ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه ثلاثة أوجه: الخفض على النعت، والرفع على إضمار مبتدأ، أو النصب على المدح، وحكى سيبويه «١» : الحمد لله أهل الحمد، مثله، وكذا جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا ولا يجوز فيه التنوين لأنه لما مضى رُسُلًا مفعول ثان، ويقال: على إضمار فاعل لأن «فاعلا» إذا كان لما مضى مضافا لم يعمل شيئا أُولِي أَجْنِحَةٍ نعت، قال أبو إسحاق: أي أصحاب أجنحة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لم ينصرف لأن فيها علّتين: إحداهما أنها معدولة فهذا اتّفاق، واختلف في الثانية لأن النحويين القدماء لم يذكروها. قال أبو إسحاق: العلّة الثانية أنّه عدل في حال نكرة وقال غيره: العلّة الثانية أنه صفة، وقول ثالث إنه معدول عن اثنين اثنين فهذه علّة ثانية.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٢]
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)
وأجاز النحويون «٢» في غير القرآن: فلا ممسك له، على لفظ «ما» «ولها» على المعنى وأجازوا: وَما يُمْسِكْ فلا مرسل لها على معنى «ما»، وأجازوا: فلا ممسك لها، يكون بمعنى ليس وكذا «فلا مرسل له» وأجازوا: «ما يفتح الله للناس من رحمة» تكون «ما» بمعنى الذي.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣)
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ٦٦.
إحداهما بمعنى: هل من خالق إلّا الله بمعنى ما خالق إلّا الله، والوجه الثاني أن يكون نعتا على الموضع، لأن المعنى هو خالق غير الله. والخفض على اللفظ، وقال حماد ابن سلمة: حدّثنا حميد الطويل قال: قلت للحسن: من خلق الشرّ؟ فقال: سبحان الله، هل من خالق غير الله جلّ وعزّ الله خلق الخير والشرّ.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تأسيا له صلّى الله عليه وسلّم. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ قال أبو إسحاق: أي الأمور مرجعها إلى الله جلّ وعزّ فيجازي من كذّب وينصر من كذّب من رسله.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٥]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا قال سعيد بن جبير: غرور الحياة الدنيا أن يشغل الإنسان بنعيمها وفتنتها عن عمل الآخرة حتى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الفجر: ٢٤] وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. وقال شعبة عن سماك وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ «٢» بضم الغين. وفيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون مع غار، كما تقول جالس وجلوس، وهذا أحسن ما قيل فيه، ويكون معناه كمعنى «الغرور»، قال أبو حاتم:
الغرور جمع غر، وغر مصدر، والقول الثالث يكون الغرور مصدرا، وهذا بعيد عند أبي إسحاق لأن غررته متعد، والمصدر من المتعدّي إنّما هو على فعل نحو ضربته ضربا إلّا أشياء يسيرة سمعت لا يقاس عليها قالوا: لزمته لزما، ونهكه المرض نهوكا. فأما معنى هذا الحرف فأحسن ما قيل فيه ما قاله سعيد بن جبير، قال: الغرور بالله جلّ وعزّ أن يكون الإنسان يعمل المعاصي ثم يتمنّى على الله جلّ وعزّ المغفرة.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٦]
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦)
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ ويكون عدوّ بمعنى معاد فيثنّى ويجمع ويؤنث، ويكون بمعنى النسب فيكون موحّدا بكلّ حال كما قال جلّ وعزّ: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء:
٧٧] وفي المؤنث على هذا عدوّ أيضا. فأما قول بعض النحويين: إن الواو خفيّة فجاؤوا بالهاء فخطأ بل الواو حرف جلد. فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا مفعولان. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ
(٢) انظر مختصر ابن خالويه ١٢٢.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٧]
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧)
الَّذِينَ كَفَرُوا يكون بدلا من «أصحاب» ويكون في موضع خفض، ويكون بدلا من حزبه فيكون في موضع نصب، أو يكون بدلا من الواو فيكون في موضع رفع، وقول رابع، وهو أحسنها، يكون في موضع رفع بالابتداء ويكون خبره لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ. فأما وَالَّذِينَ آمَنُوا ففي موضع رفع بالابتداء وخبره لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٨]
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ «من» في موضع رفع بالابتداء، وخبره محذوف لما دلّ عليه. قال الكسائي: والذي دلّ عليه. فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ والمعنى: أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسنا ذهبت نفسك عليهم حسرات، قال: وهذا كلام عربي حسن ظريف لا يعرفه إلّا قليل. والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية لما ذكره فمن الدلالة على المحذوف، والمعنى أنّ الله جلّ وعزّ نهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن شدّة الاغتمام بهم والحزن عليهم كما قال جلّ وعزّ لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ [الشعراء: ٣] قال أهل التفسير: أي: قاتل نفسك، وقرئ على إبراهيم بن موسى عن إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا نصر بن علي قال: سألت الأصمعي عن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم في أهل اليمن «هم أرقّ قلوبا وأبخع طاعة» «١» ما معنى أبخع طاعة، قال أنصح طاعة قال: فقلت له: إنّ أهل التفسير مجاهدا وغيره يقولون: في قول الله جلّ وعزّ لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ معناه قاتل نفسك فقال: هو من ذلك بعينه كأنه من شدّة النصح لهم قاتل نفسه، وقراءة أبي جعفر فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ «٢» والمعنيان متقاربان و «حسرات» منصوب على أنه مفعول من أجله أو مصدر.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٩]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩)
وبَلَدٍ مَيِّتٍ وميّت «٣» واحد، وكذا ميتة وميتة واحد. هذا قول الحذّاق من النحويين، وقال محمد بن يزيد: هذا قول البصريين ولم يستثن أحدا واستدلّ على ذلك بدلائل قاطعة من كلام العرب.
(٢) انظر البحر المحيط ٧/ ٢٨٨، ومعاني الفراء ٢/ ٣٦٧.
(٣) انظر تيسير الداني ٧٣.
ليس من مات فاستراح بميت | إنّما الميت ميّت الأحياء |
إنّما الميت من يعيش كئيبا | كاسفا باله قليل الرّخاء |
هينون لينون أيسار بنو يسر | سوّاس مكرمة أبناء أيسار «٢» |
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٠]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ التقدير عند الفراء: من كان يريد علم العزّة، وكذا قال غيره من أهل العلم من كان يريد علم العزّة التي لا ذلة معها لأن العزّة إذا كانت تؤدّي إلى ذلّة فإنها هي تعرّض للذلة، والعزّة التي لا ذلّة معها لله جلّ وعزّ. جَمِيعاً على الحال. وقدر أبو إسحاق معناه: من كان يريد بعبادة الله جلّ وعزّ العزّة به فإن الله يعزّه في الآخرة والدنيا. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ تمّ الكلام وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي إليه يصعد الكلام «٤» والكلم جمع كلمة. وأهل التفسير ابن عباس ومجاهد والربيع ابن أنس وشهر بن حوشب وغيرهم قالوا: والمعنى العمل الصالح يرفع الكلم الطيّب.
وهذا رد على المرجئة. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ رفع بالابتداء أو على إضمار فعل. فأما أن يكون مرفوعا بمعنى ويرفعه العمل الصالح فخطأ لأن الفاعل إذا كان قبل الفعل لم يرتفع بالفعل. هذا قول جميع النحويين إلّا شيئا حكاه لنا علي بن سليمان عن أحمد بن
(٢) الشاهد لعبيد بن العرندس الكلابي في الكامل ٧٢، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ١/ ٢٦٥، والخصائص ٢/ ٢٨٩، والمنصف ٣/ ٦١.
(٣) انظر المقتضب ٣/ ١٣٥.
(٤) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٦٧، والبحر المحيط ٧/ ٢٩٠.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١١]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ قال سعيد عن قتادة قال: يعني آدم صلّى الله عليه وسلّم والتقدير على هذا خلق أصلكم من تراب. ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ قال: أي التي أخرجها من ظهور آبائكم. ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً قال: أي زوّج بعضكم بعضا. وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ. حدّثنا علي بن الحسين عن الحسن بن حمد قال: حدّثنا ابن عوانة عن عطاء ابن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: وما يعمّر من معمّر إلّا كتب عمره كم هو سنة؟ كم هو شهرا؟ كم هو يوما؟ وكم هو ساعة؟ ثم يكتب عند عمره نقص كذا نقص كذا حتى يوافق النقصان العمر. ومذهب الفراء في معنى وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي ما يطوّل من عمره وما ينقص من عمره يعني آخر أي ولا ينقص الآخر من عمر ذاك إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ والفعل منه يسر، ولو سمّيت به إنسانا انصرف لأنه فعيل.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٢ الى ١٣]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣)
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ روى ابن عباس قال: فرات حلو، وأجاج:
مالح مرّ. وقرأ طلحة وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ «١» بفتح الميم وكسر اللام بغير ألف، وأما المالح فهو الذي يجعل الملح لإصلاح الشيء. وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا لا اختلاف في هذا أنّه منهما جميعا. وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها مذهب أبي إسحاق أن الحلية إنما تستخرج من الملح فقيل: منهما لأنهما مختلطان، وقال غيره: إنما تستخرج
لو رأيت الأصمعيّ وسيبويه لملأت يدك لغة ونحوا، فقد عرف معنى هذا، وهو كلام فيصيح كثير فكذا. وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها فاجتمع في الأول وانفرد الملح بالثاني فصارا مجتمعين في كل هذا. قال: وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ أي في الملح خاصة، ولولا ذلك لقال: فيهما وقد مخرت السفينة تمخر وتمخر إذا شقّت الماء، كما قال طرفة: [الطويل] ٣٥٤-
يشقّ حباب الماء حيزومها بها | كما قسم التّرب المفايل باليد «١» |
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٤]
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ شرط ومجازاة. وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ فيه معنى الأول وإن كانت لولا يجازى بها. قال قتادة مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ ما تبعوكم ولا قبلوا منكم. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ. قال أبو إسحاق: أي يقولون: ما كانوا إيّانا يعبدون. وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ قال قتادة: الله جلّ وعزّ أخبر أنه يكون هذا منكم يوم القيامة.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٥]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ بتخفيف الهمزة الثانية أجود الوجوه عند الخليل رحمه الله ويجوز تخفيف الأولى وحذفها وتخفيفها جميعا وتحقيقهما جميعا. وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ تكون «هو» زائدة فلا يكون لها موضع من الإعراب، وتكون مبتدأة فيكون موضعها رفعا.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٦]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦)إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ شرط ومجازاة وفيه حذف تستعمله العرب كثيرا. والتقدير:
إن يشأ أن يذهبكم يذهبكم وحذفت من «يشأ» الضمة التي كانت على الهمزة فلما سكنت حذفت الألف التي قبلها. وَيَأْتِ معطوف على يذهبكم.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٨]
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨)
وَلا تَزِرُ مقطوع مما قبله والأصل توزر حذفت الواو اتباعا ليزر. وازِرَةٌ نعت لمحذوف أي نفس وازرة، وكذا وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ قال الفراء «١» : أي نفس مثقلة أو دابة قال: وهذا يقع للمذكّر والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنسانا إِلى حِمْلِها والحمل ما كان على الظهر، وحمل المرأة وحمل النخلة حكاهما الكسائي بالفتح لا غير، وحكى ابن السكيت: إنّ حمل النخلة يفتح ويكسر وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى التقدير على قول الأخفش ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى، وأجاز الفراء «٢» : ولو كان ذو قربى قال أبو جعفر: وهذا جائز عند سيبويه، ومثله وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ [البقرة: ٢٨٠] وتكون «كان» بمعنى وقع أو يكون الخبر محذوفا أي وإن كان فيمن تطلبون ذو عسرة، وحكى سيبويه: الناس مجزيّون بأعمالهم إن خير فخير، على هذا، وإن خيرا فخيرا، على الأول وحكى الحكم بن أبان عن عكرمة أنه قال: بلغني أنّ اليهوديّ والنصراني يرى الرجل المسلم يوم القيامة فيقول له: ألم أكن قد أسديت إليك يدا ألم أكن قد أحسنت إليك فيقول: بلى فيقول: انفعني فلا يزال المسلم ينقص من عذابه، وأن الرجل ليأتي إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك بارا وعليك مشفقا وإليك محسنا، وأنت ترى ما أنا فيه فهب لي حسنة من حسناتك أو تحمل عني سيئة فيقول: إن الذي سألتني يسير ولكني أخاف مثل ما تخاف، وإن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيردّ عليه نحوا من هذا، وإن الرجل ليقول لزوجته: ألم أكن حسن العشرة لك فتحملي عني خطيئة لعلي أنجو فتقول: إنّ ذلك ليسير ولكنّي أخاف مما تخاف منه ثم تلا عكرمة وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى. إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وهو ينذر الخلق كلهم فخصّ الذين يخشون ربّهم لأنهم الذين ينتفعون بالنذارة.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٩ الى ٢١]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١)
(٢) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٦٨.
والظُّلُماتُ الضلالة والنُّورُ الهدى والظِّلُّ الجنّة والْحَرُورُ النار. قال الأخفش سعيد: «لا» زائدة والمعنى: ولا الظلمات والنور ولا الظل والحرور. وقيل: الحرور لا يكون إلّا بالليل، والسموم يكون بالنهار. وقيل: الحرور يكون فيهما. وهذا أصحّ القولين، لأن الحرور فعول من الحرّ، وفيه معنى التكثير أي الحرّ المؤذي.
وقرأ الحسن وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «١» تحذف التنوين تخفيفا أي هم بمنزلة أهل القبول في أنّهم لا ينتفعون بما يسمعونه ولا يقبلونه.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٢٥]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥)
بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وفي موضع آخر الزُّبُرِ [آل عمران: ١٨٤] بغير باء والمعنى واحد، غير أنّ الكثير في كلام العرب بغير باء وما بعده بالباء أيضا فتكون الباء إذا دخلت توكيدا أو عطف جملة على جملة وحذف الفعل لدلالة الأول عليه.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٢٧]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧)
نصبت مُخْتَلِفاً لأنه نعت لثمرات وأَلْوانُها مرفوع بمختلف وصلح أن يكون نعتا لثمرات لما عاد عليه من ذكره، ويجوز رفعه في غير القرآن ومثله: رأيت رجلا خارجا أبوه. وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ جمع جدّة. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقيل جدد مثل رغيف ورغف. بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها رفع «مختلف» هاهنا ونصب ثمّ لأن ما قبله هاهنا مرفوع فهو نعت له، ويجوز أن يكون رفعه على الابتداء والخبر.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٢٨]
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)
فقيل هاهنا أَلْوانُهُ وثمّ «أَلْوانُها» لأن تقديره وخلق مختلف ألوانه. ومختلف نعت أقيم مقام المنعوت. والكاف في موضع نعت لأنها نعت لمصدر محذوف. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ قال مجاهد: إنما العالم من يخشى الله جلّ وعزّ وعن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: كفى بخشية الله جلّ وعزّ علما وبالاغترار به جهلا.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٢٩]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩)
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا هذه الآية مشكلة لأنه قال جلّ وعزّ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ثم قال جلّ وعزّ فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وقد كنا ذكرناها إلّا أنا نبيّنها هاهنا بغاية البيان وقد تكلم جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فمن أصحّ ما روي في ذلك ما قرئ على أبي بكر محمد بن جعفر ابن الإمام عن يوسف بن موسى عن وكيع بن الجراح قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس «فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ» قال: الكافر، وقرئ على أحمد بن شعيب عن الحسين بن حبيب عن الفضل بن موسى عن حسين عن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس «١» في قول الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ قال: نجت فرقتان. فهذا قول: ويكون التقدير في العربية «فمنهم» فمن عبادنا «ظالم لنفسه» أي كافر، وقال الحسن: أي فاسق، ويكون الضمير الذي في يدخلونها يعود على المقتصد والسابق لا على الظالم. فأما معنى «الذين اصطفينا من عبادنا» ففيه قولان: أحدهما أن الذين اصطفوا هم الأنبياء صلوات الله عليهم أي اختيروا للرسالة، وقيل: المعنى الذين اصطفوا لإنزال الكتاب عليهم فهذا عام، وقيل الضمير في يَدْخُلُونَها يعود على الثلاثة الأصناف على أن لا يكون الظالم هاهنا كافرا ولا فاسقا، فمن روى عنه هذا القول أعني أنّ الذين يدخلونها هذه الثلاثة الأصناف عمر وعثمان وأبو الدرداء وابن مسعود وعقبة بن عمرو وعائشة رضي الله عنهم. ولولا كراهة الإطالة لذكرنا ذلك بأسانيده وإن كانت ليست مثل الأسانيد الأولى في الصحة وهذا القول أيضا صحيح عن عبيد بن عمرو وكعب الأحبار وغيرهما من التابعين والتقدير على هذا القول: أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر، والمقتصد: قال محمد بن يزيد: هو الذي يعطي الدّنيا حقّها، والآخرة حقّها فيكون «جنّات عدن يدخلونها» عائدا على الجميع على هذا الشرح والتبيين. وفي الآية قول ثالث يكون «الظالم» صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيئاته. فيكون «جنّات عدن يدخلونها» الذين سبقونا بالخيرات لا غير. وهذا قول
لأن معنى من أساور ومعنى أساور واحد، والخفض قراءة أهل الكوفة، وهو أبين في العربية لأنه مخفوض معطوف على مخفوض. وقرأ عاصم الجحدري جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها «٤» بكسر التاء تكون في موضع جرّ على البدل من الخيرات، ويجوز أن يكون في موضع نصب على لغة من قال: زيدا ضربته وزعم بعض أهل النظر أن قوله جلّ وعزّ: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ للنساء لأن قوله جلّ وعزّ: مِنْ عِبادِنا مشتمل على الذكور والإناث. وهذا خطأ بيّن، لأنه لو كان للنساء لكان يحلّين ولكن هو للرجال لا غير إلّا أنه يجوز أن يحلّى به النساء فإذا حلّي به النساء فهو لأزواجهنّ.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٤]
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤)
وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ عن ابن عباس قال: النار. وقال سعيد عن قتادة قال: كانوا يعملون في الدّنيا وينصبون ويلحقهم الحزن وقال شمر بن عطيّة في قول الله جلّ وعزّ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال: همّ الطّعام. قال:
إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ غفر لهم الذّنوب التي عملوها، وشكر لهم الخير الذي دلّهم عليه فعملوه.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٥]
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ يكون «الذي» في موضع نصب نعت لاسم «إنّ» ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ، أو على خبر بعد خبر إن، وعلى البدل من غفور، أو على البدل من المضمر الذي في «شكور» ويجوز أن يكون في موضع خفض على النعت لاسم الله جلّ وعزّ قال الكسائي والفراء: الْمُقامَةِ: الإمامة والمقامة: المجلس الذي يقام فيه. لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي تعب والنّصب الشرّ والنصب ما ينصب لذبح أو غيره وقرأ أبو عبد الرحمن وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ «٥» بفتح اللام يكون مصدرا كالوقود والطّهور وقيل هو ما يلغب منه.
(٢) انظر إعراب الآية ٣١ سورة الكهف.
(٣) انظر تيسير الداني ١٢٧.
(٤) انظر البحر المحيط ٧/ ٢٩٩، ومختصر ابن خالويه ١٢٣.
(٥) انظر مختصر ابن خالويه ١٢٤، والبحر المحيط ٧/ ٣٠٠.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٦]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦)وَالَّذِينَ كَفَرُوا مبتدأ والخبر لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ ويجوز أن يكون الخبر لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا «١» وحذفت النون لأنه جواب النفي. وقرأ الحسن يقضى عليهم فيموتون على العطف قال الكسائي وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: ٣٦] بالنون في المصحف لأنه رأس آية، ولا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا بغير نون لأنه ليس برأس آية ويجوز في كلّ واحد منهما ما جاز في صاحبه.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٧]
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها الطاء مبدلة من تاء لأن الطاء بالصاد أشبه لأنهما مطبقتان، ويقال: اصطرخ إذا استغاث رَبَّنا أَخْرِجْنا أي يقولون نَعْمَلْ صالِحاً جواب المسألة أي إن أخرجتنا عملنا صالحا غير الذي كنا نعمل أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ أي فيقال لهم، وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «من عمّر ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر» «٢»، وكذلك روى سهل بن سعد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مثل معناه وقال ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ قال ستين سنة. وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ أي المنذر وفي فعيل معنى المبالغة. قيل: يعني به النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هو من أنذرهم، وقيل: يعني به الشيب والله جلّ وعزّ أعلم.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٨]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨)
إذا كان بغير تنوين صلح أن يكون للماضي والمستقبل والحال، وإذا كان منونا لم يجز أن يكون للماضي.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٣٩]
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ جمع خليفة أي تخلفون من كان قبلكم وفي هذا معنى التنبيه والاعتبار أي فتحذرون أن تنزل بكم العقوبة، كما نزلت بمن كان قبلكم فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] أي عقوبة كفره.
(٢) أخرجه أحمد في مسنده ٢/ ٤٠٥ والمتقي في كنز العمال (٤٢٦٦٨)، وأبو نعيم في الحلية ٣/ ٢٥٨.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ منصوب بالرؤية، ولا يجوز رفعه وقد يجوز الرفع عند سيبويه في قولهم: قد علمت زيد أبو من هو لأن زيدا في المعنى يستفهم عنه، ولو قلت:
أرأيت زيدا أبو من هو؟ لم يجز الرفع والفرق بينهما أن معنى هذا أخبرني عنه، وكذا معنى هذا أخبروني عن شركائكم الذين تدعون من دون الله أعبدتموهم لأن لهم شركة في خلق السّموات أم خلقوا من الأرض شيئا أم آتيناهم كتابا بهذا أي أم عندهم كتاب أنزلناه إليهم بالشّركة أو بأنا أمرناهم بعبادتهم فكان في هذا ردّ على كل من عبد غير الله جلّ وعزّ لأنهم لا يجدون في كتاب من الكتب أنّ الله جلّ وعزّ أمر أن يعبد غيره.
على بيّنات منه «١» قراءة أبي جعفر وشيبة ونافع وعاصم والكسائي، وقرأ أبو عمرو وابن كثير والأعمش وحمزة عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ «٢» قال أبو جعفر: والمعنيان متقاربان إلّا أن القراءة «بيّنات» أولى لأنه لا يخلو من قرأ «على بيّنة» أن يكون خالف السواد الأعظم أو يكون جاء به على لغة من قال: جاءني طلحة، فوقف بالتاء. وهذه لغة شاذّة قليلة.
بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً «إن» بمعنى «ما» فلذلك رفعت الفعل. بَعْضُهُمْ بَعْضاً «بعضهم» إِلَّا غُرُوراً أي إلّا غرورا بالباطل.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا «أن» في موضع نصب بمعنى كراهة أو يحمل على المعنى لأن المعنى إنّ الله يمنع السّموات والأرض من أن تزولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ قال الفراء: «٣» أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد من بعده و «أان» بمعنى «ما» قال: وهو مثل قوله تعالى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ [الروم: ٥١].
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤٢]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ قال أبو إسحاق: كانوا حلفوا واجتهدوا. قال أبو
(٢) انظر تيسير الداني ١٤٨.
(٣) انظر معاني الفراء ٢/ ٣٧٠.
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤٣]
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣)
اسْتِكْباراً مفعول من أجله أي تكبّرا عن الحقّ. وَمَكْرَ السَّيِّئِ معطوف عليه.
قال سعيد عن قتادة: أي ومكر الشرك. قال أبو جعفر: أصل المكر السّيّئ في اللغة الكذب والخديعة بالباطل. وقرأ الأعمش وحمزة ومكر السّيئ ولا يحق المكر السيّئ إلا بأهله «١» فحذف الإعراب من الأول وأثبته في الثاني. قال أبو إسحاق: وهو لحن لا يجوز. قال أبو جعفر: وإنما صار لحنا لأنه حذف الإعراب منه، وزعم محمد بن يزيد: أن هذا لا يجوز في كلام ولا شعر، لأن حركات الإعراب لا يجوز حذفها لأنها دخلت للفروق بين المعاني. وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحلّه يقرأ بهذا، وقال: إنما كان يقف عليه فغلط من ادّعى عنه قال: والدليل على هذا أنه تمام الكلام، وإن الثاني لمّا لم يكن تمام الكلام أعربه، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين. وقد احتجّ بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه، وأنه أنشد هو وغيره: [الرجز] ٣٥٥-
إذا اعوججن قلت صاحب قوّم | بالدوّ أمثال السّفين العوّم «٢» |
فاليوم أشرب غير مستحقب | إثما من الله ولا واغل «٣» |
إذا اعوججن قلت صاح قوّم «٤»
وأنه أنشده «فاليوم فاشرب» بالفاء. فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي إنما ينظرون العقاب الذي نزل بالكفار الأولين فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا أي أجرى الله جلّ وعزّ العذاب على الكفار، وجعل ذلك سنّة فيهم فهو يعذب بمثله من
(٢) مرّ الشاهد رقم (٢٢).
(٣) مرّ الشاهد رقم (٢١٢).
(٤) مرّ الشاهد رقم (٢٢). [.....]
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤٤]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤)
قال أبو إسحاق: لِيُعْجِزَهُ لتفوته...
[سورة فاطر (٣٥) : آية ٤٥]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا مهموز لأن العرب تقول: أخذت فلانا بكذا وكذا، ولا يقال: وأخذت، ولكن إن خفّفت الهمزة في يؤاخذ جاز فقلت يؤاخذ تقلبها واوا. فإن قال قائل: فلم لا يقلبها ألفا وهي مفتوحة؟ قلت: هذا محال لأن الألف لا يكون ما قبلها أبدا إلا مفتوحا. عَلى ظَهْرِها يعود على الأرض وقد تقدّم ذكرها.
فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً لا يجوز أن يكون العامل في إذا بصيرا، كما لا يجوز: اليوم أنّ زيدا خارج، ولكن العامل فيها جاء لشبهها بحروف المجازاة، وقد يجازى بها، كما قال: [الطويل] ٣٥٨-
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها | خطانا إلى أعدائنا فنضارب «١» |