تفسير سورة المؤمنون

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة المؤمنون من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

أفلح المؤمنون : ظفروا وفازوا.
في هذه الآية الكريمة والآيات التي بعدها صورةٌ للمؤمن الحقيقي، وهو الذي يجمع هذه الخصالَ السبع الحميدة.
لقد فاز المؤمنون.
خاشعون : خاضعون، أقبلوا بقلوبهم على صلاتهم.
الّذين هم خاضعون في صلاتهم مقبلين عليها بقلوبهم.
اللغو : ما لا فائدة فيه من الكلام.
والذين هم معرِضون عما لا يفيد من الكلام.
الزكاة : إخراج شيء من المال. وأصل الزكاة : التزكية وطهارة النفس.
والذين يؤدون الزكاة، ذلك الركن الاسلامي العظيم الذي يؤدي الى توثيق الروابط الاجتماعية بين المسلمين، وإشعار كل فرد منهم بأنه مسؤول عن أخيه ومجتمعه، والزكاة من أكبر الأهداف الاقتصادية التي تقضي على الفقر أينما حل.
والذين يحافظون على أنفسِهم من أن تكونَ لهم علاقةٌ محرّمة بالنساء، إذ أن الزنا من الأمور التي حرّمها الاسلام تحريماً قاطعا، لما فيه من الآثار الاجتماعية السيّئة التي
لا يشك فيها عاقل، وما له من عواقب وخيمة من الناحية الصحية لما ينقله من الأمراض، وما يؤدي إليه من اختلاط الانساب.
أو ما ملكت أيمانهم : من الجواري، وهذا لم يعد موجدا.
والله تعالى أباح لنا الزواج أو مِلْكَ اليمين من الإماء فقال :
﴿ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾.
فمن ابتغى وراء ذلك : فمن طلب غير.
العادون : الذين يتجاوزون الحدود.
فمن طلب ما بعد ذلك مما حرّم الله فهو متعدٍّ للحدود المشروعة، وبذلك يكون مؤاخَذاً ومذنباً يستحق العقاب.
راعون : حافظون.
من صفات المؤمن مراعاةُ الأمانة وحفظُها وأداؤها، وحفظُ العهود التي بينه وبين الله، أو بينه وبين الناس، فالمؤمنون لا يخونون الأماناتِ، ولا ينقضون العهود.
قراءات :
قرأ ابن كثير وحده : لأمانتهم، والباقون : لأماناتهم بالجمع.
قد كرر ذِكر الصلاة والمحافظة عليها لما لها من أهمية في حياة المؤمنين، وذلك لتعظيم شأنها، وإشارةً إلى أنها أَولى بالعناية فهي مصدر جميع الكمالات النفسية، إذ بها يستمدّ الإنسان من الله روحاً عالية، وتكون له نوراً فياضا.... فمن خشع فيها وحافظ عليها كان جديراً بأن يتّصف بجميع الصفات السامية التي تقدمت.
وقد افتتح الله هذه الصفاتِ الحميدةَ بالصلاة واختتمها بالصلاة، دلالةً على عظيم فضلها، وكبير مناقبها. وقد ورد في الحديث « اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوءِ إلا مؤمن ».
وقراءات :
قرأ حمزة والكسائي : على صلاتهم، ولاباقون : على صلواتهم بالجمع.
وماذا ينتظر من اتصف بهذه الصفات ؟
إن من تحلّى بهذه الصفات يجازيه الله بالجنة.
يتفضل الله عليهم بالفردوس، أعلى مكانٍ في الجنة، يتمتعون فيها أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون. وتلك غاية الفلاح الذي كتبه الله للمؤمنين، وليس بعدَها من غاية تمتد إليها عين أو خيال.
سُلالة : الخلاصة، ما انتزع من الشيء، النسل.
ولقد حلَفْنا أصلَ هذا النوع الانساني من خلاصة الطين.
نطفة : القطرة من الماء، المني.
قرار مكين : محل استقرار حصين.
ثم جعلنا نسله في أصلاب الآباء، ثم قُذفت في الأرحام نُطفة فصارت في حِرز حصين من وقتِ الحمل الى حين الولادة.
علَقة : دما متجمدا.
مضغة : قطعة لحم بقدر ما يمضغ الانسان.
ثم حوّلنا النطفةَ من صفتِها الثانية الى صفةِ العَلَقة وهي الدم الجامد. ثم جعلنا ذلك الدم الجامد مضغةً، أي قطعة من اللحم بمقدار ما يُمضغ. ثم صيرناها هيكلاً عظيماً، ثم كسونا العظام باللحم.
ثم أتممنا خلْقه فصار في النهاية بعد نفخِ الروح فيه خَلْقاً مغايراً لمبدأ تكوينه، ﴿ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين ﴾.
قراءات :
قرأ ابن عامر وابو بكر : فخلقْنا المضغةَ عظما، فكسونا العظم لحما، بالافراد،
والباقون : عظاما بالجمع.
ثم إنكم يا بني آدم، بعد النشأة الأولى من العدَم تصيرون الى الموت، فالموتُ نهاية الحياة الأرضية، وبرزخ ما بين الدنيا والآخرة، وهو إذنْ طورٌ من أطوار النشأة الانسانية، وليس نهايةَ الأطوار.
ثم بعد ذلك تُبعثون يوم القيامة، فالبعثُ هو المؤذِن بالطَّور الأخير من تلك النشأة وبعده تبدأ الحياةُ الكاملة.
سبع طرائق : سبع سماوات.
لفظُ العدد في القرآن لا يدلّ على الحصر، فقد يكون هناك مليون سماء. وقد ثبتَ الآن في علم الفلك أن هناك عدداً من المجموعات من السُّدُوم والنجوم في هذا الكون الواسع
لا نستطيع الوصولَ إليها حتى رؤيتَها على كل ما لدينا من وسائل. فقد يكون المعنيُّ هو المجموعاتِ السماويةَ التي لا حصر لها، وقد يكشف العِلم عنها في المستقبل.
وقد خلقنا هذا الخلقَ كله، ونحن لا نغفل عن جميع المخلوقات، بل نحفظها كلَّها من الاختلال، وندّبر كلّ أمورها بالحكمة.
بقدَر : بمقدار معلوم.
فأسكناه في الأرض : جعلناه ثابتا فيها.
على ذهاب به : على إزالته وإعدامه.
وأنزلنا من السماء ماءً موزَّعا بتقديرٍ لائق حكيم، لاستجلاب المنافع ودفعِ المضارَ، وتكفي لسقي الزروع وللشرب، ولحدوث التوازن الحراري المناسب في هذا الكوكب. كما أن المياه أنزلت على الأرض بقَدَرٍ معلوم، لا يزيد فيغطي كلَّ سطحِها، ولا يقلّ فيقصّرُ دون ريّ الجزء البريّ منها.
وإنا لقادرون على إزالته ونفي إمكانكم الانتفاعَ به، ولكنّنا لن نفعل رحمةً بكم. وهذا من فضلِ الله على الناس ونعمته.
وشجرة تخرج من طور سيناء : الشجرة هي الزيتونة. طور سيناء : هو الجبل الذي ناجى فيه موسى ربه، وهو معروف الآن باسم جبل الطور في سيناء، ويسمى طور سينين.
الصبغ : ما يؤتدم به الأكل، وهو الزيت يؤكل مع الخبز، ويستعمل في كثير من الطعام. وكان في الزمن الماضي يستعمل للإنارة، وكان زيت الزيتون هو بترول العالم في الزمن القديم، ولا يزال محتفظا بقيمته.
ثم يبين أن الحياة تنشأ من الماء فيقول :
فأخرجْنا لكم بما أنزلنا من الماء بساتينَ وحدائقَ فيها نخيلٌ وأعناب وفواكهُ كثيرة تتمتعون بها زيادة على ثمرات النخيل والأعناب. ومن زروع هذه الجنّات وثمارِها تأكلون، وتحصِّلون معايشكم.
ثم خصَّ شجرةَ الزيتون بالذكر لما لها من المنافع والقدر الكبير فقال :
﴿ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ ﴾
وخلقنا لكم شجرة الزيتون التي تنبت في منطقة طورِ سيناء، وهي من أكثر الشجَر فائدةً بزيتها وزيتونها وخشَبها، وفيها طعامٌ للناس.
والزيتونة تعمر طويلاً، لا تحتاج إلى خدمة كثيرة، وهي دائمة الخضرة. ويعتبر الزيتون مادة غذائية جيدة، فيه نسبةٌ كبيرة من البروتين، بالإضافة الى عدة موادّ هامة وأساسية في غذاء الانسان. وزيتُ الزيتون من أهم أنواع الدهون، وهو يُستعمل في كثير من أنواع الطعام، لأنه يفيدُ الجهاز الهضمي عامة، والكبدَ خاصة. وهو يفضُل جميع أنواع الدهون النباتية والحيوانية، ويُستعمل في كثير من الأدوية والمنظِّفات مثل الصابون والصناعات الغذائية.
وفي الحديث الشريف :« كلوا الزيتَ وادّهنوا به فإنه من شجرةٍ مباركة » رواه احمد والترمذي وابن ماجه عن سدينا عمر بن الخطاب، والحاكمُ عن أبي هريرة.
وبعد أن بَين لنا فوائد النبات انتقل الى عالم الحيوان، وكل هذه المخلوقات إنّما نشأت من الماء.
قراءات :
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو : سيناء بكسر السين، والباقون : سيناء بفتح السين وهما لغتان. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو :« تنبت » بضم التاء وكسر الباء. والباقون : تنبت بفتح التاء وضم الباء.
وإن لكم في خلْق الأنعام لخِدمتكم لعبرةً لمن ينظر إليها بقلبٍ مفتوح وحسن بَصيرة.
فهذه الإبلُ والبقر والغنم نسقيكم لبناً منها خالصاً سائغاً للشاربين، ولكم فيها منافعُ في أصوافها وأوبارِها وأشعارها.
ثم يخصِّص منها منفعتين كبيرتين مهمّتين فيقول :
﴿ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ ﴾
فكما أنكم تنتفعون بألبانها وأوبارها وأشعارِها، كذلك تأكلون من لُحومها.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو : نسقيكم بفتح النون، والباقون : نسقيكم بضمها. وهما لغتان سَقى وأسقى.
وتُحمَلون عليها وعلى الفلك التي تجري في البحر. وقد ذكر الفلكَ هنا لأنه يجري على الماء الذي تفضّل الله علينا به.
وكل هذه من دلائل الإيمان الكونية، لمن يتدبرها تدبُّرَ الفهم والإدراك.
بعد أن عدّد سبحانه ما أنعم به على عباده في نشأتهم الأولى، وفي خلْق الماء لهم لينتفعوا به، وإنشاء النبات وما فيه من الثمرات، وفي خلق الحيوان وما فيه من المنافع للانسان، ذكَر هنا أن كثيراً من الأمم قد أهملوا التدبر والاعتبار في هذا، فكفروا بهذه النعم، وجهلوا قدر المنعم بها، وعبدوا غيره، وكذّبوا رسلَه الذين أُرسِلوا اليهم... فأهلكهم الله بعذاب من عنده. وفي هذا إنذارٌ وتخويف لكل من ينحرف ويكذّب ويعبد غير الله.
وقد مرّت قصةُ نوح في سورة هود بتفصيلٍ أوسعَ في الآيات ٢٥ الى ٤٩ ومر شرحها فلا داعي لتكرار ذلك، وإنما أذكر موجَزا لبحثِ قيّم أورده الدكتور موريس بوكاي في كتابه « التوراة والإنجيل والقرآن والعلم » إذ يقول ما ملخصه :
« الاصحاحات ٦، ٧، ٨، من سفر التكوين مكرسةٌ لرواية الطوفان، ويشكل أدقّ روايتين غير موضوعيتين جنبا الى جنب.... والحقيقة أن في هذه الاصحاحات الثلاثة تناقضاتٍ صارخة. وتقول الرواية : إن الارض تغطّت حتى قمم الجبال وأعلى منها بالماء، وتدمَّرت الحياة كلها، وبعد سنةٍ خرجَ نوح من السفينة التي رست على جبلِ أراراط بعد الانحسار.
وتقول الرواية اليهودية إن مدة الطوفان أربعون يوما، وتقول الرواية الكهنوتية إن المدة مئةً وخمسون يوماً.
ومعنى هذا أن البشريَّة قد أعادت تكوينها ابتداءً من أولاد نوح وزوجاتهم....
إن المعطيات التاريخية تثبت استحالَة اتفاق هذه الرواية مع المعارفِ الحديثة. فإذا كان الطوفان قد حدث قبل ثلاثة قرون من زمن إبراهيم، كما يوحي بذلك نصُّ سِفر التكوين في الأنساب، فإن الطوفان يكون قد وقع في القرن ٢١ أو ٢٢ قبل الميلاد.
وفي العصر الحديث لا يمكن تصديق هذا التاريخ، إذ من المعلوم بأن حضاراتٍ متقدمةً بقيت آثارها خالدة قد نمت في هذه الفترة في بلاد ما بين النهرين وفي مصر. فكيف يكون الطوفان قد عمّ الأرضَ جميعها ! ! فالنصوص التوراتية إذنْ في تعارضٍ صريح مع المعارف الحديث.
وإن وجود روايتين لنفس الحدَث، هذا بالاضافة الى التضارب الذي تحويانه، يوضح بصورةٍ قطعية أن ايدي البشَر قد حوّرت الكتب التوراتية.
أما القرآن الكريم فإن رواية الطوفان فيه كما يبسطها تختلف تماماً عن رواية التوراة، ولا تثير أيّ نقدٍ من وجهة النظر التاريخية. وذلك لأسباب بسيطة جداً، فالقرآن لا يحدد الطوفان بزمان، ولا يذكر كارثةً حلّت بالأرض قاطبة، ولكنه يذكر عقاباً سُلِّط على قومِ نوح دون سواهم، وهذا يدل دلالةً قاطعة على أن القرأن أُنزل بوحي من عند الله ».
الملأ : زعماء القوم.
يتفضل عليكم : يدعي الفضل والسيادة.
به جِنة : مجنون.
فتربصوا : فانتظِروا.
بأعيينا : بحفظنا ورعايتنا.
فار التنور : نبع منه الماء بقوة، والتنور : فرن خاص يخبز فيه.
فاسلك : فادخل.
قراءات :
قرأ حفص عن عاصم : من كلِ زوجين اثنين بتنوين كل. والباقون : من كل زوجين بالاضافة.
استويت : استقررت على الفلك.
لمبتلين : لمختبرين.
قراءات :
قرأ أبو بكر : منزلا بفتح الميم وكسر الزاي، والباقون : منزلا بضم الميم وفتح الزاي.
القرن : الأمة، أهل العصر الواحد، والمراد بهم هنا عاد، قوم هود، لقوله تعالى في سورة الأعراف :﴿ واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ﴾.
ثم أوجدنا من بعد مَهْلَكِ قوم نوحٍ قوماً آخرين هم قومُ عاد.
فأرسلْنا فيهم رسولاً منهم هو هود، وقد تقدم الكلام عليهم في سورة هود من الآية ٥٠ الى ٦٥، فقال لهم الرسول : اعبُدوا الله لا إله إلا هو، أفلا تخافون عذابه ؟
أترفناهم : وسّعنا عليهم الرزق وجعلناهم في ترف ونعيم.
فقال زعماء قومه من الذين كفروا وكذّبوا بالحياة الآخرة، وقد وسَّعنا عليهم الرزقَ في هذه الحياة : ما هذا إلا بشر مثلكم.
لخاسرون : مغبنون.
ولئن أطعتُم بشَرا مثلكم إذنْ أنتم خاسرون.
وهذا يَعِدكم أنكم إذا متُّم وصِرتم تراباً وعظاماً بالية أنكم بعد ذلك لَمبعثون من جديدٍ، ومحاسَبون على ما قدّمتم من اعمال.
هيهات : بَعُد ما توعدون وهو البعث والحساب.
وذلك غير معقول، هيهاتَ هيهاتَ لِما توعَدون.
ليس هناك الا حياة واحدة هي هذه الحياة الدنيا التي نجد فيها الموت والحياة، ولن نُبعث بعد الموت أبدا.
وما صاحبكم هذا إلا رجلٌ كذب على الله، وادّعى أنه أرسله، وكذَب فيما يدعو اليه، ولن نصدّقه أبدا.
قال هود بعد ما يئس من إيمانهم : ربّ انصُرني عليهم وانتقمْ منهم، بسبب تكذيبهم لدعوتي.
ليصبحن : ليصيرن.
قال الله له مؤكدا وعده : سيندمون بعد قليلٍ على ما فعلوا عندما يحلُّ بهم العذاب.
الصيحة : العذاب.
غثاء : هو ما يحمله السيل من الأشياء التافهة التي لا يُنتفع بها.
بعدا : هلاكا.
فأخذتْهم صيحةٌ شديدة أهلكتهم، وجعلناهم كالغُثاء الذي يجرُفُه السيِّل، فبُعداً للقوم الظالمين.
ثم خلقنا من بعدهم أقواماً غيرهم، كقومِ صالحٍ ولوطٍ وشُعيب.
ولكل أمةٍ زمنُها ووقتُها المعيّن، لا تتقدم عنه ولا تتأخر، وكذلك لا تهلك أمةٌ قبل مجيء أجلِها ولا بعده.
تترى : متتابعين، تواترت الأشياء تتابعت مع فترات، واتر الشيء : تابعه.
وجعلناهم أحاديث : يتحدث الناس بما جرى عليهم.
ثم أرسلْنا رسُلَنا متتابعين، كلاَّ الى قومه، وكلّما جاء رسول قومَه كذّبوه في دعوته، فأهلكناهم متتابعين، وجعلنا أخبارَهم أحاديثَ يردّدها الناس ويعجبون منها. ومثلُ هذه الآية قوله تعالى :﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ [ سبأ : ١٩ ]. فبعداً لهم عن الرحمة، وهلاكاً لقومٍ لا يؤمنون.
بآياتنا : هي الآيات التسع التي سبقت في سورة الأعراف.
وسلطان مبين : حجة واضحة.
ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بعد الرسُل الذين تقدّم ذِكرُهم.
عالين : متكبرين.
الى فرعون وقومِه، فامتنعوا وتكبروا ولم يؤمنوا.
وقالوا في تعجُّب وإنكار : أنؤمن بدعوةِ رجلَين من البشر مثلنا، وقومُهما لنا خاضعون وخادمون لنا كالعبيد ! !
فكذّبوهما في دعوتهما فكانوا من الملهَكِين بالغَرَق.
ولقد أوحينا إلى موسى بالتوراة، ليهتديَ قومُه بما فيها من أحكام وإرشادات لعلَّهم يهتدون
ربوة ذات قرار معين : الربوة : المرتفع من الأرض، ذات قرار : مستوية يستقر عليها الناس. معين : ماء. وهي القدس.
وجعلنا عيسى بنَ مريم وأُمّه : في حملها به من غير أن يمسها بشر، وفي ولادته من غير أبٍ، دلالةً قاطعةٌ على قدرتنا البالغة، وأنزلناهما في أرضٍ طيبة مرتفعة يجدان فيها الرعاية والإيواء.
ففي كل هذه الآيات إجمالٌ وتلخيص لتاريخ الدعوة، يقرر سُنة الله الجارية، في أمدها الطويل بين نوح وهود وموسى وعيسى، كل قرن يستوفي أجَله ويمضي.
هذا نداء لجميع الرسُل في كل زمان ومكان، أن يأكلوا من الحلال الطيب، وأن يعملوا في هذه الدنيا ويعمُروها، فالعملُ من مقتضيات البشرية. فالرسُل كلُّهم يتلقَّون من عند الله لا فرقَ بين أحدٍ منهم والآخر.
وهذا النداء، وإن كان موجَّهاً الى الرسُل والأنبياء فإنه أيضاً لأممهم جميعاً. فهو نداء لجميع الناس في جميع الأقطار أن يأكلوا من الحلال الطيب، وأن يعمروا هذه الأرض، بالأعمال الصالحة. ثم قال في ختام الآية :﴿ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ لا يخفى عليَّ شيء منها. وأنا مجازيكم على ما تعملون.
أُمتكم : ملّتكم وشريعتكم.
يقرر الله تعالى في هذه الآية وَحدةَ الأديان، وأنها كلّها من عنده، غايتها واحدة، هي الدعوةُ إلى عبادة الله وحده لا شريكَ له، والعملُ على إحياء هذه الأرض. والجدّ والكدّ في سبيل الأمة وتماسكها ووحدتها.
قراءات :
قرأ اهل الكوفة : وإِنَّ أمتكم بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر : وإن بكسر الهمزة وسكون النون. والباقون : وأن بفتح الهمزة وتشديد النون.
فتقطعوا : تفرقوا وتمزقوا.
زُبُرا : قطعا وجماعات واحدها زُبْرة.
وفي هذا دليل كبير على وَحدة الدين، وأن الأديان جميعَها من عند الله، لكن الأمم اختلفت وخالف الناسُ رسُلَهم واتبعوا اهواءهم فبدّلوا وغيّروا وتفرقوا شِيعاً واحزاباً، كما قال :﴿ فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾.
فتفرّق أتباع الرسُل والأنبياء فِرقاً وأحزابا، وأصبح كلّ فريقٍ معجَباً بنفسه، فرِحاً بما عنده، معتقدا أنه على الحق وحده. فبعد أن كان الرسل أمةً واحدة ذاتَ كلمة واحدة وعبادة واحدة تفَرّق الناس من بعدِهم شيعاً وأحزابا لا تلتقي على منهج ولا طريق.
فذرهم : دعهم واتركهم.
في غمرتهم : في جهلهم، وأصل الغمرة الماءُ الذي يغمر القامة ويسترها.
حتى حين : الى ان يموتوا فيستحقوا العذاب.
الخطابُ للنبيّ الكريم عليه صلواتُ الله وسلامه، فاترك الكافرين يا محمد، في جَهالتهم وغفلتِهم ما دمتَ قد أدَّيتَ رسالتك، حتى يقضيَ الله فيهم فيفاجئهم المصيرُ حينَ يجيء موعده المحتوم.
ثم بين خطأهم فيما يظنون من أن سعةَ الرزق في الدنيا علامةُ رضا الله عنهم في الآخرة فقال :
﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾.
أيظن هؤلاء المغرورون أن المقصود مما نعطيهم من الأموال والأولاد والرزقِ الواسع هو المسارعةُ بالخيرات لهم ! إنما هي فتنةٌ لهم وابتلاء.
إنهم لا يشعرون أنني غيرُ راضٍ عنهم، ولا أن هذه النعم استدراجٌ منّي لهم، ثم وراءها المصيرُ المظلم.
من خشية ربهم : خوف ربهم.
مشفقون : خائفون، يقال أشفق منه خاف منه، وأشفق عليه عطف عليه.
في هذه الآيات يُبرز الله تعالى الصورةَ الحسَنةَ للمؤمنين، بعد أن بين صورةَ الغَفلة والغمرة في القلوب الضالّة.
إن هؤلاء المؤمنين يُشفِقون من ربّهم خشيةً وتقوى.
وهم يؤمنون بآياتِ ربّهم الكونية التي نَصبَهَا في الأنفس والآفاق دلالةً على وجوده وواحدنيته.
ولا يشرِكون به. وهم يؤدون واجباتِهم ويقومون بالتكاليف خير قيام، ويأتون من الطاعاتِ ما استطاعوا.
وجلة : خائفة.
والذين يعطون مِمَّا أُعطوا، ويتصدقون بما تصدَّقوا، وقلوبُهم خائفة ألا يُتَقَبَّل ذلك منهم، لأنهم راجعون الى ربهم ومحاسَبون.
سابقون : ظافرون بنيلها.
أولئك الذين جمعوا هذه المحاسنَ يرغبون في الطاعاتِ أشدَّ الرغبة، وهم الذين يسبقون لها فينالون الخيرات.
الوسع : القدرة والطاقة.
كتاب : هو صحائف الأعمال.
هنا يتكرّم الله علينا بأنّ ما كلَّفنا به سهلٌ يسيرٌ لا يخرجُ عن حدِّ القدرة والطاقة، وأنه مهما قلَّ محفوظٌ عنده في كتاب يَنطقُ بالحق، ولا يَظلم الله أحداً من خلقه بزيادة عقاب
أو نقص ثواب.
الغمرة : الجهالة والغفلة.
من دون ذلك : من غير ذلك.
بعد أن ذكَر الله تعالىسماحةَ هذا الدين، وأنه لا يكلِّف أحداً إلا بما يُطيق، وأن كل عملٍ يعمله الإنسانُ مسجّل عليه في كتاب محفوظ، ثم بين صفات المؤمنين من الإيمان بالله، والمسارعة الى الخيرات، وما ينتظرهم من الجزاء يوم القيامة، بيّن هنا أن المشرِكين بسبب عنادِهم وغيِّهم في غفلةٍ عن كل هذا، ولهم أعمالُ سوءٍ أخرى من فنون الكفر أو الطعن في القرآن والرسول الكريم.
المترف : صاحب النعمة الكثيرة الذي يستعملها في غير موضعها.
يجأرون : يصيحون.
فإذا حلّ بهم بأسُنا وأوقعنا العذابَ بالأغنياء المترفين يومَ القيامة صاحوا واستغاثوا.
فنقول لهم : لا تصرخوا ولا تستغيثوا، فلن ينصركم أحدٌ من عذابنا ولن تجِدوا من يُغيثكم في هذا اليوم العظيم. والتعبير بإذا للشيء المحقق، وإنْ للشك.
تنكصون : تدْبرون وتعرِضون عن سماعها، وأصل النكوص : الرجوع الى الخلق.
إن هذا الصراخَ لن يفيدكم لأنكم فَرَّطتم في الدنيا، وقد جاءتكم الآياتُ والنذُر على لسان رسُلي فلم تستمعوا لها، وكنتم تُعرِضون عنها ولا تسمعون لها.
سامرا تهجرون : تسمرون بالليل بالكلام القبيح والطعن في القرآن.
كنتم في إعراضِكم وتولّيكم عن آياتي متكبرين، وتسمرون حول الحَرَم وتتناولون القرآنَ والرسولَ الكريم بهُجْرِ القولِ وقبيح الألفاظِ والطعن في الدين.
ثم أَنّبهم على ما فعلوا، وبيّن أن إقدامهم عليه لا بدّ أن يكون لأحدِ أسباب فقال :
﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين ﴾
١ - أجهِلَ هؤلاء المعرِضون فلم يتدبروا القرآنَ ليعلموا أنه حق، وما يحتوي عليه من تشريع وتهذيب للنفوس، وما فيه من فضائلَ وآدابٍ وأخلاق.
٢ - أم كانت دعوةُ محمد صلى الله عليه وسلم غريبةً عن الدعوات التي جاءت بها الرسلُ الكرام الى الأقوام السابقين.
أم لم يعرفوا رسولَهم محمداً عليه الصلاة والسلام الذي نشأ بينهم، وما كان يتحلّى به من صدقٍ وأمانة ( وكانوا يسمونه : الأمين ) فهم ينكِرون دَعْوته حسداً منهم وعنادا.
به جنة : مجنون.
الحق : من الالفاظ المشتركة لها عدة معان. فالحق هو الله، والحق : هو القرآن، والحق : الدين كله بما فيه القرآن، والمراد به هنا : الله.
أم يقولون : إنه مجنون ؟ فلايدري ما يقول، وهم أعلم الناس به !
وبعد أن عدّد سبحانه هذه الوجوه، ونبه الى فسادها، بين وجه الحقّ في عدم إيمانهم فقال :﴿ بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾.
كلا : إنه جاءهم بالدين الحق، لكن أكثرهم كارهون للحق، لأنه يخالف شهواتِهم وأهواءهم فهم لا يؤمنون به، وذلك لأنه يسلبُهم زعاماتهم والقيم الباطلةَ التي يعيشون بها فالدفاع عن مصالحهم هو الذي يتستّرون فيه. ومثل هؤلاء كثيرون في الوقت الحاضر يتخذون الدين ستاراً لزعاماتهم ومنافعهم.
أتيناهم بذكرهم : بالقرآن الذين هو فخرهم.
فهم عن ذكرهم معرضون : فهم معرضون عن فخرجهم.
ثم بين الله أن اتّباع الهوى يؤدي الى الفساد الكبير فقال :
﴿ وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ ﴾
ولو أن الله تعالى سايَرَ هؤلاءِ فيما يشتهونه ويقترحونه، لفسَدَ هذا النظامُ العظيم الذي نراه في السموات والأرض، واختلّ نظام الكون، وساد الظلمُ والفساد في الخلائق، ولكنّ الله ذو حكمةٍ عالية، وقدرة نافذة.
وبعد أن أنْبهم على كراهتهم للحق، ذكر أنهم أعرضوا عن أعظم خيرٍ جاءهم فقال :
﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ ﴾.
بل جئناهم بالقرآن الذي فيه فخرُهم وشرفُهم، وهم مع ذلك معرِضون عن هذا الخيرِ العميم، والشرف العظيم، وكان قال تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٤ ].
وهذا هو القول الحقّ، فإن العربَ قبل الإسلام لم تكن أمة متحدة، ولم يكن لها ذكر في التاريخ حتى جاءها الاسلام، فأصبحتْ بفضله تُذكر في الشرق والغرب، وظل ذِكرُها يدوّي في العالم قرونا طويلة. ولما تركت وحدتها ودينها وأعرضت عنه تضاءل ذِكرها وخبا نورها، ولن يقوم لها ذكر إلا برجوعها الى الاسلام، والأخذ بالعلم، ووحدة الصف.
الخروج والخراج : الجعل والأجر.
إنك أيها الرسول لا تسألهم أجراً على أداء رسالتك، إن أجرَ ربك لك خيرٌ مما عندَهم، وهو خير الرازقين.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم :« أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير » كما هو في المصحف، وقرأ حمزة والكسائي :« أم تسألهم خراجا فخراج ربك » وقرأ ابن عامر « أم تسأهلم خرجا فخرج ربك خير ».
وأنت يا محمد، على الحق الذي لا معدلِ عنه، وتدعو هؤلاء المشركين الى الدين القيّم الموصلِ الى السعادة الأبدية.
ناكبون : زائغون، عادلون عن الرشاد.
إن الذين لا يصدّقون بك، ولا يؤمنون بالبعثِ بعد الموت، وبقيام الساعة، لَزائغون عن الحق، ومائلون عن النّهج القويم، وضالّون عن الطريق المستقيم.
للجّوا : لتمادوا فيه.
يعمهون : يتحيرون، يترددون في الضلال.
لقد بلغوا في التمرّد والعناد حداً لا يُرجى معه صلاحهم، فلو رحمناهم وأزلنا عنهم
ما نزل بهم من ضرر في أبدانهم وقحطٍ في أموالهم، لزادوا كفراً في طغيانهم يتردَّون في الضلال.
استكانوا : خضعوا وذلوا.
ولقد عذّبناهم بأنواع كثيرة من العذاب منها قتلُ زعمائهم يوم بدر، والقحطُ الذي أصابهم وغير ذلك، فما خضعوا لربهم وما تضرعوا، بل أقاموا على عُتُوّهم واستكبارهم.... لم ينفع معهم الإنذارُ ولا التحذير.
مبلسون : آيسون من كل خير.
ثم بين الله عاقبة أمرِهم وما يكون من حالهم إذا جاءت الساعة فقال :
﴿ حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ﴾
حتى إذا جاء أمر الله، وجاءتهم الساعةُ ووقفوا بين يدي الله، وأخذَهم من العذاب ما لم يكونوا يحتسبون، أيِسوا من كل خير وانقطعت آمالهم وخاب رجاؤهم.
أنشأ : خلق.
ثم يبين الله تعالى بعض ما أنعمَ على خلقه لعلّهم يتذكرون : كيف تكفرون بالله وهو الذي أنشأ لكم السمعَ لتسمعوا الحق ! والأبصارَ لتروا الكون وما فيه من عجائب ! والعقولَ لتدركوا عظمته فتؤمنوا به ! ومع كل هذه النعم فإنكم لم تشكروها ولم تؤدوا واجبها.
ذرأكم في الأرض : خلقكم وبثكم فيها.
وهو الذي خلقكم وبثّكم في هذه الأرض تستثمِرون خيراتِها، وإليه وحدَه تُحشرون يوم القيامة.
وهو الذي يحيي ويميت، وبأمره وقوانينه يتعاقبُ الليلُ والنهار طولا وقصرا، فهل بعد كل هذه الدلائل، وهذه النعم تجحدون ! !
لم يعتبر المشركون بكل هذه الأدلّة الواضحة بل ولا تدبروا الحُجَج، بل قلّدوا أسلافَهم السابقين فقالوا مثل قولهم.
قالوا منكرين للبعث : أمنَ المعقول أن نُبعث بعد الموت، وبعد أن نصير تراباً وعظاما !
أساطير : أباطيل، والأحاديث العجيبة واحدها أسطورة، وأسطار، وأسطير.
لقد وُعِدْنا هذا الوعد، ووُعد آباؤنا من قبلنا بذلك، وما هذا الكلام إلا من أساطير الأمم السابقة، ليس له أصلٌ من الصحة.
في هذه الآية يجادل اللهُ المنكرين للبعث ويبين أخطاءهم :
قل أيها الرسول : من الذي يملك الأرضَ ومن عليها من الناس وسائر المخلوقات، إن كنتم تعلمون ؟
سيقولون لله. إنهم ولا شك سيقرّون بالحقيقة ويقولون المالك هو الله. قل لهم حين يعترفون : أفلا تتذكرن فتعلموا أن من قَدَرَ على خلقِ هذا الكون لهو قادرٌ على إحيائكم وبعثكم !
قراءات :
قرأ أبو عمرو : سيقولون الله. والباقون : سيقولون لله.
في هذه الآية يجادل اللهُ المنكرين للبعث ويبين أخطاءهم :
ثم قل لهم أيضا : من هو ربُّ السموات السبع ورب العرش العظيم ؟
سيقرون ويقولون الله. قل لهم : أتعلمون ذلك ولا تتقون عقاب ربكم ! !
قراءات :
قرأ أبو عمرو : سيقولون الله. والباقون : سيقولون لله.
الملكوت : الملك، والتدبير.
يُجير : يغيث. ولا يجار عليه : لا يعين أحدٌ منه أحدا.
في هذه الآية يجادل اللهُ المنكرين للبعث ويبين أخطاءهم :
بعد أن أقرّوا بأن هذا الكون جميعه مِلك له تعالى بيَّن لهم جلّ جلاله أن تدبير هذا الملك الواسع بيده، وأنه مالك كل شيء، فهو المدّبر لنظام العالم بأجمعه، له الحكم المطلق في كل شيء، وهو يحمي بقدَره من يشاء، ولا يمكن لأحد أن يجير أحداً من عذابه.
تُسحَرون : تخدعون عن الحق، لأن السحر تمويه وتخييل وخداع.
ثم أجاب عن هذا السؤال قبل أن يجيبوا فقال :
﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ ﴾.
إنهم سيقرون بالحقيقة ويقولون كل شيء لله، فقل لهم : إذنْ كيف تُخدعون وتُصْرَفون عن هذه الحقائق الثابتة، وتنصرفون عن طاعة الله ! !
قراءات :
قرأ أبو عمرو : سيقولون الله. والباقون : سيقولون لله.
ثم بعد كل هذه الاسئلة والمحاورة يجيء التقريرُ الفاصل بقوله تعالى :
﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ لقد أتيناهم بالدين الحقّ على لسان رسولنا، وهم كاذبون في إنكار ذلك، وفي كل ما يخالف هذا الحق.
من الحقِّ - الذي جاء به الرسولُ الكريم من عند ربه معلَناً للناس كافة - أن الله تعالى لم يلدْ ولم يولد ولم يتخذْ ولدا، ولم يشاركْهُ في الملك إله آخر، وبيّن ذلك بدليلين :
١ - إذا لذهبَ كل إلهٍ بما خلق. يستقل كل إله بما خلقه، يصرّفُه حسب ما يريد، فيصبح لكلّ جزءٍ من الكون، أو لكل فريقٍ من المخلوقات، قانون خاص، ويحصل التباين في نظام هذا الكون... وهذا غير واقعٍ، فنظام الكون منسَّق منتظم ﴿ مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ ﴾ [ الملك : ٣ ].
٢ - ولَعلا بعضُهم على بعض. ولحصَلَ خلافٌ كبير بين الإلهين، وقهر أحدُهم الآخر، وكل هذه الامور غير موجودة. على العكس فإن وحدةَ الكون ظاهرةٌ تشهد بوحدة مكوّنه، بوحدة خالقه، وكل شيء في هذا الكون يبدو متناسقاً منتظماً بلا تصادم ولا نزاع.
وبعد أن وضَح الحقّ وصار كفَلَقِ الصبح جاء بما هو كالنتيجة لذلك فقال :
﴿ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ ﴾، تنزه الله عما يقوله المشركون مما يخالف الحق.
الغيب : ما غاب عنا.
الشهادة : الحاضر الآن. ثم وصف نفسه بصفات الكمال فقال :
﴿ عَالِمِ الغيب والشهادة فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
هو العالم بما غاب عن خلقه من الشاء فلا يرونه ولا يشاهدونه، وبما يرونه ويعملونه، فليس لغيره من خلْقٍ يستقلّ به، فتنزه الله عما ينسبُه الكافرون إليه من وجود الشريك. قراءات :
قرأ ابن كثير وابو عمرو وابن عامر وحفص : عالمِ الغيب بالجر. والباقون : عالمُ الغيب بالرفع، على تقدير هو عالم الغيب.
ثم بعد أن يقرر هذه الحقائقَ يأمر رسولَه الكريم أن يتوجّه إليه، وأن لا يجعله قريناً لهؤلاء المشركين، وأن يستعيذَ به من الشياطين، فلا تثور نفسُه، ولا يضيق صدره بما يقولون ﴿ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين ﴾
قل : يا رب، إنْ عاقبتَهم وأنا أشاهدُ ذلك فإني أسألك أن لا تجعلني مع القوم الكافرين. والرسولُ عليه الصلاة والسلام في منجاةٍ من أن يجعلَه الله مع القوم الظالمين حين يحلُّ بهم العذاب، ولكن هذا تعليمٌ له وللمؤمنين أن لا يأمنوا مكر الظالمين، وأن يظلّوا أبداً أيقاظا، يلوذون بحمى الله.
روى الإمام أحمد والترمذي « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول :
« واذا أردتَ بقومٍ فتنةً فتوفَّني غيرَ مفتون ».
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٣:ثم بعد أن يقرر هذه الحقائقَ يأمر رسولَه الكريم أن يتوجّه إليه، وأن لا يجعله قريناً لهؤلاء المشركين، وأن يستعيذَ به من الشياطين، فلا تثور نفسُه، ولا يضيق صدره بما يقولون ﴿ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي القوم الظالمين ﴾
قل : يا رب، إنْ عاقبتَهم وأنا أشاهدُ ذلك فإني أسألك أن لا تجعلني مع القوم الكافرين. والرسولُ عليه الصلاة والسلام في منجاةٍ من أن يجعلَه الله مع القوم الظالمين حين يحلُّ بهم العذاب، ولكن هذا تعليمٌ له وللمؤمنين أن لا يأمنوا مكر الظالمين، وأن يظلّوا أبداً أيقاظا، يلوذون بحمى الله.
روى الإمام أحمد والترمذي « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول :
« واذا أردتَ بقومٍ فتنةً فتوفَّني غيرَ مفتون ».

إن الله قادرٌ على أن يحقّق ما وعدَ به الظالمين في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام. ولقد أراه بعضَ ما وعدهم في غزوة بدرٍ من قتلِ زعمائهم، وفي غزوة الفتح من النصر العظيم.
ثم أرشده الى ما يفعل بهم إذا لحِقه أذاهم، وهو أن يصبر حتى يأتي أمر الله :
﴿ ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾
استمر يا محمد، في دعوتك، وقابلْ إساءتهم بالتي هي أحسن، ومن العفو والصبر والتجاوز عن جهلهم... نحن أعلمُ بما يصفوننا به، وبما يصفون دعوتك من سوء وافتراء، وسنجازيهم عليه.
رُوي عن أنس رضي الله عنه :« يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه، فيقول له : إن كنتَ كاذباً فإني أسأل الله أن يغفر لك، وإن كنتَ صادقاً فإني أسأل الله أن يغفر لي ».
همزات الشياطين : وساوسهم.
ولمّا أدّب الله رسولَه الكريم بأن يدفع بالحسنى أرشده إلى ما يقوى به على ذلك من الاستعاذة من هَمزات الشياطين.
وقل أيها الرسول : يا رب، إني ألتجيء اليك من أثر وساوسِ الشياطين،
وأن يبعثوا إليَّ أعداءك لإيذائي، وأن يكونوا بعيدين عني في جميع أعمالي، ليكون عملي خالصاً لوجهك الكريم.
أخرج الامام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمور بن شعيب عن ابيه عن جده قال :
« كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا كلماتٍ نقولها عند العزم خوف الفزع : بسم الله، أعوذ بكلماتِ الله التامة من غضبه وعقابه وشرِّ عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ».
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٧:همزات الشياطين : وساوسهم.
ولمّا أدّب الله رسولَه الكريم بأن يدفع بالحسنى أرشده إلى ما يقوى به على ذلك من الاستعاذة من هَمزات الشياطين.
وقل أيها الرسول : يا رب، إني ألتجيء اليك من أثر وساوسِ الشياطين،
وأن يبعثوا إليَّ أعداءك لإيذائي، وأن يكونوا بعيدين عني في جميع أعمالي، ليكون عملي خالصاً لوجهك الكريم.
أخرج الامام أحمد وأبو داود والترمذي عن عمور بن شعيب عن ابيه عن جده قال :
« كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا كلماتٍ نقولها عند العزم خوف الفزع : بسم الله، أعوذ بكلماتِ الله التامة من غضبه وعقابه وشرِّ عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ».

ثم أخبر عما يقوله الكافرون حين قُربِ الوفاة، ومعاينة المصير من سؤال الرَّجعة إلى الدنيا ليُصلحوا ما كانوا أفسدوا حالَ حياتهم فقال :
﴿ حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون ﴾
سوف يستمر هؤلاء المعاندون على كفرهم، حتى إذا حلّ موعد موتِ أحدهم، ورأى مصيره ندم وقال : يا رب، ردَّني إلى الدنيا،
من ورائهم : من أمامهم.
برزخ : حاجز.
لأعملَ عملاً صالحا فيما قصرّت فيه من عبادتك، وما تركت من مالي. ولكن هيهات، فقد فات الأوان، ولن يجاب الى طلبه، وإنما هو كلام يقوله دون فائدة. إن أمامهم حاجزاً بينهم وبين الرجوع الى الدنيا.
الصور : بوق ينفخ فيه.
لا يتساءلون : لا يسأل بعضهم بعضا، كل واحد مشغول بنفسه.
اذا جاء موعد البعث دعوناهم الى الخروج من قبورهم بالنفخ في الصور فيقومون مذهولين، لا تنفع أحداً منهم يومئذ قرابة ولا نسب، ولا يسأل بعضهم بعضا.... كل امرىء مشغولٌ بنفسه ﴿ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٧
موازينه : بما فيها من حسنات أو سيئات.
المفلحون : الفائزون.
وفي ذلك اليوم يكون العمل هو ميزان التقدير، فمن جاء بعملٍ صالح رجَح ميزانُه وفاز فوزاً عظيما.
ومن لم يكن له عمل صالح ولا حسنات فقد خفّ ميزانه وخسِر كل شيء وذهب إلى نار جهنم خالداً فيها.
تلفح وجوههم النار : تحرقها.
كالحون : مكشرّون عابسون.
يومئذ تحرق النار وجوه الذين خسروا، وهم فيها معبِسون مكشّرون. نعوذُ بالله منهم، ومن سوء المصير.
هنا يعدلِ الحديثُُ عن أسلوب الحكاية الى الخطاب والمواجهة : لقد كانت آياتي المنزلة تُقرأ عليكم في الدنيا، لكنّكم كنتم تكذّبون بما فيها.
غلبت علينا شِقوتنا : سوء العاقبة، شقاؤنا من كثرة معاصينا.
فيقولون مقرّين بخطئهم :
﴿ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ ﴾
إننا نعترف إليك يا ربنا، بكثرة معاصينا التي أورثتنا الشقاءَ، وكنا بذلك ضالّين عن طرق الهدى.
قراءات :
قرأ اهل الكوفة : غلب علينا شقاوتنا. والباقون : شقوتنا بكسر الشين كما هو في المصحف.
ثم يطلبون من الله أن يخرجَهم من النار ليعملوا صالحاً :﴿ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ وذلك بعد أن انسدّ باب التوبة، وانقطع التكليف.
اخسؤوا : كلمة زجر، اسكتوا سكوت ذل وهوان.
فيأتيهم الجوابُ القاطع.
﴿ قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾
اخرسوا واسكتوا أذلاّء مهانين، ولا تكلّموني مطلقا.
كيف أرحمكم وأترك عباداً لي آمنوا برسلي والتزموا بما أمرتُهم وقدّموا الأعمالَ الصالحة وكانوا يطلبون الرحمة والغفران في جميع أحوالم !
حتى أنسوكم ذِكري : حتى أنسوكم عبادتي.
ليس من العدالة في شيء أن تكونوا مثلهم في هذا اليوم فلم يكن جُرمكم أنكم لم تؤمنوا فحسب، بل إنكم تماديتم في السخرية منهم.
لقد بلغ بكم السَفَهُ والوقاحة أن تسخَروا من الذين آمنوا وتضحكوا منهم حتى شَغَلَكُم ذلك عن ذكري وطاعتي.
ثم بيّن الله ما جازى به أولئك المستضعَفين فقال :
﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون ﴾
لقد صبروا فكان جزاؤهم الجنةَ وفازوا بنعيمها خالدين فيها أبدا.
اللبث : الاقامة.
الله تعالى يعلم كل شيء لكنه يسألهم هنا للتقريع : كما كانت إقامتكم في الدنيا ؟
العادّين : الحفظة الحاسبين لأعمال البشر.
فيقولون لبثنا يوما او بعض يومن فاسأل الحفَظَةَ العارفين لأعمال العباد.
إنكم لم تقيموا في الدنيا الا رَمَقاً قليلا بالقياس الى ما أنتم مقبلون عليه لو كنتم تحسنون التقدير.
ثم يعود فيعنّفهم على تكذيبهم بالآخرة فيقول :
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾
أظننتم أننا خلقناكم بغير حكمة، وظننتم أنكم لا تُبعثون لمجازاتكم ! ؟
ثم تنتهي السورة بتقرير القاعدة الأولى للإيمان، وهي التوحيد، وإعلان الخسارة الكبرى للمشركين، في مقابل الفوز والفلاح للؤمنين كما افتتحت السورة بذلك. ثم بالتوجه إلى الله في طلب الرحمة والغفران وهو أرحمُ الراحمين :
﴿ فَتَعَالَى الله الملك الحق لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم ﴾
العظمةُ لله وحده، هو مالك الملك كله، لا معبودَ بحقٍّ سواه، وهو رب العرش الكريم.
فإنما حسابه عند ربه : جزاؤه.
وبعد أن ذكر أنه الملِكُ الحق، أتبعه ببيان أن من ادّعى أن في الكون إلهاً سواه فقد ادعى باطلا لا دليل عليه فقال :
﴿ وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون ﴾
افتُتحت السورة بفلاح المؤمنين، وختمت بخيبة الكافرين... ومن يعبد مع الله آلها آخر لا دليل على صحة ألوهيته، يعاقبْه الله على شِركه، وإن الكافرين لا يفلحون. وهنا يتناسق مطلع السورة مع ختامها، نسأل الله تعالى حسن الختام.
وقل أيها النبي بالختام داعياً الله ضارعاً اليه : يا ربّ اغفر لي ذَنبي وارحمني وارحم عبادك. فأنت خير الراحمين.
Icon