تفسير سورة سورة الرعد من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن
.
لمؤلفه
حسنين مخلوف
.
المتوفي سنة 1410 هـ
مدنية، وآياتها ثلاث وأربعون
ﰡ
﴿ الله الذي رفع السماوات ﴾ بين الله تعالى في هذه الآية والآيتين بعدها عشرة أدلة من العالم العلوي والسفلي على كمال قدرته وعظيم حكمته : خلقه السماوات مرتفعة بغير عمد. وتسخيره الشمس والقمر لمنافع الخلق. وخلقه الأرض صالحة للاستقرار عليها. وخلقه الجبال فيها لتثبيتها، والأنهار لتسقى الزرع. وخلقه زوجين اثنين من كل نوع من الثمرات. ومعاقبته بين الليل والنهار. وخلقه بقاعا في الأرض متلاصقة مع اختلافها في الطبيعة والخواص. وخلقه جنات من الأعناب للتفكه. وخلقه أنواع الحبوب المختلقة للغذاء. وخلقه النخيل صنوانا وغير صنوان. وجميعها تسقى بماء واحد لا تفاوت فيه، مع اختلاف الثمار والحبوب في اللون والطعم والرائحة والشكل والخواص. ﴿ بغير عمد ﴾أي بغير دعائم، اسم جمع مفرده عماد. يقال : عمدت الحائط أعمده عمدا وأعمدته، إذا دعمته، فانعمد واستند. ﴿ ترونها ﴾ أي رفع السماوات مرئية لكم بدون دعائم تدعمها. والجملة في محل نصب حال من السماوات. ﴿ ثم استوى على العرش ﴾( آية ٥٤ الأعراف ص ٢٦٣ ). ﴿ يدبر الأمر ﴾ يقضى ويقدر ويتصرف في جميع العوالم على أكمل الوجوه.
﴿ مد الأرض ﴾ بسطها طولا وعرضا إلى ما لا يدرك البصر منتهاه، لإمكان الاستقرار عليها.
والمد البسط. ولا تنافي بين المد وكرية الأرض، لأن الأول بحسب رؤية العين، والثاني بحسب الحقيقة. ﴿ رواسي ﴾ جبالا ثوابت راسخات في أحيازها تمسكها عن الاضطراب، من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة. يقال : رسا الشيء يرسو رسوا ويرسوا، ثبت، كأرسى. وأرسيت الوتد في الأرض : أثبته. ﴿ يغشى الليل النهار ﴾ يجعل الليل غاشيا للنهار وساترا له، أي يأتي به بدله فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا( آية ٥٤ الأعراف ص ٢٦٣ ).
﴿ و نخيل صنوان... ﴾ صفة لنخيل، وهو جمع صنو. والصنو : الفرع الذي يجمعه وآخر أصل واحد، فإذا خرج نخلتان أو ثلاث من أصل واحد فكل واحدة منهن صنو. والاثنان صنوان ﴿ بكسر النون ﴾، والجمع صنوان﴿ بضم النون ﴾ وأصله المثل، ومنه قيل لعم الرجل : صنو أبيه، أي مثله، فأطلق على كل غصن صنو لمماثلته للآخر في التفرع من ذلك الأصل. ﴿ الأكل ﴾ – بضمتين وصم فسكون- : اسم لما يؤكل من الثمر والحب، وإنما اقتصر على الأكل لكونه أعظم المنافع. قال مجاهد : هذا كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد.
﴿ أولئك الذين كفروا بربهم ﴾ أي أولئك المنكرون لقدرته تعالى على البعث هم الكافرون بربهم. ﴿ و أولئك الأغلال في أعناقهم ﴾ وهم أصحاب النار المخلدون فيها. جمع غل، وهو طوق من حديد تشد به اليد إلى العنق، من الغلل، وأصله تدرع الشيء وتوسطه. ومنه قيل للماء الجاري بين الشجر : غلل، أي ذلك شانهم في الآخرة. وقيل : هو تمثيل لحالهم في الدنيا – من حيث إباؤهم الإيمان وعدم التفاتهم إلى الحق- بحال من أعناقهم أغلال فلا يستطيعون معها التفاتا.
﴿ ويستعجلونك بالسيئة... ﴾ كان صلى الله عليه وسلم يهددهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة، فكانوا يستعجلونه في نزوله، طعنا في خبره واستهزاء به، فنزلت الآية. والاستعجال : طلب الأمر قبل مجيء وقته. ﴿ وقد خلت من قبلهم المثلات ﴾ العقوبات المنكلات. جمع مثلة، وهي العقوبة الفاضحة التي تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع غيره به. وسميت مثلاث لمماثلتها للأفعال المعاقب عليها في السوء.
﴿ الله يعلم.. ﴾ بيان لما يدل على كمال علمه وقدرته تعالى وعظم سلطانه، وعلى حكمته في قضائه وقدره. ﴿ و ما تغيض الأرحام وما تزداد ﴾ أي يعلم ما تنقصه الأرحام وما تزداده في البنية وفي المدة وفي العدد. يقال : غاض الشيء وغاضه غيره، نحو نقص ونقصه غيره، فستعمل لازما ومتعديا، وكذا ازداد. ﴿ و كل شيء عنده مقدار ﴾ أي وكل شيء عنده تعالى بقدر وحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، قال تعالى :﴿ و كل شيء خلقناه بقدر ﴾ فيعلم كميته وكيفيته وزمنه ومكانه وسائر أحواله، ويعلم ما غاب عن الحواس وما يشاهد بها، أو السر والعلانية.
﴿ المتعال ﴾ المستعلي على كل شيء في ذاته وصفاته وأفعاله.
﴿ و سارب بالنهار ﴾ أي ومن ذاهب في سربه – بسكون الراء مع فتح السين وكسرها- أي طريقه.
و المراد : أنه يستوي في علمه تعالى السر والجهر، والخفي والظاهر.
﴿ له معقبات ﴾ للمذكور ممن أسر القول أو جهر به : ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار، لحفظه و كلاءته، ولكتابة أقواله وأعماله، من التعقيب، وهو أن يؤتي بشيء بعد آخر. يقال : عقب الفرس في عدوه، أي جرى بعد جريه. وعقبه تعقيبا، جاء عقبه. و﴿ معقبات ﴾ جمع معقبة بمعنى معقب، أي ملك معقب، والتاء للمبالغة، كما في علامة. أو بمعنى جماعة معقبة. ﴿ من أمر الله ﴾ أي بسبب أمره تعالى وإعانته وهذا ما لم يكن هناك قدر، فإذا كان خلوا عنه. ف﴿ من ﴾ بمعنى باء السببية ﴿ إن الله لا يغير ﴾ أحوالهم : من جميع إلى قبيح، ومن صلاح إلى فساد، ومن طاعة إلى عصيان، فإذا أراد أن ينزل بهم نقمته وجزاءه فلا راد له، ولا معقب لحكمه. ﴿ وما لهم من دونه من وال ﴾ ولي ناصر، يلي أمورهم ويدفع السوء عنهم، من الولاية وهي النصرة وتولى الأمر. يقال : ولي على الشيء ولاية فهو وال.
﴿ هو الذي يريكم البرق... ﴾ ذكر خمسة أنواع من الظواهر الكونية، جعل فيها شبها بالنعم وشبها بالنقم، وكلها دلائل على عظم قدرته تعالى وبديع صنعته، الموجبين لإفراده بالعبادة. ﴿ خوفا ﴾ من الصواعق﴿ و طمعا ﴾ في الغيث. ﴿ و ينشىء السحاب ﴾ الغيم المنسحب في الهواء. ﴿ الثقال ﴾ بالماء جمع ثقيلة، أي مثقلة به.
ويسبح الرعد بحمده } تسبيحه متلبسا بحمده : دلالته على كمال قدرته أوضح دلالة، قال تعالى :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾. ﴿ وهو شديد المحال ﴾ المحال : الكيد والمكر، والتدبير والقوة، والعذاب والعقاب، والإهلاك والعداوة، كالمماحلة. يقال : محل به – مثلثة الحاء – محلا محالا، إذا كاده وعرضه للهلاك، أي شديد المماحلة والمكايدة لأعدائه. وفيه من التهديد لهم ما لا يخفى.
﴿ و الذين يدعون من دونه... ﴾ أي والأصنام التي يعبدونها من دون الله لا تستجيب لهم بشيء مما يطلبونه منها، إلا كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد، ليطلبه ويدعوه﴿ ليبلغ فاه ﴾ نفسه، من غير أن يؤخذ بشيء كإناء ونحوه. ﴿ وما هو ببالغه ﴾ لكونه جمادا لا يشعر بعطشه، ولا ببسط كفيه إليه ولا يدعونه، فكذلك هذه الأصنام جمادات لا تحس بعبادتهم، ولا تستطيع إجابتهم بشيء.
﴿ و لله يسجد من في السماوات والأرض ﴾ أي أن جميع من فيهما من الملائكة والثقلين خاضعون لعظمته، منقادون لأحكامه إيجادا وإعداما، شاءوا أو أبوا، من غير مداخلة حكم غيره. يستوي في ذلك مؤمنهم وكافرهم، إلا أن المؤمن خاضع بذاته وبظاهره، والكافر خاضع بذاته متمرد بظاهره. وتنقاد له تعالى ضلال من له منهم ظل، فهي تحت قهره ومشيئته في الامتداد والتقلص، والفيء والزوال، إذ الحركة والسكون بيده تعالى، والمتحرك والساكن في قبضته. فالمراد من السجود، الخضوع والانقياد. والظلال : جمع ظل، وهو الخيال الذي يظهر للجرم. والغدو والغداة : البكرة، أو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. والآصال : جمع أصيل وهو العشي، وهو ما بين العصر وغروب الشمس.
﴿ أم جعلوا لله شركاء ﴾ أي بل أجعلوا. والاستفهام للإنكار. والمعنى أنهم ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله، حتى يتشابه خلقهم بخلق الله، فيقولون : هؤلاء خلقوا كخلق الله. واستحقوا بذلك العبادة كما استحقها سبحانه. ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على شيء، فكيف يصنعون ذلك ؟
﴿ أنزل من السماء ماء ﴾ ضرب الله مثلين للحق : هما الماء الصافي، والجوهر الصافي، اللذان ينتفع بهما ومثلين للباطل : هما زبد الماء، وزبد الجوهر، اللذان لا نفع فيهما. ﴿ فسالت أودية بقدرها ﴾ فسالت المياه في الأودية بمقدرها الذي عينه الله تعالى، واقتضته حكمته في نفع الناس. أو بمقدراها قلة وكثرة بحسب صغر الأودية وكبرها. والأودية : جمع واد، وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة، ويطلق على الفرجة بين الجبلين.
﴿ فاحتمل السيل ﴾ أي فحمل الماء السائل في الأودية ﴿ زبدا ﴾ وهو ما يعلو على وجه الماء عند اشتداد حركته و يسمى الغثاء. وما يعلوا على القدر عند الغليان كالرغوة ويسمى الوضر والخبث.
﴿ رابيا ﴾ عاليا مرتفعا فوق الماء، طافيا عليه. وهنا تم المثل الأول، ثم ابتدأ في الثاني فقال :﴿ و مما يوقدون عليه في النار ﴾ أي ومن الذي يفعلون عليه الإيقاد في النار كالذهب والفضة والنحاس والرصاص وغيرها من المعادن.
﴿ ابتغاء حلية ﴾ أي لأجل اتخاذه حلية للزينة
والتجمل كالأولين ﴿ أو متاع ﴾ أو لأجل اتخاذه متاعا يرتفق به كالآخرين.
﴿ زبد مثله ﴾ أي مثل ذلك الزبد في كونه رابيا فقوله﴿ زبد ﴾ مبتدأ مؤخر خبره﴿ مما يوقدون ﴾. ﴿ كذلك يضرب الحق والباطل ﴾ أي يضرب مثلها للناس للاعتبار.
﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء ﴾ فأما الزبد من كل من السيل ومما يوقدون عليه في النار فيذهب مرميا به مطروحا. يقال : جفأ الماء بالزبد، إذا قذفه ورمى به. وجفأت القدر : رمت بزبدها عند الغليان. وأجفأت به وأجفأته.
﴿ للذين استجابوا... ﴾ بيان لمال حال كل من أهل الحق والباطل، بعد بيان شأن كل منهما حالا ومالا. ﴿ الحسنى ﴾ أي المثوبة الحسنى. ﴿ سوء الحساب ﴾ الحساب السيئ، وهو المناقشة المشار إليها في حديث :( من نوقش الحساب يهلك ).
﴿ وبئس المهاد ﴾ وبئس الفراش الذي مهدوه لأنفسهم مهادهم.
﴿ الذين يوفون بعهد الله ﴾ بدل من ﴿ أولي الألباب ﴾ وجملة ما وصفوا به ثمانية أوصاف جليلة : أولها قوله :﴿ يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ﴾ و آخرها :﴿ ويدرءون بالحسنة السيئة ﴾
أي يدفعون بالعمل الصالح السيئ من الأعمال، فيجازون الإساءة بالإحسان. او يتبعون السيئة الحسنة فتمحوها. يقال : درأنا درءا، دفعه. ودرأ السيل واندرأ : اندفع. ﴿ أولئك لهم عقبى الدار ﴾ العقبى والعقب كالجزاء، و منه : أعقبه أي جازاه. والمراد ب﴿ عقبي الدار ﴾ الجنة. ﴿ جنات عدن ﴾ بدل منه.
﴿ و الذين ينقضون... ﴾ بيان لأحوال الأشقياء بعد بيان أحوال السعداء. و جملة أوصافهم الجامعة ثلاثة.
﴿ و يقدر ﴾ أي يضيق، ضد يبسط بمعنى يوسع. يقال : قدر – كضرب ونصر- أي قتر
و ضيق. وقدر الله الرزق بقدره- بكسر الدال – ضيقه ففتح أبواب الرزق في الدنيا لا تعلق له بالكفر والإيمان، بل هو منوط بمشيئة الله تعالى، فقد يضيق على المؤمن امتحانا لصبره وتكفيرا لذنوبه، و يوسع على الكافر استدراجا له.
﴿ أناب ﴾ رجع إليه وأقبل عليه، من الإنابة بمعنى الرجوع إلى نوبة الخير.
﴿ طوبى لهم ﴾ عيش طيب لهم في الآخرة. مصدر كبشرى وزلفى من الطيب. وأصله طيبى، قلبت الياء واوا لوقوعها ساكنة إثر ضمة، كما قلبت في موقن وموسر من اليقين واليسر.
وقيل : طوبى اسم الشجرة في الجنة. ﴿ وحسن مآب ﴾ مرجع ومنقلب، من الأوب وهو الرجوع. يقال : آب يئوب أوبا وإيابا ومآبا، إذا رجع.
﴿ وإليه متاب ﴾ أي إليه وحده مرجعي ومرجعكم، فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم،
و يجازيكم على كفركم وعصيانكم. يقال : تاب إلى الله توبا وتوبة ومتابا، رجع عن المعصية.
﴿ ولو أن قرآنا ﴾ نزلت في نفر من المشركين غلوا في كفرهم وتمادوا في ضلالهم، حتى اقترحوا على الرسول كان صلى الله عليه وسلم : أن يسير لهم بالقرآن جبال مكة ليتفسحوا في أرضها، ويفجر لهم فيها الأنهار والعيون ليزرعوها ويتخذوا فيها البساتين ويحيي لهم الموتى ليخبروهم بصدقه. وجواب﴿ لو ﴾ محذوف، أي ما آمنوا به –أي بالقرآن إذا فعلت به هذه الأفاعيل العجيبة. ﴿ بل لله الأمر جميعا ﴾ أي بل الله قادر على الإتيان بما اقترحوا من الآيات، ولكن إرادته لم تتعلق بذلك، وهو الحكيم الخبير، لعلمه بعتوهم ونفورهم من الحق.
﴿ أفلم ييئس الذين آمنوا ﴾ أي أغفل الذين آمنوا فلم يقطعوا أطماعهم في إيمان كفار قريش مهما نزل من الآيات. أو أغفلوا عن كون الأمر جميعا لله فلم يعلموا. واستعمال يئس بمعنى علم حقيقة في لغة. وقيل مجاز، لتضمن اليأس معنى العلم، فإن اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك مجازا لتضمن ذلك. ﴿ قارعة ﴾ بلية وداهية تقرعهم، أي تهلكهم وتستأصلهم، من القرع وهو ضرب الشيء بالشيء بقوة. وجمعها قوارع.
﴿ فأمليت للذين كفروا ﴾ أمهلتهم، من الإملاء وهو أن يترك ملاوة من الزمان في أمن ودعة.
﴿ أفمن هو قائم ﴾ أفمن هو رقيب على كل نفسن حفيظ عليها، عالم بما عملت من خير أو شر فمجازيها به، كمن ليس كذلك ؟ والاستفهام إنكاري، وجوابه : ليس كذلك. ﴿ أم بظاهر من القول ﴾ أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول، بسبب ظن باطل لا حقيقة له في نفس الأمر
. ﴿ واق ﴾ حافظ يعصمهم من العذاب، اسم فاعل من الوقاية، وهي الصيانة والحفظ، وفعله من باب ضرب.
﴿ أكلها دائم ﴾ ما يؤكل فيها لانقطاع لأنواعه. ﴿ و ظلها ﴾ دائم لا يزول.
﴿ ولقد أرسلنا... ﴾ عابوا الرسول كان صلى الله عليه وسلم بكثرة الزواج فنزل :﴿ ولقد أرسلنا رسلا ﴾ وبعدم إجابة مقترحاتهم فنزل :﴿ و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ﴾، وبعدم نزول ما خوفهم به من العذاب فنزل :﴿ لكل أجل كتاب ﴾، وينسخ الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة فنزل :﴿ يمحو الله ما يشاء ويثبت ﴾. والأجل : مدة الشيء. والمراد به أزمنة الموجودات، فلكل موجود زمان يوجد فيه محدود، لا يزاد عليه ولا ينقص. لا فرق في ذلك بين الأرزاق والآجال، والأحكام والشرائع، وإتيان المعجزات ونزول القرآن وغيره. والكتاب : ما تكتب فيه أزمنة المقدرات، وهو صحف الملائكة أو اللوح المحفوظ. فتأخر نزول العذاب بهم إنما هو لعدم حلول وقته المقدر له، قال تعالى :﴿ وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم ﴾.
﴿ يمحو الله ما يشاء ويثبت ﴾ المحو : إذهاب أثر الكتابة والإثبات : التدوين في الكتاب. فيمحو الله ما يشاء ويثبت في صحف الملائكة، إذ هي القابلة للمحو والإثبات، أو في اللوح المحفوظ – على قول بوقوعهما فيه – وذلك حسبما تقتضيه المشيئة والحكمة الإلهية، فينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام، لاقتضاء الحكمة ذلك. ﴿ و ثبت ﴾ أي يبقى ما يشاء منها غير منسوخ. أو يثبت منها ما يشاء بتبديل المنسوخ بغيره، أو ببقاء الحكم غير منسوخ، أو بإنشاء حكم ابتداء. ﴿ و عنده أم الكتاب ﴾ أم كل شيء : أصله، وهو الذي لا يتغير ولا يتبدل، ولا يقع فيه محو ولا إثبات.
والمراد به في القول المشهور : اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه جميع أحوال الخلق إلى يوم القيامة. والكتاب الذي يقع فيه المحو و الإثبات هو صحف الملائكة دونه. وفي قول آخر : العلم الأزلي الذي لا يكون شيء إلا على وفق ما فيه، ومحال عليه التغيير والتبديل، والكتاب الذي يقع فيه المحو والإثبات هو اللوح المحفوظ.
﴿ أو لم يروا أنا نأتي الأرض... ﴾ أي أنكروا نزول ما وعدناهم، أو شكوا ولم يروا أننا نفتح أرضهم من جوانبها ونلحقها بدار الإسلام. أو أولم يروا هلاك من قبلهم وخراب ديارهم كقوم عاد وثمود، فكيف يأمنون حلول ذلك بهم. والله اعلم.