ﰡ
حتى يقول الناس ممَّا رأوا | يا عجباً للميّت الناشر |
﴿أُجَاجٌ﴾ شديد الملوحة قال في القاموس: أجَّ الماء أُجوجاً إذا اشتدت ملحوته. ﴿قِطْمِيرٍ﴾ القمطير: القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة.
التفسِير: ﴿الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ أي الثناء الكامل، والذكر الحسن، مع التعظيم والتبجيل لله جلَّ وعلا، خالق السموات والأرض ومنشئها ومخترعها من غير مثل سبق، قال البيضاوي: ﴿فَاطِرِ السماوات والأرض﴾ أي مبدعهما وموجدهما على غير مثال ﴿جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً﴾ أي جاعل الملائكة وسائط بين الله وأنبيائه لتبليغهم أوامر الله، قال ابن الجوزي: يرسلهم إلى الأنبياء وإلى ما شاء من الأمور ﴿أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ﴾ أي أصحاب أجنحة، قال قتادة: بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها إلى السماء ﴿يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ﴾ اي يزيد في خلق الملائكة كيف يشاء، من ضخامة الأجسام، وتفاوت الأشكال، وتعدد الأجنحة، وقد رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جبريل ليلة الإِسراء وله ستمائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب وقال قتادة: ﴿يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ﴾ الملائحةُ في العينين، والحسنُ في الأنف، والحلاوة في الفم ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي هو تعالى قادر على ما يريد، له الأمر والقوة والسلطان، لا يمتنع عليه فعل شيءٍ أراده، ولا يتأبى عليه خلق شيء أراده، وصف تعالى نفسه في هذه الآيات بصفتين جليلتين تحمل كل منهما صفة القدرة وكمال الإِنعام الأولى: أنه فاطر السموات الأرض أي خالقهما ومبدعهما من غير مثالٍ يحتذيه، ولا قانون ينتحية، وفي ذلك دلالة على كمال قدرته، وشمول نعمته، فهو الذي رفع السماء بغير عمد، وجعلها مستويةٌ من غير أَوَد، وزينها بالكواكب والنجوم، وهو الذي بسط الأرض، وأودعها الأرزاق والأقوات، وبثَّ فيها البحار والأنهار، وفجَّر فيها العيون والآبار، إلى غير ما هنالك من آثار قدرته العظيمة، وآثار صنعته البديعة، وعبَّر عن ذلك كله بقوله: ﴿فَاطِرِ السماوات والأرض﴾، والثانية: اختيار الملائكة ليكونوا رسلاًَ بينه وبين أنبيائه، وقد أشار إلى طرفٍ من عظمته وكمال قدرته جل وعلا بأن خلق الملائكة بأشكال عجيبة، وصور غريبة، وأجنحة عديدة، فمنهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، كما هو وصف جبريل عليه السلام، ومنهم من لا يعلم حقيقة خِلقته وضخامة صورته إلا الله جل وعلا، فقد روى الزهري أن جبريل قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يا محمد كيف رأيت
«أَحَقُّ مَا قَالَ العَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْجٌ: اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدّ» ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة عليهم فقال: ﴿ياأيها الناس اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي اشكروا ركبم على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحْصى التي أنعم بها عليكم، قال الزمخشري: ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، ولكن المراد حفظها من الكفران، وشكرها بمعرفة حقها، والاعتراف بها، وإِطاعة موليها، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه: أذكرْ أياديَّ عندك ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله﴾ استفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا خالق غيره تعالى، لا ما تعبدون من الأصنام ﴿يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السمآء والأرض﴾ أي حال كونه تعالى هو المنعم على العباد بالرزق والعطاء، فهو الذي ينزل المطر من السماء، ويخرج النبات من الأرض، فكيف تشركون معه ما لا يخلق ولا يرزق من الأوثان والأصنام؟ ولهذا قال تعالى بعده: ﴿لاَ إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا ربَّ ولا معبود إلا الله الواحد الأحد ﴿فأنى تُؤْفَكُونَ﴾ أي فكيف تُصرفون بعد هذا البيان، ووضوح البرهان، إلى عبادة الأوثان؟ والغرض: تذكير الناس بنعم الله، وإقامة الحجة على المشركين، قال ابن كثير: نبّه تعالى عباده وأرشدهم إلى الاستدلال على توحيده، بوجوب إفراد العبادة له، فكما أنه المستقل بالخلق والرزق، فكذلك يجب أن يُفرد بالعبادة، ولا يُشرك به غيره من الأصنام والأوثان ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ﴾ تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على تكذيب قومه له والمعنى: وإن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون فلا تحزن لتكذيبهم، فهذه سنة الله في الأنبياء من قبلك، فقد كُذّبوا واُوذوا حتى أتاهم نصرنا، فلك بهم أسوة، ولا بدَّ أن ينصرك الله عليهم ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور﴾ أي إلى الله تعالى وحده مرجع أمرك وأمرهم، وسيجازي كلاً بعمله، وفيه وعيد وتهديد للمكذبين.
ثم ذكَّرهم تعالى بذلك الموعد المحقَّق فقال: ﴿ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي إن وعده لكم بالبعث والجزاء حقٌّ ثابتٌ لا محالة
«قلت يا رسول الله: كَيْفَ يُحْيِي الله المَوْتَى؟ وَمَا آيةُ ذلكَ فِي خَلْقِهِ؟ فقال:» أَمّا مَرَرْتَ بِوَادِي أهْلِكَ مُمْحِلاً، ثُمَّ مَرَرْتَ بهِ يَهْتَزُّ خَضِراً؟ «قلت: نعم: يا رسول الله، قال:» فكذلك يُحْيِي الله المَوْتَى، وَتِلْكَ آيَتُهُ فِي خَلْقِهِ «قال ابن كثير: كثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها، فإن الأرض تكون ميتة هامدة
﴿وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ﴾ [فاطر: ٤٣] قال المفسرون: والإِشارة هنا إلى مكر قريش برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين اجتمعوا في دار الندوة وأرادوا أن يقتلوه، أو يحبسوه، أو يخرجوه كما حكى القرآن الكريم ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ﴾ [الأَنفال: ٣٠] ثم ذكَّرهم تعالى بدلائل التوحيد والبعث، بعد أن ذكَّرهم بآيات قدرته وعزته فقال: ﴿والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾ أي خلق أصلكم وهو آدم من تراب ﴿ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ أي ثم خلق ذريته من ماءٍ مهين وهو المنيُّ الذي يُصبُّ في الرحم ﴿ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً﴾ أي خلقكم ذكوراً وإناثاً، وزوَّد بعضكم من بعضٍ ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضائها قال الطبري: أي زوَّج منهم الأنثى من الذكر ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ أي وما تحمل أنثى في بطنها من جنين، ولا تلد إلاَّ بعلمه تعالى، يعهلم أذكر هو أو أنثى، ويعلم أطوار هذا الجنين في بطن أمه، لا يخفى عليه شيء من أحواله ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ﴾ أي وما يطول عُمر أحدٍ من الخلق فيصبح هرماً، ولا يُنقص من عُمر أحد فيموت وهو صغير أو شاب إِلا وهو مسجَّل في اللوح المحفوظ، لا يُزاد فيما كتب الله ولا يُنقص ﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ﴾ أي سهلٌ هيّن، لأن الله قد أحاط بكل شيء علماً، ثم ضرب تعالى مثلاً للمؤمن والكافر فقال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي البحران﴾ أي وما يستوي ماء البحر وماء النهر ﴿هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ﴾ أي هذا ماء حلوٌ شديد الحلاوة يكسر وهج العطش، ويسهل انحداره في الحلق لعذوبته ﴿وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ أي وهذا ماءٌ شديد الملوحة، يُحرق حلق الشارب لمرارته وشدة ملوحته، فكما لا يتساوى البحران: العذبُ، والملح، فكذلك لا يتساوى المؤمن مع الكافر، ولا البرُّ مع الفاجر، قال أبو السعود: هذا مثلٌ ضُرب للمؤمن والكافر، والفراتُ الذي يكسر العطش، والسائع الذي يسهل انحداره لعذوبته، والأُجاج الذي يُحرق
. آيةٌ شاهدة على قدرة الله، ودقة تصرفه في خلقه، وهذه الظاهرة الكونية دستور لا يتغيَّر، ونظام محكم لا يأتي بطريق الصدفة، وإنما هو من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه، فسبحان المدبر الحكيم العليم!! ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي ذلَّلهما لمصالح العباد، كل منهما يسير ويدور في مداره الذي قدَّره الله له لا يتعداه، إلى أجلٍ ملعوم هو يوم القيامة ﴿ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك﴾ أي ذلكم الفاعل لهذه الأمور البديعة، هو ربكم العظيم الشأن، الذي له المُلك والسلطان والتصرف الكامل في الخلق ﴿والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ﴾ أي والذين تعبدون من دون الله من الأوثان والأصنام لا يملكون شيئاً ولو بمقدار القمطير، وهو القشرة الرقيقة التي بين التمرة والنواة، قال المفسرون: وهو مثلٌ يضرب في القلة والحقارة، والأصنامُ لضعفها، وَهَوان شأنها وعجزها عن أي تصرف صارت مضرب المثل في حقارتها بأنها لا تملك فتيلاً ولا قمطيراً، ثم أكد تعالى ذلك بقوله: ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ﴾ أي إن دعوتم هذه الأصنام لم يسمعوا دعاءكم ولم يستجيبوا لندائكم، لأنها جمادات لا تسمع ولا تفهم ﴿وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ﴾ أي ولو سمعوا لدعائكم على الفرض والتسليم ما استجابوا لكم لأنها ليست ناطقة فتجيب ﴿وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ أي وفي الآخرة حين ينطقهم الله يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياهم ﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ أي ولا يخبرك يا محمد على وجه اليقين
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة التثميلية ﴿مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا﴾ شبَّه فيه إرسال النعم بفتح الخزائن للإِعطاء وكذلك حبس النعم بالإِمساك، واستعير الفتح للإِطلاق والإِمساك للمنع.
٢ - الطباق بين ﴿يَفْتَحِ.. و.. يُمْسِكْ﴾ وكذلك بين ﴿يُضِلُّ.. و.. يَهْدِي﴾ وبين ﴿تَحْمِلُ.. و.. تَضَعُ﴾ وبين ﴿يُعَمَّرُ.. و.. يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ﴾.
٣ - المقابلة بين جزاء الأبرار والفجار ﴿الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.. والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ وكذلك بين قوله: ﴿هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ.. وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ وكل من الطباق والمقابلة من المحسنات البديعية إلا أن الأول يكون بين شيئين والثاني بين أكثر.
٤ - حذف الجواب لدلالة اللفظ عليه ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ﴾ ؟ حذف منه ما يقابله أي كمن لم يُزين له سوء عمله؟ ودّل على هذا المحذوف قوله: ﴿فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾.
٥ - الإِطناب بتكرار الفعل ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا﴾ ثم قال ﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور﴾.
٦ - الكناية ﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ كناية عن الهلاك لأن النفس إذا ذهبت هلك الإِنسان.
٧ - الالتفات من الغيبة إلى التكلم للإِشعار بالعظمة ﴿أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ﴾.
٨ - السجع لما له من وقع حسن على السمع مثل ﴿لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير﴾ ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ وأمثال ذلك وهو من المحسنات البديعية.
اللغَة: ﴿وِزْرَ﴾ الوزرُ: الجبل المنيع الذي يعتصم به ومنه ﴿كَلاَّ لاَ وَزَرَ﴾ [القيامة: ١١] ثم قيل للثقيل: وِزْرٌ تشبيهاً له بالجبل، ثم استعير للذنب لما فيه من إثقال كاهل الإِنسان. ﴿تُنذِرُ﴾ تخوف، والإِنذار التخويف. ﴿الغيب﴾ ما غاب عن الإِنسان ولم تدركه حواسه، قال الشاعر:
وبالغيب آمنا وقد كان قومنا | يُصلُّون للأوثان قبل محمد |
العينُ طامحةٌ، واليدُ سابحةٌ | والرجلُ لافحةٌ، والوجه غربيب |
﴿لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة﴾ [الحشر: ٢٠] ثم أكد ذلك فقال: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات﴾ أي كما لا يستوي العقلاء والجهلاء، قال أبو حيان: وترتيب هذه الأشياء في بيان عدم الاستواء جاء في غاية الفصاحة، فقد ذكر الأعمى والبصير مثلاً للمؤمن والكافر، فذكر ما عليه الكافر من ظلمة الكفر، وما عليه المؤمن من نور الإِيمان، ثم ذكر مآلهما وهو الظلُ والحرور، فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة، والكافر بكفره في حر وتعب، ثم ذكر مثلاً آخر على أبلغ وجه وهي الحيُّ والميت، فالأعمى قد يكون فيه بعض النفع بخلاف الميت، وجمع الظلمات لأن طرق الكفر متعددة، وأفرد النور لأن التوحيد والحق واحدٌ لا يتعدد، وقدَّم الأشرف في المثلين الأخيرين وهما «الظل، والحيُّ» وقدَّم الأوضح في المثلين الأولين وهما «الأعمى، والظلمات» ليظهر الفرق جلياً، ولا يقال ذلك لأجل السجع لأن معجرة القرأن ليست في مجرد اللفظ، بل في المعنى أيضاً، فالله سرُّ القرآن، ثم زاد في الإِيضاح والبيان فقال: ﴿إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور﴾ أي إن اله يسمع من يشاء إسماعه دعوة الحق، فيحبِّبه بالإِيمان ويشرح صدره للإِسلام، وما أنت يا محمد بمسمع هؤلاء الكفار، لأنهم أموات القلوب لا يدركون ولا يفقهون، قال ابن الجوزي: أراد بمن في القبور الكفار، وشبههم بالموتى، أي فكما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله وينتفع بمواعظه، فكذلك من كان ميّت القلب لا ينتفع بما
. ثم لما عدَّد آياتِ الله، وأعلام قدرته، وآثار صنعه، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس أتبع ذلك بقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾ أي إنما يخشاه تعالى العلماء لأنهم عرفوه حقَّ معرفته، قال ابن كثير: أي إنما يخشاه حقَّ خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير أتم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ أي غالب على كل شيء بعظمته، غفور لمن تاب وأناب من عباده، ثم أخبر عن صفات هؤلاء الذين يخافون الله ويرجون رحمته فقال: ﴿إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله﴾ أي يدامون على تلاوة القرآن آناء الليل وآطراف النهار ﴿وَأَقَامُواْ الصلاة﴾ أي أدوها على الوجه الأكمل في أوقاتها، بخشوعها وآدابها، وشروطها وأركانها ﴿وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً﴾ أي وأنفقوا بعض أموالهم في سبيل الله وابتغاء رضوانه في السر والعلن ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ أي يرجون بعملهم هذا تجارة رابحة، لن تكسد ولن تهلك بالخسران أبداً ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ﴾ أي ليوفيهم الله جزاء أعمالهم، وثواب ما فعلوا من صالح الأعمال، ويزيدهم فوق أجورهم من فضله وإنعامه وإحسانه، قال في التسهيل: توفية الأجور هو ما يستحقه المطيع من الثواب، والزيادة: التضعيف فوق ذلك أو النظر إلى وجه الله ﴿إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ أي مبالغ في الغفران لأهل القرآن، شاكر لطاعتهم، قال ابن كثير: كان مطرف إذا قرأ هذه الآية قال: هذه آية القراء ﴿والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق﴾ أي والذي أوحيناه إليك يا محمد من الكتاب المنزَّل القرآن العظيم هو الحق الذي لا شك فيه، ولا ريب في صدقه ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي حال كونه مصدقاً لما سبقه من الكتب الإِلهية المنزلة كالتوارة والإنجيل والزبور، قال أبو حيان: وفي الآية إشارة إلى كونه وحياً، لأنه عليه السلام لم يكن قارئاً ولا كاتباً وأتى ببيان ما في كتب الله، ولا يكون ذلك إلا من الله ﴿إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ أي هو جل وعلا خبير بعباده محيط ببواطن أمورهم وظواهرها، بصيرٌ بهم لا خفى عليه خافية من شؤونهم.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزوها فيما يلي:
١ - الطباق بين ﴿يُذْهِبْ.. و.. يَأْتِ﴾ وبين ﴿الأعمى.. و.. البصير﴾ و ﴿الظلمات.. و.. النور﴾ و ﴿الظل.. و.. الحرور﴾ و ﴿الأحيآء.. و.. الأموات﴾ وبين ﴿نَذِيراً.. وبَشِيراً﴾ وبين ﴿سِرّاً.. وَعَلاَنِيَةً﴾.
٢ -
٣ - الاستعارة التصريحية ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير..﴾ الآية شبه الكافر بالأعمى، والمؤمن بالبصير بجامع ظلام الطريق وعدم الاهتداء على الكفار، ووضوح الرؤية والاهتداء للمؤمن، ثم استعار المشبه به ﴿الأعمى﴾ للكافر، واستعار ﴿والبصير﴾ للمؤمن بطريق الاستعارة التصريحية.
٤ - الالتفات من الغيبة إلى التكلم ﴿أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ بدل فأخرجنا لما في ذلك من الفخامة ولبيان كمال العناية بالفعل، لما فيه من الصنع البديع، المنبىء عن كمال قدرة الله وحكمته.
٥ - قصر صفة على موصوف ﴿إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء﴾ فقد قصر الخشية على العلماء.
٦ - الإِستفهام التقريري وفيه معنى التعجب ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ الآية.
٧ - الاستعارة ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ استعار التجارة للمعالمة مع الله تعالى لنيل ثوابه، وشببها بالتجارة الدينوية وهي معالمة الخلق بالبيع والشراء لنيل الربح ثم رشحها بقوله: ﴿لَّن تَبُورَ﴾.
٨ - توافق الفواصل مما يزيد في جمال الكلام ورونقه ووقعه في النفس مثل ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾ ﴿إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ ومثل ﴿وبالكتاب المنير﴾ ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ وهكذا.
اللغَة: ﴿نَصَبٌ﴾ تعب ومشقة جسماينة. ﴿لُغُوبٌ﴾ اللُّغُوب: الإعياء والضعف والفتور ومنه ﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ [ق: ٣٨]. ﴿يَصْطَرِخُونَ﴾ من الصراخ وهو الصياح بصوت عال، والصارخ: المستغيث، والمُصْرخ: المغيث، قال سلامة بن جندب:
كنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ | كان الصُّراخ له قرع الظَّنابيب |
التفسِير: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا﴾ أي ثم أورثنا هذا القرآ، العظيم لأفضل الأمم وهم أمة محمد عليه السلام الذين اختارهم على سائر الأمم، وخصصناهم بهذا الفضل العظيم، القرآن المعجز خاتمة الكتب السماوية، قال الزمخشري: والذين اصطفاهم الله هم أمة محمد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة.. ثم قسمهم إلى ثلاثة أصناف فقال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله﴾ أي فمن هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب مَن هو مقصِّر في عمل الخير، يتلو القرآن ولا يعمل به وهو الظالم لنفسه، ومنهم مَن هو متوسط في فعل الخيرات والصالحات، يعمل بالقرآن في أغلب الأوقات، ويقصِّر في بعض الفتراتع وهو المقتصد، ومنهم مَن هو سبَّاق في العمل بكتاب الله، يستبق الخيرات وقد أحرز قصب السبق في فعل الطاعات بتوفيق الله وتيسيره وهو السابق بالخيرات بإِذن الله، قال ابن الجزي: وأكثير المفسرين أن هذه الأصناف الثلاثة في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فالظالم لنفسه: العاصي، والسابق: التقيُّ، والمقتصد: بينهما وقال الحسن البصري: السابقُ مَن رجحت حسناته على سيئاته، والظالم لنفسه مَن رجحت سيئاته، والمقتصد مَن استوت حسناته وسيئاته، وجميعهم يدخلون الجنة ﴿ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير﴾ أي ذلك الإِرث والاصطفاء لأمة محمد عليه السلام لحمل أشرف الرسالات والكتب
. ولما ذكر تعالى حال السعداء الأبرار، ذكر حال الأشقياء الفجار فقال: ﴿والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ﴾ أي والذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسله فإِنَّ لهم نار جهنم المستعرة جزاءً وفاقاً على كفرهم ﴿لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ﴾ أي لا يحكم عليهم بالموت فيها حتى يستريحوا من عذاب النار ﴿وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا﴾ أي ولا يخفف عنهم شيء من العذاب، بل هم في عذاب دائم مستمر لا ينقطع كقوله: ﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً﴾ [الإِسراء: ٩٧] ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ أي مثل ذلك العذاب الشديد الفظيع، نجازي ونعاقب كل مبالغ في الكفر والعصيان ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ أي وهم يتصارخون في جهنم ويستغيثون برفع أصواتهم قائلين: ربنا أخرجنا من النار وردنا إلى الدنيا لنعمل عملاً صالحاً يقربنا منك، غير الذي كنا نعمله، قال القرطبي: أي نؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، ونمتثل أمر الرسل.. وفي قولهم: ﴿غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ اعترافٌ بسور
«أَغْذَرَ الله إلى امْرِىءٍ أَخَّرَ أجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً» ومعنى «أعذر» أي بلغ به أقصى العذر ﴿وَجَآءَكُمُ النذير﴾ أي وجاءكم الرسول المنذر وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي بُعث بين يدي الساعة، وقيل: ﴿النذير﴾ هو الشيبُ والأول أظهر ﴿فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ أي فذوقوا العذاب يا معشر الكافرين، فليس لكم اليوم ناصر ولا معين يدفع عنكم عذاب الله، قال الإمام الفخر: والأمرُ أمرُ إهانة ﴿فَذُوقُواْ﴾ وفيه إشارة إلى الدوام، وإنما وضعَ الظاهر ﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ موضع الضمير «لكلم» لتسجيل الظلم عليهم، وأنهم بكفرهم وظلمهم ليس لهم نصيرٌ أصلاً لا من الله ولا من العباد، ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ الله عَالِمُ غَيْبِ السماوات والأرض﴾ أي هو تعالى العالم الذي أحاط علمه بكل ما خفي في الكون من غيب السموات والأرض، لا يخفى عليه شأن من شؤونهما ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي يعلم جل وعلا مضمرات الصدرو، وما تخفيه من الهواجس والوساوس، فكيف لا يعلم أعمالهم الظاهرة؟ قال المفسرون: والجملة لتأكيد ما سبق من دوام عذاب الكفار في النار، لأن الله تعالى يعلم من الكافر أنه تمكَّن الكفر في قلبه بحيث لو دام في الدنيا إلى الأبد ما آمن بالله ولا عبَده، فالعذابُ الأبديُّ مساوٍ لكفرهم الأبدي، فلا ظلم ولا زيادة ﴿وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً﴾ [الكهف: ٤٩]، قال القرطبي: والمعنى في الآية علم أنه لو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحاً كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ﴾ [الأَنعام: ٢٨] ﴿هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض﴾ أي هو تعالى جعلكم أيها الناس خلائف في الأرض، بعد عاد وثموج ومن مضى قبلكم من الأمم، تخلفونهم في مساكنهم جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن ﴿فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ أي فمن كفر بالله فعليه وبال كفره، لا يضر بذلك إلا نفسه ﴿وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً﴾ أي ولا يزيدهم كفرهم إلا طرداً من رحمة الله وبعداً وبغضاً شديداً من الله ﴿وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً﴾ أي ولا يزيدهم كفرهم إلا هلاكاً وضلالاً وخسران العمر الذي ما بعده شر وخسار!، قال أبو حيان: وفي الأية تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم، فلم يتعظوا بحال مَن تقدمهم من المذكذبين للرسل ما حلَّ بهم من الهلاك، ولا اعتبروا بمن كفر، ولا اتعظوا بمن تقدم، والمقتُ أشد الاحتقار والبغض، والخسارُ خسارُ العمر، كأنَّ العمر رأس مال الإِنسان فإذا انقضى في غير طاعة الله فقد خسره، واستعاض به بدل الربح سخط
. ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال: ﴿إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ﴾ أي هو جل وعلا بقدرته وبديع حكمته، يمنع السموات والأرض من الزوال، والسقوط، والوقوع كما قال تعالى: ﴿وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ [الحج: ٦٥] قال القرطبي: لما بيَّن أن آلهتهم لا تقدر على خلق شيء من السموات والأرض، بيَّن أن خالقهما وممسكهما هو الله، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده، ولا يبقى إلا ببقائه ﴿وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ﴾ أي ولئن زالتا عن أماكنهما فرضاً وما أمسكهما أحدٌ بعد الله، بمعنى أنه لا يستطيع أحدٌ على إمساكهما، إنما هما قائتمان بقدرة الواحد القهار ﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾ أي إنه تعالى حليم لا يعاجل العقوبة للكفار مع استحقاقهم لها، واسع المغفرة والرحمة لمن تاب منهم وأناب ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أي حلف المشركون بالله أشدَّ الأيمان وأبلغها، قال الصاوي: كانوا يحلفون بآبائهم وأصنامهم فإذا أرادوا التأكيد والتشديد حلفوا بالله ﴿لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ﴾ أي لئن جاءهم رسول منذر ﴿لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم﴾ أي ليكونُنَّ أهدى من جميع الأمم الذين أرسل الله إليهم الرسل من أهل الكتاب، قال أبو السعود: بلغ قريشاً قبل مبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّ أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهودَ والنصارى، أتتهم الرسلُ فكذبوهم، فوالله لئن أتانا رسول لنكوننَّ أهدى من اليهود والنصارى وغيرهم ﴿فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ﴾ أي فلما جاءهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أشرف المرسلين ﴿مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً﴾ أي ما زادهم مجيئه إلا تباعداً عن الهدى والحق وهرباً منه ﴿استكبارا فِي الأرض وَمَكْرَ السيىء﴾ أي نفروا منه بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وعتوهم وطغيانهم في الأرض، ومن أجل المكر السيىء بالرسول وبالمؤمنين، ليفتنوا ضعفاء الإيمان عن دين الله، قال أبو حيان: أي سبب النفور هو
﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين﴾ أي فهل ينتظر هؤلاء المشركون إلا عادة الله وسنته في الأمم المتقدمة، من تعذيبهم وإهلاكهم بتكذيبهم للرسل؟ ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً﴾ أي لن تتغير ولن تتبدل سنته تعالى في خلقه ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً﴾ أي ولا يستطيع أحد أن يحوّل العذاب عنهم إلى غيرهم، قال القرطبي: أجرى الله العذاب على الكفار، فلا يقدر أحد أن يُبدّل ذلك، ولا أن يُحوّل العذاب عن نفسه إلى غيره، والسُّنة هي الطريقة.. ثم حثهم تعالى على مشاهدة آثار من قبلهم من المكذبين ليعتبروا فقال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ ؟ أولم يسافروا ويمروا على القرى المهلكة فيروا آثار دمار الأمم الماضية حين كذبوا رسلهم ماذا صنع الله بهم؟ ﴿وكانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ أي وكانوا أقوى من أهل مكة أجساداً، وأكثر منهم أموالاً وأولاداً ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السموات وَلاَ فِي الأرض﴾ أي أنه سبحانه لا يفوته شيء، ولا يصعب عليه أمر في هذا الكون ﴿إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً﴾ أي بالغ العلم والقدرة، عالم بشؤون الخلق، قادر على الانتقام ممن عصاه ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ﴾ بيانٌ لحلم الله ورحمته بعباده أي لو آخذهم بجميع ذنوبهم ما ترك على ظهر الأرض أحداً يدب عليها من إنسان أو حيوان، قال ابن مسعود: يريد جميع الحيوان مما دبَّ ودرج ﴿ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي ولكنه تعالى من رحمته بعباده، ولظفه بهم، يمهلهم إلى زمن معلوم وهو يوم القيامة فلا يعجل لهم العذاب ﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً﴾ أي فإذا جاء ذلك الوقت جازاهم بأعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، لأنه تعالى العالم بشؤونهم المطلع على أحوالهم، قال ابن جرير: بصيراً بمن يستحق العقوبة، وبمن يستوجب الكرامة، وفي الآية وعيدٌ للمجرمين ووعد للمتقين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الإِطناب بتكرير الفعل ﴿لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ للمبالغة في انتفاء كل منهما استقلالاً، وكذلك الإِطناب في قوله: ﴿وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً﴾ لزيادة التشنيع والتقبيح على مَن كفر بالله.
٢ - التهكم في صغية الأمر ﴿فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ مثل ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: ٤٩].
٣ - المبالغة مثل ﴿غَفُورٌ، شَكُورٌ، كَفُورٍ﴾ ومثل ﴿حَلِيماً، عَلِيماً، قَدِيراً﴾ فإنها من صيغ المبالغة.
٥ - الاستعارة المكنية ﴿مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ﴾ شبَّه الأرض بدابة تحمل على ظهرها أنواع المخلوقات ثم حذف المشبه به ورمز إليه بشيء من لوازمه وهو الظهر بطريق الاستعارة المكنية.
٦ - السجع غير المتكلف، البالغ نهاية الروعة والجمال مثل ﴿وَجَآءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ وهو من المحسنات البديعية.