تفسير سورة الكهف

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الكهف
مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية
أخرج ابن جرير من طريق إسحاق عن شيخ من أهل مصر عن عكرمة عن ابن عباس قال : بعثت قريش النضر بن الحارث وعُقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة فقالوا : سلوهم عن محمد وصِفُوا لهم صفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى أتيا المدينة فسألا أحبار يهودَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفا لهم أمره وبعض قوله فقالوا لهم سلوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبيّ مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقوّل سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان من أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طَاف مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبأه، وسلوه عن الروح ما هو، فأقبلا حتى قدما على قريش، فقالا : قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه فقال :( أُخْبرُكُمْ غَدا بِمَا سألْتُمْ عَنْهُ ) ولم يستثن فانصرفوا ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يُحَدِث الله في ذلك وجبا ولا يأتيه جبرئيل حتى أرجف أهل مكة، حتى أحزنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه وشقّ عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبرئيل من الله بسور أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفِتية والرجل الطواف وقول الله تعالى :﴿ وَيَسألُونَكَ عَنِ الرّوحِ ﴾١.
١ سورة الإسراء، الآية: ٨٥..

قوله تعالى :﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ﴾ أثنى الله على نفسه بإنعامه على خلقه بما هو أعظم نعمائه على الناس من إنزال القرآن على واحد منهم، لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد الداعي إلى ما به ينتظم لهم صلاح المعاش والمعاد، وفيه تلقين للعباد كيف يثنون عليه ﴿ ولم يجعل له عوجا ﴾ قرأ حفص عوجا في الوصل بسكتة لطيفة على الألف من غير قطع والباقون يصلون ذلك من غير سكت يعني شيئا من العوج باختلال في اللفظ أو تناف في المعنى وانحراف من الدعوة إلى جناب المقدس وخروج شيء منه من الحكمة، وهو في المعاني بكسر العين وفتح الواو كالعَوَج بفتح العين والواو في الأعيان، يقال في رأيه عِوَجُُ وفي عصاه عَوَج، وقيل معناه لم يجعله مخلوقا، روى عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى :﴿ قرآنا عربيا غير ذي عوج ﴾١ أي غير مخلوق
١ سورة الزمر، الآية: ٢٨..
﴿ قيما ﴾ قال ابن عباس أي عدلا يعني مُستقيما معتدلا لا إفراط فيه ولا تفريط، وقال الفراء قيما على الكتب كلها يشهد بصحتها وينسخ بعض أحكامها، وقيل : أي قيما بمصالح العباد فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال منصوب بمضمر، قال قتادة تقديره : أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ولكن جعله قيما، أو على الحال من الضمير في له أو من الكتاب على أن الواو وفي ولم يجعل للحال دون العطف، إذ لو كان للعطف لكان المعطوف فاصلا من المعطوف عليه ولذلك قيل فيه تقديم وتأخير يعني على تقدير كون الواو للعطف تقديره أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، وفائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامة وفي أحدهما غنى عن الآخر التأكيد فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة لا يخلو من أدنى عوج عند التصفح ﴿ لينذر ﴾ العبد بالقرآن الذين كفروا، حذف المفعول الأول اكتفاء بدلالة القرينة، واقتصارا على الغرض المسوق إليه ﴿ بأسا ﴾ أي عذابا ﴿ شديدا ﴾ في نار جهنم ﴿ من لدنه ﴾ أي صادرا من عنده وأبو بكر بإسكان الدال وإشمامها شيئا من الضم بضم الشفتين كقبلة المحبوب وبكسر النون والهاء ويصل الهاء بياء، والباقون بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء وابن كثير يصلها بواو ﴿ ويبشر ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالتخفيف من الأفعال، والباقون بالتشديد من التفعيل ﴿ المؤمنون الذين يعملون الصالحات ﴾ ذكر المفعول الأول هاهنا تعظيما لهم وحثا على الإيمان والأعمال ﴿ أن لهم ﴾ أي بأن لهم ﴿ أجرا حسنا ﴾ هو الجنة ورضوان الله تعالى
﴿ ماكثين فيه ﴾ أي مقيمين في ذلك الأجر ﴿ أبدا ﴾ بلا انقطاع.
﴿ وينذر الذين قالوا أتخذ الله ولدا ( ٤ ) ﴾ خصصهم بالذكر فكرر الإنذار متعلقا بهم استعظاما لكفرهم ولم يذكر المنذر به ها هنا استغناء بتقدم ذكره
﴿ ما لهم به ﴾ أي بالولد أو باتخاذه أو بالقول ﴿ من علم ﴾ يعني يقولون ذلك عن جهل مفرط وتوهم باطل أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم من غير علم بالمعنى الذي أرادوا به، فإنهم كانوا يطلقون الأب والابن بمعنى المؤثر والأثر أو ما لهم بالله من علم لو علموه لما جوزوا نسبة اتخاذ الولد إليه، أو يقال : عدم العلم بالشيء قد يكون لعدم انكشافه مع وجوده، وقد يكون لانعدامه واستحالته والمراد ها هنا ذلك ﴿ ولا لآبائهم ﴾ الذين تقولوه بمعنى التنبي ﴿ كبرت كلمة ﴾ أي عظمت مقالتهم هذه في الكفر لما فيه من التشبيه والتشريك وإبهام احتياجه إلى ولد يعينه ويخلفه إلى غير ذلك من الزيغ وكلمة منصوب على التميز وفيه معنى التعجب والضمير في ﴿ كبرت ﴾ مبهم يفسره ﴿ كلمة ﴾، أو راجع إلى قولهم :﴿ اتخذ الله ولدا ﴾ ويطلق الكلمة على الكلام المركب أيضا حيث يسمون القصيدة كلمة، وقيل أصله من كلمة وهو في محل الرفع على الفاعلية ومن زائدة، ثم حذف من فانتصب بنزع الخافض ﴿ تخرج من أفواههم ﴾ صفة لكلمة تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم والخارج بالذات هو الهواء الحامل لها، وقيل : الجملة صفة لمحذوف هو المخصوص بالذم، لأن كبر هاهنا معنى بئس تقديره قول يخرج ﴿ إن يقولون ﴾ أي ما يقولون ذلك ﴿ إلا كذبا ﴾ صفة لمصدر محذوف أي إلا قولا كذبا يعني ليس لهذا القول مصداق بوجه من الوجوه.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : اجتمع عتبة وشيبة ابن ربيعة أبو جهل بن هشام والنضر بن الحارث والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأبو البختري في نفر من قريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من خلاف قومه إياه، وإنكارهم ما جاء به من النصيحة فأحزنه حزنا شديدا فأنزل الله تعالى ﴿ فلعلك باخع ﴾ أي قاتل ﴿ نفسك على آثارهم ﴾ أي بعد توليتهم عن الإيمان، شبه النبي صلى الله عليه وسلم وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الأسف على توليتهم عن فارقته أحبته فهو يتحسر على آثارهم وينجع نفسه وجدا عليهم ﴿ إن لم يؤمنوا بهذا الحديث ﴾ أي القرآن شرط مستغن عن الجزاء بما مضى ﴿ أسفا ﴾ منصوب على العلية أو الحال أي للتأسف عليهم، أو متأسفا عليهم لحرصك على إيمانهم والأسف فرط الحزن والغضب
﴿ إنا جعلنا ما على الأرض ﴾ من الحيوان والنبات والمعادن ﴿ زينة لها ﴾ ولأهلها فإن قيل : أي زينة في الحياة والعقارب والشياطين ؟ قيل : فيها زينة من حيث أنها تدل على صانعها ووحدته وصفاته الكاملة، وقال ابن عباس : أراد بهم الرجال خاصة هم زينة الأرض وقيل أراد بهم العلماء والصلحاء، وقيل : الزينة بنبات الأشجار والأنهار كما قال الله تعالى :﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت ﴾١ وقيل المراد بما على الأرض ما يصلح أن يكون زينة لها من زخارف الدنيا، قلت ويمكن أن يراد بما على الأرض على العموم كما هو الظاهر وكونها زينة من حيث النظام الجملي أو من حيث إن لكل شيء مدخل في الزينة، لأن حسن الأشياء الحسنة تعرف كما هي عند معرفة قبح أضدادها ﴿ لنبلوهم ﴾ أي الناس المفهوم في ضمن قوله تعالى :﴿ ويبشر المؤمنين ﴾ ﴿ وينذر الذين قالوا أتخذ الله ولدا ( ٤ ) ﴾ ﴿ أيهم أحسن عملا ﴾ في تعاطيه وهو من تزهد فيه ولم يغتر به وقنع منه بما كفى وصرفه على ما ينبغي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون )٢
١ سورة يونس، الآية: ٢٤..
٢ أخرجه مسلم في كتاب الرقاق، باب: أكثر أهل الحنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة بالنساب ٢٧٤٢.
﴿ وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا( ٨ ) ﴾ أي ما جعلناها زينة من الحيوان والنبات وغير ذلك من الأشياء جاعلوها ترابا ورفاتا.
﴿ أم ﴾ بل ﴿ حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ﴾ استفهام تقرير يعني أعلمت أنهم كانوا آية عجبا من آياتنا عجيبة، وصفوا بالمصدر مبالغة أو على أنه بمعنى الفاعل أي معجبا أو ذات عجب، وقيل : الاستفهام على سبيل الإنكار يعني أنهم ليسوا بأعجب آياتنا فإن خلق السماوات والأرض وخلق ما على الأرض من الأجناس والأنواع التي لا تعد ولا تحصى مخلوقة منها على طبائع متباعدة وهيئات مختلفة ثم ردها إليها كما كانت أعجب منهم، والكهف الغار الواسع في الجبل، واختلفوا في الرقيم ؟ قال سعيد بن جبير هو لوح كتب فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم روى هذا أظهر الأقاويل ثم وضعوه على باب الكهف وكان اللوح من رصاص وقيل : من حجارة، وعلى هذا يكون الرقيم بمعنى المرقوم أي المكتوب والرقم الكتابة، وحكي عن ابن عباس أن اسم للواد الذي فيه كهفهم فعلى هذا هو من رقمة الوادي وهو جانبه، وقال كعب الأحبار هم اسم للقرية التي خرج منها أصحاب الكهف وقيل اسم للجبل الذي فيه الكهف، وقيل : أصحاب الرقيم قوم آخرون. أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن النعمان بن بشير أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن أصحاب الرقيم أنهم ثلاثة نفر دخلوا إلى الكهف. وأخرجه أحمد وابن المنذر عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم :( أن ثلاثة نفر فيما سلف من الناس انطلقوا يرتادون لأهلهم فأخذتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة وسدت بابه، فقال أحدهم اذكروا أيكم عَمِل حسنة لعل الله يرحمنا ببركته، فقال واحد استعملت أجراء ذات يوم فجاء رجل وسط النهار وعمل بقيته مثل عملهم فأعطيته مثل أجرهم، فغضب أحدهم ونزل أجره فوضعته في جانب البيت ثم مر بي نفر فاشتريت به فصيلة فبلغت ما شاء الله، فرجع إلي بعد حين شيخا ضعيفا لا أعرفه وقال : إن لي عندك حقا وذكره حتى عرفته فدفعتها إليه جميعا، اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فأخرج عنا فأنصدع الجبل حتى رأوا الضوء، وقال الآخر كانت لي فضيلة وأصاب الناس شدة فجاءتني امرأة فطلبت مني معروفا فقلت ما هو دون نفسك فأبت ثم رجعت ثلاثا ثم ذكرت لزوجها، فقال : أجيبي له وأعيني عيالك فأتت وسلمت إلى نفسها، فلما تكشفت وهممت بها ارتعدت فقلت مالك ؟ قالت أخاف الله فقلت خفيته في الشدة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ملتمسها، اللهم إن كنت فعلته لأجلك فافرج عنا فأنصدع حتى تعارفوا، وقال الثالث كان لي أبوان هرمان وكانت لي غنم وكنت أطعمهما وأسقيهما ثم أرجع إلى غنمي فحبسني ذات يوم غنم فلم أرح حتى أمسيت فأتيت أهلي وأخذت محله فحلبت فيه ومضيت إليهما فوجدتهما نائمين، فشق علي أن أوقظهما فتوقفت جالسا ومحلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما، اللهم إن فعلته لوجهك فأفرج عنا ففرج الله عنهم فخرجوا )١ والله أعلم.
١ الحديث موجود في الصحيحين عن ابن عمر.
أخرجه البخاري في كتاب: الأدب، باب: إجابة دعاء من بر والديه ٥٩٨٤ وأخرجه مسلم في كتاب: الرقاق، باب: قصة أصحاب النار الثلاثة والتوسل بصالح الأعمال ٢٧٤٣..

ثم ذكر الله قصة أصحاب الكهف فقال :﴿ إذ أوى الفتية ﴾
﴿ إذ أوى الفتية ﴾ يعني أذكر إذ أوى الفتية أي صاروا ﴿ إلى الكهف ﴾ يقال أوى فلان إلى موضع كذا أي اتخذه منزلا، قال البغوي وهو غار في جبل بيجلوس واسم الكهف جيرم ﴿ فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة ﴾ يوجب لنا الهدية في الدين والمغفرة من الذنوب والرزق والآمن من العدو ﴿ وهيئ لنا ﴾ قال البيضاوي وأصل التهيئة أحداث هيئة الشيء ﴿ من أمرنا ﴾ أي من الأمر الذي نحن عليه من الإيمان ومفارقة الكفار ﴿ رشدا ﴾ أو المعنى أجعل لنا أمرنا كله رشدا، كقولك رأيت منك رشدا أي استقامة على طريق الحق مع تصلت فيه كذا في القاموس وفيه رشد كنصر وفرح رشدا ورشدا ورشادا اهتدت كاسترشد و استرشد طلبه والرشيد في صفات الله تعالى بمعنى الهادي إلى سواء الصراط والذي حسن تقديره فيما قدر.
قال البغوي اختلفوا في سبب مصيرهم إلى الكهف ؟ قال محمد بن إسحاق مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح متمسكين بعبادة الله عز وجل وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه، وكان ينزل قرى الروم ولا يترك في قرية نزلها أحداً إلا فتنه حتى يذبح للطواغيت ويعبد الأصنام أو يقتله، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف وهي أفسوس كلما نزلها كبر على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه، وكان دقيانوس حين نزلها أمر أن يتبع أهل الإيمان في أماكنهم، فيجزجونهم إلى دقيانوس فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان والذبح للطواغيت، فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل، فلما رأى ذلك أهل الشدة في الإيمان بالله جعلوا يسلمون للعذاب والقتل فيقتلون ويقطعون، ثم يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها وعلى كل باب من أبوابها، حتى عظمت الفتنة فلما رأى ذلك الفتية حزنوا حزناً شديداً فقاموا واشتغلوا بالصلاة والصيام والصدقة والتسبيح والدعاء، وكانوا من أشراف الروم وكانوا ثمانية نفر بكوا وتضرعوا إلى الله وجعلوا يقولون : ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططاً إن عبدنا غيره، اكشف عن عبادك المؤمنين هذه الفتنة وارفع عنهم البلاء حتى يعلنوا بعبادتك فبينما هم على ذلك وقد دخلوا في مصلى لهم أدركهم الشرط فوجدوهم وهم سجود على وجوههم يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل، فقالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك انطلقوا إليه ثم خرجوا فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس فقالوا : تجمع الناس للذبح لآلهتك وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يستهزؤون بك ويعصون أمرك، فلما سمع بذلك بعث إليهم فأتي بهم تفيض أعينهم من الدمع معفرة وجوههم بالتراب، فقال : ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا التي تعبد في الأرض وتجعلون أنفسكم أسوة كسرات أهل مدينتكم واختاروا إما أن تذبحوا لآلهتنا وإما أن أقتلكم، فقال مكسلمينا وهو أكبرهم إن لنا إلهاً ملأ السماوات عظمته لن ندعو من دونه إلهاً أبداً له الحمد والتكبير والتسبيح من أنفسنا خالصاً إياه نعبد وإياه نسأل النجاة والخير فأما الطواغيت فلن نعبدها أبداً فاصنع ما بدا لك، وقال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال، فلما قالوا ذلك أمر فنزع عنهم لبوس كانت عليهم من لبوس عظمائهم، ثم قال سأفرغ فأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة وما يمنعني أن أعجل ذلك لكم إلا أن أراكم شباناً حديثة أسنانكم ولا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكرون فيه وتراجعون عقولكم، ثم أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت ثم أمر بهم فأخرجوا عنه، وأنطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم قريباً لبعض أموره. . فلما رأى الفتية خروجه بادروا قدومه وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم فأتمروا بينهم أن يأخذ كل منهم نفقته من بيت أبيه فيتصدقوا منها ويتزودوا بما بقي ثم ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له بيجلوس فيمكثون فيه ويعبدون الله، حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما يشاء فلما قال ذلك بعضهم لبعض عمد كل فتى منهم إلى بيت أبيه فأخذ نفقته فتصدق منها ثم انطلقوا بما بقي معهم وأتبعهم كلب كان لهم حتى أتوا ذلك الكهف فلبثوا فيه، قال كعب الأحبار ومروا بكلب فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مراراً، فقال لهم الكلب يا قوم ما تريدون مني لا تخشون جانبي أنا أحب أحباء الله عز وجل فناموا حتى أحرسكم. وقال ابن عباس هربوا ليلاً من دقيانوس وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم وتبعهم كلبه فخرجوا من البلد إلى الكهف وهو قريب من البلد، قال ابن عباس فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتكبير والتحميد ابتغاء وجه الله، وجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له تمليخا وكان يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سراً وكان من أجملهم وأجلدهم، وكان إذا دخل المدينة يضع ثياباً كانت عليه حساناً ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها، ثم يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري لهم طعاماً وشراباً ويتجسس لهم الخبر هل ذكر هو وأصحابه بشيء ثم يرجع إلى أصحابه فلبثوا بذلك ما لبثوا. ثم قدم دقيانوس المدينة فأمر عظماء أهلها فذبحوا للطواغيت ففزع أهل الإيمان وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل وأخبرهم أن الجبار قد دخل المدينة وقد ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ففزعوا ووقعوا سجوداً يدعون الله ويتضرعون ويتعوذون من الفتنة، ثم إن تمليخا قال : يا أخوتاه ارفعوا رؤوسكم واطعموا وتوكلوا على ربكم، فرفعوا رؤوسهم وأعينهم تفيض من الدمع فطعموا وذلك من غروب الشمس ثم جلسوا يتحدثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضاً فبينما هم على ذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف فأصابه ما أصابهم وهم مؤمنون وموقنون ونفقتهم عند رؤوسهم، فلما كان من الغد فقدهم دقيانوس فلم يجدهم فقال لبعضهم قد ساءني شأن هؤلاء الفتية الذين ذهبوا لقد كانوا ظنوا أن لي غضباً عليهم لجهلهم ما جعلوا من أمري ما كنت لأحمل عليهم إن هم تابوا وعبدوا آلهتي، فقال عظما ء المدينة ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة لقد كنت أجلت لهم أجلاً ولو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ولكنهم لم يتوبوا، فلما قالوا ذلك غضب غضباً شديداً، ثم أرسل إلى آبائهم فأتى بهم فسألهم عنهم فقال أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني، فقالوا له : أما نحن فلم نعصك فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا فأهلكوها في أسواق المدينة ثم انطلقوا وأرسلوا إلى جبل يدعى بيجلوس، فلما قالوا له ذلك خلى سبيلهم وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية فألقى الله عز وجل في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم، وأراد الله أن يكرمهم ويجعلهم آية لأمة تستخلف من بعدهم وأن يبين لهم ﴿ أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ﴾١ فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم وقال دعوهم في الكهف الذي اختاروا كما هم يموتون جوعاً وعطشاً ويكون كهفهم الذي اختاروا قبراً لهم وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم وقد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال. ثم إن رجلين مؤمنين من بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما اسم أحدهما يندروس والآخر إياش ائتمروا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوحين من رصاص ويجعلاهما في تابوت من نحاس ويجعلا التابوت في البنيان، وقالا : لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عنهم حين يقرأ هذا الكتاب خبرهم ففعلا فبنيا عليه فبقي دقيانوس ما بقي ثم مات هو وقومه وقرون بعده كثيرة وخلفت الملوك بعد الملوك، وقال عبيد بن عمير كان أصحاب الكهف فتياناً مطوقين مسورين ذوي ذوائب وكان معهم كلب صيدهم فخرجوا في عيد لهم عظيم في زي عظيم وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها وقد قذف الله في قلوب الفتية الإيمان وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا وأخفى كل واحد منهم إيمانه، فقالوا في أنفسهم نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه، ثم خرج آخر فرآه جالساً وحده فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك، ثم خرج آخر فاجتمعوا إلى مكان فقال بعضهم لبعض ما جمعكم ؟ وكل واحد يكتم صاحبه إيمانه مخافةً على نفسه، ثم قالوا : ليخرج كل فئتين فيخلو بصاحبه ثم يغشي كل واحد منكم سره إلى صاحبه فإذا هم جميعاً على الإيمان وإذا كهف في الجبل قريبا منهم فقال بعضهم لبعض :﴿ فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ﴾٢ فدخلوا الكهف ومعهم كلب صيدهم فناموا ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً وفقدهم قومهم وطلبوهم فعمى الله عليهم آثارهم وكهفهم فكتبوا أسماءهم وأنسابهم في لوح أن فلان بن فلان وفلان أبناء ملوكنا فقدناهم في شهر كذا في سنة كذا في مملكة فلان بن فلان، ووضعوا اللوح في خزانة الملك فقالوا ليكونن لهذا شأن، ومات ذلك الملك وجاء قرن بعد قرن. وقال وهب بن منبه جاء حواري عيسى عليه السلام إلى المدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل له : إن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إلا سجد له فكره أن يدخلها، فأتى حماما ً قريباً من المدينة فكان يؤاجر نفسه من الحمامي ويعمل فيه ورأى صاحب الحمامة في حمامه البركة وعلقه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم خبر السماء والأرض حتى آمنوا وصدقوه وكان شرط على صاحب الحمام أن الليل لي لا يحول بيني وبينه ولا بين الصلاة أحد، وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامرأة فدخل بها الحمام فعصيره الحمامي وقال : أنت ابن الملك وتدخل مع هذه فاستحي وذهب فرجع مرة أخرى فقال له مثل ذلك فسبه وانتهره ولم يلتفت إلى مقالته حتى دخلا معا فماتا في الحمام وأتى الملك فقيل له : قتل صاحب الحمام ابنك فالتمس فلم يقدر عليه وهرب، فقال : من كان يصحبه ؟ فسموا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم على مثل إيمانهم فأنطلق ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوه وقالوا : نبيت هاهنا الليلة ثم نصبح إن شاء الله فترون رأيكم فضرب الله على آذانهم، فخرج الملك في أصحابه يبتغونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف فلما أراد رجل منهم دخوله رعب فلم يطق أحد أن يدخله، فقال قائل : أليس لو قدرت عليهم قتلتهم ؟ قال : بلى قال : فابن عليهم باب الكهف وأتركهم فيه يموتون جوعاً ففعل، قال وهب فعبروا بعدما سد عليهم باب الكهف زمان بعد زمان، ثم إن راعياً أدركه المطر عند الكهف فقال : لو فتحت هذا الكهف وأدخلت غنمي فيه فأكنهم من المطر فلم يزل يعالجه حتى فتح، ورد الله أرواحهم من الغد حين أصبحوا.
وقال محمد بن إسحاق ثم ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له فلم بقي في ملكه ثمانية وستين سنة فتحزب الناس في ملكه وكانوا أحزاباً منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق ومنهم من يكذب بها، فكبر ذلك على الملك الصالح فبكى وتضرع إلى الله وحزن حزناً شديداً لما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون لا حياة إلا حياة الدني
١ سورة الحج، الآية: ٧.
٢ سورة الكهف، الآية: ١٦..
﴿ فضربنا على آذانهم ﴾ أي ضربنا حجابا على مسامعهم يمنع نفوذ الأصوات فيها وهو النوم أي أنمناهم نوما لا ينبههم الأصوات، فحذف المفعول كما حذف في قوله بنى على امرأته ﴿ في الكهف سنين ﴾ ظرفان لضربنا ﴿ عددا ﴾ أي ذوات عدد وصف به السنين ليدل على الكثرة فإن القليل لا يعد عادة. . . .
﴿ ثم بعثناهم ﴾ أي أيقظناهم ﴿ لنعلم ﴾ أي ليتعلق علمنا تعلقا حاليا مطابقا لتعلقه أولا تعلقا استقباليا. . ﴿ أي الحزبين ﴾ الطائفتين ﴿ أحصى لما لبثوا أمدا ﴾ أي غاية، أي مبتدأ وأحصى خبره وهو فعل ماض وأمدا مفعول ولما لبثوا حال منه وما مصدرية وما في أي من معنى الاستفهام علق عنه لنعلم والمعنى أيهم ضبط أمدا كائنا لزمان لبثهم، وقيل اللام زائدة وما لبثوا مفعول لأحصى وهو فعل ماض وما موصولة أمدا تميز، وقيل أحصى اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد كقولهم للمال وأفلس من ابن المدلف، وأمدا نصب لفعل دل عليه كقوله وأضرب بالسيوف القوانسا
﴿ نحن نقص عليك نبأهم ﴾ أي خبر أصحاب الكهف ﴿ بالحق ﴾ متلبسا بالصدق ﴿ إنهم فتية ﴾ أي شبان جمع فتى كصبي وصبية. . ﴿ آمنوا بربهم وزدناهم هدى ﴾ إيمانا وبصيرة يعني أعطيناهم إيمانا حقيقيا يحصل بعد فناء النفس فوق الإيمان المجازي الذي هو الإقرار باللسان والتصديق بالقلب مع طغيان النفس وكفرانه
﴿ وربطنا على قلوبهم ﴾ بالصبر على هجر الوطن والأهل والمال والجرأة على إظهار الحق والرد على دقيانوس الجبار، وذلك بفناء القلب حتى تمكن فيه حب الله وهيبته وخشيته وتخلى عن ملاحظة غيره من الخلائق فصارا لناس عنده كالأباعر ﴿ إذ قاموا ﴾ بين يدي دقيانوس حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام " فقالوا " مفتخرين ﴿ ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا ﴾ أي إذا أشركنا بالله إلها آخر ﴿ شططا ﴾ أي قولا ذا شطط أي تجاوز عن القدر والحد وتباعد عن الحق مفرط في الظلم من شط يشط إذا بعد
﴿ هؤلاء ﴾ مبتدأ ﴿ قومنا ﴾ عطف بيان له ﴿ اتخذوا من دونه ﴾ أي من دون الله ﴿ آلهة ﴾ يعني الأصنام يعبدونها والجملة خبر للمبتدأ إخبار في معنى الإنكار ﴿ لولا يأتون عليهم ﴾ أي على عبادتهم فحذف المضاف ﴿ بسلطان بين ﴾ أي ببرهان ظاهر فإن الدين لا يؤخذ إلا بالبرهان والظن والتقليد لا يجوز إتباعه في العقائد، وفيه تبكيت فإن إقامة البرهان على عبادة الأوثان محال ﴿ فمن ﴾ أي أحد ﴿ أظلم ممن افترى على الله كذبا ﴾ وزعم أن له شريكا وولدا فإن الافتراء على كل أحد ظلم فكيف على الله تعالى، ثم قال بعضهم لبعض حين تصمموا على الفرار بدينهم.
﴿ وإذ اعتزلتموهم ﴾ يعني قومكم ﴿ وما يعبدون إلا الله ﴾ عطف على الضمير المنصوب أي إذا اعتزلتم القوم ومعبوديهم إلا الله فإنهم كانوا يعبدون الله والأصنام كسائر المشركين ويجوز أن يكون ما مصدرية يعني وإذ اعتزلتموهم وعبادتهم إلا عبادة الله ويجوز أن يكون نافية على أنه إخبار من الله عن الفتية بالتوحيد معترض بين إذا وجوابه لتحقيق اعتزالهم ﴿ فأووا إلى الكهف ﴾ أي صبروا إليه واتخذوه مسكنا كيلا يجاوركم الكفار ﴿ ينشر لكم ربكم ﴾ أي ليبسط لكم الرزق ويوسع عليكم في الدارين ﴿ من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ﴾ بكسر الميم وفتح الفاء اسم آلة، أي ما يرتفق إلى ينتفع به جزموا بذلك لقوة وثوقهم بفضل الله، وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر مرفقا بفتح الميم وكسر الفاء وهو مصدر من الأوزان الشاذة كالمرجع والمحيض وقياسه فتح العين
﴿ وترى الشمس ﴾ لو رأيتهم الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ﴿ إذا طلعت تزاور ﴾ قرأ ابن عامر ويعقوب تزور بإسكان الزاء المنقوطة و تشديد الراء المهملة على وزن تحمر من الأفعلال، والكوفيون بفتح التاء والزاء مخففا وألف بعدها والباقون بالزاء المنقوطة المشددة وألف بعدها وأصله تتزاور من التفاعل فحذف الكوفيون إحدى التائين والباقون أدغموها في الزاء، وكلها من الزور بمعنى الميل يعني تميل ﴿ عن كهفهم ذات اليمين ﴾ أي جهة اليمنى تقديره الجهة ذات اسم اليمين فلا يقع عليهم شعاعها ﴿ وإذا غربت تقرضهم ﴾ أي تقطعهم يعني تتركهم وتعدل عنهم ﴿ ذات الشمال ﴾ يعني يمين الكهف وشماله ﴿ وهم في فجوة منه ﴾ أي متسع من الكهف يعني في وسطه بحيث ينالهم روح الواء ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس، قال ابن قتيبة كان كهفهم مستقبل بنا ت النعش فاقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه، والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مقابله بجانب اليمين وهو الذي يلي المغرب وتغرب محاذيه بجانب الأيسر فيقع شعاعها على جنبتيه ويقلل عفونته ويعدل هواه ولا يقع عليهم شعاعها فيؤذي أجسادهم ويبلي ثيابهم، وقال بعض العلماء هذا القول خطأ وهو أن كان الكهف مستقبل بنات النعش ولأجل ذلك كان كما ذكر، ولكن الله صرف الشمس عنهم بقدرته وحال بينها وبينهم بدليل قوله تعالى :﴿ ذلك من آيات الله ﴾ أي من عجائب صنعه ودلالات قدرته التي يعتبر بها، ويمكن أن يقال إن ذلك يعني شأنهم وإيواءهم إلى كهف كذلك وإخبارك قصتهم من آيات الله ﴿ من يهد الله ﴾ بالتوفيق ﴿ فهو المهتد ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو بالياء وصلا والباقون يحذفونها في الحالين يعني فهو الذي أصاب الفلاح والمراد به إما الثناء عليهم أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة لكن المنتفع بها من وقفه الله تعالى للتأمل فيها والاستبصار بها ﴿ ومن يضلل ﴾ أي من يخذله ولم يرشده ﴿ فلن تجد له وليا مرشدا ﴾ أي من يليه ويرشده
﴿ وتحسبهم أيقاظا ﴾ جمع يقظ لانفتاح عيونهم أو لكثرة تقلبهم ﴿ وهم رقود ﴾ نيام جمع راقد كقاعد وقعود ﴿ ونقلبهم ﴾ في رقدتهم من غير إرادتهم ﴿ ذات اليمين وذات الشمال ﴾ أي مرة للجنبة ذات اسم اليمين ومرة للجنبة ذات اسم الشمال، قال ابن عباس كانوا يتقلبون في السنة مرة من جانب إلى جانب لئلا تأكل الأرض لحومهم، قيل كان يوم عاشوراء يوم تقلبهم، وقال أبو هريرة كان لهم كل سنة تقليبا ﴿ وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ﴾ حكاية حال ماضية ولذلك أعمل اسم لفاعل وأجاز الكوفيون إعمال اسم الفاعل مطلقا، قال مجاهد والضحاك الوصيد فناء الكهف، وقال عطاء الوصيد عتبة الباب، وقال السدي الوصيد الباب وهي رواية عكرمة عن ابن عباس، قال أكثر أهل التفسير : إنه كان من جنس الكلاب، وروي عن ابن جريج إنه كان أسدا ويسمى الأسد كلبا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال :( اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ) فافترسه الأسد١، والأول المعروف. قال ابن عباس كان كلبا أنمر ويروى عنه فوق العلطي ودون الكردي، وقال مقاتل كان أصغر، وقال القرطبي كانت شدة صفرته تضرب إلى الحمرة، وقال الكلبي لونه كالخليج، وقيل : لون الحجر، قال ابن عباس اسمه قطمير، وعن علي عليه السلام اسمه زبان وقال الأوزاعي اسمه تقور، وقال السدي ثور، وقال كعب صهبا، قال خالد بن معدان ليس في الجنة شيء من الدواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار، قال السدي كان أصحاب الكهف إذا انقلبوا انقلب الكلب معهم فإذا انقلبوا إلى اليمين كسر الكلب أذنه اليمنى ورقد عليها وإذا انقلبوا إلى الشمال كسر أذنه اليسرى ورقد عليها ﴿ لو اطلعت عليهم ﴾ فنظرت إليهم يا محمد ﴿ لوليت ﴾ أي لهربت ﴿ منهم فرارا ﴾ منصوب على المصدرية لأنه نوع من التولية أو على العلية أو على الحال أي فارا ﴿ ولملئت ﴾ قرأ نافع وابن كثير بتشديد اللام والباقون بتخفيفها ﴿ منهم رعبا ﴾ أي خوفا برعب أي يملأ صدرك، قيل من وحشة المكان، وقال الكلبي لأن أعينهم كانت مفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم، وقيل لكثرة شعورهم وطول أظفارهم وتقلبهم من غير حس ولا إشعار، وقيل إن الله منعهم بالرعب لئلا يدخل عليهم أحد وهو الصحيح المختار، يدل عليه ما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال غزونا مع معاوية رضي الله عنه غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف، فقال معاوية لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال ابن عباس قد منع ذلك من هو خير منك فقال :﴿ لو أطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ﴾ فلم يسمع معاوية وبعث ناسا فقال اذهبوا فانظروا، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأحرقتهم، أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم.
١ أخرجه ابن عساكر، وأورده السيوطي في الخصائص الكبرى وقال: أخرجه ابن إسحاق، وأبو نعيم من طرق أخرى مرسلة. انظر كنز العمال ٣٥٥٠٦..
﴿ وكذلك ﴾ أي كما أنمناهم في الكهف وحفظنا أجسادهم من البلى على طول الزمان ﴿ بعثناهم ﴾ من تلك النومة الطويلة المشبهة بالموت آية على كمال قدرتنا ﴿ ليتساءلوا بينهم ﴾ أي ليتساءل بعضهم بعضا فيتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم فيزدادوا يقينا على كمال قدرة الله تعالى، ويستبصروا به أمر البعث ويشكروا ما أنعم به عليهم فعلى هذا اللام لام العلة، وقال البغوي اللام لام العاقبة لأنهم لم يبعثوا للسؤال ﴿ قال قائل منهم ﴾ وهو رئيسهم مكسلمينا ﴿ كم لبثتم ﴾ في نومكم وذلك أنهم استكثروا طول نومهم، ويقال أنهم راعهم ما فاتهم من الصلوات فقالوا ذلك ﴿ قالوا لبثنا يوما ﴾ وذلك أنهم دخلوا الكهف غدوة وانتبهوا عشية فقالوا لبثنا يوماً، ثم نظروا وقد بقيت من الشمس بقية فقالوا ﴿ أو بعض يوم ﴾ وهذا الجواب مبني على غالب الظن وفيه دليل على أن القول بغالب الظن جائز، فلما نظروا إلى شعورهم وأظفارهم علموا أنهم لبثوا دهرا ﴿ قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ﴾ وقيل : إن رئيسهم مكسلمينا لما سمع الاختلاف قال دعوا الاختلاف ﴿ فابعثوا أحدكم ﴾ يعني تمليخا. . . ﴿ بورقكم ﴾ قرأ أبو عمرو و حمزة و أبو بكر ساكنة الراء والباقون بكسرهما ومعناهما واحد وهي الفضة مضروبةً كانت أو غير مضروبة ﴿ هذه إلى المدينة ﴾ قيل : هي طرطوس وكان اسمها في الجاهلية أفسوس فسموها في الإسلام طرسوس، وفي حملهم الورق معهم دليل على أن التزود رأي المتوكلين ﴿ فلينظر أيها ﴾ أي أي أهلها بحذف المضاف ﴿ أزكى طعاماً ﴾ أي أحل طعاماً حتى لا يكون من غصب أو سبب حرام وقيل أمروه أن يطلب ذبيحة من يذبح لله وكان فيهم مؤمنون يخفون إيمانهم، وقال الضحاك أطيب طعاماً وقال مقاتل بن حيان أجود طعاماً وقال عكرمة أكثر وأصل الزكاة الزيادة وقيل : أرخص طعاماً ﴿ فليأتكم برزق منه وليتلطف ﴾ أي ليتكلف في اللطف في المعاملة حتى لا يغبن أو في التخفي حتى لا يعرف ﴿ ولا يشعرن بكم أحدا ﴾ من الناس أي لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور بنا من غير قصد منه فسمي ذلك إشعارا منه بهم لأنه سبب فيه
الضمير في ﴿ إنهم ﴾ راجع إلى الأحد المقدر في أيها ﴿ إن يظهروا ﴾ أي يطلعوا ﴿ عليكم ﴾ أو يظفروا بكم ﴿ يرجموكم ﴾ يقتلوكم بالرجم ﴿ أو يعيدوكم في ملتهم ﴾ أي يصيروكم إليها كرها فالعود بمعنى الصيرورة وقيل : هو بمعناه وكانوا أولا في دينهم فآمنوا ﴿ ولن تفلحوا إذا ﴾ أي إذا دخلتم في ملتهم﴿ أبدا ﴾
﴿ وكذلك ﴾ أي كما أنمناهم وبعثناهم ليزدادوا بصيرة ﴿ أعثرنا ﴾ أي أطلعنا الناس يقال : عثرت على الشيء إذا اطلعت عليه وأعثرت غيري أي أطلعته ﴿ عليهم ليعلموا ﴾ أي ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم ﴿ إن وعد الله ﴾ بالبعث بعد الموت ﴿ حق ﴾ لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت ثم يبعث ﴿ وأن الساعة ﴾ أي القيامة الموعودة ﴿ لا ريب فيها ﴾ أي في إمكانها وإن من توفي نفوسهم وأمسكها ثلاث مائة سنين حافظا أبدانها من التحلل والتفتت ثم أرسلها إليها قادر على أن يتوفى نفوس جميع الناس ممسكا إياها إلى أن يحشر أبدانها فيرد عليها ﴿ إذ يتنازعون ﴾ ظرف لأعثرنا أي أعثرنا عليهم حين كان الناس يتنازعون ﴿ بينهم أمرهم ﴾ أي بين أمر دينهم، قال عكرمة تنازعوا في البعث فقال قوم للأرواح دون الأجساد، وقال المسلون البعث للأرواح والأجساد جميعا، فبعثهم الله وأراهم أن البعث للأرواح والأجساد جميعا، أو في أمر الفتية حين أماتهم ثانيا بالموت فقال بعضهم ماتوا وقال بعضهم ناموا نومهم أول مرة، وقال ابن عباس تنازعوا في البنيان قال المسلمون نبني عندهم مسجدا لأنهم كانوا على ديننا وقد ماتوا مسلمين وقال المشركون نبني عليهم بنيانا يسكنه الناس ويتخذونه قرية، أو على باب كهفهم بنيانا يمنع الناس عن التطرق إليهم ضنا بتربتهم لأنهم من أهل نسبنا كما قال الله تعالى ﴿ فقالوا ﴾ أي المشركون من أهل القرية ﴿ ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم ﴾ أي المسلمون وأصحابه فإنهم كانوا أصحاب ملك وثروة وحكومة حينئذ ﴿ لنتخذن عليهم مسجدا ﴾ يصلي فيه المسلمون ويتبركون بهم، وقوله :﴿ ربهم أعلم بهم ﴾ الظاهر أنه اعتراض من الله تعالى ردا على الخائضين في أمرهم فإن كلا من الفريقين انتسبوا أنفسهم إليهم وهم براء من الكفر وأربابها ولم يكونوا من عوام المؤمنين أيضا وإن كانوا منهم فإن الصوفي كائن بائن قال الفاضل الرومي.
هركسي درظن خودشد يارمن وازدرون من نجست أسرار من
وقيل : إنه من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم، فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك قالوا ربهم أعلم بهم.
مسألة : هذه الآية تدل على جواز بناء المسجد ليصلى فيه عند مقابر أولياء الله قصدا للتبرك بهم، وقد كان الشيخ الأستاذ محمد فاخر المحدث رحمه الله يكره ذلك مستدلا بما رواه مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي علي ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته " ١ وما روى مسلم عن جابر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يبنى عليه وأن يقعد عليه ؟ وما روى الشيخان عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا :" لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه ويقول وهو كذلك ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) قالت :" يحذر مثل ما صنعوا " ٢ قلت : هذه الأحاديث تدل على كراهة تجصيص القبور والبناء عليها وجعل القبور مشرفة، ولا دلالة لها على كراهة بناء المسجد يقرب منها، ومعنى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد أنهم يسجدون إلى القبور، كما هو صريح في حديث أبي مرثد الغنوي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ولا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها )٣ رواه مسلم.
١ أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب: الأمر بتسوية القبر ٩٦٨ وأخرجه النسائي في كتاب الجنائز، باب: تسوية القبور إذا رفعت ٢٠٢٢ وأخرجه الترمذي في كتاب: الجنائز، باب: ما جاء في تسوية القبر ١٠٤٣..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الجنائز، باب: النهي عن تخصيص القبر والبناء عليه ٩٧٠..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في البيغة ٤٣٤ وأخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور ٥٣١..
﴿ سيقولون ﴾ أي المتنازعون في عدد الفتية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ ثلاثة رابعهم كلبهم ﴾ أي جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم وثلاثة خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلاثة وجملة ﴿ رابعهم كلبهم ﴾ صفة لثلاثة وكذا ما بعده ﴿ ويقولون خمسة سادسهم كلبهم ﴾ لم يذكر بالسين اكتفاء بعطفه على ما هو فيه، قال البغوي روي أن السيد والعاقب وأصحابها من نصارى نجران كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبياً كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال العاقب وكان نسطورياً كانوا خمسة سادسهم كلبهم فرد الله عليهم قولهم بقوله ﴿ رجما بالغيب ﴾ منصوب على المصدرية بفعل مقدر يعني يرجمون رجما ويرمون رميا بالخبر الغائب عنهم يعني ليس في خزانة علمهم ذلك، أو على العلية متعلق بقوله يقولون ومعنى رجما ظنا وضع الرجم موضع الظن لأنهم يقولون كثيرا رجم بالظن مكان قولهم ظن حتى لم يبق بينهم فرق بين العبارتين كذا قال في المدارك يعني ليس إخبار الفريقين مستندا إلى علم مطابقا للواقع ﴿ ويقولون ﴾ يعني المسلمين بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبرائيل ﴿ سبعة وثامنهم كلبهم ﴾ أدخل الواو على الجملة الواقعة صفة للنكرة تشبيها لها بالواقعة حالا من المعرفة لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه ثابت، وقيل : هذه واو الثمان وذلك أن العرب يعد فيقول واحد اثنان ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة وثمانية لأن العقد كان عندهم سبعة كما هو اليوم عندنا عشرة ومنه قوله تعالى :﴿ التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ﴾١ وقوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكاراً( ٥ ) ﴾٢ قال الله تعالى :﴿ قل ربي ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء الباقون بإسكانها ﴿ أعلم بعدتهم ﴾ أي بعددهم ﴿ ما يعلمهم إلا قليل ﴾ منهم أي النصارى، أو إلا قليل من الناس وهم المسلمون قال ابن عباس أنا من ذلك القليل كانوا سبعة، رواه ابن جرير والفريابي وغيرها عنه، وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنهم سبعة ثامنهم كلبهم، قال البيضاوي إن الله تعالى أثبت العلم بهم لطائفة بعدما حصر أقوال الطوائف في الثلاثة المذكورة، فإن عدم إيراد القول الرابع في نحو هذا المحمل دليل على العدم مع أن الأصل نفيه، وبعدما رد القولين الأولين ظهر أن الحق هو القول الثالث فقال البغوي روي عن ابن عباس أنه قال : هم مكسلمينا وتمليخا ومرطونس وسنونس وسارينونس وذو نواس وكعسططيونس وهو الراعي رواه الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد صحيح عنه قال ابن حجر في شرح البخاري في النطق بها اختلاف كثير ولا يقع الوثوق من ضبطها بشيء ﴿ فلا تمار فيهم ﴾ أي لا تجادل في شأن الفتية وعددهم ﴿ إلا مراء ظاهرا ﴾ أي جدالا بظاهر ما قصصنا عليك من غير تجهيل لهم ولا تعمق فيه إذ لا فائدة في ذلك الجدال ﴿ ولا تستفت فيهم ﴾ أي في شأن أصحاب الكهف وعددهم ﴿ منهم ﴾ أي من أهل الكتاب ﴿ أحدا ﴾ أي لا تسأل عن قصتهم سؤال مستعلم فإن فيما أوحي إليك لمندوحة عن غيره مع أنهم لا علم لهم بها، وأيضا لا فائدة لك في زيادة العلم بأحوالهم، ولا سؤال متعنت تريد تفضيح المسؤول عنه وتزييف ما عنده، فإنه مخل لمكارم الأخلاق والله أعلم، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : حلف النبي صلى الله عليه وسلم على يمين فمضى له أربعون ليلة فأنزل الله تعالى :﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ( ٢٣ ) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ( ٢٤ ) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا ( ٢٥ ) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ( ٢٦ ) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( ٢٧ ) ﴾.
١ سورة التوبة، الآية: ١١٢..
٢ سورة التحريم، الآية: ٥..
﴿ { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ( ٢٣ ) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ﴾ وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قالت اليهود لقريش سلوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين، فسألوه فقال : ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عنه الوحي بضعة عشر يوما، حتى شق عليه وكذبته قريش فأنزل الله هذه الآية، وقد ذكر في أوائل السورة ما أخرج ابن جرير نحوه، وكذا ذكرنا في سورة بني إسرائيل في تفسير قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الروح ﴾١ والاستثناء استثناء من النهي، أي لا تقولن لأجل شيء تعزم عليه ﴿ إني فاعل ذلك ﴾ الشيء فيما يستقبل من الزمان
١ سورة الإسراء، الآية: ٨٥..
﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ يعني لا تقولن في حال من الأحوال إلا متلبسا بمشيئته أي إلا قائلا إن شاء الله، أو في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئته أن تقوله بمعنى إلا وقت أن يأذن لك فيه، وذلك الوقت إنما وقت قولك إن شاء الله معه، وليس الاستثناء متعلقا بقوله إني فاعل لأنه لو قال إني فاعل كذا إلا أن يشاء الله، كان معناه إلا أن يعترض مشيئة الله دون فعلي وذلك لا مدخل فيه للنهي، وهذا نهي تأديب من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ واذكر ربك ﴾ بالتسبيح والاستغفار ﴿ إذا نسيت ﴾ الاستثناء فيه حث وتأكيد على الاهتمام في إتيان الاستثناء على كل عزم، أو المعنى وأذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليعينك على التدارك، أو المعنى إذا نسيت شيئا فأذكره ليذكرك المنسي.
وقال عكرمة معنى الآية ﴿ وأذكر ربك ﴾ إذا غضبت، قال وهب مكتوب في الإنجيل ابن آدم أذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، وقال الضحاك والسدي هذا في الصلاة عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ومن نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ) رواه البغوي وفي الصحيحين وعند أحمد والترمذي والنسائي بلفظ " من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها " ١ وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره ) رواه أحمد والحاكم وصححه، وقال ابن عباس ومجاهد والحسن معناه إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فأستثن، ومن ها هنا جوزوا تأخير الاستثناء ولو بعد سنة ما لم يحنث أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني والحاكم عن ابن عباس، ويؤيد قولهم ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : لما نزل هذه الآية قال عليه السلام إن شاء الله وعامة الفقهاء على خلافه فإن الكلام الغير المستقل إذا كان مغيرا لمعنى كلام آخر كالشرط والاستثناء والغاية والبدل بدل البعض لا بد أن يكون متصلا به، إذ لو صح الاستثناء ونحو ذلك منفصلا لم يتقرر إقرار ولا طلاق ولا إعتاق ولا يعلم صدق ولا كذب.
حكي : أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة خالف ابن عباس رضي الله عنهما في الاستثناء المنفصل، فاستحضره لينكر عليه فقال أبو حنيفة هذا يرجع عليك أنك تأخذ البيعة بالطاعة أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن كلامه وأمر الطاعن فيه بإخراجه من عنده، وما روى من قوله صلى الله عليه وسلم : إن شاء الله عند نزول هذه الآية ليس استثناء متعلقا بقوله صلى الله عليه وسلم وائتوني غدا أخبركم يعني عن أصحاب الكهف والروح وذي القرنين، بل هو استثناء متعلق بمقدر تقديره لا أترك الاستثناء إن شاء الله تعالى فيما أقول في ثاني الحال أني فاعل ذلك غدا والله أعلم.
وقالت الصوفية العلية : إن معنى الآية ﴿ وأذكر ربك إذا نسيت ﴾ ما عداه، قالوا : ذكر الله سبحانه دائما لا يتصور ما لم يحصل لقلبه نسيان عما سواه لأن قلب الإنسان يشغله شأن عن ِشأن ﴿ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ﴾٢ فالذكر الدائم الذي لا يقع فيه فتور لا يتصور ما لم يحصل لقلبه نسيان دائمي عما سواه وهذه الحالة يعبر عندهم بفناء القلب وأما الذكر الذي يعقبه غفلة فلا يعتدون به، والقلب يذكر تارة ويغفل عنه ويذكر غيره أخرى لا يسمى عندهم موحدا، وهذا التأويل أنسب بمنطوق الكتاب وأوفق للعربية وأبعد من التجوز لأن قوله :﴿ إذا نسيت ﴾ ظرف لا ذكر والظرفية الحقيقية أن يكون الذكر في وقت النسيان، ولا شك أن وقت الذكر مغاير لوقت النسيان على سائر التأويلات السابقة، فلا يكون الظرفية على تلك التأويلات إلا مجازا والحمل على الحقيقة أولى ﴿ وقل عسى أن يهدين ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو بالياء وصلا فقط وابن كثير بالياء في الحالين والباقون يحذفونها فيهما أي يهدني ﴿ ربي لأقرب من هذا ﴾ المنسى ﴿ رشدا ﴾ أي خيرا وصلاحا عطف على أذكر يعني إذا نسيت الاستثناء أو شيئا مما أمرك الله بإتيانه فأذكر الله بالتسبيح والاستغفار وأستعنه وقل عسى أن يهدين ربي لشيء آخر أفضل من هذا المنسي وأقرب منه رشدا، أو ذلك الندم والتوبة والاستغفار مع القضاء، وقيل إن القوم لما سألوه عن قصة أصحاب الكهف على وجه العناد أمره الله عز وجل أن يخبرهم بأن الله سيؤتيه من الحجج على صحة نبوته ما هو أدل من قصة أصحاب الكهف، وقد فعل حيث أتاه علم غيب المرسلين وعلم ما كان وما يكون ما هو أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف، وقال بعضهم هذا شيء أمر الله رسوله أن يقوله مع قوله إن شاء الله لا أترك الاستثناء أبدا إذا ذكر الاستثناء وبعد النسيان يعني إذا ترك الإنسان إن شاء الله ناسيا ثم ذكره فتوبته من ذلك أن يقول : عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا، وعلى تأويل الصوفية فمعنى الآية : وأذكر ربك إذا نسيت غيره وقل عسى أن يهدين ربي أي يوصلني لشيء وهو أقرب من هذا الذكر رشدا وهو ذات الله سبحانه الذي هو أقرب من حبل الوريد
١ أخرجه البخاري في كتاب: مواقيت الصلاة، باب: من نسي الصلاة فيصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة ٥٩٧ وأخرجه مسلم في كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها ٦٨٤ وأخرجه الترمذي في كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الرجل ينسى الصلاة ١٧٨.
وأخرجه النسائي في كتاب: المواقيت، باب: فيمن نسي صلاة ٦٠٨..

٢ سورة الأحزاب، الآية: ٤..
﴿ ولبثوا في كهفهم ﴾ يعني لبثوا أصحاب الكهف أحياء مضروبا على آذانهم، وهذا بيان من الله تعالى لما أجمله من قبل حيث قال :﴿ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ( ١١ ) ﴾١ وقيل : هذا خبر عن أهل الكتاب أنهم قالوا ذلك، ولو كان خبرا من الله تعالى عن قدر لبثهم لم يكن لقوله :﴿ قل الله أعلم بما لبثوا ﴾.
١ سورة الكهف، الآية: ١١..
﴿ قل الله أعلم بما لبثوا ﴾وجه وهذا قول قتادة، ويدل عليه قراءة ابن مسعود، وقالوا لبثوا في كهفهم ثم رد الله عليهم بقوله قل الله أعلم بما لبثوا، والأول أصح وأما قوله قل الله أعلم بما لبثوا معناه أن الأمر في مدة لبثهم كما ذكرنا فإن نازعوك فيها فأجبهم قل الله أعلم منكم بما لبثوا وقد أخبر بمدة لبثهم، وقيل : إن أهل الكتاب قالوا إن المدة من وقت دخولهم الكهف إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه، فرد الله عليهم وقال قل الله أعلم بما لبثوا يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا مضى زمان الله أعلم به ﴿ ثلاث مائة سنين ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالإضافة لغير تنوين على مائة، على وضع الجمع في التميز موضع المفرد كما في قوله :﴿ بالأخسرين أعمالا ﴾١ قال الفراء من العرب من يضع سنين موضع سنة، وقرأ الباقون ثلاثمائة بالتنوين فسنين على هذا بدل من ثلاثمائة أو عطف بيان، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن جرير عن الضحاك قالا : نزلت ﴿ ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة ﴾ فقيل : يا رسول الله سنين أم شهورا ؟ فأنزل الله تعالى سنين ﴿ وازدادوا تسعا ﴾ قال الكلبي قالت نصارى نجران أما ثلاث مائة فقد عرفنا وأما التسع فلا علم لنا به فنزلت ﴿ قل الله أعلم بما لبثوا ﴾ وقال البغوي روي عن علي عليه السلام أنه قال عند أهل الكتاب : إنهم لبثوا ثلاث مائة سنة شمسية و الله تعالى ذكر ثلاث مائة قمرية والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين فيكون في ثلاث مائة تسع سنين فلذلك قال ﴿ وازدادوا تسعاً ﴾ ﴿ له غيب السموات والأرض ﴾ يعني مختص به تعالى ما غاب من غيره في السماوات والأرض ﴿ أبصر به ﴾ أي بالله تعالى ﴿ وأسمع ﴾ ذكر كماله تعالى في الإبصار والسمع بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره تعالى في الإدراك خارج عما عليه إدراك السامعين والمبصرين إذ لا يحجبه شيء، ولا يتفاوت دونه لطيف وكثيف وصغير وكبير وخفي وجلي ﴿ ما لهم ﴾ ما لأهل السماوات والأرض ﴿ من دونه ﴾ أي من دون الله ﴿ من ولي ﴾ ينصرهم ويتولى أمرهم ﴿ ولا يشرك ﴾ قال البغوي قرأ ابن عامر لا تشرك بالتاء على الخطاب والنهي ولم يذكر الداني في التيسير خلاف ابن عامر، وقرأ الجمهور بالياء أي لا تشرك الله ﴿ في حكمه ﴾ أي في قضائه أو في أمره ونهيه ﴿ أحدا ﴾ منهم ولا يجعل لأحد فيه مدخلا، وقيل : الحكم ها هنا بمعنى علم الغيب أي لا يشرك في علم غيبه أحدا.
ثم لما دل إشتمال القرآن على قصة أصحاب الكهف من حيث إنها من المغيبات بالإضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه وحي معجز، أمره بأن يداوم درسه ويلازم أصحابه فقال ﴿ وأتل ما أوحي إليك من كتاب ربك ﴾
١ سورة الكهف، الآية: ١٠٣.
﴿ وأتل ما أوحي إليك من كتاب ربك ﴾ أي القرآن وأتبع ما فيه ولا تلتفت إلى قولهم :﴿ إئْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ﴾١ فإنه ﴿ لا مبدل لكلماته ﴾ يعني لا أحد يقدر على تبديلها وتغييرها غيره، وقيل : معناه لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معصية ﴿ ولن تجد ﴾ أنت يا محمد ﴿ من دونه ﴾ إن لم تتبع القرآن ﴿ ملتحدا ﴾ قال ابن عباس حوزا، وقال الحسن مدخلا، وقيل : مهربا وأصله من الميل.
١ سورة يونس، الآية: ١٥..
﴿ واصبر نفسك ﴾ يا محمد أي أحبسها وثبتها، قال البغوي هذه الآية نزلت في عيينة بن حصين الفزاري أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، وعنده جماعة من الفقراء فيهم سلمان وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خرقة يشقها ثم ينسجها، فقال عيينة للنبي صلى الله عليه وسلم أما يؤذيك ريح هؤلاء ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا عن إتباعك إلا هؤلاء فنحهم حتى نتبعك أو إجعل لنا مجلساً ولهم مجلساً، فأنزل الله تعالى :﴿ وأصبر نفسك ﴾ ﴿ مع الذين يدعون ربهم بالغداة ﴾ قرأ ابن عامر بضم الغين وسكون الدال وواو مفتوحة، والباقون بفتح الغين والدال وألف بعدها ﴿ والعشي ﴾ في جميع أوقاتهم أوفي طرفي النهار﴿ يريدون ﴾ بعبادتهم إياه ﴿ وجهه ﴾ لفظ الوجه مقحم كما في قوله تعالى :﴿ ويبقى وجه ربك ﴾١ والمعنى يريدون الله لا شيئا آخر من الدنيا والآخرة، قال قتادة نزلت في أصحاب الصفة وكانوا سبع مائة رجل فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرجعون إلى زرع ولا ضرع ولا تجارة، يصلون صلاة وينتظرون أخرى، فلما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم :( الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمر ربي أن أصبر نفسي معهم )٢ وقد ذكرنا بعض ما ورد في سبب نزول هذه الآية في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم ﴾٣ الآية ﴿ ولا تعد ﴾ أي لا تصرف ﴿ عيناك عنهم ﴾ إلى غيرهم ﴿ تريد زينة الحياة الدنيا ﴾ حال من الكاف أي تصرف عيناك حال كونك تطلب مجالسة الأغنياء، ومصاحبة أهل الزينة من الدنيا ﴿ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ﴾ قال البغوي يعني عيينة بن حصين، وقيل : أمية بن خلف أخرج ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال : نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه الله من طرف الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال : حدثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تصدى لأمية بن خلف وهو ساه غافل عما يقال له فنزلت، وأخرج ابن بريدة قال : دخل عيينة بن حصين على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده سلمان فقال عيينة إذا نحن أتيناك فأخرج هذا فنزلت :﴿ ولا تطع من أغفلنا قلبه ﴾ أي جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا ﴿ وأتبع هواه ﴾ في دعائك إلى طرد الفقراء عن مجلسك لصناديد قريش، وفيه تنبيه على أن الداعي له إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن ذكر الله سبحانه، وانهماكه في لذات الدنيا، حتى خفي عليه أن الشرف بتزكية النفس عن الرذائل وتصفية القلب وتنويرها بنور المعرفة لا بزينة الجسد وأنه من أطاعه كان مثله في الغفلة والغباوة، والمعتزلة لما لم يجوزوا نسبة الإغفال إلى الله تعالى قالوا : معنى أغفلنا وجدناه غافلا أو نسبناه إلى الغفلة أو هو من قبيل اغفل إبله أي تركها بغير سمة، وأهل السنة السنية جعلوا مجموع النسبتين في قوله تعالى :﴿ أغفلنا ﴾ وقوله :﴿ وأتبع هواه ﴾ دليلا على الأمر بين الأمرين لا جبر ولا تفويض ﴿ وكان أمره فرطا ﴾ قال البغوي قال قتادة ومجاهد أي ضياعا، وقيل : معناه ضيع عمره وعطل أيامه، وقيل : ندماً، وقال مقاتل بن حبان سرفاً، وقال الفراء متروكاً وقيل : باطلاً، وقيل : مخالفاً للحق، وقال الأخفش مجاوزاً للحد، وقال البيضاوي متقدما على الحق تاركا وراء ظهره، يقال : فرس فرط أي متقدما للخيل ومنه الفرط
١ سورة الرحمن، الآية: ٢٧..
٢ رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح. انظر مجمع الزوائد في كتاب: التفسير، باب: سورة الأنعام ١٠٩٩٨..
٣ سورة الأنعام، الآية: ٥٢..
﴿ وقل ﴾ يا محمد ﴿ الحق من ربكم ﴾ مبتدأ وخبر يعني الحق ما حقه الله لا ما يقتضيه الهوى ويجوز أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف ومن ربكم حالا يعني الإسلام أو القرآن هو الحق كائنا من ربكم ﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ صيغة تخيير استعمل للتهديد والوعيد كأنه جواب لما قال عيينة للنبي صلى الله عليه وسلم أما يؤذيك ريح هؤلاء ؟ ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وما يمنعنا عن إتباعك إلا هؤلاء فنحهم حتى نتبعك، ومعناه الحق كائن من ربك والله يأمر بصبر النفس والمجالسة مع هؤلاء وينهى عن طردهم فإن شئتم آمنوا وإن شئتم فاكفروا لا أبالي بإيمان من آمن منكم ولا بكفر من كفر منكم، فإن نفع الإيمان ومضرة الكفر إنما يعود إليكم ﴿ إنا أعتدنا ﴾ هيأنا ﴿ للظالمين ﴾ أي الكافرين ﴿ نارا أحاط بهم سرادقها ﴾ السرادق الحجرة يطيف بالفساطيط قال في النهاية هو كل ما أحاط بشيء من حائط أو مضرب أو خباء، قالوا : هو لفظ مفرد معرب إذ ليس في كلامهم اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان، وجاز أن يكون جمع سردق، روى أحمد والترمذي والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار أربعين سنة } قال البغوي قال ابن عباس هو حائط من نار، وقال الكلبي هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار، وقيل : دخان يحيط بالكفار وهو الذي ذكره الله تعالى ﴿ انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب( ٣٠ ) ﴾١ ﴿ وإن يستغيثوا ﴾ بشدة العطش ﴿ يغاثوا بماء كالمهل ﴾ أخرج أحمد والترمذي وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :﴿ بماء كالمهل ﴾ ( قال : كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه }٢ وروى أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن أبي الدنيا في صفة النار والبيهقي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى :﴿ ويسقى من ماء صديد ( ١١ ) يتجرعه ﴾ قال : يقرب فيستكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقع فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره، فيقول :﴿ وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم ﴾ ﴿ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه ﴾ وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى :﴿ بماء كالمهل ﴾ قال : أسود كعكر الزيت، وقال البغوي : قال ابن عباس هو ماء غليظ مثل دردي الزيت وقال مجاهد هو القيح والدم، وسئل ابن مسعود عن المهل فدعا بذهب وفضة وأوقد عليهما النار حتى ذابا ثم قال هذا أشبه شيء بالمهل ﴿ يشوي الوجوه ﴾ أي إذا قدم يشويها من فرط حرارته، وهو صفة ثانية لماء أو حال من المهل أو من الضمير في كاف التشبيه ﴿ بئس الشراب ﴾ المهل ﴿ وساءت ﴾ النار﴿ مرتفقاً ﴾ قال ابن عباس منزلاً، وقال مجاهد مجتمعاً، وقال عطاء مقراً، وقال القتيبي مجلساً، وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد فالمعنى متكئا ومستراحا وجيء به لمقابلة قوله :﴿ وحسنت مرتفقا ﴾ وإلا فأي ارتفاق لأهل النار
١ سورة المرسلات، الآية: ٣٠..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة جهنم، باب: ما جاء في صفة شراب أهل النار ٢٥٨١. وقال: فيه رشدين بن سعد وقد تكلم فيه من قبل حفظه..
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا( ٣٠ ) ﴾ خبر إن الأولى هي الثانية بما في حيزها، والراجع محذوف تقديره : من أحسن عملا منهم، أو مستغنى عنه لعموم من أحسن عملا، كما هو مستغنى عنه في قولك نعم الرجل زيد، أو واقع موقعه الظاهر فإن من أحسن عملا لا يحسن إطلاقه إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات
﴿ أولئك لهم جنات عدن ﴾ إي إقامة يقال : عدن الماء بالمكان إذا قام به سميت عدنا لخلود المؤمنين فيها
﴿ تجري من تحتهم الأنهار ﴾ جملة أولئك استئناف لبيان الأجر، ويحتمل أن يكون هذا خبر لأن الأولى ويكون أن الثانية مع ما في حيزها اعتراضا، أو يكون هذا خبرا ثانيا ﴿ يحلون فيها من أساور ﴾ جمع أسورة أو أسوار في جمع سوار ومن للابتداء ﴿ من ذهب ﴾ صفة لأساور ومن للبيان، والتنكير في أساور وذهب لتعظيم حسنها من الإحاطة به، أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي بسند حسن عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت بحلية أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله تعالى به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا ) وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن كعب الأحبار قال : إن لله ملكا يصوغ حلى أهل الجنة من أول خلقه إلى أن تقوم الساعة، ولو أن حليا أخرج من حلي أهل الجنة لذهب بضوء الشمس ﴿ ويلبسون ثياباً خضراً ﴾ أخرج ابن السني وأبو نعيم كلاهما في طب النبي صلى الله عليه وسلم عن أنس قال : كان أحب الألوان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضرة ﴿ من سندس ﴾ وهو ما رق من الديباج ﴿ وإستبرق ﴾ وهو ما غلظ منه، قال البغوي معنى الغلظ في ثياب الجنة أحكامه، وعن عمر الحربي قال : السندس هو الديباج المنسوج بالذهب، أخرج النسائي والطيالسي والبزار والبيهقي بسند عن ابن عمر قال : قال رجل يا رسول الله أخبرنا عن ثياب أهل الجنة. . أخلق يخلق أم نسيج ينسج ؟ فضحك بعض القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( مم تضحكون ؟ من جاهل يسأل عالما ) ثم قال :( بل ينشق عنها ثمر الجنة مرتين ) ١ وأخرج البزار وأبو يعلى والطبراني من حديث جابر بسند صحيح عن أبي الخير مرثد بن عبد الله قال :" في الجنة شجرة ينبت السندس يكون ثياب أهل الجنة ﴿ متكئين فيها ﴾ أي في الجنة خص بالذكر هيئة الاتكاء لكونها هيئة المتنعمين والمملوك على الأسرة ﴿ على الأرائك ﴾ وهي السرر في الحجال واحدتها أريكة، أخرج البيهقي عن ابن عباس في هذه الآية قال : لا يكون الأرائك حتى يكون السرير في الحجلة، فإن كان سرير بغير حجلة لا تكون أريكة وإن كان حجلة بغير سرير لا تكون أريكة فإذا اجتمعا كانت أريكة، وأخرج البيهقي عن مجاهد قال : الأرائك من لؤلؤ وياقوت ﴿ نعم الثواب ﴾ أي نعم الجزاء الجنة ونعيمها ﴿ وحسنت مرتفقا ﴾ أي حسنت الجنات مجلسا ومقرا، أو حسنت الأرائك متكأ.
١ أخرجه أحمد في المسند المجلد الثاني/ أول مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. ورواه أبو يعلي والبزار والطبراني ورجاله رجال الصحيح غير مجالد بن سعيد وقد وثق. انظر مجمع الزوائد في كتاب: أهل الجنة، باب: في ثياب الجنة ١٨٧٣٥..
﴿ واضرب لهم مثلاً رجلين ﴾الآية، قال البغوي قيل : نزلت في أخوين من أهل مكة من بني مخزوم أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسود بن عبد ياليل " وكان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم " والآخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسود بن عبد ياليل وقيل : هذا مثل لعيينة بن حصين وأصابه مع سلمان وأصحابه، وشبههما برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهودا في قول ابن عباس وقال مقاتل تمليخا، و الآخر كافر واسمه قطروس وقال وهب قطغر، وهما اللذان وصفهما الله في سورة الصافات. وكان قصتهما على ما حكى عبد الله بن المبارك عن معمر عن عطاء الخراساني قال : كان رجلان شريكين لهما ثمانية آلاف دينار، وقيل : كانا أخوين ورثا أباهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فعمد أحدهما فاشترى أرضاً بألف دينار فقال صاحبه اللهم إن فلاناً قد اشترى أرضاً بألف دينار فإني أشتريت منك في الجنة أرضا بألف دينار فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه بنى داراً بألف دينار فقال اللهم إن فلاناً بنى داراً بألف دينار فإني أشتري منك داراً بألف دينار في الجنة فتصدق بألف دينار، ثم تزوج صاحبه امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال هذا المؤمن اللهم إني أخطب إليك من نساء أهل الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار، ثم اشترى صاحبه خدماً ومتاعاً بألف دينار فقال : هذا اللهم إني أشتري منك خدماً ومتاعاً بألف دينار فتصدق بألف دينار، ثم إنه أصابته حاجة شديدة فقال : لو أتيت صاحبي لعله ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في حشمه فقام إليه فنظر إليه الآخر فعرفه فقال : فلان ؟ قال : نعم، قال : ما شأنك ؟ قال : أصابتني حاجة بعدك فأتيت لتصيبني بخير، فقال : ما فعل مالك ؟ وقد اقتسمنا مالاً وأخذت شطره فقص عليه القصة فقال : إنك لمن المصدقين بهذا اذهب فلا أعطيك شيئاً فطرده، فقضي لهما أن توفيا فنزل فيهما :﴿ فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون( ٥٠ ) قال قائل منهم إني كان لي قرين( ٥١ ) يقول أإنك لمن المصدقين( ٥٢ ) ﴾١.
وروي أنه لما أتى فأخذ بيده وجعل يطوف به ويريه أموال نفسه فنزل فيهما ﴿ واضرب لهم ﴾ أي للكافرين والمؤمنين ﴿ مثلاً رجلين ﴾ أي مثل رجلين يعني حال رجلين مقدرين أو موجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أو في الزمان السابق، فرجلين بحذف المضاف بدل من مثل وما بعده تفسير للمثل ﴿ جعلنا لأحدهما ﴾ أي للكافر منهما ﴿ جنتين من أعناب ﴾أي بساتين من كروم، والجملة بتمامها بيان للتمثيل أو صفة لرجلين ﴿ وحففناهما بنخل ﴾ أي جعلنا الجنتين محفوفتين أي محاطتين بنخل يعني جعلنا النحلة محيطة بها، يقال : حفه القوم إذا أحاطوا به، وحففته بهم أي جعلتهم حافين حوله محيطين به فيزيد الباء كقولك غشيته وغشيت به ﴿ وجعلنا بينهما ﴾ أي وسط الجنتين ﴿ زرعا ﴾ يعني لم يكن بين الجنتين موضع خراب وكانت الجنتان جامعتين للأقوات والفواكه على الشكل والترتيب الأنيق
١ سورة الصافات، الآية: ٥٠-٥٢..
﴿ كلتا الجنتين أتت ﴾ أي أعطت ﴿ أكلها ﴾ أي ثمرها أفرد الضمير لإفراد لفظ كلتا ﴿ ولم تظلم ﴾ أي لم تنقص ﴿ منه ﴾ أي من أكلها ﴿ شيئا ﴾ يعهد في سائر البساتين فإن الثمار يتم في عام وينقص في عام غالبا ﴿ وفجرنا ﴾ قرأ يعقوب بتخفيف الجيم والباقون بتشديدها، أي شققنا وأخرجنا ﴿ خلالهما ﴾ أي وسطهما ﴿ نهراً ﴾ ليدوم شربها ويبقى زهرتها
﴿ وكان له ثمر ﴾ قرأ عاصم بفتح الثاء والميم وأبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم، والباقون بضمهما وكذلك في قوله :﴿ وأحيط بثمره ﴾ قال الأزهري : الثمرة تجمع على ثمر يعني بفتح الثاء والميم، ويجمع الثمر على ثمار ثم يجمع الثمار على ثمر بالضمتين، وفي القاموس الثمرة محركة حمل الشجر وأنواع المال، الواحدة ثمرة وثمرة وجمعه ثمار وجمع الجمع ثمر وجمع جمع الجمع أثمار والذهب والفضة والنسل والولد، قيل : المراد أنه كان لصاحب البساتين ثمر أي أنواع من المال سوى الجنتين كثيرة مثمرة من ثمر ماله إذا كثر، وقال مجاهد يعني ذهب وفضة، وقال البغوي من قرأ بفتح الثاء فهي جمع ثمرة وما يخرجه الشجر من الثمار المأكولة ومن قرأ بالضم فهي الأموال الكثيرة المثمرة ﴿ فقال ﴾ صاحب البستانين ﴿ لصاحبه ﴾ الفقير المؤمن ﴿ وهو يحاوره ﴾ أي يراجعه في الكلام من حاور إذا راجع ﴿ أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ﴾ أي حشما وأعوانا، وقيل : أولادا ذكورا لأنهم الذين ينفرون معه يدل عليه قوله :﴿ إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا ﴾
﴿ ودخل ﴾ الكافر ﴿ جنته ﴾ بصاحبه يطوف به فيها ويفاخره بها، وإفراد الجنة لأن الدخول يكون في واحدة واحدة، أو لاتصال كل واحدة من جنتيه بالأخرى، أو سماهما جنة لاتحاد الحائط وجنتين للنهر الجاري بينهما، أو لأن المراد ما هو جنته التي منعته من جنة الخلد التي وعد المتقون ﴿ وهو ظالم لنفسه ﴾ أي ضار لها لعجبه وكفره ﴿ قال ما أظن أن تبيد ﴾ أي تفني ﴿ هذه ﴾ الجنة ﴿ أبدا ﴾ لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بمهلته، لعل المراد أنه زعم أنه لا يزال له الغنى والمال والجنتان ما دام حيا، وإلا فليس من عاقل مؤمنا كان أو كافرا يعلم أنه لا يموت ويبقى حيا أبدا، أو المراد أنه قال ذلك بلسان الحال فإن الغافلين المنهمكين في الدنيا. . . ولذاتها يأملون آمالا ويعملون أعمالا كأنهم لا يموتون أبدا، فكأنهم يقولون ذلك بلسان الحال
﴿ وما أظن الساعة قائمة ﴾ أي كائنة قاله ذلك لكونه كافرا منكرا للبعث، ثم قال على تقدير التنزل وفرض البعث ﴿ ولئن رددت ﴾ بعد الموت والبعث ﴿ إلى ربي ﴾ كما زعمت ﴿ لأجدن ﴾ في الآخرة ﴿ خيرا منها ﴾ قرأ أهل البصرة والكوفة بإفراد الضمير أي من الجنة التي دخلها وقرأ الحجازيان والشامي منهما بتثنية الضمير وكذلك هو في مصاحفهم يعني خيرا من الجنتين ﴿ منقلبا ﴾ أي مرجعا وعاقبة، إنما قال ذلك لاعتقاده أن الله تعالى إنما أعطاه ما أعطاه في الدنيا لكرامته على الله واستحقاقه ذلك.
﴿ قال له ﴾ أي للكافر ﴿ صاحبه ﴾ المسلم ﴿ وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ﴾ لأنه أصل مادتك أو مادة أصلك آدم عليه السلام ﴿ ثم من نطفة ﴾ فإنها مادتك القريبة ﴿ ثم سواك ﴾ عدلك وكملك إنسانا ﴿ رجلا ﴾ ذكرا بالغا مبلغ الرجال، جعل كفره بالبعث كفرا بالله تعالى لأن إنكار البعث منشأه الشك في كمال قدرة الله، ولذلك رتب الإنكار على خلقه إياه من تراب، فإنه من قدر على بدء خلقه من التراب قادر على أن يعيده منه
﴿ لكنا ﴾ قرأ الجمهور بالألف وقفا تبعا للخط وبلا ألف وصلا، لأنه أصله لكن أنا فحذفت الهمزة طلبا للتخفيف وألقيت حركتها على نون لكن فتلاقت النونان وأدغمتا وبقي الألف في الخط فيقرأ الألف وقفا كما يقرأ وقفا في أنا، ولا يقرأ وصلا كما لا يقرأ في أنا وصلا، وقرأ ابن عامر ويعقوب بالألف في الوصل أيضا لتعويضها من الهمزة أو لإجراء الوصل مجرى الوقف ﴿ هو الله ربي ﴾ هو ضمير الشأن والجملة خبره، وجاز أن يكون هو ضمير الله والله بدل وربي خبره وجملة هو الله ربي مفعول لفعل محذوف تقديره قول هو الله ربي، وجملة أقول خبر أنا والراجع ضمير أقول والدليل على تقدير أقول عطف قوله ﴿ لم أشرك بربي أحد ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أحدا ﴾ والاستدراك من ﴿ أكفرت ﴾ كأنه قال : أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد كما يقال زيد غائب لكن عمرو حاضر، قال البغوي قال الكسائي فيه تقديم وتأخير مجازه لكن الله هو ربي وعلى هذا الألف في لكنا زائدة في رسم الخط على خلاف القياس
﴿ ولولا إذ دخلت جنتك قلت ﴾ يعني هلا قلت عند دخولها ﴿ ما شاء الله ﴾ أي الأمر ما شاء الله أو ما شاء الله كائن على أن ما موصولة، أي أي شيء شاء الله كان على أنها شرطية والجواب محذوف إقرار بأنها وما فيها بمشيئة الله إن شاء أبقاها وإن شاء أتلفها ﴿ لا قوة إلا بالله ﴾ يعني هلا قلت اعترافا بالعجز على نفسك والقدرة لله يعني لا أقدر على حفظها إلا بمعونته الله وإن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها فبمعونته وإقداره. روى البيهقي في شعب الإيمان من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من رأى شيئا فأعجبه قال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره ) وكذا روى ابن السني عنه بلفظ " لم يضره العين " وقال البغوي روي عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى من ماله شيئاً يعجبه أو دخل حائطاً من حيطانه قال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ثم قال المؤمن ﴿ إن ترن ﴾ أثبت الياء في الوصل فقط قالون وأبو عمرو وفي الحالين ابن كثير، والباقون يحذفونها في الحالين ﴿ أنا أقل منك مالاً وولداً ﴾ أنا ضمير فصل، أو تأكيد للمفعول الأول، وقرئ أقل بالرفع على أنه خبر أنا والجملة مفعول ثان لترن
﴿ فعسى ربي ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أن يؤتين ﴾ أثبت الياء في الحالين ابن كثير وفي الوصل فقط نافع وأبو عمرو والباقون يحذفونها في الحالين أي يعطني في الدنيا والآخرة ﴿ خيرا من جنتك ﴾ وهو جواب الشرط ﴿ ويرسل عليها ﴾ أي على جنتك لأجل كفرك ﴿ حسبانا من السماء ﴾ قال قتادة عذابا، وقال ابن عباس نارا، وقال القتيبي مرامي، وقال البيضاوي جمع حسبانة وهي الصواعق، قيل : هو مصدر بمعنى الحساب والمراد به التقدير بتخريبها أو عذاب الأعمال المسيئة بحسابها ﴿ فتصبح ﴾ الجنة ﴿ صعيدا زلقا ﴾ أي أرضا ملسا تزلق عليها الأقدام باستئصال نباتها وأشجارها، وقال مجاهد رملا هائلا
﴿ أو يصبح ماؤها غورا ﴾ أي غائرا ذاهبا في الأرض، مصدر يوصف به كالزلق ﴿ فلن تستطيع له ﴾ أي للماء الغائر الذاهب في الأرض ﴿ طلبا ﴾ أي ترددا في رده فضلا من رده،
﴿ وأحيط ﴾ أي أحاط العذاب ﴿ بثمره ﴾ أي ثمر جنته أو أمواله أي أهلكها من حيث لم يتوقعه صاحبه وهو مأخوذ من إحاطته العدو، فإنه إذا أحاط به غلبه وأهلكه ﴿ فأصبح ﴾ صاحبها الكافر ﴿ يقلب كفيه ﴾ أي يصفق بيده على الأخرى، أو يقلب كفيه ظهرا لبطن تأسفا وتلهفا ﴿ على ما أنفق ﴾ من المال ﴿ فيها ﴾ أي في عمارة الجنة، وهو متعلق بيقلب لأن تقليب الكف كناية عن الندم، فكأنه قال فأصبح يندم على ما أنفق، أو حال أي متحسرا على ما أنفق فيها ﴿ وهي ﴾ أي الجنة ﴿ خاوية ﴾ ساقطة ﴿ على عروشها ﴾ بأن سقطت عروشها على الأرض وسقطت الكروم على العروش ﴿ ويقول ﴾ ذلك الكافر عطف على يقلب، والظاهر عندي أن معنى الآية وأصبح الكافر يقلب كفيه في الدنيا حين رأى بستانها خاوية، ويقول يوم القيامة أو في القبر حين يرى منزله من الجنة أبدلت بمنزله من النار ﴿ يا ليتني لم أشرك بربي ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ أحدا ﴾ في الدنيا
﴿ ولم تكن ﴾ قرأ حمزة والكسائي بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية، لأن تأنيث الفاعل غير حقيقي ﴿ له فئة ﴾ أي جماعة ﴿ ينصرونه ﴾ يقدرون على نصره بدفع العذاب يوم القيامة أورد المهلك والإتيان بمثله في الدنيا ﴿ من دون الله ﴾ فإنه القادر على ذلك وحده لكنه لم ينصره لكفره ﴿ وما كان ﴾ ذلك الكافر ﴿ منتصرا ﴾ بقوته عن انتقام الله منه
﴿ هنالك ﴾ أي في ذلك المقام والحال يعني حين يبعث يوم القيامة ﴿ الولاية ﴾ قرأ حمزة والكسائي بكسر الواو يعني السلطان والباقون بفتح الواو بمعنى الموالاة والنصرة كقوله تعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا ﴾١ وقيل بالفتح الربوبية وبالكسر الإمارة ﴿ لله الحق ﴾ قرأ أبو عمرو والكسائي الحق بالرفع على أنه صفة للولاية ويؤيده قراءة أبي هنالك الولاية الحق لله أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق، والباقون بالجر على أنه صفة لله كقوله تعالى :﴿ ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ﴾٢ وجاز أن يكون قوله :﴿ يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ﴾ صادرا من الكافر في الدنيا ندما وتوبة من الشرك، أو اضطرارا وجزعا حين تذكر موعظة أخيه وزعم أن ما أصابه أصابه لأجل الشرك فآمن أو لم يؤمن، ويكون هذا القول منه كقولهم إذا ركبوا في الفلك ﴿ دعوا الله مخلصين له الدين ﴾٣ ومعنى قوله : هنالك أي في ذلك المقام والحال أي حال الجزع زعم أن الولاية لله الحق هو أي الله سبحانه ﴿ خير ثوابا ﴾ أي أفضل جزاء لأهل طاعته من غيره، فإنه تعالى يثيبهم في الدنيا على حسب حكمته وفي الآخرة ثوابا قويا مؤبدا بخلاف غيره فإنهم يثيبون في الدنيا إن شاء الله تعالى إثابة حقيرة فانية فحسب ﴿ وخير عقبا ﴾ قرأ عاصم وحمزة بسكون القاف والباقون بضمها والعقبى هو الجزاء فإنه يعقب الطاعة.
١ سورة البقرة، الآية: ٢٥٧..
٢ سورة الأنعام، الآية: ٦٢..
٣ سورة يونس، الآية: ٢٢..
﴿ واضرب ﴾ يا محمد ﴿ لهم ﴾ أي لقومك ﴿ مثل الحياة الدنيا ﴾ أي اذكر لهم صفة الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها أو صفتها الغريبة ﴿ كماء ﴾ أي هو كماء ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا لأضرب على أنه بمعنى صير ﴿ أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ﴾ أي فالتقت بسبب ذلك الماء نبات الأرض وخالط بعضه بعضا لكثرته وتكاثفه، أو أثر في النبات الماء فاختلط النبات بالماء حتى روي على هذا كان حقه فاختلط بنبات الأرض، لكن لما كان كل من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته ﴿ فأصبح ﴾ أي صار النبات عن قريب ﴿ هشيما ﴾ وهو ما يبس وتفتت من النبات ﴿ تذروه الرياح ﴾ قال أبو عبيده تفرقه، والمشبه به ليس الماء ولا حاله بل الكيفية المنتزعة من الجملة وهي حال النبات المتبت بالماء يكون وارفا ثم هشيما تطيره الرياح فيصير كأن لم يكن ﴿ وكان الله على كل شيء ﴾ من الإنشاء والإفناء وغير ذلك ﴿ مقتدرا ﴾
﴿ المال والبنون ﴾ الذي يفتخر بها عيينة وأشباهه الأغنياء. . ﴿ زينة الحياة الدنيا ﴾ يتزين بها الإنسان في دنياه ويفنى عن قريب، وليست هي من زاد الآخرة ﴿ والباقيات الصالحات ﴾ يعني الأعمال الصالحة التي يبقى ثمرها أبد الآبدين ﴿ خير عند ربك ﴾ من المال والبنين ﴿ ثوابا ﴾ عائدة ﴿ وخير أملا ﴾ أي ما يأمله الإنسان، قال البغوي قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه المال والبنون حرث الدنيا والأعمال الصالحة حرث الآخرة، وقد يجمعها الله لأقوام قال ابن عباس و عكرمة و مجاهد الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( استكثروا من الباقيات الصالحات، قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ولا حول ولا قوة إلا بالله )١ رواه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه، وعن جابر قال :" استكثروا من لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها تدفع تسعة وتسعين بابا من الضر أدناها الهم " رواه العقيلي وأخرج من حديث النعمان بن بشير مرفوعا " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبرهن الباقيات الصالحات " وأخرج الطبراني مثله من حديث سعد بن عبادة، وكذا أخرج ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا وعن جل من الصحابة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أفضل الكلام سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ) رواه أحمد وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس )٢ رواه مسلم والترمذي، وقال سعيد بن جبير و مسروق و إبراهيم الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس ويروى هذا عن ابن عباس، وعنه رواية أخرى أنها الأعمال الصالحة وهو قول قتادة
١ رواه أحمد وأبو يعلى وإسنادهما حسن.
انظر مجمع في الزوائد في كتاب: الأذكار، باب: ما جاء في الباقيات الصالحات ونحوها ١٦٨٣٦..

٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الدعوات ٣٥٩٧، وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة، باب: فضل التهليل والتسبيح والدعاء ٢٦٩٥..
﴿ ويوم نسير الجبال ﴾ قرأ الكوفيون ونافع بالنون على التكلم وكسر الياء بناء للفاعل ونصب الجبال، والباقون بالتاء وفتح الياء على صيغة التأنيث والبناء للمفعول ورفع الجبال يعني نقلعها ونذهب بها فنجعلها هباء منبثا ويوم منصوب بأذكر أو عطفا على عند ربك أي الباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة ﴿ وترى الأرض بارزة ﴾ أي ظاهرة ليس عليها ما يسترها من شجر أو جبل وبناء كذا أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة وقال عطاء وهو بروز ما في بطونها من الموتى وغيرها فيرى باطن الأرض ظاهرا ﴿ وحشرناهم ﴾ أي الناس من القبور أو رد بصيغة الماضي بعد نسير وترى لتحقيق الحشر، أو للدلالة على أن الحشر يكون قبل التسيير والواو حينئذ للحال بتقدير قد ﴿ فلم نغادر ﴾ يقال غادره وغدره إذا تركه ومنه الغدر لترك الوفاء يعني لم نترك ﴿ منهم ﴾ أي من الناس ﴿ أحدا ﴾ غير محشور
﴿ وعرضوا على ربك ﴾ تشبيه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان لا ليعرفهم بل ليأمر فيهم ﴿ صفا ﴾ أي مصطفين لا يحجب أحدا أحدا ﴿ لقد جئتمونا ﴾ يعني مقولا في حقهم لقد جئتمونا فهو حال من وأو عرضوا، وجاز أن يكون لقد جئتمونا عاملا في يوم نسير ﴿ كما خلقناهم أول مرة ﴾ يعني حفاة عراة غرلا ليس معكم شيء مما خولناكم في الدنيا.
أخرج الشيخان في الصحيحين والترمذي في سننه عن ابن عباس قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ( يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة مشاة عراة غرلا ثم قرأ ﴿ كما بدأنا أول خلق نعيده ﴾ وأول من يكسى في الخلائق إبراهيم عليه السلام )١. وأخرج الشيخان عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا، . . . الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : يا عائشة الأمر يومئذ أشد من ذلك )٢ وأخرج الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن أم سلمة نحوه، وفيه قالت " واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض، فقال : شغل الناس، قالت : ما شغلهم ؟ قال نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل " والبيهقي عن ابن عباس مرفوعا نحوه وفيه قالت زوجته ينظر بعضنا إلى عورة بعض ؟ قال يا فلانة لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه والطبراني عن سهل بن سعد نحوه، وعن الحسن بن علي عليهما السلام مرفوعا نحوه وفيه قالت زوجته يا رسول الله فكيف يرى بعضنا بعضا ؟ ( قال : إن الأبصار شاخصة فرفع بصره ) وأخرج الطبراني والبيهقي عن سودة بنت زمعة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة عزلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان، قلت : يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض ؟ قال : شغل الناس عن ذلك لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ). قال القرطبي لا ينافي قوله عراة ما ورد أن الموتى يتزاورون في قبورهم بأكفانهم، لأن ذلك يكون في البرزخ فإذا قاموا من قبورهم خرجوا عراة، لكن يعارض هذه الأحاديث ما رواه أبو داود والحاكم وصححه وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أنه لما احتضر دعا بثياب جدد فلبسها ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها )٣ وما أخرج ابن أبي الدنيا بسند حسن عن معاذ بن جبل أنه دفن أمه فأمر بها فكفنت في ثياب جدد وقال : أحسنوا أكفان موتاكم فإنهم يحشرون فيها، وما أخرج سعيد بن منصور في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : أحسنوا أكفان موتاكم فإنهم يبعثون فيها يوم القيامة، قال القرطبي : فبعضهم قال بظاهر هذه الأحاديث والأكثر حملوا هذه على الشهيد الذي أمر أن يدفن بثيابه التي قتل فيها وبها الدم وإن أبا سعيد سمع الحديث في الشهيد فحمله على العموم، وقال البيهقي يجمع بأن بعضهم يبعث عاريا وبعضهم بثيابه، قلت : وهذا الجمع حسن وهذه الآية في حق الكفار بدليل قوله تعالى :﴿ بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ﴾ أي وقتا لإنجاز الوعد بالبعث والنشور وأن الأنبياء عليهم السلام كذبوكم كلمة بل ها هنا للخروج من قصة أخرى وأيضا يدل على أن الحشر عراة مختص بغير الصلحاء قوله صلى الله عليه وسلم :( والأبصار شاخصة ) وقوله :( لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) فإنها في حق الكفار وشخص الأبصار أيضا من صفتهم وشأنهم لأجل الهول دون شأن الصلحاء لكن يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم :( وأول من يكسى من الخلائق إبراهيم عليه السلام ) فإنه يدل على كون الأنبياء أيضا عراة في أول الأمر اللهم إلا أن يقال يكسى الصلحاء في قبورهم قبل الخروج منها بحلل الكرامة وأول من يكسى منهم إبراهيم وحمل بعضهم حديث أن الميت يبعث في ثيابه على العمل الصالح لقوله تعالى :﴿ ولباس التقوى ذلك خير ﴾٤.
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قول الله تعالى ﴿واتخذ الله إبراهيم خليلا﴾ ٣٣٤٩.
وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهل، باب: فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ٢٨٦٠، وأخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: ما جاء في شأن الحشر ٢٤٦٩..

٢ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: كيف الحشر ٦٥٢٧، وأخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة ٢٨٥٩..
٣ أخرجه أبو داود في كتاب: الجنائز، باب: ما يستحب من تطهير ثياب الميت عند الموت ٣٣١٢..
٤ سورة الأعراف، الآية: ٢٦..
﴿ ووضع الكتاب ﴾ اللام للجنس والمراد بالكتاب كتب أعمال العباد فإنها توضع في أيدي الناس في إيمانهم وشمائلهم أو في الميزان أو بين يدي الرحمن ﴿ فترى المجرمين ﴾ الذين يعطون كتبهم في شمائلهم ﴿ مشفقين ﴾ خائفين ﴿ مما فيه ﴾ أي مما هو مكتوب فيه من الذنوب ﴿ ويقولون ﴾ إذا رأوها ﴿ يا ويلتنا ﴾ الويل الهلكة ينادون هلكتهم التي هلكوا بها من بين المهلكات ومعنى النداء إظهار الجزع وتنبيه المخاطبين على ما نزل بهم ﴿ مال هذا الكتاب ﴾ استفهام تعجيب لشأنه ﴿ لا يغادر ﴾ أي لا يترك ﴿ صغيرة ولا كبيرة ﴾ قال ابن عباس الصغيرة التبسم يعني إذا كان في غير محله والكبيرة القهقهة، وقال سعيد بن جبير الصغيرة اللمم والمسيس والقبلة والكبيرة الزنا وإنما قالا ذلك على سبيل التمثيل وقد ذكرنا الكبائر في سورة النساء في تفسير قوله تعالى :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾١ ﴿ إلا أحصاها ﴾ أي إلا عدها وأحاط بها المستثنى في محل النصب على أنه مفعول ثان لا يغادر أي لا يترك صغيرة ولا كبيرة غير محصاة، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا ببطن واد فجاء هذا بعود وجاء هذا بعود فأنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب لموبقات )٢ رواه البغوي، وروى الطبراني عن سعد بن جنادة قال : لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حنين نزلنا فقرا من الأرض ليس فيها شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( اجمعوا من وجد شيئا فليأت به أو من وجد عظما أو شيئا فليأت به قال : فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركابا فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( أترون هذا فكذلك تجتمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا فليتق الله عز وجل فلا يذنب صغيرة ولا كبيرة فإنها محصاة عليه ) وروى النسائي واللفظ وابن ماجه وصححه ابن حبان عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالبا )٣ وروى البخاري عن أنس قال :" إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات " ٤ وروى أحمد مثله بسند صحيح عن أبي سعيد ﴿ ووجدوا ما عملوا حاضرا ﴾ مكتوبا في الصحف أو وجدوا أجزاء ما عملوا حاضرا ﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾ يعني لا يكتب على العبد من السيئات ما لم يعمل، ولا يزيد في عقابه الملائم لعمله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالثة فتطائر الصحف بالأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله }٥ أخرجه ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري وأخرج الترمذي عن أبي هريرة نحوه، وأخرج البيهقي عن ابن مسعود موقوفا، قال الحكيم الترمذي الجدال للأعداء يجادلون لأنهم لا يعرفون ربهم فيظنون أنهم إذا جادلوه نجوا وقامت حجتهم والمعاذير لله تعالى يعتذر إلى آدم وإلى أنبيائه ويقيم حجته عندهم على الأعداء ثم يبعثهم إلى النار، وأما العرضة الثالثة للمؤمنين وهو العرض لمغفرة إلا أن يخلوهم فيعاتب مزيد عتابه في تلك الخلوة حتى يذوق وبال الحياء والخجل ثم يغفر لهم ويرضى عنهم، وأخرج أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الكتب كلها تحت العرش فإذا كان الموقف بعث الله ريحا فتطيرها بالأيمان والشمائل أول خط فيها { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ( ١٤ ) ) وأخرج ابن جرير عن قتادة أنه قال : سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا.
١ سورة النساء، الآية: ٣١..
٢ رواه أحمد والطبراني، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عمران القطان وقد وثق، قال ابن حجر: سنده حسن. انظر فيض القدير ٢٩١٧..
٣ أخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: ذكر الذنوب ٢٢٤٣ في الزوائد: إسناده صحيح ورجاله ثقات..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: ما يتقى من محقرات الذنوب ٦٤٩٢..
٥ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الزهد، باب: ذكر البعث ٤١٧٧ في الزوائد: رجاله ثقات إلا أنه منقطع، وأخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع، باب: ما جاء في العرض ٢٤٢٥..
" و " اذكر ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلا إبليس ﴾ كرره في مواضع لكونه مقدمة للأمور المقصودة بيانها في تلك المحال، وها هنا لما شنع على المتخرين واستقبح صنيعهم قرر ذلك بأنهن سنن إبليس، أو لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان، زهدهم أولا في زخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال والأعمال الصالحة خير وأبقى من أنفسها وأعلاها، ثم نفرهم من الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة، وهذا وجه كل تكرير في القرآن ﴿ كان من الجن ﴾ حال بإضمار قد أو استئناف للتعليل كأنه قيل ما له لم يسجد فقيل لأنه كان من الجن ﴿ ففسق ﴾ أي فخرج ﴿ عن أمر ربه ﴾ أي عن امتثال أمره وطاعته فيه دليل على أنه كان مأمورا بالسجود مع الملائكة، والفاء للتسبيب وفيه دليل على أن الملائكة لا يعصون الله أبدا وإنما عصى إبليس لأنه كان جنيا في أصله،
قال البغوي قال ابن عباس كان إبليس من حي من الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم فالاستثناء متصل، وقال الحسن كان من الجن ولم يكن من الملائكة فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس فالاستثناء منقطع وقد مر الكلام في الباب في سورة البقرة، وقول الحسن أن إبليس كان أصلا للجن كما أن آدم أصل للإنس بعيد جدا، قال الله تعالى :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾١ فإن هذه الآية وآيات سورة الرحمن وسورة الجن تدل على أن من الجن رجالا مؤمنين صالحين ومنهم قاسطون كانوا لجهنم حطبا، وأما إبليس فهو وذريته أجمعون أعداء الله وأعداء أوليائه حيث قال الله تعالى :﴿ أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ﴾ هذه الجملة حال والاستفهام للإنكار على اتخاذهم أولياء عقيب ظهور العداوة منهم، يعني تستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي ﴿ بئس للظالمين بدلا ﴾ يعني إبليس وذريته بئس البدل عن الله في الولاية للظالمين.
قال البغوي روى مجاهد عن الشعبي قال إني قاعد يوماً إذ أقبل حمال فقال أخبرني هل لإبليس زوجة ؟ قلت إن ذلك لغير بين ما شهدته ثم ذكرت قول الله عز وجل ﴿ أفتتخذونه وذريته أولياء ﴾ فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من الزوجة فقلت : نعم. قلت : قول الشعبي لا تكون ذرية إلا من زوجة مستفاد من قوله تعالى :﴿ أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ﴾٢ قال قتادة الشياطين يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وقيل : إنه يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين، قال مجاهد من ذرية إبليس لاقين و ولهان وهو صاحب الطهارة والصلاة والهفاف، ومرة وبه يكنى وزلنبور وهو صاحب الأًسواق يزين اللغو والحلف الكاذب ومدح السلعة والأعور وهو صاحب الزنى ينفخ في إحليل الرجل وعجز المرأة ومطوس وهو صاحب الأخبار الكاذبة يلقيها في أفواه الناس لا يجدون لها أصلاً ويثور وهو صاحب المصائب يزين خمش الوجوه ولطم الخذود وشق الجيوب وداسم وهو الذي إذا دخل في بيته ولم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع أو يحسن وضعه، فإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه. قال الأعمش ربما دخلت البيت ولم أذكر اسم الله ولم أسلم فرأيت مطهرة فقلت ارفعوا هذه وخاصمتهم، ثم أذكر فأقول داسم داسم، وروي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( للوضوء شيطان يقال له ولهان فاتقوا وسواس الماء )٣ رواه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي هذا حديث غريب وليس إسناده بالقوي عند أهل الحديث لأجل خارجة بن مصعب، وعن أبي سعيد الخدري أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي و قراءتي يلبسها علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ذلك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً ) قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني. " رواه مسلم، وعن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلةً أعظمهم فتنةً يجيء أحدهم فيقول : فعلت كذا وكذا فيقول : ما صنعت شيئاً، قال : ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال : فيدنيه منه ويقول نعم أنت، وقال الأعمش أراه قال فيلتزمه )٤ رواه مسلم.
١ سورة الذاريات، الآية: ٥٦..
٢ سورة الأنعام، الآية: ١٠١..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: الطهارة، باب: ماك جاء في كراهية الإسراف في الوضوء بالماء ٥٧ وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الطهارة، باب: ما جاء في القصر وكراهية التعدي فيه ٤٢١..
٤ أخرجه مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: تحريش الشيطان وبعثه سراياه لفتنة الناس وأن مع كل إنسان قرينا ٢٨١٣..
﴿ ما أشهدتهم ﴾ أي ما أحضرت وإبليس وذريته، قرأ أبو جعفر ما أشهدناهم بالنون والألف على التعظيم ﴿ خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم ﴾ يعني ما أشهدت بعضهم خلق بعض أي لم نعتضد بهم في خلق الأشياء حتى يستحقوا العبادة والطاعة، فإن استحقاق العبادة من توابع الخالقية والاشتراك فيها يستلزم الاشتراك فيها، ذكر الله سبحانه نفي الاعتقاد أولا كناية ثم صرح به فقال ﴿ وما كنت متخذ المضلين ﴾ أي الشياطين ﴿ عضدا ﴾ أي أنصار وأعوانا وضع المظهر أي المضلين موضع الضمير ذاما لهم واستبعاد الإعضاء بهم، وقيل الضمير للمشركين يعني ما أشهدتهم خلق الأشياء وما خصصتهم بعلوم لا يعرفها غيرهم حتى لو آمنوا تبعهم الناس كما يزعمون، فلا تلتفت إلى قولهم طمعا في نصرتهم للدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضد بالمضلين لديني، وتعضده قراءة من قرأ وما كنت بفتح التاء على الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الكلبي الضمير في أشهدتهم للملائكة يعني ما أشهدت الملائكة خلق شيء حتى يعبدوا ويقال إنهم بنات الله، وعلى هذا يكون قوله :﴿ وما كنت متخذ المضلين ﴾ كلام مستأنف ليس فيه وضع المظهر موضع الضمير يعني ما اعتضدت بالملائكة ولا بالشياطين.
﴿ ويوم يقول ﴾ قرأ حمزة بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة يعني يقول الله للكافرين ﴿ نادوا شركائي الذين زعمتم ﴾ أنهم شركائي أو شفعاؤكم ليمنعوكم من عذابي وإضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ وقيل إبليس وذريته ﴿ فدعوهم ﴾ فنادوهم للإغاثة ﴿ فلم يستجيبوا لهم ﴾ فلم يغيثوهم ﴿ وجعلنا بينهم ﴾ أي بين الكفار وآلهتهم ﴿ موبقا ﴾ اسم مكان يعني مهلكا يقال أوبقة أي أهلكه كذا قال عطاء والضحاك وقال ابن عباس هو واد في النار، وقال مجاهد واد من حميم وقال عكرمة نهر من نار يسيل نارا على حافته حيات مثل البغال الدهم، وقال ابن الأعرابي كل حاجز بين شيئين فهو موبق وقيل : مصدر، وقال الفراء البين الوصل والمعنى وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة نظيره قوله تعالى :﴿ لقد تقطع بينكم ﴾١ على قراءة من قرأ بالرفع
١ سورة الأنعام، الآية: ٩٤..
﴿ وراء المجرمون ﴾ أي المشركون ﴿ النار فظنوا ﴾ أيقنوا ﴿ أنهم مواقعوها ﴾ مخالطوها واقعون فيها، أخرج أحمد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( في قوله تعالى :﴿ فظنوا أنهم مواقعوها ﴾ قال : ينصب الكافر مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا وإن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعه من مسيرة أربعين سنة ) ﴿ ولم يجدوا عنها مصرفا ﴾ أي انصرافا أو مكانا ينصرفون إليها.
﴿ ولقد صرفنا ﴾ أي بينا بوجوه البيان ﴿ في هذا القرآن للناس من كل مثل ﴾ أي من كل عبارة هي كالمثل في الغرابة ليتذكروا أو يتعظوا وقيل :﴿ من كل مثل ﴾ صفة لمحذوف مفعول لصرفنا أي مثلا من جنس كل مثل ليتعظوا ﴿ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ﴾ قال ابن عباس أراد به النضر بن الحارث وجداله في القرآن، وقال الكلبي أراد به أبي بن خلف الجمحي وقيل : المراد الكفار مطلقا قال الله تعالى :﴿ ويجادل الذين كفروا بالباطل ﴾١ وقيل هو على العموم، روى البخاري عن علي بن أبي طالب عليه السلام : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال :( ألا تصليان من الليل ) ؟ فقلت : يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا، ثم سمعته وهو مولي يضرب فخذه وهو يقول ﴿ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ﴾٢ وقوله جدلا منصوب على التمييز من النسبة والمعنى كان جدل الإنسان أكثر الأشياء.
١ سورة الكهف، الآية: ٥٦..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: التهجد، باب: تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب ١١٢٧..
﴿ وما منع الناس ﴾ من ﴿ أن يؤمنوا ﴾ أي من الإيمان ﴿ إذ جاءهم الهدى ﴾ أي القرآن والإسلام والبيان من الله عز وجل، وقيل : إنه الرسول صلى الله عليه وسلم يعني بعد وضوح الحق ﴿ ويستغفروا ربهم ﴾ أي ومن الاستغفار مما صدر عنهم فيما سلف من الكفر والمعاصي ﴿ إلا أن تأتيهم سنة الأولين ﴾ حذف المضاف وأقيم مضاف إليه مقامه تقديره إلا تقدير أن تأتيهم سنة الأولين أي سنتنا في الأولين من العذاب المستأصل، وقيل : تقديره إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين من معاينة العذاب وانتظارهم ذلك، حيث ﴿ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾١ ﴿ أو يأتيهم العذاب ﴾ أي العذاب في الآخرة ﴿ قبلا ﴾ قال ابن عباس أي عيانا من المقابلة، وقال مجاهد فجاءة، قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر بالضمتين والباقون بكسر القاف وفتح الباء وهما لغتان معناهما واحد، وقيل : بالضمتين جمع قبيلة أي أصناف العذاب نوعا نوعا وانتصابه على الحال من الضمير أو العذاب.
١ سورة الأنفال، الآية: ٣٢..
﴿ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ﴾ بالثواب والجنة للمؤمنين ﴿ ومنذرين ﴾ بالعذاب والجحيم للكافرين، يعني ما بعثناهم قادرين على أن يأتوا بما اقترح الكفار من الآيات أو قادرين على هداية الخلق كلهم مصيطرين عليهم ﴿ ويجادل الذين كفروا بالباطل ﴾ حيث يقولون ﴿ أبعث الله بشرا رسولا ﴾١ ﴿ ما أنتم إلا بشر مثلنا ﴾٢ ﴿ ولو شاء الله لأنزل ملائكة ﴾٣ ﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ﴾٤ أيكون من ما ذبحتم حلالا وما أماته الله وذبحه بشمشاره حراما ونحو ذلك ﴿ ليدحضوا به ﴾ أصل الدحض الزلق والمعنى ليزيلوا بالجدال الباطل ﴿ الحق ﴾ عن مقره ﴿ واتخذوا آياتي ﴾ المنزلة في القرآن ﴿ وما أنذروا ﴾ أي وإنذارهم أو الذي أنذروا به من العقاب ﴿ هُزُوًا ﴾ أي مهزوا به قالوا في القرآن ﴿ لو نشاء لقلنا مثل هذا ﴾٥ ﴿ يعلمه بشر ﴾٦ ﴿ إن هذا إلا أساطير الأولين ﴾٧ وقالوا في العذاب ﴿ لولا يعذبنا الله بما نقول ﴾٨ وقالوا : الزقوم التمر والزبد ونحو ذلك.
١ سورة الإسراء، الآية: ٩٤..
٢ سورة يس، الآية: ١٥..
٣ سورة المؤمنون، الآية: ٢٤..
٤ سورة الزخرف، الآية: ٣١..
٥ سورة الأنفال، الآية: ٣١..
٦ سورة النحل، الآية: ١٠٣..
٧ سورة الأنعام، الآية: ٢٥..
٨ سورة المجادلة، الآية: ٨..
﴿ ومن ﴾ أي لا أحد ﴿ أظلم ممن ذكر ﴾ أي وعظ ﴿ بآيات ربه ﴾ أي آيات القرآن التي اتضح أمرها بإعجازها لفظا ومعنى ﴿ فأعرض عنها ﴾ فلم يتدبر فيها ولم يتذكر بها ﴿ ونسي ما قدمت يداه ﴾ من الأعمال الخبيثة الناشئة من الكفر والعقائد الباطلة فلم يتفكر في عاقبتها ﴿ إنا جعلنا على قلوبهم أكنة ﴾ تعليل لإعراضهم ونسيانهم فإن قلوبهم مكنونة مغطاة بظلمات مطبوع عليها ﴿ أن يفقهوه ﴾ أي لئلا يفقهوه واللام المقدرة ها هنا للعاقبة، وإفراد الضمير المنصوب وتذكيره معه كونه مراجعة إلى آيات ربه نظرا إلى المعنى فإن الآيات هي القرآن يعني لئلا يفقهوا القرآن ﴿ وفي آذانهم ﴾ عطف على قلوبهم يعني جعلنا في آذانهم ﴿ وقرا ﴾ أي ثقلا يعني لم نودع فهيا صلاحية استماع الآيات حق استماعها ﴿ وإن تدعهم ﴾ يا محمد ﴿ إلى الهدى فلن يهتدوا إذا ﴾ أي إذا كان على ﴿ قلوبهم أكنة ﴾ وفي آذانهم وقر ﴿ أبدا ﴾ لقوات استعداده لاهتداء وهذا في أقوام علم الله فيهم أنهم لا يؤمنون.
﴿ وربك الغفور ﴾ البليغ في المغفرة ﴿ ذو الرحمة ﴾ الموصوف بالرحمة ﴿ لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب ﴾ استشهاد على مغفرته ورحمته بإمهال قريش مع إفراطهم في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ بل لهم موعد ﴾ أي يوم القيامة ويوم بدر ﴿ لن يجدوا من دونه ﴾ أي لن يجدوا إذا جاء الموعد من دون الله ﴿ موئلا ﴾ أي منجا وملجأ يقال : آل إذا نجا وآل إليه إذا نجا إليه
﴿ وتلك القرى ﴾ يعني قرى الأمم الهالكة من الكفار وقوم نوح وعاد وثمود وأشباههم الموصوف مع الصفة مبتدأ وخبره ﴿ أهلكناهم ﴾ أو مفعول فعل مضمر يفسره ما بعده ولا بد من تقدير المضاف في الوصف أو للصفة حتى يكون مرجعا للضمائر يعني أصحاب تلك القرى أو تلك أصحاب ﴿ القرى أهلكناهم لما ظلموا ﴾ بالكفر وأنواع المعاصي كما ظلم كفار قريش ﴿ وجعلنا لمهلكهم ﴾ قرأ أبو بكر ها هنا وفي النحل بفتح الميم واللام وحفص بفتح الميم وكسر اللام حملا على ما شذ من مصادر مفعل كالمرجع والمحيض، والباقون بضم الميم وفتح اللام من أهلكه يعني لهلاكهم أو لإهلاكهم ﴿ موعدا ﴾ أي وقتا معلوما لم يستقدموه ولم يستأخروه فكذلك كفار قريش لا يسبقون موعدهم ولا يستأخرون.
اذكر ﴿ وإذ قال موسى ﴾ بن عمران كما يدل عليه الحديث الصحيح ﴿ لفتاه ﴾ يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف عليه السلام، قلت : لعل نونا أبا يوشع يكون من آل افراثيم لبعد الزمان بينهما ﴿ لا أبرح ﴾ أي لا أزال أسير فحذف الخبر لدلالة حاله عليه وهو السفر ودلالة قوله :﴿ حتى أبلغ مجمع البحرين ﴾ فإنها يقتضي تقدير خبر يكون بلوغ مجمع البحرين غاية له ويجوز أن يكون أصله لا يبرح مسيري حتى أبلغ فيكون الاسم محذوفا أقيم المضاف إليه مقامه فانقلب الضمير والفعل والخبر حينئذ حتى أبلغ وأن يكون لا أبرح تامة بمعنى لا أزال عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه فلا يستدعي الخبر، ومجمع البحرين ملتقى بحر الفارس والروم يلي المشرق كذا قال قتادة، وقال محمد بن كعب طنجه، وقال أبي بن كعب أفريقية ﴿ أو أمضى حقبا ﴾ أو أسير زمانا طويلا في القاموس الحقبة بالضمتين ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة والسنون وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس الحقب الدهر، وقال البغوي قال عبد الله بن عمر الحقب ثمانون سنة وقيل : سبعون، أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم، يعني يقع أحد الأمرين إما البلوغ بمجمع البحرين لو مضى الحقب وجاز أن يكون لا بمعنى إلا أن والمعنى لا أبرح أسير حتى أبلغ إلا أن أمضي زمانا أتيقن معه فوات المجمع.
روى البخاري ومسلم عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس إن نوف البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، فقال ابن عباس كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم ؟ قال : أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى يا رب فكيف لي به ؟ قال : خذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثمة، فأخذ حوتا فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة ووضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر ﴿ فاتخذ سبيله في البحر سربا ﴾ وأمسك الله عنه جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظا نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال : ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، فقال له فتاه :﴿ أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا ﴾ قال : وكان الحوت لفتاه سربا ولموسى عجبا، فقال موسى : ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا قال : رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى ثوبا فسلم عليه موسى فقال الخضر وأنى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم أتيتك لتعلمن ﴿ مما علمت رشدا قال إنك لن تستطيع معي صبرا ( ٦٧ ) ﴾ يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه وأنت على علم من علم الله علمك الله لا أعلمه. ﴿ قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا( ٦٩ ) ﴾ قال الخضر ﴿ فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكر ﴾، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال موسى قد حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ﴿ لقد جئت شيئا إمرا ﴾.
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كانت الأولى من موسى نسيانا والوسطى شرطا والثالثة عمدا، قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر برأسه فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى :﴿ أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا( ٧٥ ) ﴾ قال : وهذه أشد من الأولى، قال : قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا( ٧٦ ) فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا ﴿ لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا( ٧٨ ) ﴾ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما )١ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في تفاسيرهم عن ابن عباس أن موسى سأل ربه أي عبادك أحب إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني، قال : فأي عبادك أقضى ؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال : فأي عبادك أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى وترده عن ردى، قال : إن كان في عبادك علم مني فادللني عليه، قال أعلم منك الصخرة، قال : أين أطلبه ؟ قال على ساحل البحر عند الصخرة، قال كيف لي به ؟ قال : تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان
١ أخرجه البخاري في كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: حديث الخضر مع موسى عليهما السلام ٣٤٠١..
﴿ فلما بلغا مجمع بينهما ﴾ بينهما ظرف أضيف إليه على الاتساع أو بمعنى الوصل، وحاصل المعنى فلما بلغا مجمعها يعني انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين كما مر في الصحيح رقد موسى فاضطرب الحوت المشوي وعاش وذهب في البحر كما مر في الصحيح ليكون ذلك معجزة لموسى أو الخضر، وفي الصحيحين وقال سفيان يزعم أن تلك الصخرة عندها عين الحياة لا يصيب ماؤها شيئا إلا عاش ووثب في البحر، وقال الكلبي توضأ يوشع بن نون من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش ثم وثب في ذلك الماء، فجعل يضرب بذنبه فلا يضرب بشيء من الماء وهو ذاهب إلا يبس، فلما استيقظ موسى ﴿ نسيا حوتهما ﴾ أي نسيا موسى أن يطلبه ويتعرف حاله ويوشع أن يذكر له رأى من حياته وقوعه في البحر، وقال البغوي إنما كان الحوت مع يوشع وهو الذي نسيه وأضاف النسيان إليهما لأنهما جميعاً تزوداه للسفر كما يقال خرج القوم إلى موضع كذا وحملوا من الزاد كذا وإنما حمله واحد منهم ﴿ فاتخذ ﴾ أي جعل الحوت بجعل الله تعالى ﴿ سبيله ﴾ طريقه ﴿ في البحر سرباً ﴾ أي مسلكاً ومنه قوله :﴿ وسارب بالنهار ﴾١ وقيل السرب الشق الطويل وقد مر في رواية الصحيح " أمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق " ونصبه على المفعول الثاني، وفي البحر حال منه أو من السبيل ويجوز تعلقه باتخذ.
١ سورة الرعد، الآية: ١٠..
﴿ فلما جاوزا ﴾ مجمع البحرين بالسير إلى وقت الغداء من اليوم الثاني ﴿ قال ﴾ موسى ﴿ لفتاه آتنا غداءنا ﴾ أي طعامنا والغداء ما يعد للأكل غدوة والعشاء ما يعد للأكل عشية ﴿ لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ﴾ أي تعبا وشدة، وذلك أنه ألقى على موسى الجوع بعد مجاوزة الصخرة ليتذكر الحوت ويرجع إلى مطلبه، وقد مر في حديث الصحيحين أن موسى لم يجد نصبا حتى جاوز الموعد
﴿ قال ﴾ له فتاه وتذكر ﴿ أرأيت ﴾ يعني أخبرني ما أنساني الحوت ﴿ إذ أوينا إلى الصخرة ﴾ التي رقدنا عندها، قال البغوي قال هقل بن زياد هي الصخرة التي دون نهر الزيت ﴿ فإني نسيت الحوت ﴾ أي تركته وفقدته، وقيل : في الآية إضمار تقديره نسيت أن أذكر لك أمر الحوت وما رأيت منه، قال البغوي وذلك أن يوشع حين رأى ذلك من الحوت قام ليدرك موسى فيخبره فنسي أن يخبره فمكث يومهما حتى صليا الظهر من الغد ثم اعتذر وقال :﴿ وما أنسانيه ﴾ قرأ حفص بضم الهاء في الوصل وكذا في سورة الفتح في قوله تعالى :﴿ عليه الله ﴾١ والباقون يكسرونها فيهما في الحالين، أي ما أنساني أن أذكر لك أمر الحوت ﴿ إلا الشيطان ﴾ يعني شغلني الشيطان بوساوسه أن أذكره لك، قال البيضاوي ولعله نسي لاستغرابه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما عراه عن مشاهدة الآيات الباهرة وإنما نسب إلى الشيطان هضما لنفسه، أو لأن عدم احتمال القوة للمجانبين واشتغالها بأحدهما عن الآخر عد من نقصان نفسه ﴿ أن اذكره وأتخذ ﴾ الحوت ﴿ سبيله في البحر عجبا ﴾ سبيلا عجبا فهو صفة لمفعول ثان أقيم مقامه والظرف ظرف لغو أو اتخاذا عجبا فهو صفة لمصدر والمفعول الثاني هو الظرف، وقيل : هو مصدر فعله المضمر كأنه قال في آخر كلامه عجبت عجبا، وقيل : هذا من قول موسى لما قال له يوشع واتخذ سبيله في البحر قال موسى عجبا أي عجبت عجبا، وقيل : ضمير اتخذ راجع إلى موسى أي اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا أي يعجب عجبا فهو حال.
١ سورة الفتح، الآية: ١٠..
﴿ قال ﴾ موسى ﴿ ذلك ما كنا نبغ ﴾ أثبت الياء في الحالين ابن كثير وفي الوصل فقط نافع وأبو عمرو والكسائي والباقون يحذفونها في الحالي، يعني كنا نطلب ذلك لكونه أمارة لمكان الخضر ﴿ فارتدا على آثارهما ﴾ أي رجعا في الطريق الذي جاءا فيه ﴿ قصصا ﴾ يقصان قصصا أي يتبعان آثارهما إتباعا، أو مقتصين حتى أتيا الصخرة
﴿ فوجدا عبدا من عبادنا ﴾ الجمهور على أنه الخضر كما ورد في الصحيح واسمه بليابن ملكان وقيل : اليسع وقيل : إلياس والخضر لقب له، لما روى البغوي بسنده عن همام بن منبه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنما سمي الخضر خضراً لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز تحته خضرا ) وقال مجاهد سمي خضراً لأنه إذا صلى خضر ما حوله، قال البغوي قيل كان من نسل بني إسرائيل وقيل : كان من أبناء الملوك الذين تزهدوا في الدنيا، والمختار عندي أنه لم يكن من بني إسرائيل لأن موسى كان مبعوثا إلى بني إسرائيل أجمعين فلو كان الخضر منهم لكان من أتباع موسى والظاهر خلافه، وقد مر في الحديث الصحيح أن موسى رأى الخضر مسجى بثوب فسلم عليه فقال له الخضر وأنى بأرضك السلام قال : أنا موسى قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم أتيتك ﴿ تعلمن مما علمت رشداً ﴾ وفي رواية أخرى لقيه مسجى بثوب مستلقياً على قفاه بعض ثوبه تحت رأسه وبعضه تحت رجليه، وفي رواية لقيه وهو يصلي ويروى لقيه على طنفسة خضراء على كبد البحر ﴿ آتيناه رحمة من عندنا ﴾ هي الوحي والنبوة ﴿ وعلمناه من لدنا علما ﴾ أي مما يختص بنا ولا يكن تحصيله إلا من لدنا بتوفيقنا وهو علم الذات والصفات، قال البغوي لم يكن الخضر نبيا عند أكثر أهل العلم، قلت : وهذا عندي محل نظر لأن العلم الحاصل للأولياء بالإلهام وغير ذلك علم ظني يحتمل الخطأ ولذلك ترى تعارض علومهم الملهمة فلو لم يكن الخضر نبيا لما جاز له قتل نفس زكية بإلهام أنه لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا
﴿ قال له موسى هل أتبعك ﴾ كان حق الكلام جئتك لأتبعك وأصحبك لكن غير الأسلوب استئذانا منه في الإتباع والمصاحبة ﴿ على أن تعلمن ﴾ أثبت الياء في الحالين ابن كثير وفي الوصل فقط نافع وأبو عمرو والباقون يحذفونها في الحالين يعني على شرط تعلمني وهو في موضع الحال من الضمير المرفوع أو المنصوب من اتبعك ﴿ مما علمت رشدا ﴾ قرأ أبو عمرو بفتح الراء والشين والباقون بضم الراء وإسكان الشين وهما لغتان كالبَخَل والبُخًل ومعناه إصابة الخير وهو مفعول تعلمني ومفعول علمت العائد محذوف وكلاهما من علم الذي له مفعول واحد بمعنى عرف، ويجوز أن يكون علة لأتبعك أو مصدرا بإضمار فعله وهذه الآية دليل على أن المفضول قد يكون له فضل جزئي على من هو أفضل منه وعلى أن الفاضل يبتغي أن يطلب هذه الحصة من الفضل من المفضول ولا يستنكف عنه لما مر في تفسير هذه الآية أن موسى سأل ربه أي عبادك أعلم قال الذي ينبغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى ويرده عن ردى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها )١ رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن عن أبي هريرة وابن عساكر عن علي رضي الله عنهما، ومن هذا الباب الصلاة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ) قال البغوي وفي بعض الأخبار أنه لما قال له موسى ذلك قال له الخضر كفى بالتوراة علماً وبني إسرائيل شغلاً، فقال له موسى إن الله أمرني بهذا وقد رأى موسى عليه السلام في هذا الكلام غاية التواضع والأدب واستجهل نفسه واستأذن أن يكون تابعا له وسأله أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليه فحينئذ
١ أخرجه الترمذي في كتاب: العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة ٢٦٨٧، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: الحكمة ٤١٦٩..
﴿ قال ﴾ له الخضر ﴿ إنك لن تستطيع معي ﴾ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ صبرا ﴾ نفي الخضر عن موسى استطاعة الصبر معه على وجوه من التأكيد كأنها مما لا يصح ولا يستقيم، وعلل ذلك واعتذر عنه بقوله :﴿ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ( ٦٨ ) ﴾.
﴿ وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ( ٦٨ ) ﴾ أي علما وخبرا تميز أو مصدر لأن ﴿ لم تحط به ﴾ معناه لم تخبره وجه ذلك النفي أن الخضر علم أنه يرى منه أمورا منكرة ظاهر أو لا يجوز للأنبياء أن يصبروا على المنكرات ما لم يظهر عليهم وجه جوازها، قلت : والسر في ذلك أن شرائع الأنبياء المرسلين إلى الأمم مبنية على قواعد كلية موجبة للصلاح الغالب بالنسبة إلى العامة، فينبغي أن يكون وجوه صلاحها ظاهرة بالنسبة إلى العامة، وأما الأحكام التي يوحي بها أفراد الأنبياء الذين لم يبعثوا إلى الأمم بل أوحي إليهم لصلاح أنفسهم أو امتثال أمور بينهم وبين الله تعالى فإن تلك الأحكام تكون غالبا مبنية على حكمات لا يظهر وجه صلاحها على العامة، وذلك وجه إنكار موسى على ما أتى به الخضر وبناء على مخالفة المشرب " وكون اتحاد المشرب والانقياد وترك الاعتراض من شرائط الاستفادة " جعل الخضر عدم استطاعته على الصبر علة لعدم إفادة صحبة الخضر إياه، ووضع العلة موضعه كأنه قال صحبتي لا ينفعك ﴿ لن تستطيع معي صبرا ﴾.
ومن ها هنا قالت الصوفية العالية : إنه يجب على المريد ترك الاعتراض على الشيخ وإن ظهر على يديه منكر ظاهرا بعدما ثبت عنده أنه من أهل الكمال والتكميل فإن كان المريد لا يستطيع ذلك لأجل اختلاف المشرب يجب عليه ترك مصاحبته غير منكر كما له. فإن قيل : كيف يتصور ذلك في الشريعة المحمدية العامة الشاملة المؤبدة التي لا يحتمل النسخ وللتبديل ؟ قلنا : هب الأمر كذلك لا يتصور أن يكون شيء محرما في الدين ليستبيحه له أحد فلا يتصور من أحد يدعي الولاية أن يأتي بقتل غلام أبواه مؤمنان قائلا بأن الله تعالى ألهمني أنه يرهقهما طغيانا وكفرا، لكن قد يكون شيء مما اختلف فيه أقوال العلماء وكان لصحته وجها مستند إلى دليل شرعي كالسماع والجهر بالذكر فمن أتى به من أولياء الله تعالى لا يجوز عليه الإنكار لأنه من قلد عالما لقي الله سالما، وقد يكون شيء منكرا ظاهرا وليس هو في الحقيقة كذلك كمن شرب من قارورة ماء مرائيا للناس أنه خمر حتى يقل هجوم الخلق عليه ولا يخل بالمخلوقين وقد يظهر على يدي رجل من أهل الله سيئة صغيرة وهو يعترف بكونها سيئة، وقد أجمع العلماء على أن العصمة من خواص النبوة لا يخل صدوره معصية بالولاية فحينئذ أيضا لا ينبغي للمريد أن يعترض على شيخه بل ينكر الفعل فلا يأتي به ولا ينكر كمال فاعله بارتكابه.
وعامة مراد الإنكار على أولياء الله تعالى مقالاتهم المبنية على الكشوف والمشاهدات فتلك المقالات مهما أمكن حملها على محمل صحيح يجب حملها على ذلك قال الله تعالى :﴿ لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا ﴾١ وإن لم يمكن ذلك يحمل تلك المقالات إما على سكر القائل وقد أفتى الفقهاء أن السكر إذا حصل بشيء مباح يكون عذرا لا يقع طلاقه ونحو ذلك فكيف إذا حصل بغلبة حب الله الذي هو رأس العبادات وأما على عدم فهم السامع مراد القائل وعلى أن القائل أراد من كلامه معنى غير ما يفهم منه ظاهرا، فإن العبارات مقتصرة على بيان معان محسوسة أو معقولة مستنبطة من أمور محسوسة فأما ما لا نظير له ولا شبيه من حقائق الذات والصفات إذا تجلت على قلب من له قلب سليم وأراد بيانها ولم يوضع بإزائها ألفاظ، اضطر القائل إلى استعارات وتجوزات وتشبيهات غير تامة فلا يجوز للسامع حينئذ أن يحملها على معانيه الظاهرة المخالفة لعقائد أهل السنة حتى ينكر عليه بل يعمل به ما يعمل بالمتشابهات الواردة في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن لم يسلك هذا المسلك لا يزيده إلا خسارا كما أن القرآن ﴿ ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ﴾٢ ألا ترى أنه من سمع ﴿ الرحمن على العرش استوى ( ٥ ) ﴾٣ ﴿ يد الله فوق أيديهم ﴾٤ فإن أنكر كونها قرآنا كفر، وإن اعتقد بكونه تعالى جسما كاد يكون كافرا، فكذلك كلام أولياء الله تعالى إذا كان ظاهره مخالفا للشرع لا ينكر عليه ولا يعتقد بظاهره والله أعلم.
١ سورة النور، الآية: ١٢..
٢ سورة الإسراء، الآية: ٨٢..
٣ سورة طه، الآية: ٥..
٤ سورة الفتح، الآية: ١٠..
ولما كان موسى عليه السلام شاكا المصابرة غير واثق من نفسه عليها لم يقطع بذلك واستثنى ﴿ قال ستجدني ﴾ قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا ﴾ الجملة معطوفة على صابرا منصوب محلا يعني صابرا غير عاص أو على ﴿ ستجدني ﴾ ولا محل له من الإعراب، عاهد موسى عليه السلام على المصابرة لكونها شرطا لإفادة الصحبة وقد أمره الله تعالى بمصاحبته وشك في إتيانه منه لأن الاعتراض والمخالفة كان من لوازم مخالفة المشرب ناشئا منها من غير اختيار منه ولأجل ذلك ﴿ قال ﴾ الخضر ﴿ فإن اتبعتني فلا تسألني ﴾
﴿ قال ﴾ الخضر ﴿ فإن اتبعتني فلا تسألني ﴾ حذف الياء في الحالين ابن ذكوان بخلاف عن الأخفش وأثبتها الباقون في الحالين وكذا رسمها، وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بفتح اللام وتشديد النون والآخرون بسكون اللام وتخفيف النون، أتى بالشرط والجزاء للشك والاستبعاد في وقوعه ولم يقل لا تسألني ﴿ عن شيء ﴾ أعلمه مما تنكره الآن لأن السؤال مظنة الاعتراض المانع للاستفادة ﴿ حتى أحدث لك منه ذكرا ﴾ يعني حتى أبتدئ لك ببيانه.
﴿ فانطلقا ﴾ على الساحل يطلبان السفينة يركبانها فوجدا سفينة فركباها، قال البغوي فقال أهل السفينة هؤلاء لصوص فأمروهم بالخروج، فقال صاحب السفينة ما هم بلصوص ولكني أرى وجوه الأنبياء، وقد مر في حديث الصحيحين عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم :( أنه مرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول )١ ﴿ حتى إذا ركبا في السفينة خرقها ﴾ الخضر، قد مر في الصحيحين أن الخضر قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ﴿ قال ﴾ موسى ﴿ أخرقتها لتغرق أهلها ﴾ وقد حملونا بغير نول فإن خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها، قرأ حمزة و الكسائي ليغرق بفتح الياء التحتانية والراء على صيغة الغائب من المجرد ورفع أهلها بالفاعلية، والباقون بضم التاء الفوقانية وكسر الراء على صيغة المخاطب من الأفعال ونصب أهلها على المفعولية ﴿ لقد جئت شيئاً إمرا ﴾ أي أعظيما من إمر الأمر إذ أعظم، وقال البغوي والإمر في كلام العرب الداهية وأصل كل شيء شديد كبير، وقال القتيبي أي عجباً، قال البغوي روى أن الخضر أخذ قدحاً من زجاج ورقع به خرق السفينة، وقال جلال الدين المحلي روي أن الماء لم يدخلها يعني معجزة للخضر عليه السلام
١ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم فيكل العلم إلى الله ١٢٢، وأخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: من فضائل الخضر عليه السلام ٢٣٨٠..
﴿ قال ﴾ الخضر ﴿ ألم أقل إنك لن تستطيع معي ﴾ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ صبرا ﴾ تذكير لما ذكره قبل فلما رأى موسى أن الماء لا يدخل من الخرق وإنه لم يضر بأهل السفينة وتذكر ما عاهد
﴿ قال لا تؤاخذني بما نسيت ﴾ أي بالذي نسيته أو بشيء نسيته يعني المعاهدة على ترك الاعتراض أو بنسياني إياها اعتذر بالنسيان، وقيل : أراد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت وصيتك الأول، وفي الحديث الصحيح المذكور عن أبي كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :﴿ كان الأولى من موسى نسيانا والوسطى شرطا والثالثة عمدا )، وقال البغوي قال : قال ابن عباس إنه لم ينس ولكنه من معاريض الكلام فكأنه نسي شيئاً آخر { ولا ترهقني ﴾ أي لا تكلفني ﴿ من أمري عسرا ﴾ مشقة بالمضايقة والمؤاخذة يعني أن ذلك يعسر على متابعتك، وعسرا مفعول ثان ليرهق يقال رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه، وقيل : معناه لا تكلفني مشقة وعاملني باليسر ولا تعاملني بالعسر.
﴿ فانطلقا ﴾ بعدما خرجا من السفينة ﴿ حتى إذا لقيا غلاما ﴾ بين غلمان يلعبون، قال المفسرون فأخذ الخضر غلاما له ظريفا وضئ الوجه، قال السدي كان أحسنهم وجها كان وجهه يتوقد حسنا ﴿ فقتله ﴾ قيل : أضجعه ثم ذبحه بالسكين، وفي الحديث الصحيح المذكور أنه أخذ برأسه فاقتلعه بيده، وروى عبد الرزاق هذا الخبر وأشار بأصابعه الثلاث الإبهام والسبابة والوسطى وقلع رأسه، وروي أن رضخ رأسه بالحجارة وقيل : ضرب رأسه بالجدار، قال ابن عباس كان غلاما لم يبلغ الحلم وهو قول أكثر المفسرين والمستفاد من القرآن لأن الغلام لا يطلق بعد البلوغ، قال ابن عباس لم يكن نبي الله يقول : أقتلت نفسا زاكية إلا وهو صبي لم يبلغ الحلم، وقال الحسن كان رجلا، وقال الكلبي كان فتى يقطع الطريق ويأخذ المتاعب ويلجأ إلى أبويه، وقال الضحاك كان غلاما يعمل بالفساد وتأذى منه أبواه وفي حديث أبي بن كعب عند مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا )١ والفاء في قوله فقتله للتعقيب والدلالة على أنه كما لقيه قتله من غير مهلة واستكشاف حال، ولذلك ﴿ قال ﴾ موسى ﴿ أقتلت نفسا زكية ﴾ قرأ الكوفيون وابن عامر بتشديد الياء من غير ألف والباقون زاكية بالألف وتخفيف الياء، وقال البغوي قال الكسائي و الفاء معناهما واحد مثل القاسية والقسية، وقال أبو عمرو بن العلاء الزاكية التي لم تذنب قط والزكية التي أذنبت ثم تابت ﴿ بغير نفس ﴾، أي لم يقتل نفساً وجب عليه القتل بالقصاص يعني إن القتل لا يجوز إلا في حد أو قصاص ولم يوجد شيء منها جعل الله سبحانه في الأولى خرقها جزاء واعترض موسى عليه السلام مستأنفا وفي الثانية جعل اعتراض موسى جزاء لما قبله من الشرط، لأن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل وكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام ولذلك عقبه بقوله ﴿ لقد جئت شيئاً نكراً ﴾ أي منكراً في الشرع، قرأ نافع ويعقوب وأبو بكر وابن ذكوان نكرا في الموضعين ها هنا وفي الطلاق بضم الكاف والآخرون بسكونها، قال قتادة النكر أعظم من الأمر لأنه حقيقة الهلاك وفي غرق السفينة كان خوف الهلاك، وقيل : الأمر أعظم لأنه كان فيه تغريق جمع كثير.
١ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: معنى كل مولد يولد على الفطرة ٢٦٦١. وأخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في القدر ٤٦٩٣..
﴿ قال ﴾ الخضر ﴿ ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي ﴾ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها ﴿ صبرا ﴾ زاد فيه لك مكافحة بالعتاب على رفض العهد مرتين
﴿ قال ﴾ له موسى ﴿ إن سألتك عن شيء بعدها ﴾ أي بعد هذه المرة ﴿ فلا تصاحبني ﴾ أي فارقني، قرأ يعقوب فلا تصحبني بغير ألف من الصحبة ﴿ قد بلغت من لدني ﴾ قرأ نافع وأبو جعفر بضم الدال وتخفيف النون وأبو بكر بإسكان الدال وإشمامها الشم وتخفيف النون والباقون بضم الدال وتشديد النون، يعني من عند ﴿ عذرا ﴾ خالقتك ثلاث مرات، روى مسلم عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( رحمة الله علينا وعلى موسى وكذا إذا ذكر أحدا من الأنبياء بدأ بنفسه لولا أنه عجل لرأي العجب ولكنه أخذ من صاحبه ذمامة فقال :﴿ إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا ﴾١ وروى ابن مردويه بلفظ " رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب
١ أخرجه مسلم في كتاب: الفضائل، باب: من فضائل الخضر عليه السلام ٢٣٨..
﴿ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية ﴾ قال ابن عباس يعني أنطاكية، وقال ابن سيرين هي الأيكة وهي أبعد الأرض من السماء، وقيل : برقة، وقال البغوي عن أبي هريرة بلدة الأندلس ﴿ استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوها ﴾ قال البغوي قال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتيا أهل قرية لئام فطافافي المجالس فاستطعماهم فلم يطعموها واستضافاهم ولم يضيفوهما، قال قتادة شر القرى التي لا تضيف الضيف، قال البغوي وروى عن أبي هريرة قال : أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما، فدعا لنسائهم ولعنا رجالهم ﴿ فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض ﴾ أي يسقط هذا من مجاز الكلام لأن الجدار لا إرادة له وإنما معناه قرب ودنا من السقوط كما يقول العرب داري تنظر دار فلان إذا كانت تقابلها ﴿ فأقامه ﴾ قال البغوي روينا عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( فقال الخضر بيده فأقامه، ) وقال سعيد بن جبير مسح الجدار بيده فاستقام، وروي عن ابن عباس هدمه ثم قعد يبنيه، وقال السدي بل طيناً وجعل يبني الحائط قال ﴿ قال لو شئت لاتخذت ﴾ قرأ ابن كثير و يعقوب و أبو عمرو لاتخذت بتخفيف التاء وكسر الخاء من المجرد على وزن تبعت يقال تخذ يتخذ على وزن سمع يسمع، والباقون بتشديد التاء وفتح الخاء من الافتعال على وزن اتبعت أدغمت تاء الكلمة في تاء الافتعال ومعناهما واحد مثل تبع واتبع ومعناه لأخذت وليس من الأخذ عند البصريين كذا قال البيضاوي لأن فاءها همزة والهمزة لا تدغم في التاء، وقال الجوهري الاتخاذ افتعال من الأخذ إلا أنه أدغمت بعد تليين الهمزة وإبدال التاء يعني أبدلت الهمزة بالياء لانكسارها قبلها ثم أبدلت الياء بالتاء لوقوعها فاء الافتعال نحو السر من اليسر، ثم لما كثر استعماله بلفظ الافتعال توهموا أن التاء أصلية فبنوا منه فَعِلَ يفعل قالوا تخذ يتخذ، وأهل العربية على خلاف ما قال الجوهري كذا قال الجوزي في النهاية ﴿ عليه ﴾ أي على بنائه ﴿ أجراً ﴾ فيه تحريض على أخذ الجعل ليعيشا به، وتعويض بأن فعله اشتغال لما لا يعنيه، فيه دليل أنه أقام الجدار يعني بناه بمشقة حيث يجوز عليه أخذ الأجر ولو أقامه بالمعجزة لما جاز له أخذ الأجر.
﴿ قال ﴾ الخضر ﴿ هذا ﴾ الاعتراض الثالث ﴿ فراق بيني وبينك ﴾ أي سبب الفراق بيننا لأن في هذا الاعتراض مدخلا لهوى النفس بخلاف الاعتراضيين السابقين، فإن بناءهما كان على الديانة الصرفة أو المعنى هذا الوقت وقت الفراق بيننا لوجود اعتراض منك فيه مدخل لهوى النفس وجاز أن يكون هذا إشارة إلى الفراق الموعود بقوله فلا تصاحبني، وإضافة الفراق إلى البين إضافة المظروف إلى الظرف على الاتساع والتجوز، قلت : هذه إضافة بمعنى في ﴿ سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ﴾ أي بالخبر الباطن فيما لم تستطع الصبر عليه لكونه منكرا في الظاهر، وكان مآله على الخير والصواب.
قال البغوي وفي بعض التفاسير أن موسى أخذ بثوبه فقال : أخبرني بمعنى ما عملت قبل أن تفارقني فقال :﴿ أما السفينة فكانت لمساكين { قال كعب كانت السفينة لعشرة إخوة خمسة زمنى وخمسة يعملون في البحر وفيه دليل على أن المسكين يجوز إطلاقه على من له مال لا يبلغ نصابا ولا يكفيه أو لا يكون فاضلا عن حاجته الأصلية { يعملون في البحر ﴾أي يؤاجرون ويكتسبون بها ﴿ فأردت أن أعيبها ﴾ أي أن أجعلها ذات عيب ﴿ وكان وراءهم ﴾ أي أمامهم كقوله تعالى :﴿ من ورائه جهنم ﴾١ وقيل : وراءهم خلفهم وكان رجوعهم في طريقهم عليه والأول أصح يدل عليه قراءة ابن عباس وكان أمامهم ﴿ ملك يأخذ كل سفينة ﴾ صالحة ﴿ غصباً ﴾
قال البغوي كان ابن عباس يقرأ كذلك، فخرقها وعيبها الخضر حتى لا يأخذها الملك الغاصب وكان اسمه جليدي بن كركر، وقال محمد بن إسحاق سولة بن جليد الأزدي، وقال شعيب الجبائي اسمه هدد بن بدد، قال البغوي وكان حق النظم أن يتأخر قوله :﴿ فأردت أن أعيبها ﴾ من قوله :﴿ وكان وراءهم ملك ﴾ لأن إرادة التعييب مسبب عن خوف الغصب وإنما قدم للغاية أو لأن السبب كان مجموع الأمرين خوف الغصب ومسكنة الملاك فرتبه على أقوى الجزئين وأدعاهما وعقبه بالآخر على سبيل التقييد والتعميم، قال البغوي روي أن الخضر عليه السلام اعتذر إلى القوم وذكر لهم شأن الملك الغاصب ولم يكونوا يعلمون بخبره، وقال : أردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها فإذا جاوز أصلحوها فانتفعوا بها قيل سددوها بقارورة وقيل بالقار، قلت : لكن رواية الاعتذار يأبى عنه نظم القرآن فإنه صريح في أن الخضر بين هذه الحكمة لموسى بعد مجاوزته وبعد قتل الغلام وإصلاح الجدار عند الفراق ولو اعتذر الخضر في أول الأمر لأصحاب السفينة لما خفي على موسى لكونه معه ولما احتاج الخضر إلى بيان ذلك لموسى والله أعلم.
١ سورة الجاثية، الآية: ١٠..
﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما ﴾ يغشاهما ﴿ طغيانا ﴾ عليهما﴿ وكفرا ﴾ بعقوقه وسوء صنيعه ويلحقهما شرا وبلاء أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، أو يعذبهما بغلبته فيرتد بإضلاله أو بممالأته على طغيانه وكفره حبا، قال سعيد بن جبير خشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه على دينه وإنما خشى ذلك خضر بإعلام من الله بالوحي، أخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن هرمز عن ابن عباس أن نجدة الحروري كتب إليه كيف قتله وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من قتل الولدان فكتب إليه إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل يعني إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم لعامة المسلمين الذين لا يوحى إليهم حتى يحصل لهم علم من حال الولدان والوحي قد انقطع بعد النبي صلى الله عليه وسلم فليس نهي النبي صلى الله عليه وسلم متوجها إلى خضر وأمثاله.
فإن قيل : مقتضى هذا الكلام إن الله تعالى كان يعلم أن ذلك الغلام إن عاش يكون كافرا طاغيا والمفروض المتحقق أن الغلام لم يعش ولم يكفر ولم يطغ حيث قتله الخضر والعلم يكون تابعا للمعلوم فلابد أن يكون للعلم في الخارج مصداق، فكيف يتصور صحة هذا العلم ؟ لا يقال في جوابه أن وجود الأشياء تابع لعلم الله تعالى بخلاف علوم العباد فإن العلم هناك تابع للمعلوم مستفاد منه لأنا نقول هذا القول لا يجديك نفعا فإن العلم سواء كان تابعا للمعلوم أو متبوعا له لابد من مطابقتهما وعدم تخلف أحدهما عن الآخر، فإذا لم يعش الغلام ولم يكفر ظهر عدم تحقق القضية في الواقع فلا يجوز تعلق علم الله بالقضية حتى لا يلزم عدم مطابقته العلم بالواقع والجواب الصحيح الذي يحسم مادة الشبهة أن صدق الشرطية وتعلق العلمية يقتضي لزوم التالي للمقدم في الواقع، ولا يقتضي وجوده طرفيها فيه ألا ترى أن قوله تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾١ صادق والعلم به متحقق مع امتناع المقدم، فمقتضى هذا العلم لزوم كفر الغلام لبقائه بحيث لا يحتمل تخلفه، كما أن صدق قولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود يقتضي لزوم وجود النهار لطلوع الشمس لا طلوعها ولا وجوده. فإن قيل : لزوم أحد الشيئين للآخر يقتضي أن يكون أحد الشيئين علة تامة للشيء الآخر، أو يكونان كلاهما معلولين لعلة واحدة تامة، فما وجه لزوم كفر الغلام لبقائه ؟ قلنا : وجه هذا اللزوم على ما قالت الصوفية العلية رضي الله عنها أن وجودات الأشياء كلها في الخارج ظلال للأعيان الثابتة التي هي ظلال لصفات الله تعالى ولما كانت الأعيان الثابتة كائنة في مرتبة العلم فلذلك قالوا المعلوم تابع للعلم ثم صفات الله تعالى منها راجعة إلى كونه تعالى هاديا ومنها راجعة إلى كونه تعالى مضلا فالأشياء التي مبادئ تعيناتها راجعة إلى الهداية ظهور الاهتداء لازم لوجودها لا يمكن ختمها إلا على السعادة، والتي مبادئ تعيناتها راجعة إلى الضلالة ظهور الشقاوة وختمها عليها لازم لوجودها لا يتصور منها الاهتداء، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم :( كل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة )٢ متفق عليه من حديث علي رضي الله عنه، فمعنى قوله طبع الغلام على الكفر أن مبدء تعينه كان ضلال اسم المضل فموته صغيرا قبل ظهور أثر الضلالة فيه كان أصلح له ولوالديه وكان هذا تفضلا من الله تعالى على والديه لا على ما قالت المعتزلة بوجوب الأصلح على الله سبحانه إذ لو كان كذلك لم يوجد كافر حيث يجب على الله إماتته صغيرا والله أعلم.
١ سورة الأنبياء، الآية: ٢٢..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب: ﴿فسنيسره للعسرى﴾ ٤٩٤٩، وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته ٦٤٧ ف..
﴿ فأردنا ﴾ لعل معناه اشتهينا ودعونا الله سبحانه لأن إرادة العبد لا يمكن تعلقه بفعل الله سبحانه أسند الخضر ها هنا الإرادة إلى نفسه وأيضا إلى الله تعالى حيث قال بصيغة الجمع أردنا ﴿ أن يبدلهما ربهما ﴾ لأن التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله بدله، والإهلاك وجد بكسب الخضر والإيجاد بخالص صنعه تعالى فصح الإسنادان، قرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو بالتشديد من التفعيل والباقون بالتخفيف من الأفعال ومعناهما واحد، قال البغوي وفرق بعضهم فقال بأن التبديل تغيير شيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم و الإبدال رفع شيء ووضع شيء آخر مكانه، قلت : وهذا الفرق ليس بشيء إذ لو كان كذلك لما يتصور الجمع بين القرائتين مع كونهما متواترتين بل المراد أن يرزقهما ربهما بدله ولدا ﴿ خيراً منه زكاة ﴾ أي طهارة من الذنوب والأخلاق الردية ﴿ وأقرب رحماً ﴾ قرأ ابن عامر وأبو جعفر و يعقوب بضم الحاء والباقون بإسكانها، أي أقرب رحمة وعطفا على والديه، وقيل : هو من الرحم والقرابة، قال قتادة أي أوصل للرحم وأبر بوالديه وانتصاب زكاة ورحما على التمييز والعامل اسم التفضيل وهو خير وأقرب، قال البغوي قال الكلبي أبدلهما الله به جارية فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبياً فهدى الله على يديه أمة من الأمم وعن جعفر بن محمد عليه السلام أنه قال : أبدلهما الله جارية ولدت سبعين نبياً، وقال ابن جريج أبدلهما بغلام مسلم، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية بلفظ فأبدلا جارية ولدت نبيا، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس مثله وأخرج ابن المنذر من طريق بسطام بن جميل عن يوسف بن عمر قال أبدلهما الله مكان الغلام جارية ولدت بنبيين، وأخرجه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال مطرف فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرض امرؤ بقضاء الله تعالى فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب، قلت : بل فيما يحب العبد أو يكره لا بد له أن يخاف مكر الله ويستعيذ منه ويرجو رحمة الله ويطلبه منه ويرضى بقضاء الله ولا يعترض عليه.
﴿ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ﴾ قال البغوي كان اسمهما أصرم وصريم ﴿ وكان تحته كنز لهما ﴾ من مال كذا قال عكرمة، وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال١ :( كان ذهباً وفضة ) وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء في هذه الآية قال : أحلت لهم الكنوز وحرمت عليهم الغنائم وأحلت لنا الغنائم وحرمت علينا الكنوز، قلت : لعل معنى حرمت علينا الكنوز أن نكنز الذهب والفضة ولا نؤدي زكاتها فذلك حرام علينا لقوله تعالى :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾٢ قال ابن عباس وابن عمر كل مال يؤدى زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا وكل مال لا يؤدى زكاته فهو كنز وإن لم يكن مدفونا فلعل الزكاة لم تكن واجبة على أهل تلك القرية حينئذ حتى قيل أحلت لهم الكنوز والله أعلم، قال البغوي روي عن سعيد بن جبير قال : كان الكنز صحفاً فيها علم، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : ما كان ذهبا ولا فضة ولكن صحف علم، وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس نحوه، وقال البغوي وروي عن ابن عباس أنه قال كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه عجباً لمن يوقن بالموت كيف يفرح عجباً لمن أيقن بالحساب كيف يغفل عجباً لمن أيقن بزوال الدنيا كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الجانب الآخر مكتوب أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه وويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه كذا أخرج البزار بسند ضعيف عن أبي ذر مرفوعا أخصر منه وأخرجه الخرائطي في قمع الحرص عن ابن عباس موقوفا وكذا أخرج ابن مردويه من حديث علي مرفوعا وأخرجه البزار عن أبي ذر رفعه، وقال الزجاج الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال وعند التقييد يجوز أن يقال عنده كنز علم وهذا اللوح كان جامعا لهما.
﴿ وكان أبوهما صالحاً ﴾ قيل : كان اسمه كاشح وكان من الأتقياء، قال البغوي قال ابن عباس حفظا بصلاح أبيهما يعني أمر الله الخضر لإصلاح الجدار لأجل حفظ الغلامين بصلاح أبيهما، قال محمد بن المنكدر إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله في حفظ الله ما دام فيهم، قال سعيد بن مسيب إني أصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي، وقيل : كان بين الغلامين وبين الأب الصالح سبعة أيام، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق بقية عن سليمان بن سليم أبي سلمة قال : مكتوب في التوراة أن الله ليحفظ القرن إلى القرن إلى سبعة قرون وأن الله يهلك القرن إلى القرن إلى سبعة قرون، وفي الآية دليل على أنه حق على المؤمنين السعي والرعاية لذريات الصلحاء مالم يصدر منهم طغيان وكفر فحينئذ يستحقون زيادة الإيذاء كما يدل عليه آية السابقة ﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ﴾ ﴿ فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ﴾ أي بلغا الحلم وكمال الرشد والقوة، قيل : ثمانية عشر سنة، وعندي أنه أربعين سنة لقوله تعالى :﴿ حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ﴾٣ والظاهر من مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنه خمسة وعشرون سنة فإنه إذا بلغ السفيه خمسة وعشرون سنة دفع عنده إليه ماله وقد قال الله تعالى :﴿ فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ﴾٤ ﴿ ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك ﴾ منصوب على الحال من فاعل يبلغا أي بلغا مرحومين من ربك أو على المصدرية أو العلية فإن إرادة الخير رحمة، وقيل : متعلق بمحذوف تقديره فعلت ما فعلت رحمة من ربك قال البيضاوي لعل إسناد الإرادة أولا إلى نفسه يعني في قوله : أردت أن أعيبها لأنه هو المباشرة للتعقيب وثانيا إلى الله وإلى نفسه يعني في قوله : فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة لأن التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله بدله، وثالثا إلى الله وحده يعني في هذه الآية لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين، أو لأن الأول في نفسه شر والثالث خير والثاني ممتزج، أو لاختلاف حال العارف في الالتفات إلى الوسائط ﴿ وما فعلته ﴾ أي ما رأيت مني من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار ﴿ عن أمري ﴾ أي عن رأي إنما فعلته بأمر الله عز وجل وعلا ﴿ ذلك تأويل ما لم تستطع ﴾ حذفت تاء الاستفعال تخفيفا والمعنى ما لم تطق ﴿ عليه صبرا ﴾ قال البغوي روي أن موسى لما أراد أن يفارقه قال له أوصني، قال لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه لتعمل به، قال البيضاوي ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه ولا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه فلعل فيه سرا لا يعرفه، قلت : لاسيما إذا كان الرجل الذي رأى منه ما لا يستحسنه ذا علم وديانة واتقاء فبالحري أي لا ينكر عليه كما ذكرنا آنفا، وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمعلم ويراعي الأدب في المقال وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجر عنه.
قال البغوي اختلف الناس في أن الخضر عليه السلام حي أم ميت ؟ قيل : إن الخضر و إلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم وكان سبب حياته فيما يحكى به أنه شرب من عين الحياة وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمة لطلب عين الحياة وكان الخضر على مقدمته فوقع الخضر على العين فنزل فاغتسل وشرب وصلى شكرا لله تعالى وأخطأ ذو القرنين الطريق فعاد، وذهب الآخرون إلى أنه مات لقول الله تعالى :﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ﴾٥ وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة ( أريتكم ليلتكم هذه ؟ فإن على رأس مائة سنة لا يبقى من هو اليوم حي على ظهر الأرض أحد )٦ قلت : ذكر صاحب الحصين في التعزية ما روى الحاكم في المستدرك عن أنس أنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل رجل أشهب اللحية جسم صبيح فتخطا رقابهم فبكى ثم التفت إلى الصحابة رضي الله عنهم فقال : إن لله عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت وخلقا من كل هالك فإلى الله فأنيبوا وإليه فارغبوا ونظره إليكم في البلاء فانظروا فإنما المصاب من لم يجبر، وانصرف فقال أبو بكر وعلي : هذا الخضر عليه السلام وقد اشتهر عن أولياء الله ملاقاتهم واستفادتهم عن الخضر عليه السلام فهذا دليل على حياته، والظاهر أن الخضر عليه السلام لو كان حيا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما اعتزل عن صحبته فإنه كان مبعوثا إلى الناس كافة، ولهذا قال عليه السلام :( لو كان موسى حيا ما وسعه إلا إتباعي ) رواه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان في حديث جابر " وسينزل عيسى بن مريم ويقتدي برجل من المسلمين " كذا روى مسلم في حديث عن أبي هريرة عن جابر ولا يمكن حل هذا الإشكال إلا بكلام المجدد للألف الثاني رضي الله عنه فإنه حين سئل عن حياة الخضر عليه السلام ووفاته توجه إلى الله سبحانه مستعلما من جنابه عن هذا الأمر، فرأى الخضر عليه السلام حاضرا عنده فسأله عن حاله فقال : أنا و إلياس لسنا من الأحياء لكن الله سبحانه أعطى لأرواحنا قوة نتجسد بها ونفعل بها أفعال الأحياء من إرشاد الضال وإغاثة الملهوف إذا شاء الله وتعليم العلم اللدني وإعطاء النسبة لمن شاء الله تعالى، وجعلنا الله تعالى معينا للقطب المدار من أولياء الله تعالى الذي جعله الله تعالى مدارا للعالم جعل بقاء العالم ببركة وجوده وإفاضته، قال الخضر إن القطب في هذا الزمان في ديار اليمن متبع للشافعي في الفقه، قال : فنحن نصلى مع القطب صلاة على مذهب الشافعي فبهذا الكشف الصحيح اجتمع الأقوال وذهب الإشكال والحمد لله الكبير المتعال.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الكهف ٣١٥٢..
٢ سورة التوبة، الآية: ٣٤..
٣ سورة الأحقاف، الآية: ١٥..
٤ سورة النساء، الآية: ٦..
٥ سورة الأنبياء، الآية: ٣٤..
٦ أخرجه البخاري في كتاب: العلم، باب: السمر في العلم ١١٦، وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تأتي سنة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم)٢٥٣٧..
﴿ ويسألونك ﴾ يعني اليهود أو مشركي مكة امتحانا ﴿ عن ذي القرنين ﴾ قال البغوي اختلفوا في اسمه ؟ قيل : اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يافث بن نوح عليه السلام وقيل : اسمه اسكندر بن قبيس بن فيلقوس الرومي، قلت : وهو الأصح لما أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والشيرازي في الألقاب وأبو الشيخ عن وهب بن منبه اليماني وكان له علم بالأحاديث الأولى أنه كان يقول : كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندر، وأخرج ابن المنذر عن قتادة قال : الإسكندر هو ذو القرنين. قال البغوي واختلفوا في نبوته ؟ فقال بعضهم كان نبيا وقال أبو الطفيل سئل علي عن ذي القرنين أكان نبيا أم كان ملكا ؟ قال : لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا أحب الله فأحبه الله وناصح الله فناصحه، قلت : وكذا أخرج ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال : سئل علي عن ذي القرنين أنبي هو قال سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول :( هو عبد ناصح لله فنصح به ) قال البغوي وروي أن عمر سمع رجلا يقول لآخر يا ذو القرنين فقال : تسميتم بأسماء الأنبياء فلم ترضوا حتى تسموا بأسماء الملائكة، قال : والأكثرون على أنه كان ملكا عادلا صالحا. قال البغوي واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين ؟ قال الزهري : لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، وقيل لأنه ملك الروم والفارس وقيل لأنه دخل النور والظلمة، وقيل : لأنه رأى في المنام كان أخذ بقرني الشمس، وقيل : لأنه كان له ذؤابتان حسنتان وقيل : لأنه كان قرنان تواريهما العمامة قلت : وكذا أخرج ابن عبد الحكم عن يونس بن عبيد ونحوه الشيرازي في الألقاب عن قتادة، وروى أبو الطفيل عن علي عليه السلام قال : سمي ذا القرنين لأنه أمر قومه بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيمن فمات فبعثه الله يعني أحياه ثم أمرهم بتقوى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات فأحياه الله، انتهى كلام البغوي. وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن أبي الورقاء قال : قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ذو القرنين ما كان قرناه ؟ قال : لعلك تحسب أن قرنيه ذهب أو فضة كان نبيا فبعثه الله إلى ناس فدعاهم إلى الله تعالى فقام رجل فضرب قرنه الأيسر فمات ثم بعثه الله يعني أحياه ثم بعثه الله إلى ناس فقام رجل فضرب قرنه الأيمن فمات فسماه ذا القرنين ﴿ قل سأتلوا عليكم ﴾ خطاب للسائلين ﴿ منه ﴾ أي من حال ذي القرنين وقيل : من الله تعالى ﴿ ذكرا ﴾ أي خبرا.
﴿ إنا مكنا له في الأرض ﴾ أي مكنا أمره من التصرف فيها كيف شاء، قال البغوي قال علي عليه السلام سخر له السحاب فحمله عليها ومد له الأسباب وبسط له النور كان الليل والنهار عليه سواء فهذا معنى تمكينه في الأرض وهو أنه سهل عليه السير فيها وذلل له طرقها.
﴿ وآتيناه من كل شيء ﴾ أراده وتوجه إليه، وقيل : معناه أعطيناه من كل شيء يحتاج إليه الخلق، وقيل : من كل ما يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء ﴿ سببا ﴾ يوصل إليه من العلم والقدرة والآلات، قال البغوي قال الحسن أي بلاغا إلى حيث أراد، وقيل : معناه قربنا إليه أقطار الأرض
﴿ فأتبع ﴾ قرأ أهل الحجاز والبصرة فأتبع ثم أتبع في الثلاثة بهمزة الوصل والتشديد من الافتعال والباقون بقطع الألف وسكون التاء من الأفعال، قال البغوي قيل معناها واحد والصحيح الفرق بينهما فمن قطع بالهمزة فمعناه أدرك ولحق ومن قرأ بالتشديد فمعناه سار يقال ما زلت اتبعه حتى اتبعته، أي ما زلت سرت خلفه حتى لحقته وكذا روى عن الأصمعي ﴿ سببا ﴾ يعني طريقا نحو المغرب، وقال ابن عباس منزلا.
﴿ حتى إذا بلغ مغرب الشمس ﴾ أي منتهى الأرض المسكونة نحو المغرب ﴿ وجدها تغرب في عين حمئة ﴾ قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر حمئة بالألف غير مهموز على وزن رامية أي حارة، والباقون مهموزا بغير ألف على وزن ملئة من حمئت للبر إذا صارت ذات حمأة وهي الطينة السوداء، ولا تنافي بين القراءتين لجواز كون العين جامعة للوصفين وجاز أن يكون ياء حامية مقلوبة عن الهمزة لكسر ما قبلها فحينئذ يتخذ القراءتين أي ذات حمأة، قال البغوي سأل معاوية كعبا كيف تجد في التوراة أين تغرب الشمس ؟ قال : نجدها تغرب في ماء وطين، قال البيضاوي لعله بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن في مطمح نظره غير الماء والطين ولذلك قال الله سبحانه ﴿ وجدها تغرب ﴾ ولم يقل كانت تغرب كذا قال القتيبي ﴿ ووجد عندها ﴾ أي عند العين ﴿ قوما ﴾ قال البيضاوي قيل كان لباسهم جلود الوحش وطعامهم ما لفظه البحر وكانوا كفارا ﴿ قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب ﴾ ذلك القوم بالقتل على كفرهم إن أصروا على كفرهم بعدما دعوتهم إلى الإسلام ﴿ وإما أن تتخذ فيهم ﴾ فعلة ﴿ حسنا ﴾ يعني الإكرام والإرشاد وتعليم الشرائع إن تابوا وأسلموا، فكلمة إما ها هنا للتقسيم مثل أو في قوله تعالى :﴿ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ﴾١ وقيل : كلمة إما ها هنا للتخيير بين أن يعذبهم بالقتل لكفرهم وبين أن يدعوهم إلى الإسلام وهو المراد بقوله :﴿ أن تتخذ فيهم حسنا ﴾ وقيل : خيره بين القتل والأسر وسماه إحسانا في مقابلة القتل ويؤيد الأولين قوله تعالى :﴿ قال ﴾ ذو القرنين امتثالا لأمره تعالى أو اختيارا لدعوتهم إلى الإسلام بعد التخيير ﴿ أما من ظلم ﴾
١ سورة المائدة، الآية: ٣٣..
﴿ قال ﴾ ذو القرنين امتثالا لأمره تعالى أو اختيارا لدعوتهم إلى الإسلام بعد التخيير ﴿ أما من ظلم ﴾ نفسه بالإصرار على الكفر بعدما دعوته إلى الإسلام واستمر على ظلمه الذي هو الشرك ﴿ فسوف نعذبه ﴾ أنا ومن معي في الدنيا بالقتل ﴿ ثم يرد إلى ربه فيعذبه ﴾ ربه في الآخرة ﴿ عذابا نكرا ﴾ أي منكرا لم يعهد مثله في نار جهنم
﴿ وأما من آمن وعمل صالحا ﴾ على ما يقتضيه الإيمان ﴿ فله جزاء الحسنى ﴾ قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص جزاء منونا منصوبا على الحال أي فله الحسنى يعني الجنة جزاء يجزي بها أو فله في الدارين المثوبة الحسنى جزاء وجاز أن يكون منصوبا على المصدرية لفعل مقدر، والجملة حال أي يجزي بها أو على التمييز والباقون، بالرفع بغير تنوين على الإضافة، والحسنى على هذه القراءة الأعمال الحسنة أي له جزاء الأعمال الحسنى، أو يقال الحسنى هو الجنة أو المثوبة الحسنة وإضافة الجزاء إليها من قبيل مسجد الجامع وجانب الغربي ﴿ وسنقول له ﴾ أي لمن آمن وعمل صالحا ﴿ من أمرنا ﴾ أي مما نأمر به ﴿ يسرا ﴾ أي سهلا غير شاق تقديره ذا يسر، وقال مجاهد يسرا أي معروفا، ويستدل بهذا الخطاب من الله تعالى لذي القرنين على كونه نبيا يوحى إليه، وقال البغوي الأصح أنه لم يكن نبيا والمراد به الإلهام، قلت ويمكن أن يكون هذا الأمر من الله تعالى على لسان نبي من الأنبياء يكون معه يسدد أمره كما كان في بني إسرائيل أنبياء مع الملوك يسددون أمورهم.
﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ( ٨٩ ) ﴾ أي سلك طرقا ومنازل يوصله إلى المشرق.
﴿ حتى إذا بلغ مطلع الشمس ﴾يعني الموضع الذي تطلع الشمس عليه أولا من معمورة الأرض ﴿ وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا ﴾ من اللباس أو البناء فإن أرضهم لا تحمل بناء أو أنهم اتخذوا الأسراب بدل الأبنية
﴿ كذلك ﴾ أي أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وبسطة الملك أو أمره في أهل المشرق كأمره في أهل المغرب من التخير والاختيار، أو هو صفة لمصدر محذوف لوجدها أي وجدها تطلع كما وجدها تغرب أو لمصدر لم نجعل أي لم نجعل لهم من دونها سترا كما لم نجعل لأهل المغرب أو صفة لقوم يعني وجدها تطلع على قوم مثل ذلك القوم الذين كانت تغرب عليهم الشمس في الكفر والحكم ﴿ وقد أحطنا بما لديه ﴾ من الجنود والآلات والعدد والأسباب ﴿ خبرا ﴾ أي علما تعلق بظواهره وبواطنه منصوب على المصدرية لأن في أحطنا معنى خبرنا، والمراد كثرة ذلك يعني بلغ ما لديه مبلغا لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير.
﴿ ثم أتبع ﴾ ذو القرنين ﴿ سببا ﴾ أي طريقا ثالثا معترضا بين المغرب والمشرق أخذا من الجنوب إلى الشمال
حتى ﴿ إذا بلغ بين السدين ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بفتح السين والباقون بضم السين قيل : هما لغتان معناهما واحد وقال عكرمة ما كان من صنعة بني آدم فهو بالفتح وما كان من صنع الله فهو بالضم وكذا قال أبو عمرو، وقيل : السد بالفتح مصدر وبالضم اسم، والمراد بالسدين ها هنا جبلان سد ذو القرنين ما بينهما حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن ورائهم وهما جبلا أرمينية وأذربيجان أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما، قيل : جبلان في أواخر الشمال في منقطع أرض الترك منيعان من ورائهما يأجوج ومأجوج أخرجه سعيد بن منصور في سننه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في تفاسيرهم وبين ها هنا مفعول به وهو من الظروف المتصرفة ﴿ وجد من دونهما ﴾ أي أمام الجبلين ﴿ قوما لا يكادون يفقهون قولا ﴾ قرأ حمزة والكسائي يفقهون بضم الياء وكسر القاف من الأفعال يعني لا يفقهون غيرهم لهم، وقرأ الآخرون بفتح الياء والقاف يعني لا يفهمون كلام غيرهم قال ابن عباس لا يفهمون كلام أحد ولا يفهم الناس كلامهم.
﴿ قالوا ﴾ بتوسط مترجم لهم، وفي قراءة ابن مسعود قال الذين من دونهم ﴿ يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج ﴾ قرأها عاصم ها هنا وفي الأنبياء مهموزين والآخرون بغير همز وهما اسمان عجميان بدليل منع الصرف وقيل : عربيان من أج الظلم إذا أسرع، قال البغوي من أجيج النار وهو ضوئها وشررها شبهوا به لكثرتهم ومنع صرفهما للتعريف والتأنيث، قال البغوي هم من أولاد يافث بن نوح، وقال : قال الضحاك هم جيل من الترك، وقال : قال السدي الترك سرية من يأجوج خرجت فضرب ذو القرنين السد فبقيت خارجه فجميع الترك منهم، وعن قتادة أنهم اثنان وعشرون قبيلة بنى ذو القرنين السد على إحدى وعشرين قبيلة وبقيت قبيلة واحدة فهم الترك وسموا الترك لأنهم تركوا خارجين، قال أهل التاريخ أولاد نوح ثلاثة سام وحام ويافث سام أبو العرب والعجم والروم وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافث أبو الترك والخزذ والصعالبة ويأجوج ومأجوج، قال ابن عباس في رواية عطاءهم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء، وروي عن حذيفة مرفوعاً " إن يأجوج أمة ومأجوج أمة كل أمة أربعة مائة ألف لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف من صلبه كلهم حملوا السلاح وهم من ولد آدم يسيرون إلى خراب الدنيا " قلت : لعل معنى الحديث أن كل أمة بلغت عددهم أربع مائة ألف حين سد عليهم ذو القرنين فأما بعد ذلك فإذا ولد كل رجل منهم ألفا مسلحا يبلغ عددهم إلى مالا يعلم عدتهم إلا الله تعالى ومعنى يسيرون إلى خراب الدنيا أنهم إذا خرجوا من السد عند قرب القيامة يسيرون إلى خراب الدنيا والله أعلم.
وقال البغوي : وقيل هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومائة ذراع وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد وصنف منهم يفترش أحدهم أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بخيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار المشرق وبحيرة طبرية. قلت : هذا أيضا حين يخرجون من السد، قال البغوي وعن علي رضي الله عنه أنه قال منهم من طوله شبر وعرضه ذراع ومنهم من هو مفرط في الطول، وقال : قال كعب هم نادرة من ولد آدم وذلك أن آدم احتلم ذات يوم فامتزجت نطفة بالتراب فخلق الله من ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون الأم، وقال البغوي ذكر وهب بن منبه أن ذا القرنين كان رجلاً من الروم ابن عجوز فلما بلغ كان عبداً صالحاً قال الله إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض أحدهما عند مغرب الشمس يقال لها ناسك والآخر عند مطلعها يقال لها منسك، وأمتان بينهما عرض الأرض أحداهما في قطر الأيمن يقال لها هاويل والأخرى في قطر الأرض الأيسر يقال لها قاويل، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج فقال ذو القرنين بأي قوم أكابرهم وبأي جمع أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ قال : إني سأطوقك وأبسط لك لسانك وأشد عضدك فلا تهولك شيء وألبسك الهيبة فلا يردعك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك ويحوطك الظلمة من ورائك فانطلق حتى أتى مغرب الشمس فوجد جمعاً وعدواً لا يحصيه إلا الله فكاثرهم بالظلمة حتى جمعهم في مكان واحد فدعاهم إلى الله وعبادته فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه فعمد إلى الذين تولوا عنهم فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أجوافهم وبيوتهم فدخلوا في دعوته فجند من أهل المغرب جنداً عظيماً فانطلق يقودهم والظلمة يسوقهم حتى أتى هاويل فعمل فيهم كفعله في ناسك، ثم مضى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعل وجند فيها كفعله في الأمتين، ثم أخذ ناحية الأرض اليسرى فأتى قاويل فعل فيها كعمله فيما قبلها ثم عمد إلى الأمم التي في وسط الأرض فلما دنا مما يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أمة صالحة من الإنس يا ذا القرنين أن بين هذين الجبلين خلقاً أمثال البهائم يفترسون الدواب والوحوش لهم أنياب وأضراس كالسباع يأكلون الحيات والعقارب وكل ذي روح خلق الله في الأرض وليس يزداد خلق كزيادتهم ولا شك أنهم يملكون الأرض ويظهرون عليها ويفسدون
﴿ فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً قال ما مكني فيه ربي خير ﴾ وقال : أعدوا لى الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم.
﴿ فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً قال ما مكني فيه ربي خير ﴾ وقال : أعدوا لى الصخور والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم.
فانطلق حتى توسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد يبلغ طول الرجل منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخاليب كالأظفار في أيدينا وأنياب وأضراس كالسباع ولهم هلب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم ويتقون به من الحر والبرد، لكل أذنان عظيمتان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى يصيف في إحداهما ويشتوفي الأخرى، يتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا، فلما عاين ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما فحفر له الأساس حتى بلغ الماء وجعل حشوه الصخر وطينه النحاس المذاب فيصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض وذلك قوله عز وجل :﴿ إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ﴾ أي في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلاف الزرع، قال الكلبي كانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم فلا يدعون شيئاً أخضر إلا أكلوه ولا شيئاً يابساً إلا حملوه وأدخلوه أرضهم، وقد لقوا منهم أذى شديداً وقيل : إنهم كانوا يأكلون الناس ﴿ فهل نجعل لك خرجاً ﴾ قرأ حمزة و الكسائي هنا وفي المؤمنين خراجا بالألف والباقون بغير الألف وهما لغتان بمعنى واحد أي جعلا وأجرا نخرجه من أموالنا، وقال أبو عمرو الخرج ما ترغب به والخراج ما لزمك أداؤه، وقيل : الخراج على الأرض والخرج على الرقاب يقال إذ خرج رأسك وخراج مدينتك، وقيل : الخراج على الأرض والذمة والخرج المصدر ﴿ على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ﴾ يحجز دون خروجهم، قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بضم السين والباقون بفتحها.
﴿ قال ﴾ ذو القرنين ﴿ ما مكني ﴾ قرأ ابن كثير بنونين مخففتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة على الأصل من غير إدغام والباقون بنون مشددة مكسورة بالإدغام ﴿ فيه ربي ﴾ أي ما جعله الله لي فيه من المكنة بالمال والملك ﴿ خير ﴾ مما تجعلون لي عليه بإعطاء الجعل ﴿ فأعينوني بقوة ﴾ أي فعلة أو بما أتقوى به من الآلات ﴿ أجعل بينكم وبينهم ﴾ تبرعا ﴿ ردما ﴾ حاجزا حصينا وهو أكبر من السدين قولهم نوب مردم إذا كان رقاع فوق رقاع
﴿ آتوني ﴾ قرأ الجمهور بقطع الهمزة ومدة بعدها من الإيتاء بمعنى المناولة فلا منافاة بينها وبين رد الخراج والاقتصار على المعونة بالأبدان، لأن إعطاء الآلة من الإعانة دون الخراج على العمل، فورش على أصله يلقي حركة الهمزة على التنوين قبلها وقرأ أبو بكر ردمان ائتوني بكسر التنوين وهمزة ساكنة بعده جنى جيئوني، وعند الابتداء يكسر همزة الوصل ويندل الهمزة ياء لاجتماع الهمزتين أو لهما مكسورة والثانية ساكنة ﴿ زبرا الحديد ﴾ أي قطعة والزبرة القطعة الكبيرة، وأصله على قراءة أبي بكر بزبر الحديد لكون الإتيان لازما حذفت الباء كما في قولك أمرتك الخير فأتوا بها وبالحطب والفحم فجعل على بعض ولم يزل يجعل قطع الحديد على الحطب والفحم والحطب قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم الصاد والفحم على قطع الحديد ﴿ حتى إذا ساوى بين الصدفين ﴾ أي بين جانبي الجبل، والدال وأبو بكر بضم الصاد وإسكان الدال والباقون بالفتحتين، وكلها لغات من الصدف بمعنى الميل لأن كلا منهما مائل منعدل من الآخر ومنه التصادف بمعنى التقابل ﴿ قال ﴾ ذو القرنين للعملة ﴿ انفخوا ﴾ يعني اجعلوا فيها نارا فانفخوا في الدار ﴿ حتى إذا جعله ﴾ أي الحديد ﴿ نارا ﴾ بالإحماء، أسند الجعل إلى ذي القرنين مع أنه فعل العملة لكونه بأمره ﴿ قال ﴾ ذو القرنين ﴿ آتوني ﴾ قرأ حمزة وأبو بكر بخلاف عنه بهمزة ساكنة بعد اللام بمعنى المجيء وإذا ابتدأ كسر بهمزة الوصل وأبدل بالهمزة الساكنة ياء والباقون بقطع الهمزة ومدة بعدها في الحالين بمعنى الإعطاء يعني أعطوني قطرا ﴿ أفرغ عليه ﴾ الإفراغ الصب يعني أصب عليه ﴿ قطرا ﴾ نحاسا مذابا فأتوا بالنحاس وأفرغ النحاس المذاب على الحديد فأكلت النار الحطب الفحم، وصار النحاس المذاب مكان الحطب حتى لزم الحديد النحاس فصار الحديد الآجر والنحاس بمنزلة الطين فصار جبلا صلدا.
قال البغوي وفي القصة أن عرضه كان خمسون ذراعاً، وارتفاعه مائتا ذراع وطوله فرسخ، فقطرا اسم تنازع فيه الفعلان آتوني وأفرغ فأعمل البصريون الثاني وقالوا بالحذف في الأول لدلالة الثاني عليه وقال : إعمال الثاني أولى لقربه، ولو كان مفعول آتوني لزم إتيان ضمير المفعول لأفرغ حذرا من الالتباس، وقال الكوفيون بإعمال الأول لتقدم اقتضائه وحذف المفعول من الثاني ولا التباس في الحالين.
﴿ فما اسطاعوا ﴾ أصله استطاعوا قرأ الجمهور بحذف التاء حذرا من تلاقي المتقاربين وقرأ حمزة مشددا بإدغام التاء في الطاء جامعا بين الساكنين على غير حدة ﴿ أن يظهروه ﴾ أي يعلوه من فوقه لطوله وملاسته ﴿ وما استطاعوا له نقبا ﴾ من أسفله لشدته وصلابته
﴿ قال ﴾ ذو القرنين ﴿ هذا ﴾ أي السد أو الإقدار على تسويته ﴿ رحمة من ربي ﴾ على عباده ﴿ فإذا جاء وعد ربي ﴾ أي وقت وعده لخروج يأجوج ومأجوج، أو لقيام الساعة بأن شارف يوم القيامة ﴿ جعله دكاء ﴾ قرأ الكوفيون بالمد والهمز بغير تنوين أي أرضا ملساء مستوية، وقرأ الباقون بالتنوين من غير همز ومد وهو مصدر بمعنى المفعول أي مدكوكا مبسوطا مساويا للأرض ﴿ وكان وعد ربي حقا ﴾ كائنا لا محالة انتهى قصة ذي القرنين، قال البغوي وفي القصة أن ذا القرنين دخل الظلمة فلما رجع توفي بشهرزور وذكر بعضهم أن عمره كان نيفا وثلاثين سنة.
قال البغوي روى قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة يرفعه أن يأجوج ومأجوج يحفرونه يعني السد كل يوم، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً فيعيد الله عز وجل كما كان حتى إذا بلغت مدتهم حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله واستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه فيخرجون على الناس فيتبعون المياه ويتحصن الناس في حصونهم منهم، فيرمون سهامهم إلى السماء فيرجع فيها كهيئة الدم فيقولون : قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عز وجل لففاً في إقفائهم فيهلكون وإن دواب الأرض ليسمن ويشكر من لحومهم شكراً، وروى مسلم عن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما دخلنا إليه عرف ذلك فينا فقال : ما شأنكم ؟ فقلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال :( غير الدجال أخوف عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه شاب قطط عينه طافية أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف أنه خارج بين الشام والعراق فعاث يميناً وعاث شمالاً، يا عباد الله فاثبتوا، قلنا : يا رسول الله فما لبثه في الأرض ؟ قال : أربعون يوماً يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أمامه كأيامكم، قلنا : فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : لا اقدروا له قدره، قلنا : يا رسول الله وما سراعه في الأرض ؟ قال : كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فيمطر عليهم والأرض فينبت ويروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرىً وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، قال : فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك فيتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه ويضحك.
فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام فينزل عند المفازة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قرط وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه بباب لدً فيقتله، ثم يأتي عيسى قوما قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله ﴿ يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ﴾ فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرةً ماء، ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار ولأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله، ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى تركها كالزلفة ثم يقال للأرض أنبتي ثمرتك وروي بركتك، فيومئذ يأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بعجفها، ويبارك في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبةً فتأخذهم تحت آباطهم فيفيض روح كل مؤمن وكل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة ) وفي رواية أخرى لمسلم نحو ما ذكرنا وزاد بعد قوله ( لقد كان بهذه مرة ماء ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس، فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض هلم فلتقتل من في السماء، فيرمون نشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبا دماً، وروى الترمذي نحوه وفيه ( فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم بالمهبل، ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين، ثم يرسل الله مطرا إلى آخر الحديث )١ ذكر البغوي هذا الحديث ثم قال : قال وهب ثم يأتون يعني يأجوج ومأجوج البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الخشب والشجر ومن ظفروا به من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة ولا المدينة ولا بيت المقدس، وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج }٢.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه ٢٩٣٧..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب: قول الله تعالى: ﴿جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس﴾ ١٥٩٣..
قوله تعالى :﴿ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ﴾ قيل هذا عند فتح السد يقول تركنا بعض يأجوج ومأجوج يموج أي يدخل بعضهم في بعض كموج الماء ويختلط بعضهم ببعض لكثرتهم وتسابقهم في السير، وقيل : هذا عند قيام الساعة يدخل الخلق بعضهم في بعض ويختلط إنسهم بجنهم حيارى، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى :﴿ ونفخ في الصور ﴾ لقيام الساعة يعني نفخة البعث ﴿ فجمعناهم ﴾ أي الخلق ﴿ جمعا ﴾ للحساب والجزاء في صعيد واحد
﴿ وعرضنا ﴾ أي أبرزنا ﴿ جهنم يومئذ للكافرين عرضا ﴾ حتى شاهدوها عيانا
﴿ الذين كانت أعينهم في غطاء ﴾ أي في غشاء والغطاء ما يستر الشيء ﴿ عن ذكري ﴾ أي عن رؤية الآيات والدلائل على وجودي وصفاتي فاذكر بالتوحيد والتعظيم ﴿ وكانوا لا يستطيعون سمعا ﴾ أسماعا لذكري وكلامي وما يرشدهم إلى الحق من القول، وذلك لما كتب الله عليهم من الشقاء وما ألقى في قلوبهم من العناد والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يقوم مقامه لكون مبادي تعيناتهم الاسم المضل.
﴿ أفحسب ﴾ يعني أفظن ﴿ الذين كفروا أن يتخذوا عبادي ﴾ يعني الملائكة والمسيح وعزيرا، وقال ابن عباس يعني الشياطين الذين أطاعوهم من دون الله، وقال مقاتل : الأصنام سميت عبادا كما قال :﴿ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ﴾١ ﴿ من دوني ﴾ قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها وقوله :﴿ من دوني ﴾ حال من قوله ﴿ أولياء ﴾ يعني أربابا أو شفعاء قوله : عبادي وأولياء مفعولان ليتخذوا وأن مع صلتها سد مسد المفعولين لحسب، والاستفهام للإنكار يعني ليس الأمر كذلك بل هم لهم أعداء يتبرؤون منهم فإن العباد الصالحين أعداء للكافرين والشياطين والأصنام، إذا كان يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا ويتبرؤون ممن عبدهم، أو المفعول الثاني لحسب محذوف حذف كما يحذف الخبر للقرينة يعني أفحسبوا اتخاذهم عبادي أولياء نافعا لهم، وقال ابن عباس يريد أفظن الذين كفروا أن يتخذوا غيري أولياء إني لا أغضب لنفسي ولا أعاقبهم، فعلى هذا التأويل كلا المفعولين لحسب محذوفان أعني أني لا أغضب فإن أن مع اسمها وخبرها سد مسدها، وقوله أن يتخذوا مقدر بحرف الجر متعلق بكفروا يعني باتخاذهم أي بسبب اتخاذهم غيري أولياء، وجاز أن يقال تقدير الكلام على قول ابن عباس أظنوا الاتخاذ المذكور لا يغضبني ولا أعاقبهم كلا فعلى هذا المفعول الثاني محذوف فحسب ﴿ إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا ﴾ أي منزلا أو ما يعد للضيف قبل نزوله، وفيه تهكم وتنبيه على أن لهم وراءها من العذاب ما يستحقر دونه ما سبق منه.
١ سورة الأعراف، الآية: ١٩٤..
﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ( ١٠٣ ) ﴾ نصب على التمييز وجمع لأنه من أسماء الفاعلين أو لتنوع أعمالهم
﴿ الذين ضل ﴾ أي ضاع ﴿ سعيهم ﴾ اجتهادهم ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ متعلق بسعيهم ﴿ وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ﴾ أي عملا، محل الموصول الرفع وعلى الخبر لمحذوف أي هم الذين ضل سعيهم فهو جواب السؤال والجر على البدل من الآخرين أو النصب على الذم، قال ابن عباس وسعد بن أبي وقاص هم اليهود والنصارى حسبوا أنفسهم على الحق وهم على الدين المنسوخ، وقيل : هم الرهبان الذين في الصوامع حسبوا أنفسهم أنهم تركوا لذات الدنيا طمعا في الآخرة وقد ضل سعيهم لكونهم على الكفر، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه هم أهل حروراء يعني الخوارج فإنهم أول فرقة بغوا على أهل السنة والجماعة من الصحابة ومن معهم وزعموا أنهم على الحق، فالمراد بقول علي رضي الله عنه أنهم أهل الأهواء الذين خالفوا أهل السنة فدخل فيهم الروافض والمعتزلة وسائر أهل الأهواء، قلت والظاهر أن المراد بهم الكفار الذين لا يرون البعث والنشور فيعملون ويتبعون فيما يرونه نافعا لهم في الحياة الدنيا ولا يرون وراء الدنيا شيئا ويزعمون أنهم من يعمل عملا يضره في الدنيا من أعمال الآخرة فهو مجنون سفيه، يدل على ذلك قوله تعالى : أولئك الذي كفروا بآيات ربهم
﴿ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ﴾ المنزلة ﴿ ولقائه ﴾ يعني بالبعث بعد الموت، ويشعر هذه الآية بالتشنيع فيمن يعتقد البعث لكنه يقدم أعمال الدنيا على أعمال الآخرة ويتعب لأجل الدنيا ويترك أهل الآخرة إلى مغفرة الله وفضله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله )١ رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح عن أنس والله أعلم، وإن كان المراد بالآية اليهود والنصارى فالمعنى أنهم لا يعتقدون البعث على ما هو عليه أو المراد بلقائه لقاء عذابه ﴿ فحبطت أعمالهم ﴾ التي عملوها لاكتساب الدنيا أو التي عملوها طمعا في الثواب ولا يثابون عليها لأجل كفرهم فإن الإيمان شرط لقبول الحسنات كلها ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ يعني لا يكون لهم عند الله قدر واعتبار، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ليأتي الرجل العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال : اقرؤوا :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾٢ متفق عليه، وأخرج أبو نعيم والآجري في هذه الآية عن أبي هريرة أنه قال : القوي الشديد الأكول يوضع في الميزان فلا يزن شعيرا يدفع الملك من أولئك سبعين ألفا دفعة واحدة، أو المعنى لا نضع لهم ميزانا يوزن به أعمالهم لانحباطها بل يلقون في النار بلا وزن، أو المعنى لا يكون لأعمالهم التي يرونها حسنا ت وزنا في الميزان، قال البغوي قال أبو سعيد الخدري يأتي الناس بأعمال يوم القيامة عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله عز وجل :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾.
قال السيوطي اختلف أهل العلم هل يختص الميزان بالمؤمنين أو يوزن أعمال الكفار أيضا واستدل للأول بقوله تعالى :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ وأجاب القائلون بالثاني بأنه مجاز عن عدم الاعتداء بهم لقوله تعالى :﴿ ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون( ٩ ) ﴾ الآية إلى قوله :﴿ ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون( ١٠٥ ) ﴾٣ وقال القرطبي الميزان لا يكون لي حق كل واحد وإن الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا ينصب لهم ميزان وكذلك من يعجل به إلى النار بغير حساب وهم المذكورون في قوله تعالى :﴿ يعرف المجرمون بسيماهم ﴾٤ الآية، وهذا الذي قاله القرطبي يجمع بين القولين والآيتين، والفريق الذين يعجل بهم الذين لا يقام لهم وزن وبقية الكفار ينصب لهم الميزان كذا قال السيوطي، قلت : ويحتمل تخصيص الكفار المذكورين بالمنافقين لأنهم الذين يبقون في المسلمين وأهل الكتاب الذين لا يبدلون بعد لحوق كل أمة بما كانت تعبد
١ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع ٢٤٥٩، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له ٤٢٦٠..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه﴾ ٤٧٢٩، وأخرجه مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار ٢٧٨٥..
٣ سورة المؤمنون، الآية: ١٠٣-١٠٥..
٤ سورة الرحمن، الآية: ٤١..
﴿ ذلك ﴾ يعني الأمر ذلك وقوله ﴿ جزاؤهم جهنم ﴾ وجملة مستأنفة مبينة له ويجوز أن يكون ذلك مبتدأ الجملة خبره والعائد محذوف أي جزاؤهم به أو جزاؤهم بدله وجهنم عطف بيان للخبر ﴿ بما كفروا ﴾ أي بسبب كفرهم ﴿ واتخذوا ﴾ واتخاذهم ﴿ آياتي ورسلي هزوا ﴾ أي سخرية وهزوا بهم.
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم ﴾ فيما سبق في حكم الله ووعده ﴿ جنات الفردوس نزلا ﴾ عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة )١ متفق عليه، وأخرج الترمذي والحاكم عن عبادة بن الصامت والبيهقي عن معاذ بن جبل لنحوه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الجنة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة من فوقها يكون العرش ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس )٢ وأخرج البزار عن العرباض بن سارية والطبراني عن أبي أمامة نحوه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة ) وزاد في حديث أبي أمامة أن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش، قال البغوي قال كعب ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس فبها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وقال مقاتل الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأنعمها، وأخرج أحمد والطيالسي والبيهقي عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( جنات الفردوس أربع جنتان من ذهب حليتهما وأبنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة ) الحديث، قلت : هذا الحديث يدل على أن كل جنة يسمى بالفردوس معناه اللغوي، قال كعب : الفردوس البستان فيه الأعناب وقال مجاهد هو البستان بالرومية، وقال عكرمة هي الجنة بلسان الحبشة، قال الزجاج لفظ بالرومية منقول إلى لفظ العربية، وقال الضحاك هي الجنة الملتفة الأشجار وقيل : هي الروضة المستحسنة وقيل : هي روضة تنبت ضروباً من النبات وجمعه فراديس فهذا الإطلاق في الحديث من حيث معناه اللغوي، وأما بالمعنى العلمي فهو أعلى الجنات، فإن كان المراد في الآية المعنى اللغوي فالموصول على عمومه وإن كان المعنى العلمي فالمراد بالذين آمنوا الذين آمنوا حقيقة الإيمان، أخرج البيهقي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله تبارك وتعالى خلق الفردوس بيده وحظرها على مشرك ومدمن خمر ) وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( خلق الله تبارك وتعالى ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس الفردوس بيده وقال : وعزتي وجلالي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث، قالوا : يا رسول الله وما الديوث ؟ قال : الذي يقر السوء في أهله ) وقد مر تفسير قوله :" نزل "
١ أخرجه البخاري في كتاب: التوحيد، باب: ﴿وكان عرشه على الماء﴾ ٧٤٢٣..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة درجات الجنة ٢٥٣١..
﴿ خالدين فيها ﴾ حال مقدرة ﴿ لا يبغون ﴾ أي لا يطلبون ﴿ عنها حولا ﴾ تحولا إذ ليس شيء أطيب منها حتى ترغب أنفسهم إليه، ويجوز أن يراد به تأكيد الخلود والله أعلم.
أخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال : قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل فقالوا : سلوه عن الروح فسألوه فنزلت :﴿ ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا( ٨٥ ) ﴾ فقالت اليهود أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا فنزلت ﴿ قل لو كان البحر ﴾ يعني ماء البحر ﴿ مدادا ﴾ يكتب به والمداد اسم لما يمد به الشيء كالحبر للدواة والسليط للسراج، وأصله من الزيادة ومجيء شيء بعد شيء قال مجاهد لو كان البحر مدادا للقلم والقلم يكتب ﴿ لكلمات ربي ﴾ أي كلمات علمه وحكمته ﴿ لنفد البحر ﴾ أي جنس ماء البحر بأسره لأن كل جسم متناه ﴿ قبل أن تنفد كلمات ربي ﴾ فإنها غير متناهية لا تنفد، قرأ حمزة والكسائي تنفد بالياء لتقدم الفعل وإسناده إلى مؤنث غير حقيقي ﴿ ولو جئنا بمثله ﴾ أي بمثل البحر الموجود ﴿ مددا ﴾ زيادة ومعرفة لأن مجموع المتناهي متناه بل مجموع ما يدخل في الوجود من الأجسام لا يكون إلا متناهيا للدلائل القاطعة على تناهي الأبعاد والمتناهي ينفد قبل غير المتناهي لا محالة، قلت : لو فرضنا البحر أو الأبحر السبعة وما زاد مدادا يكتب بها كلمات علمه تعالى فلا شك أن كل جزء منها يقوم بالقلم لا يمكن أ يكتب به ما معنى على ذلك الجزء من الأحوال الطارئة عليه، وإن كانت ذلك الأحوال متناهية فكيف ما عداها من الممكنات المعلومة لله تعالى، فهيهات هيهات إحاطة المتناهي لغير المتناهي وقال البغوي قال ابن عباس قالت اليهود أتزعم أنا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك ﴿ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ﴾١، ثم تقول ﴿ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ﴾٢ فأنزل الله هذه الآية يعني أن ذلك العلم الذي في الكتب خير كثير في نفسه لكونه متكفلا لصلاح معاشكم ومعادكم لكنه قطرة من بحار كلمات الله والباء للتعدية ومثله مفعول لجئنا ومدادا تمييز نحو على التمرة مثلها زيدا أولى مثله رجلا.
١ سورة البقرة، الآية: ٢٦٩..
٢ سورة الإسراء، الآية: ٨٥..
﴿ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ﴾ قال ابن عباس علم الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم التواضع لئلا يزعى على خلقه فأمره أن يقر فيقول إني آدمي مثلكم إلا أني خصصت بالوحي وأكرمني الله به ﴿ يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ﴾ لا شريك له، قلت فيه سد لباب الفتنة افتتن بها النصارى حين رأى عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى وقد أعطى الله لنبينا صلى الله عليه وسلم من المعجزات أضعاف ما أعطى عيسى عليه السلام فأقره بإقرار العبودية وتوحيد الباري لا شريك له ﴿ فمن كان يرجو لقاء ربه ﴾ أي يخاف المصير إليه ويأمل رؤيته وحسن ثوابه، قال البغوي الرجاء يكون بمعنى الخوف والأمل جميعاً، قال الشاعر :
‌فلا كل ما ترجو من الخير كائن ولا كل ما ترجو من الشر واقع
فجمع بين المعنيين ﴿ فليعمل عملاً صالحاً ﴾ يرتضيه ﴿ ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ﴾ أي لا يرائي بعمله ولا يطلب على عمله أجرا من أحد غيره تعالى جزءا ولا ثناء.
أخرج ابن أبي حاتم وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص عن طاووس قال : قال رجل يا رسول الله إني أقف الموقف أريد وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الآية :﴿ فمن كان يرجوا لقاء ربه ﴾ الآية، مرسل وأخرجه الحاكم في المستدرك موصولا عن طاووس عن ابن عباس وصححه على شرط الشيخين، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان رجل من المسلمين يقاتل وهو يحب أن يرى مكانه فأنزل الله من كان يرجو لقاء ربه الآية، وأخرج أبو نعيم وابن عساكر في تاريخه من طريق السدي الصغير من الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس له فنزلت في ذلك ﴿ فمن كان يرجوا لقاء ربه ﴾ الآية. فإن قيل : روى الترمذي عن أبي هريرة قال :" قلت يا رسول الله أنا في بيتي في مصلاي إذ دخل علي رجل فأعجبني الحال التي رآني عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( رحمك الله أبا هريرة لك أجران أجر السر وأجر العلانية )١ وروى مسلم عن أبي ذر. قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه ؟ قال :( تلك عاجل بشرى المؤمن )٢ فإن قيل : هذان الحديثان ينافيان ما ذكر في شأن نزول الآية ؟ قلنا : لا منافاة أصلا فإن ما ذكر في شأن نزول الآية، مراده أن من عمل لله ويريد أن يراه الناس ويحمده على عمله، أو يزيد في عمله إذا رآه الناس فهو من الرياء والشرك الخفي، وأما من عمل لله ورآه الناس وحمده فاستبشر به وهو لا يريد حمد الناس عليه ولا جزاء منهم ولا يزيد في عمله لأجلهم فذلك بشراه العاجل وله أجر السر والعلانية والله أعلم.
وعن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به ﴾٣ متفق عليه، وعن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :﴿ إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا : يا رسول الله وما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء ﴾ رواه أحمد وزاد البيهقي في شعب الإيمان ( يقول الله لهم حين يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء أو خيرا )٤ وعن أبي هريرة :( اتقوا الشرك الأصغر قالوا : وما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء ) أخرجه ابن مردويه في التفسير والأصبهاني في الترغيب والترهيب وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ إن الله تعالى قال أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) وفي رواية :( فأنا منه بريء هو للذي عمله )٥ رواه مسلم، وعن أبي سعيد بن أبي فضالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله قال الله أغنى الشركاء عن الشرك )٦
رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي، وعن عبد الله بن عمرو أنه جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( من سمع الناس بعمله سمع الله به مسامع خلقه وحقره وصغره ) رواه أحمد والبيهقي في شعب الإيمان، وعن شداد بن أوس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك ) رواه أحمد، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يؤتي يوم القيامة بصحف مختمة فتنصب بين يدي الله فيقول : ألقوا هذه واقبلوا هذه فيقول الملائكة وعزتك ما كتبت إلا ما عمل، فيقول : هذا كان لغير وجهي وإني لا أقبل اليوم إلا ما ابتغي به وجهي ) وأخرجه البزار والطبراني في الأوسط والدارقطني والأصبهاني في الترغيب عن شهر بن عطية قال :" يؤتى بالرجل يوم القيامة للحساب وفي صحيفته أمثال الجبال من الحسنات فيقول رب العزة تبارك وتعالى صليت يوم كذا ليقال صلى فلان أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص وصمت يوم كذا ليقال صام فلان أنا الله لا إله إلا أنا لي الدين الخالص، فما يزال يمحى شيء بعد شيء فيقول ملكاه لغير الله كنت تعمل " وعن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله تبارك وتعالى يجمع الأولين والآخرين ببقيع واحد منفذ البصر يسمعهم الداعي فيقول : أنا خير شريك فكل عمل لي في دار الدنيا كان فيه شريك فأنا أدعه اليوم لشريكي ولا أقبل اليوم إلا خالصا ) رواه الأصبهاني، وعن ابن عباس من رأى بشيء من عمله وكله الله إليه يوم القيامة وقال : أنظر هل يغني عنك شيئا.
وتأويل الآية على طريقة الصوفية فمن يرجو لقاء الله يعني وصله بلا كيف بالدنو والتدلي حتى يكون قاب قوسين أو أدني ﴿ فليعمل عملا صالحا ﴾ بعد فناء النفس وإزالة رذائلها فإن رذائل النفس تفسد العمل ولا تصلح العمل إلا بعد فناء النفس ﴿ ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ﴾ يعني لا يكون لقلبه تعلق علمي ولا حبي لغير الله تعالى، فإن التعلق العلمي بالقلب هو للذكر والذكر هو العبادة، والحب يقتضي العبادة والمحبوب هو المعبود، فإن العبادة هي غاية الذل والتواضع والمرء يذل نفسه ويتواضع غايته عند محبوبه يحصل ذلك بعد فناء القلب فإن قيل : العلم بغير الله لا ينفك عن أولياء الله بل عن الأنبياء أيضا، قلنا العلم بعد فناء القلب لا يكون محله القلب بل يكون قلبه مهبط لتجليات الرحمن، لكنه يتعلق بوراء ذلك المحل لبقاء مادة التكليف على مقتضى الحكمة والله أعلم.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: عمل السر ٢٣٨٤..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: إذا أثنى على الصالح فهي بشرى ولا تضره ٢٦٤٢..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: الرياء والسمعة ٦٤٩٩، وأخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقاق، باب: من أشرك في عمله غير الله ٢٩٨٦..
٤ رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
انظر: مجمع الزوائد في كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في الرياء ٣٨٥..

٥ أخرجه مسلم في كتاب: الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله ٢٩٨٥..
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الكهف ٣١٥٤، وأخرجه ابن ماجه في كتاب: الزهد، باب: الرياء والسمعة ٤٢٠٣..
Icon