هذه السورة مكية كلها. وقيل : مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة. ويتزاحم في هذه السورة فيض من المعاني الجليلة المؤثرة، وذلك في ألوان شتى من العبر والمواعظ والمشاهد، وفي طليعة ذلك : التخويف من يوم القيامة حيث الفظائع والأهوال والبلايا، وما يتجرعه المشركون والظالمون في النار من سوء الشراب وبشاعة التحريق. ولعل أبرز أخبار السورة وما حوته من مضامين، الحديث عن خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام ؛ إذ دعا ربه وهو في مكة أن يجعل هذا البلد ( مكة ) آمنا، وأن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام، ثم تضرعه إلى ربه أن يجعل قلوبا من عباده المؤمنين تحن إلى هذا البلد الطاهر فترغب على الدوام في زيارته ومشاهدته بالرغم من جدبه وجفافه وشحة الزرع والثمار فيه. إلى غير ذلك من الأخبار والمواعظ.
ﰡ
﴿ ألم كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ( ١ ) الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد ( ٢ ) الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد ﴾.
( الر ) في موضع رفع على أنه مبتدأ، وخبره ( كتاب ). وقد تقدم نظير ذلك من حيث الخلاف في تأويله. وقيل :( كتاب ) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هذا كتاب. و ( أنزلناه )، جملة فعلية في موضع رفع صفة لكتاب١، والمراد بالكتاب، القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد ( ص ). وهو سبحانه يخاطبه فيه بقوله :( لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ) ( الظلمات ) جمع ظلمة وهي سواد الجو المانع من الرؤية. أو هي ذهاب الضياء بما يستره. و ( النور ) معناه الضياء، أو البياض الشعاعي الذي تصح معه الرؤية ويمنع معه الظلام. والمقصود بالظلمات هنا الكفر بكل صوره وضروبه ومسمياته، يستوي في ذلك كفر الوثنيين أو الملحدين أو الوجودين أو أهل الكتاب. ومن أجل ذلك حيث المسميات الكثيرة للكفر جيء بالظلمات على الجمع، وأفرد النور، والمراد به الإسلام ؛ فهو الحق الواحد الراسخ الذي لا حق غيره وليس من شيء بعده إلا الضلال. لا جرم أن الإسلام وحده دين الهداية والكمال والعدل المطلق. الدين الذي تستقيم عليه أوضاع البشرية ؛ لأنه دين معتدل ومنسجم ورحيم ووسيط، يراعي فطرة الإنسان وطبيعة البشر أكمل مراعاة بعيدا عن التخبط أو الإفراط أو التفريط، أو المغالاة التي اتسمت بها الملل والعقائد والشرائع الأخرى التي سيمت خلالها الإنسانية البلايا والفشل والأمراض وسوء العاقبة.
لقد بعث الله نبيه محمدا ( ص ) هاديا للناس ومرشدا ونذيرا. وفي ذلك ما يخرج الناس من كابوس الكفر الذي يترعرع فيه الشر والباطل، وتتجرع خلاله البشرية مرارة الظلم والفساد والضلال. يخرجهم من هذه الحمأة الآسنة المنكودة حيث العفن والضيم والمضاضة إلى نور الإسلام بضيائه الساطع المشعشع الذي تتندى خلاله وفي ظلاله نسائم الأمن والراحة والأخوة والرحمة.
قوله :( بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) ذلك الإخراج من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام إنما هو بإذن الله ؛ أي بتسهيله وتيسيره وتوفيقه ( إلى صراط ) بدل من قوله :( إلى النور ) والمراد بالصراط هنا : طريق الله المودي إلى الحق في هذه الدنيا والمفْضي إلى النجاة والفوز في الآخرة، وقد أضيف الصراط إلى العزيز الحميد ؛ لأن الله جل جلاله هو صاحبه، المبين له، وكفى بذلك دليلا قاطعا على أن هذا الطريق حق وصدق ومستقيم. و ( العزيز ) معناه القوي الغالب القادر على كل شيء و ( الحميد ) معناه المحمود في أفعاله وفيما أنعمه على مخلوقاته وعباده من النعم ومنها نعمة الإسلام. هذا الدين الذي تنجو به الإنسانية في هذه الدار ويوم تقوم الساعة.
٢ - التبيان للطوسي جـ ٦ ص ٢٧٠ وتفسير الماوردي جـ ٣ ص ١٢٠..
قوله :( ويصدون عن سبيل الله ) الكافرون الظالمون مجانبون بأنفسهم عن دين الله. وهم لا يكتفون بمجانبتهم ونأيهم عن منهج الله ؛ بل يبادرون في هوس مريض، ونشاط ماكر، وخبث فظيع، وضغينة عاتية مركوزة ؛ لصد الناس عن دين الله والحيلولة بين البشرية وهذا الدين العظيم الحكيم. وأنكى من ذلك كله أنهم كما وصفهم الله بقوله :( ويبغونها عوجا ) ( عوجا )، منصوب على المصدر في موضع الحال. وقيل : مفعول ثان للفعل يبغون١ ؛ يعني يطلبون لسبيل الله وهو دينه، الزيغ والاعوجاج ؛ أي يبتغون أن يروا في دين الله الزيغ عن الاستقامة والتنكب عن الحق والصواب. وذلك هو شأن الكافرين الحاقدين المضلين وديدنهم في كل زمان ؛ فإنهم يريدون للإسلام التشويه والزيغ ؛ ليصير دينا مقلوبا آخر، دينا محرفا مبدلا وقد أتت عليه ظواهر التغيير والتشويه والتمسيخ ؛ كيلا يكون بعد ذلك الدين الحقيقي الذي أراده الله للعالمين.
هكذا يريد الظالمون في عصرنا الراهن من استعماريين ووثنيين وصليبيين وملحدين وصهيونيين وعملاء ! ! يريدون للإسلام التشويه والزيغ والاعوجاج ؛ لينقلب إلى دين يرضون هم عنه، دين غير دين الله، دين تغشاه ظواهر شتى من السلبية والانطوائية والانمياع والترقيع والضعف.
وذلكم هو العوج الفادح الوبيل الذي يندد الله به وبالذين يتنادون لإظهاره وتثبيته متذرعين بذرائع في غاية الزور والتهافت والافتراء والخداع.
قوله :( أولئك في ضلال بعيد ) ذلك إخبار من الله عن هؤلاء الذين اختاروا الحياة الدنيا ؛ إذ آثروها على الآخرة، والذين يصدون الناس عن دين الله الحق ويبتغون له الزيغ والاعوجاج وذلك بتغييره أو تبديله وتشويهه ؛ فإنهم بعيدون عن الحق بعدا عظيما وسادرون في الظلام والغي حتى يلاقوا مصيرهم الأليم٢.
٢ - روح المعاني جـ ٧ ص ١٨٤ والتبيان للطوسي جـ ٦ ص ٢٧٢ وتفسير الماوردي جـ ٣ ص ١٢١..
لم يرسل الله من رسول في الأمم السابقة إلا بلغة الذين أرسل إليهم وهو منهم ومبعوث فيهم ( ليبين لهم ) أي دينهم الذي جاءهم به من عند الله ؛ فيتلقوه منه في سرعة ويسر من غير حاجة إلى ترجمان، وهذه حجة لله على العباد إذ بعث فيهم النبيين من أنفسهم، كل نبي بلغة قومه ؛ تسهيلا لهم وتيسيرا عليهم ؛ فيتسنى لهم بذلك فهم دينهم والوقوف على حقيقته ومعناه.
قوله :( فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء ) ( فيضل )، مرفوع على الاستئناف١.
والمعنى : ليس على الرسول إلا القيام بتبليغ الناس، وما عليه هداية أحد ؛ فإنما الهادي هو الله وحده دون أحد من خلقه، وما على النبي كذلك إضلال أحد ؛ وإنما يضل الله الناس إن كانوا لا يستحقون الهداية ؛ لفساد فطرتهم وسوء اختيارهم، وذلك بخلاف المهتدين الذين يكتب الله لهم الهداية ؛ لاستقامة طبعهم وسلامة فطرتهم وحسن اختيارهم ؛ إذ سلكوا طريق الهداية حيث الفوز بالجنة والرضوان.
قوله :( وهو العزيز الحكيم ) ( العزيز ) يعني القوي القادر على كل شيء والذي لا يغلبه شيء. و ( الحكيم )، الواضع للأشياء على ما اقتضته حكمته المطلقة وتقديره الكامل من غير نقص في ذلك ولا عيب ولا خلل.
وقيل : المراد بها الآيات التسع التي أجراها الله على يد موسى. وقيل : المراد آيات التوراة.
قوله ( أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ) ( أنْ )، تحتمل وجهين : أحدهما : كونها مصدرية. وثانيهما : كونها تفسيرية ؛ أي مفسرة بمعنى أي١. والمراد بقومه ؛ بنو إسرائيل ؛ إذ أرسله الله إليهم ليخرجهم من ظلمات العبودية والذل والقهر إلى نور العزة والسلطان. وقيل : المراد بقومه القبط ؛ فيكون المعنى : أخرجهم من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الهداية والإيمان وعبادة الله وحده.
قوله :( وذكرهم بأيام الله ) يعني ذكرهم بنعم الله وبلائه. فنعم الله عليهم كثيرة ؛ فقد أعطوا من النعم والخيرات والمنن الكبيرة والكثيرة ما لم يُعط مثله أحد في العالمين سواهم. وذلك كالمن والسلوى، وفلق البحر، وتظليل الغمام، وانبجاس الماء الثجاج من الصخر. وأما بلاؤه : فبقهر فرعون لهم واستعباده إياهم وتقتيل أبنائهم وإذلالهم.
قوله :( إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ) الإشارة عادة إلى أيام الله ؛ أي التذكير بأيام الله من النعماء، والبلاء فيه علامات كبيرة تكشف عن جلال الله وعظيم قدرته وحكمته ( لكل صبار شكور ) الصبار، الكثير الصبر على البلاء في سبيل الله. وكذلك الشكور، الكثير الشكر لأنعم الله. وذلك هو أمر المؤمن ؛ فإنه يصطبر على البلاء بكل صوره، يبتغي بذلك رضوان الله، ثم يشكره على ما منّ به عليه من خير ونعمة. لا جرم أن نعم الله على الإنسان كثيرة لا تحصى. منها نعمة العقل والسمع والبصر والإرادة وكل ظواهر الحس، وغير ذلك من وجوه الخيرات المادية والمعنوية التي أسبغها الله على عباده٢.
٢ - روح المعاني جـ ٧ ص ١٨٨ والبحر المحيط جـ٥ ص ٤٠٦ والتبيان للطوسي جـ ٦ ص ٢٧٤ وتفسير الماوردي جـ ٣ ص ١٢..
( إذ )، منصوب على المفعولية بمضمر ؛ أي اذكر لهم يا محمد وقت قول موسى لقومه ( اذكروا نعمة الله عليكم ) التي أنعمها عليكم وهي كبيرة وكثيرة. وذلك ( إذ أنجاكم من آل فرعون ) متعلق بقوله، ( اذكروا ). أي اذكروا حين أنجاكم الله من فرعون وقومه الظالمين، أو اذكروا إنعام الله عليكم وقت إنجائكم من فرعون وملإه الطغاة المجرمين الذين كانوا ( يسومونكم ) من السوم أو السوام، وهو الذهاب في طلب الشيء. سام الإنسان ذُلًّا أو خسفا أو هوانا ؛ أي أولاه إياه وأراده عليه١ ( سوء العذاب ) مفعول ثان ليسومونكم ؛ أي يذيقونكم شديد العذاب. والعذاب جنس العذاب المؤلم السيئ كاستعبادهم وإذلالهم وتسخيرهم للأعمال الشاقة في امتهان وتحقير ( ويذبحون أبناءكم ) معطوف على
( يسومونكم ). والمراد بالتذبيح هنا، قتل الأولاد الذكور ظلما وعدوانا، واستبقاء النساء. وهو قوله :( ويستحيون نسائكم ) أي يبقونهن في الحياة مع الذل. لا جرم أن ذلك بلاء فظيع ؛ لأن إبقاء النساء دون البنين مهانة وإذلال ومبعث اللوعات والأحزان في نفوسهن. وهو قوله :( وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) أي فيما تبين من فظيع الأفعال البشعة المذكورة ابتلاء من الله تعالى لتصبروا فتؤجروا ثم يكشف الله عنكم بعد ذلك ما حاق بكم من البلاء والمحن، وقيل : البلاء هنا بمعنى النعمة ؛ أي في ذلكم نعم من ربكم عظيمة ؛ إذ أنجاكم من فرعون وقومه الطغاة الظالمين ؛ فالمشار إليه الإنجاء من ذلك. والبلاء يراد به الابتلاء بالنعمة ؛ فإنه يكون بها كما يكون بالمحنة، وفي مثل ذلك يقول سبحانه :( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) ٢.
٢ - التبيان للطوسي جـ ٦ ص ٢٧٦ وتفسير الماوردي جـ ٣ ص ١٢٣ وروح المعاني جـ ٧ ص ١٩٠ والبحر المحيط جـ ٥ ص ٤٠٦..
قوله :( ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) اللام موطئة للقسم ؛ أي لئن جحدتم نعمتي عليكم وسترتموها فلم تظهروها ولم تشكروا الله عليها ( إن عذابي لشديد ) جواب الشرط والقسم ؛ أي أعذبكم العذاب الشديد بسلب النعم عنكم وبعقابكم على الجحود وكفران النعم. وفي الحديث : " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ".
٢ - تفسير الرازي جـ ٩ ص ٨٩ وفتح القدير جـ ٣ ص ٩٦ والتبيان جـ ٦ ص ٢٧٦ وروح المعاني جـ ٧ ص ١٩٠..
قوله :( لا يعلمهم إلا الله ) أي أن الأمم السابقة من الكثرة بحيث لا يحصى عددهم ولا يعلم مبلغهم إلا الله. قال ابن عباس : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون.
قوله :( جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به ) يعني جاءت هؤلاء الأمم رسلهم الذين أرسلوا إليهم ليدعوهم إلى دين الله الحق- بالحجج والدلالات الظاهرة على صدق دعوتهم لكنهم جحدوهم وصدوهم ( فردوا أيديهم في أفواههم ) وثمة خلاف في تأويل ذلك. فقد قيل : لما سمعوا كلام الله عجبوا منه ووضعوا أيديهم على أفواههم. وقيل : ردوا أيديهم في أفواه الأنبياء يشيرون إليهم بالسكوت. أو وضعوها على أفواههم يسكنونهم ولا يذرونهم يتكلمون.
وقيل : وضعوا أيديهم في أفواههم ضحكا واستهزاء كمن يغلبه الضحك فيضع يده على فيه. وقيل : عضوا أصابعهم تغيظا عليهم من أجل دعوتهم التي جاءوهم بها. كقوله :( عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) وهو تأويل قوي.
وقيل : ردوا عليهم قولهم وكذبوهم وأشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به وهو قولهم :( إنا كفرنا بما أرسلتم به ) وهو قوي كذلك ؛ أي كذبنا ما جئتم به وما تزعمون أنكم أرسلتم به ( وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ) أي إننا في مِرْية مما جئتمونا به من توحيد الله وإفراده بالعبادة ( مريب ) أي موقع في الريبة والتهمة ؛ فهذا الشك الذي يقلقنا ويخالط أذهاننا أوجب لنا التهمة والارتياب وعدم الثقة بكم١.
قوله :( قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا ) قالت الأمم السابقة لأنبيائهم : ما أنتم إلا بشر مثلنا في الهيئة والصورة ؛ فها أنتم تأكلون كما يأكل البشر وتشربون كما يشرب البشر. فما تريدون مما جئتمونا به إلا أن تصرفونا عن عبادة ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام ( فأتونا بسلطان مبين ) فأتونا ببرهان يبين صحة قولكم وحقيقة ما تدعوننا إليه لنعلم أنكم محقون.
كذلك كان منطق الأمم الغابرة الضالة، المنطق الفاسد السقيم، منطق الجهالة والتقليد المضلل الأعمى واتباع ما كان يصنعه الآباء السابقون كيفما تكن حاله من السخف والسفه والضلالة. وذلك هو شأن الجاهلين المضللين في كل زمان، ممن يألفون صنع الآباء وإن كان باطلا، ويأنفون مما يدعوهم إليه المهتدون الصادقون وإن كان صوابا.
قالت الرسل لأممهم الجاحدين : ما نحن من حيث الصورة والهيئة إلا بشر مثلكم كما تقولون ( ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) أي يتفضل الله على من يشاء من الناس بالرسالة والنبوة والحكمة والتوفيق. فما أوتي المرسلون من نبوة ورسالة فذلكم فضل من الله عظيم يمن به على المصطفين الأخيار من عباده.
قوله :( وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ) المصدر من ( أن نأتيكم ) في موضع رفع اسم كان. وخبر كان ( إلا بإذن الله ) وقيل : خبرها ( لنا ) ١.
والمعنى : ليس في مستطاعنا أو قدرتنا أن نأتيكم بسلطان ؛ أي برهان أو حجة. وإنما يتم ذلك بمشيئة لله وإرادته ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) يأمر النبيون المؤمنين من الناس أن يركنوا إلى ربهم ويتوكلوا عليه حق التكلان في أحوالهم وأمور حياتهم، وعلى الخصوص إذا طوقتهم المخاطر أو حدقت بهم خطط الأعداء الظالمين.
قوله :( ولنصبرن على ما آذيتمونا ) ذلك قسم من النبيين الكرام على أنهم سيصبرون على ما يمسهم من الأذية والمكاره من الكافرين الظالمين، الذين يصدونهم عن دعوة الحق بكل الأسباب من التنكيل والتكذيب والإهانة والقتل ( وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) هذا تكرار للأمر بالتوكل على الله على سبيل التأكيد لهذه القضية العظيمة المستندة إلى رسوخ الإيمان في قلوب المسلمين. لا جرم أن المسلمين الثابتين الواثقين من ربهم وأنه يهديهم سبل التوفيق والسداد بما يفضي بهم إلى النصر، متوكلون على الله وحده، واثقون من كلاءته لهم وتأييده إياهم. وليس على المؤمنين الداعين إلى الله في كل الأحوال إلا أن يمضوا على طريق الله ثابتين مطمئنين واثقين من نصر الله وأنهم على الحق، ومتوكلين على الله تمام التوكل ولن يضيعهم الله أو يترهم أعمالهم٢.
٢ - تفسير القرطبي جـ ٩ ص ٣٤٨ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٥٧..
قوله :( فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) قال الله للرسل :( لنهلكن الظالمين ) الذين ظلموا أنفسهم بالتكذيب والصد عن دين الله، فاستحقوا من الله العقاب والتدمير.
قوله :( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) الإشارة إلى إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين أرضهم وديارهم. وذلك كله حق ( لمن خاف مقامي ) أي خاف جلالي وسلطاني يوم القيامة ( وخاف وعيد ) أي خاف عذابي الذي يُسامُهُ الظالمون المجرمون جزاء تكذيبهم وظلمهم وعدوانهم على المؤمنين بالإيذاء والصد عن دين الله. ١
قوله :( ويسقى من ماء صديد ) ( صديد )، عطف بيان. والتقدير : أنه لما قال ( ويسقى من ماء ) بين ذلك الماء فقال :( صديد ) والصديد : الدم المختلط بالقيح، أو هو القيح والدم مما يسيل من جلود أهل النار١.
قوله :( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) يعني تأتيه أسباب الموت من كل مكان أو جهة ؛ إذ تأتيه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن كل موضع في جسده وهو ليس بميت ؛ لأنه لا تزهق نفسه فيستريح، ولا هو بحي ؛ لأن نفسه تتحشرج وتضطرب في الحناجر فلا ترجع إلى مكانها. وذلك تفظيع لما يصيبه من الآلام الشديدة التي يكفي الواحد منها لإزهاق نفسه.
قوله :( ومن ورائه عذاب غليظ ) الضمير في ( ورائه ) يحتمل عودة وجهين. أحدهما : أنه عائد على الكافر. ثانيهما : أنه عائد على العذاب ؛ فيكون المعنى : إن رواء هذا العذاب عذاب غليظ١، وذلك تفظيع لحال الأشقياء المعذبين في جهنم ؛ فإن العذاب الشديد يحيط بهم من أمامهم ومن خلفهم ليذوقوا الهوان البالغ والإيلام الفظيع٢.
٢ - تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٠٣-١٠٥ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٥٢٦..
الثاني : أن ( مثل ) مبتدأ. ( أعمالهم ) بدل منه. و ( كرماد ) خبره١. هذا مثل لأعمال الكافرين في الدنيا ؛ فإنها يمحقها الله في الآخرة ؛ إذ يأتي عليها الحبوط فلا تجديهم أيما نفع. مثل ضربه الله لأعمال الكافرين الجاحدين الذين يحادون الله ورسله ويستنكفون عن دعوة الله ومنهجه الحكيم. فبين الله في هذا المثل أن أعمال هؤلاء الجاحدين الخاسرين التي كانوا يعملونها في حياتهم كصلة الأرحام وإنفاق المال في الخير والإعمار وغير ذلك من وجوه الإصلاح والبر. كل ذلك مآله الحبوط لصدوره عن كافرين بالله ورسوله وكتابه أو لابتغائهم بذلك غير وجه الله ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ).
قوله :( أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ) ( يوم عاصف )، أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية. والعصف معناه شدة الريح. عصفت الريح عصفا وعصوفا : اشتد هبوبها فهي عاصف وعاصفة٢ ؛ أي أن أعمال الكافرين باطلة كلها ؛ فهي مثل رماد عصفت ( اشتدت ) الريح عليه في يوم ريح عاصف فنسفته وذهبت به. فكذلك أعمال الكافرين يوم القيامة، لا تنفعهم عند الله ولا تنجيهم.
قوله :( لا يقدرون مما كسبوا على شيء ) أي لا يقدرون على الانتفاع بشيء من الثواب يوم القيامة على أعمالهم التي عملوها في الدنيا، كعدم قدرتهم على الإمساك بالرماد إذا عصفت به الريح عصفا في يوم شديد الهبوب. قوله :( ذلك هو الضلال البعيد ) أي الخسران الكبير. أو الإشارة إلى التيه البعيد عن الحق والصواب والجزاء الحسن٣.
٢ - المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٦٠٥..
٣ - تفسير الطبري جـ ١٣ ص ١٣٢، وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٥٨..
وللمرء أن يتصور فداحة البون الهائل المذهل بين خلق الإنسان من جهة، وخلق السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن من جهة ثانية ؛ إذ تصور بساطة الكوكب الأرضي الذي يحمل الإنسان، إذا ما قورن بجرم الشمس الحارق المستعر الذي هو أكبر من حجم الأرض بمليون ضعف ونيف. وما الشمس كلها في مقابلة الكون بأجرامه الهائلة المديدة المذهلة إلا كحجم الخردلة الملقاة في فلاة.
الأتباع الذين كانوا في الدنيا خائرين مستضعفين للسادة المجرمين يحدثون سادتهم يوم القيامة في توبيخ وعتاب لا يفضي إلا إلى التحسر والندامة والالتياع. ثم يرد عليهم المستكبرون المضلون في استيئاس مطبق وإحساس مفرط بالهوان والخسران. وفي ذلك يقول الله سبحانه :( فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا ) التبع جمع تابع. فقد قال التابعون المستضعفون للمتبوعين المستكبرين : إنا كنا أتباعكم في الدنيا نأتمر بأمركم ونسير على خطاكم فنعبد الأوثان وننثني عن عبادة الله وحده وعن تصديق المرسلين ( فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ) أي فهل أنتم دافعون عنا بعض عذاب الله في هذا اليوم ؟ ( قالوا لو هدانا الله لهديناكم ) قال المتبوعون المستكبرون للتابعين الضعفاء : لو كنا مهديين في الدنيا لجعلناكم مثلنا في الهداية.
قوله :( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص ) الهمزة وأم، للتسوية. ونظير ذلك قوله :( فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ) والجزع، ضد الصبر٢ والمحيص، بمعنى المنجى والمهرب. والمعنى : أن أهل النار بعد أن يجزعوا جزعا بالغا فيفنى صبرهم ويستيئسوا أشد استيئاس يقول بعضهم لبعض في يأس مطبق وحسرة غامرة مريرة : مستو علينا الجزع والصبر ؛ فنحن في كل الأحوال لابثون ماكثون في النار ليس لنا منها مفر ولا ملاذ.
٢ - مختار الصحاح ص ٤٨..
وهاهي النار جزاء الجاحدين والمسيئين والعصاة. أما أنا فقد وعدتكم أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء ( فأخلفتكم ) أي كذبتكم.
قوله :( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ) أي ما كان لي أيما حجة أو برهان على صدق ما وعدتكم به كذبا، إلا أنني أغويتكم فاتبعتموني أنتم طائعين مريدين من غي قسر في ذلك ولا إكراه إلا الوسوسة منا والتزيين، والاستجابة منكم مختارين.
قوله :( فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ) أي لا تلوموني على استجابتكم لي بل لوموا أنفسكم على استجابتكم مختارين غير مكرهين. يقال لهم هذا القول من اللعين الخبيث إبليس زيادة لهم في التيئيس والإحساس بالحسرة وعظيم الندم ولات حين مندم.
قوله :( ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي ) المصرخ، معناه المغيث، والمستصرخ : المستغيث١ ؛ أي ما أنا بمغيثكم ولا منقذكم مما أنتم فيه من عذاب النار. وما أنتم بقادرين على إغاثتي أو إنقاذي مما أنا فيه كذلك. فكل الكافرين والطاغين والمجرمين مكبكبون في النار، سواء فيهم إبليس وجنوده من الجن أو البشر.
قوله :( إني كفرت بما أشركتمون من قبل ) أشركتموني تقرأ بالياء، على القراءة البصرية. وما، مصدرية. يعني : إني جحدت اليوم بإشراككم إياي مع الله في الدنيا. وبذلك يتبرأ إبليس من إشراكهم له في العبادة والطاعة، ويستنكر كل ذلك منهم يوم القيامة.
قوله :( إن الظالمين لهم عذاب أليم ) وهذا من كلام الله في الأظهر وقيل : إنه من بقية كلام إبليس. ومعناه : أن المشركين الجاحدين من التابعين الخاسرين والمتبوعين الأشقياء قد باءوا الآن جميعا بالعذاب الوجيع٢.
٢ - تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١١٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٦٠ وفتح القدير جـ ٣ ص ١٠٤..
قوله :( خالدين فيها بإذن ربهم ) أي لابثين في الجنة دائمين، غير مبارحين ولا متحولين ( بإذن ربهم ) أي بأمر ربهم. وقيل : بمشيئته وتيسيره.
قوله :( تحيتهم فيما سلام ) تحية أهل الجنة في الجنة السلام ؛ إذ يحيي بعضهم بعضا. وكذلك تحييهم الملائكة بهذه التحية المباركة الكريمة الفضلى. وتلكم هي تحية السلام ؛ ويعني الأمان والصلح والمودة والبراءة من العيوب وهو اسم من أسماء الله تعالى.
( مثلا ) منصوب ؛ لأنه مفعول ( ضرب ). ( كلمة )، بدل منه. وقيل : عطف بيان له. والمثل في هذه الآية بيان بوصف الإيمان والمؤمنين وما ينبثق عنهما من حياة بشرية مثلى، حافلة بالخير والرحمة وكريم الخلال والخصال.
لقد ضرب الله لذلك مثلا ( كلمة طيبة ) والكلمة الطيبة، شهادة أن لا إله إلا الله. وهو قول ابن عباس. وقيل : الإيمان بالله جل ثناؤه ؛ فإن الإيمان به ( كشجرة طيبة ) وهي النخلة الدائمة الإثمار، ذات الأصول الراسخة الضاربة في أغوار الأرض ( وفرعها في السماء ) أي أعلى الشجرة شامخ مرتفع في الفضاء. والمراد : أن إيمان المؤمنين كالشجرة التي لا ينقطع ثمرها ؛ فهي مثمرة خير الثمار في كل الأوقات فيستطيب ثمارها الآكلون. وإيمان المؤمنين إنما ينبثق عنه حميد الخصال وعظيم الصفات والطاعات لله رب العالمين. إنه لا ينبثق عن إيمان المؤمنين إلا الصالحات والحسنات، تتقاطر على الأفراد والأسر والمجتمعات وسائر أوساط البشر ليشيع فيهم الأمن والخير والبركة والود والسعادة. لا جرم أن الإسلام دين الله القويم، ومنهجه الحكيم المكين الراسخ في أعماق الكينونة البشرية والذي تتجلى ملامحه وخصائصه ومزاياه وأحكامه وتصوراته على الدنيا ؛ لتفيض فيها إشعاعات غامرة شتى من ظواهر الأخوة الرصينة الصادقة، والتعاون الحقيقي الوثيق والمودة الصاخبة الكريمة، فتغيب بذلك عن وجه المجتمع علائم السوء والباطل من نفاق ورياء وأثرة وجشع وإيذاء وظلم وخسة ولؤم. ذلك هو شأن الإيمان في نفوس المؤمنين، أو شأن الإسلام كله ؛ فإنه إذا استقر في واقع البشر صنع منه المجتمع المتماسك المترابط المنسج. المجتمع الذي يستظل بظل الخير والأمان والمودة والتعاون ؛ ليفيض بعد ذلك على الدنيا خير السمات والقيم والمزايا الكريمة.
قوله :( ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) يضرب الله هذه الأمثال إفهاما للناس وتذكيرا لهم. وضرب الأمثال لون من ألوان التصوير الحامل للمعاني الذي ينشر الإثارة والاهتمام في الأذهان والنفوس.
والأظهر تأويل الكلمة الخبيثة بالكفر ؛ لما يفهم من السياق بعد ذلك، وهو قوله تعالى :( كشجرة خبيثة ) ذلك أن الكفر جُماع الشر والفساد والضلال والزلل ؛ لأن الإعراض عن منهج الله، والاستكبار على الحق وعلى رسالات النبيين، ليس ذلك كله إلا غاية العتو والتمرد والخطيئة، وإنه لا يعصي أمر ربه إلا ضال تائه فاجر، أو ظلوم مغرور خاسر، وهو في السوء والخطيئة والظلام سادر.
إن الكفر بكل صوره ومعانيه وضروبه وأبعاده، ومن حيث الإدبار عن شريعة الله والنكول عن منهجه الحكيم، لا جرم يفضي بالضرورة إلى الهوان والخسران وفساد الأفراد والمجتمعات في هذه الدنيا. وهذه حقيقة مكشوفة ومشهودة نجدها ونحسها في المستنكفين عن منهج الله في كل زمان ومكان.
ذلك هو الكفر بفساده وظلامه وشروره أشبه بالشجرة الخبيثة، شجرة الحنظل مما هو كريه وممجوج لشدة سوءه ومرارته.
قوله :( اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ) أي أن الشجرة الخبيثة الكريهة الممجوجة ليس لها أصل مكين في الأرض فيسهل استئصالها واجتثاثها حتى لا يبقى منها باقية. وهي في مرارتها وضعفها وسوء مذاقها كالكفر ليس له أصل يضرب في عميق الإنسان بل إنه ما له من قرار مكين ثابت.
ذلكم هو الكفر بكل صوره وأشكاله ومسمياته مضطرب وهزيل وخائر فما يلبث أن يفنى ويتبدد حتى لا يبقى منه إلا الأثر أو الخبر١.
والمعنى : أن المؤمنين العاملين المخلصين يثبت الله قلوبهم بتمكينها عند الأهوال وفي ساعات الشدة سواء في الدنيا أو الآخرة.
والإنسان من جهته، لا مناص له من مواجهة الأهوال والبلايا في كلتا الدارين ؛ فالذين كفروا من الضالين والمضلين الذين زاغوا عن ملة الحق وتنكبوا عن منهج الله ؛ لا جرم أنهم الأخسرون في هذه الدنيا، حيث الفتن والمفاسد والأسقام النفسية والشخصية والاجتماعية وغير ذلك من الأمراض التي تسري في الجاحدين الشاردين عن سبيل الله. وفي الآخرة هم الأذلون التعساء الذين يواجهون الخزي والويل والنار. أما عباد الله الطائعون الثابتون على الحق الماضون على دين الله ومنهجه، لا جرم أنهم الثابتون الذين يمكنهم الله في الدارين تمكينا، فلا تثنيهم الشدائد والفتن عن الاستمساك بالحق، ولا يزيغون عن منهج الله مهما كانت الظروف، أو عصفت بهم رياح الظالمين والمتآمرين والخائنين الذين يتمالأون على الإسلام والمسلمين في كل حين.
قوله :( بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) قيل : القول الثابت في الحياة الدنيا يراد به شهادة أن لا إلا الله وأن محمدا رسول الله. وقيل : ما كان راسخا في قلوب المؤمنين وعقولهم من صدق العقيدة والإيمان بالله ورسوله، ومن المعاني والقناعات التي كانت تغذو أذهانهم وقلوبهم في الحياة الدنيا. وذلك هو القول الثابت الذي يثبت الله به عباده المؤمنين المخلصين في الدنيا.
قوله :( وفي الآخرة ) أي عذاب القبر، وذلك حين يسألون عما كانوا عليه من التوحيد والإيمان بالله وبرسوله ( ص ) فالمؤمنون المخلصون يثبتهم الله ؛ إذ يمكنهم تمكينا فيجيبون الملائكة ثابتين مطمئنين. لكن المجرمون الجاحدون ؛ يسقطون في ظلمة التخسير والهوان واليأس وحينئذ تقرع المجرمين في قبورهم غاشية فظيعة من الرعب والوجل، فيستحوذ عليهم التلعثم والدهش، ويتملكهم الاضطراب والانغلاق والزعزعة، فلا يستطيعون الإجابة أو الحديث إلا في تأتأة وتلعثم وعسر بالغ. نجانا الله من كل هاتيك الكروب والأهوال وكتب لنا في الدارين السلامة والأمن والنجاة.
قوله :( ويضل الله الظالمين ) أي هؤلاء الجاحدون الخاسرون لا يوفقهم الله في حياتهم الدنيا، ولا يثبتهم على القول الثابت في مواطن الفتن والشدائد، لاختيارهم الكفر والباطل. وكذلك يضلهم عن حجتهم في قبورهم كما ضلوا في الدنيا بكفرهم فلا يلقنهم كلمة الحق، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا : لا ندري. فيقول : لا دريت ولا تليت، وعند ذلك يضرب بالمقامع٢ وقد ثبت مثل ذلك في الأخبار.
قوله :( ويفعل الله ما يشاء ) وذلك في تثبيت الذين آمنوا وإضلال الظالمين الذين خسروا أنفسهم. فلا اعتراض على الله في ذلك ولا تعقيب٣.
٢ - امقامع: جمع مقمعة. وهي خشبة أو حديدة معوجة كالمحجن يضرب بها رأس الفيل ونحوه ليذل ويهان انظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٧٦٠ ومختار الصحاح ص ٥٥١..
٣ - تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٢٤ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٦٢ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٣٦٣..
والصحيح أنها عامة في جميع المشركين ( الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) أي أتتهم نعمة الله وهي الإيمان والإسلام بما تضمنه ذلك من توحيد الله وطاعته وفعل الخيرات والصالحات، والسير على طريق الله اللاحب المستقيم، لكنهم بدلوا ذلك كفرا ؛ أي كفروا نعمة الله عليهم وهي الإيمان بالله ورسوله وما أنزل إليهم من دين كريم. لقد جحدوا ذلك كله واستعاضوا عنه بالإشراك واختاروا الضلال والباطل بكل صوره ومسمياته الفاسدة.
قوله :( وأحلوا قومهم دار البوار ) ( قومهم ) مفعول أول. و ( دار البوار )، مفعول ثان. ( البوار )، معناه الهلاك. والبور، الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. وامرأة بور كذلك. وقوم بور ؛ أي هلكى وهو جمع بائر. بار بوارا ؛ أي هلك. وأباره الله : أهلكه. والأرض البور، قبل أن تصلح للزرع١. والمراد بدار البوار في الآية، جهنم.
إذ تبين ذلك بقوله في الآية التالية ( جهنم يصلونها وبئس القرار ) ( جهنم )، منصوب على البدل من ( دار البوار ) وهو غير منصرف للتعريف والتأنيث. ( يصلونها )، جملة فعلية في موضع نصب على الحال١.
والمعنى : أن المشركون المضلين قد أنزلوا أتباعهم من قومهم الضالين السفهاء ( دار البوار ) وهي جهنم التي يدخلونها جميعا فتصطلي بلظاها الحارق جسومهم وجلودهم ( وبئس القرار ) أي بئس المستقر جهنم.
والصحيح أنها عامة في جميع المشركين ( الذين بدلوا نعمة الله كفرا ) أي أتتهم نعمة الله وهي الإيمان والإسلام بما تضمنه ذلك من توحيد الله وطاعته وفعل الخيرات والصالحات، والسير على طريق الله اللاحب المستقيم، لكنهم بدلوا ذلك كفرا ؛ أي كفروا نعمة الله عليهم وهي الإيمان بالله ورسوله وما أنزل إليهم من دين كريم. لقد جحدوا ذلك كله واستعاضوا عنه بالإشراك واختاروا الضلال والباطل بكل صوره ومسمياته الفاسدة.
قوله :( وأحلوا قومهم دار البوار ) ( قومهم ) مفعول أول. و ( دار البوار )، مفعول ثان. ( البوار )، معناه الهلاك. والبور، الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. وامرأة بور كذلك. وقوم بور ؛ أي هلكى وهو جمع بائر. بار بوارا ؛ أي هلك. وأباره الله : أهلكه. والأرض البور، قبل أن تصلح للزرع١. والمراد بدار البوار في الآية، جهنم.
إذ تبين ذلك بقوله في الآية التالية ( جهنم يصلونها وبئس القرار ) ( جهنم )، منصوب على البدل من ( دار البوار ) وهو غير منصرف للتعريف والتأنيث. ( يصلونها )، جملة فعلية في موضع نصب على الحال١.
والمعنى : أن المشركون المضلين قد أنزلوا أتباعهم من قومهم الضالين السفهاء ( دار البوار ) وهي جهنم التي يدخلونها جميعا فتصطلي بلظاها الحارق جسومهم وجلودهم ( وبئس القرار ) أي بئس المستقر جهنم.
قوله :( قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار ) الأمر بالتمتع إشارة إلى الاستخفاف بملاذ الحياة الدنيا والتقليل من شأنها ؛ فإنها متاع. فضلا عما تتضمنه الآية من التوبيخ والتهديد والوعيد للمشركين. يبين ذلك قوله :( فإن مصيركم إلى النار ) إنكم مردودون وصائرون إلى عذاب النار. ٢
٢ - تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٥٣٨ وتفسير القرطبي جـ٩ ص ٣٦٥..
قوله :( يقيموا الصلاة ) ( يقيموا ) مجزوم ؛ لأنه جواب الطلب ( قل ) وقيل : جواب للأمر وهو ( أقيموا ) وتقديره : قل لهم أقيموا يقيموا. وقيل : مجزوم بلام مقدرة وتقديره : ليقيموا، ثم حذف لام الأمر لتقدم لفظ الأمر١. وكذلك قوله :( وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ) المراد بالسر ما خفي. وبالعلانية ما ظهر.
وقيل : السر يراد به التطوع والعلانية يراد بها الفرض. والأظهر الأمر بإنفاق المال سرا في صدقة التطوع، وإنفاقه جهرا في الزكاة المفروضة والنفقات مما لا يحتمل غير الإظهار والإعلان. فما كان من نفقة واجبة أو زكاة مفروضة لا سبيل إلى كتمها أو إخفائها. يضاف إلى ذلك قصد التحضيض للآخرين على أداء زكواتهم والإنفاق على من يعولون.
قوله :( من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال ) أي أدركوا أنفسكم بفعل الطاعات، وبادروا لعمل الحسنات والصالحات قبل أن تدهمكم قارعة الفزع الأكبر حين تقوم القيامة. وحينئذ لا بيع ولا شراء ولا غير ذلك مما اعتاد الناس فعله في دنياهم ؛ بل إن الساعة إذ ذاك ساعة مندم وأهوال وحسرات. وقيل : بيع بمعنى فدية ؛ أي لا لأحد أن يفتدي نفسه بالمال يوم القيامة لينجو بنفسه مما يواجهه من سوء الحساب. قوله :( ولا خلال ) أي مخالَّة. وهو مصدر خاللته. وقيل : جمع خليل، كأخلاء وأخلة والمقصود هنا نفي أن يكون ثمة خليل ينتفع به فيشفع له أو يدفع عنه البلاء المنتظر٢.
٢ - التبيان للطوسي جـ ٦ ص ٢٩٦ وروح المعاني جـ ٧ ص ٢٢ وتفسير الماوردي جـ ٣ ص ١٣٧..
قوله :( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) أنزل الله المطر من السماء غيثا نافعا مغيثا. والسماء يراد به كل ما علا، فكل ما علاك فهو سماء. والمطر يتنزل من طبقات الجو العالية ليخرج الله به ( من الثمرات رزقا لكم ) ( من )، للتبعيض. و ( رزقا ) مفعول أخرج. و ( الثمرات ) تعم كل ما تنبته الأرض. وبعض ذلك ينتفع به الآدميون وهو ما جعله الله رزقا لهم لكي يأكلوه ويقتاتوا منه ويعيشوا به.
قوله :( وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره ) ( الفلك ) يعني السفينة. وهو واحد وجمع يذكر ويؤنث١. على أن السفن من الجواري التي تسير فوق سطح الماء بإرادة الله وتقديره وأمره. وذلك بأن بث الله في كل من الماء والمواد الصلبة من الصفات والميزات الذاتية ما تتم به عملية الطفو على وجه الماء دون غرق. وأيما كائن تتحقق فيه خاصية الطفو على سطح الماء سواء كان الماء بحرا أو نهرا أو غيرهما من الماء العميق المركوم لسوف يحصل الطفو. وفي النظرية العلمية الحديثة أن يكون معدل كثافة الجسم دون معدل كثافة الماء، سبب لحصول الطفو كيلا يغرق الجسم.
والمهم في ذلك أن مثل هذه الخاصية في الأجسام والمياه التي يحصل بسببها الطفو لهو من الله. فالله هو الذي بث في الأشياء والأجسام والمخلوقات ميزاتها وصفاتها. وهو الذي جعل فيها قوانينها ونواميسها التي تتم بموجبها الظواهر المشهودة في الطبيعة. وكل ذلك من فضل الله على الإنسان ؛ إذ يسر له سبل الحياة والعيش في البر أو البحر ليعيش سالما مرتاحا فلا يعتريه عسر ولا حرج.
قوله :( وسخر لكم الأنهار ) ( سخر ) من التسخير وهو التذليل٢ ؛ أي ذلل الله للناس الأنهار لتجري على ظهرها المراكب فتقل الناس من مكان إلى مكان. وليأخذوا منها ما حوته من خيرات مطعومة كالأسماك بأجناسها الكثيرة العجيبة. إلى غير ذلك من وجوه الاستفادة من مياه الأنهار العذبة في الشرب وسقي الزروع والنباتات والمواشي.
٢ - مختار الصحاح ص ٢٩٠..
قوله :( وسخر لكم الليل والنهار ) أي جعلهما يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم. في الليل يهجع الناس ويرقدون ؛ فتستريح أبدانهم وأعصابهم وأذهانهم بعد عناء النهار وما فيه من مكابدة ونصب.
وفي النهار يفيقون من هجعتهم ؛ ليبادروا الكد والكدح والبذل والسعي وهم يبتغون من فضل الله، وليؤدوا ما عليهم من واجبات كعبادة الله وطاعته وأداء حقوق الناس التي في ذممهم كالإنفاق والزكاة وبر الوالدين وصلة الأرحام وإيتاء ذي القربى، والاضطلاع بوجائب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوة البشرية إلى دين الله وترغبيهم في منهج الله الحق وهو الإسلام.
٢ - المعجم الوسيط جـ ١ ص ٢٦٧..
قوله :( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) نعمة الله اسم جنس بمعنى المنعم به. وهو لا يراد به الواحد من النعم بل يراد به الجمع. كأنه قيل : وإن تعدوا نعم الله ( لا تحصوها ) أصل الإحصاء العد بالحصى ؛ فقد كان العرب يعتمدونه في العد. ثم استعمل لمطلق العد من كثرة الاستعمال. والمعنى : أن نعم الله بالغة الكثرة فلا تطيقون حصرها أو عدها. ونعم الله عديدة ومتنوعة ومختلفة. وهي مبثوثة في السماء وفي الأرض وفي سائر أنحاء الطبيعة والحياة مما ينتفع به الإنسان من المطعوم أو المشروب أو الملبوس أو ما فيه رخاء وجمال وسعادة مما تبتهج به النفوس والقلوب والأذهان، أو تنتشي به وتزهو زهوا يثير في جوها البسطة والحبور.
قوله :( إن الإنسان لظلوم كفار ) المراد بالإنسان هنا من تقدم وصفه بالكفر وكثرة الظلم والعصيان. وذلك إخبار من الله أن الإنسان الذي توجد فيه خلال الظلم والكفر ( لظلوم ) أي شديد الظلم، فيظلم النعمة بإغفال شكرها، وقيل : كثير الظلم لنفسه ولغيره. وهو أيضا ( كفار ) أي شديد الكفران للنعمة بجحدها وعدم شكرانها.
وربما قيل : إن الإنسان في الغالب ظلوم، من الظلم وهو الشرك، فيجنح الإنسان للشرك على اختلاف صوره وألوانه. وهو في ذلك ينشد إرضاء من يروم رضاه من الآلهة المصطنعة المفتراة كالآلهة من الجن، أو الأرواح الموهومة، أو الأصنام الجامدة البلهاء، أو من السادة الكبراء من مجرمي البشر. وهو كذلك في الغالب يجنح للكفر بإغفال الشكر لله على أنعمه الكبيرة والكثيرة التي لا تحصيها الأقلام أو الألسن أو القراطيس ؛ ذلكم هو الإنسان في الغالب جانح للظلم والكفران والعصيان إلا من رحم الله من عباده المؤمنين الأبرار المخبتين إليه، الذين يحذرون السقوط في الشرك وظلم الآخرين أو كفران النعم وجحودها. لا جرم أن الزمان طيلة دورانه وجريانه لم يخل من عباد لله صالحين كرام يؤمنون إيمانا صادقا راسخا ويطيعونه مخلصين منيبين إليه، لا يصدهم عن ذلك إغراء ولا فتنة، ولا يحول بينهم وبين الاعتصام بحبل الإسلام إغواء ولا ابتلاء. ١
قوله :( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) ( واجنبني ) من التجنب ؛ أي أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره، ثم استعمل بمعنى البعد. وجانبه وتجانبه واجتنبه كله بمعنى. وجنبه الشيء تجنيبا أي نحّاه عنه١.
والمقصود من الدعاء مجانبة الأصنام والبعد عن عبادتها ؛ أي ثبتنا يا ربنا على التوحيد الخالص لك والتزام ملة الإسلام، واصرفني وبني عن عبادة الأصنام.
وربما قيل : ما الفائدة من دعاء إبراهيم أن يجنّبه الله وبنيه- وهم أولاده من صلبه- عبادة الأصنام مع أن النبيين معصومون عن الكفر وعن عبادة غير الله ؟ ولعل الجواب الصحيح عن ذلك : أن إبراهيم دعا بمثل هذا الدعاء على سبيل التورع والتخشع وزيادة الخوف من الله، ومبالغة في إظهار الحاجة والفاقة إلى فضل الله وعونه ورحمته في كل آن.
قوله :( فمن تبعني فإنه مني ) أي من سار على منهجي، منهج التوحيد الخالص لله وما أنا عليه من ملة صادقة كريمة ( فإنه مني ) من، اتصالية ؛ أي فإنه متصل بي غير منفك عني في ملتي، ملة الإيمان بالله وحده لا شريك له.
قوله :( ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) أي من لم يتبع ملتي وما أنا عليه من منهج الحق والتوحيد ؛ فإنك يا ربنا تستر الذنوب والمعاصي على عبادك وترحمهم بفيض رحمتك الواسعة. وقيل : إن الله يغفر لهم ويرحمهم إن آمنوا وتابوا وأقلعوا عن الكفر والعصيان١.
قوله :( ربنا ليقيموا الصلاة ) أي أسكنتهم بهذا الوادي البلقع القفر الذي يخلوا من أسباب الرزق والمعاش ( ليقيموا الصلاة ) وذلك عند بيتك المحرم البيت المبارك الذي شرفه الله تشريفا وفضله على سائر البيوت في الأرض. وقد ذكر جنس الصلاة من بين العبادات والطاعات تعظيما لشأن الصلاة خاصة، وإظهارا لأهميتها المميزة البالغة التي تعلو على كل الشعائر والطاعات، وتفوق سائر العبادات جلالة وأهمية. وفي قوله :( ليقيموا ) بضمير الجمع، ما يدل على أن الله قد أعلم إبراهيم بأن ولده إسماعيل سيكون له هنالك عقب ونسل يقيمون الصلاة في هذا المكان المبارك المقدس.
قوله :( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ) الأفئدة القلوب، جمع فؤاد. وهو من التفؤّد بوزن التفعل ؛ أي التوقد والتحرق. فأدتُ اللحم أي شويته. وافتأدوا أي أوقدوا نارا. ولحم مفتئد أي مشوي٢ وقوله :( من ) للتبعيض ؛ أي اجعل أفئدة من أفئدة الناس تحنّ وتهفو إليهم وتسرع شوقا وودادا إليهم.
كذلك كان تقدير الله، وهو أن يدعو إبراهيم ربه أن يجعل فريقا من الناس- وليس كل الناس- تهفو قلوبهم وتميل شوقا لمكة. وقيل : لو قال عليه السلام : أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم والناس جميعا سواء فيهم اليهود والنصارى. قوله :( وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) وهذه مسألة أخرى من إبراهيم يتضرع بها إلى ربه أن يرزق ذريته في مكة من خيرات البلاد، وأرزاق يسوقها الناس والعباد، كأن تستجلب إليهم هذه الثمرات من أقطار الأرض الواسعة المترامية. وقد تحقق ذلك بعون الله وتقديره ؛ إذ استجاب دعوة خليله إبراهيم عليه السلام فأسبغ على مكة، البد البلقع القفر من صنوف الطعام والثمرات والخيرات ما لم يكن في الحسبان لولا فضل العاطي الموافق المنان.
قوله :( لعلهم يشكرون ) أي لعلهم يشكرونك على ما أسبغت عليهم من جزيل النعم.
٢ - القانوس المحيط ص ٣٨٩..
قوله :( ربنا وتقبل دعاء ) أي استجب دعائي. وقال ابن عباس : يريد عبادتي. وهو نظير الخبر أن رسول الله ( ص ) قال : " الدعاء هو العبادة ".
أولئك يتوعدهم الله الوعيد المخوف المرجف، الوعيد الذي يثير في القلوب الرعب والوجل، وينشر في الأذهان الذهول والهول. وذلك من خلال هذه الكلمات الربانية المعدودة المزلزلة. بضع كلمات تحمل من الترويع والنذر ما يُرجف المشاعر والأبدان. وذلك في قوله :( ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ) أي تظنن أن الله ساه عما يعمله الجاحدون المشركون من المعاصي والآثام، بل إنه عالم بهم وبأعمالهم التي يحصيها عليهم ليجزيهم الجزاء الذي يستحقونه في يوم الجزاء.
قوله :( إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ) من الشخوص، وهو الارتفاع. وشخص البصر إذا ارتفع. وشخص بصره فهو شاخص ؛ إذا فتح عينيه وجعل لا يطرف١.
والمعنى : أن هؤلاء الجاحدين الظالمين ليس الله بغافل عنهم ولكن الله يؤخر لهم العذاب الأليم الواصب إلى اليوم القارع القاصم. اليوم الذي تغشاهم فيه غاشية القيامة بأهوالها العظام ودواهيها الرعيبة الجسام. وحينئذ تشخص أبصار هؤلاء الخاسرين الهلكى وهي مفتوحة لا تطرف لفرط ما أصابهم من الخوف الفظيع الداهم ولشدة ما ينتابهم حينئذ من الدهش والانهيار.
وهذه هي حال الظالمين المجرمين الذين يأتون يوم القيامة وقد أثقلتهم الخطايا والمعاصي وأهلكهم الكفران والشرك والإفساد في الأرض. يأتون مسرعين رافعين رؤوسهم، مادين أعناقهم، شاخصة أبصارهم فلا تطرف. وذلك كله لهول الموقف العصيب، ولشدة ما يغشاهم من الهوان والوجل. نسأل الله العفو والستر والنجاة والأمان.
قوله :( لا يرتد إليهم طرفهم ) الطرف، معناه تحريك الجفن، والمراد : أن الظالمين لا تطرف أبصارهم ؛ فهم دائمو الشخوص في ذل ووجل.
قوله :( وأفئدتهم هواء ) الهواء معناه الخلاء أو الأجوف الذي لم يشغله شيء، ثم جعل ذلك وصفا للقلب المضطرب الخاوي الذي لا خير فيه ولا قوة. وهذه حال الكافرين الخاسرين يوم القيامة ؛ إذ تكون قلوبهم خالية من كل أمل أو رجاء أو خاطر لانشغالها بما تجده حينئذ من الهم والاضطراب والوجل.
هذه حال الظالمين الخاسرين يوم القيامة من التعس والخسران والذل واشتداد الوجل لهول ما يواجههم من الدواهي العظام والويلات المريعة الجسام. نجانا الله من كل ذلك برحمته نجاة تفضي بنا إلى السلامة والأمان.
وما ينبغي الظن أن عقاب الظالمين محصور في الآخرة دون الدنيا ؛ فإن الله المنتقم الجبار لا يخفى عليه ما يصنعه الطغاة المجرمون في هذه الدنيا من وجوه الظلم والباطل، وما يكيده هؤلاء التعساء المجرمون لدينه وقرآنه والمسلمين من بالغ الكيد والعدوان والاضطهاد. والله جل جلاله يستمهل هؤلاء المضلين العصاة استمهالا، حتى إذا جاء وعده بالانتقام دمّر عليهم أفظع تدمير وأخذهم أخذ عزيز مقتدر في هذه الدنيا قبل الآخرة٤.
٢ - القاموس المحيط جـ ٣ ص ١٠٢ ومختار الصحاح ص ٦٩٦..
٣ - مختار الصحاح ص ٥٥٢..
٤ -تفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٤٤ وفتح القدير جـ ٣ ص ١١٥ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٢٦٥..
يخاطب الله رسوله محمدا ( ص ) أن ( أنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ) ( يوم ) مفعول ثان للفعل ( أنذر )، وليس ظرفا ؛ لأن جعله ظرفا يؤدي إلى أن يكون الإنذار يوم القيامة، وليس من إنذار في يوم القيامة، بل إن يوم القيامة دار حساب وجزاء١. والمعنى : خوّفهم هذا اليوم العصيب وما ينزل بهم فيه من شديد العذاب وما تكون عليه حالهم من خواء القلوب وهم مهطعون رافعون رؤوسهم، وأبصارهم شاخصة باهتة لا تطرف. خوفهم ذلك وغيره من ألوان العذاب في جهنم.
قوله :( فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل ) يقول هؤلاء الخاسرون الذين ظلموا أنفسهم : يا ربنا أخرنا إلى أجل قريب كيما نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع دينك ومنهجك وتصديق النبيين الذين أرسلتهم إلينا معلمين مبلغين هداة ؛ أي طلبوا الرجوع إلى الدنيا فترة صغيرة من الزمن كيما يتلافوا ما فرطوا فيه وما تلبسوا به من بشاعة الجحود والتكذيب في الدنيا. لكن طلبهم لا يغني عنهم من عذاب الله المحقق شيئا. فما يطلبون ولا يرجون إلا وهم تحيط بهم من كل جانب أسباب اليأس والهوان والذلة والتخسير ليفضوا بعد ذلك لا محالة إلى النار وبئس القرار.
قوله :( أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال ) يقال لهم هذا الجواب على سبيل التوبيخ والتقريع ؛ أي أو لم تحلفوا من قبل –في الدنيا- أنكم لا زوال لكم عن هذه الحياة إلى حياة أخرى ؛ فقد كانوا ينكرون أن يزولوا عن هذه الدنيا ليتحولوا عنها إلى الدار الآخرة ؛ فإنهم كانوا مكذبين بالبعث.
قوله :( وعند الله مكرهم ) أي مكتوب عند الله مكرهم ؛ فهو مجازيهم عليه بمكر أعظم من مكرهم. أو عند الله مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يستحقونه فيأتيهم من حيث لا يحتسبون. قوله :( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) يقرأ ( لتزول ) على قراءتين الأولى : فتح اللام الأولى ورفع اللام الأخرى، فتكون اللام للتأكيد، دخلت للفرق بين إن المخففة وبين إن النافية بمعنى ما، فيكون المعنى : وإنه كان مكرهم لتزولُ منه الجبال. وذلك على سبيل التعظيم والتهويل.
الثانية : كسر اللام الأولى وفتح الأخرى. فتكون اللام لام الجحود، وإن، في الآية بمعنى ما، النافية. فيكون المعنى : وما كان مكرهم لِتزولَ منه الجبال. وذلك على سبيل التصغير والتحقير لمكرهم١. و ( كان )، ههنا تامة بمعنى وقع. والمراد بالجبال، آيات الله البينات ودينه القويم الحكيم ؛ فإنه في رسوخه واستقراره وعظيم شأنه كالجبال الرواسي الشم التي لا تميد ولا تتزعزع٢.
٢ - الكشاف جـ٢ ص ٣٨٣ وتفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٤٧ والبيضاوي ص ٣٤٣..
والله جل وعلا أوفى الأوفياء، فلا يخلف ما وعد، فكيف لا يفي رسله المصطفين ما وعدهم به من النصر وتحقيق الغلبة لهم على الظالمين.
قوله :( إن الله عزيز ذو انتقام ) الله قوي غالب، لا يغلبه شيء. وهو منتقم من الظالمين الذين يصدون عن دينه ويعتدون على أوليائه المقربين من نبيين وصالحين مخلصين يدعون إلى الله على بصيرة.
والمراد بالتبديل الذي يأتي على الأرض والسماوات يحتمل وجهين :
الوجه الأول : أن يكون ذلك في الذات ؛ أي تبدل الأرض التي عليها الناس في هذه الدنيا، فتصير أرضا بيضاء نقية كالفضة، وكذلك السماوات الحالية المعروفة تبدل سموات أخرى مختلفة اختلافا ذاتيا.
الوجه الثاني : المراد بالتبديل ما كان في الصفة وليس في الذات. قال ابن عباس في هذا المعنى : هي تلك الأرض إلا أنها تغيرت في صفاتها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوّى، فلا يُرى فيه عوج ولا أمت٢.
قوله :( والسماوات ) أي تبدل السموات غير السموات. وهذا كقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يقتل مؤمن كافر ولا ذو عهد في عهده " والمعنى : ولا ذو عهد في عهده بكافر. أما تبديل السماوات، فهو بانفطارها وانتثار كواكبها وانكدار نجومها وتكوير شمسها وخسوف قمرها وتسجير بحارها. فلا جرم أن ذلك انقلاب كوني هائل مزلزل، انقلاب يأتي على الكون كله وما حواه من خلائق وأشياء سواء في ذلك الأحياء على اختلاف أنواعها وأجناسها، أو الكواكب والنجوم ومختلف الأجرام السابحة في أجواز الفضاء الرحيب، أو ما حوته الأرض من بحار وأنهار ومعادن وبشر. كل أولئك سيأتي عليهم التبديل الكوني المذهل الذي تتغير فيه الصورة والصفات للأشياء جميعا ليصير الوجود إلى عوالم أخرى مختلفة وقد تبدل فيها الحال غير الحال ؛ بل تبدل فيها كل شيء تبديلا.
تلك هي القيامة بفظائعها وقواصمها ودواهيها الجسام. وحينئذ يؤتى بالبشرية جميعها لتناقش الحساب. وهو قوله :( وبرزوا لله الواحد القهار ) أي في ذلك الزمان العصيب من أهوال القيامة حيث القوارع والشدائد والبلايا يظهر بنو آدم فردا فردا بين يدي الله ( الواحد القهار ) أي الغلاب الذي لا يغالب، القهار الذي لا يقهر ؛ بل إنه هو الذي يقهر الخلق بما شاء وكيف شاء.
وإنهم يظهرون جميعا أمام الله مكشوفين صاغرين عرايا وقد غشيهم من اليأس والرعب ما تخوى منه القلوب، وتنهار به الأبدان والأعصاب٣، يظهرون جميعا ليناقشوا الحساب فلا استتار حينئذ ولا مناص ولا غياب، إلا الوقوف بين يدي القاهر الدّيّان.
٢ - الأمت: الانخفاض والارتفاع. انظر مختار الصحاح ص ٢٤..
٣ - تفسير الطبري جـ ١٣ ص ١٦٤- ١٦٧ وتفسير الرازي جـ ١٩ ص ١٤٩ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٦٦ والبيان للأنباري جـ ٢ ص ٦٢..
وذلك كائن في يوم القيامة حيث الحساب والجزاء واشتداد الهول والجزع، وحيث التبدل المذهل الذي يغشى الأرض والسماوات ؛ فإنه يؤتى بالمجرمين وهم الطغاة والخاسرون الذين عتوا عن أمر الله عتوا كبيرا وصدوا الناس عن دين الله، وأشاعوا في الدنيا الكفر والضلال والفساد بكل صوره وألوانه. يؤتى بهم يوم القيامة ( مقرنين في الأصفاد ) أي يوثق بعضهم ببعض ؛ فهم لكونهم متجانسين متشابهين في الكفر والعصيان ؛ فإنهم يُضم بعضهم إلى بعض مقرنين في القيود والأغلال. وقيل : قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد وهي الأغلال والقيود أو الوثاق والسلاسل.
هذه حال من أحوال أهل النار ووصف من أوصاف العذاب الذي يجزونه وهم يتقاحمون في جهنم ؛ فإن لباسهم ؛ إذ ذاك من نحاس مذاب بالغ الحرارة أو ما يشبهه من الحميم الآن الذين تكتوي به جلود هؤلاء الخاسرين الهلكى.
قوله :( وتغشى وجوههم النار ) أي تلفح وجوههم النار المستعرة فتحرقها بضرامها الملتهب.
قوله :( إن الله سريع الحساب ) لقد أحاط الله علما بأعمال العباد جميعا فلا يعزب عنه منها شيء. وهو يحاسب الناس كافة في أسرع وقت بل فيما دون لمح البصر وذلك على الله يسير. وما الخلق بالنسبة إلى سلطانه العظيم وقدرته المطلقة إلا كالفرد الواحد.