تفسير سورة فاطر

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿فَاطِرِ﴾ الفاطر: الخالق، وأصل الفطر الشَّق يقال: فاطره فانفطر أي انشق ومنه ﴿السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ﴾ [المزمل: ١٨] وفطر اللهُ الخلق: خلقهم وبرأهم. ﴿تُؤْفَكُونَ﴾ تُصرفون من الإِفك بمعنى الكذب سمى إِفكاً لأنه مصروف عن الحق والصواب. ﴿حَسَرَاتٍ﴾ جمع حسرة وهي الغم الذي يلحق النفس على فوات الأمر، وفي المختار: الحسرةُ أشدُّ التلهف على الشيء الفاقد. ﴿النشور﴾ مصدر نشر الميت إذا حيي، قال الأعشى:
517
حتى يقول الناس ممَّا رأوا يا عجباً للميّت الناشر
﴿يَبُورُ﴾ يهلك يقال: بار يبور أي هلك وبطل، والبوار: الهلاك. ﴿فُرَاتٌ﴾ حلو شديد الحلاوة.
﴿أُجَاجٌ﴾ شديد الملوحة قال في القاموس: أجَّ الماء أُجوجاً إذا اشتدت ملحوته. ﴿قِطْمِيرٍ﴾ القمطير: القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة.
التفسِير: ﴿الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ أي الثناء الكامل، والذكر الحسن، مع التعظيم والتبجيل لله جلَّ وعلا، خالق السموات والأرض ومنشئها ومخترعها من غير مثل سبق، قال البيضاوي: ﴿فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ أي مبدعهما وموجدهما على غير مثال ﴿جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً﴾ أي جاعل الملائكة وسائط بين الله وأنبيائه لتبليغهم أوامر الله، قال ابن الجوزي: يرسلهم إلى الأنبياء وإلى ما شاء من الأمور ﴿أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ أي أصحاب أجنحة، قال قتادة: بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها إلى السماء ﴿يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ﴾ اي يزيد في خلق الملائكة كيف يشاء، من ضخامة الأجسام، وتفاوت الأشكال، وتعدد الأجنحة، وقد رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جبريل ليلة الإِسراء وله ستمائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب وقال قتادة: ﴿يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ﴾ الملائحةُ في العينين، والحسنُ في الأنف، والحلاوة في الفم ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي هو تعالى قادر على ما يريد، له الأمر والقوة والسلطان، لا يمتنع عليه فعل شيءٍ أراده، ولا يتأبى عليه خلق شيء أراده، وصف تعالى نفسه في هذه الآيات بصفتين جليلتين تحمل كل منهما صفة القدرة وكمال الإِنعام الأولى: أنه فاطر السموات الأرض أي خالقهما ومبدعهما من غير مثالٍ يحتذيه، ولا قانون ينتحية، وفي ذلك دلالة على كمال قدرته، وشمول نعمته، فهو الذي رفع السماء بغير عمد، وجعلها مستويةٌ من غير أَوَد، وزينها بالكواكب والنجوم، وهو الذي بسط الأرض، وأودعها الأرزاق والأقوات، وبثَّ فيها البحار والأنهار، وفجَّر فيها العيون والآبار، إلى غير ما هنالك من آثار قدرته العظيمة، وآثار صنعته البديعة، وعبَّر عن ذلك كله بقوله: ﴿فَاطِرِ السماوات والأرض﴾، والثانية: اختيار الملائكة ليكونوا رسلاًَ بينه وبين أنبيائه، وقد أشار إلى طرفٍ من عظمته وكمال قدرته جل وعلا بأن خلق الملائكة بأشكال عجيبة، وصور غريبة، وأجنحة عديدة، فمنهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، كما هو وصف جبريل عليه السلام، ومنهم من لا يعلم حقيقة خِلقته وضخامة صورته إلا الله جل وعلا، فقد روى الزهري أن جبريل قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يا محمد كيف رأيت
518
إسرافيل ﴿إنَّ له لاثني عشر ألف جناح، منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، وإن العرش لعلى كاهله» ولو كشف لنا الحجاب لرأينا العجب العجاب، فسبحان الله ما أعظم خلقه، وما أبدع صنعه﴾ ! ثم بيَّن تعالى نفاذ مشيئته، ونفوذ أمره في هذا العالم الذي فطره ومَن فيه، وأخضعه لإرادته وتصرفه فقال: ﴿مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا﴾ أيْ أيُّ شيء يمنحه الله لعباده ويتفضل به علهيم من خزائن رحمته، من نعمةٍ، وصحةٍ، وأمنٍ، وعلمٍ وحكمةٍ، ورزقٍ، وإرسال رسلٍ لداية الخلق، وغير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحيط بها عدٍّ، فلا يقدر أحدٌ على إمساكه وحرمان خلق الله منه، فهو الملك الوهاب الذي لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع ﴿وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ﴾ أيْ وأيُّ شيء يمسكه ويحبسه عن خلقه من خيري الدنيا والآخةر، فلا أحد يقدر على منحه للعباد بعد أن أمسكه جلا علا ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ أي هو تعالى الغالب على كل شيء، الحكيم في صنعه، الذي يفعل ما يريد على مقتضى الحكمة والمصلحة، قال المفسرون: والفتحُ والإِمساك عبارة عن العطاء والمنع، فهو الذي يضر وينفع، ويعطي ويمنع، وفي الحديث:
«أَحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْجٌ: اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدّ» ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة عليهم فقال: ﴿ياأيها الناس اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي اشكروا ركبم على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحْصى التي أنعم بها عليكم، قال الزمخشري: ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، ولكن المراد حفظها من الكفران، وشكرها بمعرفة حقها، والاعتراف بها، وإِطاعة موليها، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه: أذكرْ أياديَّ عندك ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله﴾ استفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا خالق غيره تعالى، لا ما تعبدون من الأصنام ﴿يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السمآء والأرض﴾ أي حال كونه تعالى هو المنعم على العباد بالرزق والعطاء، فهو الذي ينزل المطر من السماء، ويخرج النبات من الأرض، فكيف تشركون معه ما لا يخلق ولا يرزق من الأوثان والأصنام؟ ولهذا قال تعالى بعده: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا ربَّ ولا معبود إلا الله الواحد الأحد ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ أي فكيف تُصرفون بعد هذا البيان، ووضوح البرهان، إلى عبادة الأوثان؟ والغرض: تذكير الناس بنعم الله، وإقامة الحجة على المشركين، قال ابن كثير: نبّه تعالى عباده وأرشدهم إلى الاستدلال على توحيده، بوجوب إفراد العبادة له، فكما أنه المستقل بالخلق والرزق، فكذلك يجب أن يُفرد بالعبادة، ولا يُشرك به غيره من الأصنام والأوثان ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ﴾ تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على تكذيب قومه له والمعنى: وإن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون فلا تحزن لتكذيبهم، فهذه سنة الله في الأنبياء من قبلك، فقد كُذّبوا واُوذوا حتى أتاهم نصرنا، فلك بهم أسوة، ولا بدَّ أن ينصرك الله عليهم ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ أي إلى الله تعالى وحده مرجع أمرك وأمرهم، وسيجازي كلاً بعمله، وفيه وعيد وتهديد للمكذبين.
ثم ذكَّرهم تعالى بذلك الموعد المحقَّق فقال: ﴿ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي إن وعده لكم بالبعث والجزاء حقٌّ ثابتٌ لا محالة
519
لا خُلف فيه ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا﴾ أي فلا تلهكم الحياة الدنيا بزخرفها ونعيمها عن الحياة الآخرة، قال ابن كثير: أي لا تتلهَّوا عن تلك الحياة الباقية، بهذه الزهرة الفانية ﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور﴾ أي ولا يخدعنكم الشيطان المبالغ في الغرور فيطمعكم في عفو الله وكرمه، ويمنيكم بالمغفرة مع الإِصرار على المعاصي. ثم بيَّن تعالى عداوة الشيطان للإِنسان فقال: ﴿إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً﴾ أي إن الشيطان لكم أيها الناس عدوٌ لدود، وعداوته قديمة لا تكاد تزول فعادوه كما عاداكم ولا تطيعوه، وكونوا على حذرٍ منه، قال بعض العارفين: يا عجباً لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه، وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته ﴿إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير﴾ أي إنما غرضه أن يقذف بأتباعه في نار جهنم المستعرة التي تشوي الوجوه والجلود، لا غرض له إلا هذا، فهل يليق بالعاقل أن يستجيب لنداء الشيطان اللعين؟ قال الطبري: أي إنما يدعو شيعته ليكونوا من المخلدين في نار جهنم التي تتوقد على أهلها ﴿الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ أي الذين جحدوا بالله ورسله لهم عذاب دائم شديد لا يُقادر قدره، ولا يوصف هولُه ﴿والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ أي لهم عند ربهم مغفرةٌ لذنوبهم، وأجر كبير وهو الجننة، وإنما قرن الإِيمان بالعمل الصالح ليشير إلى أنهما لا يفترقان، فالإِيمان تصديقٌ، وقول، وعمل ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً﴾ الاستفهام للإِنكار وجوابه محذوف والتقدير: أفمن زيَّن له الشيطان عمله السيء حتى رآه حسناً واستحسن ما هو عليه من الكفر والضلال، كمن استقبحه واجتنبه واختار طريق الإِيمان؟ ودلَّ على هذا الحذف قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ أي الكلُّ بمشيئة الله، فهو تعالى الذي يصرف من يشاء عن طريق الهدى، ويهدي من يشاء بتوفيقه للعمل الصالح والإِيمان ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ أي فلا تغتمَّ يا محمد ولا تُهلك نفسك حسرةً على تركهم الإِيمان ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ أي هو جل وعلا العالم بما يصنع هؤلاء من القبائح ومجازيهم عليها، وفيه وعيد لم بالعقاب على سوء صنيعهم ﴿والله الذي أَرْسَلَ الرياح﴾ أي والله تعالى بقدرته هو الذي أرسل الرياح مبشرة بنزول المطر ﴿فَتُثِيرُ سَحَاباً﴾ أي فحركت السحاب وأهاجته، والتعبيرُ بالمضارع عن الماضي ﴿فَتُثِيرُ﴾ لاستحضار تلك الصورة البديعة، الدالة على كمال القدرة والحكمة ﴿فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ﴾ أي فسقنا السحاب الذي يحمل الغيث إلى بلدٍ مجدب قاحل ﴿فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ فيه حذفٌ تقديره فأنزلنا به الماء فأحيينا به الأرض بعد جدبها ويبسها ﴿كَذَلِكَ النشور﴾ أي كما أحيا الله الأرض الميتة بالماء، كذلك يحيي الموتى من قبورهم، روى الإِمام أحمد عن أبي رُزين العقيلي قال:
«قلت يا رسول الله: كَيْفَ يُحْيِي الله المَوْتَى؟ وَمَا آيةُ ذلكَ فِي خَلْقِهِ؟ فقال:» أَمّا مَرَرْتَ بِوَادِي أهْلِكَ مُمْحِلاً، ثُمَّ مَرَرْتَ بهِ يَهْتَزُّ خَضِراً؟ «قلت: نعم: يا رسول الله، قال:» فكذلك يُحْيِي الله المَوْتَى، وَتِلْكَ آيَتُهُ فِي خَلْقِهِ «قال ابن كثير: كثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها، فإن الأرض تكون ميتة هامدة
520
لا نبات فيها، فإذا أرسل الله إليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليا ﴿اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: ٥] كذلك الأجساد إذا أراد الله بعثها ونشورها، ثمَّ نبَّه تعالى عباده إلى السبيل الذي تُنال به العزة فقال: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً﴾ أي من كان يطلب العزة الكاملة، والسعادة الشاملة، فليطلبها من الله تعالى وحده، فإن العزة كلَّها لله جلَّ وعلا قال بعض العارفين: من أراد عزَّ الدارين فليطع العزيز ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب﴾ أي إليه جلا وعلا يرتفع كل كلام طيب من ذكر، ودعاءٍ، وتلاوة قرآن، وتسبيح وتمجيد ونحوه، قال الطبري: إلى الله يصعد ذكرُ العبد إِيَّاه وثناؤه عليه ﴿والعمل الصالح يَرْفَعُهُ﴾ أي والعمل الصالح يتقبله الله تعالى ويثيب صاحبه عليه، قال قتادة: لا يقبل الله قولاً إلاَّ بعمل، من قال وأحسن العمل قبل الله منه، نقله الطبري ﴿والذين يَمْكُرُونَ السيئات لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ هذا بيانٌ للكلم الخبيث، بعد بيان حال الكلام الطيب أي والذين يحتالون بالمكر والخديعة لإطفاء نور الله، والكيد للإِسلام والمسلمين، لهم في الآخرة عذاب شديد في نار جهنم ﴿وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾ أي ومكر أولئك المجرمين هالكٌ وباطل، لأنه ما أسرَّ أحد سوءاً ودبَّره إِلا أبداه الله وأظهره
﴿وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣] قال المفسرون: والإِشارة هنا إلى مكر قريش برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين اجتمعوا في دار الندوة وأرادوا أن يقتلوه، أو يحبسوه، أو يخرجوه كما حكى القرآن الكريم ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأَنفال: ٣٠] ثم ذكَّرهم تعالى بدلائل التوحيد والبعث، بعد أن ذكَّرهم بآيات قدرته وعزته فقال: ﴿والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾ أي خلق أصلكم وهو آدم من تراب ﴿ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ أي ثم خلق ذريته من ماءٍ مهين وهو المنيُّ الذي يُصبُّ في الرحم ﴿ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً﴾ أي خلقكم ذكوراً وإناثاً، وزوَّد بعضكم من بعضٍ ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضائها قال الطبري: أي زوَّج منهم الأنثى من الذكر ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ أي وما تحمل أنثى في بطنها من جنين، ولا تلد إلاَّ بعلمه تعالى، يعهلم أذكر هو أو أنثى، ويعلم أطوار هذا الجنين في بطن أمه، لا يخفى عليه شيء من أحواله ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾ أي وما يطول عُمر أحدٍ من الخلق فيصبح هرماً، ولا يُنقص من عُمر أحد فيموت وهو صغير أو شاب إِلا وهو مسجَّل في اللوح المحفوظ، لا يُزاد فيما كتب الله ولا يُنقص ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ أي سهلٌ هيّن، لأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، ثم ضرب تعالى مثلاً للمؤمن والكافر فقال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي البحران﴾ أي وما يستوي ماء البحر وماء النهر ﴿هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ﴾ أي هذا ماء حلوٌ شديد الحلاوة يكسر وهج العطش، ويسهل انحداره في الحلق لعذوبته ﴿وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ أي وهذا ماءٌ شديد الملوحة، يُحرق حلق الشارب لمرارته وشدة ملوحته، فكما لا يتساوى البحران: العذبُ، والملح، فكذلك لا يتساوى المؤمن مع الكافر، ولا البرُّ مع الفاجر، قال أبو السعود: هذا مثلٌ ضُرب للمؤمن والكافر، والفراتُ الذي يكسر العطش، والسائع الذي يسهل انحداره لعذوبته، والأُجاج الذي يُحرق
521
بملوحته ﴿وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً﴾ أي وما كل واحدٍ منهما تأكلون سمكاً غضاً طرياً، مختلف الأنواع والطعوم والأشكال ﴿وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ أي وتستخرجون منهما اللؤلؤ والمرجان للزينة والتحلي ﴿وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ﴾ أي وترى أيها المخاطب السفن العظيمة، تمخرُ عُباب البحر مقبلة ومدبرة، تحمل على ظهرها الأثقال والبضائع والرجال، وهي لا تغرق فيه لأنها بتسخير الله جل وعلا ﴿لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ أي لتطلبوا بركوبكم هذه السفن العظيمة من فضل الله بأنواع التجارات، والسفر إلى البلدان البعيدة في مدة قريبة ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي ولكي تشكروا ربكم على إنعماه وإفضاله في تسخيره ذلك لكم، ثم انتقل إلى آية آخرى من آيات قدرته وسلطانه في الآفاق فقال: ﴿يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾ أي يدخل الليلَ في النهار، ويدخل النهار في الليل، فيضيف من هذا إلى هذا وبالعكس، فيتافوت بذلك طول الليل والنهار بالزيادة والنقصان، حسب الفصول والأمصار، حتى يصل النهار صيفاً في بعض البلدان إلى ستة عشرة ساعة، وينقص الليل حتى يصل إلى ثمان ساعات آيةٌ من آيات الله تُشاهد لا يستطيع إنكارها جاحد أو مؤمن، ويحس بآثارها الأعمى والبصير.
. آيةٌ شاهدة على قدرة الله، ودقة تصرفه في خلقه، وهذه الظاهرة الكونية دستور لا يتغيَّر، ونظام محكم لا يأتي بطريق الصدفة، وإنما هو من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه، فسبحان المدبر الحكيم العليم!! ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي ذلَّلهما لمصالح العباد، كل منهما يسير ويدور في مداره الذي قدَّره الله له لا يتعداه، إلى أجلٍ ملعوم هو يوم القيامة ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك﴾ أي ذلكم الفاعل لهذه الأمور البديعة، هو ربكم العظيم الشأن، الذي له المُلك والسلطان والتصرف الكامل في الخلق ﴿والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾ أي والذين تعبدون من دون الله من الأوثان والأصنام لا يملكون شيئاً ولو بمقدار القمطير، وهو القشرة الرقيقة التي بين التمرة والنواة، قال المفسرون: وهو مثلٌ يضرب في القلة والحقارة، والأصنامُ لضعفها، وَهَوان شأنها وعجزها عن أي تصرف صارت مضرب المثل في حقارتها بأنها لا تملك فتيلاً ولا قمطيراً، ثم أكد تعالى ذلك بقوله: ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ﴾ أي إن دعوتم هذه الأصنام لم يسمعوا دعاءكم ولم يستجيبوا لندائكم، لأنها جمادات لا تسمع ولا تفهم ﴿وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ﴾ أي ولو سمعوا لدعائكم على الفرض والتسليم ما استجابوا لكم لأنها ليست ناطقة فتجيب ﴿وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ أي وفي الآخرة حين ينطقهم الله يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياهم ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ أي ولا يخبرك يا محمد على وجه اليقين
522
أحدٌ إلا أنا الله الخالق العليم الخبير، قال قتادة: يعني نفسه عَزَّ وَجَلَّ.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة التثميلية ﴿مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا﴾ شبَّه فيه إرسال النعم بفتح الخزائن للإِعطاء وكذلك حبس النعم بالإِمساك، واستعير الفتح للإِطلاق والإِمساك للمنع.
٢ - الطباق بين ﴿يَفْتَحِ.. و.. يُمْسِكْ﴾ وكذلك بين ﴿يُضِلُّ.. و.. يَهْدِي﴾ وبين ﴿تَحْمِلُ.. و.. تَضَعُ﴾ وبين ﴿يُعَمَّرُ.. و.. يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ﴾.
٣ - المقابلة بين جزاء الأبرار والفجار ﴿الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.. والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ وكذلك بين قوله: ﴿هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ.. وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ وكل من الطباق والمقابلة من المحسنات البديعية إلا أن الأول يكون بين شيئين والثاني بين أكثر.
٤ - حذف الجواب لدلالة اللفظ عليه ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ﴾ ؟ حذف منه ما يقابله أي كمن لم يُزين له سوء عمله؟ ودّل على هذا المحذوف قوله: ﴿فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾.
٥ - الإِطناب بتكرار الفعل ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا﴾ ثم قال ﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور﴾.
٦ - الكناية ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ كناية عن الهلاك لأن النفس إذا ذهبت هلك الإِنسان.
٧ - الالتفات من الغيبة إلى التكلم للإِشعار بالعظمة ﴿أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ﴾.
٨ - السجع لما له من وقع حسن على السمع مثل ﴿لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير﴾ ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ وأمثال ذلك وهو من المحسنات البديعية.
523
المنَاسَبَة: لمَّا عدَّد تعالى نعمه على العباد، وأقام الأدلة والبراهين على قدرته وعزته وسلطانه، ذكَّرهم هنا بحاجتهم إليه، واستغنائه جل وعلا عن جميع الخلق، وضرب الأمثال للتفريق بين المؤمن والكافر، والبرُّ والفاجر، بالأعمى والبصير، والظلام والنور، «فبضدّها تتميز الأشياء».
اللغَة: ﴿وِزْرَ﴾ الوزرُ: الجبل المنيع الذي يعتصم به ومنه ﴿كَلاَّ لاَ وَزَرَ﴾ [القيامة: ١١] ثم قيل للثقيل: وِزْرٌ تشبيهاً له بالجبل، ثم استعير للذنب لما فيه من إثقال كاهل الإِنسان. ﴿تُنذِرُ﴾ تخوف، والإِنذار التخويف. ﴿الغيب﴾ ما غاب عن الإِنسان ولم تدركه حواسه، قال الشاعر:
وبالغيب آمنا وقد كان قومنا يُصلُّون للأوثان قبل محمد
﴿الحرور﴾ شدة حر الشمس، قال في المصباح: الحرُّ خلال البرد والاسم الحرارة، وحرَّ النار: توقَّدت واستعرت، والحَرور: الريح الحارة. ﴿جُدَدٌ﴾ جمع جدَّة بالضم وهي الطريقة والعلامة، قال الجوهري: والجُدَّة: الخُطَّة التي في ظهر الحمار تخالف لونه، والجُدة الطريقة والجمع جدد وهي الطرائق المختلفة الألوان، قال القرطبي: قال الأخفش: لو كان جمع جديد لقال «جُدُد» بضم الجيم والدال نحو سُرر. ﴿غَرَابِيبُ﴾ جمع غربيب وهو الشديد السواد، يقال: أسود غربيب أي شديد السواد، قال امرؤ القيس:
العينُ طامحةٌ، واليدُ سابحةٌ والرجلُ لافحةٌ، والوجه غربيب
التفسِير: ﴿ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله﴾ الخطاب لجميع البشر لتذكيرهم بنعم الله الجليلة عليهم أي أنتم المحتاجون إليه تعالى في بقائكم وكل أحوالكم، وفي الحركات والسكنات ﴿والله هُوَ الغني الحميد﴾ أي وهو جل وعلا الغنيُّ عن العالم على الإِطلاق، المحمودُ على نعمه التي لا تُحْصى، قال أبو حيان: هذه آيةُ موعظةٍ وتذكير، وأن جميع الناس محتاجون إلى إحسان الله تعالى وإِنعامه، في جميع أحوالهم، لا يستغنى أحدٌ عنه طرفة عين، وهو الغنيُّ عن العالم على الإِطلاق، المحمود على ما يسديه من النعم، المستحق للحمد والثناء، ثم قرر اسغناءه عن الخلق بقوله: ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي لو شاء تعالى لأهلككم وأفناكم وأتى بقومٍ آخرين غيركم، وفي هذا وعيدٌ وتهديد ﴿وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ﴾ أي وليس ذلك بصعب أو ممتنع على الله، بل هو سهر يسير عليه سبحانه، لأنه يقول للشيء كنْ فيكون ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ أي لا تحمل نفسٌ آثمةٌ إثم نفسٍ أخرى، ولا تعاقب بذنب غيرها كما يفعل جبابرة الدنيا من أخذ الجار بالجار، والقريب بالقريب ﴿وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾ أي وإن تدع نفس مثقلةٌ
524
بالأوزار أحداً ليحمل عنها بعض أوزارها لا يتحمل عنها ولو كان المدعو قريباً لها كالأب والابن، فلا غياث يومئذٍ لمن استغاث، وهو تأكيد لما سبق في أن الإِنسان لا يتحمل ذنب غيره، قال الزمخشري: فإن قلت فما الفرق بين الآيتين؟ قلت: الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني في أنه لا غياث يومئذٍ لمن استغاث ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب﴾ أي إنما تنذر يا محمد بهذا القرآن الذين يخافون عقاب ربهم يوم القيامة ﴿وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ أي وأدوا الصلاة على الوجه الأكمل، فضموا إلى طهرة نفوسهم طهارة أبدانهم بالصلاة المفروضة في أوقاتها ﴿وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ﴾ أي ومن طهَّر نفسه من أدناس المعاصي فإنما ثمرة ذلك التطهر عائدة عليه، فصلاحه وتقواه مختص به ولنفسه ﴿وَإِلَى الله المصير﴾ أي إليه تعالى وحده مرجع الخلائق يوم القيامة فيجازي كلاً بعمله، وهو إخبار متضمنٌ معنى الوعيد ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير﴾ هذا مثلٌ ضربه الله للمؤمن والكافر أي كما لا يتساوى الأعمى مع البصير فكذلك لا يتساوى المؤمن المستنير بنور القرآن، والكافر الذي يتخبط في الظلام، ﴿وَلاَ الظلمات وَلاَ النور﴾ أي لا يتساوى كذلك الكفر والإِيمان، كما لا يتساوى النور الظلام ﴿وَلاَ الظل وَلاَ الحرور﴾ أي وكذلك لا يستوي الحقُّ والباطل، والهدى والضلال كما لا يستوي الظل الظليل مع شدة حر الشمس والمتوهجة، قال المفسرون: ضرب الله الظل مثلاً للجنة وظلها الظليل، وأشجارها اليانعة تجري من تحت الأنهار، كماجعل الحرور مثلاً للنار وسعيرها، وشدة أوارها وحرها، وجعل الجنة مستقراً للأبرار، والنار مستقراً للفجار كما قال تعالى:
﴿لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة﴾ [الحشر: ٢٠] ثم أكد ذلك فقال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات﴾ أي كما لا يستوي العقلاء والجهلاء، قال أبو حيان: وترتيب هذه الأشياء في بيان عدم الاستواء جاء في غاية الفصاحة، فقد ذكر الأعمى والبصير مثلاً للمؤمن والكافر، فذكر ما عليه الكافر من ظلمة الكفر، وما عليه المؤمن من نور الإِيمان، ثم ذكر مآلهما وهو الظلُ والحرور، فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة، والكافر بكفره في حر وتعب، ثم ذكر مثلاً آخر على أبلغ وجه وهي الحيُّ والميت، فالأعمى قد يكون فيه بعض النفع بخلاف الميت، وجمع الظلمات لأن طرق الكفر متعددة، وأفرد النور لأن التوحيد والحق واحدٌ لا يتعدد، وقدَّم الأشرف في المثلين الأخيرين وهما «الظل، والحيُّ» وقدَّم الأوضح في المثلين الأولين وهما «الأعمى، والظلمات» ليظهر الفرق جلياً، ولا يقال ذلك لأجل السجع لأن معجرة القرأن ليست في مجرد اللفظ، بل في المعنى أيضاً، فالله سرُّ القرآن، ثم زاد في الإِيضاح والبيان فقال: ﴿إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور﴾ أي إن اله يسمع من يشاء إسماعه دعوة الحق، فيحبِّبه بالإِيمان ويشرح صدره للإِسلام، وما أنت يا محمد بمسمع هؤلاء الكفار، لأنهم أموات القلوب لا يدركون ولا يفقهون، قال ابن الجوزي: أراد بمن في القبور الكفار، وشبههم بالموتى، أي فكما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله وينتفع بمواعظه، فكذلك من كان ميّت القلب لا ينتفع بما
525
يسمع ﴿إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ﴾ أي ما أنتَ إلا رسول منذر، تخوّف هؤلاء الكفار من عذاب النار ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ أي بعثناك بالهدى ودين الحق، بشيارً للمؤمنين ونذيارً للكافرين ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ أي ما من أمةٍ من الأمم في العصور والأزمنة الخالية إلا وقد جاءها رسول ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للتأسي بالأنبياء في الصبر على تحمل الأذى والبلاء، قال الطبري: أي وإن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون من قومك فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة رسلهم ﴿جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾ أي جاءتهم الرسل بالمعجزات البينات، والحجج الواضحات فكذبوهم وأنكروا ما جاؤوا به من عند الله ﴿وبالزبر وبالكتاب المنير﴾ أي وجاؤوهم بالزُّبُر أي الصحف المنزلة على الأنبياء، وبالكتب السماوية المقدسة المنيرة الموضحة وهي أربعة: «التوراة، والإِنجيل، والزبور، والفرقان» ومع ذلك كذبوهم وردّوا عليهم رسالتهم فاصبر كما صبروا ﴿ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ﴾ أي ثم بعد إمهالهم أخذتُ هؤلاء الكفار بالهلاك والدمار ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي فكيف كانت عقوبتي لهم وإنكاري عليهم؟ ألم أخذهم أخذ عزيز مقتدر؟ ألم أبدِّل نعمتهم نقمة، وسعادتهم شقاوة، وعمارتهم خراباً؟ وهكذا أفعل بمن كذَّب رسلي، ثم عاد إلى تقرير وحدانية الله بالأدلة السماوية والأرضية فقال: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ أي ألم تر أيها المخاطب أن الله العظيم الكبير الجليل أنزل من السحاب المطر بقدرته؟ ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا﴾ أي فأخرجنا بذلك الماء أنواع النباتات والفواكه والثمار، المختلفات الأشكال والألوان والطعوم، قال الزمخشري: أي مختلف أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها ما لا يُحصر، أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها ﴿وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا﴾ أي وخلق الجبال كذلك فيها الطرائق المختلفة الألوان وإن كان الجميع حجراً أو تراباً فمن الجبال جُدَد أي طرائق مختلفة الألوان، بيضٌ مختلفة البياض، وحمر مختلفة في حمرتها ﴿وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ أي وجبال سودٌ غرابيب أي شديدة السواد، قال ابن جزي: قدَّم الوصف الأبلغ وكان حقه أن يتأخر، وذلك لقصد التأكيد وكثيراً ما يأتي مثلُ هذا في كلام العرب، والغرضُ بيان قدرته تعالى، فليس اختلاف الألوان قاصراً على الفواكه والثمار بل إن في طبقات الأرض وفي الجبال الصلبة ما هو أيضاً مختلف الألوان، حتى لتجد
526
الجبل الواحد ذا ألوانٍ عجيبة، وفيه عروق تشبه المرجان، ولا سيمان في صخور «المرمر» فسبحان القادر على كل شيء ﴿وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ﴾ أي وخلق من لناس، والدواب، والأنعام، خلقاً مختلفاً ألوانه كاختلاف الثمار والجبال، فهذا أبيض، وهذا أحمر، وهذا أسود، والكلُّ خلق الله فتبارك الله أحسن الخالقين.
. ثم لما عدَّد آياتِ الله، وأعلام قدرته، وآثار صنعه، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس أتبع ذلك بقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾ أي إنما يخشاه تعالى العلماء لأنهم عرفوه حقَّ معرفته، قال ابن كثير: أي إنما يخشاه حقَّ خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير أتم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ أي غالب على كل شيء بعظمته، غفور لمن تاب وأناب من عباده، ثم أخبر عن صفات هؤلاء الذين يخافون الله ويرجون رحمته فقال: ﴿إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله﴾ أي يدامون على تلاوة القرآن آناء الليل وآطراف النهار ﴿وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ أي أدوها على الوجه الأكمل في أوقاتها، بخشوعها وآدابها، وشروطها وأركانها ﴿وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾ أي وأنفقوا بعض أموالهم في سبيل الله وابتغاء رضوانه في السر والعلن ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ أي يرجون بعملهم هذا تجارة رابحة، لن تكسد ولن تهلك بالخسران أبداً ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ أي ليوفيهم الله جزاء أعمالهم، وثواب ما فعلوا من صالح الأعمال، ويزيدهم فوق أجورهم من فضله وإنعامه وإحسانه، قال في التسهيل: توفية الأجور هو ما يستحقه المطيع من الثواب، والزيادة: التضعيف فوق ذلك أو النظر إلى وجه الله ﴿إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ أي مبالغ في الغفران لأهل القرآن، شاكر لطاعتهم، قال ابن كثير: كان مطرف إذا قرأ هذه الآية قال: هذه آية القراء ﴿والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق﴾ أي والذي أوحيناه إليك يا محمد من الكتاب المنزَّل القرآن العظيم هو الحق الذي لا شك فيه، ولا ريب في صدقه ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي حال كونه مصدقاً لما سبقه من الكتب الإِلهية المنزلة كالتوارة والإنجيل والزبور، قال أبو حيان: وفي الآية إشارة إلى كونه وحياً، لأنه عليه السلام لم يكن قارئاً ولا كاتباً وأتى ببيان ما في كتب الله، ولا يكون ذلك إلا من الله ﴿إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ أي هو جل وعلا خبير بعباده محيط ببواطن أمورهم وظواهرها، بصيرٌ بهم لا خفى عليه خافية من شؤونهم.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزوها فيما يلي:
١ - الطباق بين ﴿يُذْهِبْ.. و.. يَأْتِ﴾ وبين ﴿الأعمى.. و.. البصير﴾ و ﴿الظلمات.. و.. النور﴾ و ﴿الظل.. و.. الحرور﴾ و ﴿الأحيآء.. و.. الأموات﴾ وبين ﴿نَذِيراً.. وبَشِيراً﴾ وبين ﴿سِرّاً.. وَعَلاَنِيَةً﴾.
٢ -
527
جناس الاشتقاق ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ﴾ ﴿حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ﴾.
٣ - الاستعارة التصريحية ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير..﴾ الآية شبه الكافر بالأعمى، والمؤمن بالبصير بجامع ظلام الطريق وعدم الاهتداء على الكفار، ووضوح الرؤية والاهتداء للمؤمن، ثم استعار المشبه به ﴿الأعمى﴾ للكافر، واستعار ﴿والبصير﴾ للمؤمن بطريق الاستعارة التصريحية.
٤ - الالتفات من الغيبة إلى التكلم ﴿أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ بدل فأخرجنا لما في ذلك من الفخامة ولبيان كمال العناية بالفعل، لما فيه من الصنع البديع، المنبىء عن كمال قدرة الله وحكمته.
٥ - قصر صفة على موصوف ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾ فقد قصر الخشية على العلماء.
٦ - الإِستفهام التقريري وفيه معنى التعجب ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ الآية.
٧ - الاستعارة ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ استعار التجارة للمعالمة مع الله تعالى لنيل ثوابه، وشببها بالتجارة الدينوية وهي معالمة الخلق بالبيع والشراء لنيل الربح ثم رشحها بقوله: ﴿لَّن تَبُورَ﴾.
٨ - توافق الفواصل مما يزيد في جمال الكلام ورونقه ووقعه في النفس مثل ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ ﴿إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ ومثل ﴿وبالكتاب المنير﴾ ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ وهكذا.
528
المنَاسَبَة: لما أثنى تعالى على الذين يتلون كتاب الله، ذكر هنا انقسام الأمة الإِسلامية أمام هذا الكنز الثمين إلى ثلاثة أقسام: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، ثم ذكر مآل الأبرار والفجار، ليظل العبد بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة.
اللغَة: ﴿نَصَبٌ﴾ تعب ومشقة جسماينة. ﴿لُغُوبٌ﴾ اللُّغُوب: الإعياء والضعف والفتور ومنه ﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨]. ﴿يَصْطَرِخُونَ﴾ من الصراخ وهو الصياح بصوت عال، والصارخ: المستغيث، والمُصْرخ: المغيث، قال سلامة بن جندب:
كنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ كان الصُّراخ له قرع الظَّنابيب
﴿النذير﴾ المنذر الذي يخوّف الناس من عذاب الله. ﴿خَلاَئِفَ﴾ جمع خليفة وهو الذي يخلف غايره في أمرٍ من الأمور. ﴿مَقْتاً﴾ المقت: أشد البغض والغضب. ﴿خَسَاراً﴾ هلاكاً وضلالاً. ﴿يَحِيقُ﴾ حاق به الشيء: نزل وأحاط.
التفسِير: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا﴾ أي ثم أورثنا هذا القرآ، العظيم لأفضل الأمم وهم أمة محمد عليه السلام الذين اختارهم على سائر الأمم، وخصصناهم بهذا الفضل العظيم، القرآن المعجز خاتمة الكتب السماوية، قال الزمخشري: والذين اصطفاهم الله هم أمة محمد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة.. ثم قسمهم إلى ثلاثة أصناف فقال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله﴾ أي فمن هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب مَن هو مقصِّر في عمل الخير، يتلو القرآن ولا يعمل به وهو الظالم لنفسه، ومنهم مَن هو متوسط في فعل الخيرات والصالحات، يعمل بالقرآن في أغلب الأوقات، ويقصِّر في بعض الفتراتع وهو المقتصد، ومنهم مَن هو سبَّاق في العمل بكتاب الله، يستبق الخيرات وقد أحرز قصب السبق في فعل الطاعات بتوفيق الله وتيسيره وهو السابق بالخيرات بإِذن الله، قال ابن الجزي: وأكثير المفسرين أن هذه الأصناف الثلاثة في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فالظالم لنفسه: العاصي، والسابق: التقيُّ، والمقتصد: بينهما وقال الحسن البصري: السابقُ مَن رجحت حسناته على سيئاته، والظالم لنفسه مَن رجحت سيئاته، والمقتصد مَن استوت حسناته وسيئاته، وجميعهم يدخلون الجنة ﴿ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير﴾ أي ذلك الإِرث والاصطفاء لأمة محمد عليه السلام لحمل أشرف الرسالات والكتب
529
السماوية هو الفضل العظيم الذي لا يدانيه فضل ولا شرف، فقد تفضل الله عليهم بهذا القرآن المجيد، الباقي مدى الدهر، وأنعم به من فضل! ثم أخبر تعالى عما أعده للمؤمنين في جنات النعيم فقال: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ أي جنات إقامة ينعَّمون فيها بأنواع النعيم، وهي مراتب ودرجات متفاوتة حسب تفاوت الأعمال، وإنما جمع ﴿الجَنَّاتُ﴾ لأنها جنات كثيرة وليس جنة واحدة، فهناك جنة الفردوس، جنة عدن، وجنة النعيم، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة السلام، وجنة عليين، وفي كل جنة مراتبُ ونُزلٌ بحسب مراتب العاملين ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً﴾ أي يزينون في الجنة بأساور من ذهب مرصَّعة باللؤلؤ ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ أي وجميع ما يلبسونه في الجنة من الجرير، بل فرشهم وستورهم كذلك، قال القرطبي: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان، جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجننة إلا في يده ثلاثة أسورة: سوارٌ من ذهب، وساور من فضة، وسوار من لؤلؤ ﴿وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن﴾ أي وقالوا عند دخولهم الجنة الحمدُ لله الذي أذهب عنا جميع الهموم والأكدار والأحزان، قال المفسرون: عبَّر بالماضي ﴿وَقَالُواْ﴾ لتحقق وقوعه، والحزن يعمُّ كل ما يكدِّر صفو الإِنسان من خوف المرض، والفقر، والموت، وأهوال القيامة، وعذاب النار وغير ذلك ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ إي واسع المغفرة للمذنبيين، شكور لطاعة المطيعين، وكلا اللفظتين للمبالغة أي واسع الغفران عظيم الشكر والإِحسان ﴿الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ﴾ أي أنزلنا الجنة وأسكننا فيها، وجعلها مقراً لنا وسكناً، لا نتحول عنها أبداً، وكل ذلك من إنعامه وتفضله علينا ﴿لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ﴾ أي لا يصيبنا فيها تعب ولا مشقة ﴿وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ أي ولا يصيبنا فيها إِعياءٌ ولا فتور، قال ابن جزي: وإنما سميت الجنة ﴿دَارَ المقامة﴾ لأنهم يقومون فيها ويمكثون ولا يُخرجون منها، والنَّصبُ تعبُ البدن، واللغوبُ تعب النفس الناشىء عن تعب البدن.
. ولما ذكر تعالى حال السعداء الأبرار، ذكر حال الأشقياء الفجار فقال: ﴿والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ﴾ أي والذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسله فإِنَّ لهم نار جهنم المستعرة جزاءً وفاقاً على كفرهم ﴿لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ﴾ أي لا يحكم عليهم بالموت فيها حتى يستريحوا من عذاب النار ﴿وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا﴾ أي ولا يخفف عنهم شيء من العذاب، بل هم في عذاب دائم مستمر لا ينقطع كقوله: ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً﴾ [الإِسراء: ٩٧] ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ أي مثل ذلك العذاب الشديد الفظيع، نجازي ونعاقب كل مبالغ في الكفر والعصيان ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ أي وهم يتصارخون في جهنم ويستغيثون برفع أصواتهم قائلين: ربنا أخرجنا من النار وردنا إلى الدنيا لنعمل عملاً صالحاً يقربنا منك، غير الذي كنا نعمله، قال القرطبي: أي نؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، ونمتثل أمر الرسل.. وفي قولهم: ﴿غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ اعترافٌ بسور
530
عملهم، وتندُّمٌ عليه وتحسر، قال تعالى رداً عليهم وموبخاً لهم: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾ أي أولم نترككم ونمهلكم في الدنيا عمراً مديداً يكفي لأن يتذكر فيه من يريد التذكر والتفكر؟ فماذا صنعتم في هذه المدة التي عشتموها؟ وما لكم تطلبون عُمراً آخر؟ وفي الحديث
«أَغْذَرَ الله إلى امْرِىءٍ أَخَّرَ أجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً» ومعنى «أعذر» أي بلغ به أقصى العذر ﴿وَجَآءَكُمُ النذير﴾ أي وجاءكم الرسول المنذر وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي بُعث بين يدي الساعة، وقيل: ﴿النذير﴾ هو الشيبُ والأول أظهر ﴿فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ أي فذوقوا العذاب يا معشر الكافرين، فليس لكم اليوم ناصر ولا معين يدفع عنكم عذاب الله، قال الإمام الفخر: والأمرُ أمرُ إهانة ﴿فَذُوقُواْ﴾ وفيه إشارة إلى الدوام، وإنما وضعَ الظاهر ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ موضع الضمير «لكلم» لتسجيل الظلم عليهم، وأنهم بكفرهم وظلمهم ليس لهم نصيرٌ أصلاً لا من الله ولا من العباد، ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله عَالِمُ غَيْبِ السماوات والأرض﴾ أي هو تعالى العالم الذي أحاط علمه بكل ما خفي في الكون من غيب السموات والأرض، لا يخفى عليه شأن من شؤونهما ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي يعلم جل وعلا مضمرات الصدرو، وما تخفيه من الهواجس والوساوس، فكيف لا يعلم أعمالهم الظاهرة؟ قال المفسرون: والجملة لتأكيد ما سبق من دوام عذاب الكفار في النار، لأن الله تعالى يعلم من الكافر أنه تمكَّن الكفر في قلبه بحيث لو دام في الدنيا إلى الأبد ما آمن بالله ولا عبَده، فالعذابُ الأبديُّ مساوٍ لكفرهم الأبدي، فلا ظلم ولا زيادة ﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف: ٤٩]، قال القرطبي: والمعنى في الآية علم أنه لو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحاً كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ [الأَنعام: ٢٨] ﴿هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض﴾ أي هو تعالى جعلكم أيها الناس خلائف في الأرض، بعد عاد وثموج ومن مضى قبلكم من الأمم، تخلفونهم في مساكنهم جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ أي فمن كفر بالله فعليه وبال كفره، لا يضر بذلك إلا نفسه ﴿وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً﴾ أي ولا يزيدهم كفرهم إلا طرداً من رحمة الله وبعداً وبغضاً شديداً من الله ﴿وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً﴾ أي ولا يزيدهم كفرهم إلا هلاكاً وضلالاً وخسران العمر الذي ما بعده شر وخسار!، قال أبو حيان: وفي الأية تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم، فلم يتعظوا بحال مَن تقدمهم من المذكذبين للرسل ما حلَّ بهم من الهلاك، ولا اعتبروا بمن كفر، ولا اتعظوا بمن تقدم، والمقتُ أشد الاحتقار والبغض، والخسارُ خسارُ العمر، كأنَّ العمر رأس مال الإِنسان فإذا انقضى في غير طاعة الله فقد خسره، واستعاض به بدل الربح سخط
531
الله وغضبه، بحيث صار إلى النار المؤبدة، ثم وَّبخ تعالى المشركين في عبادتهم ما لا يسمع ولا ينفع فقال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله﴾ ؟، قال الزمخشري: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ معناها أخبروني كأنه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الإِلهية والشركة، ومعنى الآية: قل يا محمد تبكيتاً لهؤلاء المشركين: أخبروني عن شأن آلهتكم الأوثان والأصنام، الذين عبدتموهم من دون الله، وأشركتموهم معه في العبادة، بأي شيء استحقوا هذه العبادة؟ ﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض﴾ أي أروني أيَّ شيء خلقوه في هذه الدنيا من المخلوقات حتى عبدتموهم من دون الله؟ ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات﴾ أي أم شاركوا الله في خلق السموات فاستحقوا بذلك الشركة معه في الألوهية؟ ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ على بَيِّنَةٍ مِّنْهُ﴾ أي أم أنزلنا عليهم كتاباً ينطق بأنهم شركاء الله فيهم على بصيرة وحجة وبرهان في عبادة الأوثان ﴿بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً﴾ إضرابٌ عن السابق وبيانٌ للسبب الحقيقي أي إنما اتخذوهم آلهة بتضليل الرؤساء للأتباع بقولهم: الأصنام تشفع لهم، وهو غرور باطل وزور، قال أبو السعود: لما نفى أنواع الحجج أضر عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تغرير الأسلاق للأخلاف، وإضلال الرؤساء للأتباع بأنهم يشفعون لهم عند الله.
. ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال: ﴿إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ﴾ أي هو جل وعلا بقدرته وبديع حكمته، يمنع السموات والأرض من الزوال، والسقوط، والوقوع كما قال تعالى: ﴿وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [الحج: ٦٥] قال القرطبي: لما بيَّن أن آلهتهم لا تقدر على خلق شيء من السموات والأرض، بيَّن أن خالقهما وممسكهما هو الله، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده، ولا يبقى إلا ببقائه ﴿وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ﴾ أي ولئن زالتا عن أماكنهما فرضاً وما أمسكهما أحدٌ بعد الله، بمعنى أنه لا يستطيع أحدٌ على إمساكهما، إنما هما قائتمان بقدرة الواحد القهار ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ أي إنه تعالى حليم لا يعاجل العقوبة للكفار مع استحقاقهم لها، واسع المغفرة والرحمة لمن تاب منهم وأناب ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أي حلف المشركون بالله أشدَّ الأيمان وأبلغها، قال الصاوي: كانوا يحلفون بآبائهم وأصنامهم فإذا أرادوا التأكيد والتشديد حلفوا بالله ﴿لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ﴾ أي لئن جاءهم رسول منذر ﴿لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم﴾ أي ليكونُنَّ أهدى من جميع الأمم الذين أرسل الله إليهم الرسل من أهل الكتاب، قال أبو السعود: بلغ قريشاً قبل مبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّ أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهودَ والنصارى، أتتهم الرسلُ فكذبوهم، فوالله لئن أتانا رسول لنكوننَّ أهدى من اليهود والنصارى وغيرهم ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ﴾ أي فلما جاءهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أشرف المرسلين ﴿مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾ أي ما زادهم مجيئه إلا تباعداً عن الهدى والحق وهرباً منه ﴿استكبارا فِي الأرض وَمَكْرَ السيىء﴾ أي نفروا منه بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وعتوهم وطغيانهم في الأرض، ومن أجل المكر السيىء بالرسول وبالمؤمنين، ليفتنوا ضعفاء الإيمان عن دين الله، قال أبو حيان: أي سبب النفور هو
532
الاستكبار والمكر السيىء يعني أن الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار، والمكرُ السيىءُ وهو الخداع الذي يرمونه برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والكيد له، قال تعالى رداً عليهم: ﴿وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾ أي ولا يحيط وبال المكر السيىء إلا بمن مكره ودبَّره كقولهم: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها.
﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين﴾ أي فهل ينتظر هؤلاء المشركون إلا عادة الله وسنته في الأمم المتقدمة، من تعذيبهم وإهلاكهم بتكذيبهم للرسل؟ ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً﴾ أي لن تتغير ولن تتبدل سنته تعالى في خلقه ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً﴾ أي ولا يستطيع أحد أن يحوّل العذاب عنهم إلى غيرهم، قال القرطبي: أجرى الله العذاب على الكفار، فلا يقدر أحد أن يُبدّل ذلك، ولا أن يُحوّل العذاب عن نفسه إلى غيره، والسُّنة هي الطريقة.. ثم حثهم تعالى على مشاهدة آثار من قبلهم من المكذبين ليعتبروا فقال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ ؟ أولم يسافروا ويمروا على القرى المهلكة فيروا آثار دمار الأمم الماضية حين كذبوا رسلهم ماذا صنع الله بهم؟ ﴿وكانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ أي وكانوا أقوى من أهل مكة أجساداً، وأكثر منهم أموالاً وأولاداً ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السموات وَلاَ فِي الأرض﴾ أي أنه سبحانه لا يفوته شيء، ولا يصعب عليه أمر في هذا الكون ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً﴾ أي بالغ العلم والقدرة، عالم بشؤون الخلق، قادر على الانتقام ممن عصاه ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ﴾ بيانٌ لحلم الله ورحمته بعباده أي لو آخذهم بجميع ذنوبهم ما ترك على ظهر الأرض أحداً يدب عليها من إنسان أو حيوان، قال ابن مسعود: يريد جميع الحيوان مما دبَّ ودرج ﴿ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي ولكنه تعالى من رحمته بعباده، ولظفه بهم، يمهلهم إلى زمن معلوم وهو يوم القيامة فلا يعجل لهم العذاب ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً﴾ أي فإذا جاء ذلك الوقت جازاهم بأعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، لأنه تعالى العالم بشؤونهم المطلع على أحوالهم، قال ابن جرير: بصيراً بمن يستحق العقوبة، وبمن يستوجب الكرامة، وفي الآية وعيدٌ للمجرمين ووعد للمتقين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الإِطناب بتكرير الفعل ﴿لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ للمبالغة في انتفاء كل منهما استقلالاً، وكذلك الإِطناب في قوله: ﴿وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً﴾ لزيادة التشنيع والتقبيح على مَن كفر بالله.
٢ - التهكم في صغية الأمر ﴿فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ مثل ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩].
٣ - المبالغة مثل ﴿غَفُورٌ، شَكُورٌ، كَفُورٍ﴾ ومثل ﴿حَلِيماً، عَلِيماً، قَدِيراً﴾ فإنها من صيغ المبالغة.
533
٤ - الاستفهام الإِنكاري للتوبيخ ﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض﴾ ؟ وكذلك ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات﴾ ؟.
٥ - الاستعارة المكنية ﴿مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ﴾ شبَّه الأرض بدابة تحمل على ظهرها أنواع المخلوقات ثم حذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الظهر بطريق الاستعارة المكنية.
٦ - السجع غير المتكلف، البالغ نهاية الروعة والجمال مثل ﴿وَجَآءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ وهو من المحسنات البديعية.
534
Icon