ﰡ
٩٩١- من لم يكن له فهم ما في القرآن ولو في أدنى الدرجات دخل في قوله تعالى :﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال ءانفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ﴾.
والطابع : موانع الفهم...
أولها : أن يكون الفهم منصرفا إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها، وهذا يتولى حفظه شيطان وكل بالقراء ليصرفهم عن فهم معاني كلام الله عز وجل، فلا يزال يحملهم على ترديد الحرف، يخيل إليهم أنه لم يخرج من مخرجه.
فهذا يكون تأمله مقصورا على مخارج الحروف فأنى تنكشف له المعاني ؟ وأعظم ضحكة الشيطان من كان مطيعا لمثل هذا التلبيس.
ثانيهما : أن يكون مقلدا لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه، وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة. فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه، فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده، فصار نظره موقوفا على مسموعه، فإن لمع برق على بعد، وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه حمل عليه شيطان التقليد حملة وقال : كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك ؟ فيرى أن ذلك غرور من الشيطان فيتباعد منه ويتحرز عن مثله. ولمثل هذا قالت الصوفية : إن العلم حجاب، وأرادوا بالعلم العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون للمذاهب وألقوها إليهم.
فأما العلم الحقيقي فهو الكشف والمشاهدة بنور البصيرة، فكيف يكون حجابا، وهو منتهى المطلب ؟
وهذا التقليد قد يكون باطلا، فيكون مانعا كمن يعتقد في الاستواء على العرش التمكن والاستقرار، فإن خطر له مثلا في القدوس أنه المقدس عن كل ما يجوز على خلقه لم يمكنه تقليده من أن يستقر ذلك في نفسه، ولو استقر في نفسه لانجر إلى كشف ثان وثالث ولتواصل، ولكن يتسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته تقليده الباطل، وقد يكون حقا ويكون أيضا مانعا من الفهم والكشف، لأن الحق الذي كلف الخلق اعتقادهن له مراتب ودرجات، وله مبدأ ظاهر وغور باطن، وجمود الطبع على الظاهر يمنع من الوصول كما ذكرناه في الفرق بين العلم الظاهر والباطن في كتاب " قواعد العقائد " ١.
ثالثها : أن يكون مصرا على ذنب أو متصفا بكبر أو مبتلى في الجملة بهوى في الدنيا مطاع، فإن ذلك ظلمة القلب وصدئه، وهو كالخبث على المرآة فيمنع جلية الحق أن يتحلى فيه، وهو أعظم حجاب للقلب وبه حجب الأكثرون. وكلما كانت الشهوات أشد تراكما، كانت معاني الكلام أشد احتجابا، وكلما خف عن القلب أثقال الدنيا قرب تجلي المعنى فيه. فالقلب مثل المرآة والشهوات مثل الصدإ، ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة، والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل تصقيل الجلاء للمرآة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :( إذا عظمت أمتي الدينار والدرهم نزع منها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرموا بركة الوحي )٢ قال الفضيل٣ : يعني حرموا فهم القرآن، وقد شرط الله عز وجل الإنابة في الفهم والتذكير فقال تعالى :﴿ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ﴾٤ وقال عز وجل :﴿ وما يتذكر إلا من ينيب ﴾٥ وقال تعالى :﴿ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ﴾ وقال تعالى :﴿ إنما يتذكر أولوا الألباب ﴾٦ فالذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب، ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب.
رابعها : أن يكون قد قرأ تفسيرا ظاهرا واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي وأن ( من فسر القرآن برأيه فقد تبوأ مقعده من النار )٧ فهذا أيضا من الحجب العظيمة. وسنبين معنى التفسير بالرأي في الباب الرابع٨. وأن ذلك لا يناقض قول علي رضي الله عنه :( ألا أن يؤتى الله عبدا فهما في القرآن ) وأنه لو كان المعنى هو الظاهر المنقول لما اختلفت الناس فيه. ( الإحياء : ١/٣٣٤-٣٣٦ )
٢ - قال الحافظ العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف معضلا من حديث الفضل بن عياش قال: ذكر عن نبي الله صلى الله عليه وسلم. ن المغني بهامش الإحياء: ١/٣٣٥..
٣ - هو ابن مسعود بن بشر، الإمام القدوة الثبت، شيخ افسلام، أبو علي التميمي الربوعي الخراساني، المجاوز بحرم الله، كتب بالكوفي عن منصور الأعمش وبيان بن بشر وغيرهم، حدث عنه ابن المبارك وعبد الرحمان بن مهدي وابن عيينة وغيرهم. قال النسائي ثقة مأمون، رجل صالح. ت سنة ١٨٥ هـ. تذكرة الحفاظ: ١/٢٤٥ وسير أعلام النبلاء: ٨/٤١٢..
٤ - ق: ٨..
٥ - غافر: ١٣..
٦ الزمر: ٩..
٧ - أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس بلفظ: [[اتقوا الحديث عني إلا من علمتم فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعهده من النار]] كتاب تفسير القرآن حديث رقم: ٢٩٦٠. ٤/٤٣٩..
٨ ن. الإحياء: ١/٣٤١..
٩٩٢- الهداية : ما يمد به العبد حالا بعد حال، بحسب ترقبه في العلوم، وزيادته في صالح الأعمال، وإياه عنى بقوله تعالى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وءاتاهم تقواهم ﴾. ( ميزان العمل : ٣٠٢ )
٩٩٣- معناه أنه يعلم المجاهدة كائنة وحاصلة، وفي الأزل لا يوصف علمه بتعلقه بحصوله المجاهدة قبل حصولها. ( المستصفى : ٢/١٣٨ )
٩٩٤- يخفكم : أي يستقصي عليكم. ( الإحياء : و ١/١٦٦ و ٢٥٣ )
٩٩٥- أي يستقصي عليكم فتبخلوا. ( كتاب الأربعين في أصول الدين : ٢٨ )
٩٩٦- كل موجود سوى الله فهو فقير لأنه محتاج إلى دوام الوجود في ثاني الحال، ودوام وجود مستفاد من فضل الله تعالى وجوده، فإن كان في الوجود موجود ليس وجوده مستفاد له من غيره، فهو الغني المطلق، ولا يتصور أن يكون مثل الوجود إلا وجودهم بالدوام، وإلى هذا الحصر الإشارة بقوله تعالى :﴿ والله الغني وأنتم الفقراء ﴾. ( الإحياء : ٤/٢٠٢ )
٩٩٧- الغني : هو الذي لا تعلق له بغيره لا في ذاته، ولا في صفات ذاته، بل يكون منزها عن العلاقة مع الأغيار ولا يتصور ذلك إلا الله تعالى. ( المقصد الأسني : ١٢٨ )