الضلالة بما فعلوا بعلي وأصحابه، رحمهم الله.
﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ﴾ [آية: ٣٣].
ثم أخبر بجزائهم على الله تعالى: ﴿ فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى ٱلأَرَآئِكِ ﴾ والأرائك السرير في الحجلة، يقول: جلوس من الحجلة يضحكون من أعدائهم، وذلك أن لكل رجل من أهل الجنة ثلمة، ينظرون إلى أعداء الله كيف يعذبون؟ فإذا نظروا إلى أهل النار وما يلقون هم من رحمة الله عز وجل، وعرفوا أن الله قد أكرمهم، فهم ضاحكون من أهل النار، ويكلمونهم حتى يطبق على أهل النار أبوابها في عمد من حديد من نار كأمثال الجبال، فإذا أطبقت عليهم انسدت تلك الكوى، فيمحو الله أسمائهم ويخرجهم من قلوب المؤمنين، فذلك قوله: ﴿ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ ٱلْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [آية: ٣٦] يعني ينظرون من الكوى، فإذا رأوهم، قالوا: والله قد ثوب الكفار ما كانوا يفعلون.
Icon