تفسير سورة النحل

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة النحل من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة النحل
مائة «١» وثمانية وعشرون اية مكية الّا ثلاث آيات من آخرها روى ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال نزلت النحل كلها بمكة الا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد حين قتل حمزة ومثل به فقال رسول الله ﷺ لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط فانزل الله وَإِنْ عاقَبْتُمْ الى اخر السورة- ربّ يسّر وتمّم بالخير «٢» بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ اى دنا وقرب قال ابن عرفة يقول العرب أتاك الأمر وهو متوقع بعد- فالاتيان مجاز من الدنو او من وجوب الوقوع فان الأمر الواجب الوقوع فى المستقبل بمنزلة الماضي فى كونه متيقنا وجوده- والمعنى ان امر الله الموعود وهو قيام الساعة على ما قاله الكلبي وغيره واجب وقوعه استيقنوا به ولا ترتابوا فيه واعدّوا له كانه قد اتى فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ اى لا تستعجلوا وقوعه إذ لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم عنه- قال البغوي قال ابن عباس رضى الله عنهما لما نزل قوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قال الكفار بعضهم لبعض ان هذا الرجل يزعم ان القيامة قد قربت فامسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتّى ننظر ما هو كائن فلما لم ينزل شيء قالوا ما نرى شيئا مما تخوّفنا به فنزل قوله تعالى اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ فاشفقوا فلما امتددن الأيام قالوا يا محمّد ما نرى شيئا مما تخوّفنا به فانزل الله تعالى أَتى أَمْرُ اللَّهِ فوثب النبي ﷺ ورفع الناس رءوسهم وظنوا انها قد أتت حقيقة فنزل فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمانوا- اخرج ابن مردوية عن ابن عباس قال
(١) وفى الأصل مائة وعشرون
(٢) الخطبة من الناشر-
لما نزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ ذعر اصحاب رسول الله ﷺ حتّى نزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ- والاستعجال طلب الشيء قبل أوانه- قال البغوي ولمّا نزلت هذه الاية قال النبي ﷺ بعثت انا والساعة كهاتين فاشار بإصبعيه كادت لتسبقنى- قلت وفى الصحيحين عن انس بعثت انا والساعة كهاتين- وروى الترمذي عن المستور بن شداد عن النبي ﷺ قال بعثت فى نفس الساعة فسبقتها كما سبقت هذه هذه وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى- وقال البغوي قال ابن عباس كان بعث النبي ﷺ من اشراط الساعة ولما مر جبرئيل عليه السلام باهل السموات مبعوثا الى محمّد ﷺ قالوا الله اكبر قامت الساعة- وقال قوم المراد بالأمر هاهنا عقوبة المكذبين والعذاب بالسيف وذلك ان النضر بن الحارث قال اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ فاستعجلوا العذاب فنزلت هذه الاية وقتل النضر يوم بدر صبرا سُبْحانَهُ اى اسبح الله سبحانا وانزهه تنزيها وَتَعالى يعنى تعاظم وترافع بالأوصاف الجليلة عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) عن ان يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم او عما يصفه به المشركون- قرا حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب فى الموضعين مطابقا لقوله تعالى فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ والباقون بالياء على الالتفات او على ان الخطاب للمؤمنين او لهم ولغيرهم لما مر فى الحديث انه وثب النبي ﷺ ورفع الناس رءوسهم فنزلت فلا تستعجلوه-.
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ قرا العامة بضم الياء وكسر الزاء من الافعال ونصب الملائكة على المفعولية ويعقوب بالتاء الفوقانية وفتح الزاء على صيغة المضارع من التفعيل بحذف احدى التاءين ورفع الملائكة على الفاعلية بِالرُّوحِ اى بالوحى او القران فانه يحيى به القلوب الميتة بالجهل مِنْ أَمْرِهِ اى بامره ومن اجله عَلى مَنْ يَشاءُ ان يتخذه رسولا مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا اى اعلموا من نذرت هكذا إذا علمته وان مفسرة لان الروح بمعنى الوحى الدال على القول او مصدرية فى موضع الجر على البدل من الروح او النصب بنزع الخافض- او مخففة من الثقيلة أَنَّهُ اى الشأن لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)
رجوع الى مخاطبتهم بما هو المقصود او يقال انذروا بمعنى خوّفوا اهل الشرك والمعاصي بالعذاب واعلموا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ اى خافون- وفى الاية تنبيه على ان الوحى حاصله التنبيه على التوحيد وهو منتهى كمال القوة العلمية والأمر بالتقوى الّذي هو أقصى كمالات العملية والآيات الآتية دالة «١» على الواحدية من حيث انها تدل على انه تعالى هو الموجد لاصول العالم وفروعه على وفق الحكمة والمصلحة ولو كان له شريك لقدر على ذلك وأمكن التمانع- وفى تعقيب هذه الاية لقوله تعالى أَتى أَمْرُ اللَّهِ اشارة الى الطريق الّذي علم الرسول بذلك إتيان الساعة وازاحة لاستبعادهم باختصاصه بالعلم-.
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ متلبسا بِالْحَقِّ أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة بحيث يدل على صانع قديم واحد قدير حكيم تَعالى تعاظم وارتفع عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) منهما او يفتقر فى وجوده او بقائه عليهما وهما لا يقدران على خلقها وفيه دليل على انه تعالى ليس من قبيل الاجرام.
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ جماد لا حس لها ولا حركة سيالة لا يحفظ الوضع والشكل حتّى صار قويّا شديدا فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ منطيق مجادل مُبِينٌ (٤) للحجة على نفى البعث بقوله مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ- او ظاهر الجدال بخالقه قال البغوي نزلت فى أبيّ بن خلف الجمحي وكان ينكر البعث فجاء بعظم رميم فقال أتقولون ان الله يحيى هذا بعد مارم ونزلت فيه ايضا وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ- واخرج ابن ابى حاتم عن السدىّ هذه القصة فى قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ الاية- والمعنى ان هذا المنكر لم يتفرس بان الله تعالى خلقه وقد كان نطفة فاىّ استبعاد فى خلقه مرة اخرى بعد مارم ولفظ الاية عام وان كان المورد خاصّا والله اعلم-.
وَالْأَنْعامَ يعنى الإبل والبقر والغنم منصوب بمضمر يفسره قوله خَلَقَها لَكُمْ او بالعطف على الإنسان وجملة خَلَقَها لَكُمْ بيان لما خلق لاجله وما بعده تفصيله فِيها دِفْءٌ فى القاموس انه نقيض حدة البرد يعنى تستدفئون من اوبارها واشعارها وأصوافها ويجعل منها ملابس ولحفا وَمَنافِعُ من النسل والدر والركوب والحمل
(١) فى الأصل ادلة-
وسقى الزرع والبيع وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) ما يؤكل منها كاللحوم والشحوم والألبان- وتقديم الظرف للمحافظة على رؤس الاى او لان الاكل منها هو المعتاد المعتمد عليه فى المعاش بخلاف الاكل من سائر الحيوانات المأكولة فانها اما على سبيل التفكه او التداوى.
وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ زينة حِينَ تُرِيحُونَ تردونها من مراعيها الى مراحيها بالعشي وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) اى تخرجونها بالغداة الى المراعى فان الافنية تتزين بها فى الوقتين ويجلّ أهلها فى أعين الناظرين إليها وتقديم الاراحة لان الحال فيها اظهر فانها تروح ملا البطون حاقلة الضروع.
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ فضلا من ان تحملوها على ظهوركم اليه إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ بالمشقة والجهد- قرا ابو جعفر بفتح الشين والجمهور بكسرها- وهما لغتان نحو رطل ورطل إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) حيث خلقها لانتفاعكم بها.
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ عطف على الانعام لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً اى لتركبوها ولتتزيّنوا بها زينة- وقيل هى معطوفة على محل لتركبوها وتغير النظم لان الزينة بفعل الخالق والركوب فعل اختياري للمخلوق ولان المقصود من خلقها الركوب كما ان المقصود من خلق البقر الحرث وانما يحصل التزيين بالدواب بالعرض- احتج بهذه الاية ابو حنيفة على حرمة لحوم الخيل او كراهتها قال صاحب الهداية هذه الاية خرج مخرج الامتنان والاكل من أعلى منافعها والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها- قلت أكل لحوم الشاة والدجاجة ونحوها أطيب جدّا من لحوم الخيل ويتيسر ذلك بأدنى مؤنة بخلاف لحوم الخيل فلذلك لم يعتبر أكل لحوم الخيل من منافعها فالقول بان الاكل أعلى منافعها ممنوع بل أعلى منافعها ما لا يحصل الا به كالركوب والزينة ولاجل ذلك ذكر الله سبحانه المنفعتين المذكورتين فى الامتنان والله اعلم- وكيف يدل الاية على حرمة الخيل والحمر والبغال مع ان الاية مكية وكلها كانت حلالا حينئذ وانما حرمت لحوم الحمر الاهلية يوم خيبر سنة ست من الهجرة وقد مر المسألة فى تفسير سورة المائدة فى قوله تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ... وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) يعنى ما أعد للمؤمنين فى الجنة وللكافرين فى النار مما لم يره
عين ولم يسمعه اذن ولم يخطر على قلب بشر.
وَعَلَى اللَّهِ بيان قَصْدُ السَّبِيلِ اى الطريق المستقيم الموصل الى الحق رحمة وتفضلا- او عليه قصد السبيل يعنى يصل الى الله تعالى من يسلكه لا محالة يفال سبيل قصد وقاصد اى مستقيم كانه يقصد الوجه الّذي يقصده السالك لا يميل عنه والمراد بالسبيل الجنس ولذلك أضاف إليها والاضافة بمعنى من وَمِنْها اى من السبيل جائِرٌ مائل عن القصد او عن الله وتغير الأسلوب لان المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل الى القصد والجائر انما جاء بالعرض فالقصد من السبيل السنة والجائر منها الأهواء والبدع وملل الكفر كلها وَلَوْ شاءَ الله هدايتكم أجمعين لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) الى قصد السبيل والمراد بالهداية هاهنا الإيصال الى المطلوب ومن قوله عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ اراءة الطريق-.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ اى ماء تشربونه ولكم صلة انزل او خبر شراب ومن تبعيضية متعلقة به وتقديمها يوهم الحصر ووجه الحصر ان مياه الآبار والعيون منه لقوله تعالى فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ وقوله فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ... وَمِنْهُ اى من ذلك الماء شَجَرٌ اى شرب أشجاركم وحيات نباتكم فِيهِ اى فى الشجر تُسِيمُونَ (١٠) اى ترعون مواشيكم من سامت الماشية وأسامها صاحبها وأصلها السومة وهى العلامة لانها تؤثر بالرعي علامة.
يُنْبِتُ قرا ابو بكر عن عاصم بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة اى ينبت الله لَكُمْ بِهِ اى بالماء الّذي انزل الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ اى بعض كل ما يمكن من الثمار وانما ذكر لفظ التبعيض لان كل الثمرات لا يكون الا فى الجنة وخلق فى الدنيا بعضها ليكون تذكرة لها ولعل تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه لانه سيصير غذاء حيوانيا وهو اشرف الاغذية ومن هذا القبيل تقديم الزرع والتصريح بالأجناس الثلاثة وترتيبها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً اى دلالة واضحة على وجود الصانع وعلمه وحكمته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) فان من تأمل ان الحبة تقع فى الأرض ويتصل إليها ندوة ينفذ فيها فينشق أعلاها ويخرج منه ساق الشجر وينشق أسفلها فيخرج منه عروقها ثم ينمو
ويخرج منه الأوراق والازهار والاكمام والثمار فى بعض الازمنة دون بعض ويشتمل كل منها الأجسام المختلفة الاشكال والطبائع مع اتحاد المواد واتحاد نسبة الطبائع السفلية والعلوية الى الكل علم ان ذلك ليس الا بفعل فاعل مختار تقدس عن منازعة الاضداد والانداد.
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ اى هيّا هما لمنافعكم وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ قرا ابن عامر الاربعة بالرفع على انها مبتدا وخبر وقرا اهل الحجاز والشام «١» والكوفة غير حفص بنصب الاربعة الثلاثة عطفا على النهار ومسخّرت على انه حال من الجميع اى جعلها بحيث ينفعكم حال كونها مسخرات لله تعالى خلقها ودبّرها كيف شاء او مسخرات لما خلقن وقرا حفص الشّمس والقمر بالنصب على العطف وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بالرفع على الابتداء بِأَمْرِهِ اى بايجاده وتقديره او بحكمه وفى الاية إيذان بالجواب لمن يقول ان المؤثر فى تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها فان ذلك ان سلم فلا شك انها حادثة ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجوه المحتملة فلا بد لها من مخصص مختار واجب الوجود دفعا للدور والتسلسل والتحقيق ان تأثيرات الأشياء الفلكية او العنصرية كلها امور عادية جرى عادة الله تعالى على خلق بعض الأشياء عقيب بعض منها ولا يتصور نسبة الإيجاد على الحقيقة الى ما هو معدوم فى حد ذاته لا يقتضى ذاته وجوده فانه كيف يقتضى وجود غيره إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) جمع الاية وذكر العقل لانها تدل أنواعا من الدلالات الظاهرة لذوى العقول السليمة غير محوجة الى استيفاء فكر كاحوال النبات.
وَما ذَرَأَ اى خلق لَكُمْ عطف على الليل اى سخر لاجلكم ما خلق فِي الْأَرْضِ من الحيوانات والنباتات والمعادن مُخْتَلِفاً نصب على الحال أَلْوانُهُ اى اصنافه فان الأصناف يتخالف باللون غالبا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) يعتبرون ان اختلافها فى الطباع والهيئات والمناظر ليس الا بصنع صانع حكيم-.
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ اى جعله بحيث يتمكنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد والغوص لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا اى غضّا جديدا يعنى السمك وصفه بالطراوة لانه أرطب اللحوم فيسرع اليه الفساد فيسارع الى أكله ووجه كثرة
(١) الصحيح وقرا اهل الحجاز والبصرة والكوفة غير حفص إلخ- ابو محمّد
329
العطش بعد أكل السمك انها بالطبع ملتزق بالأمعاء فالطبيعة لدفعه من الأمعاء تطلب الماء لا لكونها حارا او يابسا- وفى وصفه بالطراوة اظهار لقدرته تعالى فى خلقه عذبا طريا فى ماء زعاق مرّ مالح- وتمسك مالك والثوري بهذه الاية على انه من حلف لا يأكل لحما حنث بأكل السمك وأجيب عنه بان مبنى الايمان على العرف وهو لا يفهم منه عند الإطلاق الا ترى ان الله تعالى قال شَرَّ الدَّوَابِّ فى الكفار ولا يحنث الحالف بان لا يركب دابة بركوبه على الكافر وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها كاللؤلؤ والمرجان اى تلبس نساؤكم فاسند إليهم لانهن من جملتهم ولانهن تتزين بها لاجلهم وَتَرَى الْفُلْكَ اى السفن عطف على قوله لتأكلوا لانه فى قوة لتركبوا الفلك وجاز ان يكون استينافا مَواخِرَ فِيهِ اى جوارى وقال قتادة مقبلة ومدبرة احداها تقبل واخرى تدبر تجريان بريح واحدة وقال الحسن اى مملوة وقال الفراء والأخفش شقاق تشق الماء بجناحيها والمخر شق الماء وقيل المخر صوت جرى الفلك وقال ابو عبيدة المخر صوت هبوب الريح عند شدتها وقال مجاهد تمخر السفن الرياح اى تستقبل وفى القاموس مخزت السفينة كمنع مخرا ومخورا جرت واستقبلت الريح فى جريها ومخر السّابح شق الماء بيديه والفلك المواخر الّتي يسمع صوت جريها او تشق الماء بجآجئها «١» او المقبلة والمدبرة بريح واحدة- وفى الحديث إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح وفى لفظ استمخروا الريح اى اجعلوا ظهوركم الى الريح كانه إذا ولّاها شقها بظهره وأخذت عن يمينه ويساره وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ اى من سعة رزقه بركوبها للتجارة ان كان قوله تعالى وَتَرَى الْفُلْكَ معطوفا على لتأكلوا فهذا معطوف عليه وان كان مستأنفا فهذا معطوف على محذوف تقديره لتعتبروا ولتبتغوا وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) الله إذا رايتم صنعه فيما سخر لكم ولعل تخصيصه بتعقيب الشكر لانه أقوى فى باب الانعام من حيث انه جعل المهالك سببا لتحصيل المعاش قلت وجعل الأشياء المذكورة بحيث يفضى الى الشكر من أعظم الإنعامات حيث يفيد مزيد النعمة فى الدنيا والثواب الجزيل فى دار القرار فهو من تتمة الإحسانات-
(١) جؤجؤ كهدهد بمعنى الصدر وجمعه جاجئى.... كذا فى القاموس- منه رح
330
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ اى جبالا ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ اى لئلا تميد بكم او كراهة ان تميد بكم والميد الاضطراب وذلك لان الأرض قبل ان يخلق فيها الجبال كانت كروية تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت الجبال على وجهها توجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالاوتاد الّتي تمنعها عن الحركة- قال البغوي قال وهب لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة ان هذه غير مقرة أحدا على ظهرها فاصبحت وقد أرسيت بالجبال فلم تدر الملائكة مما خلقت الجبال- واخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم من طريق قتادة عن الحسين عن قيس ابن عباد قال ان الله تعالى لمّا خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة ما هذه مقرة على ظهرها أحدا فاصبحت صبحا وفيها رواسى فلم يدروا من اين خلقت فقالوا ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من هذا قال نعم الحديد فقالوا هل من خلقك شيء هو أشد من الحديد قال نعم النار قالوا ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من النار قال نعم الماء قالوا ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من الماء قال نعم الريح قالوا ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من الريح قال نعم الرجل قالوا ربنا هل من خلقك شيء هو أشد من الرجل قال نعم المرأة انتهى- فان قيل هل ينتهى هذا السؤال الى حد قلت لا وذلك لان الله هو القوى المتين ذو مرة والممكنات بأسرها عاجزة بل عديمة فى حد ذواتها فحيثما يتجلى قوته يشتد امره على غيره فالفيل قوى من النملة لكن إذا شاء الله تعالى ان يظهر عجز الفيل جعل النملة مظهرا ومجلّا لتجلى قوته فيشتد امره على الفيل- والشدة والقوة قد يكون لاحد الأشياء زائدا على غيره بجميع الوجوه وقد يكون بوجه من الوجوه وهذا هو المتحقق فى الأشياء المذكورة والله اعلم وَأَنْهاراً اى جعل فيها أنهارا لانّ القى فيه معنى الجعل وَسُبُلًا اى طرقا لنيل مقاصدكم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) الى مقاصدكم او الى معرفة الله بالاستدلال بها.
وَعَلاماتٍ على السبل من الأشجار والجبال والابنية والنجوم وغير ذلك يستدل بها السابلة ومنها الأسباب والعلل الشرعية كالاوقات لوجوب الصلاة والصوم والزكوة والإسكار للحرمة- ومنها الادلة الطبيعية والعقلية كسرعة النبض
على الحمى والعالم على الصانع والمعجزة على وفق الدعوى للنبوة وغير ذلك وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) ليلا فى الصحارى والبحار والمراد بالنجم الجنس- وقال محمّد بن كعب أراد بالعلامات الجبار فالجبال علامات النهار والنجوم علامات الليل- وقال الكلبي أراد بالكل النجوم منها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون بها- وقال السدّى أراد بالنجوم الثريا وبنات النعش والفرقدين والجدى يهتدى بها الى الطرق والقبلة- قلت وذلك لكونها قريبة من القطب الشمالي فقلما تتحرك عن أماكنها لصغر دوائرها والضمير لقريش لانهم كثيرا ما كانوا يسافرون بالليل للتجارة وكانوا مشهورين بالاهتداء فى أسفارهم بالنجوم فلذلك قدم النجم واقحم الضمير واخرج عن سنن الخطاب للتخصيص كانه قيل وبالنجم خصوصا هؤلاء يهتدون فالاعتبار بذلك والشكر عليه الزم عليهم-.
أَفَمَنْ يَخْلُقُ وهو الله سبحانه كَمَنْ لا يَخْلُقُ اى ما يعبدون من دون الله مغلّبا فيه أولوا العلم- او المراد بها الأصنام وأجريت مجرى اولى العلم لانهم سموها الهة ومن حق الا له ان يعلم او للمشاكلة بينه وبين من يخلق او للمبالغة كانه قيل ان من يخلق ليس كمن لا يخلق من اولى العلم فكيف بما لا يعلم ولا يشعر- والهمزة للانكار والفاء للتعقيب يعنى بعد هذه الادلة الواضحة المتكاثرة على كمال علم الله وقدرته وتناهى حكمته وتفرده بالخلق لا معنى لاشراك من ليس مثله فى خلق الأشياء بل لا يقدر على خلق شيء من الأشياء الجواهر والاعراض حتّى لا يقدر على تحريك الذباب ولا على منعه وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ وكان حق الكلام أفمن لا يخلق كمن يخلق لكنه عكس تنبيها على انهم بالاشراك بالله جعله من جنس المخلوقات العجزة شبيها بها أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) انكار على عدم التذكر والاعتبار بعد مشاهدة ما يوجب التذكرة.
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها اى لا تضبطوا عددها فضلا ان تطيقوا القيام بشكرها يعنى ليس نعماء الله تعالى منحصرة فيما ذكر بل هى غير محصورة فحق عبادته تعالى غير مقدور لاحد وانما المطلوب منكم التوجه بشراشركم اليه وحده والاعتراف بالتقصير إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ لتقصيركم فى أداء شكرها رَحِيمٌ (١٨) بكم حيث وسع عليكم النعم قبل استحقاقكم
ولا يقطعها عنكم بالتقصير والمعاصي ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ من العقائد والنيات والشكر ومعرفة قصور أنفسكم عن أداء حقوق العبودية او الغفلة والاستكبار وَما تُعْلِنُونَ (١٩) من الأعمال الصالحة او الفاسدة فيجازيكم عليه.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ اى تدعونها الهة كائنة مِنْ دُونِ اللَّهِ قرا عاصم ويعقوب يدعون بالياء التحتانية والباقون بالتاء لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً أصلا وان كان محقرا من الجواهر والاعراض فضلا ان يشاركونه فى خلق السموات والأرضين وأمثال ذلك فكيف يدعونها الهة وشركاء لله تعالى وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) يعنى وجوداتهم مستعارة من غيرها لا يقتضى ذواتها وجوداتها فكيف يتصور منها خلق شيء من الأشياء واقتضاء وجود غيرها.
أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ خبر مبتدا محذوف يعنى هم أموات فان كان المراد بالموصول الأصنام فالمعنى هم أموات لم يعترهم الحيوة أصلا وان كان المراد به كلما عبد غير الله فالمعنى هم أموات فى أنفسها غير احياء بالذات بل حياتهم مستعارة من الحي القيوم وكلما هذا شأنه لا يكون الها وَما يَشْعُرُونَ لكونهم أمواتا مخلوقين أَيَّانَ اى متى يُبْعَثُونَ (٢١) يعنى ليس بعثهم ولا بعث عبدتهم باختيارهم ولا فى حيز علمهم فكيف يقدرون على جزاء من عبدهم فاىّ فائدة فى عبادتهم فلا يستحقون العبادة وفيه تنبيه على ان البعث من لوازم التكليف-.
إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ تكرير للمدعى بعد اقامة الحجة يعنى ثبت بالحجة ان إلهكم واحد فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ لما أنعم الله عليهم مما لا يحصى عدها مع ظهورها بالبداهة والبرهان وانما انكار قلوبهم ذلك لان الله تعالى ما القى فيها نور المعرفة فهم عمهون عن عبد الله بن عمرو قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ان الله خلق خلقه فى ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصاب من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله رواه احمد والترمذي وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) عن عبادة الله تعالى لا يرون عليهم له تعالى استحقاق العبادة حيث ينكرون نعماءه ويستكبرون عن اتباع الرّسول صلى الله
عليه وسلم ولو انهم كانوا يعرفون نعماء الله تعالى واستحقاق العبادة له تعالى عليهم لامنوا بالاخرة الّتي فيها جزاء العبادة والانتقام على تركها ولم يستكبروا عن اتباع الرسول ﷺ بل اجتهدوا فى طلب سبيل الرشاد.
لا جَرَمَ اى حق حقّا او لا بد او لا محالة- او المعنى ليس على ما ينبغى ما هم عليه من الإنكار والاستكبار كسب الكاسب الحكم أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من انكار النعم واستحقاق العبادة وَما يُعْلِنُونَ من الاستكبار عن العبادة واتباع الرسول فانّ مع جملته على التأويلات السابقة فى موضع الرفع بلا جرم وعلى التأويل الأخير فى محل النصب على المفعولية وفاعل جرم مضمر إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) قال رسول الله ﷺ لا يدخل الجنة مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار مثقال ذرة من ايمان فقال رجل يا رسول الله ان الرجل يحب ان يكون ثوبه حسنا قال ان الله جميل يحب الجمال الكبر من بطر الحق وغمص الناس رواه مسلم عن ابن مسعود قال فى النهاية معنى بطر الحق هو ان يجعل ما جعله الله حقّا من توحيده وعبادته باطلا- وقيل هو ان يتجبر عند الحق فلا يراه حقّا- وقيل هو ان يتكبر عن الحق فلا يقبله قلت حاصل الأقوال ان لا يرى عبادة الله عليه واجبا حيث ينكر العامة عليه بل يرى ما أنعم الله عليه حقّا له على الله تعالى ومعنى غمص الناس اى احتقرهم قلت وجه مقابلة الكبر بالايمان فى الحديث ان المؤمن يرى وجوده وما استتبعه من الكمالات مستعارة من الله تعالى حتّى يرى نفسه عارية عنها فلا يستكبر والكافر يرى وجوده وتوابعه من نفسه فيرى نفسه كبيرا وينسى الكبير المتعال- والفناء المصطلح فى التصوف عبارة عن رؤية نفسه فانيا عاريا عن الوجود وتوابعه برؤيتها مستعارة من الله تعالى والله اعلم-.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ اى لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالاخرة- وذلك ان احياء العرب كانوا يبعثون ايام الموسم من يأتيهم بخبر النبي ﷺ حين بلغهم دعواه النبوة فكان إذا جاء الوافد سال عن مشركى مكة الذين اقتسموا عقابها ايام الموسم ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ماذا منصوب بانزل يعنى اىّ شيء انزل او مرفوع بالابتداء يعنى اىّ شيء أنزله ربكم قالُوا يعنى مشركى مكة هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) السطر الصف من
الشيء من الكتاب او الشجر المغروس او القوم الوقوف- جمعه اسطر وسطور واسطار وجمع الجمع أساطير واسطرة والمعنى ان ذلك المسئول عنه ليس بمنزل بل شيء كتبه الأولون كذبا لا تحقيق لها نحو قوله اكتتبها فهى تملى عليه بكرة وأصيلا.
لِيَحْمِلُوا متعلق بقوله قالوا يعنى قالوا ذلك ليضلوا الناس فيحملوا أَوْزارَهُمْ اى ذنوب ضلال أنفسهم كامِلَةً فان اضلالهم نتيجة رسوخهم فى الضلال يَوْمَ «١» الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ يعنى بعض أوزار الذين ضلوا باضلالهم فان من ذنوبهم ما يخصهم ليس لهؤلاء المضلين فيها تسبيب ومنها ما حصل باضلالهم فهم يحملون هذا القسم الأخير مثل ذنوب من تبعهم قال رسول الله ﷺ من دعا الى هدى كان له من الاجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا الى ضلالة كان عليه من الإثم مثل اثام من تبعه لا ينقص ذلك من اثامهم شيئا رواه احمد ومسلم فى الصحيح واصحاب السنن الاربعة عن ابى هريرة بِغَيْرِ عِلْمٍ اى بغير حجة فهو حال من فاعل يضلونهم- او المعنى يضلون من لا يعلم انهم ضلال فهو حال من المفعول وفيه تنبيه على انّ جهلهم لا يصلح لهم عذرا إذ كان عليهم ان يبحثوا او يميزوا بين الحق والباطل أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) اى بئس شيئا يزرونه اى يحملونه فعلهم او بئس الّذي يزرونه فعلهم فمحل ما رفع على الفاعلية او نصب على التميز من الضمير المبهم والمخصوص محذوف-.
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ اى سوّوا حيلا ليمكروا بها رسل الله فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ يعنى اتى امر الله لابطال حيلهم من الأصول وَأَتاهُمُ الْعَذابُ المهلك مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) اى لا يحتسبون ولا يتوقعون فصارت تلك الحيل أسبابا لهلاكهم كمثل قوم بنوا بنيانا ليحرزوا أنفسهم ويأخذوا فيها عدوهم بالحيل فاتى البنيان من الأساطين بان ضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا فالكلام وارد على التمثيل- واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس وذكر
(١) ليس فى الأصل يوم القيمة
البغوي عنه وعن وهب ان المراد بالذين من قبلهم نمرود بن كنعان الّذي حاج ابراهيم فى ربه بنى الصرح ببابل ليصعد الى السماء وكان طول الصرح فى السماء خمسة آلاف ذراع- وقال كعب ومقاتل كان طوله فرسخان فهبت الريح والقت رأسها فى البحر وخر عليهم الباقي فهلكوا.
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ اى يذلّهم ويعذبهم عذاب الخزي سوى ما عذبوا فى الدنيا قال الله تعالى رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ ويقول لهم الله على لسان الملائكة توبيخا أَيْنَ شُرَكائِيَ أضاف الى نفسه استهزاء او حكاية لاضافتهم زيادة فى توبيخهم- قرا البزي بخلاف عنه شركاى بغير همزة والباقون بالهمزة الَّذِينَ كُنْتُمْ ايها الكفار تُشَاقُّونَ فِيهِمْ الرسول والمؤمنين- قرا الجمهور تشاقّون بفتح النون اى يخالفون فيهم وقرا نافع بكسر النون الدال على حذف ياء المتكلم يعنى تشاقّونى فان مشاقة المؤمنين مشاقة الله سبحانه قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ اى الأنبياء والملائكة والمؤمنون إظهارا للشماتة وزيادة للاهانة وشكرا على ما أنعم الله عليهم من الهداية وفى هذه الحكاية لطف من الله سبحانه بمن سمعه إِنَّ الْخِزْيَ اى الذلّ والهوان الْيَوْمَ يوم القيامة وَالسُّوءَ اى العذاب عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يعنى ملك الموت وأعوانه- قرا حمزة يتوفّيهم فى الموضعين بالياء على التذكير والباقون بالتاء لتانيث الفاعل لفظيا غير حقيقى ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالكفر حيث عرضوها للعذاب المخلد منصوب على الحال فَأَلْقَوُا السَّلَمَ فسالموا وانقادوا قائلين ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ من كفران ولا عدوان ويجوز ان يكون تفسيرا للسّلم على ان المراد به القول الدال على الاستسلام فيجيبهم ملائكة الموت بَلى كنتم تعملون السيئات إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) من السيئات فهو يجازيكم عليه ولا ينفعكم انكاركم- قال عكرمة عنى بذلك من قتل من الكفار ببدر- وقيل قوله فَأَلْقَوُا السَّلَمَ الى اخر الآيات استيناف ورجوع الى شرح حالهم يوم القيامة ويحتمل ان يكون الرّادّ عليهم هو الله سبحانه وأولوا العلم.
فَادْخُلُوا أَبْوابَ
جَهَنَّمَ
كل صنف بابا اعدّ له وقيل أبواب جهنم اصناف عذابها خالِدِينَ فِيها اى مقدرين الخلود فيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) اى الكافرين جهنم.
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عن الضلال والإضلال قال لهم الوافد من احياء العرب ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا اى المؤمنون خَيْراً اى انزل ربنا خير الكلام ما فيه صلاح الدين والدنيا والاخرة ونصبه دليل على انهم لم يتوقفوا فى الجواب وأطبقوا على السؤال معترفين بالانزال بخلاف الكفرة فانهم قطعوا الكلام عن الجواب وأتوا بالرفع على الابتداء ولم يعترفوا بالانزال حيث قالوا هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ يعنى ليس بمنزل لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا العقائد والأعمال فِي هذِهِ الدُّنْيا متعلق بأحسنوا حَسَنَةٌ قال ابن عباس هى تضعيف الاجر الى العشر- وقال الضحاك هى النصر والفتح- وقال مجاهد هى الرزق الحسن- قلت هى الحيوة الطيبة فى الدنيا بحيث يرتضيه الخالق وكل من له عقل سليم وطبع مستقيم من الخلق وذلك ان لا يعبد ممكنا عاجزا مثل نفسه بل الله الواحد القهار ويكتسب معرفة الله ودرجات قربه ويستحل الطيبات ويستحرم الخبائث ولا يؤذى أحدا بغير حق ويعمل أعمالا يثمر له الى الابد وَلَدارُ الحيوة الْآخِرَةِ خَيْرٌ من دار الحيوة الدنيا للمتقين حيث يرى هناك ثمرات ما اكتسبه فى الحيوة الدنيا ويبقى فى كرامة الله ابد الآبدين وهو عدة لِلَّذِينَ اتَّقَوْا على قولهم ويجوز ان يكون بما بعده حكاية بقولهم بدلا وتفسيرا لخير على انه منتصب بقالوا يعنى قالوا هذا القول فقدم عليه تسميته خيرا وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) قال الحسن هى الدنيا لان اهل التقوى يتزودون فيها الى الاخرة- وقال اكثر المفسرين هى دار الاخرة فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكرها- قلت وجاز ان يكون الاضافة للجنس يعنى نعم دار المتقين اىّ دار كانت الدنيا او الاخرة.
جَنَّاتُ عَدْنٍ مبتدا خبره محذوف اى لهم جنات عدن- او خبر مبتدا محذوف اى هى او دارهم جنات عدن ويجوز ان يكون هذا مخصوصا بالمدح يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من انواع المشتهيات وفى تقديم الظرف تنبيه على ان الإنسان لا يجد جميع ما يشتهيه الا فى الجنة كَذلِكَ
اى مثل لهذا الجزاء المذكور يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) من الشرك وسوء الأعمال.
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ اى طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي لانه فى مقابلة ظالمى أنفسهم وهؤلاء هم الذين حيوا حيوة طيبة- وقال مجاهد زاكية أفعالهم وأقوالهم- وقيل معناه فرحين ببشارة إياهم بالجنة او طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية الى حضرة القدس يَقُولُونَ اى الملائكة لهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ وقيل تبلغهم سلام الله ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) حين تبعثون فانها معدة لكم على أعمالكم او المعنى يقول لهم الملائكة عند التوفى سلام عليكم ويقال لهم فى الاخرة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- هَلْ يَنْظُرُونَ اى ما ينتظر الكفار الذين مر ذكرهم شيئالَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
لقبض أرواحهم قرا حمزة والكسائي بالياء والباقون بالتاءوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
القيامة او العذاب المستأصل ذلِكَ
اى مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب عَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
فاصابهم ما أصابهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بتعذيبه إياهم عذاب الاستيصال لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(٣٣) بكفرهم ومعاصيهم المؤدية اليه.
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا اى جزاء سيئات أعمالهم على حذف المضاف وتسمية الجزاء باسمها- او المعنى عقوبات ما عملوا من الكفر والمعاصي وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) اى نزل وأحاط بهم جزاء استهزائهم او المعنى نزل بهم العذاب الّذي كانوا به يستهزءون ويقولون على سبيل الاستهزاء لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ....
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ انما قالوا ذلك استهزاء ومنعا لبعثة الرسل والتكليف متمسكين بان ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون فما الفائدة فيهما او إنكارا لقبح ما هم عليه من الشرك وتحريم البحائر والسوائب ونحو ذلك متمسكين بانه لولا ان الله رضيها لنا لما شاء الله صدورها عنا- ومبنى
الشبهتين ان الرضاء يلازم المشية وليس كذلك كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فاشركوا بالله وحرموا حله وردوا له وقالوا مثل قول هؤلاء فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) يعنى ليس عليهم الهداية فانها بيد الله تعالى وعلى مشيته انما عليهم التبليغ الموضح لمرضات الله تعالى- ثم بيّن ان البعثة امر جرت السنة الالهية فى الأمم كلها «١» بكونها سببا لهدى من شاء هدايته وزيادة الضلال لمن شاء ضلاله وكالغذاء الصالح ينفع المزاج الصالح ويقويه ويضر المنحرف ويعينه فى الانحراف بقوله.
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعنى أرسله الله إليهم بان اعبدوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ اى لا تطيعوا الشيطان الطاغي فى معصية الله فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ اى شاء هدايتهم ووفقهم للايمان بإرشادهم وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ اى وجبت بالقضاء السابق عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فلم يوفقهم ولم يرد هداهم فاهلكهم الله على كفرهم واخلى ديارهم فتركوا بئرا معطلة وقصرا مشيدا فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ يا معشر قريش فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) للرسل من عاد وثمود وقوم لوط واصحاب الايكة- وفيه حل لاشكالهم المبنى على كون المشية والرضاء متلازمين إذ لو كان كذلك لما عذبهم الله بكفرهم المبنى على مشية الله ثم بين الله سبحانه لرسوله ﷺ ان هؤلاء الكفار من قريش ممن حقت عليهم الضلالة حتّى لا يتعب نفسه ولا يحرص على هداهم فقال.
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ قرا الكوفيون لا يهدى بفتح الياء وكسر الدال على البناء للفاعل يعنى لا يهدى الله من يرد ضلاله وهو المعنى ل مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ والباقون بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول فقوله مَنْ يُضِلُّ مبتدا خبره لا يهدى يعنى من يضلّه الله لا يهدى اى لا هادى له أحد والجملة خبر ان والله اسمه وَما لَهُمْ اى لمن أضلهم الله مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) يمنعونهم من جريان حكم الله عليهم ويدفعون عنهم عذابه الّذي أعد لهم وتقدير الكلام
(١) فى الأصل كلها سببا-
ان تحرص وتتعب نفسك يا محمّد على هداهم وقد أضلهم الله فلا ينفعك حرصك واتعابك نفسك ولا تقدر عليه لان الله تعالى قوى قاهر لا هادى لمن شاء ان يضله ولا ناصر لمن شاء ان يعذبه فحذف الجزاء وأقيم السبب مقامه والله اعلم- اخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابى العالية قال كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فاتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به والّذي أرجوه بعد الموت لكذا وكذا فقال له المشرك انك لتزعم انك تبعث بعد الموت فاقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت فانزل الله تعالى.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ معطوف على وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إيذانا بانهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين عليه زيادة فى القطع على فساده فقال الله تعالى ردا عليهم بأبلغ الوجوه بَلى يبعثهم وَعْداً مصدر مؤكد لنفسه وهو ما دل عليه بلى اعنى يبعثهم وعد من الله عَلَيْهِ إنجازه لامتناع الخلف فى وعده ولاقتضاء الحكمة البعث حَقًّا صفة اخرى للوعد وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) ان وعد الله حق او لا يعلمون البعث لعدم علمهم بانه مقتضى الحكمة الّتي جرت العادة بمراعاتها ولقصور نظرهم بالمألوف فيتوهمون امتناعه.
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ متعلق بما دل عليه بلى اى يبعثهم ليبيّن لهم والضمير لمن يموت وهو يشتمل المؤمنين والكافرين الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ اى الحق وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (٣٩) فى قولهم لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ وفيه اشارة الى السبب الداعي الى البعث المقتضى له من حيث الحكمة وهو التميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل بالثواب والعقاب وجاز ان يكون ليبين وليعلم متعلقا بقوله وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا يعنى بعثنا رسولا ليبين لهم الرسول ما اختلفوا فيه قبله وانهم كانوا على الضلالة مفترين على الله الكذب.
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ اى أردنا وجوده فى المبدا او المعاد قولنا مبتدا خبره أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠) اى فهو يكون قرا ابن عامر والكسائي هنا وفى يس فيكون بالنصب عطفا على نقول او جوابا لقوله كن وقد ذكرنا كلاما على تقدير الجواب
فى سورة البقرة- وفى هذه الاية بيان لامكان البعث وتقريره ان تكوين الله تعالى بمحض قدرته ومشيته لا توقف له على شيء اخر والا لزم التسلسل ولا على تعب وتجشم والا لزم العجز المنافى للالوهية- ولمّا أمكن تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده- عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ قال الله عزّ وجلّ كذّبنى عبدى ولم يكن له ذلك وشتمنى عبدى ولم يكن له ذلك فاما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدانى وليس أول الخلق باهون علىّ من إعادته واما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وانا الأحد الصمد الّذي لم الد ولم اولد ولم يكن لى كفوا أحد- وفى رواية ابن عباس واما شتمه إياي فقوله لى ولد فسبحانى ان اتخذ صاحبة او ولدا رواه البخاري.
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ اى فى سبيله وحقه ولوجهه مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا اى عذبوا وأوذوا اخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن ابى حاتم عن ابن عباس وداود ابن هند قال نزلت هذه الاية فى ابى جندل بن سهيل- وقال البغوي نزلت فى بلال وصهيب وخبّاب وعمّار وعائش وجبير وابى جندل بن سهيل أخذهم المشركون بمكة وعذبوهم واخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم وعبد بن حميد عن قتادة هم اصحاب النبي ﷺ ظلمهم اهل مكة فاخرجوهم من ديارهم حتّى لحق طائفة منهم بالحبشة ثم بوّاهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة وجعل لهم أنصارا من المؤمنين لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً اى مباءة حسنة وهى المدينة او تبوية حسنة وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ مما يعجل لهم فى الدنيا قال البغوي روى ان عمر بن الخطاب كان إذا اعطى رجلا من المهاجرين عطاء يقول خذ بارك الله فيه هذا ما وعدك الله فى الدنيا وما ذخر لك فى الاخرة أفضل ثم تلا هذه الاية- وقيل معناه لنحسنن إليهم الدنيا حسنة- وقيل الحسنة فى الدنيا التوفيق والهداية لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الضمير للكفار اى لو علموا ان الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لمّا ظلموهم ولوافقوهم- او للمهاجرين اى لو علموا ذلك لزادوا فى اجتهادهم وصبرهم.
الَّذِينَ صَبَرُوا على الشدائد كاذى الكفار ومفارقة الأوطان ومحله النصب او الرفع على المدح وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
ينقطعون الى الله يفوّضون أمورهم اليه- ولما أنكر كفار قريش نبوة محمّد ﷺ وقالوا الله أعظم من ان يكون رسوله بشرا فهلا بعث إلينا ملكا فانزل الله سبحانه.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الى الناس إِلَّا رِجالًا دون ملائكة نُوحِي إِلَيْهِمْ على السنة الملائكة- قرا حفص نوحى بالنون للمتكلم على البناء للفاعل والباقون بالياء على الغيبة فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ يعنى ان شككتم فى إرسال الله الرجال فاسئلوا اهل العلم بالكتب السابقة من اليهود والنصارى هل أرسل الى بنى إسرائيل موسى وعيسى وغيرهم من أنبياء بنى إسرائيل ومن قبلهم ابراهيم ونوحا وآدم وغيرهم فانهم يشهدون بذلك إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) وفى الاية دليل على وجوب المراجعة الى العلماء للجهال فيما لا يعلمون وان الاخبار مفيدة للعلم ان كان المخبر ثقة يعتمد عليه.
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ متعلق بقوله أرسلنا اى ما أرسلنا بالبينات اى المعجزات الواضحات والزبر اى الكتب الا رجالا- ويجوز ان يتعلق بأرسلنا داخلا فى الاستثناء اى ما أرسلنا الا رجالا بالبينات- او متعلق بمحذوف صفة لرجالا يعنى ما أرسلنا الا رجالا متلبّسين «١» بالبينات والزبر- او منصوب على المفعولية او على الحال من قائم مقام الفاعل ليوحى على قراءة المبنى للمفعول وعلى التقادير كلها فاسئلوا اعتراض او هو متعلق بلا تعلمون على ان الشرط للتبكيت والإلزام وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ اى القران سمى ذكرا لانه موعظة لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ فى الذكر بتوسط انزاله إليك من الوعد والوعيد والاحكام والشرائع المجملة او مما تشابه عليهم- والبيان قد يكون صريحا بالقول او الفعل او التقرير وقد يكون غير صريح كالامر بالقياس وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) اشارة الى البحث فى نظم الكلام «٢» ووجوه دلالاته حتّى يظهر لهم المراد من غير حاجة الى بيان من الشارع كما ان لفظ الحرث يشعر ان المراد فى قوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ الإتيان فى القبل دون الدبر لانه ليس بمحل للحرث وفى لفظ ثلاثة فى قوله تعالى ثَلاثَةَ قُرُوءٍ يشعر ان المراد بها الحيض دون الطهر لان الطلاق المسنون يكون فى الطهر اجماعا فاطهار العدة لا يكون الا اكثر من الثلاثة او اقل منها والله اعلم-
(١) فى الأصل ملتبسين
(٢) فى الأصل فى نظم كلام-[.....]
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ اى المكرات السيئات هم الذين قصدوا برسول الله ﷺ ان يقتلوه او يثبتوه او يخرجوه وأرادوا صد الناس عن الايمان.
أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط واصحاب الايكة وغيرهم.
أَوْ يَأْخُذَهُمْ بالعذاب فِي تَقَلُّبِهِمْ اى تصرفهم فى الاسفار قال ابن عباس فى اختلافهم وقال ابن جريج فى إقبالهم وادبارهم فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) اى سابقين الله.
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ حال من الفاعل او المفعول اى على تنقص من تخوفته إذا تنقصته وذلك بان يهلك بعضهم ثم بعضهم حتّى يهلك جميعهم- ويقال تخوفه الدهر اى تنقصه فى ماله وجسمه- قال البغوي يقال هذه لغة هذيل- وقال الضحاك والكلبي هو الخوف- قلت بان يهلك قوما قبلهم فيتخوّفوا فيأتيهم وهم متخوّفون او بان يظهر امارات الهلاك قبل هلاكهم فيهلكوا كما فعل بثمود فى ثلاثة ايام اصفرت وجوههم فى الاول واحمرت فى الثاني واسودت فى الثالث ثم اهلكوا وعلى هذا التأويل حال من المفعول فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) ومن ثم لا يعجل فى العقوبة وذلك هو الباعث على كونهم امنين ولا ينبغى ذلك فانه تعالى مع ذلك قهار منتقم ذو البطش الشديد لا يطاق انتقامه ولاجل ذلك أنكر الله على امنهم وقال أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ الاية- والفاء للتعقيب عطف على قوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا- يعنى إذا علموا ان المرسلين لم يكونوا الا رجالا فمكرهم بمحمّد ﷺ وامنهم على ذلك المكر مع كونه مثل من سبق من الرسل ليس على ما ينبغى-.
أَوَلَمْ يَرَوْا بالياء على الغيبة على قراءة الجمهور والضمير الى الذين مكروا السيئات وقرا حمزة والكسائي بالتاء على الخطاب إليهم على سبيل الالتفات من الغيبة وكذلك فى سورة العنكبوت والاستفهام للانكار يعنى انهم قد رأوا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ فما بالهم لا يدركون كمال قدرته تعالى وقهرمانه ولا يخافون من عذابه
وما موصولة مبهمة بيانها من شيء يفيد عموم خلقه جميع الأشياء يَتَفَيَّؤُا اقرأ ابو عمرو ويعقوب بالتاء الفوقانية والباقون بالياء التحتانية ظِلالُهُ يعنى أولم ينظروا الى المخلوقات الّتي لها ظلال متفيئة يرجع ظلالها بارتفاع الشمس وانحدارها او باختلاف مشارقها ومغاربها بتقدير الله تعالى عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ يعنى عن إيمانها وشمائلها يعنى عن جانبى كل واحد منها استعارة عن يمين الإنسان وشماله- وتوحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار لفظة ما ومعناه كتوحيد الضمير فى ظلاله وجمعه فى قوله سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) اى اذلة «١» وهما حالان من الضمير فى ظلاله والمراد بالسجود الاستسلام طبعا او اختيارا- يقال سجدت النخلة إذا مالت بكثرة الحمل وسجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب- او سجّدا حال من الظلال وهم دخرون حال من الضمير يعنى يرجع ظلها منقادة لما قدر لها من التفيؤ- او واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة السجود والاجرام فى أنفسها ايضا صاغرة ذليلة منقادة لافعال الله تعالى- وجمع داخرون بالواو لان من جملتها من يعقل او لان الدخور من أوصاف العقلاء-.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ من الشمس والقمر والنجوم وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وقيل من دابة بيان لهما لان الدبيب هى الحركة الجسمانية سواء كانت فى ارض او سماء وَالْمَلائِكَةُ عطف على ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فان المراد بها ما فى السموات من جنسها من الشمس ونحوها وما فى الأرض من جنسها من الدواب واما الملائكة فليست من جنس شيء منهما ومنهم من ليسوا فى السماء ولا فى الأرض كحملة العرش وغيرهم- وقيل خص الملائكة بالذكر تشريفا كعطف جبرئيل على الملائكة- وما يستعمل للعقلاء وغير العقلاء فكان استعمالها حيث اجتمع القبيلتان اولى من استعمال من تغليبا- والمراد بالسجود الانقياد أعم من الانقياد لارادته وتأثيره طبعا والانقياد لتكليفه وامره طوعا ليصح اسناده الى عامة الخلائق حتّى الكفار الذين هم شر الدواب-
(١) عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ اربع قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهن من صلوة السحر قال رسول الله ﷺ وليس من شيء الا وهو يسبح الله تلك الساعة ثم قرا يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ الاية كلها ١٢ ازالة الخفا- منه رحمه الله
وقيل المراد بسجود الأشياء كلها ظهور اثر الصنع فيها بحيث يدعوا الغافلين الى السجود- والاولى ان يقال المراد بالسجود الطاعة والأشياء كلها مطيعة لله عز وجل من حيوان وجماد فانها وان كانت لا تعقل طواعا «١» عندنا لكنها عند الله تعالى مطيعة عاقلة غير خالية عن نوع من الحيوة- قال الله تعالى قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ- وقال الله تعالى وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ- وقال الله يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها- وقال رسول الله ﷺ أطت السماء وحق لها ان تأطّ- لكن على هذا التأويل الاية مخصوصة بما عد الكفار من الجن والانس فانها غير مطيعة قال الله تعالى فى اية السجدة فى سورة الحج وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ويدل على هذا التخصيص قوله تعالى وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) عن عبادته.
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ اى يخافونه ان يرسل عليهم عذابا من فوقهم او يخافونه وهو فوقهم اى غالب عليهم بالقهر كقوله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ- والجملة حال من الضمير المستكن فى لا يستكبرون او بيان له لان من خاف الله لا يستكبر عن عبادته وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) به من الطاعة ما يليق بهم فان هذه الصفات هو عدم الاستكبار والخوف وإتيان الأوامر لا توجد فى الكفار- اللهم الا ان يقال ان كان المراد بالسجود الانقياد العام او ظهور اثر الصنع بحيث يدعوا الى السجود- كان قوله وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ الى آخره بيانا لحال الملائكة خاصة والله اعلم- عن ابى ذر قال قال رسول الله ﷺ انى ارى ما لا ترون واسمع ما لا تسمعون أطت السماء أطا وحق لها ان تأطّ والّذي نفسى بيده ما فيها موضع اربعة أصابع الا وملك واضع جبهته ساجدا لله ولو الله لو تعلمون ما اعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم الى الصعدات تجئرون الى الله- قال ابو ذر يا ليتنى كنت شجرة تعضد- رواه احمد والترمذي وابن ماجة والبغوي-.
وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ذكر العدد مع ان المعدود يدل عليه دلالة على ان مساق النهى اليه او ايماء بان الاثنينية ينافى الالوهية كما ذكر الواحد فى قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ للدلالة على ان المقصود اثبات الوحدانية دون الالهية والتنبيه على ان الوحدة من لوازم الالهية فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) فيه التفات
(١) وفى الأصل ظواها-
من الغيبة الى الخطاب مبالغة فى الترهيب وتصريحا بالمقصود كانه قيل فانا ذلك الإله الواحد فاياى ارهبوا فارهبونى لا غير قرا يعقوب فارهبونى بإثبات الياء والباقون بحذفها.
وَلَهُ اى لله المتوحد فى الالهية ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا فلا يمكن خلق شيء من الأشياء من غيره خلافا للمعتزلة فى افعال العباد- وملكا فلا يتصور الظلم منه لانه هو التصرف فى ملك غيره بغير اذنه- ولا يجوز لاحد تصرف فى شيء من الأشياء الا بإباحته واذنه وَلَهُ الدِّينُ اى الطاعة والإخلاص واصِباً اى دائما ثابتا لا يحتمل سقوطه لانه هو الإله وحده والحقيق بان يرهب منه فحق العباد ان يطيعوه دائما فى جميع الأحوال كما وصف به الملائكة حيث قال لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ حيث قال رسول الله ﷺ لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق رواه احمد والحاكم بسند صحيح عن عمران والحكيم بن عمرو الغفاري وفى الصحيحين وسنن ابى داود والنسائي عن علىّ بلفظ لا طاعة لاحد فى معصية الله انما الطاعة فى المعروف وفى معناه وله الدين ذا كلفة يعنى لا يجوز لاحد تكليف أحد الا باذنه لانه هو المالك لا غير والمالك يتصرف فى ملكه كيف يشاء وليس ذلك لغير المالك الا باذنه- وقيل الدين الجزاء على اعمال العباد دائما لا ينقطع ثوابه لمن أمن ولا ينقطع عقابه لمن كفر- وقيل المراد بالدين العذاب على الكفر ومعنى الواصب المرض والسقم اللازم يقال وصب فلان يوصب إذا توجع- قال الله تعالى وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ وفى حديث عائشة انا وصّبت رسول الله ﷺ اى مرّضته- قال فى النهاية الوصب دوام الوجع ولزومه ومعنى وصّبته اى دبّرته فى مرضه كمرضته- وفى القاموس الوصب المرض واوصبه الله أمرضه ووصب يصب وصوبا دام وثبت كاوصب ووصب على الأمر واظب واحسن القيام عليه فالمراد بالآية الوعيد لمن اتخذ الهين اثنين يعنى من فعل ذلك فلله العذاب الشديد الدائم أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (٥٢) استفهام انكار يعنى لا تخاطوا غيره إذ لا ضار سواه كما لا نافع غيره كما قال-.
وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ ما اما شرطية او موصولة متضمنة معنى الشرط يعنى اىّ شيء اتصل بكم او الّذي اتصل بكم من عافية او غنى او خصب او غيرها فَمِنَ اللَّهِ
اى فهو من الله ومعنى الشرط انما هو باعتبار الاخبار دون الحصول فان استقرار النعمة بهم يكون سببا للاخبار بانها من الله لا حصولها منه فانه مقدم على الاستقرار ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ من مرض او فقر او جدب او غيرها فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ اى لا تتضرعون الا اليه والجواد رفع الصوت فى الدعاء والاستغاثة.
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) فى العبادة غيره وكلمة من للتبعيض ان كان الخطاب عاما وان كان خاصّا بالكفار فمن للبيان كانه قال فاذا فريق وهم أنتم- ويجوز ان يكون من على هذا ايضا للتبعيض على ان بعضهم يعتبرون قال الله تعالى فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ....
- لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعماء خصوصا نعمة الكشف واللام للعاقبة يعنى صار عاقبة أمرهم الكفر بنعماء الله لانهم لما عبدوا غيره فكانّهم اثبتوا الانعام منه فَتَمَتَّعُوا امر تهديد فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) اغلظ وعيد.
وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ اى للاصنام الّتي هى جماد لا علم لها فيكون الضمير لما- او المعنى يجعلون لما لا يعلمونها مستحقة للعبادة لا نافعة ولا ضارة بل يسمونها الهة ويقولون جهلا منهم انها الهة تضر وتنفع وتشفع- او لا يعلمون لها حقّا فالضمير الى الكفار والعائد الى ما محذوف وما على التأويلين موصولة- او المعنى يجعلون لجهلهم على ان ما مصدرية والمجعول له محذوف للعلم به يعنى يجعلون لجهلهم للاصنام نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الحرث والانعام فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا... تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ التفات من الغيبة الى الخطاب يوم القيامة عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) من انها الهة وهو وعيد لهم عليه-.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ اى يحكمون بثبوت البنات لله تعالى وهم خزاعة وكنانة قالوا الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ تنزيها لذاته اى أسبحه سبحانا من نسبة الولد او تعجب من قولهم وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) يعنى البنين ويجوز فى ما الرفع على الابتداء ولهم خبره والنصب عطفا على البنات على ان الجعل بمعنى الاختيار وعلى هذا ضمير الفاعل والمفعول لشيء واحد لكن لا يبعد تجويزه فى المعطوف وسبحانه
حينئذ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه.
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى اى بولادة الأنثى له ظَلَّ وَجْهُهُ اى صار دوام النهار كله فان النهار زمان الاغتمام والسرور لاجل المذاكرة واختلاط الناس واما الليل فزمان النوم والغفلة مُسْوَدًّا من الكآبة والحياء من الناس واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) ممتلى حزنا وغيظا فهو يكظمه اى يمسكه ولا يظهره.
يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ اى يستخفى من قومه مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ اى من أجل سوء المبشر به مترددا فيما يفعل به أَيُمْسِكُهُ اى يبقيه حيّا عَلى هُونٍ ذل أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أم يخفيه فيه ويدفنه وتذكير الضمير نظرا الى لفظة ما- قال البغوي ان مضر وخزاعة وتميما كانوا يدفنون البنات احياء خوفا من الفقر عليهن وطمع غير الأكفاء فيهن- وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت وأراد ان يستحييها ألبسها جبة من صوف او شعر ترعى له الإبل والغنم فى البادية- وإذا أراد ان يقتلها تركها حتّى إذا صارت سداسية قال لامها زيّنها حتّى اذهب بها الى اجمائها وقد حفر لها بئرا فى الصحراء فاذا بلغ بها البئر قال لها انظري الى هذا البئر فيدفعها من خلفها فى البئر ثم يهيل على راسها التراب حتّى يستوى البئر بالأرض- وكان صعصعة جد الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجّه الى والد البنت ابلا يحييها بذلك فقال الفرزدق مفتخرا
شعر
وجدي الّذي منع الوائدات فاحيا الوئيد فلم يؤد
أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) حيث يجعلون لمن هو متعال عن الولد أسوأ الفريقين ولا يختارون ذلك لانفسهم ويختارون لانفسهم الذكور نظيره قوله تعالى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى....
لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ اى الذين يصفون لله البنات مَثَلُ السَّوْءِ اى صفة السوء وهى الحاجة الى الولد لبقاء النسل بعد موته واستبقاء الذكور استظهارا بهم وكراهية الإناث ووأدهن خشية إملاق وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق وانه لا اله الا هو والاتصاف بجميع صفات الجلال والكمال من العلم والقدرة والبقاء وغيرها والتنزه عن صفات المخلوقين- قال ابن عباس مثل السوء النار ومثل الأعلى شهادة ان لا اله الا الله وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)
المتفرد بكمال القدرة والحكمة-.
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ اى يعاجل بالعقوبة النَّاسَ اللام للعهد والمراد بهم الكفار بقرينة المؤاخذة واضافة الظلم إليهم فى قوله بِظُلْمِهِمْ اى بكفرهم وعصيانهم وعبارة البيضاوي تشعر بان المراد بالناس كلهم حيث قال ولا يلزم من عموم الناس واضافة الظلم إليهم ان يكون كلهم ظالمين حتّى الأنبياء عليهم السلام لجواز ان يضاف إليهم لما شاع فيهم وصدر عن أكثرهم- قلت ويلزم على هذا ان يؤاخذ الناس كلهم بظلم أكثرهم وهذا مردود بقوله تعالى لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى... ما تَرَكَ عَلَيْها اى على الأرض كناية عما دلّ عليه لفظ الناس والدابة مِنْ دَابَّةٍ اما ان يكون المراد به من دابه ظالمة كما ذكر صاحب المدارك عن ابن عباس- او يكون المراد من دابة من دواب الأرض غير المؤمنين الصالحين- فانه لا يجوز ان يهلك المؤمنون بظلم الظالمين وذنبهم- الا إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فحينئذ يعذبون معهم لرضائهم بذنبهم او لتركهم ما وجب عليهم- قال رسول الله ﷺ ان الناس إذا راوا منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم الله بعقابه- رواه ابن ماجة والترمذي وصححه من حديث ابى بكر الصديق وروى ابو داود وجرير بن عبد الله بمعناه- واما غير المؤمنين الصالحين من دواب الأرض فجاز ان يهلك بذنب ابن آدم تبعا لهم لان خلقتها تبع لخلقة الإنسان ونفع وجودها يعود إليهم- حيث قال الله تعالى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً- قال قتادة فى هذه الاية ان الله تعالى قد فعل ذلك فى زمن نوح فاهلك من على الأرض الا من كان فى سفينة نوح عليه السلام- وروى البيهقي عن ابى هريرة انه سمع رجلا يقول ان الظالم لا يضر الا نفسه قال ابو هريرة بلى والله حتّى الحبارى لتموت فى وكرها هزلا بظلم الظالم- واخرج ابن ابى شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والبيهقي فى شعب الايمان عن ابن مسعود قال ان الجعل تعذب فى جحرها بذنب ابن آدم- وقيل معنى الاية لواخذ الله اباء الظالمين بظلمهم انقطع النسل ولم يوجد الأبناء فلم يبق فى الأرض أحد ومن أجل ذلك لم يدع نوح على قومه حتّى علم بالوحى ان الله تعالى ان يذرهم لا يَلِدُوا
إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً
... وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ اى يمهل الظّالمين بحلمه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى سماه لاعمارهم او لعذابهم كى يتوالدوا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً بعد بلوغ الاجل وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) الآجال عطف على إذا جاء.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ لانفسهم من البنات والشركاء فى الرياسة والاستخفاف بالرسل واراذل الأموال وَتَصِفُ اى تقول أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ مع ذلك أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى منصوب على انه بدل من الكذب قال يمان يعنى بالحسنى الجنة فى المعاد- وذلك انهم كانوا يقولون نحن فى الجنة ان كان محمّد صادقا فى البعث لا جَرَمَ حقّا ولا محالة وقال البغوي قال ابن عباس بلى قلت هذا على ما قيل ان لا فى لا جرم رد لما سبق وكان فيما سبق زعمهم ان لهم الحسنى ومقتضى ذلك انهم لا يدخلون النار فرد الله قولهم أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) قرا نافع بكسر الراء مخففا من الافراط فى المعاصي فى القاموس مفرطون اى مجاوزون لما حدّ لهم وقال البغوي المسرفون- وقرا ابو جعفر بكسر الراء والتشديد من التفريط بمعنى التقصير والتضييع اى المقصرون فى الطاعات والمضيعون لامر الله والباقون بفتح الراء مخففا- قال فى القاموس اى منسيون متروكون فى النار او مقدمون معجلون إليها- قال البغوي قال ابن عباس منسيون فى النار- وقال مقاتل متروكون فى النار- وقال قتادة معجلون الى النار- وقال الفراء مقدمون الى النار ومنه قوله ﷺ انا فرطكم على الحوض اى مقدمكم- وقال سعيد بن جبير مبعدون-.
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلا من الناس إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ كما أرسلناك الى هذه الامة فَزَيَّنَ لَهُمُ اى للامم اى لاكثرهم الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ الخبيثة من الإشراك بالله وتكذيب الرسل فاصروا عليها فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الضمير لكفار قريش لان سوق الكلام فيهم والولي الناصر والقرين يعنى الشيطان قرين لهؤلاء يزيّن لهم أعمالهم الخبيثة الْيَوْمَ كما كان يزيّن لمن كان قبلهم ناصرا لهم فى معاداة المؤمنين وجاز ان يكون الضمير للامم السابقة على انه حكاية حال ماضية يعنى فالشيطان
كان وليهم فى الدنيا حين كان يزيّن لهم- وجاز ان يكون المراد باليوم يوم القيامة والكلام حكاية حال اتية والمعنى فالشيطان قرين لهم يوم القيامة فى الأصفاد- او المعنى فالشيطان ناصر لهم يوم القيامة يعنى لا ناصر لهم غيره وهو عاجز عن نصر نفسه فكيف ينصرهم- فهو نفى الناصر لهم على ابلغ الوجوه- وجاز ان يقال بحذف المضاف تقديره فهو ولى أمثالهم من الكفار اليوم يعنى كفار قريش وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) يوم القيامة.
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اى للناس الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ من التوحيد والصفات والقدر واحوال المعاد وافعال العباد واحكام الله تعالى وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) معطوفان على محل لتبيّن منصوبان على العلية لكونهما فعلان لفاعل أنزلنا بخلاف لتبيّن لانه فعل المخاطب.
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ اى نباتها يعنى جعلها خضرا ناميا بَعْدَ مَوْتِها اى يبسها وانخلاعها عن الروح النباتي إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً على جواز البعث لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) سماع تدبر وانصاف-.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً دلالة يعتبر بها من الجهل الى العلم نُسْقِيكُمْ قرا نافع وابن عامر وابو بكر ويعقوب هاهنا وفى المؤمنين بفتح النون من المجرد والباقون «١» بضمها من الافعال وهما لغتان مِمَّا فِي بُطُونِهِ استيناف لبيان العبرة ذكّر الضمير ووحده هاهنا نظرا الى اللفظ وانثه فى المؤمنين نظرا الى المعنى لان الانعام اسم جمع لفظه مفرد عدّه سيبويه فى المفردات المبنية على افعال كاخلاق وأكباش كذا قال الفراء وابو عبيدة والأخفش- ان النعم والانعام واحد يذكر ويؤنث فمن انث فلمعنى الجمع ومن ذكر فلحكم اللفظ- وقال الكسائي رده الى ما يعنى فى بطون ما ذكرنا وقال المؤرخ الكناية راجعة الى البعض فان اللبن لبعضها دون جميعها وقيل المراد به الجنس مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وهو ما فى الكرش من السفل فاذا خرج منه لا يسمى فرثا وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً من الدم والفرث ليس عليه لون دم ولا رائحة فرث مع كونه متولدا منهما سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) اى سهل المروي فى الحلق قال
(١) غير ابى جعفر فانه قرا بالتاء المفتوحة- ابو محمّد
البغوي قال ابن عباس رضى الله عنهما إذا أكلت الدابة العلف فاستقر فى كرشها وطحنته فكان أسفله الفرث وأوسطه اللبن وأعلاه الدم- والكبد مسلطة عليها يقسمها بتدبير الله فيجرى الدم فى العروق واللبن فى الضروع ويبقى الفرث كما هو- قال البيضاوي لعل المراد ان أوسطه تكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الّذي يغذى البدن- وقال الكبد يجذب صفاوة الطعام المنهضم فى الكرش ويبقى ثفله ثم يمسكها ثم يهضمها هضما ثانيا فيحدث اخلاط اربعة معها مائية- فيميز القوة المميزة المائية بما زاد على قدر الحاجة فيدفعها الى الكلية والمرارة والطحال- ثم يوزع الباقي على الأعضاء فيجرى الى كل حقه على ما يليق به بتقدير الحكيم العليم- ثم ان كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرودة والرطوبة على المزاج فيندفع الزائد اولا الى الرحم لاجل الجنين- فاذا انفصل انصبت ذلك الزائد او بعضه الى الضروع فيبيض بمجاورة لحومها العذبة البيض فيصير لبنا- ومن تدبر صنع الله تعالى فى احداث الاخلاط والألبان واعداد مقارّها ومجاريها والأسباب المولدة لها والقوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق اضطر الى الإقرار بكمال حكمته وتناهى رحمته- ومن الاولى تبعيضية لان اللبن بعض ما فى بطونها- والثانية ابتدائية كقولك سقيت من الحوض لان بين الفرث والدم المحل الّذي يبتدا منه الاسقاء وهى متعلقة بنسقيكم او حال من لبنا قدمت عليه لتنكيره والتنبيه على انه موضع العبرة-.
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ اى عصيرهما متعلق بمحذوف اى ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب وقوله تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً استيناف لبيان الاسقاء او هو متعلق بتتخذون ومنه تكرير الظرف تأكيدا- او من ثمرات النخيل خبر لمحذوف صفته تتخذون تقديره ومن ثمرات النخيل والأعناب ثم تتخذون منه- وتذكير الضمير على الوجهين الأولين لانه للمضاف المحذوف الّذي هو العصير او لان الثمرات بمعنى الثمر- والسّكر اسم لما يكون منه السّكر او هو مصدر سمى به الخمر- قال فى القاموس سكر كفرح سكرا وسكرا وسكرا وسكرا وسكرانا نقيض صحا والسّكر محركة الخمر ونبيذ يتخذ من التمر
والكشوث وكل ما يسكرو ما حرم من ثمره والخل والطعام- قال صاحب الهداية السّكر هو الّتي من ماء التمر اى الرطب- قال شريك بن عبد الله انه مباح بهذه الاية فان الله تعالى امتن علينا به وهو بالمحرم لا يتحقق ولنا اجماع الصحابة رضى الله عنهم على تحريمه والاية محمولة على الابتداء وكانت الاشربة مباحة كلها يعنى فى ابتداء الإسلام انتهى كلامه- وقال البغوي قال قوم السّكر الخمر والرزق الحسن الخل والربّ والتمر والزبيب قالوا وهذا قبل تحريم الخمر والى هذا ذهب ابن مسعود وابن عمرو سعيد بن جبير والحسن ومجاهد- وقال روى عن ابن عباس قال السكر ما حرّم من ثمرها والرزق الحسن ما احلّ- وقال ابو عبيدة السكر الطعم يقال هذا سكر لك اى طعم لك- وقال الشعبي السكر ما شربت والرزق الحسن ما أكلت- وروى العوفى عن ابن عباس ان السّكر هو الخل بلغة الحبشة- وقال بعضهم السّكر هو بلغة الحبشة النبيذ المسكر هو نقيع التمر والزبيب إذا اشتدوا لمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والنخعي- ومن يبيح شرب النبيذ ومن حرّمه يقول المراد الاخمار لا الاحلال واولى الأقاويل ان قوله تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً منسوخ انتهى كلام البغوي- وقال البغوي فى موضع اخر وجملة القول ان الله انزل فى الخمر اربع آيات نزلت بمكة وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً فكان المسلمون يشربونها وهى حلال لهم يومئذ ثم نزلت فى المدينة يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ثم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى واخر الآيات نزولا ما فى المائدة وقد ذكرنا قصة نزول الآيات الاربعة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) اى يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل فى الآيات-.
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ اى ألهمها وقذف فى قلوبها أَنِ اتَّخِذِي ان مفسرة لان فى الوحى معنى القول مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) قرا ابن عامر وأبو بكر بضم الراء والباقون بكسرها اى مما يجعلونه سقفا للبيت يستظل به او يجعل للكرم واصل العرش السقف وذكر بحرف التبعيض لانه لا يبنى فى كل جبل وكل شجرة وكل سقف او كرم ولا فى مكان منها- وانما سمى ما تبنيه
للعسل بيتا تشبيها ببناء الإنسان لما فيه من حسن الصنعة وصحة القسمة الّتي لا يقوى عليها حذاق المهندسين ولعل ذكره للتنبيه على ذلك.
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ اللام للجنس اى من كل ثمرة تشتهيها وتتيسر لها مرها وحلوها وليس معنى الكل الاستغراق فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ يعنى كونى سالكة فى الطرق الّتي ألهمك ربك وأفهمك فى عمل العسل او إذا أكلت الثمار فى المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكى راجعة الى بيوتك سبل ربك لا تضلينى او فاسلكى يعنى ادخلى ما أكلت فى مسالك الّتي يستحيل فيها بقدرته النّور عسلا من اجوافك ذُلُلًا جمع ذلول حال من السبل اى مذلّلة ذلّلها الله وسهلها لك او حال من الضمير فى اسلكى يعنى فاسلكى أنت منقادة لامر ربك- ويقال ان أربابها ينقلونها من مكان الى مكان ولها يعسوب إذا وقف وقفت وإذا سار سارت يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها فيه التفات من الخطاب الى الغيبة كانه عدل به عن خطاب النحل الى خطاب الناس لانه محل الانعام عليهم والمقصود من خلق النحل والهامة انتفاعهم شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ابيض واحمر واصفر واخضر فِيهِ اى فى ذلك الشراب شِفاءٌ لِلنَّاسِ وقال مجاهد فيه اى فى القران شفاء والظاهر هو الاول ولفظ الاية يشعر ان فى العسل شفاء ولو فى الجملة ولو فى بعض الأمراض لكونها نكرة وسياق الكلام يقتضى نوعا من التعميم والا فما من شيء من الأشياء الا وفيه شفاء لبعض الأمراض حتّى السموم فانها تستعمل فى الادوية فيقال التنوين للتعظيم والمعنى فيه شفاء عظيم للناس يعنى فى اكثر الأمراض واكثر الأوقات ويؤيده حديث ابن مسعود قال قال رسول الله ﷺ عليكم بالشفاءين العسل والقران رواه ابن ماجة والحاكم بسند صحيح فان هذا الحديث يدل على كونه شفاء غالبا- وذكر البغوي قول ابن مسعود ان العسل شفاء من كل داء والقران شفاء لما فى الصدور فكانّه فهم ابن مسعود من الحديث المرفوع التعميم فقال البيضاوي ان العسل شفاء اما بنفسه كما فى الأمراض البلغمية او مع غيره كما فى سائر الأمراض إذ قل ما يكون معجون الا والعسل جزء منه- وما فى الصحيحين عن ابى سعيد الخدري انه جاء رجل الى النبي ﷺ فقال ان
أخي استطلق بطنه فقال رسول الله ﷺ اسقه عسلا فسقاه ثم جاء فقال انى سقيته فلم يزده الا استطلاقا فقال رسول الله ﷺ صدق الله وكذب بطن أخيك فسقا فبرئ يدل على كونه شفاء منفردا فيقال انه من شربه منفردا بحسن النية لاىّ مرض كان شفاه الله تعالى ان شاء الله تعالى كذا قال السيوطي إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) فان من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والافعال العجيبة حق تدبر علم قطعا انه لا بد له من قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها عليه-.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ صبيانا او شبانا او كهولا او شيوخا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ اى اخسّه وهو الهرم قال قتادة أرذل العمر تسعون سنة- وروى عن على عليه السلام انه قال أرذل العمر خمس وسبعون سنة وقيل ثمانون وقد كان فى دعائه ﷺ اللهم انى أعوذ بك من سوء العمر وفى رواية من ان اردّ الى أرذل العمر ونحو ذلك روى فى الصحيحين وغيرهما لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً اى ينسى معلوماته كلها فيصير له حالة مشابهة بحال الأطفال فى عدم العلم وسوء الفهم قال عكرمة من قرا القران لم يصر بهذه الحالة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بمقادير أعمارهم قَدِيرٌ (٧٠) على كل شيء يميت الشاب القوى ويبقى الهرم الفاني وفيه تنبيه على ان تفاوت احوال الناس ليس الا بتقدير قادر حكيم عليم ولو كان ذلك مقتضى الطباع لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ-.
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فمنكم غنى ومالك وملك ينفق ألوف آلاف ومنكم مملوك او عسكرى او فقير لا يقدر على شيء فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا يعنى الأغنياء والملاك بِرَادِّي رِزْقِهِمْ اى معطى فضل رزقهم الّذي أعطاهم الله عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ اى مماليكهم فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ يعنى حتّى يستوواهم وعبيدهم فى ذلك فهذه جملة اسمية وقعت فى موضع الجواب للنفى كانه قيل فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فيستووا فى الرزق فهو رد وانكار على المشركين حيث يشركون بالله بعض مخلوقاته
فى الالوهية مع عدم صلاحيتهم لان يشاركوه فى شيء من الأشياء بوجه من الوجوه ولا يرضون ان يشاركهم عبيدهم فيما أنعم الله عليهم فيساويهم فيه مع ان مماليكهم من جنسهم مرزوقين الله تعالى- وجاز ان يكون المعنى ما هم برادّى رزقهم يعنى رزق أنفسهم على ما ملكت ايمانهم بل كل ما يردّون على المماليك من الرزق فهو رزق لمماليكهم جعله الله تعالى فى أيديهم فهم فيه سواء- يعنى ان الموالي والمماليك سواء فى ان الله رزقهم جميعا فالجزاء لازمة للجملة المتقدمة او مقرر لها أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١) حيث يتخذون له شركاء فانه يقتضى ان يضاف إليهم بعض ما أنعم الله عليهم وجحود كونها من عند الله او حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعد ما أنعم الله عليهم بايضاحها والباء لتضمن الجحود معنى الكفر- قرا ابو بكر بالتاء الفوقانية للخطاب لقوله وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ والباقون بالتحتانية لقوله فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ-.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ اى من جنسكم أَزْواجاً لتستأنسوا بها وليكون أولادكم مثلكم- وقيل معناه خلق حواء من آدم وسائر النساء من نطف الرجال والنساء وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وهم أولاد الأولاد او المسرع فى الخدمة يعمهم قال فى القاموس حفد يحفد حفد او حفدا ناخف فى العمل واسرع كاحتفد وخدم والحفدة محركة الخدم والأعوان جمع حافد- وحفدة الرجل أولاد أولاده كالحفيد والاصهار والبنات- قال البغوي قال ابن مسعود والنخعي الحفدة يعنى فى الاية الأختان على بناته وعن ابن مسعود ايضا انهم الاصهار فيكون معنى الاية على هذا القول وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وبنات تزوجوهن فيحصل بسببهن الأختان والاصهار- وقال عكرمة والحسن والضحاك هم الخدم- وقال مجاهدهم الأعوان- وقال عطاءهم ولد الرجل الذين يعينونه ويخدمونه- قلت فالمراد فى الاية بالحفدة على هذه الأقوال هم البنون أنفسهم والعطف لتغائر الوصفين كذا قال البيضاوي احدى التأويلات- وقال مقاتل والكلبي البنين الصغار والحفدة كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله-
وقال قتادة مهنة يمتهنونكم ويخدمونكم من أولادكم وروى مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس انهم ولد الولد وروى العوفى عنه انهم بنوا امرأة الرجل ليسوا منه يعنى الربائب قلت لعل ذلك التسمية لاجل ان الرجل ان ربى أولاد غيره يستخدمهم مالا يستخدم من أولاده وقال البيضاوي احدى التأويلات ان المراد بالحفدة فى الاية البنات إذ البنات يخد من فى البيوت أتم خدمة وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ او من الحلالات ومن للتبعيض فان المرزوق فى الدنيا أنموذج منها أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ حيث يقولون الأصنام ينفعهم وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) حيث أضافوا نعمته الى الأصنام- قال رسول الله ﷺ قال الله تعالى انّى والجن والانس فى نبا عظيم اخلق ويعبد غيرى وارزق ويشكر غيرى- وتقديم الصلة على الفعل لايهام التخصيص مبالغة ولمحافظة الفواصل وقيل الباطل ما أمرهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة يؤمنون به وبنعمة الله اى بالطيبات من الرزق الّتي أحل الله لهم يكفرون ويجحدون تحليله وقيل الباطل الشيطان ونعمة الله محمّد صلى الله عليه وسلم.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعنى من مطر ونبات شَيْئاً قال الأخفش هو بدل من الرزق والمراد به المرزوق والمعنى لا يملكون من المرزوقات شيئا قليلا ولا كثيرا وقال الفراء رزقا مصدر وشيئا منصوب به على المفعولية وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) ان يتملكوه او لا استطاعة لهم أصلا وجمع الضمير فيه وتوحيده فى لا يملك نظرا الى لفظة ما ومعناه ويجوز ان يعود الضمير الى الكفار يعنى لا يستطيع هؤلاء الكفار مع كونهم احياء فكيف بالجمادات-.
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ فان ضرب المثل تشبيه حال بحال وأنتم لا تعرفون الله تعالى ولا تعلمون صفاته ولا ما يجوز وصفه به وما لا يجوز فكيف يصح منكم ضرب المثل وقياسكم عليه فى هذا المقام باطل لكونه قياسا للغائب على الشاهد ومن غير جامع إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ضرب الأمثال وكنه الأشياء وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤)
كنه الأشياء او المعنى انه تعالى يعلم خطاء ما تضربون من الأمثال وفساد ما تقولون عليه بالقياس كقولهم عبادة عبيد الملك ادخل فى التعظيم من عبادته ويعلم عظم جرمكم فيما تفعلون وأنتم لا تعلمون ذلك ولو علمتموه لما جرأتم عليه فهو تعليل للنهى.
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لنفسه ولمن عبد دونه عَبْداً بدل من مثلا مَمْلُوكاً احتراز عن الحر فانه ايضا عبد الله لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ احتراز عن المكاتب والمأذون وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً من موصولة لكونه معطوفا على عبد قسيم له فالمعنى وحرّا غنيّا كثير المال فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً مثّل ما يشرك به بالملوك العاجز عن التصرف رأسا ومثّل نفسه بالحر الغنى السخي ينفق ما يشاء كيف يشاء واحتج بهذا على امتناع الإشراك والتسوية بين الأصنام الّتي هى أعجز المخلوقات وبين الله الغنى القادر هَلْ يَسْتَوُونَ جمع الضمير ولم يقل يستويان لانه للجنسين فان المعنى هل يستوى الأحرار والعبيد الْحَمْدُ لِلَّهِ يعنى الحمد كله لله تعالى لا يستحقه غيره فضلا عن استحقاق العبادة لانه مولى النعم كلها دون غيره بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) فيضيفون نعمة الله الى غيره فيعبدونه لاجلها- وقيل قوله عبدا مّملوكا لا يقدر مثل للكافر حيث لم يقدّر الله تعالى له ان يقدم خيرا او ينفق شيئا فى سبيل الله فهو العاجز ومن رزقنه الى آخره مثل للمؤمن المنفق- روى ابن جريج عن عطاء عبدا مّملوكا اى ابو جهل ومن رزقنه رزقا حسنا ابو بكر رضى الله عنه الحمد لله الّذي ميّز المحق من المبطل بل أكثرهم لا يعلمون-.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ ولد اخرس لا يفهم ولا يتكلم لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من الصنائع والتدابير لنقصان عقله وَهُوَ كَلٌّ ثقيل ووبال عَلى مَوْلاهُ اى على من يلى امره أَيْنَما يُوَجِّهْهُ حيثما يرسله مولاه فى امر لا يَأْتِ بِخَيْرٍ اى لا ينجح لعامة مهمّه فهو مثل للصنم لا يسمع ولا ينطق ولا يعقل وهو كل على عابده يحتاج الى ان يحمله ويضعه وهو لا ينفعه أصلا هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ اى هو سليم فهيم منطيق ذو كفاية ورشد ينفع الناس يحثهم على العدل الشامل لجميع الفضائل
وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وهو فى نفسه على طريق مستقيم لا يتوجه الى مطلب الّا يبلغه بأقرب ما ينبغى- هذا مثل ضربه تعالى لنفسه- وقيل من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم رسول الله صلى الله عليه وسلم- وقيل كلا المثلين للمؤمن والكافر يرويه عطاء عن ابن عباس- وقال عطاء فى هذه الاية الأبكم أبيّ بن خلف ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون وقال مقاتل نزلت فى هاشم بن عمرو بن الحارث من ربيعة القرشي كان قليل الخير يعادى رسول الله صلى الله عليه وسلم- واخرج ابن جرير عن ابن عباس فى قوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً قال نزلت فى رجل من قريش وعبده وفى قوله رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ قال نزلت فى عثمان ومولى له كافر وهو أسيد بن ابى العيص كان يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف-.
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعنى لا يعلم الغيب أحد غيره تعالى الا بتعليمه وقد ذكرنا شرح الغيب والشهادة فى تفسير سورة الجن وَما أَمْرُ السَّاعَةِ اى امر قيام الساعة فى سرعته وسهولته إذا أراد الله تعالى إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ فى القاموس لمنح كمنع اختلاس النظر قلت فمعناه كاختلاس البرق البصر وقال البيضاوي الا كرجع الطرف من أعلى الحديقة الى أسفلها ضرب الله تعالى به المثل لانه لا يعرف زمان اقل منه فى العرف ثم قال أَوْ هُوَ أَقْرَبُ يعنى بل هو اقرب فانه تعالى محى الخلائق دفعة إذا قال له كن فيكون وما يوجد دفعة كان فى ان غير ممتد إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) يقدر ان يحى الخلائق دفعة كما قدر ان أحياهم فى الدنيا متدرجا- قال البغوي نزلت الاية فى الكفار الذين استعجلوا القيامة استهزاء ثم دل على قدرته فقال.
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ قرا الكسائي بكسر الهمزة على لغة او اتباعا لما قبلها وحمزة بكسرها وكسر الميم والباقون بضم الهمزة وفتح الميم- والهاء زائدة كما فى اهراق لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً جهّالا مستصحبين جهل الجمادية وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ اى الاسماع وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ اداة
تتعلّمون بها فتحسّون بمشاعركم جزئيات الأشياء فتدركونها ثم تنبهون بقلوبكم لمشاركات ومبائنات منها بتكرير الاحساس حتّى يتحصل لكم بعض العلوم البديهية وتتمكنوا من تحصيل العلوم الكسبية بالنظر فيها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) كى تعرفوا ما أنعم الله عليكم طورا بعد طور فتشكرونه.
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ قرا ابن عامر ويعقوب وحمزة بالتاء الفوقانية لتغليب الخطاب على الغيبة والباقون بالتحتانية لقوله تعالى يعبدون مُسَخَّراتٍ مذلّلات للطيران بما خلق لها من الاجنحة والأسباب المواتية فِي جَوِّ السَّماءِ وهو الهواء بين السماء والأرض قال البغوي روى عن كعب الأحبار ان الطير يرتفع فى الهواء اثنا عشر ميلا ولا يرتفع فوق ذلك ما يُمْسِكُهُنَّ فى الهواء إِلَّا اللَّهُ بقدرته فان ثقل جسدها يقتضى سقوطها ولا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها تمسكها إِنَّ فِي ذلِكَ اى فى تسخير الطير بان خلقها خلقة يمكن معه الطيران فى الجو وأمسكها فى الهواء على خلاف طبعها لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) لانهم هم المنتفعون بها-.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الّتي بنى من الحجر والمدر سَكَناً اى موضعا تسكنون فيه وقت اقامتكم فعل بمعنى مفعول وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً يعنى خياما واخبية والقنات من الادم ويجوز ان يتناول المتخذ من الوبر والصوف والشعر فانها من حيث انها ثابتة على جلودها منها تَسْتَخِفُّونَها اى تجدونها خفيفة فى الحمل والثقل يَوْمَ ظَعْنِكُمْ اى رحلتكم فى سفركم قرا ابن عامر والكوفيون بسكون العين والباقون بفتحها وهما لغتان وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ اى وقت الحضر او النزول وَمِنْ أَصْوافِها اى أصواف الانعام من الضأن وَأَوْبارِها من الإبل وَأَشْعارِها من المعز واضافتها الى الانعام لانها من جملتها أَثاثاً وهو متاع البيت من الفرش والاكسية واللباس لا واحد له او المال اجمع كذا فى القاموس وَمَتاعاً ما يتجربه إِلى حِينٍ (٨٠) الى مدة أراد الله تعالى بقاءها.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الشجر والجبل والابنية وغيرها ظِلالًا تتقون بها حر الشمس وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً اى مواضع تستترون بها وتسكنون فيها من الكهوف
والبيوت المنحوتة فيها جمع كن وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ اى قمصا من القطن والصوف والكتان والقز تَقِيكُمُ الْحَرَّ اى والبرد خص أحد الضدين بالذكر والمراد كلاهما لدلالة الكلام على الاخر وَسَرابِيلَ من حديد او قز او غير ذلك تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ من السلاح ان يصيبكم فى الحرب كَذلِكَ يعنى كما أتم عليكم النعماء المذكورة يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ حيث أرسل إليكم رسوله وأيده بالمعجزات وانزل عليكم كتابه وأوضح لكم الحجة وأعز الإسلام لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) لكى يسلم اكثر الناس ويخلصون لله الطاعة قال عطاء الخراسانى انما نزل القران على قدر معرفتهم فقال وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وما جعل لهم من السهول أعظم واكثر لكنهم كانوا اصحاب جبال كما قال وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها لانهم كانوا اصحاب وبر وشعر وصوف كما قال وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ وما انزل من الثلج اكثر لكنهم كانوا لا يعرفون الثلج وقال تَقِيكُمُ الْحَرَّ وما تقى من البرد اكثر ولكنهم كانوا اصحاب حر.
فَإِنْ تَوَلَّوْا اى اعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا منك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يعنى ان تولوا فلا تهتم ولا تك فى ضيق لانه ما عليك ان يؤمنوا انما عليك البلاغ وقد بلّغت كمال الإبلاغ أقيم السبب مقام المسبب- اخرج ابن ابى حاتم عن مجاهد ان اعرابيّا اتى النبي ﷺ فساله فقرا عليه وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً قال الاعرابى نعم قال وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ قال نعم ثم قرا كل ذلك يقول نعم حتّى بلغ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فولى الاعرابى فانزل الله تعالى فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ الّتي عدها عليهم وغيرها حيث يعترفون بها وبانها من عند الله ثُمَّ يُنْكِرُونَها حيث اعرضوا عن عبادة الله مخلصين له الدين حنفاء غير مشركين- وقال السدىّ يعرفون نعمة الله يعنى نبوة محمّد ﷺ عرفوها بالمعجزات ثم أنكروها عنادا ومعنى ثم استبعاد الإنكار بعد المعرفة- قال البغوي قال مجاهد وقتادة يعرفون ما عدّ عليهم من النعم فى هذه السورة ثم إذا قيل لهم تصدقوا وامتثلوا امر الله فيها ينكرونها
ويقولون ورثناها من ابائنا وقال الكلبي هو انه إذا ذكر لهم هذه النعم قالوا نعم هذه كلها من الله ولكنها بشفاعة الهتنا- وقال عون بن عبد الله هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا لولا فلان لما كان كذا وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) بعد الاعتراف بالنعماء عنادا- وذكر الأكثر اما لان بعضهم لم يعرف الحق لنقصان العقل او التفريط فى النظر اولم يقم عليه الحجة لانه لم يبلغ حد التكليف واما لانه قال الأكثر وأراد به الكل-.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ تقديره اذكر او خوّفهم او يحيق بهم ما يحيق يوم نبعث مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً وهو رسولها يشهد عليهم ولهم بالكفر والايمان ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فى الاعتذار إذ لا عذر لهم وقيل فى الكلام مطلقا وقيل فى الرجوع الى الدنيا وثم لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع عن الاعتذار لما فيه من الاقناط الكلى بعد شهادة الرسل عليهم وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) اى ولا هم يسترضون يعنى لا يطلب منهم رضاء ربهم إذ لا يمكن ذلك حينئذ فان الاخرة ليست بدار التكليف ولا يرجعون الى الدنيا حتّى يتوبوا ويعملوا موجبات مرضاته تعالى.
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ عذاب جهنم فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ اى العذاب بعد الدخول وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) اى لا يمهلون قبل الدخول.
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ أوثانهم قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ أربابا نعبدهم او نطيعونهم وهو اعتراف بانهم كانوا مخطئين فى ذلك- او التماس بان ينصّف عذابهم فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ اى قالوا لهم يعنى أوثانهم ينطقهم الله إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) فى انهم شركاء الله- او فى انهم عبدوهم حقيقة بل انما عبدوا أهواءهم وحاصل قولهم انا ما دعوناكم الى عبادتنا نظيره قوله تعالى سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ او فى انهم حملوهم على الكفر والزموهم إياه كقوله وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي....
وَأَلْقَوْا يعنى الذين ظلموا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ الاستسلام لحكمه بعد الاستكبار فى الدنيا وَضَلَّ اى ضاع وبطل عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) من انها يشفع لهم.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا
الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر زِدْناهُمْ عَذاباً بصدهم فَوْقَ الْعَذابِ المستحق بكفرهم قال عبد الله بن مسعود عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال- اخرج ابن مردوية عن البراء عن النبي ﷺ نحوه- وقال سعيد بن جبير حيّات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة يجد صاحبها حمتها أربعين خريفا- وقال ابن عباس ومقاتل يعنى خمسة انهار من صفر مذاب كالنار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار- وقيل انهم يخرجون من حر النار الى الزمهرير فيبادرون من شدة الزمهرير الى الدار مستغيثين بها بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) فى الدنيا بالكفر والصدّ.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعنى نبيهم فان نبى كل امة بعث منهم وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ على أمتك وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ استيناف او حال بإضمار قد تِبْياناً بيانا بليغا لِكُلِّ شَيْءٍ مفصلا او مجملا كما فى قوله تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا... وَمَنْ... يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وقوله تعالى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ... وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةً للجميع وانما حرم من حرم من تقصيره وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) خاصة.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ لفظ العدل يقتضى المساوات ومنه يقال للفدية والجزاء عدلا باعتبار معنى المساوات ومنه قوله تعالى أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً وأَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ يعنى تسووا بينهن فى كل شيء فمعنى الاية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ اى بالمساوات فى المكافاة ان خيرا فخيرا وان شرّا فشرّا- والإحسان ان يقابل الخير بأكثر وأفضل منه والشر باقل وأسهل منه وبالمساوات بين المدعى والمدعى عليه إذا حكم بينهما يعنى لا يميل الى أحدهما بل يسوى بينهما ويحكم بما قضى الله تعالى- قلت او المراد بالعدل الاستقامة على الحق ضد الجور وهو الميلان عن الحق فى القاموس العدل ضد الجور وما قام فى النفوس انه مستقيم- وقيل المراد بالعدل التوسط بين الأمور كالتوحيد المتوسط بين التعطيل
363
والتشريك- والقول بالكسب المتوسط بين الجبر والقدر- والتعبد بالواجبات والنوافل بحيث لا يفوّت حقّا من حقوق الله- والعبادة «١» المتوسطتة بين البطالة والترهب- والجود المتوسط بين البخل والتبذير- والشجاعة المتوسط بين الجبن والتهور- والعفة المتوسطة بين الفجور والحصر- قال البغوي وروى عن ابن عباس العدل التوحيد والإحسان أداء الفرائض وعنه الإحسان الإخلاص فى التوحيد- وذلك معنى قوله ﷺ الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك- رواه الشيخان فى الصحيحين فى حديث سوال جبرئيل عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه- وقال مقاتل العدل التوحيد والإحسان العفو عن الناس- وقيل العدل الفريضة ومنه قوله ﷺ لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا يعنى نافلة ولا فريضة والإحسان النافلة لان الفرض ان يقع فيه تفريط تجبره النافلة وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى اى إعطاء ذى قرابته ما يحتاج اليه يعنى صلة الرحم وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ اى ما اشتد قبحه قولا او فعلا وقال ابن عباس الزنى وَالْمُنْكَرِ اى ما أنكره الشرع والعقل السليم وَالْبَغْيِ اى الكبر والظلم قال البيضاوي الفحشاء الافراط فى متابعة القوة الشهوية كالزنى فانه أقبح احوال الإنسان واشنعها- والمنكر ما ينكر عن تعاطيه فى اثارة القوة الغضبية- والبغي هو الاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم فانها الشيطنة الّتي هى مقتضى القوة الوهمية- ولا يوجد من الإنسان شر الا وهو مندرج فى هذه الاقسام صادر بتوسط احدى هذه القوى الثلاث ولذلك قال ابن مسعود اجمع اية فى القران هذه- قلت أخرجه سعيد بن منصور والبخاري فى الأدب ومحمّد بن نصر وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي فى شعب الايمان واخرج احمد والبخاري فى الأدب وابن ابى حاتم والطبراني وابن مردوية عن ابن عباس ان تلك الاية صارت سببا لاسلام عثمان بن مظعون- وقال البغوي قال ابن عيينة العدل استواء السر والعلانية والإحسان ان يكون سريرته احسن من العلانية والفحشاء والمنكر ان يكون علانيته احسن من سريرته يَعِظُكُمْ بالأمر والنهى والتميز «٢» بين الخير والشر لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) تتعظون قال البيضاوي
(١) فى الأصل او العباد
(٢) فى الأصل والميز-
364
لو لم يكن فى القران غير هذه الاية لصدق عليه انه تبيان لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ- قال البغوي قال أيوب عن عكرمة ان النبي ﷺ قرا هذه الاية على الوليد فقال له يا ابن أخي أعد فاعاد عليه فقال ان له والله لحلاوة وان عليه لطلاوة وان أعلاه لمثمر وان أسفله لمعذق وما هو قول البشر-.
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ اى بميثاقه إِذا عاهَدْتُمْ اخرج ابن جرير عن بريدة قال نزلت الاية فى بيعة النبي ﷺ وقال البغوي العهد هاهنا اليمين قال الشعبي العهد يمين وكفارته كفارة يمين وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ اى ايمان البيعة او مطلق الايمان بَعْدَ تَوْكِيدِها اى توثيقها بذكر الله وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا شاهدا على تلك البيعة فان الكفيل مراع بحال المكفول به رقيب عليه والجملة حال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) من الوفاء بالعهود او نقضها وقال مجاهد نزلت الاية فى حلف الجاهلية ثم ضرب الله مثلا لنقض العهد فقال.
وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ متعلق بنقضت اى نقضت غزلها من بعد ابرامه وأحكامه فجعلته أَنْكاثاً جمع نكث وهو ما ينكث قتله اخرج ابن ابى حاتم عن ابى بكر ابن ابى حفص قال كانت سعيدة الاسدية مجنونة تجمع الشعر والليف فنزلت هذه الاية- وقال البغوي قال الكلبي ومقاتل هى امراة خرقاء حمقاء من قريش يقال لها ربطة بنت عمر بن سعد بن كعب بن زيد بن مناة بن تميم وتلقب بجعر وكانت بها وسوسة فكانت تخذت مغزلا بقدر ذراع واوصارة مثل الإصبع وفلكة عظيم على قدرها وكانت تغزل الغزل من الصوف والوبر والشعر وتأمر جواريها بذلك فكن يغزلن من الغداة الى نصف النهار فاذا انتصف النهار تنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها ومعنى الاية لا تكونوا كما كانت انها لم تكف عن العمل وبعد ما عملت لم تكف عن النقض فانتم اما ان لا تعهدوا واما ان توفوا إذا عاهدتم ولا تكونوا ان تعاهدوا كل مرة فتنقضوا العهود كلّما عاهدتم تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ حال من الضمير
فى لا تكونوا او فى الجار والمجرور الواقع موقع الخبر اى لا تكونوا مشبهين بامراة هذا شأنها متخذى ايمانكم مفسدة ودغلا وخديعة وخيانة بينكم- واصل الدخل ما يدخل فى الشيء ولم يكن منه لاجل الفساد وقيل الدخل والدغل ان يظهر الوفاء ويبطن النقض أَنْ تَكُونَ اى لا تكون أُمَّةٌ اى جماعة هِيَ أَرْبى يعنى اكثر عددا وأوفر مالا مِنْ أُمَّةٍ اخرى قال مجاهد وذلك انهم كانوا يحالفون الحلفاء وإذا راوا قوما اكثر منهم وأعز نقضوا حلف هؤلاء وحالفوا أعداءهم الأكثرين «١» - فمعناه طلبتم العز بنقض العهد من الضعفاء والعهد من الأقوياء ولا ينبغى ذلك- او المعنى تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ لكون امة أنتم فيه أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ عاهدتم منهم فما باليتم بنقض العهد كما ان قريشا عاهدوا المؤمنين عام الحديبية على وضع الحرب بينهم عشر سنين ثم نقضوا العهد بعد سنتين لما راوا جماعة قريش أزيد عددا وأوفر مالا من جماعة المؤمنين- هى اربى مبتدا وخبر فى موضع الرفع صفة لامة وامة فاعل تكون وهى تامة وهى ليست بفصل لوقوعها بين نكرتين إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ الضمير لان تكون امّة يعنى يختبركم الله بكون امة اربى من امة فينظر هل تمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله أم تنقضون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم- وقيل الضمير للربو والمعنى قريب مما ذكر- وقيل للامر بالوفاء يعنى يختبركم الله بامره بالوفاء بالعهد وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) فى الدنيا إذا جازاكم على أعمالكم فيظهر الذين وفوا عهودهم بالثواب والذين نقضوا ايمانهم بالعذاب-.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً متفقة على الإسلام موفون العهود غير مختلفين وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ بالخذلان وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) سوال تبكيت ومجازاة.
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا خديعة وفسادا
(١) فى الأصل أكثرون-
بَيْنَكُمْ فتغرون به الناس حيث يعتمدوا على ايمانكم ويأمنون ثم تنقضونها- تصريح بالنهى عنه بعد التضمين تأكيدا ومبالغة فى قبح المنهي فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها يعنى فتهلكوا بعد ما كنتم امنين- والعرب يقول لكل مبتلى بعد عافية او ساقط فى ورطة بعد سلامة زلّت قدمه- او المعنى فتزل قدم عن الصراط المستقيم ومحجّة الإسلام بعد ثبوتها وذلك ان بيعة النبي ﷺ كان محجّة الإسلام والوفاء به الاستقامة عليه ونقضه زلّة القدم- والمراد فتزلّ أقدامكم بعد ثبوتها لكن وحد ونكر للدلالة على استعظام مزلّة قدم واحد عن طريق الحق بعد الثبوت عليها فكيف باقدام كثيرة وَتَذُوقُوا السُّوءَ فى الدنيا بِما صَدَدْتُمْ اى بصدودكم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وخروجكم عن الدين او بصدكم غيركم لانهم لو نقضوا ايمان البيعة وارتدوا لجعلوا نقضها سنّة لغيرهم يستنّون بها- او المعنى بما سهلتم طريق نقض العهد على الناس بنقضكم العهد فلا يعتمد أحد على عهدكم قط ويغركم غيركم بالعهود فيصيبكم مصيبة فى الدنيا وَلَكُمْ فى الاخرة عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) بنقض العهود ونكث الايمان.
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ اى لا تستبدلوا بعهد «١» الله وبيعة رسوله ثَمَناً قَلِيلًا تطلبون بنقض العهود والبيعة والايمان نيلا من الدنيا إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ على الوفاء بالعهود من النصر والنعيم فى الدنيا والثواب فى الاخرة هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ مما تطلبون إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) فضل ما بين العوضين- او المعنى ان كنتم من اهل العلم والتميز ما اخترتم الأدنى على الأعلى-.
ما عِنْدَكُمْ من الدنيا يَنْفَدُ اى ينقضى ويفنى وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته باقٍ لا ينفد وهو تعليل للحكم السابق- عن ابى موسى الأشعري ان رسول الله ﷺ قال من أحب دنياه أضر بآخرته ومن أحب آخرته أضر بدنياه فاثروا ما يبقى على ما يفنى- رواه احمد بسند صحيح والحاكم وَلَنَجْزِيَنَّ قرا ابن كثير وابو جعفر وعاصم بالنون على التكلم والباقون بالياء
(١) وفى الأصل عهد الله
التحتانية على الغيبة والضمير راجع الى الله تعالى الَّذِينَ صَبَرُوا على مصائب الدنيا من المرض والفقر وأذى الكفار ومشاق التكليف والاستقامة فى الجهاد أَجْرَهُمْ اى يعطيهم ثواب صبرهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٢) اى بأحسن أجور أعمالهم يضاعف الحسنات الى عشرة أمثالها الى سبعمائة ضعف الى ما شاء الله- وقيل المراد بأحسن ما كانوا يعملون الواجبات والمندوبات فانها احسن من المباحات والممنوعات.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيّنه بالنوعين لدفع توهم التخصيص وَهُوَ مُؤْمِنٌ إذ لا اعتداد باعمال الكفار فى استحقاق الثواب وانما المتوقع عليها تخفيف العذاب لان مبنى الثواب عند الله الإخلاص وحسن النية وذا مفقود لهم فَلَنُحْيِيَنَّهُ فى الدنيا حَياةً طَيِّبَةً قال سعيد بن جبير وعطاء هى الرزق الحلال- وقال الحسن هى القناعة- وقال مقاتل ابن حبان هى العيش فى الطاعة- وقال ابو بكر الوراق هى حلاوة الطاعة- وقال البيضاوي يعيش عيشا طيبا فانه ان كان موسرا فظاهر وان كان معسرا يطيب عيشه بالقناعة والرضاء بالقسمة وتوقع الاجر العظيم فى الاخرة بخلاف الكافر فانه ان كان معسرا فظاهر وان كان موسرا لم يدع الحرص وخوف الفوات ان يتهيّأ بعيشه قلت وذلك هو المعنى من قوله تعالى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً- قلت والاولى ان يقال ان العبد إذا أحب الله تعالى فكل ما وصل اليه من المحبوب من حلاوة او مرارة يلتذّ به- قال المجدد رضى الله عنه إيلام المحبوب ألذّ للمحب من انعامه فان المراد فى الانعام كائن على مراده وفى الإيلام كائن على مراد المحبوب ومراد المحبوب أحب عنده من مراد نفسه- قال الفاضل الرومي قدس سره
عاشقم بر لطف وبر قهرت بجد اى عجب من عاشقم بر هر دو ضد
ناخوش از وى خوش بود در جان من جان فدائى يار دل رنجان من
قلت او يقال قد قال الله تعالى فى أوليائه هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
وقد مر تفسيره فى سورة يونس عليه السلام- فالمؤمن إذا بشر برضاء الله تعالى وعلو مقامه عنده ورفع درجاته لديه حصل له فى الدنيا أفضل ما يرجوه فى الجنة- حيث قال
368
رسول الله ﷺ ان الله تعالى يقول لاهل الجنة هل رضيتم فيقولون ما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من الخلق فقال اما أعطينّكم أفضل من ذلك فيقول احلّ عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم ابدا- متفق عليه من حديث ابى سعيد وعند الطبراني فى الأوسط بسند صحيح عن جابر نحوه ومن هاهنا قال بعض الكبراء
امروز چون جمال تو بى پرده ظاهر است در حيرتم كه وعده فردا براى چيست
- كان شيخى وسندى الشيخ محمّد عابد المجددى رضى الله عنه يقول لو علم الملوك والأمراء من اهل الدنيا ما للفقراء من اللذّة والراحة لحسدوهم واغبطوهم- لا يقال هذه الحالة ينافى الخوف والخوف والرجاء فى الدنيا من لوازم الايمان- لانا نقول هذه الحالة المترتبة على الانس والمحبة لا ينافى الخوف- فان الخوف مبنى على رؤية عظمة الله وكبريائه وهو لا ينفك عن المؤمن فى شيء من الأحوال- بل الأنبياء الذين هم قاطعون بحسن الخاتمة ورضوان الله تعالى يرون عظمة الله وكبريائه فوق ما يراه غيرهم ويخافونه فوق ما يخافونه غيرهم- قال رسول الله ﷺ انّ أعلمكم وأتقاكم بالله انا- والصحابة الذين كانوا مبشرين بالجنة بالوحى القاطع حيث قال الله تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ونحو ذلك كانوا يخافون الله تعالى كمال الخوف فما بال قوم بشروا برضوان الله بالكشف الظنى والله اعلم قلت وجاز ان يكون المراد بالحياة الطيبة حيوة يثمر البركات- قال رسول الله ﷺ عجبا لامر المؤمن ان امره كله خير وليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان أصابته سراء شكر فكان خيرا له وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له- رواه احمد ومسلم فى الصحيح عن صهيب واحمد وابن حبان فى الصحيح نحوه عن انس والبيهقي بسند صحيح نحوه عن سعد- وقال مجاهد وقتادة المراد بالحياة الطيبة الحيوة فى الجنة ورواه عوف عن الحسن وقال لا يطيب الحيوة لاحد الا فى الجنة والظاهر هو المعنى الاول وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ فى الاخرة أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧).
369
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ يعنى إذا أردت قراءة القران فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) كيلا يوسوس فى القراءة ولا يلقى فى الامنية- فان شأنه انه ما أرسل الله مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ- عبر عن ارادة الفعل بالفعل المسبب عنها للايجاز والتنبيه على ان من أراد العبادة فليبادر إليها بحيث لا ينفك الارادة عن الفعل- وحكى عن النخعي وابن سيرين ان يتعوذ بعد القراءة نظرا الى ظاهر هذه الاية ولان الدعاء بعدا العبادة اقرب الى الاجابة والتعوذ من الشيطان مطلوب دائما- وقد صح عن النبي ﷺ انه كان يصلى قبل القراءة وعليه انعقد الإجماع من السلف والخلف- لكنه سنة عند جمهور العلماء- وذهب عطاء على كونه واجبا قبل القراءة احتجاجا بهذه الاية فان حقيقة الأمر للوجوب- وكونه لدفع الوسوسة فى القراءة لا يصلح صارفا عنه بل يصح شرع الوجوب معه فلا بد من جمله «١» على الوجوب- قال ابن الهمام والله اعلم بالصارف عن الوجوب على قول الجمهور قلت والصارف عنه انهم راو والنبي ﷺ ترك التعوذ قبل القراءة فى بعض الأحيان ولولا ذلك لما اجمعوا على جواز ترك ما لم يتركه النبي ﷺ قط- وقد روى فى كثير من الأحاديث قراءته ﷺ من غير ذكر التعوذ فى الصحيحين عن ابن عباس انه ﷺ قعد الثلث الأخير من الليل فنظر الى السماء فقال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ العشر الأواخر من ال عمران حتّى ختمها ثم قام فتوضا الحديث- وروى مسلم عن انس قال بينا رسول الله ﷺ ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى اغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما اضحكك يا رسول الله قال أنزلت علىّ آنفا سورة فقرا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ الحديث- (مسئلة) اختلفوا فى التعوذ قبل القراءة فى الصلاة فقال ابو حنيفة واحمد يتعوذ فى أول ركعة- وقال الشافعي فى كل ركعة قال الشيخ ابن حجر استحب التعوذ فى كل
(١) وفى الأصل فلا بد حمله-
370
ركعة الحسن وعطاء وابن سيرين- وقال مالك لا يتعوذ فى المكتوبة- قال البيضاوي حجة للشافعى ان الحكم المترتب على شرط يتكرر بتكرره قياسا فالاية دليل على ان المصلى يستعيذ فى كل ركعة- واحتج مالك بحديث انس قال كنا نصلى خلف رسول الله ﷺ وابى بكر وعمر وعثمان وكانوا يستفتحون بام القران فيما يجهر به وفى لفظ اخرج فى الصحيحين كانوا يفتتحون الصلاة ب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- قلنا هذا الحديث لا ينافى التعوذ سرّا- ولنا ان النبي ﷺ كان يتعوذ بعد الثناء فى الركعة الاولى ولم يرو عنه ﷺ التعوذ فى ركعة غير الاولى- روى ابن ماجة وابن السنى عن جبير بن مطعم رضى الله عنه قال كان رسول الله ﷺ إذا دخل فى الصلاة قال الله اكبر كبيرا ثلاثا والحمد لله كثيرا ثلاثا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم- وروى احمد وابن حبان وابو داود عنه من نفخه ونفثه وهمزه- وروى الحاكم نحوه وروى احمد واهل السنن والحاكم عن ابى سعيد الخدري قال كان رسول الله ﷺ إذا قام للصلوة بالليل كبر ثم يقول سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا اله غيرك ثم يقول لا اله الا الله ثلاثا ثم يقول الله اكبر ثلاثا ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من نفخه ونفثه وهمزه- وروى احمد من حديث ابى امامة نحوه وفيه أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم وفى اسناده من لم يسم- وروى ابن ماجة وابن خزيمة من حديث ابن مسعود ان النبي ﷺ كان يقول اللهم انى أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه- ورواه الحاكم البيهقي بلفظ كان إذا دخل فى الصلاة وعن انس نحوه رواه الدار قطنى وفيه الحسين بن علىّ بن الأسود وفيه مقال- وفى مراسيل ابى داؤد عن الحسن ان رسول الله ﷺ كان يتعوذ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم- (فائدة) قال صاحب الهداية الاولى ان يقول استعيد بالله ليوافق القران ويقرب منه أعوذ بالله- قلت لكن المستعمل عند الحذاق من اهل الأداء والفقهاء فى لفظها أعوذ بالله من الشيطان
371
الرجيم دون غيره لما ذكرنا من الأحاديث- واخرج الثعلبي والواحدي عن ابن مسعود قال قرات على رسول الله ﷺ فقلت أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم قال قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرئيل عن القلم عن اللوح المحفوظ- قال ابو عمرو الداني فى التيسير بهذا اللفظ بعينه قرات وبه أخذ ولا اعلم خلافا بين اهل الأداء فى الجهر بها عند افتتاح القران (يعنى خارج الصلاة) وعند الابتداء برءوس الاجزاء وغيرها فى مذهب الجماعة اتباعا بالنص واقتداء بالسنة وكذلك الرواية عن ابى عمرو (يعنى ابن العلاء) وروى عن حمزة انه كان يجهر بها فى أم القران خاصة ويخفيها بعد ذلك فى سائر القران كذا قال خلف عنه وقال خلاد عنه انه كان يخيّر الجهر والإخفاء جميعا والباقون لم يأت عنهم فى ذلك شيء منصوص-.
إِنَّهُ اى الشأن لَيْسَ لَهُ اى للشيطان سُلْطانٌ اى تسلط واستيلاء عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) فانهم لا يطيعون أوامره بحفظ الله تعالى ولا يقبلون وساوسه الا فيما يحتقرون على ندور وغفلة- ولذلك أمروا بالاستعاذة فذكر السلطنة بعد الأمر بالاستعاذة لئلا يتوهم منه ان له سلطانا كذا قال البيضاوي- قلت وجاز ان يكون هذه الاية فى مقام التعليل للامر بالاستعاذة- لان معنى قوله عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ انهم يلتجئون الى الله تعالى ويحرزون أنفسهم بعزة الله تعالى من تسلط الشيطان إذ لا حول ولا قوة الا به تعالى وذلك معنى الاستعاذة- فالاستعاذة وهو الالتجاء الى الله تعالى والاعتماد عليه من صفات قلوب المؤمنين المخلصين لا ينفك عنهم لكنهم أمروا بالاستعاذة باللسان ايضا حتّى يتادى سنة الدعاء ويطابق الباطن الظاهر فى التضرع والابتهال فيحصل الامان من الشيطان على وجه الكمال.
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ اى يحبونه ويطيعونه فيجعلونه مسلطا على أنفسهم باختيارهم من غير ان يكون له عليهم سلطان يضطرهم الى اتباعه فلا منافاة بين هذا وبين قوله ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ والله اعلم وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ اى بالله تعالى او بسبب
الشيطان مُشْرِكُونَ (١٠٠).
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ يعنى نسخنا تلاوة اية وأنزلنا مكانها اخرى او نسخنا حكم اية بحكم اية أخرى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ انه كان مصلحة ثم صار مفسدة او كان مفسدة ثم صار مصلحة- والجملة حال من فاعل بدلنا واسم الله على هذا ظاهر موضع المضمر او استيناف لفظا لكنه فى مقام التعليل سببا للتبديل يعنى بدلنا لانى اعلم بما هو أصلح للخلق فى وقت دون وقت- قرا ابو عمرو وابن كثير ينزل بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل قالُوا يعنى الكفار إِنَّما أَنْتَ يا محمّد مُفْتَرٍ اى متقوّل على الله قال البغوي قالت المشركون ان محمّدا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بامر وينهاهم عنه غدا ما هو الا مفتر يتقوّله من تلقاء نفسه- وجملة قالوا جواب إذا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) حكمة الاحكام ولا يميزون الخطاء والصواب- او المعنى أكثرهم ليسوا من اهل العلم والتميز ولو كانوا اهل التميز لعرفوا ان القران ليس مما يمكن ان يقوّله بشر ومحمّد ﷺ أمين لا يصح ان يتهم بالافتراء شعر
تبارك الله ما وحي بمكتسب ولا نبى على غيب بمتهم.
قُلْ يا محمّد ردّا لما قالوا نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ يعنى جبرئيل عليه السلام واضافة الروح الى القدس وهو الطهر بمعنى الطاهر كقولهم حاتم الجود- قرا ابن كثير القدس بسكون الدال والباقون بضمها- وفى ينزّل ونزّله تنبيه على ان انزاله مدرجا على حسب المصالح مما يقتضى التبديل مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ اى متلبسا «١» بالحكمة البالغة لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الايمان بانه كلام الله فانهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية الصلاح والحكمة رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم- او المعنى ليبلوهم بالنسخ حتّى إذا قالوا هو الحق من ربنا وهو الحكمة لان الحكيم لا يفعل الا ما هو الحكمة حكم لهم بثبات القدم وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) المنقادين لحكمه وهما معطوفان على محل ليثبت اى تثبيتا وهداية وبشارة وفيه تعريض بحصول الاضداد لغيرهم-
(١) فى الأصل ملتبسا-
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ آدمي وما هو من عند الله قال البغوي اختلفوا فى هذا البشر قال ابن عباس كان رسول الله ﷺ يعلم قينا بمكة اسمه بلعام وكان نصرانيّا أعجمي اللسان وكان المشركون يرون رسول الله ﷺ يدخل عليه ويخرج فكانوا يقولون انما يعلمه بلعام- كذا اخرج ابن جرير فى مسنده بسند ضعيف عنه- وقال عكرمة كان النبي ﷺ يقرئ غلاما لبنى المغيرة يقال له يعيش وكان يقرا الكتب فقالت قريش انما يعلمه يعيش- وقال الفراء قال المشركون انما يتعلم من عايش مملوك كان لحويطب بن عبد العزى وكان قد اسلم وحسن إسلامه وكان أعجمي اللسان- وقال ابن إسحاق كان رسول الله ﷺ فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة الى غلام رومى نصرانى عبد لبعض بنى الحضرمي يقال له جبر وكان يقرا الكتب- وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي كان لنا عبد ان من اهل عين باليمن يقال لاحدهما يسار ويكنى أبا فكيهة وجبر وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقران التورية والإنجيل فربما مر بهما النبي ﷺ وهما يقران فيقف ويسمع- كذا اخرج ابن ابى حاتم من طريق حصين بن عبد الله ابن مسلم- قال الضحاك كان النبي ﷺ إذا أذاه الكفار يقعد إليهما فيستروح بكلامهما فقال المشركون انما يتعلم محمّد منهما فنزلت هذه الاية وقال الله تعالى تكذيبا لهم لِسانُ اى لغة الرجل الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ قرا حمزة والكسائي بفتح الياء والحاء من المجرد والباقون بضم الياء وكسر الحاء من الافعال قال فى القاموس لحد اليه مال اليه كالتحد والحد مال وعدل يعنى يميلون اليه اى يشيرون اليه- او المعنى يميلون قولهم عن الصدق والاستقامة اليه أَعْجَمِيٌّ غير فصيح بالعربية قال فى القاموس رجل وقوم أعجم والأعجم من لا يفصح كالاعجمى والأخرس والعجمي من جنسه العجم وان افصح والعجم خلاف العرب وقال بعض المحققين العجمة خلاف الإبانة والإعجام الإبهام يقال استعجمت الدار إذا مات أهلها ولم يبق فيها عريب اى من يبين جوابا وَهذا اى القران لِسانُ لغة عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) فصيح ذو بيان واضح والجملتان مستانفتان لابطال طعنهم
لا محل لهما من الاعراب تقريره من وجهين أحدهما ان ما يسمع محمّد ﷺ منه كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم والقران عربى يفهمونه فكيف يكون هذا ذك- وثانيهما ان معنى القران كما هو معجز فلفظه ايضا معجز فالقران وان كان مطابقا لما كان الرجل الأعجمي يقراه من التورية والإنجيل فى المعنى لكن تعبير تلك المعاني المنزلة فى الكتب بعبارة مثل عبارة القران ليس فى وسع البشر لما ظهر عجزهم بالتحدي بقوله فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ على ان تعلم العلوم الكثيرة المطوية فى الكتب السماوية لا يتصور الا بملازمة معلم فائق فى تلك العلوم مدة متطاولة فكيف يتصور تعلم جميع ذلك من رجل سمع منه فى بعض اوقات مروره عليه بلسان أعجمي لا يفهم معناه-.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يصدّقون انها من عند الله لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لا يرشدهم الى الحق او الى سبيل النجاة او الى الجنة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) فى الاخرة ثم رد امر الافتراء على الكفار بعد مارد طعنهم وشبهتهم بأحسن الوجوه فقال.
والبيهقي فى شعب الايمان مرسلا انه قيل لرسول الله ﷺ أيكون المؤمن جبانا قال نعم فقيل له أيكون المؤمن بخيلا قال نعم فقيل له أيكون المؤمن كذابا قال لا- قلت الظاهر ان المراد بالمؤمن المذكور فى الأحاديث الموجودون «١» فى زمن النبي ﷺ ولاجل ذلك انعقد الإجماع على كون الصحابة كلهم صدوقا عدولا لا يطعن فى حديث أحد منهم او المراد به المؤمن الكامل وهو الصوفي الفاني الباقي-.
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مبتدا تضمن معنى الشرط وخبره المتضمن للجواب محذوف وهو فعليهم غضب من الله ولهم عذاب اليم دل عليه جواب من شرح- وجاز ان يكون بدلا من الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ ويكون وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اعتراضا بين البدل والمبدل منه يعنى انما يفترى من كفر الا من اكره- وجاز ان يكون بدلا من المبتدا الّذي هو أولئك او من الخبر وهو الكاذبون يعنى من كفر بالله هم الكاذبون او أولئك هم من كفر بالله وجاز ان يكون منصوبا على الذم إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ قال البغوي قال ابن عباس نزلت هذه الاية فى عمار بن ياسر وذلك ان المشركين أخذوه وأباه وامه سميّة وصهيبا وبلالا وخبيبا وسالما وعذبوهم فاما سميّة فانها ربطت بين بعيرين ووجئت قبلها بحربة فقتلت وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين فى الإسلام رضى الله عنهما واما عمار فانه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها على ذلك- وقال قتادة أخذ بنوا للمغيرة عمارا رضى الله عنه وغطوه فى بئر ميمون وقالوا له كفّر «٢» بمحمّد فتابعهم على ذلك وقلبه كاره- فاخبر رسول الله ﷺ بان عمارا كفر فقال كلا ان عمارا ملئ ايمانا من قرنه الى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه- فاتى عمار رسول الله ﷺ وهو يبكى فقال له رسول الله ﷺ ما وراءك قال شر يا رسول الله نلت منك وذكرت قال كيف وجدت قلبك قال مطمئنّا بالايمان فجعل النبي ﷺ يمسح عينيه وقال ان عادوا لك فعدلهم بما قلت فنزلت هذه الاية- وكذا اخرج الثعلبي والواحدي واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس قال أراد النبي ﷺ ان يهاجر الى المدينة أخذ المشركون بلالا وخبيبا وعمار بن ياسر فاما عمار فقال لهم كلمة
(١) فى الأصل الموجودين-
(٢) فى الأصل اكفر-
376
أعجبتهم تقية فلما رجع الى رسول الله ﷺ حدثه فقال كيف كان قلبك حين قلت أكان منشرحا بالذي قلت قال لا فانزل الله هذه الاية- وذكر البغوي وكذا اخرج ابن ابى حاتم انه قال مجاهد نزلت فى ناس من اهل مكة أمنوا فكتب إليهم بعض اصحاب رسول الله ان هاجروا فانا لا نراكم منا حتّى تهاجروا إلينا فخرجوا يريدون المدينة فادركتهم قريش فى الطريق ففتنوهم فكفروا كارهين- وقال البغوي قال مقاتل نزلت فى جبر مولى عامر بن الحضرمي أكرهه سيده على الكفر فكفر مكرها وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ اى ساكن به لم يتغير عقيدته وفيه دليل على ان الركن اللازم للايمان هو التصديق بالقلب- قال البغوي ثم اسلم مولى جبر وحسن إسلامه وهاجر جبر مع سيده وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً اى شرح وفتح صدره للكفر بالقبول وطاب نفسه واختاره فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) اعلم ان الإكراه عبارة عن حمل الغير على فعل يكرهه وذلك على نوعين أحدهما ما ينتفى به رضاه ولا يفسد اختياره كالاكراه بالضرب او الحبس ثانيهما ما يكون ملجيا يفسد اختياره كالاكراه بالقتل او قطع العضو ويشترط فى كلا القسمين من الإكراه قدرة المكره على ما يهدد به وان يغلب على ظن المكره انه يفعله به فالقسم الاول من الإكراه غير مراد بالآية وغير مؤثر أصلا الا فى البيع والشراء والاجارة والاستيجار والإقرار ونحو ذلك فمن اكره على بيع ماله او على شراء سلعة او على ان يقرّ لرجل بألف او يؤاجر داره او يستأجر فالمكره بالخيار ان شاء امضى العقد بعد زوال الإكراه وان شاء فسخه لان هذه العقود تحتمل الفسخ واشترط لصحتها التراضي بقوله تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وقد فات الرضاء بالإكراه فان شاء أجاز وان شاء فسخ فان قبض الثمن طوعا فقد أجاز البيع- والمراد بالآية هو القسم الثاني فقد اجمع العلماء على انه من اكره على الكفر اكراها ملجيا يجوز له ان يتلفظ بما اكره عليه مطمئنّا قلبه بالايمان بهذه الاية وقصة عمار فلا يكفر بالتلفظ من غير اعتقاد ولم تبن منه امرأته- وان ابى ان يقوله كان أفضل لقصة أبوي عمار وقد مر- وقصة خبيب وزيد بن الدثنة وعبد الله بن طارق
377
انهم اختاروا القتل على الارتداد- ذكر اصحاب السير فى سرية الرجيع ان خبيبا حين قتل صلى ركعتين وروى البخاري عن ابى هريرة انه أول من سنّ الركعتين عند القتل انتهى- فلما صلى الركعتين جعلوه على الخشبة ثم وجهوه الى المدينة وأوثقوه رباطا ثم قالوا ارجع عن الإسلام نخلّ سبيلك قال والله ما أحب انى رجعت عن الإسلام وانّ لى ما فى الأرض جميعا قالوا افتحب ان محمّدا مكانك وانك جالس فى بيتك قال لا والله ما أحب ان يشاك محمّد ﷺ شوكة وانا جالس فى بيتي فجعلوا يقولون ارجع خبيب فقال لا ارجع ابدا قالوا لئن لم ترجع لقتلناك قال ان قتلى فى الله لقليل روى البخاري عن ابى هريرة ان خبيبا... حين قتل قال «١» أبياتا منها قوله شعر
فلست أبالي حين اقتل مسلما... على اىّ شق كان فى الله مصرعى
وذلك فى ذات الإله وان يشاء... يبارك فى أوصال شلو ممزع
ذكر ابن عقبة ان زيدا وخبيبا قتلا فى يوم واحد وان رسول الله ﷺ سمع يوما قتلا وهو يقول وعليكما السلام واخرج ابن ابى شيبة عن الحسن مرسلا وعبد الرزاق فى تفسيره عن معمر مفصلا ان مسيلمة أخذ رجلين فقال «٢» لواحد ما تقول فى محمّد فقال رسول الله فقال ما تقول فىّ فقال أنت ايضا وقال للاخر ما تقول فى محمّد فقال رسول الله فقال ما تقول فىّ قال انا اصمّ فاعاد عليه ثلاثا فاعاد جوابه فقتله فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال اما الاول فقد أخذ برخصة الله واما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له- (مسئلة) ومن اكره على إتلاف مال مسلم وسعه ان يفعل ذلك لان مال الغير يستباح للضرورة كما فى حالة المخمصة وقد تحققت- ولصاحب المال ان يضمن المكره (بالكسر) لان المكره (بالفتح) فمعز الدولة له فيما يصلح فمعز الدولة له والاتلاف من هذا القبيل- (مسئلة) وان اكره على قتل غيره لم يسعه ان يقدّم عليه ويجب ان يصبر حتّى يقتل فان قتله كان اثما لان قتل المسلم لا يستباح لضرورة ما فكذا لهذا الضرورة واختلف العلماء فى القصاص هل هو على المكره او المكره ولا يسع المقام للكلام فيه- (مسئلة) وان اكره على ان يأكل الميتة او يشرب الخمر جاز له ان يقدم على ما اكره عليه اجماعا- واختلفوا فى انه ان صبر ولم يأكل حتّى قتل هل يجوز له ذلك أم لا
(١) وفى الأصل قال حين قتل قال
(٢) فى الأصل فقال ما تقول فى محمّد ص
378
فقال ابو حنيفة يجب عليه أكله ولا يسعه ان يصبر كما لو اكره على أكل شيء مباح يجب عليه أكله فان صبر وقتل اثم لانه صار معاونا للمكره فى إتلاف نفسه بلا ضرورة وعن ابى يوسف انه لا يأثم وهو أصح قولى الشافعي لانه رخصة لا اباحة لان الحرمة قائمة فيكون أخذا بالعزيمة وقال ابو حنيفة حالة الاضطرار مستثناة بقوله إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وهو تكلم بالباقي بعد الثّنيا فلا محرم فكان اباحة لا رخصة فصار الميتة حينئذ مباحا كالزكية بخلاف أكل مال الغير فانه لو صبر ولم يأكل حتّى قتل كان ماجورا اجماعا لان الحرمة هناك قائمة فمن هاهنا ظهران الإكراه لا يزيل الخطاب حتّى يباح مرة ويفترض ويحرم اخرى فلاجل ذلك قال ابو حنيفة رحمه الله كل تصرف ينسحب حكمه على التلفظ ولا يتوقف على الرضاء يترتب عليه حكمه ان فعل مكرها وهى عشرة تصرفات النكاح والطلاق والرجعة والإيلاء والفيء والظهار والعتاق والعفو عن القصاص واليمين والنذر وبه قال الشعبي والنخعي والثوري- وقال مالك والشافعي واحمد لا يترتب الحكم على شيء من تصرفات المكره محتجين بحديث عائشة قالت سمعت رسول الله ﷺ يقول لاطلاق ولاعتاق فى إغلاق- رواه احمد وابو داود وابن ماجة والحاكم وابن الجوزي وابو يعلى والبيهقي من طريق صفية بنت عثمان عن شيبة عنها صححه الحاكم وفى اسناده محمّد بن عبيد المكي ضعفه ابو حاتم الرازي- وجه الاحتجاج انه قال ابن الجوزي قال قتيبة الاغلاق الإكراه على الطلاق والعتاق وهو من أغلقت الباب كانّ المكره اغلق حتّى يفعل قال الحافظ وهو قول الخطابي وابن السيد- ويرد عليه ان فى تفسير الاغلاق اختلافا فقد قيل كما ذكر ابن الجوزي وقيل الاغلاق الجنون فان المجنون مستور عليه كانه اغلق عليه- وقيل الغضب وقع ذلك فى سنن ابى داود وكذا فسره احمد لكن تفسيره بالغضب غير مرضى رده ابن السيد وقال لو كان كذلك لم يقع على أحد طلاق لان أحدا لا يطلق حتّى يغضب- وبحديث الحسن عن النبي ﷺ ان الله عزّ وجلّ غفر لكم عن الخطاء والنسيان وما استكرهتم عليه- رواه ابن الجوزي ولا يجوز الاحتجاج بهذا الحديث فى هذه المسألة لانه لا يدل الا على مغفرة ما فعله مكرها من المعاصي ولا يدل على عدم ترتب الاحكام الدنيوية على ما فعله مكرها- وقد يحتج فى المسألة
379
بما رواه الطبراني عن ثوبان قال قال رسول الله ﷺ رفع عن أمتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه- وكذا روى من حديث ابى الدرداء قال الحافظ فى اسنادهما ضعف وروى ابن ماجة وابن حبان والدار قطنى والطبراني والبيهقي والحاكم فى المستدرك من حديث الأوزاعي فقيل عنه عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس- وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ولم يذكر عبيد بن عمير- وللوليد اسنادان آخران روى عن محمّد بن المصفى عنه عن مالك عن نافع عن ابن عمرو عن ابن لهيعة عن موسى بن داؤد عن عقبة بن عامر قال ابن ابى حاتم سالت ابى عنها فقال هذه الأحاديث منكرة كانها موضوعة وقال عبد الله بن احمد سالت ابى عنه فانكره جدّا- ورواه ابن ماجة من حديث ابى ذر وفيه شهر بن حوشب وفى الاسناد انقطاع ايضا- فلو صح هذا الحديث- فالجواب عنه ان الحديث ليس على ظاهره إذ لا معنى لرفع الخطاء والنسيان فان ما وجد من الافعال خطأ او نسيانا فهى واقعة لا محالة فالمعنى رفع عن أمتي اثم الخطاء والنسيان ولا يجوز تقدير الحكم الّذي يعم احكام الدنيا والاخرة إذ لا عموم للمقتضى- فالمراد اما احكام الدنيا واما حكم الاخرة والإجماع على ان حكم الاخرة وهو رفع المؤاخذة مراد فلا يراد الاخر معه وإلا عمم كذا قال ابن همام- واحتج ابن الجوزي ايضا بما روى ان رجلا على عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه بدلى يسار علا فاقبلت امرأته فجلست على الجبل فقالت ليطلقها ثلاثا والا قطعت الجبل عليه فذكرها الله والإسلام فابت فطلقها ثلاثا ثم خرج الى عمر بن الخطاب فذكر ذلك له فقال ارجع الى أهلك فليس هذا بطلاق-
واحتج ابو حنيفة رحمه الله بأحاديث منها حديث ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة- رواه ابو داود والترمذي وابن ماجة واحمد والحاكم والدار قطنى قال الترمذي حسن وقال الحاكم صحيح- قال ابن الجوزي فيه عطاء بن عجلان متروك الحديث قال الحافظ ابن حجر وهم ابن الجوزي حيث قال هو عطاء بن عجلان وهو متروك بل هو عطاء بن ابى رباح صرّح له فى رواية ابى داؤد والحاكم لكنه من رواية عبد الرّحمن بن جبير وهو مختلف فيه قال النسائي منكر الحديث ووثقه غيره فهو على هذا حسن فان قيل الإكراه لا يجامع الاختيار الّذي يعتبر به التصرف الشرعي
380
بخلاف الهازل لانه مختار فى التكلم بالطلاق غير راض بحكمه فيقع طلاقه فلا وجه للاستدلال بهذا الحديث على طلاق المكره قلنا كذلك المكره مختار فى التكلم اختيارا كاملا الا انه غير راض بالحكم لانه عرف الشرّين فاختارا هونهما عليه غير انه محمول على اختياره ذلك قال ابن همام لا تأثير لكونه محمولا على اختياره فى نفى الحكم يدل عليه حديث حذيفة وأبيه حين حلّفهما المشركون فقال لهما «١» النبي ﷺ نفى لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم فبيّن ان اليمين طوعا وكرها سواء فعلم ان لا تأثير للاكراه فى نفى الحكم المتعلق بمجرد اللفظ عن اختيار بخلاف البيع لان حكمه يتعلق باللفظ وما يقوم مقامه مع الرضاء وهو منتف بالإكراه- ومنها حديث ابى هريرة كل طلاق جائز الإطلاق المعتوه المغلوب على عقله رواه الترمذي وقال الترمذي لا نعرفه الا من حديث عكرمة بن خالد عن ابى هريرة والا من رواية عطاء بن عجلان عن عكرمة بن خالد وعطاء ضعيف ذاهب الحديث ومنها حديث صفوان بن الأصم عن رجل من اصحاب النبي ﷺ ان رجلا كان نائما مع امرأته فقامت فاخذت سكينا وجلست على صدره ووضعت السكين على حلقه وقالت»
له طلقنى او لاذبحنك فناشدها الله فابت فطلقها ثلاثا فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال لا قيلولة فى الطلاق- قال ابن الجوزي قال البخاري صفوان بن الأصم عن بعض اصحاب النبي ﷺ فى المكره حديث منكر لا يتابع عليه وذكر ابن همام عن عمر انه قال اربع مبهمات معضلات ليس فيهن رديد النكاح والطلاق والعتاق والصدقة- قلت الظاهر ان حجة ابى حنيفة راجحة ولو سلمنا التعارض فالمصير الى القياس والقياس يقتضى وقوعها كما ذكرنا والله اعلم-.
ذلِكَ الكفر بعد الايمان او الوعيد بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا اى بسبب انهم اثروا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الحيوة الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ وبسبب ان الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) فى علمه الى ما يوجب الثبات على الايمان ولا يعصمهم عن الزيغ ذكر الله سبحانه لاجل كفرهم وعذابهم سببين سبب ظاهرى وهو اختيارهم الكفر وعدم التدبر فى الآيات وسبب حقيقى
(١) وفى الأصل فقال لهما ﷺ [.....]
(٢) وفى الأصل وقال له
وهو عدم ارادة الله تعالى فيهم الهداية فالاية دليل على ان افعال العباد بين الجبر والقدر.
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فلا يدركون الحق حقّا وَسَمْعِهِمْ فلا يسمعون الحق سماع قبول وَأَبْصارِهِمْ فلا يبصرون الآيات نظر الاعتبار وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) الكاملون فى الغفلة حيث غفلوا عن صانعهم ولم يغفل عنه البهائم والجمادات.
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) حيث ضيعوا أعمارهم وصرفوها فيما افضى بهم الى العذاب المخلد ولم يكتسبوا شيئا ينجيهم من العذاب ويفضى بهم الى الفلاح بخلاف عصاة المؤمنين فانهم وان ضيعوا اكثر أعمارهم فى الشهوات والمعاصي لكنهم تشبثوا بالتوحيد حتّى ينجيهم من عذاب الله الى الجنة-.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا قرا العامة بضم الفاء وكسر التاء على البناء للمفعول اى منعوا من الإسلام وعذبوا- وثم لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك- اخرج ابن سعد فى الطبقات عن عمر بن الحاكم قال كان عمار بن ياسر يعذب حتّى لا يدرى ما يقول وكان صهيب يعذب حتّى لا يدرى ما يقول وكان ابو فكيهة يعذب حتّى لا يدرى ما يقول وبلال وعمار بن فهيرة وقوم من المسلمين وفيهم نزلت هذه الاية- وقال البغوي نزلت فى عياش بن ابى ربيعة أخي ابى جهل من الرضاعة وفى ابى جندل بن سهيل بن عمرو والوليد بن الوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبيد الله بن أسيد الثقفي فتنهم المشركون فاعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم وهاجروا الى المدينة ثُمَّ جاهَدُوا مع النبي ﷺ الكفار وَصَبَرُوا على الايمان والطاعات والجهاد والمشاق وعن المعاصي وقال الحسن وعكرمة نزلت الاية فى عبد الله بن سعد بن ابى سرح وكان يكتب للنبى ﷺ فاستزله الشيطان فلحق بالكفار فامر النبي ﷺ بقتله يوم فتح مكة فاستجار له عثمان وكان أخاه لامه فاجاره رسول الله ﷺ ثم انه اسلم وحسن إسلامه فانزل الله هذه الاية- وقرا ابى عامر الّذين هاجروا
من بعد ما فتنوا بفتح الفاء والتاء على البناء للفاعل يعنى هاجروا بعد ما كفروا وعذبوا المؤمنين نزلت فى عامر الحضرمي اكره مولاه جبرا وعذبه حتّى ارتد ثم اسلم عامر وحسن إسلامه واسلم جبر حيث كان ارتداده مكرها وهاجروا جميعا ثم جاهدوا الكفار مع النبي ﷺ وصبروا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها اى بعد الهجرة والجهاد والصبر لَغَفُورٌ لما فعلوا قبل ذلك رَحِيمٌ (١١٠) ينعم عليهم فى الدنيا والاخرة على ما صنعوا بعد ذلك خبر انّ الاولى محذوف دل عليه خبر انّ الثانية او يقال إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها تأكيد لفظى لما سبق.
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ منصوب برحيم او با ذكر تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها يعنى تسعى كل نفس فى خلاصها لا يهمها شأن غيرها فالكافر يقول رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا... رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا... وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ... فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً والمؤمن يقول رب أسئلك نفسى نفسى لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ- اخرج ابن جرير فى تفسيره عن معاذ قال سئل رسول الله ﷺ من اين يجاء بجهنم يوم القيامة قال يجاء بها من الأرض السابعة لها الف زمام لكل زمام سبعون الف ملك تسبح فاذا كانت من العباد مسيرة الف سنة زفرت زفرة فلا يبقى ملك مقرب ولا نبى مرسل الا جثى على ركبتيه يقول رب نفسى نفسى- وقال البغوي وروى ان عمر بن الخطاب قال لكعب الاخبار خوّفنا قال يا أمير المؤمنين والّذي نفسى بيده لو وافيت القيامة بمثل عمل سبعين نبيا لاتت عليك تارات وأنت لا يهمك الا نفسك وان لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرب ولا نبى منتخب الا وقع جاثيا على ركبتيه حتّى ابراهيم خليل الرّحمن يقول يا رب لا أسئلك الا نفسى وتصديق ذلك فى الّذي انزل الله عليكم يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها- وروى عكرمة عن ابن عباس فى هذه الاية قال ما نزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتّى يخاصم الروح الجسد فيقول الروح يا رب لم يكن لى يد ابطش بها ولا رجل امشى بها ولا عين ابصر بها ويقول الجسد خلقتنى كالخشب ليس لى يد ابطش بها ولا رجل امشى بها ولا عين ابصر بها فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لسانى وأبصرت عينى ومشت رجلى قال فضرب الله لهما مثل أعمى ومقعد دخلا حائطا فيه ثمار فالاعمى
لا يبصر الثمر والمقعد لا يناله فحمل الأعمى المقعد فاصابا من الثمر فعليهما العذاب- أضيف النفس الى النفس فى قوله تعالى فى نفسها لانه يقال لعين الشيء وذاته نفسه ولنقيضه غيره كانه قال يوم تجادل كل أحد عن ذاته وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ اى كل أحد جزاء ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) اى لا ينقصون أجورهم-.
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً اى جعل الله قرية كما وصف مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فابطرتهم النعمة فكفروا فانزل به نقمته- فيجوز انه تعالى أراد بها قرية مقدرة على هذه الصفة او قرية من قرى الأولين قد كان بهذه الصفة فضربها مثلا لمكة انذارا من مثل عاقبتها- وقال البغوي أراد بالقرية «١» مكة فعلى هذا معنى الاية جعل الله تعالى مكة بحال يضرب بها مثلا لغيرها فانها كانَتْ آمِنَةً لا يهاج أهلها ولا يغار عليها مُطْمَئِنَّةً قارة باهلها لا يحتاجون الى الانتقال لضيق او خوف كما يحتاج اليه سائر العرب يَأْتِيها رِزْقُها أقواتها رَغَداً واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من نواحيها من البحر والبر فَكَفَرَتْ أهلها بِأَنْعُمِ اللَّهِ اى بنعمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وادرع او جمع نعم كبؤس وابؤس فَأَذاقَهَا اى أذاق أهلها اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ استعار الذوق لادراك اثر الضرر واللباس لما اشتمله من اثر الجوع والخوف وهو الهزال وتغير اللون وأوقع الا ذاقة عليه بالنظر الى المستعار له بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) من الكفر والكفران- قال البغوي ابتلى الله اهل مكة بالجوع سبع سنين وقطعت العرب عنهم الميرة بامر رسول الله ﷺ حتّى جهدوا فاكلوا العظام المحرقة والجيف والكلاب الميتة والعلهز «٢» وهو الوبر يعالج بالدم حتّى كان أحدهم ينظر الى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع ثم ان رؤساء مكة كلموا رسول الله ﷺ وقالوا هذا عاديت الرجال فما بال النساء
(١) عن سليم بن عمر قال صحبت حفصة زوج النبي ﷺ وهى خارجة من مكة الى المدينة فاخبرت ان عثمان قد قتل فرجعت وقالت ارجعوا بي فو الّذي نفسى بيده انها للبقرية الّتي قال الله قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً الاية ١٢ ازالة الخفا- منه رح
(٢) وهو شيء يتخذونه فى سنى المجاعة يخلطون الدم باوبار الإبل ثم يشوّونه بالنار ويأكلون وقيل يخلطون فيه القردان ويقال للقرار الضخم علهز وقيل العلهز شيء ينبت فى ديار سليم نهايه- منه رح
والصبيان فاذن رسول الله ﷺ للناس بحمل الطعام إليهم وهم بعد مشركون- قلت السورة مكية وانما أذاق الله اهل مكة الجوع إذا قحطوا سبع سنين والخوف من سرايا رسول الله ﷺ بعد الهجرة فاما ان يقال بنزول هذه الآيات بعد الهجرة واما ان يقال بالتوجيه الاول يعنى ان المراد قرية غير مكة ضربها الله مثلا لاهل مكة انذارا لاهلها من مثل عاقبتها فلما لم يعتبروا به ولم يسمعوا ما ضرب الله لهم من المثل عوقبوا بمثل ما عوقب به أولئك.
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ يعنى محمّدا ﷺ والضمير لاهل مكة عاد الى ذكرهم يعد ما ذكر مثلهم فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) اى حال التيامهم بالظلم والمراد بالعذاب ما أصابهم من الجدب الشديد او وقعة بدر وهذه الاية ايضا تدل على كون نزولها بعد الهجرة- ويمكن ان يقال ان قوله وَلَقَدْ «١» جاءَهُمْ فى محل النصب على الحال من فاعل كفرت او مستأنفة لبيان حال تلك القرية الّتي ضرب بها المثل والمراد بالرسول الرسول المبعوث الى تلك القرية-.
فَكُلُوا ايها المؤمنون الذين أنجاهم الله من الكفر وهداهم للايمان بمحمّد ﷺ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ يعنى نبوة محمّد ﷺ وما أنعم عليهم فى الدنيا إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) دون غيره- امر الله سبحانه بأكل ما أحل الله سبحانه وشكر ما أنعم الله عليهم بعد ما زجر وهدّد على الكفر وذكر من التمثيل والعذاب الّذي حلّ بكفار قومهم صدّا لهم عن صنيع الجاهلية ومذاهبها الفاسدة وقيل المخاطبون بهذا الكلام هم المخاطبون بما سبق أمرهم يأكل ما أحل لهم وشكر ما أنعم عليهم بعد ما زجرهم عن الكفر وهدّدهم عليه والمعنى ان كنتم إياه تعبدون فى زعمكم كانوا يزعمون انا نعبد الله وحده والأصنام شفعاؤنا عند الله.
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اى السنة قومكم من الكفار
(١) وفى الأصل ولقد جاءت-
الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ كما قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا الاية وقالوا بتحريم البحائر والسوائب ونحوها والحصر المستفاد من سياق الكلام وتصدير الجملة بانما حصر إضافي بالنسبة الى ما قالت الكفار بتحريمها فلا مرد لتحريم ما ثبت حرمتها بالأحاديث الصحيحة وقد بسطنا الكلام فيها فى سورة المائدة والله اعلم- الكذب منصوب بلا تقولوا اى لا تقولوا الكذب لما تصفه السنتكم من البهائم بالحل او الحرمة على خلاف ما هى عليه من غير استناد ذلك الوصف الى علة موجبة للحل او الحرمة من الله تعالى- وقوله هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ بدل من الكذب او متعلق بتصف وما مصدرية اى لا تقولوا هذا حلل وهذا حرام لوصف السنتكم الكذب اى لا تحلوا ولا تحرموا بمجرد قول ينطق به السنتكم من غير دليل ووصف الالسنة بالكذب مبالغة فى وصف كلامهم بالكذب كانّ حقيقة الكذب كانت مجهولة وألسنتهم تصفها وتعرفها بكلامهم ولذلك عد من فصيح الكلام كقولهم وجهها يصف الجمال وعينها تصف السحر لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ان الله حرم لهذا واللام لتعليل لا يتضمن الغرض إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ «١» لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدا محذوف اى ما هم فيه متاع اى منفعة قليلة تنقطع عن قريب يفترون لاجله او مبتدا خبره محذوف يعنى لهم متاع قليل فى الدنيا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) فى الاخرة لاجل افترائهم-.
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ هذا فى سورة الانعام بقولنا وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وقوله من قبل متعلق بقصصنا او بحرمنا وَما ظَلَمْناهُمْ بتحريم بعض الطيبات وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ببغيهم فعوقبوا بتحريمها فيه تنبيه على ان التحريم قد يكون للمضرة فى الفعل والمصلحة فى الترك وقد يكون للعقوبة.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
(١) عن ابى النضرة قال قرأت هذه الاية فى سورة النحل وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ فلم ازل أخاف الفتيا الى يومى هذا- وعن ابن مسعود قال عسى رجل ان يقول ان الله امر بكذا ونهى عن كذا فيقول الله كذبت او يقول ان الله حرم كذا وأحل كذا فيقول الله له كذبت ١٢ ازالة الخفا- منه رح-
لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ اى بسببها او متلبسين «١» بها ليعم الجهل بالله وبعقابه وعدم التدبر فى العواقب لغلبة الشهوة والسوء يعم الكفر والمعاصي ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا العمل إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها اى بعد التوبة لَغَفُورٌ لذلك السوء رَحِيمٌ (١١٩) يثيب على الانابة-.
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قال فى القاموس الامة بالضم الرجل الجامع للخير والامام ومن هو على الحق ومخالف لسائر الأديان والنشاط والطاعة والعالم وغير ذلك من المعاني ذكرت منها ما يناسب المقام- وكان ابراهيم عليه السلام رجلا جامعا لفضائل لا تكاد توجد فى اشخاص كثيرة- وجعله الله اماما للناس وكان هو على الحق مؤمنا وحده مخالفا لسائر الأديان إذ كان حينئذ سائر الناس كفارا- وكان متصفا بالنشاط والطاعة فكان نشاطا وطاعة على طريقة زيد عدل وكان عالما بالله وأحكامه- قال ابن مسعود كان معلما للخير يأتم به اهل الدنيا- فهو فعلة بمعنى المفعول كالرحبة من امّه إذا قصده- وقال مجاهد كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار قانِتاً لِلَّهِ اى مطيعا لله قائما باوامره حَنِيفاً مائلا من الباطل وقيل مستقيما على دين الإسلام وقيل مخلصا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) رد لما زعمت قريش انهم على دين ابراهيم.
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ذكر بلفظ القلة للتنبيه على انه لم يترك الشكر على القليل من النعم فكيف على الكثير اجْتَباهُ الله وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) الى دين الإسلام ودعوة الخلق الى الله.
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعنى الرسالة والخلة قال المجدد رضى الله عنه المراد بها الخلة فان كل أحد يظهر على خليله كل سر له بمحبه او محبوبه- ولاجل ذلك طلب رسول الله ﷺ صلوة مثل الصلاة عليه فقال اللهم صل على محمّد وال محمّد كما صليت على ابراهيم وال ابراهيم- ولمّا كان رسول الله ﷺ مرتقيا الى أعلى درجات المحبوبية الصرفة لم يتركه المحبوبية ان يستقر فى مقام الخلة وان كانت فى الطريق لكونها أسفل وأحط مرتبة من المحبوبية الصرفة
(١) وفى الأصل ملتبسين-
ولكن أراد رسول الله ﷺ ان يعطيه الله تعالى استقرار ذلك المقام علاوة على مقامه- ولمّا لم يتصور ذلك لما ذكرنا من المحبوبية أعطاه الله ذلك المقام بان اعطى لفرد من افراد أمته بطفيل اتباعه وهو المجدد للالف الثاني الشيخ احمد السرهندى قدسنا الله تعالى بسره- وذلك ان كل كمال للتابع فهو كمال لمتبوعه لانه كالجزء من كماله وحاصل بمتابعته فالله سبحانه أجاب دعوته ﷺ بعد الف سنة من هجرته حتّى تم دولته وسلطانه كما يتم دولة السلاطين بفتح بعض امرائه القلاع المغلقة بسطوته وقهرمانه صلى الله تعالى عليه واله واتباعه كما صلى على ابراهيم واله واتباعه- وقيل هى اللسان الصدق والثناء الحسن فان جميع اهل الأديان يثنون عليه- وقال مقاتل بن حبان يعنى الصلاة عليه فى قول هذه الامة اللهم صل على محمّد وال محمّد كما صليت على ابراهيم وقيل أولادا أبرارا على الكبر وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) اى من الأنبياء المعصومين فان كمال الصلاح بالعصمة ومقتضى العصمة فى الاخرة بقاء ثواب كل حسنة بلا احتمال حبط شيء منها وذلك مختص بالمعصومين فان من عمل سيئة صغيرة او كبيرة يحتمل ذهاب بعض حسناته فى مقابلة تلك السيئة فى الميزان ان لم يتداركه رحمة الله ومغفرته كانّ هذه الاية بيان لاستجابة دعوته حيث قال أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ-.
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً فى التوحيد والدعوة الى الله بالرفق وإيراد الدلائل مرة بعد اخرى والمجادلة مع كل أحد على حسب فهمه وفى التوجه الى قبلته فى الصلاة والتشرع بشرائع دينه وهذه الجملة من تتمة ما أنعم الله على ابراهيم على قنوته وشكره على ما أنعم الله عليه- وفى كلمة ثم تعظيم لمنزلة نبينا ﷺ وإجلال محله والإيذان بان اشرف ما اوتى خليل الله من الكرامة اتباع رسولنا ملته صلى الله عليهما وسلم (فائدة) امر الله تعالى رسولنا ﷺ باتباع ملة ابراهيم عليه السلام لان نبينا ﷺ كان شائقا لمرتبة الخلة وكان كثير المحبة به عليه السلام يدل عليه قوله تعالى قَدْ نَرى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها
قال البغوي كان النبي ﷺ مامورا بشريعة ابراهيم عليه السلام الا ما نسخ فى شريعته وما لم ينسخ صار شرعا له وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) كرر هذا ردّا على زعم اليهود والنصارى واهل مكة انهم على دينه-.
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ يعنى انما جعل تعظيم السبت وتحريمه والتخلي فيه للعبادة مفروضة عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعنى خالفوا فيه نبيهم- قال الكلبي أمرهم موسى عليه السلام بالجمعة وقال تفرغوا لله فى كل سبعة ايام يوما فاعبدوه يوم الجمعة ولا تعملوا فيه لصنعتكم وستة ايام لصناعتكم- قالوا لا نريد الا اليوم الّذي فرغ الله فيه من الخلق يوم السبت- فجعل الله ذلك اليوم عليهم وشدد عليهم- ثم جاءهم عيسى عليه السلام بيوم الجمعة فقالوا لا نريد ان يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد- فاعطى الله الجمعة هذه الامة فقبلوها وبورك لهم فيها- روى الشيخان فى الصحيحين من حديث ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد انهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم- ثم هذا يومهم الله فرض عليهم يعنى الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا له والناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد- وروى البغوي هذا الحديث وزاد فى آخره قال الله تعالى إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ- وفى رواية لمسلم عنه وعن حذيفة نحوه وقالا فى اخر الحديث نحن الآخرون من اهل الدنيا الأولون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق- وقيل معنى الاية ما فرض الله تعظيم السبت وتحريمه الأعلى الذين اختلفوا فيه يعنى اليهود فقال قوم هو أعظم الأيام لان الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثم سبت يوم السبت- وقال قوم بل أعظم الأيام يوم الأحد لان الله ابتدا فيه خلق الأشياء فاختاروا تعظيم غير ما فرض عليهم- وقد افترض الله عليهم تعظيم يوم الجمعة وقيل معنى الاية انما جعل السبت لعنة ومسخا على الذين اختلفوا فيه قال قتادة هم اليهود استحله بعضهم يعنى اصطادوا فيه السمك وحرّمه
بعضهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) بالمجازاة على الاختلاف فيجازى كل فريق بما يستحقه-.
ادْعُ الناس يا محمّد إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ اى الى الإسلام بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ يعنى بالقران الّذي هو محكم المقالات لا يتطرق اليه الطعن والمعارضة وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهات وهو الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب وقيل الموعظة الحسنة هى القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعسف وَجادِلْهُمْ اى خاصم الناس وناظرهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ اى بالخصومة الّتي هى احسن الخصومات وهى المناظرة على وجه لا يتطرق اليه طغيان النفس ولا وسواس الشيطان بل يكون خالصا لوجه الله وإعلاء كلمته إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) يعنى انما عليك البلاغ والدعوة واما حصول الهداية والمجازاة عليها وعلى الضلالة فلا إليك بل الله اعلم بالضالين والمهتدين وهو المجازى لهم والله اعلم- روى الحاكم عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما قال فقد رسول الله ﷺ حمزة حين فاء الناس من القتال يوم أحد فقال رجل رايته عند تلك الصخرة وهو يقول انا اسد الله واسد رسوله اللهم ابرأ إليك مما جاء به هؤلاء يعنى أبا سفيان وأصحابه واعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم- فجاء رسول الله ﷺ نحوه فلما راى جثته بكى فلما راى ما مثل به شهق ثم قال الا كفن فقام رجل من الأنصار فرمى بثوبه عليه ثم قام اخوه فرمى بثوبه عليه فقال يا جابر هذا الثوب لابيك وهذا العمى- وقال ﷺ رحمة الله عليك فانك كنت كما علّمتك فعولا للخيرات وصولا للرحم- لولا ان تحزن صفية وفى لفظ نساؤنا وفى لفظا ولا حزن ما بعدك عليك وتكون سنة من بعدك لتركتك حتّى تحشر فى بطون السباع وحواصل الطير- ثم قال ابشروا جاءنى جبرئيل فاخبرنى ان حمزة مكتوب فى اهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب اسد الله واسد رسوله- وقال لان ظفرنى الله تعالى على قريش فى موطن
من المواطن لامثلن بسبعين منهم مكانك- فلمّا راى المسلمون حزن رسول الله ﷺ وغيظه على من فعل بعمه ما فعل قالوا والله لان ظفرنا الله تعالى يوما بهم من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب- قال ابو هريرة كما رواه ابن سعد والبزار وابن المنذر والبيهقي فى الدلائل والحاكم فنزل جبرئيل (والنبي ﷺ واقف) بخواتيم سورة النحل.
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ العقوبة والعقاب هو جزاء السيئة وانما سمى الفعل الاول عقوبة وانما هى الثانية لازدواج الكلام كما فى قوله تعالى وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها مع ان الثانية ليست بسيئة والمعنى لا تجاوزوا فى جزاء السيئة عن المماثلة وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ عن الانتقام والمعاقبة لَهُوَ اى الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) من الانتقام وضع المظهر موضع المضمر والتقدير فهو خير لكم ثناء من الله عليهم بانهم صابرون على الشدائد- حث الله سبحانه على العفو تعريضا بقوله وَإِنْ عاقَبْتُمْ وتصريحا على الوجه الاكد بقوله وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ الاية- ثم صرح بالعفو لرسوله ﷺ لانه اولى الناس به لوفور علمه ووثوقه عليه فقال.
وَاصْبِرْ على أذى الكفار وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ اى بتوفيقه واعانته وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ اى على الكافرين او على المؤمنين وما فعل بهم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ اى ضيق صدر مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) اى الكفار بالمؤمنين يعنى لا تهتم بمكرهم فانا ناصرك عليهم وعلينا جزاؤهم- قرا ابن كثير هاهنا وفى النمل ضيق بكسر الضاد والباقون بالفتح فى الموضعين وهما لغتان كالقول والقيل- وقال ابو عمرو الضيق بالفتح الغم وبالكسر الشدة وقال ابو عبيدة الضيق بالكسر قلة فى المعاش والمساكن فاما ما كان فى القلب والصدر فانه بالفتح وهذان القولان يأبى عنهما كتاب الله فان القرائتين متواترتان والمراد انما هو الغم فالصحيح ما قالوا انهما لغتان بمعنى- وقال ابو قتيبة الضيق بالفتح تخفيف ضيّق مثل هين وهيّن ولين وليّن فعلى هذا هو صفة كانه قال فلا تكن فى امر ضيّق من مكرهم.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا المعاصي وَالَّذِينَ هُمْ
391
مُحْسِنُونَ (١٢٨) فى أعمالهم او مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الله بتعظيم امره وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ بالشفقة على خلقه- او مع الّذين اتّقوا العدوان فى المعاقبة وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ الى الناس بالعفو فالله معهم بالولاية والفضل والعون والنصر «١» معية ذاتية لا كيف لها- قال ابو هريرة فى الحديث المذكور الّذي رواه ابن سعد وغيره فكفّر النبي ﷺ عن يمينه وامسك عن الّذي أراد وصبر يعنى لما نزلت لهذه الآيات- وروى ابن المنذر والطبراني والبيهقي عن ابن عباس نحو ما روى عن ابى هريرة رضى الله عنهم فى شأن نزول الاية- وقد ذكرنا فى صدر السورة رواية ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء فى نزول الاية نحوه- وروى الترمذي وحسنه وعبد الله بن الامام احمد فى زوائد المسند والنسائي وابن المنذر وابن خزيمة وابن حبان والضياء فى صحيحيهما عن أبيّ بن كعب رضى الله عنه قال لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار اربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم- فقالت الأنصار لان أصبنا منهم يوما مثل هذا لنرثينّ عليهم- فلما كان فتح مكة انزل الله تعالى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ «٢» خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فقال رسول الله ﷺ نصبر ولا نعاقب كفوا عن القوم الا اربعة- وقال البغوي نزلت الاية فى شهداء أحد وذلك ان المسلمين لما راوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد من تبقير البطون والمثلة السيئة حتّى لم يبق أحد من قتلى المسلمين الأمثل به- غير حنظلة بن الراهب غسيل الملائكة فان أباه أبا عامر الراهب (قلت الّذي سماه رسول الله ﷺ أبا عامر الفاسق) كان مع ابى سفيان فتركوا حنظلة لذلك- فقال المسلمون حين راوا ذلك لان أظهرنا الله عليهم لنزيدن على صنيعهم ولنمثلنّ بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد- فوقف رسول الله ﷺ على عمه حمزة وقد جدعوا انفه واذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه- وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم اشترطتها لتأكلها فلم تلبث فى بطنها حتّى رمت بها- فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال اما انها لو اكلتها لم تدخل النار ابدا- حمزة أكرم على الله من ان يدخل شيئا من جسده النار- فلما نظر رسول الله ﷺ الى عمه حمزة نظر الى شيء لم ينظر الى شيء
(١) وفى الأصل ومعية ذاتية
(٢) وفى الأصل فهو-
392
قط كان أوجع لقلبه منه فقال ﷺ رحمة الله عليك أبا السائب فانك ما علمت ما كنت الا فعالا للخيرات وصولا للرحم ولولا حزن من بعدك عليك لسرّنى ان أدعك حتّى تحشر من أفواج شتى- اما والله لان ظفرنى الله بهم لامثلن منهم بسبعين مكانك فانزل الله تعالى هذه الآيات فقال ﷺ بل نصبر وامسك عما أراد وكفّر عن يمينه- (فائدة) حديث أبيّ بن كعب يدل على تأخر نزول الآيات الى الفتح وفى حديث ابى هريرة وابن عباس وعطاء بن يسار رضى الله عنهم نزولها بأحد- وجمع ابن الحصار بانها نزلت اولا بمكة ثم ثانيا بأحد ثم ثالثا بعد الفتح تذكيرا من الله لعباده- قال البغوي قال ابن عباس والضحاك رضى الله عنهم كان حكم هذه الاية قبل نزول براءة حين امر النبي ﷺ بقتال من قاتله ومنع من الابتداء بالقتال فلما أعز الله الإسلام واهله ونزلت براءة وأمروا بالجهاد نسخت هذه الاية- وقال النخعي والثوري والسدى ومجاهد وابن سيرين رحمهم الله الاية محكمة نزلت فيمن ظلم بظلامة فلا يحل له ان ينال من ظالمه اكثر مما نال الظالم منه امر بالجزاء او العفو ومنع من الاعتداء مسئلة المثلة لا يجوز اجماعا روى ابن إسحاق عن سمرة بن جندب رضى الله عنه قال ما قام رسول الله ﷺ فى مقام قط ففارقه حتّى امر بالصدقة ونهى عن المثلة- وقد روى فى النهى عن المثلة أحاديث كثيرة والله اعلم- تم تفسير سورة النحل من التفسير المظهرى (ويتلوه ان شاء الله تعالى تفسير سورة بنى إسرائيل) ثانى رجب من السنة الثانية بعد المائتين والف (سنة ١٢٠٢) من الهجرة والحمد لله والصلاة والسلام على رسوله واله وأصحابه أجمعين- تمت.
393
فهرس سورة بنى إسرائيل من التّفسير المظهرى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مضمون صفحه ما ورد فى الاسراء من المسجد الحرام او من بيت أم هانى- ٢٩٨ ما ورد فى الاسراء فى المنام- ٤٠٠ قصة انكار قريش ونعته ﷺ المسجد الأقصى- ٤٠٢ قصة إفساد بنى إسرائيل فى الأرض بالمعاصي ٤٠٤ وقتل شعيا وزكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم السلام ٤٠٤ وانتقامه تعالى منهم بان سلط عليهم بخت نصر وغيره- ٤١١ ما ورد فى إعطاء صحف الأعمال من تحت العرش بالايمان والشمائل- ٤٢١ مسئلة هل يثبت وجوب الشرائع قبل بعثة الأنبياء بالعقل قيل لا وجوب أصلا وقيل يجب التوحيد دون الأعمال- ٤٢١ حديث بعث النار من كل الف تسعمائة وتسعة وتسعين- ٤٢٢ ما ورد فى ان اهل الفترة ومن لم يبلغه دعوة الرسل يمتحنون فى الاخرة وتحقيق ذلك- ٤٢٢ فصل فى اقوال العلماء فى أطفال المشركين وما ورد من الأحاديث فيهم والإجماع على ان ذرارى المؤمنين فى الجنة والتحقيق فى هذا المقام- ٤٢٤ ما ورد فى حقوق الوالدين- ٤٣٠ فى إيتاء ذوى القربى- ٤٣٣ ما ورد فى التبذير والإمساك والافراط فى الانفاق- ٤٣٤ فى النهى عن قتل الأولاد- ٤٣٦ فى النهى عن الزنى- ٤٣٦ فصل فيما ورد فى القتل بغير حق- ٤٣٧ فى النهى عن اتباع ما لا علم له به وفى العمل بالادلة الظّنّيّة- ٤٣٩ ما ورد فى التواضع والنهى عن التفاخر والبغي والتكبر- ٤٤١ البحث فى تسبيح الجمادات وغيرها- ٤٤٣
394
مضمون صفحه ما ورد فى بعث المؤمنين من القبور حامدين وبعث الكفار قائلين يا حسرتى ونحو ذلك- ٤٤٧ حديث أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب الحديث- ٤٥١ بحث افضلية البشر على الملائكة- ٤٥٩ حديث تفضل صلوة الجمع على صلوة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا- ٤٦٦ ويجتمع ملائكة الليل والنهار فى صلوة الفجر- الأحاديث الواردة فى قيام الليل فى رمضان وغيره قبل ان ينام- ٤٦٦ مسئلة التهجد اخر الليل أفضل واكثر ثوابا منها أول الليل- ٤٦٧ مسئلة هل كانت التهجد فريضة على النبي ﷺ او نافلة ٤٦٧ والمختار انها كانت له نافلة وما يدل على ذلك- ٤٦٨ مسئلة التهجد من السنن المؤكدة- ٤٦٨ فصل كيف كان قيام رسول الله ﷺ حين يتهجد من الليل- ٤٦٨ ما ورد فى المقام المحمود والصحيح انه مقام للشفاعة ٤٧١ الأحاديث الواردة فى الشفاعة الكبرى- ٤٧١ شفاعة الاراحة من كرب الموقف ٤٧١ يكون للنبى ﷺ ثلاث شفاعات- ٤٧٥ مسئلة قالت الخوارج والمعتزلة لا شفاعة لاهل الكبائر وانهم مخلدون فى النار وقد بلغت الأحاديث فى ثبوت الشفاعة لهم الى حد التواتر- من أنكر الشفاعة فلا نصيب له فيها- ٤٧٧ فصل فى شفاعة غير نبينا ﷺ من الأنبياء وغيرهم- ٤٨٠ قال المجدد رضى الله عنه لصلوة التهجد مدخلا عظيما فى مقام الشفاعة- ٤٨١ ما ورد فى اقتضاء الاستعدادات وتحقيق معنى الاستعداد- ٤٨٤ ما ورد فى رفع القران من المصاحف والصدور قبل يوم القيامة وما ورد فى قبض العلم بقبض العلماء او بذهاب توفيق العمل بالعلم- ٤٨٨ يحشر الكفار يوم القيامة يمشون على وجوههم او يسحبون عليها- ٤٩٤
395
مضمون صفحه ما ورد فى حشر الكفار عميا وبكما وصمّا- ٤٩٤ وما ورد بخلاف ذلك ووجه التطبيق بينهما- ٤٩٤ بيان تسع بينات اوتى موسى ٤٩٦ استحباب البكاء من خشية الله ٥٠٠ ما ورد فى عين بكت من خشية الله وعين سهرت فى سبيل الله- ٥٠٠ قوله ﷺ لابى بكر ارفع صوتك قليلا فى القراءة فى صلوة الليل ولعمر اخفض قليلا- ٥٠٣ كيف كان قراءة رسول الله ﷺ يعنى فى الصلاة بالليل- ٥٠٣ حديث اية العز الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الاية- ٥٠٤ ما ورد فى فضل التحميد والتهليل والتسبيح والتكبير- ٥٠٤ حديث كان إذا افصح الولد من بنى عبد المطلب كان رسول الله ﷺ يعلمه قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الاية- ٥٠٤ تمت ٢٤ رمضان سنة ١٢٠٢ هـ.
396
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لانهم لا يخافون عقابا حتّى يردعهم عنه بخلاف المؤمنين وَأُولئِكَ اشارة الى الكفار او الى قريش هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) اى الكاذبون على الحقيقة لا غيرهم فان المؤمنين حينئذ كلهم كانوا صدوقا عادلين خير القرون- او الكاملون فى الكذب لان تكذيب آيات الله ورسوله المعصوم والطعن فيهما بهذه الخرافات بعد ما ظهر امره بالمعجزات أعظم الكذب- او الذين عادتهم الكذب لا يصرفهم عنه دين ولا مروة- او الكاذبون فى قولهم إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ- الجملة الفعلية تدل على انحصار صدور الافتراء عليهم والاسمية على كونها وصفا لازما لهم- روى البغوي بسنده عن عبد الله بن حراد قال قلت يا رسول الله المؤمن يزنى قال قد يكون ذلك قلت المؤمن يسرق قال قد يكون ذلك قلت المؤمن يكذب قال لا قال الله إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ- وروى احمد عن ابى امامة قال قال رسول الله ﷺ يطبع المؤمن على الخلال كلها الا الخيانة والكذب- ورواه البيهقي فى شعب الايمان عن سعد بن ابى وقاص- وروى مالك