تفسير سورة الزمر

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ

﴿ تنزيل الكتاب ﴾ أي القرآن. مبتدأ خبره :﴿ من الله العزيز الحكيم ﴾ فليس قولا مفترى كما يزعم الجاحدون.
﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ﴾ أي متلبسا بالحق والصواب، وذلك يوجب قبوله والعمل بكل ما فيه، وإخلاص العبادة لمن أنزله.
﴿ فاعبد الله مخلصا له الدين ﴾ العبادة : غاية التذلل للمعبود. والدين هنا : العبادة والطاعة. والإخلاص فيه : أن يمحض العبد عبادته لله تعالى، ولا يجعل له شريكا فيها، ولا يقصد بعمله إلا وجه الله تعالى ؛ فلا يشوبه بشيء من الرياء.
﴿ والذين اتخذوا من دونه أولياء ﴾ أي آلهة يعبدونها قائلين :﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ ويشفعوا لنا عند فيما ينوبنا من أمور الدنيا. ﴿ إن الله يحكم بينهم ﴾ وبين خصائمهم الذين هم المخلصون له الدين يوم القيامة. ﴿ في ما هم فيه يختلفون ﴾ من التوحيد والشرك ؛ بإدخال الموحدين الجنة، والمشركين النار. فقوله " ما نعبدهم " حال من فاعل " اتخذوا "، وجملة " إن الله يحكم بينهم " خبر الموصول.
﴿ لو أراد الله أن يتخذ ولدا... ﴾ قال المشركون : الملائكة بنات الله. وقال اليهود : عزير ابن الله. وقالت النصارى المسيح ابن الله. فرد الله تعالى عليهم بأنه لو أراد اتخاذ الولد على ما يظنّونه، لاختار من خلقه ما يشاء هو، لا ما يختارونه هم ويشاءونه ؛ لكنه لم يختر أحدا، فدلّ ذلك على أنه لم يرد اتخاذ الولد. وهو نظير قوله تعالى : " لو أردنا أن نتّخذ لهوا لاتخذناه من لدنّا إن كنا فاعلين " . وإرادة الاتخاذ في الآيتين ممتنعة ؛ لأن الإرادة لا تتعلق إلا بالممكنات، واتخاذ الولد محال كما ثبت بالبرهان القطعي فتستحيل إرادته. وجعلها في الآيتين شرطا وتعليق الجواب عليها، لا يقتضي إمكانها فضلا عن وقوعها. وقد عرف في فصيح الكلام : تعليق المحال على المحال جوازا ووقوعا.
على أن الوالديّة تقتضي التجانس بين الوالد والولد ؛ إذ هو بضعة منه، وقد ثبت أن كل ما سواه تعالى حادث مخلوق له، فيلزم التجانس أن يكون المخلوق من جنس الخالق، وهو يستلزم حدوث الخالق أو قدم المخلوق، وكلاهما محال. ﴿ سبحانه ﴾ تنزيها له تعالى عن اتخاذ الولد !.
﴿ خلق السموات والأرض بالحق ﴾ أي متلبّسا بالصواب، مشتملا على الحكم والمصالح ؛ ومن كان هذا شأنه : استحال أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد. وقد اشتملت هذه الآية والتي بعدها على ثمانية أدلة على كمال قدرته تعالى، وعلى وحدته وقهره ما سواه : خلق السموات والأرض بالحق. وتكوير الليل على النهار. وعكسه. وتسخير الشمس والقمر لمنافع الخلق. وخلق النوع الإنساني من نفس واحدة خلقها وهي آدم. وخلق من آدم. وخلق الأنعام ثمانية أزواج. وتطور الأجنة في بطون الأمهات.
﴿ يكوّر الليل على النهار... ﴾ تكور الشيء : إدارته وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة. أي أن هذا يكر على هذا، وهذا يكرّ على هذا كرورا متتابعا كتتابع أكوار العمامة على أثر بعض، إلا أن أكوار العمامة مجتمعة وفيما نحن فيه متعاورة ؛ وقريب منه قوله تعالى : " يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا " . وقيل المعنى : يزيد الليل على النهار ويضمّه إليه ؛ بأن يجعل بعض أجزاء الليل نهارا فيطول النهار عن الليل. ويزيد النهار عن الليل ويضمّه إليه ؛ بأن يجعل بعض أجزاء النهار ليلا فيطول الليل عن النهار. وهو كقوله تعالى : " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " . ﴿ كل يجري لأجل مسمى ﴾ هو وقت نهاية دورته. أو وقت انقطاع حركته.
﴿ وأنزل لكم من الأنعام... ﴾ أي من كل من الإبل والبقر والضأن والمعز زوجين : ذكرا وأنثى، يتم بهما التناسل وبقاء النوع. وعبر عن الخلق بالإنزال بأمر من السماء.
﴿ في ظلمات ثلاث ﴾ : ظلمات البطن، والرحم، والمشيمة التي بداخله ؛ وفيها يتم تكوين الجنين وتصويره، ونفخ الروح فيه وتدبيره حتى يولد. وهو من أقوى الأدلّة على القدرة الباهرة. ﴿ فأنى تصرفون ﴾
فكيف تصرفون عن التوحيد إلى الشرك ؟ وتزعمون أن له شريكا أو ولدا مع وفور الأدلة الصارفة عن هذا الزعم الفاسد ؛ من الصّرف وهو إبدال الشيء بغيره. وفعله من باب ضرب.
﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ أي لا يحمد منهم الكفر ويمدحه. أولا لا يجازى الكافر مجازاة المرضيّ عنه بل مجازاة المغضوب عليه. ثم إن الرضا غير الإرادة، فإنها تسبق الفعل، وهو يتأخر عنه ؛ فنفيه لا يستلزم نفيها.
﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ [ آية ١٦٤ الأنعام ص ٢٥١ ].
﴿ دعا ربه منيبا إليه ﴾ راجعا إليه تعالى بالدعاء، منصرفا عما كان يدعوه من دون الله وقت الرخاء.
﴿ ثم إذا خوله نعمة منه ﴾ أعطاه نعمة عظيمة تفضّلا منه سبحانه وملّكه إياها ؛ من التخويل، وأصله إعطاء الخول ؛ أي العبيد والخدم. أو إعطاء ما يحتاج إلى تعاهده والقيام عليه، ثم عمّم لمطلق الإعطاء.
﴿ وجعل لله أندادا ﴾ أمثالا ونظائر يعبدها من دون الله. جمع ند، وهو المثل والنظير.
﴿ أمن ﴾ أصلها " أم " التي بمعنى بل وهمزة الاستفهام. " من " التي هي اسم موصول ؛ أي بل أمن﴿ هو قانت ﴾ أي قائم بواجب الطاعات، ودائم على وظائف العبادات كمن ليس كذلك ! ؟ من القنوت وهو لزوم الطاعة مع الخشوع ؛ وحذف المعادل لدلالة الكلام عليه. ﴿ آناء الليل ﴾ أي ساعاته.
﴿ وأرض الله واسعة ﴾ فسيحة ؛ فمن لم يدرك التقوى والإحسان في وطنه فليهاجر إلى حيث يتمكن منهما ؛ كما هو دأب الأنبياء والصالحين. ﴿ إنما يوفى الصابرون ﴾ على مفارقة الأوطان واحتمال الشدائد في طاعة الله. ﴿ أجرهم بغير حساب ﴾ من الحاسبين.
﴿ لهم من فوقهم ظلل من النار ﴾ أي لأولئك الخاسرين أطباق كثيرة من النار فوقهم كهيئة الظلل. جمع ظلة، وأصلها السخابة تظل ما تحتها ؛ وأكثر ما يقال فيما يستوخم ويكره. ﴿ ومن تحتهم ظلل ﴾ من النار. والمراد : أن النار محيطة بهم إحاطة تامة من جميع الجوانب. وإطلاق الظلة على ما تحتهم لكونها ظلة من تحتهم من أهل الدّركات ؛ وهو كقوله تعالى : " لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش " وقوله تعالى : يوم يغشاهم العذاب من فوقفهم ومن تحت أرجلهم " .
﴿ اجتبوا الطاغوت أن يعبدوها ﴾ أي اجتنبوا عبادة الطاغوت، وهو الأصنام أو الشياطين، وكل معبود من دون الله [ آية ٢٥٦ البقرة ص ٨٤ ]. ويستعمل في الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.
﴿ أفمن حق عليه كلمة العذاب ﴾ كان صلى الله عليه وسلم حريصا على إيمان قومه أشد الحرص ؛ فأعلمه الله أن من سبق عليه القضاء بأنه من أهل النار لا يقدر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينقذه منها بجعله مؤمنا. أي أأنت مالك أمر الناس قادر على التصرف فيهم ؛ فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه ! أي لست مالكا ولا قادرا على ذلك. وزيدت همزة الاستفهام في " أفأنت " لاستطالة الكلام.
﴿ ألم تر... ﴾ تمثيل للحياة الدنيا – في سرعة زوالها وقرب اضمحلالها – بما ذكر من أحوال الزرع ؛ تحذيرا من الاغترار بها، وتنفيرا من التشبث بأذيالها، بعد أن وصفت الجنة بما يرغّب فيها ويشوّق إليها. ﴿ فسلكه ينابيع ﴾ أدخله في عيون ومسارب في الأرض. جمع ينبوع وهو المنبع والمجرى.
﴿ ثم يهيج ﴾ ييبس ويجف ؛ من الهيج بمعنى اليبس والجفاف. يقال : هاج النبت هيجا وهياجا،
يبس واصفر. أو يثور ؛ من الهيج بمعنى الحركة. يقال : هاج الشيء يهيج، ثار لمشقة أو ضرر.
﴿ ثم يجعله حطاما ﴾ فتاتا متكسرا. يقال : حطم الشيء حطما – من باب تعب – إذا تكسر. وحطمته حطما – من باب ضرب – كسرته. وتحطّم العود : إذا تفتّت من اليبس.
﴿ أفمن شرح الله صدره... ﴾ أي أكل الناس سواء ؟ فمن شرح الله صدره، وخلقه مستعدا لقبول الإسلام فبقي على الفطرة النقية التي لم تشبها العوارض المكتسبة القادحة فيها﴿ فهو ﴾ بمقتضى ذلك﴿ على نور من ربه ﴾ وهداية – كمن قسا قلبه، وحرج صدره بتبديل الفطرة بسوء الاختيار، واستولت عليه ظلمات الغي والضلال ؛ فأعرض عن ذكر ربه ؟ ﴿ فويل للقاسية قلوبهم ﴾ هلاك وخزي لهم.
﴿ كتابا متشابها ﴾ يشبه بعضه بعضا في فصاحته وبلاغته، ونظمه وإعجازه، وفي صحة معانيه وأحكامه، وصدقه وهدايته وحكمته، واستتباعه مصالح الخلق في المعاش والمعاد وغير ذلك. ﴿ مثاني ﴾ تثنى وتكرر فيه القصص والمواعظ، والأمثال والأحكام، والوعد والوعيد، وتثنّى تلاوته ؛ فلا يمل على كثرة الترداد.
جمع ثني ومثناة ومثنى ؛ من الثنية بمعنى التكرير والإعادة. وصف القرآن كله هنا بالمثاني. وسميت الفاتحة بالمثاني في سورة الحجر [ آية ٨٧ ص ٤٢٦ ]. ﴿ تقشر منه جلود الذين يخشون ربهم ﴾ تعلوها قشعريرة ورعد من الخوف مما فيه من الوعيد ؛ من الاقشعرار وهو التقبّض الشديد. يقال : اقشعر جلده، أي تقبّض تقبضا شديدا. أوقف شعره إذا عرض له خوف شديد من أمر هائل دهمه بغتة. وهو كناية عن شدة خوفهم من الله تعالى.
﴿ أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب ﴾ أي أكل الناس سواء ! فمن يتقى بوجهه العذاب السيء الشديد لكون يده التي كان يتقى المكاره بها مغلولة إلى عنقه – كمن آمن لا يناله مكروه، ولا يحتاج إلى الاتقاء بوجه من الوجوه !.
﴿ فأذاقهم الله الخزي ﴾ الذل والهوان والصغار.
﴿ غير ذي عوج ﴾ ليس صاحب عوج. أي لا لبس ولا اختلاف ولا اختلال فيه [ آي ٩٩ آل عمران ص ١١٨ ].
﴿ ضرب الله مثلا... ﴾ أي للمشرك الذي يعبد آلهة كثيرة : عبدا مملوكا لجماعة متشاحنين ؛ لشكاسة أخلاقهم وسوء طباعهم، يتجاذبونه ويتعاورونه في أغراضهم المتباينة ؛ فهو في حيرة من أمره، لا يدري على أيهم يعتمد، ولا أيهم يرضى بخدمته. وضرب للموحد مثلا : رجلا خالصا لفرد واحد، ليس لغيره سبيل عليه يخدمه بإخلاص، وذلك الفرد يعوله ويعرف له صدق بلائه، فهو في راحة من الحيرة وتوزع القلب ؛ فأي الرجلين خير ؟ ﴿ متشاكسون ﴾ متنازعون شرسوا الطباع. يقال : رجل شكس وشكس، أي صعب الخلق. وفعله ككرم. ﴿ ورجلا سلما ﴾ أي خلوصا لفرد واحد. مصدر وصف به مبالغة. وقرئ " سلما " بمعناه.
﴿ عند ربكم تختصمون ﴾ فتقيم عليهم الحجة بأنك بلّغت الرسالة، وهم يعتذرون بالأباطيل والتعلات الكاذبة.
﴿ مثوى للكافرين ﴾ مأوى ومقام لهم.
﴿ أليس الله بكاف عبده ﴾ أي الله تعالى كاف نبيه صلى الله عليه وسلم شر من عاداه من الكافرين.
أدخلت فيه همزة الإنكار على كلمة النفي إثبات الكفاية. ﴿ ويخوفونك بالذين من دونه ﴾ أي بالأوثان التي اتخذوها آلهة. وقد روي أن قريشا قالت له صلى الله عليه وسلم : لتكفن عن شتم آلهتنا
أو ليصيبنك منها خبل ؛ فنزلت الآية.
﴿ ما تدعون من دون الله ﴾ أي الأصنام التي تعبدونها من دونه تعالى. ﴿ حسبي الله ﴾ كافي في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر.
﴿ اعملوا على مكانتكم ﴾ على حالتكم من العداوة التي تمكنتم فيها. وأصل المكانة : المكان المحسوس ؛ استعيرت للحالة التي عليها الإنسان استعارة المحسوس للمعقول. أو على حسب تمكنكم واستطاعتكم. والأمر للتهديد.
﴿ من يأتيه ﴾ مفعول " تعلمون " بمعنى تعرفونه. ﴿ ويحل عليه عذاب مقيم ﴾ أي ينزل به عذاب دائم [ آية ٨١ طه ص ٢٢ ].
﴿ الله يتوفى الأنفس ﴾ أي يقبض الأرواح حين الموت، وحين النوم ؛ بأن يقطع تعلقها بالأجسام تعلق التصرف ظاهرا وباطنا في الموت، وظاهرا فقط في النوم. ﴿ فيمسك التي قضى عليها الموت ﴾ أي لا يردها إلى البدن﴿ ويرسل الأخرى ﴾ إلى بدنها عند اليقظة﴿ إلى أجل مسمى ﴾ وهو الوقت المحدود للموت. ومن قدر على ذلك قدر لا محالة على البعث.
﴿ أم اتخذوا من دون الله شفعاء ﴾ ينهى على كفار قريش تركهم التفكر في دلائل قدرته على البعث، وتفرده بالألوهية، واتخاذهم الأصنام آلهة تشفع لهم عند الله ؛ أي بل أتخذوا. ؟ وهمزة الاستفهام المقدرة : للإنكار عليهم في اتخاذهم إياه.
﴿ قل لله الشفاعة جميعا ﴾ أي أنه تعالى مالك الشفاعة كلها، لا يستطيع أحد عنده إلا أن يكون المشفوع مرتضى، والشفيع مأذونا له في الشفاعة ؛ كما قال تعالى : " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " ١ وقال تعالى : " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " ٢ وكلاهما مفقود هنا.
١ آية ٢٨ الأنبياء..
٢ آية ٢٥٥ البقرة..
﴿ اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ﴾ أي نفرت وانقبضت من ذكره تعالى وحده دون أن تذكر معه آلهتهم، من الشمز وهو نفور النفس مما تكره. يقال : يقال : اشمأز، أي انقبض واقشعر أو ذعر. وتشمّز وجهه : تمعّر وتقبّض. والمشمئز : النافر الكاره، أو المذعور.
﴿ وبدا لهم من الله... ﴾ أي ظهر لهم من فنون عذاب الله ما لم يكن في حسبانهم. ﴿ وحاق بهم ﴾ أي أحاط بهم. أو نزل.
﴿ ثم إذا خولناه نعمة منا ﴾ أعطيناه إياها تفضلا منا. ﴿ بل هي فتنة ﴾ محنة وابتلاء له ؛
ليظهر أيشكر أم يكفر.
﴿ وما هم بمعجزين ﴾ أي بفائتين من عذاب الله.
﴿ ويقدر ﴾ أي يضيق الرزق لمن يشاء ابتلاء. وسعة الرزق قد تكون استدراجا. وتقتيره قد يكون إعظاما.
﴿ أسرفوا على أنفسهم ﴾ أفرطوا في المعاصي جانبين على أنفسهم بارتكابها. والخطاب للمؤمنين المذنبين. والإسراف : تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان ؛ وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر. ولتضمنه معنى الجناية عدي ب " على ". ﴿ لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ لا تيأسوا من مغفرته تعالى لكم. والقنوط : اليأس. وفعله كمصر وضرب وحسب وكرم. ﴿ إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾ يسترها، أو يمحوها ولا يؤاخذ بها ؛ أي لمن شاء من عصاة المؤمنين تابوا أو ماتوا من غير توبة. فإن تابوا قبل توبتهم كما وعد ؛ فضلا منه. وإن لم يتوبوا فهم في مشيئته تعالى ؛ إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم، ثم أدخلهم الجنة بفضله ورحمته. أما غير المؤمنين : فإن تابوا من الكفر قبل الله توبتهم ؛ والإسلام يجب ما قبله. وإن ماتوا مصرين على كفرهم فلن يغفر الله لهم ؛ كما قال تعالى : " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " [ آية ٤٨ النساء ص ١٥٣ ]. وهذه الآية أرجى آية في كتاب الله. ونضرع إلى الله الرءوف الرحيم : أن يغفر ذنوبنا، ويستر عيوبنا بمنه وكرمه﴿ إنه هو الغفور الرحيم ﴾.
﴿ وأنيبوا إلى ربكم ﴾ ارجعوا إليه بالتوبة﴿ وأسلموا له ﴾ أخلصوا له العبادة. وفي الآية حث على المبادرة إلى التوبة.
﴿ أن تقول ﴾ أي كراهة أن تقول﴿ نفس يا حسرتا ﴾ أي يا حسرتي وندامتي
﴿ على ما فرطت في جنب الله ﴾ أي بسبب تفريطي وتقصيري في طاعة الله. أو في حقه تعالى ؛ أي ما يحق له ويجب وهو الطاعة. وأصل الجنب والجانب : الجهة المحسوسة للشيء. وأطلق على الطاعة مجازا حيث شبهت بالجهة ؛ بجامع التعلق في كل بصاحبه. فالطاعة لها تعلق بالله، كما أن الجهة لها تعلق بصاحبها.
﴿ بمفازتهم ﴾ أي ينجيهم بسبب فوزهم. أو بمكان فوزهم وهو الجنة.
﴿ له مقاليد السموات والأرض ﴾ مفاتيح خزائنها. جمع مقلاد أو مقليد. أو اسم جمع لا واحد له ؛ من التقليد بمعنى الإلزام. أي أنه لا يملك أمر السموات والأرض، ولا يتمكن من التصرف فيهما غيره تعالى.
﴿ ولقد أوحي إليك ﴾ أي ولقد أوحينا إليك وإلى كل رسول تقدمك : لئن أشركت بالله شيئا ليبطلن عملك الذي عملت قبل الشرك﴿ ولتكونن من الخاسرين ﴾. وهو كلام على سبيل الفرض ؛ للإعلام بغاية شناعة الشرك، وكونه بحيث ينهى عنه من يستحيل أن يباشره فكيف بمن عداه ! ويقرب منه ما قيل : إن الخطاب للرسول والمقصود أمته [ آية ٨٨ الأنعام ص ٢٣١ ].
﴿ وما قدروا الله حق قدره ﴾ ما عظموه تعالى حق تعظيمه [ آية ٩١ الأنعام ص ٢٣١ ].
﴿ والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ﴾ بيان لعظيم قدرته تعالى، وأن المتولي لإبقاء السموات والأرض في الدنيا هو المتولي لتخريبهما يوم القيامة ؛ فله سبحانه وحده القدرة التامة على الإيجاد والإبقاء والإفناء في الدارين ؛ فكيف يشركون به غيره ! ؟. والقبضة : المرة من القبض، وتطلق على المقدار المقبوض بالكف ؛ أي والأرض – مجموعة – مقبوضة له تعالى يوم القيامة. وخص بالذكر وإن كانت قدرته شاملة لدار الدنيا أيضا ؛ لأن الدعاوي تنقطع في ذلك اليوم ؛ كما قال : " والأمر يومئذ لله " وقال : " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ". ﴿ والسموات مطويات بيمينه ﴾ قال الزمخشري : الغرض من هذا الكلام إذا أخذته بمجموعه – تصوير عظمته تعالى : والتوقيف على كنه جلاله لا غير ؛ من غير ذهاب بالقبضة واليمن إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز. فهو تمثيل لحال عظمته تعالى، ونفاذ قدرته – بحال من يكون له قبضة فيها الأرض جميعا، ويمين بها يطوى السموات. وقيل : هو تنبيه على مزيد جلالته وعظمته تعالى ؛ بإفادة أن الأرض كلها مع عظمها وكثافتها في مقدوره، كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه. فالقبضة مجاز عن الملك أو التصرف ؛ كما يقال : هو في يد فلان وفي قبضته، للشيء الذي يهون عليه التصرف فيه وإن لم يقبض عليه. واليمين : مجاز عن القدرة التامة.
والسلف – كما ذكره الألوسي – يذهبون إلى أن الكلام تنبيه على مزيد جلالته وعظمته، ورمز إلى أن آلهتهم – أرضية أم سماوية – مقهورة لله تعالى. إلا أنهم لا يقولون بالتجوز بالقبضة عن الملك أو التصرف، ولا باليمين عن القدرة ؛ بل ينزهونه تعالى عن الجوارح والأعضاء، ويؤمنون بما نسبه تعالى إلى ذاته بالمعنى اللائق به الذي أراده سبحانه. قال الخطابي : ليس عندنا معنى اليد الجارحة، إنما هي صفة جاء بها التوقيف ؛ فنحن نطلقها على ما جاءت لا نكيفها، وننتهي إلى حيث انتهى بنا الكتاب والأخبار المأثورة. وقال سفيان بن عيينة : كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره : تلاوته والسكوت عليه.
﴿ ونفخ في الصور ﴾ أي في القرن، النفحة الأولى التي بها الموت. ﴿ فصعق من في السموات ومن في الأرض ﴾
خر ميتا من كان حيا فيهما. ﴿ ثم نفخ فيه أخرى ﴾ نفخة البعث. ﴿ ينظرون ﴾ ينتظرون ماذا يفعل بهم.
﴿ ووضع الكتاب ﴾ أي صحائف الأعمال في أيدي أصحابها ؛ فخذ بيمينه وآخذ بشماله.
﴿ زمرا ﴾ جماعات متفرقة بعضها في إثر بعض. جمع زمرة وهي الجماعة القليلة ؛ ومنه شاة زمرة : أي قليلة الشعر. ورجل زمر : أي قليل المروءة.
﴿ مثوى المتكبرين ﴾ مأوى المستكبرين عن طاعة الله.
﴿ وفتحت أبوابها ﴾ أي وقد فتحت أبوابها. والجملة حالية، وجواب " إذا " مقدر بعد " خالدين "، أي سعدوا أو فازوا.
﴿ نتبوأ من الجنة حيث نشاء ﴾ أي ينزل كل واحد منا من جنته الواسعة حيث يريد.
وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العلمين ( ٧٥ )
﴿ وترى الملائكة حافين من حول العرش ﴾ محدقين محيطين بالعرش، مصطفين بحافته وجوانبه. جمع حاف وهو المحدق بالشيء. يقال : حففت بالشيء، إذا أحطت به ؛ مأخوذ من الحفاف وهو الجانب. والله أعلم.
Icon