تفسير سورة ص

جهود الإمام الغزالي في التفسير
تفسير سورة سورة ص من كتاب جهود الإمام الغزالي في التفسير .
لمؤلفه أبو حامد الغزالي . المتوفي سنة 505 هـ

﴿ فليرتقوا في الأسباب ﴾ : ارتقاء : صعود الأخس إلى الأشرف حتى ينتهي إلى واجب الوجود كما قال تعالى :﴿ وأن إلى ربك المنتهى ﴾.
﴿ الصافات الجياد ﴾ : الصفن : هو رفع إحدى الرجلين.
﴿ حتى توارت بالحجاب ﴾ : أراد الشمس.
﴿ مقرنين في الأصفاد ﴾ : الصفد : هو اقتران القدمين معا.
أخبر الله تعالى عن تعجبهم حين دخلوا جهنم إذ لم يروا الذين ازدروهم فقالوا :﴿ ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار ﴾ قيل : يعنون عمارا وبلالا وصهيبا والمقداد رضي الله عنهم.
نبه على أن الجسد منسوب إلى الطين، والروح إلى رب العالمين، والمراد بالروح والنفس في هذا المقام واحد.
نبه على أن الإنسان مخلوق من جسم مدرك للبصر، ونفس مدركة بالعقل والبصيرة، لا بالحواس، وأضاف جسده إلى الطين، وروحه إلى نفسه. وأراد بالروح ما تعنيه بالنفس، منبها لأرباب البصائر، أن النفس الإنسانية من الأمور الإلهية، وأنها أجل وأرفع من الأجسام الخسيسة الأرضية كما قال تعالى :﴿ يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ﴾. ( ميزان العمل : ١٩٩ )
النفس المدركة بالبصيرة أعظم قدرا، ولذلك أضافها الله عز وجل إلى نفسه، وأضاف البدن إلى الطين، فقال :﴿ إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ﴾ ( كتاب الأربعين في أصول الدين : ١٣٥ )
الأرواح البشرية حادثة حدثت عند استعداد النطفة لقبول النفس من واهبها كما قال تعالى :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ﴾ كما حدثت الصورة في المرآة لحدوث الصقالة، وإن كان ذو الصورة سابق الوجود على الصقالة. ( معارج القدس في مدارج معرفة النفس : ١٠٥ ).
﴿ فإذا سوَّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ﴾ : التسوية : هي عبارة عن فعل في المحل القابل للروح، وهو الطين في حق آدم صلى الله عليه وسلم، والنطفة في حق أولاده بالتصفية وتعديل المزاج والتردد في أطوار الخلقة إلى الغاية حتى ينتهي في الصفاء ومناسبة الأجزاء إلى الغاية، فيستعد لقبول الروح وإمساكها كاستعداد الفتيلة بعد شرب الدهن لقبول النار وإمساكها.
وأما النفخ : فهو عبارة عن اشتعال نور الروح في المحل القابل، فالنفخ سبب الاشتعال، وصورة النفخ في حق الله تعالى محال، والسبب غير محال، فعبر عن نتيجة النفخ بالنفخ، وهو الاشتعال في فتيلة النطفة، وللنفخ صورة ونتيجة. ( روضة الطالبين وعمدة السالكين ضمن المجموعة رقم ٢ ص : ٤٦ )
سئل الشيخ الإمام الأجل الزاهد السيد : حجة الإسلام زين الدين مقتدي الأمة قدوة الفريقين أبو حامد بن محمد الغزالي قدس الله روحه ونور ضريحه عن معنى قوله تعالى :﴿ فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ﴾ ما التسوية وما النفخ وما الروح ؟ فقال : التسوية فعل في المحل القابل للروح، وهو الطين في حق آدم عليه السلام، والنطفة في حق أولاده بالتصفية وتعديل المزاج، فإنه كما لا يقبل النار يابس محض كالتراب والحجر، ولا رطب محض كالماء، بل لا تتعلق النار إلا بمركب أي من يابس ورطب ولا كل مركب، فإن الطين مركب ولا تشتغل فيه النار، بل لابد بعد تركيب الطين الكثيف من تردد في أطوار الخلقة حتى يصير نباتا لطيفا، فتثبت فيه النار وتشتعل فيه، وكذلك الطين بعد أن ينشئه خلقا بعد خلق في أطوار متعاقبة يصير نباتا، فيأكله الآدمي فيصير دما، فتنتزع القوة المركبة في كل حيوان صفوة الدم الذي هو أقرب إلى الاعتدال فيصير نطفة فيقبلها الرحم ويمتزج بها مني المرأة فتزداد عند ذلك اعتدالا، ثم ينضجها الرحم بحرارة فتزداد تناسبا حتى تنتهي في الصفاء واستواء نسبة الأجزاء إلى الغاية، فتستعد لقبول الروح وإمساكها كالفتيلة التي تستعد عند شرب الدهن لقبول النار وإمساكها، فالنطفة عند تمام الاستواء والصفاء تستحق باستعدادها لكل مستحق ما يستحقه، ولا كل مستعد ما يقبله على قدر قبوله واحتماله من غير منع ولا بخل.
فالتسوية عبارة عن هذه الأفعال المرددة لأصل النطفة في الأطوار السالكة بها إلى صفة الاستواء والاعتدال.
وسئل ما النفخ ؟ فقال : النفخ عبارة عما أشعل نور الروح في فتيلة النطفة، وللنفخ صورة ونتيجة.
أما صورته : فإخراج الهواء من جوف النافخ إلى جوف المنفوخ فيه حتى يشتعل الحطب القابل للنار، فالنفخ سبب الاشتعال، وصورة النفخ الذي هو سبب في حق الله تعالى محال، والمسبب غير محال، وقد يكنى بالسبب عن الفعل الذي يحصل المسبب عنه على سبيل المجاز، وأن لم يكن الفعل المستعار له على صورة الفعل المستعار منه كقوله تعالى :﴿ غضب الله عليهم ﴾، ﴿ فانتقمنا منهم ﴾، والغضب عبارة عن نوع لغير الغضبان يتأذى به، ونتيجة الهلاك للمغضوب عليه وإيلامه، فعبر عن نتيجة الغضب بالغضب، وعن نتيجة الانتقام بالانتقام، وكذلك عبر عما ينتج نتيجة النفخ بالنفخ وإن لم يكن على صورة النفخ.
فقيل له : فما السبب الذي اشتعل به نور الروح في فتيلة النطفة ؟ قال : هو صفة في الفاعل وصفة في المحل القابل، أما صفة الفاعل فالجود الإلهي الذي هو ينبوع للوجود على ما له قبول الوجود، فهو فياض بذاته على كل حقيقة أوجدها، ويعبر عن تلك الصفة بالقدرة، ومثالها : فيضان نور الشمس على كل قابل للاستنارة عند ارتفاع الحجاب بينهما، فالقابل للاستنارة هي الملونات دون الهواء الذي لا لون له، وأما صفة القابل فالاستواء والاعتدال الحاصل بالتسوية، كما قال :﴿ سويته ﴾، ومثاله : صقالة الحديد، فإن المرآة التي ستر الصدأ وجهها لا تقبل الصورة وإن كانت محاذية صروة، فلو حاذتها الصورة واشتعل الثقيل بتصقيلها، فكلما حصل الصقال حدثت فيها الصورة المحاذية من ذي الصورة المحاذية، فكذلك إذا حصل الاستواء في النطفة حدثت فيها الروح من خالق الروح من غير تغير في الخالق، بل إنما حدث الروح الآن لا قبله لتغير المحل بحصول الاستواء الآن لا قبله، كما أن الصورة فاضت من ذي الصورة على المرآة في حكم الوهم من غير حدث في الصورة، ولكن كان لا يحصل من قبل، لا لأن الصورة ليست مهيأة لأن تنطبع في المرآة، لكن لأن المرآة لم تكن صقيلة قابلة للصورة...
قيل له : قد ذكرت التسوية والنفخ، فما الروح وما حقيقته ؟ وهل هو حال في البدن حلول الماء في الإناء ؟ أو حلول العرض في الجوهر ؟ أم هو جوهر قائم بنفسه ؟ فإن كان جوهر قائما بنفسه، فمتحيز هو أم غير متحيز ؟ وإن كان متحيزا فما مكانه أهو القلب أو الدماغ أو موضع آخر ؟ وإن لم يكن متحيزا فكيف يكون جوهرا غير متحيز ؟
فقال : هذا سؤال عن سر الروح الذي لم يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كشفه لمن ليس أهلاه له، فإن كنت من أهله فاسمع، واعلم أن الروح ليس بجسم يحل البدن حلول الماء في الإناء، ولا هو عرض يحل القلب والدماغ حلول السواد في الأسود والعلم في العالم، بل هو جوهر وليس بعرض لأنه يعرف نفسه وخالقه ويدرك المعقولات وهذه علوم، والعلوم أعراض، ولو كان موضوعا والعلم قائم به لكان قيام العرض بالعرض. وهذا خلاف المعقول، ولأن العرض الواحد لا يفيد إلا واحدا فيما قام به، والروح ليس بعرض، والعرض لا ينتصف بهذه الصفات ولا هو جسم، لأن الجسم قابل القسمة والروح لا ينقسم، لأنه لو انقسم لجاز أن يقوم بجزء منه علم بالشيء الواحد وبالجزء الآخر منه جهل بذلك الشيء الواحد بعينه، فيكون في حالة واحدة عالما جاهلا به فيتناقض لأنه في محل، وإلا فالسواد والبياض في جزأين من العين غير متناقض، والعلم والجهل شيء واحد في شخص واحد محال وفي شخصين غير محال، فدل على أنه واحد وهو باتفاق العقلاء جزء لا يتجزأ، أي شيء لا ينقسم إذ لفظ جزء غير لائق به، لن الجزء إضافة إلى الكل ولا كل هنا، فلا جزء إلا أن يراد به ما يريد القائل بقوله الواحد جزء من العشرة، فإنك إذا أخذت جميع الأجزاء التي بها قوام العشرة في كونها عشرة.
كان الواحد من جملتها، كذلك إذا أخذت جميع الموجودات أو جميع ما به قوام الإنسان في كونه إنسانا، كان الروح واحدا في جملتها، فإذا فهمت أنه شيء لا ينقسم فلا يخلو إما أن يكون متحيزا أو غير متحيز، وباطل أن يكون متحيزا، إذ كل متحيز منقسم والجزء الذي لا يتجزأ باطل أن يكون منقسما بأدلة هندسية وعقلية، أقربها أنه لو فرض جوهر بين جوهرين لكان كل واحد من الطرفين يلقى من الوسط غير ما يلقى الآخر.
فيجوز أن يقوم بالوجه الذي يلقاه هذا الطرف علم، وبالوجه الآخر جهل، فيكون عالما جاهلا في حالة واحدة بشيء واحد، وكيف لا ولو فرض بسيط مسطح من أجزاء لا تتجزأ لكان الوجه الذي يحاذينا ونراه غير الوجه الآخر الذي لا نراه، فإن الواحد لا يكون مرئيا وغير مرئي في حالة واحدة، ولكانت الشمس إذا حاذت أحد وجهيه استنار بها ذلك الوجه دون الوجه الآخر، فإذا ثبت أنه لا ينقسم وأنه لا يتجزأ ثبت أنه قائم بنفسه وغير متحيز أصلا.
قيل له : وما حقيقة هذه الحقيقة، وما صفة هذا الجوهر، وما وجه تعلقه بالبدن ؟ أهو داخل فيه أو خارج عنه أو منفصل عنه ؟
قال رضي الله عنه : لا هو داخل ولا خارج ولا هو منفصل ولا متصل، لأن مصحح الاتصاف بالاتصاف والانفصال الجسمية والتحيز قد انتفيا عنه فانفك عن الضدين، كما أن الجماد لا هو عالم ولا هو جاهل، لأن مصحح العلم والجهل الحياة، فإذا انتفت انتفى الضدان.
فقيل له : هل هو في جهة ؟ فقال : هو منزه عن الحلول في المحال والاتصال بالأجسام والاختصاص بالجهات فإن كل ذلك صفات الأجسام وأعراضها، والروح ليس بجسم ولا عرض في جسم، بل هو مقدس عن هذه العوارض. ( الأجوبة الغزالية في المسائل الأخروية ضمن المجموعة رقم ٤ ص : ١٦٦-١٧١ )
﴿ إذا سويته ونفخت فيه من روحي ﴾ فروح الله عز وجل مفتاح أبواب السعادة، ولم يكن نفخها إلا بعد التسوية، ومعنى التسوية : يرجع إلى التعديل. ( كتاب الأربعين في أصول الدين : ٧١ )
فإن قيل : ما معنى نسبة الروح إلى الله تعالى في قوله :﴿ ونفخت فيه من روحي ﴾ ؟. فاعلم أن الروح منزهة عن الجهة والمكان، وفي قوتها العلم بجميع المعلومات والإطلاع عليها، فهذه مضاهاة ومناسبة ليست لغيره من الجسمانيات، فلذلك اختصت بالإضافة إلى الله تعالى. ( روضة الطالبين وعمدة السالكين ضمن المجموعة رقم ٢ ص : ٤٨ )
قول إبليس :﴿ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ في جواب قوله تعالى :﴿ ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين ﴾.
قد أدرج إبليس في هذا ميزانين ؛ إذ علل منع السجود بكونه خيرا منه. ثم أثبت الخيرية بأنه خلق من نار، وإذ صرح بجميع أجزاء حجته وجد ميزانه مستقيم التركيب لكن فاسد المادة، وكمال صورته أن يقول : ما خلق من نار خير، والخير لا يسجد، فأنا إذا لا أسجد. فكلا أصلي هذا القياس ممنوع لأنه غير معلوم، والعلوم الخفية توزن بالعلوم الجلية، وما ذكره غير جلي ولا مسلم، إذ نقول له نسلم أنك خير منه، وهذا منع الأصل بالخيرية، لكن ترك إبليس الدلالة على الأصل الثاني، وهو أن اللزوم والاستحقاق بالأمر لا بالخيرية، واشتغل بإقامة الدليل على أنه خير، لأني خلقت من نار. وهذه دعوة الخيرية بالنسب، وكمال صورة دليله وميزانه أن يقول : المنسوب إلى الخير خير. وأنا منسوب إلى الخير فإذا أنا خير.
وكلتا هاتين الكفتين أيضا فاسدة، فإنا لا نعلم أن المنسوب إلى الخير خير، بل الخيرية بصفات الذات لا بالنسب، فيجوز أن يكون الحديد خيرا من الزجاج، ثم يتخذ من الزجاج بحسن الصنعة ما هو خير من المتخذ من المتخذ من الحديد، وكذلك نقول : إبراهيم صلوات الله عليه خير من ولد نوح، وإن كان إبراهيم مخلوقا من آزر وهو كافر، وولد نوح من نبي.
وأما أصله الثاني : وهو أنه مخلوق من خير لأن النار خير من الطين، فهذا أيضا غير مسلم، بل الطين خير لأنه من التراب والماء، وربما يقال : إن بامتزاجهما قوام الحيوان والنبات، وبهما يصل النشوء والنمو، وأما النار فمفسدة ومهلكة للجميع، فقوله : إن النار خير باطل. ( القسطاس المستقيم ضمن المجموعة رقم ٣ ص : ٤٠-٤١ ).
فهذه الموازن صحيحة الصورة، فاسدة المادة، تشبيها بالسيف المتخذ من الخشب، بل هي :﴿ كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه ﴾١.
١ النور: ٣٨..
كمالات الموجودات قبولها الأمر، وكمالات المكلفين قولها للثواب، فمن لم يقبل الأمر أخرج من عالم الحق، والإخراج من الحق لعن كحال الشيطان الأول، إذ لم يقبل الأمر فأخرج من جنة العقل وقيل :﴿ فاخرج منها فإنك رجيم ﴾ وذلك معنى اللعن. ( معارج القدس في مدارج معرفة النفس : ١٧٧ )
اعلم أن الشيطان مسلط على كل ناظر ومشغوف بتلبيس الحق وتغطيته، ومصر على الوفاء بقوله :﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين ﴾، والتحذير منه شديد، ولا يتيسر إلا لمن هو في محل استثنائه حيث قال :﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾. جعلنا الله وإياكم منهم، فعليك أن تأخذ في نظرك من الشيطان ووسواسه حذرك.
Icon