ﰡ
ثم أوضحت السورة ميزان الروابط الاجتماعية وأنها قائمة على أساس التناصح والتكافل، والتراحم والتعاون، لتقوية بنية الأمة.
وتكاملت أنماط وصور علاقة هذا المجتمع بالمجتمعات الأخرى، سواء مع الجماعات أو الدول، فحددت السورة قواعد الأخلاق والمعاملات الدولية، وبعض أحكام السلم والحرب، ونواحي محاجة أهل الكتاب ومناقشتهم، وما يستتبع ذلك من الحملة المركزة على المنافقين. وذلك كله من أجل إقامة المجتمع الفاضل في دار الإسلام وتطهيره من زيغ العقيدة وانحرافها عن «عقيدة التوحيد» العقلية الصافية إلى فكرة التثليث النصرانية المعقدة البعيدة عن حيّز الإقناع العقلي والاطمئنان النفسي، كما قال تعالى: وَلا تَقُولُوا: ثَلاثَةٌ، انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ، إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ [النساء ٤/ ١٧١].
وحدة الأصل الإنساني ووحدة الزوجين ورابطة الأسرة
[سورة النساء (٤) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)الإعراب:
وَالْأَرْحامَ: معطوف على اسم الله تعالى، وتقديره: واتقوا الله واتقوا الأرحام أن
البلاغة:
يوجد طباق بين قوله: رِجالًا وَنِساءً ويوجد إيجاز في قوله: رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً أي ونساء كثيرات.
المفردات اللغوية:
النَّاسُ اسم للجنس البشري، واحده من غير لفظه: إنسان. اتَّقُوا رَبَّكُمُ أي اتقوا عقابه بأن تطيعوه مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ آدم وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها حواء، من ضلع من أضلاعه اليسرى وَبَثَّ فرق ونشر مِنْهُما من آدم وحواء من طريق التناسل والتوالد رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً كثيرات تَسائَلُونَ أي تتساءلون، أي يسأل بعضكم بعضا بأن يقول: سألتك بالله أن تفعل كذا، وأسألك بالله، وأنشدك بالله وَالْأَرْحامَ جمع رحم، وهي هنا القرابة من جهة الأب أو الأم، أي اتقوا الأرحام أن تقطعوها، والمراد: خافوا حق إضاعة الأرحام. ومن قرأ بالجر عطفه على الضمير في بِهِ وكانوا يتناشدون بالرحم رَقِيباً أي مشرفا والمراد: حافظا لأعمالكم، فيجازيكم بها، وهو لا يزال متصفا بذلك، فهو الحفيظ المطلع العالم بكل شيء.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى الناس العقلاء بتقواه بامتثال الأوامر واجتناب المنهيات في كل ماله صلة بعبادته وحده لا شريك له وبحقوق العباد، ويؤكد الأمر بالتقوى بما يحمل على الامتثال، بذكر الربوبية المضافة إلى المخاطبين التي تربيهم بنعمه وتفيض عليهم من إحسانه، ثم ذكر لفظ الله في الأمر الثاني بالتقوى، لأن الله علم المهابة والجلالة، ثم التذكير بأنه خالقهم، والتنبيه على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة، فهم من أصل واحد كلهم لآدم وآدم من تراب، وأنه خلق من تلك النفس زوجها وتناسل منهما البشر ذكورا وإناثا، وجعل من تلك الذرية رابطة الأسرة القائمة على الرحم وصلة الدم والقرابة مما يدعوهم إلى التراحم
وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد والحاكم عن المسور: «فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها..».
وفي التذكير بالأصل الإنساني الواحد دلالة على وجوب التزام حدود الإنسانية، وأن الإنسان أخ الإنسان أحب أم كره، والأخوة تقتضي المسالمة والتعاون ونبذ المحاربة والخصومة والتقاطع.
والمقصود بالنفس الواحدة في رأي جمهور العلماء: آدم عليه السلام الذي هو أبو البشر، وأنه ليس هناك سوى آدم واحد، أما من يدعي وجود أوادم قبله، فهو يصادم ظواهر القرآن الكريم.
والمقصود بالزوج هو حواء، وقد خلقت من ضلع آدم الأيسر، وهو نائم، فاستيقظ، فرآها فأعجبته، وأنس إليها وأنست إليه، بدليل
الحديث الصحيح عند الشيخين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن خلقن من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج».
وذهب بعض العلماء كأبي مسلم الأصفهاني إلى أن المراد: أنه خلق من جنسها زوجها، فهما من جنس واحد، وطبيعة واحدة، وأي فائدة من خلقها من الضلع لأنه سبحانه وتعالى قادر على خلقها كآدم من التراب؟ واستدل بقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها [الروم ٣٠/ ٢١] أي من جنسكم، مثل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة ٦٢/ ٢] أي من جنسهم، ومثل: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة ٩/ ١٢٨].
ثم بين الله تعالى طريق تكاثر النوع الإنساني، فذكر أنه نشر وفرق من آدم وحواء نوعي جنس البشر وهما الذكور والإناث التي تفرع منهما الإنسان الذي سكن الأرض وعمرها.
ثم أكد تعالى الأمر السابق بالتقوى من طريق سؤال الناس بعضهم بعضا بالله لقضاء حوائجهم، فذلك السؤال بالله يدل على الإيمان به وتعظيمه، فيقول: سألتك بالله أن تقضي هذه الحاجة، راجيا إجابة طلبه، فهذا القول من موجبات امتثال أوامر الله، ومن امتثل ذلك اتقى الله وحذر مخالفة أوامره واجتنب نواهيه.
وكما يجب اتقاء الله يجب اتقاء قطع الأرحام، أي اتقوا الله الذي تتساءلون باسمه إيمانا به وتعظيما له، واتقوا الأرحام، أي صلوها بالود والإحسان ولا تقطعوها، فإن قطعها مما يجب أن يتقى.
ثم ختم تعالى الآية بإعلامه أنه مطلع على كل شيء رقيب حفيظ لكل عمل وحال، فلا يشرع لنا إلا ما به حفظنا ومصلحتنا، وهو البصير بأحوالنا. وهذا في موضع التعليل للأمر بالتقوى ووجوب الامتثال. وهذه الخاتمة مثل قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة ٥٨/ ٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى أحكام كثيرة:
١- وجوب التزام التقوى التي هي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات.
وقد أكد تعالى الأمر بها حثا عليها، فعبّر أولا للترغيب بلفظ (الرب) الذي
٢- كون البشرية من أصل واحد ومنشأ واحد، أبوهم آدم وآدم من تراب، فهي النفس الواحدة، ووحدتها تقتضي جعل الأسرة الإنسانية متراحمة متعاونة متحابة غير متعادية ولا متخاصمة ولا متقاطعة.
٣- المراد بالنفس الواحدة آدم أبو البشر عليه السلام، والنفس هنا هي الجسم والروح. وللجسم أو الجسد وظائف عضوية مادية، وللنفس وظائف روحية ومعنوية، وآثار محسوسة مثل العقل والحفظ والتذكير.
واختلف العلماء المسلمون في حقيقة النفس أو الروح على رأيين: رأي يقول: إنها حالة تعرض للجسم ما دام حيا، والرأي الأشهر: أنها جسم نوراني علويّ خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في النبات، منفصل عن الجسم، متصل به في حال الحياة.
وافتتاح السورة ب أَيُّهَا النَّاسُ بالرغم من أن السورة مدنية براعة استهلال لما في السورة من أحكام الزواج والمواريث والحقوق الزوجية، وأحكام المصاهرة والرضاع وغيرها من أحكام الرابطة الإنسانية. والغالب إذا كان الخطاب ب يا أَيُّهَا النَّاسُ وكان الخطاب للكافرين فقط أو معهم غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية، وإذا كان الخطاب للمؤمنين أعقب بذكر النعم.
٤- المرأة جزء حقيقي من الرجل، منه خلقت، وإليه تعود، يأنس كل منهما بالآخر، ويألفه ويحن إليه، سواء أكانت المرأة أما أم أختا أم بنتا أم
٥- جواز المساءلة بالله تعالى،
روي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم: «من سألكم بالله فأعطوه».
٦- تعظيم رابطة القرابة وحق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها، سواء أكانت من جهة الأب أم من جهة الأم إذ قرن الله الأرحام باسمه تعالى، وحذر من قطيعة الرحم في آية أخرى هي: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمد ٤٧/ ٢٢] فقرن قطع الرحم إلى الفساد في الأرض.
واتفق المسلمون على أن صلة الرحم واجبة، وأن قطيعتها محرّمة، وقد صح
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأسماء، وقد سألته: «أأصل أمي» :«نعم صلي أمك» فأمرها بصلتها وهي كافرة مشركة.
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: أما ترضين أني أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك».
والرحم هنا: اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم كالأخت والخالة وغيره، كابن العم.
وتدل الآية أيضا على جواز التساؤل بالأرحام، على قراءة إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة: «الأرحام» بالجر، وليس في ذلك حلف بغير الله لأن قول الرجل لصاحبه: أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف والتأكيد، فهو ليس بيمين، فلا يكون من المنهي عنه
في حديث الشيخين عنه صلّى الله عليه وسلّم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر- وهم مجتابو النمار أي من عريهم وفقرهم- قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر، فقال في خطبته: يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ حتى ختم الآية، ثم قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر ٥٩/ ١٨] ثم حضهم على الصدقة فقال: «تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره» الحديث. وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود.
إيتاء اليتامى أموالهم وتحريم أكلها
[سورة النساء (٤) : آية ٢]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
البلاغة:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ مجاز مرسل باعتبار ما كان، أي أتوا الذين كانوا يتامى.
وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ: الباء داخلة على المتروك، كما هو المقرر لغة، وفيهما طباق.
المفردات اللغوية:
الْيَتامى جمع يتيم: وهو من فقد أباه، وهو شرعا وعرفا مختص بمن كان دون البلوغ،
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أي لا تجعلوها مضمومة إليها إِنَّهُ أي أكلها كانَ حُوباً كَبِيراً إثما وذنبا عظيما.
سبب النزول:
قال مقاتل والكلبي: نزلت في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب المال، فمنعه عمه، فترافعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير، فدفع إليه ماله، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من يوق شح نفسه ورجع به هكذا، فإنه يحلّ داره، يعني جنته، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله تعالى، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ثبت الأجر وبقي الوزر، فقالوا: يا رسول الله، قد عرفنا أنه ثبت الأجر، فكيف بقي الوزر، وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال:
ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده «١».
التفسير والبيان:
موضوع الآية: يأمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم. والخطاب للأوصياء ما دام المال بأيديهم واليتامى عندهم.
وهذا شروع في بيان أحوال التقوى، وأولها الحفاظ على مال الأيتام الضعفاء، بعد تذكير الله بصلة الرحم والقرابة.
واليتيم: من مات أبوه مطلقا، ولكن خصص في الشرع والعرف كما بينت بالصغير،
لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه أبو داود عن علي رضي الله عنه-: «لا يتم بعد احتلام».
وليست الآية في إيتاء اليتامى أموالهم على ظاهرها، فلا يعطونها قبل البلوغ، ويكون إيتاء الأموال مجازا عن تركها سالمة من غير أن يتعرض لها بسوء، بدليل الآية الأخرى: وَابْتَلُوا الْيَتامى أي اختبروا صلاحيتهم لتسلم أموالهم عند البلوغ، فهذه الآية حث على تسليم المال فعلا عند حصول البلوغ والرشد، وأما الآية: وَآتُوا الْيَتامى فهي حث على حفظ أموال اليتامى لتسلم لهم عند بلوغهم ورشدهم.
والأولى أن يكون الإيتاء مستعملا بمعناه الحقيقي وهو الإعطاء بالفعل، وتكون كلمة الْيَتامى مجازا باعتبار ما كان، وعبر باليتامى لقرب العهد بالصغر، وللإشارة إلى وجوب المسارعة والمبادرة بدفع أموالهم إليهم لأن اليتم ضعف، وهو يستدعي الرحمة والعفة، حتى كأن اسم اليتم باق بعد البلوغ، وهذا المعنى يسمى في أصول الفقه بإشارة النص.
قال مجاهد: وهذه الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها، فنهوا عن ذلك، ثم نسخ بقوله: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة ٢/ ٢٢٠].
وليس المراد بالآية إيتاء اليتامى أموالهم في حال اليتم، وإلا تعرضت للضياع، وإنما يجب الدفع إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد، عملا بالآية التالية:
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء ٤/ ٦]. قال الجصاص الرازي الحنفي: أطلق الله تعالى في آية:
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إيجاب دفع المال من غير قرينة الرشد، ومتى وردت آيتان إحداهما خاصة مضمنة بقرينة فيما تقتضيه من إيجاب الحكم، والأخرى عامة غير مضمنة بقرينة، وأمكن استعمالهما على فائدتهما، لم يجز لنا الاقتصار بهما على فائدة إحداهما، وإسقاط فائدة الأخرى.
ثم ذكر الجصاص رأي أبي حنيفة: وهو وجوب تسليم المال إلى اليتيم إذا بلغ خمسا وعشرين سنة على أي حال كان، فإذا بلغها ولم يؤنس منه رشد، وجب دفع المال إليه، لقوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ فيستعمله بعد خمس وعشرين سنة على مقتضاه وظاهره، وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد، لاتفاق أهل العلم على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع المال إليه «١».
وقال أبو حنيفة: لما بلغ رشده صار يصلح أن يكون جدّا، فإذا صار يصلح أن يكون جدا، فكيف يصح إعطاؤه المال بعلة اليتم وباسم اليتم؟! وهل ذلك إلا في غاية البعد؟
والخلاصة: دلت الآية على أمرين:
١- وجوب دفع أموال اليتامى لهم عند توافر الأهلية الملائمة لإدارة الأموال.
٢- كل وجوه الانتفاع ومنها الأكل بمال اليتيم حرام ومن كبائر الذنوب العظيمة إلا عند الحاجة، عملا بالآية التالية: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ [النساء ٤/ ٦].
إباحة تعدد الزوجات إلى أربع ووجوب إيتاء المهر
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣ الى ٤]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
الإعراب:
فِي الْيَتامى أي في نكاح اليتامى، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ منصوب على البدل من ما للعدل والوصف، أي أن الكلمات الثلاث من ألفاظ العدد، معدولة عن اثنين وثلاثة وأربعة، وتدل كل واحدة منها على المكرر من نوعها، فمثنى
فَواحِدَةً أي فانكحوا واحدة، وهو جواب الشرط في قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا وقرئ بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف تقديره: فهي واحدة، أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره:
فامرأة واحدة تقنع، والأول أولى.
نِحْلَةً منصوب على المصدر نَفْساً منصوب على التمييز هَنِيئاً مَرِيئاً: حالان من هاء فَكُلُوهُ وهي تعود على شيء. والواو في فَكُلُوهُ تعود على الأولياء أو على الأزواج.
المفردات اللغوية:
تُقْسِطُوا تعدلوا ولم تظلموا، من أقسط: عدل، مثل قوله تعالى: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. وأما قسط: فمعناه جار، قال تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً.
ما طابَ لَكُمْ ما مال إليه القلب منهن. مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ هذه ألفاظ عدد معدولة عن اثنتين اثنتين، وثلاث ثلاث، وأربع أربع فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فيهن بالنفقة والقسم في المبيت والمعاملة فَواحِدَةً أي انكحوا واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ اقتصروا على ما ملكتم من الإماء، إذ ليس لهن من الحقوق ما للزوجات.
ذلِكَ أي نكاح الأربع فقط أو الواحدة أو التسري أَدْنى أقرب إلى أَلَّا تَعْدِلُوا تجوروا، أي ذلك أقرب إلى عدم العول والجور.
وَآتُوا أعطوا صَدُقاتِهِنَّ مهورهن، جمع صدقة نِحْلَةً عطية وهبة عن طيب نفس فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً تمييز محول عن الفاعل، أي طابت أنفسهن لكم عن شيء من الصداق، فوهبنه لكم هَنِيئاً مَرِيئاً الهنيء: ما يستلذه الآكل، والمريء: ما تحسن عاقبته وهضمه وتغذيته، أي أنه محمود العاقبة لا ضرر فيه عليكم في الآخرة.
سبب النزول:
نزول الآية (٣) :
وَإِنْ خِفْتُمْ: روى الصحيحان والنسائي والبيهقي وغيرهم عن عروة بن الزّبير أنه سأل خالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن هذه الآية،
وقال سعيد بن جبير وقتادة والرّبيع والضّحّاك والسّدّي: كانوا يتحرّجون عن أموال اليتامى ويترخّصون في النّساء، ويتزوّجون ما شاؤوا، فربّما عدلوا وربما لم يعدلوا، فلما سألوا عن اليتامى، فنزلت آية اليتامى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ الآية، أنزل الله تعالى أيضا: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى يقول: كما خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء ألا تعدلوا فيهنّ، فلا تتزوّجوا أكثر ما يمكنكم القيام بحقهنّ لأن النساء كاليتامى في الضعف والعجز.
وهذا قول ابن عبّاس في رواية الوالبي (علي بن ربيعة بن نضلة ثقة من كبار الثالثة).
نزول الآية (٤) :
وَآتُوا النِّساءَ: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوّج ابنته أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك، فأنزل: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً.
التفسير والبيان:
موضوع الآية يتحدد بحسب النزول فهو إما في التزوّج بالنساء غير اليتيمات، أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النساء، فإنهن كثير ولم يضيق الله عليه.
وإما في العدل بين النساء ومنع إلحاق الظلم بهنّ حالة التعدد، أي أنه لما نزلت آية: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ تحرج الأولياء من ولايتهم مع أنهم كانوا
والمراد من الخوف: العلم، عبر بذلك إيذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا.
أي إن علمتم وأحسستم من أنفسكم إلحاق الظلم باليتامى بعدم إعطائهن مهورهن، أو بأكل أموال الأيتام بالباطل، فعليكم ألا تتزوّجوا باليتيمة، وتزوّجوا بغيرها من النساء واحدة أو ثنتين أو ثلاثا أو أربعا، أو عليكم أن تعدلوا بين النساء حال التعدد، فلا تتزوجوا بأكثر من أربع لتتمكنوا من العدل والقسم بينهن، وتكون أحوال الرجال زمرا متنوعة، فمنهم من يتزوّج اثنتين، ومنهم من يتزوّج ثلاثا، ومنهم من يتزوّج أربعا، وعدد الأربع هو الحدّ الأقصى الذي يمكن معه العدل بين الزوجات.
والأمر في قوله: فَانْكِحُوا للإباحة، مثل قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة ٢/ ١٨٧ وغيرها]، وقيل: للوجوب أي وجوب الاقتصار على العدد المأخوذ من قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا وجوب أصل النكاح.
وقوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ تدلّ كلّ كلمة منها على المكرر من نوعها، فمثنى تدلّ على اثنين اثنين، وثلاث تدلّ على ثلاثة ثلاثة، ورباع تدلّ على أربعة أربعة، والمراد منها الإذن لكلّ من يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور، متّفقين فيه أو مختلفين.
ثمّ أكّد الله تعالى ضرورة التزام العدل بين الزوجات المتعددات، المفهوم من قوله وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا... فذكر أنه إن خفتم ألا تعدلوا حال تعدّد الزوّجات،
والخوف من عدم العدل يشمل حال الظنّ والشّك في ذلك. فإما أن تقتصروا على واحدة من الحرائر أو تقتصروا على الاستمتاع بما تشاؤون من الإماء (السّراري) بطريق التّسري لا بطريق النكاح لعدم وجوب العدل بينهن، وإنما المطلوب فقط حقّ الكفاية في نفقة المعيشة بحسب العرف.
ذلك أي اختيار الواحدة أو التّسري أقرب إلى الوقوع في عدم الجور والظلم، فالمراد من قوله: أَلَّا تَعُولُوا ألا تجوروا. وحكي عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه فسّر أَلَّا تَعُولُوا بألا تكثر عيالكم، نقل الكسائي والأصمعي والأزهري عن فصحاء العرب: عال يعول: إذا كثرت عياله.
والخلاصة: إن البعد عن الجور سبب في تشريع الاقتصار على واحدة أو على التّسري، وفيه إشارة إلى اشتراط العدل بين الزوجات. والعدل المطلوب بين النساء هو العدل المادي أي القسم بينهن في المبيت، والتّسوية في نفقات المعيشة من مأكل ومشرب وملبس ومسكن. أما العدل المعنوي أو الأمر القلبي وهو الميل والحبّ فغير مطلوب لأنه ليس في وسع الإنسان ولا يدخل في حدود طاقته. لذا كان الرّسول صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يميل إلى عائشة أكثر من غيرها
يقول فيما ذكرته السنن عن عائشة: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك»
أي من ميل القلب.
وإذا خاف الشخص عدم العدل حرم عليه أن يتزوّج أكثر من واحدة.
ثم خاطب الله الأزواج فأمرهم بإعطاء الزّوجات مهورهن عن طيب نفس دون تلكؤ، رمزا للمودّة التي تقوم بين الزّوجين، وعنوانا على المحبة وتكريم
وقيل: الخطاب للأولياء، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان الرّجل إذا زوّج أيّما (وهي المرأة التي لا زوج لها) أخذ صداقها دونها، فنهاهم الله عن ذلك، ونزلت: وَآتُوا النِّساءَ.
فإن طابت نفوسهن بإعطائكم شيئا من المهر من غير ضرار ولا خديعة، فكلوه هنيئا مريئا، أي يحلّ لكم ذلك ولا ذنب عليكم في أخذه، لا تخافون في الدّنيا مطالبة، ولا في الآخرة تبعة.
وعبر بالأكل وأراد حلّ التصرّف فيه، وخصّ الأكل بالذّكر لأنه معظم وجوه التّصرفات المالية، كما في قوله تعالى المتقدم: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت آية: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا على ما يأتي:
١- وجوب التزام العدل في كلّ شيء، سواء في الإشراف على أموال اليتامى، أو في الزّواج بهن، أو في أثناء تعدّد الزوجات من غير اليتيمات، قال ابن عبّاس وابن جبير وغيرهما: المعنى: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، فكذلك خافوا في النّساء لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى، ولا يتحرّجون في النّساء.
وقالت عائشة رضي الله عنها: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ
قالت: وقوله تعالى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ المراد منه هذه الآية: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ والمعنى: وإن علمتم ألا تعدلوا في نكاح اليتامى اللاتي تلونهن، فانكحوا، ما مالت إليه نفوسكم من النّساء غيرهنّ.
والمقصود النّهي عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل.
٢- الآية على تأويل عائشة هذا تشهد لمن قال: إن لغير الأب والجدّ أن يزوّج الصغيرة أو يتزوّجها لأنها على هذا التأويل نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في مالها وجمالها، ولا يقسط لها في الصداق، وأقرب ولي تكون اليتيمة في حجره ويجوز له تزوّجها هو «ابن العم».
وعليه تكون الآية متضمنة جواز أن يتزوّج ابن العم اليتيمة التي في حجره.
وإذا جاز له أن يتزوّجها، فإما أن يلي هو النكاح بنفسه، وإما أن يزوّجه إياها أخوها مثلا. وأيّا ما كان فلغير الأب والجدّ أن يزوّج الصغيرة.
وأما من قال من الأئمة: لا يزوج الصغيرة إلا الأب أو الجد، يحمل الآية على أحد التّأويلين الآخرين (عدم الإقساط في مهرها، أو التّحرّج في ولاية الأيتام) أو يحمل اليتامى على الكبار منهن، وعلى طريق المجاز المرسل باعتبار ما كان لقرب عهدهن باليتيم.
٣- تعلّق أبو حنيفة بهذه الآية في تجويزه نكاح اليتيمة قبل البلوغ، وقال:
إنما تكون يتيمة قبل البلوغ، وبعد البلوغ هي المرأة مطلقة لا يتيمة، بدليل أنه لو أراد البالغة لما نهى عن حطّها عن صداق مثلها لأنها تختار ذلك، فيجوز إجماعا.
وذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء إلى أن ذلك لا يجوز حتى تبلغ
اليتامى هنا، كما قالت عائشة رضي الله عنها، فقد دخلت اليتيمة الكبيرة في الآية، فلا تزوّج إلا بإذنها، ولا تنكح الصغيرة إذ لا إذن لها، فإذا بلغت جاز نكاحها، لكن لا تزوّج إلا بإذنها،
كما رواه الدّارقطني عن ابن عمر، قال: زوّجني خالي قدامة بن مظعون بنت أخيه عثمان بن مظعون، فدخل المغيرة بن شعبة على أمها، فأرغبها في المال وخطبها إليها، فرفع شأنها إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال قدامة: يا رسول الله، ابنة أخي، وأنا وصي أبيها، ولم أقصّر بها، زوّجتها من قد علمت فضله وقرابته. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنها يتيمة واليتيمة أولى بأمرها» فنزعت مني وزوّجها المغيرة بن شعبة.
٤- دلّ تفسير عائشة للآية على وجوب صداق المثل إذا فسد تعيين الصداق ووقع الغبن في مقداره، لقولها: «بأدنى من سنّة صداقها».
٥- إذا بلغت اليتيمة وأقسط الولي في صداقها، جاز له أن يتزوّجها، ويكون هو النكاح والمنكح، على ما فسّرته عائشة. وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأبو ثور، أي أنه يمكن انعقاد الزواج بعاقد واحد.
وقال زفر والشافعي: لا يجوز له أن يتزوّجها إلا بإذن السلطان، أو يزوجها منه وليّ لها غيره لأن الولاية شرط من شروط العقد،
لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه البيهقي عن عمران وعن عائشة: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل»
فتعديد الناكح والمنكح والشهود واجب، أي لا بدّ من تعدد العاقد.
٦- في الآية دلالة على جواز تعدد الزوجات إلى أربع، وأنه لا يجوز التّزوج بأكثر من أربعة مجتمعات في عصمة رجل واحد لأن هذا العدد قد ذكر في مقام
ولا يدلّ هذا العدد: مثنى وثلاث ورباع على إباحة تسع، وعضد ذلك بأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته.
ويرده إجماع الصحابة والتابعين على الاقتصار على أربع، ولم يخالف في ذلك أحد،
وأخرج مالك في موطئه والنسائي والدّارقطني في سننهما أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لغيلان بن أميّة الثقفي، وقد أسلم وتحته عشر نسوة: «اختر منهن أربعا وفارق سائرهن».
٧- وتمسّك الإمام مالك وداود الظاهري والطبري بظاهر هذه الآية في مشروعية نكاح الأربع للأحرار والعبيد، على حدّ سواء، فالعبيد داخلون في الخطاب بقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ.. فيجوز لهم أن ينكحوا أربعا كالأحرار، ولا يتوقّف نكاحهم على الإذن لأنهم يملكون الطلاق فيملكون النكاح.
وذهب الحنفية والشافعية إلى أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين، لما روى الليث عن الحكم قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين. قالوا: والخطاب في قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ.. لا يتناول العبيد لأنه إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها، والعبد لا يملك ذلك لأنه لا يجوز نكاحه إلا بإذن مولاه،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن ماجه عن ابن عمر: «أيّما عبد تزوّج بغير إذن مولاه فهو عاهر».
ولأن قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لا يمكن أن يدخل فيه العبيد، لعدم الملك، وكذلك قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ.. لا يشمل العبيد لأن العبد لا يتملك، بل يكون الشيء الموهوب له لسيّده، فيكون الآكل السيّد لا العبد.
اختلف العلماء، فقال مالك والشافعي وأبو ثور: عليه الحدّ إن كان عالما.
وقال الزّهري: يرجم إذا كان عالما، وإن كان جاهلا أدنى الحدين الذي هو الجلد، ولها مهرها، ويفرّق بينهما ولا يجتمعان أبدا.
وقال أبو حنيفة: لا حدّ عليه في شيء من ذلك.
وقال أبو حنيفة: لا حدّ عليه في شيء من ذلك.
وقال الصاحبان (أبو يوسف ومحمد) : يحدّ في ذات الزواج المحرّم ولا يحدّ في غير ذلك من النّكاح، مثل أن يتزوّج مجوسية أو خمسة في عقد، أو تزوّج متعة أو تزوّج بغير شهود، أو أمة تزوّجها بغير إذن مولاها.
٧- الاقتصار على امرأة واحدة واجب عند خوف الظلم لأن معنى قوله:
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً: إن خفتم من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن، كما قال تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فمن خاف من ذلك، فليقتصر على واحدة أو على الجواري السّراري، فإنه لا يجب قسم بينهن، ولكن يستحب، فمن فعل فحسن، ومن لا فلا حرج.
وأرشدت الآية: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ إلى ما يأتي:
١- وجوب المهر للزّوجة: إن الفروج لا تستباح إلا بصداق يلزم، سواء أسمي ذلك في العقد أم لم يسمّ. وإن الصداق ليس في مقابلة الانتفاع بالبضع لأن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركة بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزّوجة المهر، فكان ذلك عطية من الله ابتداء. وهذا مجمع عليه ولا خلاف فيه: ونظير الآية قوله: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء ٤/ ٢٥] أي أعطوهن مهورهن.
٢- التنازل عن المهر: يجوز للزوجة أن تعطي زوجها مهرها أو جزءا منه، سواء أكان مقبوضا معينا أم كان في الذمة، فشمل ذلك الهبة والإبراء. ولكن ينبغي للأزواج الاحتياط فيما أعطت نساؤهم، حيث بنى الشرط على طيب النفس فقال: فَإِنْ طِبْنَ ولم يقل: فإن وهبن، إعلاما بأن المراعى في ذلك التنازل عن المهر طيبة به نفسها من غير إكراه مادي أو أدبي، أو سوء معاشرة، أو خديعة.
ويدلّ عموم قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ على أن هبة المرأة صداقها لزوجها جائزة، سواء أكانت بكرا أم ثيّبا. وبه قال جمهور الفقهاء. ومنع مالك من هبة البكر الصداق لزوجها، وجعل ذلك للولي، مع أن الملك لها.
واتّفق العلماء على أن المرأة المالكة لأمر نفسها إذا وهبت صداقها لزوجها، نفذ ذلك عليها، ولا رجوع لها فيه.
وإن تنازلت المرأة عن شيء من صداقها بشرط عند عقد النّكاح ألّا يتزوّج عليها، ثمّ تزوّج عليها، فلا شيء لها في رواية ابن القاسم عن مالك لأنها شرطت عليه ما لا يجوز شرطه.
وقال ابن عبد الحكم: إن خالف هذا الشرط، رجعت عليه بتمام صداق مثلها لأنه شرط عليه نفسه شرطا وأخذ عنه عوضا، كان لها واجبا أخذه منه، فوجب عليه الوفاء،
لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه الحاكم عن أنس وعائشة: المسلمون عند شروطهم».
٣- إباحة أخذ الزّوج المهر: يحلّ للزّوج أخذ ما وهبت زوجته بالشّرط السابق: «طيب النّفس» من غير أن يكون عليه تبعة في الدّنيا والآخرة.
ونظيره قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة ٦٢/ ٩] إن صورة البيع غير مقصودة، وإنما المقصود ما يشغله عن ذكر الله تعالى مثل النّكاح وغيره، ولكن ذكر البيع لأنه أهم ما يشتغل به عن ذكر الله تعالى.
٤- إيجاب المهر في الخلوة الصحيحة: احتجّ الجصاص «١» بقوله تعالى:
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً على إيجاب المهر كاملا للمخلو بها خلوة صحيحة، ولو طلقت قبل الدخول (المساس). ويلاحظ أن الآية عامة في كلّ النساء، سواء المخلو بها وغيرها إلّا أن قوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ يدلّ على أنه لا يجب للمخلو بها إلّا نصف المهر، وهذه الآية خاصة، والخاص مقدم على العام.
الحكمة من تعدد الزوجات:
الوضع الطبيعي وهو الأشرف والأفضل أن يكون للرجل زوجة واحدة، لأن الغيرة مشتركة بين الزوج والزوجة، فكما أن الزوج يغار على زوجته، كذلك الزوجة تغار على زوجها.
ولكن الإسلام أباح التعدّد لضرورة أو حاجة وقيّده بقيود: القدرة على الإنفاق، والعدل بين الزّوجات، والمعاشرة بالمعروف. والإباحة لأحوال استثنائية منها:
٢- كثرة النساء: إن المواليد من الإناث أكثر من الذكور في غالب البلاد، وقد تكثر النساء ويقل الرجال عقب أزمات الحروب، فيكون الأفضل تعدد الزوجات تحقيقا لعفاف المرأة وصونا لها عن ارتكاب الفاحشة، وتطهيرا للمجتمع من آثار الزنى وما يعقبه من انتشار الأمراض وكثرة المشردين واللقطاء.
٣- الحالة الجنسية: قد تصاب المرأة بالبرود الجنسي ولا سيما عقب بلوغ سن اليأس أو قبله عند استئصال الرحم بسبب مرض. وقد يكون الرجل ذا قدرة جنسية زائدة أو شبق دائم مستمر، وهو لا يكتفي بامرأة واحدة، لعدم استجابتها أحيانا، أو لطروء الحيض عليها أسبوعا في كل شهر على الأقل، فيكون اللجوء للتزوج بزوجة ثانية حاجزا له عن الوقوع في الزنى الذي يضيّع الدّين والمال والصّحة، ويسيء إلى السّمعة.
أما إساءة استعمال بعض المسلمين إباحة تعدّد الزوجات كالانتقام من الزوجة السابقة، أو لمجرّد الشّهوة، لا لهدف مما ذكر، فهو تصرّف شخصي لا يسيء إلى الأصول والمبادئ الإسلامية التي أباحت التعدّد مقيّدا بقيود معينة. وعلى كلّ حال، نادى كثير من فلاسفة الغرب بتعدّد الزّوجات، وهو لا شكّ أفضل بكثير من تعدّد العشيقات والمخادنات، وأما الطلاق فهو واقع في كلّ ديار الغرب لأسباب كثيرة بل تافهة يترفّع المسلمون عن مجاراتهم فيها.
أسباب تعدّد زوجات النّبي صلّى الله عليه وسلّم:
لم يعدد النّبي صلّى الله عليه وسلّم زوجاته إلى تسع بقصد شهواني أو لمتعة جنسية، واقتصر
وإنما كان تعدّد زوجاته لأغراض إنسانيّة واجتماعيّة وإسلاميّة، فقد يتزوّج امرأة بتزويج الله له كزينب بنت جحش لإبطال عادة التّبني، وقد يتزوّج امرأة لتعويضها عن زوجها الذي فقدته بسبب الهجرة أو الجهاد في سبيل الله، وقد يتزوّج من القبائل لتقوية رابطتهم بالإسلام، وربّما كان زواجه أحيانا بقصد نشر الإسلام بين القبائل العربية، فتكون مصاهرته لقبيلة مثل زواجه بجويرية بنت الحارث سببا في اعتناقها الإسلام، فدخل بنو المصطلق في الإسلام بسبب جويرية، وكان في هذا التعدّد فوائد كثيرة من أهمها تعليم نساء المسلمين الأحكام الخاصة بالنّساء أو الخاصة بين الزّوجين، وجعلهنّ قدوة في تطبيق الأحكام الإسلامية المتعلّقة بالأسرة وغيرها لأنه عليه الصلاة والسّلام القدوة الحسنة للمسلمين في أخلاقه ومعاشرته وسلوكه وعبادته ونحو ذلك.
والخلاصة: إن تعدّد الزّوجات في الإسلام أمر تلجئ إليه الضرورة، أو تدعو إليه المصلحة العامة أو الخاصة، وإصلاح مفاسده أولى من إلغائه، ولا يجرأ أحد على الإلغاء لأن النصوص الشرعية تدلّ صراحة على إباحته، وتعطيل النّص أو الخروج عليه أمر منكر حرام في شرع الله ودينه.
والنّبي صلّى الله عليه وسلّم راعى الحكمة البالغة والمصلحة الإسلامية في اختيار كل زوجة من زوجاته، فأما خديجة فهي الزوجة الأولى التي رزق منها الأولاد، وذلك متّفق مع سنّة الفطرة. وأما سودة بنت زمعة، فلتعويضها عن زوجها بعد رجوعها من هجرة الحبشة الثانية، وهي من المهاجرات الأوليّات، فلو عادت إلى أهلها لعذّبوها وفتنوها عن دينها، وأما عائشة وحفصة فلإكرام صاحبيه ووزيريه:
وأما زينت بنت خزيمة الملقبة أم المساكين فلتعويضها عن زوجها وهو عبد الله بن جحش الذي قتل في أحد، فلم يدعها أرملة تقاسي المتاعب والأحزان.
وكذلك زواجه بأم سلمة (واسمها هند) كان لتعزيتها بفقد زوجها أبي سلمة، ولفضلها وجودة رأيها يوم الحديبية.
وأما زواجه بأم حبيبة: رملة بنت أبي سفيان بن حرب فلتأليف قلوب قومها وإدخالهم في الإسلام، بعد أن هاجرت مع زوجها عبيد الله بن جحش إلى الحبشة الهجرة الثانية، فتنصّر هناك، وثبتت هي على الإسلام.
وأما زواجه بصفية بنت حيي بن أخطب سيّدة بني قريظة والنّضير من سبي خيبر، فمن أجل تحريرها من الأسر وإعتاقها.
وأما ميمونة بنت الحارث الهلالية (وكان اسمها برّة) آخر أزواجه بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزى، فلتشعب قرابتها في بني هاشم وبني مخزوم «١».
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥ الى ٦]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)
الإعراب:
الَّتِي إنما قال التي بلفظ المفرد ولم يقل: اللائي بلفظ الجمع لأنها جمع ما لا يعقل، مثل: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ [مريم ١٩/ ٦١] ومثل: فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ [هود ١١/ ١٠١]. ولو كان جمع من يعقل (العقلاء) لقال: اللاتي مثل: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي وقد تجيء التي في جمع العقلاء، واللاتي في جمع غير العقلاء.
إِسْرافاً وَبِداراً منصوبان لأنهما مفعولان لأجله، أو لأنهما مصدران في موضع الحال، أي:
لا تأكلوها مسرفين مبادرين. أَنْ يَكْبَرُوا أن المصدرية وصلتها في موضع نصب ب (بدار) أي مبادرين كبرهم. وجملة وَلا تَأْكُلُوها معطوفة على جملة: وَابْتَلُوا الْيَتامى.
وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي كفاك الله حسيبا، فالكاف المفعول محذوفة، والباء زائدة، والجار والمجرور في موضع رفع فاعل كفى، مثل: ما جاءني من أحد، والتقدير: كفى الله حسيبا.
وحسيبا: منصوب على التمييز، أو منصوب على الحال.
البلاغة:
غَنِيًّا وفَقِيراً: طباق، ويوجد مقابلة بين وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ.. وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. ويوجد جناس مغاير في دَفَعْتُمْ فَادْفَعُوا وفي قُولُوا
المفردات اللغوية:
السُّفَهاءَ جمع سفيه، وهو المبذر من الرجال والنساء والصبيان الذي ينفق ماله فيما لا ينبغي، ولا يحسن التصرف فيه. وأصل السفه: الاضطراب في العقل والسلوك. أَمْوالَكُمُ أي أموالهم التي في أيديكم، وأضيفت إلى الأوصياء للحث على حفظها كما يحفظون أموالهم. قِياماً مصدر (قام) أي تقوم بها أمور معاشكم وصلاح أودكم. وَارْزُقُوهُمْ فِيها أطعموهم منها.
وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً عدوهم عدة جميلة بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا. والقول المعروف:
ما تطيب به النفوس وتألفه.
وَابْتَلُوا اختبروا. الْيَتامى أي اختبروهم قبل البلوغ في دينهم وتصرفهم في أموالهم. حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ صاروا أهلا له بالاحتلام أو السن وهو استكمال خمس عشرة سنة عند الشافعي وأحمد. آنَسْتُمْ أبصرتم وتبينتم. رُشْداً أي صلاحا في التصرف في الأموال.
والرشد عند الإمام الشافعي: صلاح الدين والمال. إِسْرافاً مجاوزة الحد في التصرف في المال.
وَبِداراً مبادرة ومسارعة إلى الشيء، أي مبادرين إلى إنفاق الأموال قبل بلوغ الكبر. أَنْ يَكْبَرُوا يصبحوا راشدين فيلزمكم تسليم أموالهم إليهم. فَلْيَسْتَعْفِفْ أي يعف عن مال اليتيم ويمتنع عن أكله. والعفة: ترك ما لا ينبغي من الشهوات. بِالْمَعْرُوفِ بقدر أجرة عمله.
حَسِيباً رقيبا حافظا لأعمال خلقه ومحاسبهم.
سبب النزول: نزول الآية (٦) :
وَابْتَلُوا الْيَتامى: نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه.
وذلك أن رفاعة توفي وترك ابنه ثابتا وهو صغير، فأتى عم ثابت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحلّ لي من ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
أمر الله تعالى فيما سبق بإيتاء اليتامى أموالهم وبإعطاء النساء مهورهن، وهنا شرط للإيتاء شرطين يشملان الأمرين معا وهما: عدم السفه، والاختبار محافظة على أموالهم.
التفسير والبيان:
ينهى الله تعالى عن تمكين السفهاء المبذرين من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس طريق لتقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ويدل النهي على الحجر على السفهاء إما بسبب الصغر، وإما بسبب الجنون، وإما بسبب سوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وإما بسبب الفلس: وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها، فإذا طلب الغرماء من الحاكم الحجر عليه، حجر عليه.
واختلف العلماء في تعيين المخاطبين بالآية وفي المراد من السفهاء، على أقوال أشهرها:
إن المخاطبين بمنع السفهاء أموالهم إما أولياء اليتامى، والسفهاء: هم اليتامى مطلقا أو المبذرون بالفعل أموالهم وإما مجموع الأمة، ويشمل النهي كل سفيه، قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم: إن الخطاب لكل عاقل من الناس جميعا، وإن المراد من السفهاء: النساء والصغار. والمقصود النهي عن إيتاء المال لمن لا رشد له من هؤلاء، فيشمل الصبي والمجنون والمحجور عليه للتبذير.
وتكون إضافة الأموال على الرأي الأول إلى ضمير الأولياء المخاطبين، مع أنها أموال اليتامى للمبالغة في حملهم على المحافظة عليها، بتنزيل أموال اليتامى منزلة أموال الأولياء، لما بين الولي واليتيم من رابطة النسب.
ومعنى قوله: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً: أن الأموال قوام الحياة، وسبب إصلاح المعاش، وانتظام الأمور، فبالمال تتقدم الأمم وتبني صرح الحضارة، وبالمال يسعد الفرد والجماعة، وبه أيضا يتحقق النصر على الأعداء.
وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك مالا يحاسبني الله عليه خير من أن احتاج إلى الناس. وعن سفيان، وكانت له بضاعة يتاجر بها، وقيل له:
إنها تدنيك من الدنيا فقال: لئن أدنتني من الدنيا، لقد صانتني عنها. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا، إنكم في زمان إذا احتاج أحدكم، كان أوّل ما يأكل دينه «١».
وجعل الأموال وسيلة إصلاح شؤون الحياة يقتضي تثميرها وتشغيلها وتنميتها لا اكتنازها وادخارها، كما يقتضي إدارتها بحكمة والاقتصاد في الإنفاق منها، كما سنّ القرآن للمؤمنين بقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان ٢٥/ ٦٧]. وحث النبي صلّى الله عليه وسلّم على الاقتصاد،
روى أحمد عن ابن مسعود: «ما عال من اقتصد»
وروى الطبراني والبيهقي عن ابن عمر: «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن العقل نصف العلم».
ومعنى قوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ: اجعلوا أموالهم مكانا لرزقهم وكسوتهم، بأن تتجروا فيها، فتكون النفقة من ثمرتها وربحها، لا من أصل رأس المال، لئلا يأكله الإنفاق. وهذا مفهوم من جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة، فقال: فِيها ولم يقل: «منها».
ومعنى قوله: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً: أن يقول كل ولي للمولى عليه
ثم بعد الأمر بإيتاء أموال اليتامى بيّن تعالى وقت الإيتاء ومقدماته، وهي الاختبار، فأمرنا أن نختبر اليتامى قبل الإيتاء، فإن بلغوا سن النكاح وهو بلوغ الحلم، كما قال تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ أي الوصول إلى حد البلوغ وهو حد التكليف والتزام الأحكام الشرعية، وذلك إمام بالاحتلام، أو مجيء الحيض عند الأنثى، أو بالسن وهو اكتمال خمس عشرة سنة في رأي الشافعي وأحمد، إذا بلغوا ذلك وأصبحوا راشدين أي يحسنون التصرف في أموالهم حفظا وإدارة وتنمية، فسلموهم أموالهم، وإلا فاستمروا على الابتلاء (الاختبار) حتى تأنسوا منهم الرشد، ورأى أبو حنيفة: أنه يدفع المال إلى اليتيم إذا بلغ خمسا وعشرين سنة وإن لم يرشد، للآية المتقدمة: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ولأن من بلغ مبلغ الرجال واعتبر إيمانه وكفره، فمنع ماله عنه أشبه شيء بالظلم، وفيه إهدار لكرامته الإنسانية وآدميته.
لكن ظاهر الآية أنه لا تدفع إليهم أموالهم، ولو بلغوا، ما لم يؤنس منهم الرشد، وهو مذهب الجمهور.
والاختبار في رأي أبي حنيفة والشافعي يكون قبل البلوغ بدليل الغاية:
حَتَّى. وفي رأي مالك: يكون بعد البلوغ.
ورتب أبو حنيفة على ذلك أن تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة لأن ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له الولي في البيع والشراء مثلا، وذلك يقتضي صحة التصرف.
ولو جاز إذن الصبي في التصرف بالفعل لجاز دفع المال إليه وهو صبي لأن سبب منع ماله عنه يقتضي عدم صحة تصرفه. وأيضا تصرف الصبي في ماله يتوقف على دفعه إليه، ودفعه إليه متوقف على شرطين: بلوغه ثم رشده.
والرشد عند الشافعي: صلاح الدين والمال. وعند الجمهور: صلاح المال فقط.
ثم نهى الله تعالى الأولياء فقال: ولا تأكلوا أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية مبادرة ومسارعة قبل بلوغهم، أي مسابقين الكبر في السن التي بها يأخذون أموالهم منكم.
أما من كان محتاجا مضطرا إلى الأكل من مال اليتيم بلا إسراف ولا مبادرة خوف أخذه قبل البلوغ، مقابل عمله وإشرافه: فإن كان غنيا غير محتاج إلى شيء من مال اليتيم الذي تحت ولايته، فليعفّ عن الأكل من ماله، ومن كان فقيرا فليأكل من مال اليتيم بقدر حاجته الضرورية من سد الجوعة، وستر العورة.
ويؤيده
ما رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ليس لي مال، ولي يتيم؟ فقال: «كل من مال يتيمكم غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا، ومن غير أن تقي مالك- أو قال- تفدي مالك بماله».
واستدل الجصاص «١» بقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا على أن اليتيم إذا صار في حد الكبر، استحق المال إذا كان عاقلا، من غير شرط إيناس الرشد لأنه إنما شرط إيناس الرشد بعد البلوغ. واستدل بالآية
وجعل أبو حنيفة حد الكبر في ذلك خمسا وعشرين سنة لأن مثله يكون جدّا، ومحال أن يكون جدا، ولا يكون في حد الكبار.
وقال الشافعية: إن المراد من قوله: أَنْ يَكْبَرُوا أن يبلغوا راشدين عملا بقوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وعبر عن ذلك بالكبر لأن الغالب أن من بلغ حد الرجال، كان رشيدا.
وتساءل العلماء، هل ما يأكله الولي من مال اليتيم يعد أجرة أو لا؟ يرى الحنفية أنه ليس بأجرة. وقال آخرون: إنه أجرة ولم يفرق بين الغني والفقير، كما هو القياس في كل عمل يقابل بأجر، وحينئذ يكون الأمر في قوله تعالى:
وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ محمولا على الندب، كما هو اللائق بمحاسن العادات. والقاعدة الفقهية تقتضي أن تكون هذه الأجرة مقدرة بأجر المثل، سواء أكفت الولي أم لا «١».
ثم بين الله تعالى طريقة الدفع وهي: فإذا دفعتم أيها الأولياء والأوصياء الأموال إلى اليتامى، فأشهدوا عليهم بقبضها، وبراءة ذمتكم منها لأن هذا الإشهاد- بعد رعاية الشرطين السابقين: البلوغ ثم الرشد- أبعد عن التهمة، وأنفى للخصومة، وأدخل في الأمانة.
وهذا الإشهاد عملا بظاهر الآية واجب عند المالكية والشافعية إذ أن تركه يؤدي إلى التخاصم والتقاضي، والأمر يقتضي الوجوب، وجعله الحنفية مندوبا،
وهل يصدّق الوصي إذا ادعى أنه دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ، وهل يصدق فيما ينفقه حال الصغر؟
قال الإمامان مالك والشافعي: لا يصدق لأن الوصي غير مالك. وقال الإمام أبو حنيفة وأصحابه: يصدق لأن الوصي أمين، والأمين يصدق بيمينه ما دام أمينا.
ثم ختم تعالى الآية بتقرير رقابته على كل الأمور صغيرها وكبيرها، فذكر أنه كفى الله حسيبا أي رقيبا عليكم، يحاسبكم على ما تسرون وما تعلنون.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ على ما يأتي:
١- النهي عن تضييع المال ووجوب حفظه وتدبيره، وحسن القيام عليه، حيث قد جعله الله تعالى سببا في إصلاح المعاش وانتظام الأمور.
٢- وجوب الحجر على السفهاء المبذرين من وجهين:
أحدهما- منعهم من أموالهم، وعدم جواز دفع أموالهم إليهم.
والثاني- إجازة تصرفنا عليهم في الإنفاق عليهم من أموالهم وشراء أقواتهم وكسوتهم، ويؤكد ذلك قوله تعالى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً [البقرة ٢/ ٢٨٢] فأثبت الولاية على السفيه كما أثبتها على الضعيف.
واختلف العلماء في أفعال السفيه قبل الحجر عليه، فقال مالك وجميع أصحابه غير ابن القاسم: إن فعل السفيه وأمره كله جائز حتى يضرب الإمام على يده، وهو قول الشافعي وأبي يوسف.
وقال ابن القاسم: أفعاله غير جائزة وإن لم يضرب الإمام على يده.
واختلفوا في الحجر على الكبير، فقال جمهور الفقهاء: يحجر عليه.
وقال أبو حنيفة: لا يحجر على من بلغ عاقلا إلا أن يكون مفسدا لماله، فإذا كان كذلك منع من تسليم المال إليه حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإذا بلغها سلّم إليه بكل حال، سواء كان مفسدا أو غير مفسد لأنه يمكن أن يتزوج لاثنتي عشرة سنة، وتحمل زوجته، ثم يولد له لستة أشهر، فيصير جدّا وأبا، وأنا أستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدّا.
ويرده ما رواه الدارقطني عن عثمان أنه أجاز الحجر على الكبير وهو عبد الله بن جعفر الذي ولدته أمه بأرض الحبشة، وهو أول مولود ولد في الإسلام بها، وقدم مع أبيه على النبي صلّى الله عليه وسلّم عام خيبر، فسمع منه وحفظ عنه، وكانت خيبر سنة سبع من الهجرة.
٤- دل قول الله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ على وجوب نفقة الولد على الوالد، والزوجة على زوجها.
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصدقة ما ترك غنى، واليد العليا خير من
قال المهلّب: النفقة على الأهل والعيال واجبة بإجماع.
قال ابن المنذر: واختلفوا في نفقة من بلغ من الأبناء ولا مال له ولا كسب، فقالت طائفة: على الأب أن ينفق على ولده الذكور حتى يحتلموا، وعلى النساء حتى يتزوّجن ويدخل بهن. فإن طلقها بعد البناء أو مات عنها فلا نفقة لها على أبيها، وإن طلقها قبل البناء فهي على نفقتها.
وقال مالك: ولا نفقة لولد الولد على الجدّ. وقالت طائفة: ينفق على ولد ولده حتى يبلغوا الحلم والمحيض، ثم لا نفقة عليه إلا أن يكونوا زمنى، وسواء في ذلك الذكور والإناث ما لم يكن لهم أموال. وهذا قول الشافعي.
وأوجبت طائفة النفقة لجميع الأطفال والبالغين من الرجال والنساء إذا لم يكن لهم أموال يستغنون بها عن نفقة الوالد، لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام لهند فيما رواه الأئمة عن عائشة: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».
٥- القول المعروف للمولى عليهم: وهو تليين الخطاب والوعد الجميل أو الحسن بأن ينصحهم الولي ويعظهم، ويقول لهم: إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم.
وأرشدت الآية: وَابْتَلُوا الْيَتامى إلى ما يأتي:
١- اختبار الأيتام وتدريبهم على حسن التصرف بالأموال قبل دفع أموالهم إليهم. والاختبار يكون قبل البلوغ في رأي أبي حنيفة والشافعي. وبعد البلوغ في رأي مالك.
ومعنى الاختبار قيل فيه: هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه، ويستمع إلى أغراضه، فيحصل له العلم بنجابته، والمعرفة بالسعي في مصالحه وضبط ماله،
٢- إيناس الرشد بعد البلوغ، والبلوغ يكون بخمسة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء وهي الاحتلام والسن والإنبات، واثنان يختصان بالنساء، وهما الحيض والحبل، فأما الحيض والحبل فلم يختلف العلماء في أنهما بلوغ، وأن الفرائض والأحكام تجب بهما. واختلفوا في الثلاث:
فأما الإنبات والسن فقال الأوزاعي والشافعي وابن حنبل: خمس عشرة سنة بلوغ لمن لم يحتلم، بدليل
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه مسلم- أجاز ابن عمر في الجهاد يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة، ولم يجزه يوم أحد لأنه كان ابن أربع عشرة سنة.
وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: لا يحكم لمن لم يحتلم حتى يبلغ ما لم يبلغه أحد إلا احتلم، وذلك سبع عشرة سنة فيكون عليه حينئذ الحد إذا أتى ما يوجب عليه الحد. وفي رواية أخرى عن أبي حنيفة وهي الأشهر: تسع عشرة سنة.
وأما الإنبات فمنهم من قال: يستدل به على البلوغ، وهو قول أحمد، وأحد قولي الشافعي ومالك. والقول الآخر: لا بد من اجتماع الإنبات والبلوغ، قال أبو حنيفة: لا يثبت بالإنبات حكم، وليس هو ببلوغ ولا دلالة على البلوغ.
٣- الرشد: هو في رأي الحسن البصري وقتادة وغيرهما: صلاح في العقل والدين. وفي رأي ابن عباس والسّدّي والثوري: صلاح في العقل وحفظ المال.
وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم، وإن شاخ لا يزول الحجر عنه، وهو مذهب الجمهور.
فقال: لا تبع، فقال: لا أصبر، فقال له: «فإذا بايعت فقل: لا خلابة «٢»، ولك الخيار ثلاثا»
فلم يحجر عليه مع أنه كان يغبن، فثبت أن الحجر لا يجوز.
ورد القرطبي بقوله: وهذا لا حجة لهم فيه لأنه مخصوص بذلك، فغيره بخلافه.
وقال الشافعي: إن كان مفسدا لماله ودينه، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه، والأظهر أنه إن كان مفسدا لدينه، مصلحا لماله، حجر عليه أيضا.
٤- إن دفع المال للمحجور عليهم يكون بشرطين: إيناس الرشد والبلوغ، فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال إليهم، بنص الآية، وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي، فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة، قال أبو حنيفة: لكونه جدا.
ورد ابن العربي «٣» بقوله: هذا ضعيف لأنه إذا كان جدا، ولم يكن ذا جدّ «٤»، فماذا ينفعه جدّ النسب، وجدّ البخت فائت؟! واختلف العلماء في دفع المال إلى المحجور عليه، هل يحتاج إلى السلطان أم لا؟ فقالت فرقة: لا بد من رفعه إلى السلطان، ويثبت عنده رشده ثم يدفع
(٢) أي لا خديعة.
(٣) أحكام القرآن: ١/ ٣٢٢
(٤) الجد هنا الحظ والبخت.
وإذا سلّم المال إليه بوجود الرشد، ثم عاد إلى السفه بظهور تبذير وقلة تدبير عاد إليه الحجر عند المالكية، وعند الشافعية في قول. وقال أبو حنيفة:
لا يعود لأنه بالغ عاقل، بدليل جواز إقراره في الحدود والقصاص. ودليل الرأي الأول قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ وقوله عز وجل:
فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً [البقرة ٢/ ٢٨٢].
ويجوز للوصي أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنعه من تجارة وشراء وبيع، وعليه أن يؤدي الزكاة من سائر أمواله، ويؤدي عنه أروش (تعويضات) الجنايات وقيم المتلفات، ونفقة الوالدين وسائر الحقوق اللازمة، ويجوز أن يزوجه ويؤدي عنه الصداق.
٥- نهى الله تعالى الأوصياء عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم، فلا يجوز لهم الإسراف والتبذير: وهو الإفراط ومجاوزة الحد.
٦- أمر الله تعالى الغني بالإمساك عن أخذ شيء من مال اليتيم، وأباح للوصي أن يأكل من مال موليه بالمعروف. والأكل بالمعروف كما قال الحسن البصري: أن يأكل ما يسدّ جوعته، ويكتسي ما يستر عورته، ولا يلبس الرفيع من الكتان ولا الحلل. بدليل إجماع الأمة على أن الإمام الناظر للمسلمين لا يجب عليه غرم ما أكل بالمعروف لأن الله تعالى قد فرض سهمه في مال الله.
٧- أمر الله تعالى بالإشهاد عند دفع المال تنبيها على التحصين وزوالا للتّهم.
وهذا الإشهاد مستحب عند طائفة من العلماء فإن القول قول الوصي لأنه أمين. وقالت طائفة: هو فرض عملا بظاهر الآية، وليس بأمين فيقبل قوله.
روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن في حجري يتيما أأكل من ماله؟ قال: «نعم غير متأثل «١» مالا، ولا واق مالك بماله» قال: يا رسول الله، أفأضربه؟ قال: «ما كنت ضاربا منه ولدك» «٢».
٩- كفى الله حاسبا لأعمال الناس ومجازيا بها، وفي هذا وعيد لكل جاحد حق.
حقوق الورثة في التّركة وحقوق المحتاجين والأيتام والقرابة غير الوارثين
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧ الى ١٠]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
(٢) قال ابن العربي (أحكام القرآن: ١/ ٣٢٧) : وإن لم يثبت مسندا فليس يجد أحد عنه ملتحدا، أي منصرفا.
نَصِيباً مَفْرُوضاً منصوب بفعل مقدر دلّ عليه الكلام لأن قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ معناه: جعل الله لهم نصيبا مفروضا. ويصح كونه حالا، وهو أولى من التقدير. فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ الهاء في مِنْهُ تعود إلى القسمة، وإن كانت القسمة مؤنثة لأنها بمعنى المقسوم، فلهذا عاد إليها الضمير بالتذكير، حملا على المعنى، وهذا كثير في كلام العرب.
البلاغة:
يوجد طباق بين قوله: قَلَّ وكَثُرَ.
ويوجد إطناب في قوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ.. وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ.
المفردات اللغوية:
لِلرِّجالِ الأولاد والأقرباء. نَصِيبٌ حظ. مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ المتوفون. مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أي من المال. نَصِيباً مَفْرُوضاً أي جعله الله نصيبا مقطوعا بتسليمه إليهم. وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ للميراث. أُولُوا الْقُرْبى ذوو القرابة غير الوارثين. فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ شيئا قبل القسمة. وَقُولُوا لَهُمْ أيها الأولياء للورثة الصغار. قَوْلًا مَعْرُوفاً جميلا بأن تعتذروا إليهم أنكم لا تملكونه، وأنه للصغار. وهذا الإعطاء ندب، وعن ابن عبّاس: واجب.
وَلْيَخْشَ ليخف على اليتامى، الخشية: الخوف مع تعظيم المخوف حال الأمن.
لَوْ تَرَكُوا أي قاربوا أن يتركوا. مِنْ خَلْفِهِمْ أي بعد موتهم. ذُرِّيَّةً ضِعافاً أولادا صغارا. خافُوا عَلَيْهِمْ الضياع. فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في أمر اليتامى وليأتوا إليهم ما يحبون أن يفعل بذريتهم من بعدهم. وَلْيَقُولُوا لمن حضرته الوفاة. سَدِيداً صوابا محكما، والمراد موافقا للدين «١». ظُلْماً بغير حق. وَسَيَصْلَوْنَ سيحرقون، من أصلاه: أراد إحراقه، ومنه صلى اللحم: شواه، وصلى يده: أدفأها، واصطلى: استدفأ. سَعِيراً نارا مستعرة مشتعلة.
نزول الآية (٧) :
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ: أخرج أبو الشيخ (أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصفهاني المولود سنة ٢٧٤ هـ) وابن حبّان في كتاب الفرائض عن ابن عبّاس قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصغار الذكور حتى يدركوا فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن الثابت، وترك ابنتين وابنا صغيرا، فجاء ابنا عمه: خالد وعرفطة «١»، وهما عصبة، فأخذا ميراثه كله، فأتت امرأته أم كحلة «٢» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرت له ذلك، فقال: ما أدري ما أقول، فنزلت: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ.
وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عبّاس سببا آخر لنزول الآية مفاده أن الآية أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء أن يذكره بالوصية لذوي قرابته الذين لا يرثون، يوصي لهم بالخمس أو الربع، ولا يأمره بالتصدق من ماله، أو بالإعطاء منه في سبيل الله.
نزول الآية (١٠) :
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ: قال مقاتل بن حيان: نزلت في رجل من غطفان يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه، وهو يتيم صغير، فأكله، فأنزل الله فيه هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى حرمة أكل أموال اليتامى وأمر بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا،
(٢) في تفسير ابن كثير: أم كحّة، وفي تفسير القرطبي: أم كجّة.
كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا، فأنزل الله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ...
التفسير والبيان:
إذا كان لليتامى مال مما تركه الوالدان والأقربون، فهم فيه سواء، لا فرق بين الذكور والإناث، ولا فرق بين كونه كثيرا أو قليلا، فالجميع فيه سواء في حكم الله تعالى مهما قلّ المال، يستوون في أصل الوراثة، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم، بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية.
ثم أكد تعالى هذا الحق للجميع بقوله: نَصِيباً مَفْرُوضاً للدلالة على أنه حق معين محتوم مقطوع به، ليس لأحد إنقاصه.
ثم عالج القرآن الكريم ناحية نفسية وهي كراهية حضور الأقارب مجلس قسمة التركة، فقرر أنه إذا حضر قسمة التركة أحد من ذوي القربى للوارثين واليتامى والمساكين، فأعطوهم شيئا من المال ولو قليلا، وقولوا لهم قولا حسنا واعتذارا جميلا يهدئ النفوس، وينتزع الحقد والسخيمة، ويستأصل الحسد من النفس.
والمراد بالقسمة: قسمة التركة بين الورثة، وأولو القربى: من لا يرثون لكونهم محجوبين أو لكونهم من ذوي الأرحام، والمأمور بهذا هو الولي أو اليتيم عند البلوغ وتسلم المال. والضمير في قوله: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ يرجع إلى ما ترك الوالدان والأقربون، أو إلى القسمة بمعنى المقسوم باعتبار معناها، لا باعتبار
وذهب جمهور المفسرين منهم ابن عباس وسعيد بن جبير إلى أن الآية محكمة غير منسوخة، وأن الأمر بالإعطاء للوجوب، عملا بظاهر الأمر، وقد هجره الناس، كما هجروا الاستئذان عند دخول البيوت، والمخاطب بهذا الوارث الكبير وولي الصغير.
وقال الحسن البصري والنّخعي: الأمر منصب على الأعيان المنقولة، وأما الأرضون فلا يعطون منها شيئا، وإنما يكتفى بالقول المعروف.
وذهب فقهاء الأمصار إلى أن هذا الإعطاء مندوب طولب به الكبار من الورثة لأنه لو كان لهؤلاء حقّ معين لبيّنه الله تعالى كما بيّن سائر الحقوق، وحيث لم يبيّن علمنا أنه غير واجب. وأيضا لو كان واجبا لتوافرت الدواعي على نقله لشدة حرص الفقراء والمساكين، ولو كان ذلك لنقل إلينا على سبيل التواتر، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا، أنه ليس بواجب.
وقال سعيد بن المسيب والضّحاك وابن عباس في رواية عطاء عنه: الآية منسوخة بآية المواريث: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.. إلخ.
وعلاجا لمرض نفسي آخر وهو تحامل النفس كثيرا على اليتيم والقسوة عليه، أمر الله الأولياء والأوصياء القائمين على اليتامى بالقول السديد لهم بأن يكلموهم كأولادهم بالأدب الحسن، والمناداة لهم بكلمة: يا ابني أو يا ولدي ونحو ذلك، وليتذكروا أنهم مقاربون أن يتركوا أولادهم من بعد موتهم، ويخافوا عليهم الإهمال والضياع، وليتقوا الله في اليتامى الذين يلونهم، فيعاملونهم بمثل ما يحبون أن تعامل به ذريتهم الضعاف بعد وفاتهم.
وتكون الآية مرتبطة بما قبلها لأن قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ في معنى الأمر للورثة، أي أعطوهم حقهم، وليحفظ الأوصياء ما أعطوه، ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم.
ثمّ أكّد الله تعالى الأوامر والنواهي السابقة وقررها وذكّر بالعقاب الشديد لمن يأخذ مال اليتيم ظلما بغير حق، وهو دخول النار وإحراقهم بها، وهي نار مستعرة شديدة الإحراق، وقودها الناس والحجارة، وقانا الله منها.
وذكر البطون مع أن الأكل لا يكون إلا فيها يقصد به إما ملء بطونهم نارا للنهاية، وإما للتأكيد والمبالغة، كما في قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران ٣/ ١٦٧]، والقول لا يكون إلا بالفم، وقوله: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج ٢٢/ ٤٦]، والقلوب لا تكون إلا في الصدور، وقوله: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام ٦/ ٣٨]، والطير لا يطير إلا بجناحين، الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة، كما أن فيه تبشيعا لأكل مال اليتيم في حالة الظلم.
وفي تقييد الأكل بحالة الظلم دلالة على مشروعية أخذ مال اليتيم بحق، كأجرة العمل، والقرض مثلا، وذلك لا يعدّ ظلما ولا الآكل الآخذ ظالما.
والتعبير بالأكل يقصد به جميع وجوه الانتفاع والإتلاف والاستهلاك، ولكن عبّر به لأنه أهم حالات الانتفاع.
وظاهر الآية أن الحكم عام لكل من يأكل ما اليتيم، سواء أكان مؤمنا أم كافرا. وإذا قيل بأن الآية نزلت في أهل الشرك فخصوص السبب لا يخصص، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وورد في بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية، تحرّز الناس من مخالطة اليتامى، حتى شق ذلك على اليتامى أنفسهم، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ [البقرة ٢/ ٢٢٠].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ على ما يأتي:
١- قال المالكية: في هذه الآية فوائد ثلاث:
إحداها- بيان علّة الميراث وهي القرابة.
الثانية- عموم القرابة كيفما تصرّفت من قريب أو بعيد.
الثالثة- إجمال النصيب المفروض، وذلك مبين في آية المواريث فكان في هذه الآية توطئة للحكم، وإبطال لذلك الرأي الفاسد حتى وقع البيان الشافي «١».
٢- إثبات الحق المقرر في الميراث لكلّ من الرّجال والنّساء، إبطالا لعادة أهل الجاهلية الذين كانوا يورثون الرّجال، ويحرمون النساء والصغار، فالمراد من الرّجال في الآية: الذكور البالغون، والمقصود من الوالدين: الأب والأم بلا واسطة، ومن النساء: الإناث البالغات. ويكون معنى الآية: للذكور
والتّنصيص على النساء اعتناء بشأنهن، وتقرير لأصالتهن في استحقاق الإرث، ومبالغة في إبطال حكم الجاهلية بتخصيص الإرث في الرّجال لأنهم المحاربون الغازون.
وعمم بعض العلماء الحكم في الرّجال والنّساء، فجعل المراد من الرّجال:
الذّكور مطلقا، سواء أكانوا كبارا أم صغارا، والمراد من النساء: الإناث مطلقا، ويكون المراد التّسوية بين الذّكور والإناث في أن لكلّ منهما حقّا فيما ترك الوالدان والأقربون. وهذا ما أميل إليه.
٣- تدلّ الآية للحنفيّة القائلين بتوريث ذوي الأرحام لأن العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين، فوجب إثبات حق الإرث لهم المقرر بقوله تعالى: مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ.
٤- حق الإرث ثابت في قليل التركة وكثيرها، وهو حق مشاع لجميع الورثة، لا يختص بعضهم بشيء من الأموال كالسيف والخاتم والمصحف واللباس البدني.
ودلّ قوله تعالى أيضا: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ على إثبات حق الإرث للبنات، وأما مقدار الحق، فأبانته آيات المواريث الأخرى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء ٤/ ١١].
ولما نزلت آية: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أرسل النّبي صلّى الله عليه وسلّم إلى سويد وعرفجة ألا يفرّقا من مال أوس شيئا فإن الله جعل لبناته نصيبا، ولم يبيّن كم هو، حتى أنظر ما ينزل ربّنا. فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ..
واستدلّ بعض المالكية والشافعية والحنفية بهذه الآية: مِمَّا قَلَّ مِنْهُ على وجوب قسمة الشيء الصغير للقسمة كالحمام والبيت. ورأى ابن أبي ليلى وأبو ثور وابن القاسم: أن كل ما لا ينقسم من الدور والمنازل والحمامات، وفي قسمته الضرر ولا ينتفع به إذا قسم: أن يباع ولا شفعة فيه
لقوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد والبخاري عن جابر: «الشّفعة في كلّ ما لا يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة»
فجعل عليه الصلاة والسّلام الشفعة في كل ما يتأتى فيه إيقاع الحدود، وعلّق الشفعة فيما لم يقسم مما يمكن إيقاع الحدود فيه. وهذا الرأي هو المعقول دفعا للضرر، قال ابن المنذر: وهو أصح القولين.
وأرشدت آية: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ إلى الآتي:
١- كلّ من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون: يكرم ولا يحرم، إن كان المال كثيرا، والاعتذار إليهم إن كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ «١».
وإن كان عطاء من القليل ففيه أجر عظيم درهم يسبق مائة ألف. فالآية على هذا القول محكمة، كما قال ابن عبّاس.
وروي عن ابن عبّاس: أنها منسوخة، نسخها قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.. [النساء ٤/ ١١]. وقال سعيد بن المسيب: نسختها آية الميراث والوصية. قال القرطبي: والرأي الأول أصح فإنها مبيّنة استحقاق الورثة لنصيبهم، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم.
٣- القول المعروف مطلوب مع جميع الناس، ويتأكد طلبه مع الأقارب.
وهو القول الجميل والاعتذار اللطيف.
وأومأت آية: وَلْيَخْشَ إلى ما يأتي:
١- الآية تذكير بالمعاملة بالمثل مع أولاد الأوصياء، فهذا كما قال ابن عبّاس وعظ للأوصياء، أي افعلوا باليتامى ما تحبون أن يفعل بأولادكم من بعدكم، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً.
٢- القول السديد: وهو العدل والصواب من القول وهو مرغوب فيه في تربية اليتامى، فلا ينهرهم الولي ولا يستخف بهم.
ودلّت آية: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ على ما يأتي:
١- تحريم أكل مال اليتامى ظلما، فقد دلّ الكتاب والسّنة على أن أكل مال اليتيم من الكبائر،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة: «اجتنبوا السبع الموبقات» وذكر منها: «وأكل مال اليتيم».
ويفهم منه جواز الأكل بحق إن كان فقيرا، فيأكل بالمعروف، وله أخذ الأجرة على عمله.
٢- عقاب آكل مال اليتيم ظلما هو دخول نار جهنم.
٣- هذه آية من آيات الوعيد، ولا حجة فيها لمن يكفّر بالذنوب. والذي
والكلمة الأخيرة: إن اليتامى عاجزون ضعاف يستحقون كل عناية ورعاية لمصالحهم، وتربية لهم تعوضهم عن فقد أبيهم، لذا عني القرآن بشأنهم فأنزل الله فيهم تسع آيات متتابعات من أول سورة النساء إلى آخر الآية السابقة، قرر فيها جميعا الأمر بحفظ مال اليتيم ورعايته، وأكّد فيها النّهي عن أكل ماله وتضييع حقّه. كما أنه أنزل فيهم آيات أخرى متفرقة منها: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإسراء ١٧/ ٣٤]، ومنها: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ [النساء ٤/ ١٢٧]، ومنها: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى ٩٣/ ٩]، ومنها:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، قُلْ: إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة ٢/ ٢٢٠]،
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن سهل بن سعد: «أنا وكافل اليتيم كهاتين، وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى».
آيات المواريث
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١ الى ١٢]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
كُنَّ نِساءً كان واسمها وخبرها، وتقديره: إن كانت المتروكات نساء فوق اثنتين. وإنما ثبت للبنتين الثلثان بالسّنة، ودلالة النّص على أن الأختين لهما الثلثان في قوله تعالى: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ إذ ليس هاهنا في الآية نصّ يدلّ على ذلك.
وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً خبر كان الناقصة، وتقديره: فإن كان المتروك واحدة، وقرئ بالرفع على أنه فاعل كان التامة، وهي بمعنى: حدث ووقع.
فَلِأُمِّهِ من ضمها فعلى الأصل، ومن كسرها فعلى الاتباع، كقولهم: المغيرة في المغيرة.
آباؤُكُمْ مبتدأ، خبره: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ.
نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ نَفْعاً: تمييز، وفَرِيضَةً: منصوب على المصدر، وتقديره: فرض الله ذلك فريضة.
وَصِيَّةٍ منصوب على المصدر. وقوله: وَلَهُ أَخٌ يعود على الرجل، وهذا في العطف بأو جائز.
البلاغة:
يوجد طباق في لفظ (الذكر) والْأُنْثَيَيْنِ، وفي آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ. ويوجد جناس اشتقاق في وَصِيَّةٍ يُوصِي، وهناك إطناب في مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ومِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ للتأكيد. وقوله: عَلِيمٌ حَلِيمٌ للمبالغة.
المفردات اللغوية:
يُوصِيكُمُ أي يأمركم الله ويفرض عليكم. والوصية: ما تعهد به إلى غيرك من العمل في المستقبل، أي أمر له حَظِّ نصيب. عَلِيماً بخلقه. حَكِيماً فيما دبّره لهم. كَلالَةً مصدر وهو الإعياء، ثم استعمل في القرابة البعيدة غير قرابة الأصول والفروع، وهو من لا والد له ولا ولد أي له قرابة فقط من الحواشي. عَلِيمٌ بما دبّره لخلقه من الفرائض. حَلِيمٌ بتأخير العقوبة عمن خالفه.
سبب النزول: نزول الآية (١١) :
يُوصِيكُمُ اللَّهُ:
أخرج الأئمة الستة عن جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين، فوجدني النّبي صلّى الله عليه وسلّم لا أعقل شيئا، فدعا بماء فتوضأ، ثم رش علي، فأفقت، فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي، فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.
وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم عن جابر قال: جاءت امرأة
«أعط بنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك».
قالوا: وهذه أول تركة قسمت في الإسلام.
قال الحافظ ابن حجر: تمسك بهذا من قال: إن الآية نزلت في قصة ابنتي سعد، ولم تنزل في قصة جابر، خصوصا أن جابرا لم يكن له يومئذ ولد، قال:
والجواب أنها نزلت في الأمرين معا، ويحتمل أن يكون نزول أولها في قصة البنتين، وآخرها وهو قوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً في قصة جابر، ويكون مراد جابر بقوله: فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أي ذكر الكلالة المتصل بهذه الآية.
المناسبة:
ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة حكم ميراث القرابة إجمالا في قوله:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ ثم فصّل في آيات المواريث أنصباء الورثة، فبيّن حقوق الأولاد (الفروع) وحقوق الآباء والأمهات (الأصول)، وحقوق الزوجين، وحقوق الإخوة لأم، أما الإخوة لأب فحكمهم في آخر السورة.
وكانت أسباب الإرث في الجاهلية ثلاثا:
١- النسب: للرجال المقاتلين، وليس للنساء والصغار شيء.
٢- التّبني: يعطى الولد المتبنى مثل الولد الأصلي في الميراث.
فأقرّ الإسلام ما عدا التّبني الذي أبطله بقوله تعالى: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ [الأحزاب ٣٣/ ٤]. وأما التوارث بالنّسب فأقره بقوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء ٤/ ٣٣]، وأما التوارث بالعهد فأجازه بقوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء ٤/ ٣٣].
وزاد الإسلام في مبدأ الأمر سببين آخرين هما الهجرة والمؤاخاة، ثم نسخ العمل بهما بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال ٨/ ٧٥]. واستقر العمل على أن أسباب الإرث ثلاثة: النسب، الزواج، الولاء، أي الإرث بسبب عتق السيد عبده أو أمته.
التفسير والبيان والأحكام:
حقوق الأولاد في الميراث:
بدأ الله تعالى بالأولاد، لأنهم أحق بالعطف والعون لضعفهم، أما الأصول فقد يكون لهم حق واجب على غير المتوفى، أو لهم قدرة على الكسب. فقال: يعهد إليكم في ميراث أولادكم، بمعنى يأمركم ويفرض عليكم في شأن أولادكم من بعدكم أو في ميراثهم ما يستحقون من أموالكم، على أساس قاعدة: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي إذا مات الميت، وترك ذكورا وإناثا، فللذكر ضعف الأنثى لأن الرجل مطالب بالنفقة وبالعمل والتكسب وتحمل المشاق ودفع مهر زوجته، ولا تطالب المرأة بالإنفاق على أحد، سواء أكانت بنتا أم أختا أم أمّا أم زوجة أم عمة أم خالة، وإنما بعد الكبر أو البلوغ تنفق على نفسها إن لم تكن زوجة.
وقد وقع خلاف في ميراث البنتين إذا انفردتا عن أخ ذكر، فقال ابن عباس: حكمهما كالبنت الواحدة، لهما النصف، لظاهر الآية: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ، فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ.
وقال الجمهور: البنتان كالأختين لهما الثلثان، قياسا لهما على الأختين اللتين قال الله فيهما: فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ، ولأن البنت تأخذ مع أخيها الثلث، فأولى أن تأخذه مع أختها، ولأن ابن مسعود قضى في بنت وبنت ابن وأخت: بالسّدس لبنت الابن والنّصف للبنت تكملة الثلثين، فجعل لبنت الابن مع البنت الثلثين، فبالأحرى يكون للبنتين الثلثان. ويجوز أن يكون معنى قوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ: فإن كنّ نساء اثنتين فما فوق، مثل قوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال ٨/ ١٢] أي اضربوا الأعناق فما فوقها.
والخلاصة: إذا كان الأولاد ذكورا وإناثا فللذكر ضعف الأنثى. وإذا كان المولود أنثى واحدة كان لها النصف، وإذا كان هناك أنثيان فأكثر، كان لهن الثلثان في رأي الجمهور، وإذا انفرد الولد الذكر يأخذ التركة، وإذا كان معه أخ فأكثر اقتسموا التركة بالمساواة.
وأولاد الابن وأولادهم مثل الأبناء، الأعلى يحجب الأدنى، فإن كان الأعلى أنثى كبنت وابن ابن، أخذت البنت النصف، والباقي لابن الابن. وإن كان ولد الولي أنثى كان للعليا النصف، وللسفلى السدس تكملة الثلثين. وإن كان الولد الأعلى بنتين أخذتا الثلثين، ولم يبق للبنت السفلى شيء إلا إذا عصبها ذكر في درجتها أو أسفل منها.
لكل واحد من أبوي الميت السدس من التركة إن كان للولد الميت ولد ذكر أو أنثى، واحد أو جماعة، والباقي للأولاد على النحو السابق، فإن لم يكن له ولد أصلا وورثه أبواه فلأمه الثلث. والسبب في تساوي الوالدين في الميراث مع وجود الأولاد: هو توفير احترامهما على السواء. وأما سبب كون نصيب الوالدين أقل من نصيب الأولاد فهو إما كبرهما وإما استغناؤهما، وإما لوجود من تجب عليهما نفقتهما من أولاد أحياء. وأما الأولاد فبحاجة إلى نفقات كثيرة إما بسبب الصغر، وإما بسبب الحاجة إلى الزواج وتحمل أعباء الحياة حال الكبر.
فإن كان للميت مع وجود أبويه إخوة جماعة ذكورا أم إناثا، كان للأم السدس بدلا من الثلث، سواء أكانت الإخوة أشقاء أم لأب أم لأم.
والاثنان من الإخوة كالثلاثة فأكثر لأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء الراشدين قضوا بأن الأخوين والأختين يردان الأم من الثلث إلى السدس. أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه دخل على عثمان رضي الله عنهما، فقال: لم صار الأخوان يردان الأم من الثلث إلى السدس، وإنما قال الله: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ والأخوان في لسان قومك وكلام قومك ليسا بإخوة؟ فقال عثمان رضي الله عنه: هل أستطيع نقض أمر كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في الأمصار؟
أي أن هناك إجماعا في الشرع على ذلك، ويؤيده أنه ورد في اللغة إطلاق الجمع على الاثنين، قال تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم ٦٦/ ٤]، وقال:
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ [ص ٣٨/ ٢١]، ثم قال: خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ [ص ٣٨/ ٢٢].
والخلاصة: إن للأم الثلث إذا لم يكن معها فرع وارث أو اثنان فصاعدا من الإخوة أو الأخوات، ولها السدس مع الفرع الوارث أو العدد من الإخوة أو
تقديم الديون ثم الوصايا:
إن قسمة المواريث كلها بين الورثة مقدم عليه أولا إيفاء الديون المتعلقة بالتركة، وتنفيذ الوصايا، فالله تعالى يوصي ويأمر بقسمة المواريث على النحو الذي شرع من بعد وصية يوصى بها من الميت، ومن بعد دين تعلق بذمة الميت قبل موته.
وقدمت الوصية على الدّين مع أن الواجب تقديم الدّين أولا في الوفاء، حثّا على تنفيذها واهتماما بشأنها ومنعا من جحودها، أما الدّين فمعلوم قوّته، قدم أو لم يقدم. ثم إن أَوْ هاهنا للإباحة، ولا تقتضي الترتيب. ودليل تقديم وفاء الدّين:
ما رواه علي كرّم الله وجهه وأخرجه عنه جماعة كابن جرير الطبري: إنكم تقرؤون هذه الآية: من بعد وصية يوصى بها أو دين، إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى بالدّين قبل الوصية، فليس لأحد من الورثة ولا من الموصى لهم حق في التركة إلا بعد قضاء الدّين. ولو استغرق الدّين التركة، فليس لأحد شيء.
ويقدم على الدّين والوصية والميراث نفقات تكفين الميت وتجهيزه ودفنه، تكريما لإنسانيته واحتراما لآدميته.
وتقديم الوصية على الميراث في حدود ثلث التركة لأنه القدر المأذون بالإيصاء به
في السّنة النّبوية فيما رواه الجماعة عن سعد: «الثلث والثلث كثير».
ثم أتى النّص القرآني بجملة معترضة للتنبيه على جهل المرء بعواقب الأمور، فبيّن تعالى أن هؤلاء الذين أوصاكم الله بهم وقدر أنصباءهم، هم آباؤكم وأبناؤكم، فلا تجوروا في القسمة ولا تحرموا البعض كما كان يفعل العرب في الجاهلية إذ لا تدرون بمن هو أقرب لكم نفعا.
فرض الله ذلك فريضة محتمة، وإن الله يعلم بما يصلح خلقه، حكيم في تدبيره، يضع الأمور في موضعها الصحيح المناسب، ولا يشرع لكم إلّا ما فيه المنفعة لكم، وقسم الميراث بينكم على أساس من الحق والعدل والمصلحة، فالزموا قسمته ومنهجه، واحذروا حرمان أحد من الورثة كالنساء والضعفاء كما كان أهل الجاهلية يفعلون.
ميراث الزوجين:
للزوج نصف تركة الزوجة إن لم يكن لها ولد، سواء أكان منه أم من غيره، وسواء أكان ذكرا أم أنثى، واحدا أم أكثر، منها مباشرة أم من بنيها أم من بني بنيها، والباقي لأولادها، ولا يشترط الدخول بالزوجة وإنما يكفي مجرد العقد. فإن كان لها ولد فللزوج الربع، والباقي لأقاربها ذوي الفروض والعصبات، أو ذوي الأرحام- في رأي الحنفية- أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر.
لكم ذلك في تركتهن من بعد وفاء الديون وتنفيذ الوصايا.
وللزوجة ربع تركة الزوج إن لم يكن له ولد، ولها الثمن إن كان له ولد.
ميراث الكلالة:
جعل الله الورثة في هذه الآيات أقساما ثلاثة: قسم يتصل بالميت بغير واسطة وإنما برابطة الدم وهم الأولاد والوالدان، وقسم يتصل بالميت بغير واسطة وإنما بعقد الزوجية وهما الزوجان، وقسم يتصل بالميت بواسطة وهم الكلالة:
وهي ما عدا الوالد والولد. ونظرا لقوة القسم الأول قدمه تعالى في البيان، ثم أتبعه بالقسم الثاني، ثم ذكر القسم الثالث، ولأن القسمين الأوليين لا يعرض لهما السقوط بحال، بخلاف القسم الثالث، فإنه قد يعرض له السقوط بالكلية.
والراجح أن الكلالة: من عدا الوالد والولد، وهو تفسير أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أخرج ابن جرير عن الشعبي قال: قال أبو بكر رضي الله عنه:
إني رأيت في الكلالة رأيا، فإن كان صوابا، فمن الله وحده لا شريك له، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله منه بريء، إن الكلالة: ما خلا الوالد والولد.
ويؤكد تفسيره: اشتقاق الكلمة، فهي مأخوذة من الضعف، والقرابة لا من جهة الولادة قرابة ضعيفة، وأما قرابة الولادة فهي قوية، فلا يطلق عليها كلالة. ثم إن الله تعالى حكم بتوريث الإخوة والأخوات عند عدم وجود الأب، فوجب ألا يكون الوالد من الكلالة.
وحكم إرث الكلالة بحسب النص: أنه إذا وجد أخ أو أخت لأم فلكل واحد منهما السدس، فإن تعددوا فهم شركاء في الثلث، وهم فيه سواء لا تفاضل بين ذكورهم وإناثهم.
والدليل على أن المراد بالأخ والأخت في آية الكلالة الإخوة لأم: قراءة
ولأن الفرض هنا الثلث أو السدس وهو فرض الأم، فناسب أن يكون فرض الإخوة الذين يدلون بها هم الإخوة لأم.
والخلاصة: للإخوة لأم حالتان:
١- إذا انفرد الأخ أو الأخت لأم فلكل واحد منهما السدس.
٢- إذا تعدد الإخوة لأم اشتركوا في قسمة الثلث بالتساوي، ذكرهم مثل أنثاهم لأن مطلق التشريك يدلّ عليه.
وهذه القسمة للإخوة لأم من بعد إيفاء الدّين وتنفيذ الوصية اللذين لا إضرار فيهما بالورثة والدائنين، والضرار في الدين والوصية له أحوال:
أولا- أن يقرّ الشخص بدين لأجنبي يستغرق المال كله أو بعضه، بقصد إضرار الورثة، ويظهر قصد الضرر كثيرا في الكلالة (الحواشي)، أما في الوالدين والأولاد والأزواج فهو نادر.
ثانيا- أن يقرّ بأن الدين الذي كان له عند فلان قد استوفاه.
ثالثا- أن يوصي بأكثر من الثلث، قال ابن عبّاس: الضرار في الوصية من الكبائر.
رابعا- أن يوصي بالثلث لا بقصد القربة إلى الله، بل لإنقاص أنصباء الورثة.
وفي هذه الخاتمة المؤثرة بمن أصغى إليها وفهمها: إشارة إلى أنه تعالى شرع المواريث على هذا النحو، وهو يعلم ما فيها من الخير والمصلحة، فمن الواجب الإذعان لوصايا الله وفرائضه، والتزام منهجه وحدوده، فلا ينبغي الاعتداء وهضم الحقوق، أو التعديل في أنظمة الإرث كإعطاء المرأة مثل الرجل، كما في بعض الدّول الإسلامية أخذا بأعراف فاسدة لمصادمتها للنصوص القرآنية القطعية، أو محاكاة لأنظمة الغرب وقوانين البشر، زعما بأن ذلك عدل يقتضي المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة، لكن لا عدل بعد عدل الله، ولا رحمة فوق رحمة الله، فإن افتتاح الآيات بقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ دليل على أنه تعالى أرحم بالناس من الوالدة بولدها، حيث أوصى الوالدين بأولادهم، ويؤيده
الحديث الصحيح: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها».
أحكام أخرى من آيات المواريث:
١- قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ بيان لما أجمل في قوله:
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ فدل على جواز تأخير البيان عن وقت السؤال. وهذه الآية ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الأحكام، وأم من أمّهات الآيات، فإن الفرائض عظيمة القدر، حتى إنها ثلث العلم، وروي نصف العلم، وهو أول علم ينزع من الناس وينسى.
أخرج الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تعلموا الفرائض وعلّموه الناس، فإنه نصف العلم، وهو أول شيء ينسى، وهو أول شيء ينتزع من أمتي».
٣- ظاهر الآية أن يكون الميراث لجميع الأولاد، المؤمن منهم والكافر، فلما ثبت
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يرث المسلم الكافر» «١»
علم أن الله أراد بعض الأولاد دون بعض، فلا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، على ظاهر الحديث.
ودلت الأحاديث على أن موانع الإرث هي ثلاث: قتل، واختلاف دين، ورقّ، لكن القتل الخطأ لا يمنع من الميراث عند الإمام مالك، ويمنع كالقتل العمد عند باقي الأئمة.
ولم يدخل في عموم الآية ميراث النبي صلّى الله عليه وسلّم
لقوله فيما رواه أحمد: «إنا لا نورث ما تركناه صدقة».
وقال النخعي: لا يرث الأسير، وقال أغلب أهل العلم: إنه يرث ما دام تعلم حياته على الإسلام لأن قوله تعالى: فِي أَوْلادِكُمْ دخل فيه الأسير في أيدي الكفار.
٤- أصحاب الفرائض في الآيات يأخذون حقوقهم، والباقي للعصبات،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الأئمة: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقته الفرائض فلأولى رجل ذكر»
يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى وهي ستة: النصف والربع والثمن، والثلثان والثلث والسدس. وقوله: لأولى: أي لأقرب.
والربع: فرض الزوج مع الحاجب وهو الولد: وفرض الزوجة والزوجات مع عدم الحاجب.
والثمن: فرض الزوجة والزوجات مع الحاجب.
والثلثان: فرض أربع: البنتان فصاعدا، وبنات الابن، والأخوات الشقيقات، أو لأب، إذا انفردن عمن يحجبهن عنه.
والثلث فرض صنفين الأم مع عدم الولد وولد الابن، وعدم الاثنين فصاعدا من الإخوة والأخوات، وفرض الاثنين فصاعدا من ولد الأم، وهذا هو ثلث كل المال. فأما ثلث ما يبقى فذلك للأم في مسألة: زوج أو زوجة وأبوان، فللأم فيها ثلث ما يبقى. وفي مسائل الجد مع الإخوة إذا كان معهم ذو سهم، وكان ثلث ما يبقى أحظى له.
والسدس فرض سبعة: الأبوان والجد مع الولد وولد الابن، والجدة والجدات إذا اجتمعن، وبنات الابن مع بنت الصلب، والأخوات للأب مع الأخت الشقيقة، والواحد من ولد الأم ذكرا كان أو أنثى. ويسقط ولد الأم مع الفرع الوارث والأصل الوارث المذكر.
وهذه الفرائض كلها مأخوذة من كتاب الله تعالى إلا فرض الجد والجدات، فإنه مأخوذ من السنة، ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى للجدة بالسدس.
٥- لا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية، كما بينت.
٦- لما قال تعالى: فِي أَوْلادِكُمْ يتناول كل ولد كان موجودا أو جنينا في بطن أمه، من الطبقة الأولى أو بعدها، من الذكور أو الإناث ما عدا الكافر كما تقدم.
فَوْقَ زائدة أي كن نساء اثنتين، كقوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال ٨/ ١٢] أي الأعناق فما فوقها. وأقوى حجة في أن للبنتين الثلثين الحديث الصحيح المروي في سبب النزول.
٨- إذا كان مع البنت بنت ابن فللبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين. سئل ابن مسعود عن ذلك فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين! أقضي فيها بما
قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت.
٩- إذا مات الرجل وترك زوجته حبلى، فإن المال يوقف حتى يتبين ما تضع. فإن خرج ميتا لم يرث، وإن خرج حيا يرث ويورث. أما الخنثى وهو الذي له فرجان فأجمع العلماء على أنه يورّث من حيث يبول.
١٠- قوله تعالى وَلِأَبَوَيْهِ الأبوان: تثنية الأب والأبه، أو من قبيل التغليب عند العرب، كقولهم للأب والأم: أبوان، وللشمس والقمر: القمران، ولليل والنهار: الملوان، وكذلك العمران لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
١١- للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم بإجماع العلماء، وأجمعوا على أن الأم تحجب أمها وأمّ الأب، وأجمعوا على أن الأب لا يحجب أم الأم.
ولا يرث في رأي مالك إلا جدّتان: أم الأم وأم الأب وأمهاتهما. ولا ترث الجدة أم أب الأم على حال.
١٢- قوله تعالى لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فرض تعالى لكل واحد من الأبوين مع الولد السدس، وأبهم الولد، فكان الذكر والأنثى فيه سواء.
١٤- الدين مقدم على الوصية، بدليل
ما روى الترمذي عن علي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى بالدين قبل الوصية.
وهذا مجمع عليه.
وتمسك الشافعي بالآية في تقديم دين الزكاة والحج على الميراث، فقال: إن الرجل إذا فرّط في زكاته، وجب أخذ ذلك من رأس ماله لأنه حق من الحقوق، فيلزم أداؤه عنه بعد الموت لحقوق الآدميين، لا سيما والزكاة مصرفها إلى الآدمي. وقال أبو حنيفة ومالك: إن أوصى بها أديت من ثلثه، وإن سكت عنها لم يخرج عنه شيء، حتى لا يترك الورثة فقراء.
١٥- قوله تعالى: لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قيل: في الدنيا بالدعاء والصدقة، كما جاء في الأثر:
«إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده»
وفي الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: «إذا مات الرجل انقطع عمله إلا من ثلاث- فذكر- أو ولد صالح يدعو له».
وقيل: في الآخرة، فقد يكون الابن أفضل فيشفع في أبيه.
وفي الجملة: إن الآباء والأبناء ينفع بعضهم بعضا في الدنيا بالتناصر والمواساة، وفي الآخرة بالشفاعة. وإذا تقرر ذلك في الآباء والأبناء تقرر ذلك في جميع الأقارب.
١٦- ليس في الفرائض موضع يكون فيه الذكر والأنثى سواء إلا في ميراث الإخوة للأم، وذلك في قوله تعالى: فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ هذا التشريك يقتضي التسوية بين الذكر والأنثى وإن كثروا.
وأما رجوعه إلى الدين فبالإقرار في حالة لا يجوز له فيها، كما لو أقر في مرضه لوارثه أو لصديق ملاطف، فذلك لا يجوز. وأجمع العلماء على أن إقراره بدين لغير وارث حال المرض جائز إذا لم يكن عليه دين في الصحة.
فإن كان عليه دين في الصحة ببينة وأقر لأجنبي بدين، فقالت طائفة منهم الحنفية: يبدأ بدين الصحة. وقالت طائفة منهم الشافعي: هما سواء إذا كان لغير وارث.
قال ابن عباس: الإضرار في الوصية من الكبائر، ورواه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وروى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة، ثم يحضرهما الموت، فيضارّان في الوصية فتجب لهما النار».
ومشهور مذهب مالك: أن الموصي لا يعد فعله مضارّة في ثلثه لأن ذلك حقه، فله التصرف فيه كيف شاء.
١٨- قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ يعني عليم بأهل الميراث، حليم على أهل الجهل منكم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣ الى ١٤]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
الإعراب:
خالِدِينَ فِيها حال من هاء يُدْخِلْهُ، والهاء تعود على مَنْ ومَنْ:
تصلح للواحد والجماعة، وإنما جمع حملا على المعنى.
خالِداً فِيها حال من هاء يُدْخِلْهُ، والهاء تعود على مَنْ. ووحّد خالِداً حملا على لفظ مَنْ وهم تارة يحملون على اللفظ وتارة على المعنى.
البلاغة:
يوجد طباق في وَمَنْ يُطِعِ.. وَمَنْ يَعْصِ.
المفردات اللغوية:
حُدُودُ اللَّهِ جمع حد، وهي هنا شرائع الله وأحكامه التي حدها لعباده ليعملوا بها ولا يتعدوها. وقد تطلق الحدود على المحارم التي منعها الله، ومنه سميت العقوبات المقدرة «حدودا».
مُهِينٌ ذو إهانة وذل.
التفسير والبيان:
أكد سبحانه وتعالى مضمون الإنذار السابق في قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
هي حدود الله وأحكامه فلا تعتدوها ولا تجاوزوها، ولا يصح لمسلم أن يتخطاها ومن يطع الله باتباع ما شرعه من الدين وأنزله على رسوله الكريم، ويطع الرسول باتباع ما بلّغ به عن ربه من أحكام وآيات، فطاعة الرسول طاعة لله:
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء ٤/ ٨٠]، من يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، ونحن نؤمن بها ونعتقد أنها أرفع من كل نعيم في الدنيا، وأن الطائعين خالدون فيها، وذلك هو الفوز العظيم: وهو الظفر والفلاح الذي لا يماثله فوز في الدنيا.
ومن يتعدّ حدود الله ويعص الله ورسوله ويتجاوز حرمات الله يدخله نارا وقودها الناس والحجارة، وهم خالدون فيها، ولهم عذاب مقترن بالإهانة والإذلال لأنه ضادّ الله في حكمه ولم يرض بما قسم الله وحكم.
وفرق عظيم بين خلود أهل الجنة حيث يتمتعون بالنعيم الدائم والأنس مع بعضهم، وبين خلود أهل النار حيث يذوقون أشد العذاب مع إيحاش النفوس ونفرتها كما قال تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف ٤٣/ ٣٩].
وأما عصاة المؤمنين فيعذبون في النار بقدر ذنوبهم، ثم يخرجون إلى الجنة، والعصيان الموجب للعذاب هو المقترن بتعمد المعصية والإصرار عليها، كما قال تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة ٢/ ٨١]. أما المذنب الذي تورط في المعصية، ثم لام نفسه
فقه الحياة أو الأحكام:
من رحمة الله العظمى بعباده أن بيّن لهم الحلال والحرام وأوضح الشرائع والأحكام، ورغّب وأرهب، وحذّر وأنذر، فمن أطاع أوامر الله والرسول واجتنب المعاصي والمنكرات فجزاؤه الجنة خالدا فيها أبدا. ومن عصى الله والرسول فإن أدى عصيانه إلى الكفر فهو خالد في النار أبدا، وأما إن ظل مؤمنا وارتكب الكبائر وتجاوز أوامر الله فيستحق عذاب النار لمدة ما، دون خلود ولا مكث.
جزاء الفاحشة في مبدأ التشريع
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)
الإعراب:
وَالَّذانِ مبتدأ، وخبره: فَآذُوهُما.
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ مجاز عقلي، والمراد يتوفاهن الله أو ملائكته. ويوجد جناس مغاير في: «فَإِنْ تابا.. تَوَّاباً».
المفردات اللغوية:
يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ يفعلن الزنا. أَرْبَعَةً مِنْكُمْ من رجالكم المسلمين. فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بها فَأَمْسِكُوهُنَّ احبسوهن فِي الْبُيُوتِ امنعوهن من مخالطة الناس حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي يقبض أرواحهن ملك الموت أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا طريقا إلى الخروج منها.
المناسبة:
أبان سبحانه وتعالى سابقا حكم الرجال والنساء في الزواج والميراث، وحذر من تخطي حدود الله، ثم بيّن هنا حكم الحدود فيهن إذا ارتكبوا الفاحشة، أو الحرام أو الزنا لأن ذلك من أقبح المعاصي التي يتخطى بها حدود الله، ولئلا تتوهم المرأة أنه يسوغ لها ترك التعفف.
التفسير والبيان:
كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت وثبت زناها بالبينة العادلة وهي أربعة شهود، حبست في بيت، فلا تمكّن من الخروج منه حتى تموت.
وكانت عقوبة الرجال الشتم والتعيير باللسان والضرب بالنعال، وظل الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد للأبكار، والرجم للمحصنين والمحصنات.
عقوبة الزانيات:
معنى الآية: النساء اللاتي يأتين أي يفعلن الفاحشة: وهي الفعلة القبيحة، والمراد بها هنا الزنا، فأشهدوا على زناهن أربعة من الرجال، فإن شهدوا فاحبسوهن في البيوت حتى يتوفاهن ملك الموت، أو يجعل الله لهن مخرجا مما أتين به.
وأخرج مسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولفظه: «خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».
واستقر رأي العلماء على أن الشطر الأخير من حديث عبادة منسوخ، وأن السبيل الذي جعل للثيب هو الرجم دون الجلد، لصحة الخبر
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه رجم ولم يجلد
، فاستدلوا بما صح من فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم على قوله في حديث عبادة.
عقوبة الزناة:
معنى الآية: الرجلان الزانيان اللذان يأتيان الفاحشة، وهذا قول مجاهد، أو الرجل والمرأة البكران اللذان يأتيان الفاحشة، وهذا قول السدي وابن زيد، فآذوهما بالقول وعيروهما ووبخوهما على فعلهما إذا لم يتوبا، فإن تابا وأصلحا عملهما وغيّرا أحوالهما، ورجعا عن فعل الفاحشة وندما، فاتركوا إيذاءهما، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ثم علل الأمر بالإعراض عنهما بقوله: إن الله كان توابا على عباده، رحيما بهم. وليس المراد بالإعراض: الهجر، ولكن المتاركة احتقارا لهم بسبب المعصية المتقدمة.
والخطاب هنا لأولي الأمر الحكام، والآية اشتملت على حكم الزانيات
وهذا العقاب كان في مبدأ التشريع من قبيل التعزير المفوض أمره إلى الأمة في كيفيته ومقداره، ثم نسخ ذلك بآية النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [٢٤/ ٢] وبالأحاديث السابقة.
ويرى أبو مسلم الأصفهاني الذي أنكر النسخ في القرآن: أن المراد بالآية الأولى المساحقات التي تحصل بين النساء، وبالثانية: اللوطيان، وعلى هذا فلا نسخ.
الأحكام:
هذه أولى عقوبات الزناة في الإسلام، وكان هذا في ابتداء الإسلام، كما قال عبادة بن الصامت والحسن البصري ومجاهد حتى نسخ بآية النور وبالرجم للثيب في الحديث.
وهل كان السجن في البيت حدا أو توعدا بالحد؟ على قولين: أحدهما- أنه توعد بالحد. والثاني- أنه حد، قال ابن عباس والحسن البصري. وقال بعض العلماء: إن الأذى والتعيير باق مع الجلد لأنهما لا يتعارضان بل يحملان على شخص واحد. وأما الحبس فمنسوخ بالإجماع.
أما الاستشهاد على الزنا بأربعة رجال مسلمين عدول فحكمه باق لم ينسخ.
أما كونهم من المسلمين الذكور فلقوله تعالى: مِنْكُمْ وجعل الله الشهادة على الزنا خاصة أربعة تغليظا على المدّعي وسترا على العباد، وتحديد الشهود بالأربعة في الزنا حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن، قال الله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ، فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور ٢٤/ ٤].
وهل يجتمع النفي مع الجلد؟
الذي عليه الجمهور أنه ينفى الزاني مع الجلد، لحديث عبادة المتقدم،
وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد، وحديث العسيف وفيه: فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد عليك، وجلد ابنه مائة وغرّبه عاما» «١».
وقال الحنفية: لا تغريب مع الجلد لأن النص الذي في القرآن إنما هو الجلد، والزيادة على النص نسخ، فيلزم عليه نسخ النص القاطع بخبر الواحد.
وقد غرب عمر ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر، فلحق بهرقل فتنصر، فقال عمر: لا أغرّب مسلما بعد هذا. قالوا: ولو كان التغريب حدا لله تعالى ما تركه عمر بعد.
والجواب: قولهم: الزيادة على النص نسخ، ليس بمسلّم، بل زيادة حكم آخر مع الأصل، ثم إنهم زادوا الوضوء بالنبيذ بخبر لم يصح، على الماء. واشترطوا الفقر في ذوي القربى (وهم بنو هاشم وبنو المطلب) في إعطائهم من خمس الغنيمة في آية: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال ٨/ ٤١].
وأما حديث عمر وقوله: «لا أغرب بعده مسلما» فيعني في الخمر، لما
أخرجه الترمذي والنسائي عن ابن عمر: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ضرب وغرّب
، وأن أبا بكر ضرب وغرّب، وأن عمر ضرب وغرّب».
حالة قبول التوبة ووقتها
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
الإعراب:
بِجَهالَةٍ حال. وَلَا الَّذِينَ مجرور بالعطف على قوله: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ وتقديره: وليست التوبة للذين يعملون السيئات ولا الذين يموتون وهم كفار.
المفردات اللغوية:
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي التوبة التي كتب على نفسه قبولها بفضله السُّوءَ العمل القبيح أو المعصية. بِجَهالَةٍ جاهلين إذا عصوا ربهم. والمراد بالجهالة: الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العلم، وذلك يكون عند ثورة الشهوة أو الغضب، وكل من عصى الله فهو جاهل. أَعْتَدْنا هيأنا وأعددنا.
أشار الله تعالى في الآية السابقة إلى أن توبة اللذين أتيا الفاحشة توجب ترك العقوبة والتعنيف وإزالة الإيذاء، فناسب أن يبين شروط قبول التوبة ووقتها.
التفسير والبيان:
إنما قبول التوبة والمغفرة متحقق على الله تفضلا وإحسانا للذين يتورّطون في ارتكاب المعصية، ويقعون فيها جاهلين لا يقدرون الآثار والنتائج والمخاطر، ولم يصرّوا على المعصية لأنهم فعلوها بدافع الهوى والشيطان، ثم تابوا قبل الغرغرة ولو بعد معاينة الملك يقبض الروح.
وليس المقصود بالجهالة عدم العلم بالتحريم لأن كل مسلم مطالب بتعلم ما هو حرام شرعا، وإنما المراد تغلب الطيش والسفه على النفس عند ثورة الشهوة أو سورة الغضب.
قال مجاهد وغيره: كل من عصى الله خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب. وذكر قتادة عن أبي العالية: أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة «١». وقال عبد الرّزاق: أخبر معمر عن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره. بدليل قوله تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر ٣٩/ ٥٣] فليس المراد بالجهالة: أن يعمل السوء عالما به.
ويؤكد ذلك ما قال تعالى إخبارا عن يوسف عليه السّلام: أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ [يوسف ١٢/ ٣٣]، وقال تعالى لنوح: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود ١١/ ٤٦].
هذا هو الشرط الأول: إيقاع المعصية عن جهالة، والشرط الثاني: أن يتوب الإنسان بعد الذنب بزمن قريب، والزمن القريب كما قال ابن عباس:
ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وقال الضّحاك: ما كان دون الموت فهو قريب. ومن: للتبعيض، والمعنى: ثم يتوبون بعد وقت قريب. وسمي ما بين وقوع المعصية وبين حدوث الموت زمنا قريب، ففي أي جزء من هذا تاب فهو تائب من قريب، وإلا فهو تائب من بعيد.
ثم أكّد تعالى مبدأ قبول التوبة بالشرطين المذكورين فقال:
أولئك الذين فعلوا الذنب بجهالة، وتابوا بعد زمن قريب، يتوب الله عليهم لأنهم لم يصرّوا على ما فعلوا.
وكان الله عليما بضعف الإنسان أمام الشهوة والغضب، حكيما في قبول توبة ذلك الضعيف.
وبعد بيان حال من تقبل توبتهم، ذكر تعالى حال أضدادهم الذين لا تقبل توبتهم فقال:
أوّلا- لا توبة للذين يعملون السيئات، حتى إذا حضر أحدهم الموت قال:
إني تبت الآن، فلا أمل في الإصلاح حينئذ، ولا فائدة من التوبة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر ٤٠/ ٨٥]، وقوله حكاية عن فرعون لما أدركه الغرق: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
ثانيا- لا توبة أيضا للذين يموتون وهم كفار. وهذا يحتمل وجهين:
الأول- أن المراد بهم الذين قرب موتهم، بمعنى أن الإيمان لا يقبل من الكافر عند حضور الموت.
الثاني- أن يكون المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر لا تقبل توبتهم.
أولئك أي الفريقان السابقان أعتدنا أي هيأنا وأعددنا لهم عذابا مؤلما موجعا، جزاء لما كسبت أيديهم من السيئات، مع إصرارهم عليها حتى الممات.
فقه الحياة أو الأحكام:
اتفقت الأمة على أن التوبة فرض على المؤمنين، لقوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور ٢٤/ ٣١].
وقوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ قيل: هذه الآية عامّة لكلّ من عمل ذنبا.
وقيل: لمن جهل فقط، والتوبة لكل من عمل ذنبا في موضع آخر. وتصح التوبة من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه، خلافا للمعتزلة في قولهم:
لا يكون تائبا من أقام على ذنب، ولا فرق بين معصية ومعصية. هذا مذهب أهل السنة.
وإذا تاب العبد فالله سبحانه بالخيار إن شاء قبلها، وإن شاء لم يقبلها.
وليس قبول التوبة واجبا على الله من طريق العقل كما قال المعتزلة، لأن من شرط الموجب أن يكون أعلى رتبة من الموجب عليه، والحق سبحانه خالق الخلق
لكن الله سبحانه قد أخبر في قرآنه أنه يقبل التوبة عن العاصين من عباده- وهو الصادق في وعده- بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشورى ٤٢/ ٢٥] وقوله: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ [التوبة ٩/ ١٠٤] وقوله: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه ٢٠/ ٨٢] فإخباره سبحانه وتعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء.
والخلاصة: العقيدة أنه لا يجب على الله شيء عقلا، فأما النقل السمعي في القرآن فظاهره قبول توبة التائب.
٢- التوبة تشمل كل أنواع السوء والمعاصي من كفر وغيره، فكل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته، كما تقدم، وأمور الدنيا كلها جهالة، سواء وقعت عمدا أو جهلا.
٣- التوبة في أثناء زمن قريب قبل المرض والموت، وكل ما كان قبل الموت فهو قريب. قال المالكية: إنما صحت من العبد في هذا الوقت، لأن الرجاء باق، ويصح منه الندم والعزم على ترك الفعل.
روى الترمذي عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»
قال: هذا حديث حسن غريب. ومعنى:
«ما لم يغرغر»
: ما لم تبلغ روحه حلقومه، فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به.
٤- نفى سبحانه أن يدخل في حكم التائبين صنفان: الأول- من حضره الموت وصار في حين اليأس، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء والغرق، فلم ينفعه ما أظهر من الإيمان، لأن التوبة في ذلك الوقت لا تنفع، لأنها حال زوال التكليف.
معاملة النساء في الإسلام تحريم إرث النساء كرها والعضل عن الزواج وأخذ شيء من المهور كرها والمعاشرة بالمعروف
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٩ الى ٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
أَنْ تَرِثُوا فاعل مرفوع لفعل (يحل). كَرْهاً منصوب على المصدر في موضع الحال. لا تَعْضُلُوهُنَّ لا: إما نافية، والفعل منصوب بالعطف على أَنْ تَرِثُوا وتقديره:
لا يحل لكم أن ترثوا وأن تعضلوا، وتكون لا تأكيدا للنفي غير عاملة. وإما ناهية، فيكون تَعْضُلُوهُنَّ مجزوما بلا.
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ في موضع نصب، لأنه استثناء منقطع. أَنْ تَكْرَهُوا أن وصلتها في موضع رفع بعسى، لأن معناه: قربت كراهتكم لشيء.
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً منصوب على المصدر في موضع الحال من واو. تَأْخُذُونَهُ وتقديره: تأخذونه مباهتين. إِثْماً مُبِيناً حال أيضا.
البلاغة:
وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً استعارة تصريحية، استعار لفظ الميثاق للعقد الشرعي.
ويوجد جناس ناقص في: فَإِنْ تابا... تَوَّاباً وفي كَرِهْتُمُوهُنَّ... أَنْ تَكْرَهُوا.
وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً للمبالغة وتعظيم الشيء المعطى مهرا وأنه حق خالص للمرأة.
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ استفهام للتوبيخ والإنكار.
المفردات اللغوية:
النِّساءَ أي ذاتهن. كَرْهاً أي مكرهين على ذلك، وهو فعل أهل الجاهلية، كانوا يرثون نساء أقربائهم، فإن شاؤوا تزوجوهن بلا صداق، وإن شاؤوا زوجوهن وأخذوا صداقهن أو عضلوهن حتى يفتدين بما ورثنه، أو يمتن، فيرثوهن، فنهوا عن ذلك.
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ أي تمنعوا أزواجكم عن نكاح غيركم، بإمساكهن ولا رغبة لكم فيهن ضررا. مأخوذ من العضل: وهو التضييق والمنع والحبس ومنه الداء العضال: الشديد الذي لا نجاة منه.
بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ الفاحشة: الفعلة الشنيعة القبيحة أي الزنى أو النشوز، والمبينة: بكسر الياء: أي هي بينة ظاهرة واضحة، أو بفتح الياء أي بينت، فحينئذ لكم أن تضاروهن حتى يفتدين منكم ويختلعن وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإجمال في القول والنفقة والمبيت.
والمعروف: ما تألفه الطباع السليمة ولا يستنكره الشرع ولا العرف ولا المروءة. فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فاصبروا.
اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ بأن طلقتموها وأردتم أخذ بدلها.
قِنْطاراً مالا كثيرا صداقا بُهْتاناً ظلما وكذبا يبهت المكذوب عليه. وَإِثْماً مُبِيناً حراما بينا.
أَفْضى وصل. بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ أي وصل كل منهما بالآخر بالجماع المقرر للمهر، كنى الله تعالى عن الجماع بلفظ الإفضاء لتعليم المؤمنين الأدب الرفيع، قال ابن عباس: الإفضاء في هذه الآية الجماع، ولكن الله كريم يكني. وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً عهدا. غَلِيظاً شديدا.
فالميثاق الغليظ: العهد المؤكد الذي يربط الرجل بالمرأة بأقوى رباط وأحكمه، وهو ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
سبب النزول: نزول الآية (١٩) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ: روى البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري بسند حسن عن أبي أمامة سهل بن حنيف قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في الجاهلية، فأنزل الله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً.
قال المفسرون: كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة، جاء ابنه من غيرها أو قرابته من عصبته، فألقى ثوبه على تلك المرأة، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها، ولم يعطها شيئا، وإن شاء عضلها وضارها لتفتدي منه بما ورثت من الميت، أو تموت هي فيرثها.
فلما توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري، وترك
التفسير والبيان:
كانت المرأة قبل الإسلام مهضومة الحق، فقرر لها الله تعالى حقوقا في شؤون الزواج، ونهى عن الاعتداء عليها.
الحق الأول- تحريم إرث ذات النساء:
ليست المرأة متاعا يورث، فلا تورث زوجة المتوفى، ولا يحل لكم أيها المؤمنون تقليد أهل الجاهلية، فترثون المرأة كما ترثون الأموال والأمتعة، وتتصرفون فيها كما تشاؤون، وهن كارهات لذلك، فإن شاء أحدكم تزوجها، وإن شاء زوجها غيره، وإن شاء منعها الزواج.
الحق الثاني- عضل المرأة:
أي منعها من الزواج والتضييق عليها: ولا يحل لكم إرث النساء ولا التضييق عليهن حتى تفتدي المرأة نفسها منكم بالمال من ميراث أو صداق ونحو ذلك.
أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، فيأتي الشهود فيكتب ذلك عليها، فإذا خطبها خاطب، فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلا عضلها، وكثيرا ما كانوا يضيقون عليهن ليفتدين منهم بالمال.
والخطاب إلى الذين نهوا عن العضل إما الأزواج، وإما أولياء الميت الذين يرثون زوجته ويمنعونها من الزواج حتى تموت فيرثوها، وإما أولياء المرأة،
والمراد بقوله: لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ألا تضاروهن في العشرة لتترك لكم ما أصدقتموها أو بعضه أو حقا من حقوقها عليكم، أو شيئا من ذلك على وجه القهر لها والإضرار.
ثم استثنى الله تعالى حالا واحدة يجوز فيها العضل أي الحبس والتضييق وهي حالة إتيان الفاحشة المبينة كالزنى والسرقة والنشوز عن الطاعة، ونحو ذلك من الأمور الممقوتة شرعا وعرفا، ففي هذه الحال يجوز العضل لاسترداد ما أعطوه من صداق وغيره من المال لأن الإساءة من جانبها، واشتراط كون الفاحشة مبينة أي ظاهرة ثابتة إنما هو لمنع عضلها بمجرد سوء الظن والتّهمة بسبب غيرة الرجل الشديدة وتسرعه في الحكم على الزوجة البريئة، أو المرأة العفيفة، فيقع الرجل في الظلم حينئذ.
الحق الثالث- المعاشرة بالمعروف:
أي تطييب القول وتحسين الأفعال والهيئات والإنصاف بالنفقة والمبيت، فإن المرأة ذات عواطف ومشاعر وحساسية مرهفة، وهي تحب من الرجل مثل ما يحب هو منها، كما قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة ٢/ ٢٢٨]
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن عساكر عن علي: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»
وكان من أخلاقه صلّى الله عليه وسلّم أنّه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة رضي الله عنها يتودد إليها بذلك، ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلّى الله عليه وسلّم
، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
[الأحزاب ٣٣/ ٢١]
وكان عليه الصلاة والسلام يقول فيما رواه ابن عمر في خطبة الوداع: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن حق، ولهن عليكم حق، ومن حقكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا، ولا يعصينكم في معروف، وإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف».
وأمره تعالى بقوله: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ للرد على ما كان في الجاهلية، إذ كان الرجال يسيئون عشرة النساء، فيغلظون لهن القول، ويضاروهن.
فإن كرهتموهن لعيب في أخلاقهن أو قبح في خلقهن، أو لتقصير في عمل واجب عليهن كخدمة البيت، أو لميل منكم إلى غيرهن، فاصبروا ولا تعجلوا بمضارتهن ولا بمفارقتهن، فربما يجعل الله فيهن خيرا كثيرا، فيجعل منهن زوجات رضيات يصلحن أحوالكم، أو يرزقكم منهن بأولاد نجباء صالحين،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا، رضي منها آخر»
المعنى: لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها، فلا ينبغي له ذلك، بل يعفو ويصفح ويتغاضي عما يكره لما يحب. ولو تعقل الرجل الآية والحديث وعمل بهما شعر بالسعادة وأسعد الأسرة وتجنب كل ما قد يحدث من منازعات تؤدي إلى أبغض الحلال، وتوقع في الشقاء والخسران.
الحق الرابع- حق المرأة في كامل المهر:
الظلم قديم في الإنسان وفي طبعه، والرجل الظالم يعتمد على قوته عادة وعلى كون الطلاق بيده، وكان من ظلم الرجال للنساء، وأطماعهم أن الرجل إذا أراد تطليق امرأته، استرد ما دفعه لها من مهر، متذرعا بوسائل كثيرة ومضايقات متنوعة منها الرمي بالفاحشة، فنهى الله عن ذلك في آيتي: وَإِنْ أَرَدْتُمُ
ووَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ.. وجعله بهتانا وإثما مبينا، ووبخهم وأنكر عليهم ذلك بعد الإفضاء إلى المرأة وأخذ الميثاق الغليظ منهم، فقال:
وإذا أردتم استبدال زوج مكان زوج كرهتموها، فاصبروا وأحسنوا المفارقة، ولا تتهموها بالفاحشة الظاهرة، ولا تأخذوا شيئا من المهر الذي دفعتموه، ولو كان المدفوع قنطارا: مالا كثيرا ثم أنكر عليهم ذلك وبخهم بقوله:
أ- أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً أي باهتين مبطلين ظالمين آثمين.
ومناسبة البهتان: وهو افتراء الكذب إما بإطلاق البهتان على كل باطل محيّر في بطلانه، وإما لإلصاق تهمة الفاحشة بالمرأة وهو طعن بها وظلم، وإما لرميها بتهمة باطلة لأخذ المهر.
ب- وكيف تأخذونه وتستحلون أخذ مهور النساء لا لذنب ولا لتقصير في التزام حدود الله، وقد حدث بينكم ما حدث من استمتاع أو جماع، أو إفضاء متبادل، وملابسة قد يتسبب منها إنجاب الولد، كيف تقطعون هذه الصلة، وتهتكون ستر المرأة، وتسيئون إلى سمعتها، ظلما وغضبا وطمعا في مالها، وأنتم أهل القدرة على العمل واكتساب الأموال.
ج- وأخذن منكم ميثاقا غليظا أي عهدا مؤكدا والتزاما بحق الصحبة والمعاشرة بالمعروف. قال قتادة ومجاهد: هذا الميثاق: هو ما أخذ الله للنساء على الرجال بقوله: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة ٢/ ٢٢٩].
ووصفه الله بالغلظة لقوته وعظمته. وقالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟
إن هذا الفعل قطع لصلة الود والرحمة التي جعلها الله بين الزوجين في قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم ٣٠/ ٢١].
نهى الله الأولياء عن إرث النساء كرها، والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهنّ. وإبطال لعادة الجاهلية القبيحة بإطلاق حق التصرف بزوجة الميت لأوليائه، وجعلهم أحق بامرأته، وهذا مناف للكرامة الإنسانية وإخلال باحترام المرأة وجعلها متاعا يورث، وإساءة لزوجها السابق.
كذلك نهى الله الأزواج وأولياء الميت عن عضل المرأة أي منعها من الزواج بمن تشاء، وحبسها والتضييق عليها، إلا في حال التلبس بفاحشة مبينة كالزنى والنشوز وغيرهما، بقصد أن يأخذوا بعض ما آتاه الزوج لها من مهر. أما في حال النشوز أو الزنى فيحل للرجل أخذ جميع المال الذي قدم مهرا للمرأة.
ثم أمر الله بمعاشرة المرأة بالمعروف جميع الأزواج والأولياء، وإن كان المراد في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ بأن يوفيها حقها من المهر والنفقة، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقا في القول، لا فظّا ولا غليظا، ولا مظهرا ميلا إلى غيرها. والعشرة: المخالطة والممازجة. والمقصود من هذا الأمر الإلهي بحسن صحبة النساء بعد الزواج توفير مناخ السعادة والهدوء والاستقرار وهناءة العيش، لكل من الزوجين، وهذا واجب ديانة على الزوج، ولا يلزمه في القضاء. وتأثير الواجب ديانة بما يذكر بمراقبة الله وخشيته والعرض عليه في الحساب أوقع في نفس المؤمن من حسبان حساب القضاء.
واستدل المالكية بقوله تعالى: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف «١».
وفي حالة طروء كراهية للزوجة لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز، يندب للرجل الصبر والاحتمال، فعسى أن تتبدل الأحوال وتحسن المرأة عشرة زوجها، ويرزقه الله منها أولادا صالحين.
وبعد أن بيّن الله حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها حال الزنى أو النشوز مثلا، أتبعه بذكر الفراق الذي سببه الزوج، وأنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة، فليس له أن يطلب منها مالا.
ودل قوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً على جواز المغالاة في المهور لأن الله تعالى لا يمثّل إلا بمباح، والقنطار: المال الكثير الوزن. وقد فهم الناس ذلك من الآية بدليل قصة عمر والمرأة: خطب عمر رضي الله عنه فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية. فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا! أليس الله سبحانه وتعالى يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً.
فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وفي رواية: فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر! وفي أخرى: امرأة أصابت ورجل أخطأ. وترك الإنكار «١».
وقال قوم: لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد. وهذا
كقوله
ومعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص قطاة. وقد ورد في السنة وفعل الصحابة الإقلال من المهور،
قال صلّى الله عليه وسلّم لابن أبي حدرد، وقد جاء يستعينه في مهره، فسأل عنه، فقال: مائتين، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرّة «١» أو جبل».
وأرشد صلّى الله عليه وسلّم إلى يسر المهور وعدم التعالي في أحاديث أخرى منها:
ما رواه أحمد والحاكم والبيهقي عن عائشة: «إنّ من يمن المرأة تيسير خطبتها، وتيسير صداقها».
وأجمع العلماء على ألا تحديد في أكثر الصداق لقوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً واختلفوا في أقله، وسيأتي عند قوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ.
والصحيح أن قوله تعالى: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً وقوله في سورة البقرة: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً [٢/ ٢٢٩] محكم غير منسوخ، لا يتعارض مع جواز أخذ عوض الخلع الذي تبذله المرأة بطواعية ورضا نفس، وهو المنصوص عليه في قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.. [البقرة ٢/ ٢٢٩].
قال أبو بكر الجصاص الرازي: ذكر الفراء أن الإفضاء هو الخلوة وإن لم يقع دخول. فإذا كان اسم الإفضاء يقع على الخلوة، فقد منعت الآية أن يأخذ منها شيئا بعد الخلوة والطلاق لأن قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ قد أفاد الفرقة والطلاق. وسميت الخلوة إفضاء لزوال المانع من الوطء والدخول «٢».
(٢) أحكام القرآن: ٢/ ١١١
أما الفقهاء فاختلفوا في ذلك، فذهب الحنفية والحنابلة إلى أن المهر يتقرر بالخلوة، وذهب الشافعية والمالكية إلى أنه يتقرر بالجماع، لا بالخلوة، لكن قرر المالكية المهر أيضا بإقامة الزوجة سنة في بيت الزوج بعد الزفاف بلا وطء لأن الإقامة المذكورة تقوم مقام الوقاع أو الوطء.
والقائلون بأن المهر لا يتقرر بالخلوة رأوا أن هذه الآية مختصة بما بعد الجماع، بدليل قوله: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وإفضاء بعضهم إلى بعض: هو الجماع.
المحارم من النساء
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)
إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ في موضع نصب لأنه استثناء منقطع، يقدر البصريون إلا بلكن ويقدره الكوفيون بسوى.
وَساءَ سَبِيلًا سبيلا: تمييز منصوب.
البلاغة:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ فيه حذف مضاف، أي حرم الله عليكم نكاح الأمهات.
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ كناية عن الجماع، مثل قولهم: بنى بها أو عليها.
تَنْكِحُوا ما نَكَحَ جناس ناقص.
المفردات اللغوية:
سَلَفَ مضى فاحِشَةً قبيحا وَمَقْتاً سببا للمقت من الله وهو أشد البغض، وكانوا يسمونه نكاح المقت وَساءَ بئس سَبِيلًا طريقا إلى ذلك.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ أن تنكحوهن، وشملت الجدات من جهة الأب أو الأم وَرَبائِبُكُمُ جمع ربيبة: وهي بنت الزوجة من غيره اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ أي تربونهن في بيوتكم، وهي صفة موافقة للغالب من كون بنت الزوجة تعيش غالبا مع أمها في بيت زوج الأم، فلا مفهوم له، أي تحرم بنت الزوجة ولو لم تكن تتربى في بيت زوج الأم. دَخَلْتُمْ بِهِنَ
أي جامعتموهن. فَلا جُناحَ أي لا إثم ولا تضييق في نكاح بناتهن إذا فارقتموهن، ومن هنا استنبط العلماء قاعدة شرعية هي: «العقد على البنات يحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات».
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ أي تحرم زوجات الأبناء، بخلاف زوجات الأولاد بالتبني، فلكم نكاحهن.
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ: نزلت في حصن بن أبي قيس، تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه، وصفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه: فاختة بنت الأسود بن عبد المطلب، وفي منصور بن مازن تزوج امرأة أبيه: مليكة بنت خارجة.
قال أشعث بن سوار: توفي أبو قيس، وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه، فقالت: إني أعدّك ولدا!! ولكني آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أستأمره، فأتته فأخبرته، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما يحرم إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل الله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ.
وذكر النضر بن شميل في كتاب (المثالب) أن حاجب بن زرارة من العرب تمجّس وتزوج ابنته، فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة.
المناسبة:
بيّن الله تعالى سابقا حكم نكاح اليتامى، وعدد من يحل من النساء بشرط العدل والنفقة، وأوصى بحسن معاشرة الزوجات، وحذر من أخذ مهورهن ظلما بغير حق، ثم عقبه هنا بذكر النساء اللاتي لا يجوز التزوج بهن بسبب قرابة النسب أو المصاهرة أو الرضاع.
اشتملت الآية على تحريم زوجة الأب، والأقارب بسبب النسب أو المصاهرة أو الرضاع.
أولا- النكاح المقت:
حرم الله تعالى في آية: وَلا تَنْكِحُوا.. امرأة الأب لأنها تشبه الأم، ولأنه فعل قبيح شنيع لا تألفه الطباع السليمة، ولأنه مقت مبغوض مكروه عند ذوي العقول الراجحة، لذا سماه العرب: «النكاح المقت» ويسمى ولد الرجل من امرأة أبيه: «مقيتا»، ولأنه بئس الطريق ذلك، كما قال تعالى: وَساءَ سَبِيلًا وهو معطوف على خبر كان بتقدير: مقولا فيه ذلك لأنه إنشاء لا خبر.
والمراد بالنكاح في قوله: ما نَكَحَ: العقد، كما قال ابن عباس،
روى ابن جرير الطبري والبيهقي عنه أنه قال: «كل امرأة تزوجها أبوك، دخل بها أو لم يدخل بها، فهي حرام».
والمراد بالآباء: ما يشمل الأجداد إجماعا.
لكن نكاح ما مضى قبل نزول الآية لا مؤاخذة فيه، أي أن هذا النكاح يستحق فاعله العقاب إلّا ما قد سلف ومضى، فإنه لا ذنب فيه، ومعفو عنه.
والاستثناء منقطع، والمعنى: لكن ما قد سلف فلا تثريب عليكم فيه. وما هنا عبارة عن النساء، فقد وقعت على العاقل، وقيل: إنها مصدرية، والمعنى:
لا تنكحوا نكاحا مثل ما نكح آباؤكم من أنكحة الجاهلية الفاسدة.
ثانيا- المحرمات بسبب قرابة النسب أو المصاهرة أو الرضاع:
بيّن الله تعالى أنواع المحرمات من النساء، لمنافاتها ما في النكاح من الصلة المتبادلة بين الجنسين، وهي ستة أقسام:
أي الأمهات والجدات، لقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ والمراد بالأم: ما يشمل الجدات.
٢- نكاح الفروع:
أي البنات وبنات الأولاد من الأبناء والبنات، لقوله تعالى: وَبَناتُكُمْ والمراد: بنات الصلب وبنات الأولاد، ممن كن سببا في ولادتهن.
٣- نكاح الحواشي القريبة والبعيدة:
القريبة: نكاح الأخوات الشقيقات أو لأب أو لأم لقوله تعالى:
وَأَخَواتُكُمْ. والبعيدة من جهة الأب والأم وهي نكاح العمات والخالات لقوله تعالى: وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وذلك يشمل أولاد الأجداد وإن علوا، وأولاد الجدات وإن علون.
ومن القرابة البعيدة: الحواشي من جهة الإخوة، لقوله تعالى: وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ من جهة أحد الأبوين أو كليهما.
وهذه الأنواع الثلاثة: ما يحرم من جهة النسب.
٤- ما يحرم بسبب الرضاع:
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب لقوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ، فكل أقارب الأم المرضع أقارب للرضيع، فالمرضعة تصبح أما للرضيع، وبنتها أخته، وزوجها أبوه، وأولادها إخوته.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما طلب إليه أن يتزوج ابنة عمه حمزة قال: «إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب»
وروى البخاري أيضا عن ابن عباس «أنه سئل
وظاهر الآية أن قليل الرضاع ككثيره، وهو رأي الحنفية والمالكية. وذهب جماعة إلى أن التحريم إنما يثبت بثلاث رضعات فأكثر
لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم وغيره قال: «لا تحرّم المصّة والمصّتان ولا الإملاجة والإملاجتان».
وهو مروي عن الإمام أحمد.
وذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد إلى أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات لما رواه مالك وغيره عن عائشة قالت: كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهن مما يقرأ من القرآن.
ورد الحنفية على الحديث بأنه لا يجوز تخصيص آية التحريم هذه بخبر الواحد لأنها محكمة ظاهرة المعنى، بينة المراد. وأخرج أبو بكر الرازي عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن الرضاع فقال: إن الناس يقولون: لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان، قال: قد كان ذاك، أما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم.
ولا يحرم الرضاع إلا في سن الصغر وهو ضمن الحولين لقوله تعالى:
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ
وروى الدارقطني عن ابن عباس قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين».
وهل لبن الفحل يحرّم أو لا؟ كأن يتزوج رجل امرأتين، فتلد منه، وترضع إحداهما صبية، والأخرى غلاما، فمن ذهب إلى أن لبن الفحل يحرم وهو مذهب أكثر الأئمة، حرم الصبية على الغلام لأنهما أخوان من الرضاع لأب.
وهذا هو المنصوص عليه،
لما ثبت في البخاري عن عائشة: أن أفلح أخا أبي القعيس جاء يستأذن على عائشة بعد أن نزل الحجاب، فقالت عائشة: والله
٥- ما يحرم بسبب المصاهرة:
حرم الله بسبب المصاهرة ثلاثة أنواع تكريما لتلك الرابطة كتكريم رابطة النسب:
الأول- أم الزوجة التي دخل بها الزوج أو عقد عليها، والجدة كالأم، لقوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أي أمهات الزوجات. ولا يشترط في تحريم أم المرأة الدخول بالبنت، بل يكفي مجرد العقد. وهو رأي الجماهير.
الثاني- الربيبة: وهي ابنة الزوجة من غيره، بشرط الدخول بأمها، وكذا يحرم أولاد أولادها، فإن لم يدخل بها لا يحرم عليه بناتها لقوله تعالى:
وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي إن مجرد العقد على امرأة دون دخول لا يحرم عليه بناتها.
وقال الحنفية: إن من زنى بامرأة يحرم عليه أصولها وفروعها، وكذا إذا لمسها بشهوة أو قبّلها أو نظر إلى فرجها بشهوة، أو لمس يد أم امرأته بشهوة.
وتحرم عليه امرأته تحريما مؤبدا.
وخالفهم باقي الأئمة وقالوا: الزنا لا يحرم أصول المزني بها ولا فروعها.
الثالث- زوجة الابن وابن الابن: تحرم على الأب والجد لقوله تعالى:
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ والحلائل جمع حليلة: وهي الزوجة.
ومثلها زوجة الابن من الرضاعة،
للحديث المتقدم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
ويلاحظ أن قيد كون الربيبة في حجر الزوج خرج مخرج الغالب، لا أنه قيد في التحريم، والربيبة حرام على زوج أمها سواء كانت في حجره أو لم تكن في حجره. ولا تحرم زوجة الابن بالتبني لإبطاله وتحريمه في الإسلام، لقوله تعالى:
لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب ٣٣/ ٣٧] وقوله: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب ٣٣/ ٥].
٦- ما يحرم بسبب عارض:
وهو الجمع بين الأختين أو بين المرأة وعمتها أو خالتها أو ابنة أخيها أو ابنة أختها، والضابط: كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكر، لحرم عليه نكاح الأخرى، بل تظل الحرمة قائمة لو طلق إحداهما حتى تنتهي عدتها.
ويدل لذلك
ما رواه الجماعة عن أبي هريرة قال: «نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها»
وفي رواية الترمذي وغيره: «لا تنكح المرأة على عمتها، ولا العمة على بنت أخيها، ولا المرأة على خالتها، ولا الخالة على بنت أختها، لا الكبرى على الصغرى، ولا الصغرى على الكبرى»
وهذا الحديث خصص عموم قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء ٤/ ٢٤]. ويؤكده
ما أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن فيروز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «طلق أيتهما شئت».
وأشار النبي صلّى الله عليه وسلّم في رواية ابن حبان وغيره: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم»
أي أن تحريم الجمع بين الأختين أو بين المرأة وقريباتها: لوجود الكراهة والبغضاء بين الضرائر عادة.
إن الله كان وما يزال غفورا رحيما يغفر لكم ما قد سلف من آثار أعمالكم السيئة، ويغفر لكم ذنوبكم بالتوبة والإنابة، ويرحمكم بتشريع أحكام الزواج التي فيها الخير والمصلحة لكم وتوثيق الروابط بينكم.
فقه الحياة أو الأحكام:
وضح في أثناء التفسير كثير من الأحكام الشرعية، وأوجزها هنا مع الإشارة إلى أحكام أخرى.
دلت الآية: وَلا تَنْكِحُوا على تحريم منكوحة الأب أو الجد، إلا ما قد سلف، والاستثناء منقطع، أي لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه ولا إثم فيه، فهو كما وصف سبحانه: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا وهو دليل على أنه فعل في غاية من القبح، لذا سماه العرب نكاح المقت: وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها أو مات عنها. ويقال للولد إذا ولدته: المقتيّ. وأصل المقت: البغض.
واختلف العلماء فيمن زنى بها الأب، أتحرم على ولده كما حرمت عليه زوجته، أم لا تحرم، فيكون الوطء الحرام غير ناشر للحرمة كالوطء الحلال.
واختلفوا في الزنى بأم الزوجة، أيحرم الزوجة أم لا يحرمها؟
ذهب إلى الرأي الأول الحنفية والأوزاعي والثوري ومالك في رواية ابن القاسم عنه، وذهب إلى الثاني الليث والشافعي ومالك في رواية الموطأ عنه، وهو الراجح لدى المالكية.
وسبب الخلاف: الاشتراك في لفظ النكاح، فهو يطلق على الوطء وعلى العقد، فمن قال: إن المراد به في الآية الوطء، حرم من وطئت ولو بزنا. ومن
وقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث ضعيف: «ناكح اليد ملعون».
ومن قال: المراد به العقد لم يحرم بالزنا. ومن إطلاقه على العقد قوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب ٣٣/ ٤٩] وقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور ٢٤/ ٣٢] وقوله:
فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ [النساء ٤/ ٣]
وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن ماجه: «النكاح من سنتي»
أي العقد،
وقوله في الحديث الثابت: «أنا من نكاح ولست من سفاح».
فما الراجح أن تحمل عليه الآية أهو الوطء أم العقد؟ ذهب الحنفية: إلى أن الراجح أن يكون المراد بالنكاح في الآية الوطء لأن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، والحمل على الحقيقة أولى، حتى يقوم الدليل على الحمل على المجاز، وإذا كان المراد به الوطء، فلا فرق بين الوطء الحلال والوطء الحرام. والوطء آكد في إيجاب التحريم من العقد لأنا لم نجد وطئا مباحا إلا وهو موجب للتحريم كالوطء بملك اليمين ونكاح الشبهة، وقد وجدنا وطئا صحيحا لا يوجب التحريم وهو العقد على الأم لا يوجب تحريم البنت، ولو وطئها حرمت، فعلمنا أن وجود الوطء علة لإيجاب التحريم، فكيفما وجد ينبغي أن يحرم، سواء كان مباحا أو محظورا.
ورأى الشافعية: أن النكاح وإن كان مجازا في العقد، ولكنه اشتهر فيه، حتى صار حقيقة فيه، كالعقيقة كانت اسما لشعر المولود، ثم أطلقت على الشاة التي تذبح عند حلقة مجازا، واشتهر ذلك حتى صارت حقيقة فيها، تفهم منها عند الإطلاق. وقد عبر الله بجانب هذه المحرمات بما يفيد الزوجية كقوله:
وهذا هو الراجح.
ودلت آية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ... على تحريم سبع من النسب وهي: الأم ومثلها الجدات وان علون، والبنت ومثلها بنت الأولاد وإن سفلن، والأخت، والعمة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت.
وتحريم الأم من الآية لأن الأم حقيقة في الأم مباشرة، مجاز في الجدة، ويكون تحريم الجدات من الإجماع، وقال بعضهم: من الآية لأن الأم تطلق على الأم المباشرة والجدة من باب المشترك المعنوي.
وأما البنت من الزنى فهل هي داخلة في قوله: وَبَناتُكُمْ؟ قال أبو حنيفة: إنها داخلة في الآية ولها حرمة البنت الشرعية لأنها متخلقة من مائه وبضعة منه، فحرمها عليه، فهو قد نظر إلى الحقيقة. وقال الشافعي:
ليست داخلة في الآية، فلا تكون حراما، وليس لها حرمة البنت الشرعية لأن الشارع لم يعطها حكم البنتيه، فلم يورثها منها، ولم يبح الخلوة بها، ولم يجعل له عليها ولاية، وليس له أن يستلحقها به
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة عن أبي هريرة: «الولد للفراش وللعاهر الحجر».
ورجح بعض علماء العصر رأي أبي حنيفة قياسا على ولد الزنا، فإنه تحرم عليه أمه لأنه متخلق منها. ورأى آخرون ترجيح رأي المالكية والشافعية، حتى لا يجعل الزنى في مرتبة القرابة والمصاهرة والرضاع، والقاعدة الشرعية تقرر أن النقمة لا تكون طريقا إلى النعمة.
ودلت الآية على تحريم ست بغير النسب وهم:
الأم من الرضاع، والأخت من الرضاع، ومثلهما جميع أصول وفروع
وأما زوجة الابن المتبنى فأحلها الإسلام، خلافا لما كان عليه العرب في الجاهلية،
وتزوج النبي صلّى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش زوج زيد بن حارثة الذي كان قد تبناه عليه الصلاة والسلام
، عملا بقوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها، لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب ٣٣/ ٣٧] وقوله: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب ٣٣/ ٥].
وقد استنبط العلماء من قوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ.. القاعدة الشرعية وهي: «العقد على البنات يحرّم الأمهات، والدخول بالأمهات يحرم البنات» فأم المرأة تحرم بمجرد العقد على بنتها، سواء دخل بها أو لم يدخل بها. وأما الربيبة: وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد حتى يدخل بأمها، فإن طلق الأم قبل الدخول بها، جاز له أن يتزوج بنتها.
ودل قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ على أن تحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه. وكذلك تحريم البنات والأخوات ومن ذكر من المحرمات، فهو تحريم مؤبد دائم.
والتحريم بالرضاع مثل التحريم بالنسب تماما،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتقدم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».
ويجوز للمرأة أن يحج معها أخوها من الرضاعة، كما صرح الإمام مالك رحمه الله.
وأجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء، وما عقد عليه الأبناء على الآباء، سواء كان مع العقد وطء أو لم يكن لقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا
وقوله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ. فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح لأن النكاح الفاسد إن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه، وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلّق بالصحيح لاحتمال أن يكون نكاحا، فيدخل تحت مطلق اللفظ، والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلّب التحريم. قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطأ بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه، وعلى أجداده وولد ولده.
أما الوطء بالزنى فهو يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال في رأي الحنفية، بدليل قصة جريج، وقوله: «يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي» فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرّم الوطء الحلال.
وقال المالكية والشافعية: إن الزنى لا حكم له لأن الله تعالى قال:
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وليست التي زنى بها من أمّهات نسائه، ولا ابنتها من ربائبه،
روى الدارقطني عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال: «لا يحرم الحرام الحلال، إنما يحرم ما كان بنكاح».
وأما اللائط: فقال مالك والشافعي والحنفية: لا يحرم النكاح باللواط.
وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها: أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة.
واختلفوا إذا طلقها طلاقا بائنا لا يملك رجعتها، فقال الحنفية والحنابلة:
ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلّق. وقال المالكية والشافعية: له أن ينكح أختها وأربعا سواها.
ويخير بين الأختين في رأي مالك والشافعي، سواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما، أو جمع بينهما في عقدين.
وأما النكاح القائم بين الأختين في الجاهلية فهو نكاح صحيح، ثم يخير بينهما إذا أسلم الزوج.
والخلاصة: روى هشام بن عبد الله بن محمد بن الحسن أنه قال: كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرّمات كلّها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين:
إحداهما- نكاح امرأة الأب.
والثانية- الجمع بين الأختين.
ألا ترى أنه قال: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ ولم يذكر في سائر المحرمات: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ.
انتهى الجزء الرابع ولله الحمد
[الجزء الخامس]
[تتمة سورة النساء]حرمة الزواج بالمتزوجات وإباحة الزواج بغير المحارم بشرط المهر
[سورة النساء (٤) : آية ٢٤]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)
الإعراب:
كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ منصوب على المصدر بفعل دل عليه قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ لأن معناه: كتب ذلك كتابا الله، ثم أضيف المصدر إلى الفاعل. مثل قوله تعالى:
صُنْعَ اللَّهِ [النمل ٢٧/ ٨٨] : منصوب على المصدر بما دل عليه الكلام قبله، وتقديره: صنع ذلك صنعا الله، ثم أضيف المصدر إلى الفاعل.
وَأُحِلَّ لَكُمْ بالضم فعل ماضى مبني للمجهول، وما نائب الفاعل، وقرئ بفتح الهمزة على أنه مبني للمعلوم، وما مفعول به. وأَنْ تَبْتَغُوا إما منصوب على أنه بدل من ما إذا كانت في موضع نصب مفعول به، أو على أنه مفعول لأجله، أي لأن تبتغوا بأموالكم.
وإما مرفوع على أنه بدل من ما على أنها نائب فاعل. مُحْصِنِينَ وغَيْرَ مُسافِحِينَ حال من ضمير تَبْتَغُوا.
البلاغة:
يوجد طباق بين مُحْصِنِينَ ومُسافِحِينَ.
آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ: استعار لفظ الأجور للمهور لأن المهر يشبه الأجر في الصورة.
وَالْمُحْصَناتُ أي حرمت عليكم ذوات الأزواج لأنهن دخلن في حصن الزوج وحمايته، ويطلق الإحصان في القرآن الكريم على أحد أربعة معان:
١- التزوج: كما في الآية: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء ٤/ ٢٤] يقال: أحصن الرجل: إذا تزوج.
٢- الإسلام: كما في الآية: فَإِذا أُحْصِنَّ أي أسلمن، يقال: أحصن: إذا أسلم.
٣- العفة: كما في الآية: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ [النساء ٤/ ٢٥] يقال: أحصن: إذا عف، وفي آية أخرى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النور ٢٤/ ٤].
٤- الحرية: كما في الآية: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ [النساء ٤/ ٢٥] يقال: أحصن: إذا صار حرا، وفي الآية نفسها: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ وفي جميع ذلك: معنى المنع وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، فالرجل إذا تزوج، منع نفسه من الزنى، وإذا أسلم، منع نفسه من القتل، والعفيف يمنع نفسه من الفحش، وإذا عتق منع نفسه من الاستيلاء.
وورد الإحصان في السنة بمعنى التزوج،
قال صلّى الله عليه وسلّم: أحصنت؟ بمعنى تزوجت، قال: نعم.
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن علي: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم»
من أحصن منهم ومن لم يحصن.
ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي المملوكات بالسبي في جهاد مشروع، فينفسخ نكاحهن من أزواجهن الكفار في دار الحرب، ويحل الاستمتاع بهن بعد استبراء الحامل بوضع حملها، وغير الحامل (الحائل) بحيضة ثم تطهر، واشترط الحنفية اختلاف الدار بينها وبين زوجها، فلو سبيت هي وزوجها لم تحل لغيره.
كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي كتب الله تحريم ذلك عليكم وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أي أبيح لكم من النساء سوى ما حرم عليكم أَنْ تَبْتَغُوا تطلبوا النساء بِأَمْوالِكُمْ بصداق، فالأموال: المهور مُحْصِنِينَ متزوجين أو متعففين غَيْرَ مُسافِحِينَ غير زانين، والمسافح: الزاني، وذلك لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم، فتخسروا دنياكم ودينكم، ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين.
أُجُورَهُنَّ مهورهن، والأجر في الأصل: الجزاء في مقابلة شيء من عمل أو منفعة، والمهر في مقابل الاستمتاع المباح. فَرِيضَةً مفروضة ومقدرة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا حرج ولا إثم ولا تضييق فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أي اتفقتم أنتم وهن من حط بعض الفريضة أو كلها أو الزيادة عليها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بخلقه فيما يصلحهم حَكِيماً فيما دبره لهم.
روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا من سبي أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن، ولهن أزواج، فسألنا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يقول: إلا ما أفاء الله عليكم، فاستحللنا بها فروجهن.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: نزلت يوم حنين، لما فتح الله حنينا، أصاب المسلمون نساء من نساء أهل الكتاب لهن أزواج، وكان الرجل إذا أراد أن يأتي المرأة قالت: إن لي زوجا، فسئل صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فأنزلت:
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ.
أما قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ.. الآية، فنزل بسبب ما يأتي، أخرج ابن جرير الطبري عن عمرة بن سليمان عن أبيه قال: زعم حضرمي أن رجالا كانوا يفرضون المهر، ثم عسى أن تدرك أحدهم العسرة فنزلت: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ.
المناسبة:
هذه الآية ملحقة في مطلعها بالمحرمات من النساء بسبب النسب أو الرضاع أو المصاهرة أو بسبب عارض كأخت الزوجة وعمتها، في الآية السابقة. وناسب أن يذكر سبيل إباحة غير المحرمات من النساء بشرط المهر وبقصد التعفف لا الزنى.
التفسير والبيان:
قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ معطوف على أُمَّهاتُكُمْ في الآية السابقة، فهن من المحرمات. والمعنى: وحرم عليكم نكاح المتزوجات إلا المسبيات في جهاد
والزواج بإحدى السبايا طريق لكفالة المسبية وصونها عن التبذل ببذل العرض أو البحث عن الرزق.
وجيء بقيد مِنَ النِّساءِ لإفادة التعميم، فيشمل كل متزوجة.
وقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مصدر مؤكد، أي كتب الله ذلك (وهو تحريم ما حرم عليكم) كتابا وفرضه فرضا، وبعبارة أخرى: كتب عليكم تحريم هذه الأنواع كتابا مؤكدا، وفرضه فرضا ثابتا، موافقا للمصلحة دون شك ولا تغيير.
وأحل الله ما وراء ذلكم مما هو عدا المحرمات المذكورات، فقوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ معطوف على قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ عند من قرأ وَأُحِلَّ بالبناء للمعلوم، أما على قراءة البناء للمجهول وَأُحِلَّ فهو معطوف على كتب المقدر المفهوم من قوله تعالى: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
أحل لكم ما وراء ذلكم لأجل أن تطلبوا النساء بأموالكم التي تدفعونها مهرا للزوجة، حالة كونكم أعفاء غير زناة، فلا تضيعوا أموالكم في الزنى، فتذهب أموالكم وتفتقروا.
وأي امرأة من النساء اللواتي أحللن لكم تزوجتموها فأعطوها الأجر أي المهر وسمي المهر أجرا لأنه في مقابلة الاستمتاع، وهذا الحكم مفروض من الله فريضة، فقوله فَرِيضَةً إما حال من الأجور بمعنى مفروضة، أو مصدر مؤكد أي
ولكن لا إثم ولا تضييق على الأزواج بالاتفاقات التي تحدث عقب الزواج، فلا مانع من التراضي على أن تحط المرأة عن الرجل المهر كله أو بعضه أو تهبه له، أو على الزيادة في مقدار المهر، فكل من النقص في المهر بعد تقديره أو تركه كله أو الزيادة فيه أمر مباح مشروع لأن المقصود بالزوجية أن تكون قائمة على أساس متين من المودة والمحبة، والتعاون والتعاطف، والله تعالى عليم بما فيه صلاح خلقه وبنواياهم، حكيم فيما دبره لهم من أحكام، فهو لا يشرع لهم تفضلا ورحمة منه إلا ما فيه خيرهم وصلاحهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على الأحكام السبعة التالية:
الأول:
تحريم الزواج بالمتزوجات من النساء، رعاية لحق الأزواج، ما دامت الزوجية قائمة فعلا أو في أثناء العدة، فإذا طلقن وانقضت عدتهن فهن لكم حلال، وأكد الله تعالى وجوب احترام مبدأ تحريم المحرمات بقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي كتب الله عليكم ما قصه من التحريم، فهو عهد وميثاق، وهو أيضا إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله.
الثاني:
إباحة المسبيات المملوكات بسبب السبي في الجهاد، أو بسبب الشراء لأن
ولا فرق في رأي المذاهب الأخرى بين أن يسبى الزوجان مجتمعين أو متفرقين.
ولا بد من استبراء المسبية بوضع الحمل إن كانت حاملا، وبحيضة إن كانت حائلا غير حامل، قال الحسن البصري: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستبرءون المسبيّة بحيضة
وروى أبو داود وصححه الحاكم عن أبي سعيد الخدري حديثا في سبايا أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة».
والعلماء كافة رأوا استبراء المسبية بحيضة واحدة، سواء أكانت ذات زوج أم لا زوج لها.
هذا.. ويلاحظ أن الإسلام لم يفرض السبي أو الاسترقاق، وإنما كان مشروعا لدى الأمم جميعها، أما إنه لم يحرمه فمن أجل المعاملة بالمثل لأن الرقيق كان عماد الحركة والحياة الاقتصادية والاجتماعية، ولا يعقل أن يسترق العدو أسرانا ونحن لا نسترق أسراه.
وكان الرق أحيانا من أجل توفير سبل المعيشة عند السيد، ويظهر هذا بنحو خاص بالنسبة للمرأة، إذ الغالب أن يكون زوجها قتل في الحرب، فمن مصلحتها أن تعيش في ظل من يعيلها وينفق عليها، ويعفها حتى لا تصبح أداة فساد أو عالة على المجتمع.
الثالث:
إباحة الزواج بجميع النساء الأجنبيات غير المحارم المذكورة في الآية:
لما روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يجمع بين المرأة وعمّتها ولا بين المرأة وخالتها».
وضابط حرمة الجمع عند العلماء: ما ذكر عن الشعبي قال: كل امرأتين إذا جعلت موضع إحداهما ذكرا، لم يجز له أن يتزوج الأخرى، فالجمع بينهما باطل.
وعلة التحريم: هو ما يفضي إليه الجمع من قطع الأرحام القريبة، مما يقع بين الضرائر من البغضاء والشرور بسبب الغيرة،
قال ابن عباس: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يتزوج الرجل المرأة على العمّة أو على الخالة، وقال: «إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» «١».
الرابع:
أباح الله تعالى الاستمتاع بالنساء بعقد الزواج المشتمل على المهر، وهو المال المتقوم الذي يباح الانتفاع به شرعا، وهذا دليل على وجوب المهر، فإذا حصل الزواج بغير المال لم تقع الإباحة به لأنها على غير الشرط المأذون فيه، كما لو عقد على خمر أو خنزير أو ما لا يصح تملكه.
الخامس:
دلّ قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على أن المهر يسمى أجرا، وأنه في مقابلة البضع (الاستمتاع) لأن ما يقابل المنفعة يسمى أجرا. والظاهر أن المعقود عليه: هو بدن المرأة، ومنفعة البضع، والحلّ لأن العقد يقتضي كل ذلك.
واختلف العلماء في معنى الآية على قولين:
أما إذا كان النكاح فاسدا فيجب مهر المثل
لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فإن دخل بها، فلها مهر مثلها بما استحلّ من فرجها» «١».
ولا يجوز في رأيهم أن تحمل الآية على جواز نكاح المتعة: (وهو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر) لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن نكاح المتعة وحرّمه ولأن الله تعالى قال: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ [النساء ٤/ ٢٥] ومعلوم أن النكاح بإذن الأهلين هو النكاح الشرعي بولي وشاهدين، ونكاح المتعة ليس كذلك.
٢- وقال الجمهور: المراد نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام، فقد كان مرخصا فيه في بدء الإسلام، أذن فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم مرة أو مرتين في الجهاد، لبعد المجاهدين عن نسائهم، وخوفا من الزنى، فهو من قبيل ارتكاب أخف الضررين، وعلى أساس مبدأ العفو الذي لم يتعلق به تحريم في مبدأ الأمر، وذلك في غزوة أوطاس، وعام فتح مكة، ثم حرّمه النبي صلّى الله عليه وسلّم بعدئذ واستقر الأمر على التحريم، بدليل آية: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المؤمنون ٢٣/ ٦/ ٥] وليست المتعة نكاحا ولا ملك يمين.
وروى الدارقطني عن علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن المتعة
، قال: وإنما كانت لمن لم يجد، فلما نزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت.
وثبت في الصحيحين عن علي قال: «نهى رسول الله
وفي لفظ آخر في صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة فقال: «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا».
ونهى أيضا عنها عمر رضي الله عنه، ودلت الأحاديث الكثيرة على تحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة، كما تقدم.
بل إن نكاح المتعة على النحو الذي يجيزه الشيعة الإمامية بشروط كثيرة غير مطبّق الآن في الواقع لأن المتمتع لا يقصد بالمتعة الإحصان، وإنما يقصد السفاح، وهو لا يلتزم بتوابع الوطء، والمرأة لا تلتزم أيضا بالعدة.
قال ابن العربي: وقد كان ابن عباس يقول بجوازها، ثم ثبت رجوعه عنها، فانعقد الإجماع على تحريمها. واتفقت المذاهب الأربعة ما عدا زفر على بطلانه. وقال زفر: الزواج صحيح وشرط التأقيت باطل.
وهل يحد من دخل بامرأة في نكاح المتعة؟
قال الحنفية والشافعية والحنابلة: لا يحد للشبهة وإنما يعزر ويعاقب لشبهة العقد. وقال المالكية في مشهور المذهب: يحد بالرجم.
السادس:
قوله تعالى: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعم المال وغيره من منافع الأعيان، وبه قال جمهور العلماء إلا أن أبا حنيفة قال: إذا تزوج على المنفعة فالنكاح جائز، وهو في حكم من لم يسمّ لها، ولها مهر مثلها إن دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها المتعة.
بحديث سهل بن سعد في حديث الموهوبة، وفيه فقال: «اذهب فقد ملّكتكها بما معك من القرآن».
وفي رواية قال: «انطلق فقد زوجتكها فعلّمها من القرآن» «١».
وقد زوج شعيب عليه السلام ابنته من موسى عليه السلام على أن يرعى له غنما في صداقها.
السابع:
دل قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ على جواز الزيادة والنقصان في المهر، فهو سائغ عند التراضي بعد استقرار الفريضة، والمراد إبراء المرأة عن المهر، أو توفية الرجل كل المهر إن طلّق قبل الدخول.
شروط الزواج بالأمة وعقوبة فاحشتها
[سورة النساء (٤) : آية ٢٥]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥)
طَوْلًا الطول: مصدر: طلت القوم، أي علوتهم، وهو مفعول به لفعل: يَسْتَطِعْ أَنْ يَنْكِحَ منصوب بطول انتصاب المفعول به. ولا يجوز نصبه ب يَسْتَطِعْ لأن المعنى يتغير، ويصير: ومن لم يستطع أن ينكح المحصنات طولا، أي للطول، فيصير الطول علة في عدم نكاح الحرائر، وهذا خلاف المعنى لأن الطول به يستطاع نكاح الحرائر، فبطل أن يكون منصوبا ب يَسْتَطِعْ فثبت أنه منصوب بالطول. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ابتداء وخبر.
الْمُحْصَناتُ منصوب على الحال من الهاء والنون في وَآتُوهُنَّ وكذلك قوله تعالى:
غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ.
البلاغة:
يوجد طباق في الْمُحْصَناتِ.. ومُسافِحاتٍ ويوجد جناس ناقص أو مغاير في الْمُحْصَناتِ.. فَإِذا أُحْصِنَّ.
المفردات اللغوية:
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الاستطاعة: كون الشيء في مقدورك طَوْلًا الطول: الغنى والفضل الزائد من مال أو قدرة على تحصيل المطلوب الْمُحْصَناتِ هنا: الحرائر. الْمُؤْمِناتِ هو جري على الغالب، فلا مفهوم له. فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ينكح. مِنْ فَتَياتِكُمُ إمائكم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ أي اكتفوا بالظاهر واتركوا السرائر إلى الله، فإنه العالم بتفصيلها، وربّ أمة تفضل الحرة، وهذا تأنيس بنكاح الإماء. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي أنتم وهن سواء في الدين، فلا تستنكفوا من نكاحهن. بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ مواليهن وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أعطوهن مهورهن بِالْمَعْرُوفِ من غير مطل ولا نقص.
الْمُحْصَناتِ عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ زانيات جهرا أَخْدانٍ أخلاء يزنون بهن سرا. والأخدان جمع خدن: وهو الصاحب، ويطلق على الذكر والأنثى فَإِذا أُحْصِنَّ تزوجن بِفاحِشَةٍ زنى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ الحرائر الأبكار إذا زنين الْعَذابِ هو الحد المقدر شرعا وهو مائة جلدة، ونصفها وهو عقوبة الرقيق خمسون، ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف خَشِيَ خاف الْعَنَتَ الجهد والمشقة، والمراد هنا: الزنى، سمي به الزنى لأنه سبب المشقة بالحد في الدنيا والعقوبة في الاخرة مِنْكُمْ أي أن من لا يخاف الوقوع في الزنى من الأحرار، فلا يحل له نكاح الأمة، وكذا من استطاع طول حرة أي مهرها، في رأي الشافعي. وبشرط كون
المناسبة:
هذه الآية تابعة لما قبلها، تبيّن حكم التّزوج بالإماء وحكم عقوبتهن عند ارتكاب الفاحشة، بعد أن بيّنت الآية المتقدّمة إباحة الزواج بكل النّساء الأجنبيّات غير المحرّمات، فلما بيّن الله من لا يحل من النّساء ومن يحلّ منهنّ، بيّن لنا هنا فيمن يحلّ أنه متى يحلّ، وعلى أي وجه يحلّ؟
التفسير والبيان:
ومن لم يجد لديه زيادة في المال والسعة ليتمكن من الزواج بالحرائر، فله أن يتزوج بالإماء، وعبّر عنهنّ بالفتيات تكريما لهنّ وإرشادا لمناداة الأمة والعبد بلفظ الفتاة والفتى،
روى البخاري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقولنّ أحدكم عبدي أمتي، ولا يقل المملوك: ربّي، ليقل المالك: فتاي وفتاتي، وليقل المملوك:
سيدي وسيدتي، فإنكم المملوكون، والرّب: هو الله عزّ وجلّ».
والمراد بالمحصنات هنا: الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات، وشأن الحرّة الإحصان، كما أن شأن الأمة البغاء، لذا قالت هند للنّبي صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التعجب: أوتزني الحرّة؟
وظاهر الآية يدلّ على أن زواج الإماء مشروط بشروط ثلاثة:
الأول- ألا يجد الزّوج صداق الحرّة.
الثاني- أن يخشى العنت أي الوقوع في الزنى.
الثالث- أن تكون الأمة المتزوّج بها مؤمنة غير كافرة.
وقدّر الحنفية المهر بربع دينار (ثلاثة دراهم)، وقال بعضهم: عشرة دراهم. ولا أجد لهذا التحديد مستندا في الأدلة الشرعية، وإنما الثابت في السّنة
أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال لمن يريد الزواج: «التمس ولو خاتما من حديد» «١».
وتزوّج بعض الصحابة على تعليم امرأته شيئا من القرآن.
وإنما اشترط التشرع هذه الشروط في نكاح الإماء تفاديا لما يشتمل عليه من أضرار، أهمها صيرورة الولد رقيقا لأن الولد يتبع الأم في الرّق والحرية، لذا قال الله تعالى في آخر الآية: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ.
وذهب أبو حنيفة إلى جواز نكاح الأمة لمن لم يكن عنده حرّة، سواء أكان واجدا مهر الحرّة أم لا، وسواء أخشي العنت أم لا، وسواء أكانت الأمة مسلمة أم لا، عملا بالعمومات الكثيرة، كقوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء ٤/ ٣]، وقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ [النور ٢٤/ ٣٢]، وقوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء ٤/ ٢٤]، وقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة ٥/ ٥]، وجميع ذلك يتناول الإماء والكتابيّات.
ولم يشرط فيه عدم الطّول ولا خوف العنت، وهذه الآية لا تصلح لتخصيص العمومات السابقة لأنها أولا تدلّ على الشروط بمفهوم الشرط ومفهوم الصفة، وهما ليسا بحجة عند أبي حنيفة رحمه الله. وثانيا على تقدير الحجية يكون
وأجاب الشافعية: بأن هذه العمومات لا تعارض هذه الآية، إلا معارضة العام للخاص، والخاص مقدّم على العام. والحنفية خصصوا عموم الآيات فيمن لم يكن عنده حرّة، صونا للولد عن الإرقاق، وهذا المعنى يقتضي التخصيص أيضا بما إذا لم يكن لديه مهر الحرة، وخاف العنت. ثم إن الآية أباحت نكاح الأمة لضرورة من خشي العنت وفقد مهر الحرّة، بشرط كون الأمة مسلمة، وفيما عدا ذلك يرجع إلى الأصل وهو المنع من النكاح.
وأما معنى قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فهو أنكم أيها المؤمنون مكلّفون بظواهر الأمور والله يتولى السرائر، فاعملوا على الظاهر في الإيمان، والإيمان الظاهر في الأمة كاف، ولا يشترط العلم بالإيمان يقينا إذ لا سبيل لكم إليه. وأنتم مع الإماء إما من جنس واحد وهو البشرية والرجوع إلى أصل واحد وهو آدم، وإما أنكم مشتركون مع الإماء في الإيمان، والإيمان أعظم الفضائل فلا تأنفوا نكاح الإماء عند الضرورة. وهذا رفع من شأن الإماء وتسوية بينهن وبين الحرائر.
ثم أعاد الله تعالى الأمر بنكاح الإماء لزيادة الترغيب، وجعل نكاحهن مثل الحرائر بكونه بإذن أي رضا أهلهنّ، والأهل: المولى، أو المالك لهن لأن الإيمان رفع من قدرهن.
واتفق الفقهاء على أن نكاح الأمة والعبد مشروط بإذن السيّد، لهذه الآية
فإذا لم يتوافر الإذن، كان النكاح في رأي الشافعي باطلا غير صحيح، وموقوفا غير نافذ كعقد الفضولي في رأي الفقهاء الآخرين.
والأمة كالحرة أيضا في وجوب المهر لها، لقوله تعالى: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ أي أدّوا إليهنّ مهورهنّ بالمعروف بينكم في حسن التعامل ومهر المثل وإذن الأهل.
ومهر الأمة عند الجمهور (أكثر الأئمة) للسيّد لأنه وجب عوضا عن منافع البضع المملوكة للسيّد، وهو الذي أباحها للزوج بالنكاح، فوجب أن يكون هو المستحق لبدلها، ولأن الرّقيق لا يملك شيئا أصلا لقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النحل ١٦/ ٧٥]،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «العبد وما في يده لمولاه».
وقال الإمام مالك: المهر حق للزّوجة على الزّوج، ومهر الأمة لها، عملا بظاهر الآية. ورد الجمهور بأن المراد بالآية: وآتوهن مهورهن بإذن أهلهن، أو أن المراد: وآتوا أهلهن مهورهن. وإنما أضاف إيتاء المهور إليهن لتأكيد إيجاب المهر.
لكن شرط استحقاق الإماء المهور أن يكنّ عفائف متزوجات منكن، لا مستأجرات للبغاء جهرا وهنّ المسافحات، ولا سرّا وهنّ متخذات الأخدان.
وهكذا كان عرف الجاهلية في قسمة الزنى نوعين: علني وهو السّفاح، وسرّي وهو اتّخاذ الأخدان. وقد حرّم الله النّوعين بقوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأنعام ٦/ ١٥١]، وقوله: قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف ٧/ ٣٣].
فالمراد بالمحصنات هنا: العفائف، والمرأة المسافحة: هي التي تؤاجر نفسها
والسبب في اشتراط كون الأمة محصنة مصونة في السرّ والجهر إذا أراد الحرّ التزوّج بها: هو أن الزّنى كان غالبا في الجاهلية على الإماء، وكانوا يشترونهن للاكتساب ببغائهن، حتى إن عبد الله بن أبيّ كان يكره إماءه على البغاء بعد أن أسلمن، فنزل في ذلك: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً، لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا [النور ٢٤/ ٣٣].
ثم أبان الله تعالى عقوبة الحدّ على الزّانية الأمة، فجعل عقوبتها نصف عقوبة الحرّة، وذلك بقوله: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ... أي أن الإماء إذا زنين بعد إحصانهن بالزّواج، فحدّهنّ نصف حدّ الحرائر، وإذا كان حدّ الحرّة مائة جلدة بقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ فحدّ الأمة هو خمسون جلدة. هذا ما دلّ عليه القرآن، فلا رجم للإماء لأن الرّجم لا يتنصف، ودلّت السّنّة على حدّ الأمة غير المزوجة،
روى الشيخان عن زيد بن خالد الجهني أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فقال:
«اجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير».
والسبب في تصدير الآية بقوله: فَإِذا أُحْصِنَّ هو دفع توهم أن التزوّج يزيد في حدهنّ، فهو قيد لم يجر مجرى الشرط، فلا مفهوم له.
ثم ذكر الله تعالى بقوله: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ شرطا آخر لإباحة نكاح الإماء وهو الخوف من الزنى، وهذا ما أخذ به الشافعي رضي الله عنه، أما أبو حنيفة فلم يجعل ذلك شرطا، وإنما هو إرشاد للأصلح.
ثم أوصى الله تعالى في نكاح الإماء بوصية أدبيّة خلقية عامة فقال: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي أن صبركم عن نكاح الإماء خير لكم من نكاحهنّ، وإن أبيح
جاء في مسند الدّيلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الحرائر: صلاح البيت، والإماء:
هلاك البيت»
وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «إذا نكح العبد الحرّة فقد أعتق نصفه، وإذا نكح الأمة فقد أرقّ نصفه».
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي والله واسع المغفرة كثيرها، فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن، وفي ذلك تنفير عنه، ويغفر لمن صدرت منه هفوات كاحتقار الإماء المؤمنات، وهو واسع الرّحمة كثيرها إذ رخّص في نكاح الإماء وأبان أحكام الشريعة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى الأحكام التالية:
١- الترخيص بنكاح الإماء لمن لم يجد الطّول: وهو السّعة والغنى، والمراد هاهنا القدرة على المهر في قول أكثر أهل العلم، منهم مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: إنّ من عنده حرّة فلا يجوز له نكاح الأمة، وإن عدم السّعة وخاف العنت لأنه طالب شهوة وعنده امرأة. وبه قال الطّبري واحتجّ له.
واختلف العلماء فيما يجوز للحرّ الذي لا يجد الطّول ويخشى العنت، من نكاح الإماء، فقال مالك وأبو حنيفة والزّهري: له أن يتزوّج أربعا، وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق: ليس له أن ينكح من الإماء إلا واحدة لقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وهذا المعنى يزول بنكاح واحدة.
وفي الحديث الصحيح: «لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي، ولكن ليقل:
فتاي وفتاتي».
فلا يجوز التزوّج بالأمة الكتابية، وهو رأي الجمهور، وقال الحنفية: نكاح الأمة الكتابية جائز لأن قوله: الْمُؤْمِناتِ على جهة الوصف الفاضل وليس بشرط ألا يجوز غيرها، مثل قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النساء ٤/ ٣] فإن خاف ألا يعدل فتزوّج أكثر من واحدة جاز، ولكن الأفضل ألا يتزوّج فكذلك هنا الأفضل ألا يتزوّج إلا مؤمنة، ولو تزوّج غير المؤمنة جاز، واحتجّوا بالقياس على الحرائر لأنه لما لم يمنع قوله:
الْمُؤْمِناتِ في الحرائر في مطلع الآية من نكاح الكتابيات، فكذلك لا يمنع قوله: الْمُؤْمِناتِ في الإماء من نكاح الإماء الكتابيات.
٣- سعة علم الله تعالى ورفع الحرج عن نكاح الإماء: دلّ قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ على أن الله عليم ببواطن الأمور، ولكم ظواهرها، وكلكم بنو آدم، وأكرمكم عند الله أتقاكم، فلا تستنكفوا من التزوّج بالإماء عند الضرورة، وإن كانت حديثة عهد بسباء، أو كانت خرساء وما أشبه ذلك، ففي اللفظ إيماء على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض الحرائر.
ويؤكد ذلك قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي أنتم من جنس واحد وإنكم بنو آدم، أو أنتم مؤمنون. والمقصود بهذا الكلام توطئة نفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة وتعيّره وتسمّيه الهجين «١»، فلما جاء الشرع بجواز نكاحها علموا أن ذلك التهجين لا معنى له.
وقال الشافعي والأوزاعي وداود الظاهري: يفسخ نكاح العبد بغير إذن سيّده لأن العقد الفاسد لا تصح إجازته.
٥- وجوب المهر: دلّ قوله تعالى: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على وجوب المهر في النكاح، وأنه للأمة، وهو مذهب مالك، لقوله تعالى: بِالْمَعْرُوفِ أي بالشرع والسّنّة، وهذا يقتضي أنهنّ أحقّ بمهورهنّ من السّادة. وقال الشافعي:
الصداق للسيّد لأنه عوض فلا يكون للأمة لأن الزواج إجازة المنفعة في الرقبة، وإنما ذكرت الأمة لأن المهر وجب بسببها.
٦- مقومات اختيار الأمة: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي عفائف غير زوان أي معلنات بالزنى، وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أصدقاء على الفاحشة.
وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنى، ولا تعيب اتّخاذ الأخدان، ثم رفع الإسلام جميع ذلك، بقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأنعام ٦/ ١٥١] كما قال ابن عباس وغيره.
٧- حدّ الأمة الزّانية: تحدّ الأمة إذا زنت خمسين جلدة، وهي نصف عقوبة الحرّة الزّانية البكر، سواء أكانت متزوجة أم غير متزوّجة. أما حدّ المتزوّجة فلقوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء ٤/ ٢٥] وإسلامها هو إحصانها في قول الجمهور، فلا تحدّ كافرة
كما في صحيح البخاري ومسلم أنه قيل: يا رسول الله، الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ فأوجب عليها الحدّ،
كما قال الزّهري. فالمتزوّجة محدودة بالقرآن، والمسلمة غير المتزوّجة محدودة بالحديث.
والسبب في الاكتفاء بجلد الأمة المتزوّجة (الثيّب) : أنّ الرّجم الواجب على المحصنات (الحرائر) لا يتبعّض. والفائدة في نقصان حدهنّ أنهنّ أضعف من الحرائر.
وعقوبة العبد مثل عقوبة الأمة، إذ الذكورة والأنوثة لا تؤدي إلى التفرقة في أحكام الأرقاء. ففي الآية ذكر حدّ الإماء خاصة، ولم يذكر حدّ العبيد، ولكن حدّ العبيد والإماء سواء: خمسون جلدة في الزنى، وفي القذف. وفي شرب الخمر في رأي الجمهور غير الشافعية: أربعون. وعليه فإن الإماء يدخلن
في قوله عليه الصّلاة والسّلام: «من أعتق شركا له في عبد قوّم عليه نصيب شريكه» «١»
وهذا هو القياس في معنى الأصل، أو قياس المساواة. ومنه قوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور ٢٤/ ٤] يدخل فيه المحصنون قطعا.
هذا.. وأجمع العلماء على أن بيع الأمة الزّانية ليس بواجب لازم على سيّدها، وإن اختاروا له ذلك،
لقوله عليه الصّلاة والسّلام: «إذا زنت أمة أحدكم، فتبيّن زناها، فليجلدها الحدّ ولا يثرّب عليها، ثم إن زنت فليجلدها الحدّ ولا يثرّب عليها، ثم إن زنت الثالثة فتبيّن زناها فليبعها ولو بحبل من شعر» «٢».
(٢) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. [.....]
لقوله: «فليبعها»
، فعند تبدل الملاك تختلف عليها الأحوال.
٨- الصبر على العزبة خير من نكاح الأمة: دلّ قوله تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ على أفضلية العزوبة وكراهية نكاح الأمة لأن زواج الأمة يفضي إلى إرقاق الولد «١»، ومغالبة النفس وكبح جماحها والصبر على مكارم الأخلاق أولى من معاشرة الإماء. قال عمر رضي الله عنه: «أيّما حرّ تزوّج بأمة فقد أرقّ نصفه» يعني يصيّر ولده رقيقا. وقد سبق ذكر الأحاديث في ذلك.
وهذا يدلّ على أن العزل حقّ المرأة لأنه لو كان حقّا للرجل لكان له أن يتزوّج ويعزل، فينقطع خوف إرقاق الولد في الغالب، وبه قال مالك «٢».
أسباب الأحكام الشرعية السابقة
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)
ص ٦٤٤).
(٢) أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ٤٠٧.
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ دخول اللام على المفعول المتأخر عن فعله المتعدي ضعيف أو ممتنع، وقد خرجه النحاة على مذاهب: فمذهب سيبويه وجمهور البصريين: أن مفعول يُرِيدُ محذوف، واللام للتعليل. وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بمصدر، على حد «تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه» والتقدير: إرادة الله كائنة للتبيين. وذهب الكوفيون: أنها اللام الناصبة للفعل، وأنها تقوم مقام «أن» في فعل الإرادة والأمر، فيقال: أردت أن تذهب، وأردت لتذهب، وأمرتك أن تقوم، وأمرتك لتقوم. وفي التنزيل: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ [الصف ٦١/ ٨]، وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام ٦/ ٧١].
وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً منصوب على الحال.
المفردات اللغوية:
سُنَنَ طرائق، جمع سنة: وهي الطريقة والشريعة. الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الأنبياء في التحليل والتحريم فتتبعوهم. وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يرجع بكم عن معصيته التي كنتم عليها إلى طاعته.
أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ يسهل عليكم أحكام الشرع. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً عاجزا عن مخالفة نفسه وهواه.
المناسبة:
ذكر الله تعالى في هذه الآيات علل الأحكام السابقة المتعلقة بالبيوت والزواج وحكمها التي من أجلها شرعت، كما هو الشأن في القرآن، لتطمئن النفوس، وتعلم الفائدة من تلك الأحكام، وتقبل عليها ببواعث ذاتية، ونفس رضية منشرحة لما تقوم به لأنها تحقق السعادة في الدّنيا والآخرة.
التفسير والبيان:
يريد الله بإنزال هذه الآيات أن يبيّن لكم التكاليف والأحكام الشرعية، ويميز فيها الحلال من الحرام، والحسن من القبيح، ويرشد إلى ما فيه المصلحة، ويهديكم إلى طرائق ومناهج الأنبياء والصالحين المتقدمين، لتقتفوا آثارهم،
ويريد الله أيضا أن يقبل توبتكم من الإثم والمحارم، أو يرشدكم إلى ما يمنع من المعاصي، أو إلى ما يكفّرها ويسترها ويذهب أثرها.
والمختار عند المحققين أن الخطاب ليس عاما لجميع المكلفين، بل لطائفة معينة قد تاب الله عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في الآيات السابقة، وتابوا بالفعل لأنه لو كان عامّا لعارضه حالات أناس لم يتوافر عندهم المراد وهو التوبة.
والله ذو علم شامل لجميع الأشياء، فيعلم ما شرع لكم وما سار عليه من قبلكم وما ينفع عباده المؤمنين وما يضرّهم، وهو حكيم في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله، يراعي الحكمة والمصلحة، ولا يكلّف بما فيه مشقة وضرر.
ثم أكد الله تعالى إرادته قبول التوبة وتطهيركم وتزكية نفوسكم، وقارن بين تلك الإرادة المقترنة بالرحمة وبين إرادة الذين يتبعون الشهوات وهم الفسقة المنهمكون في المعاصي أو الزناة، وقيل: اليهود والنصارى أو المجوس الذين كانوا يحلّون الأخوات وبنات الإخوة والأخوات، فإنهم يريدون أن تميلوا مع أهوائهم ميلا عظيما، أي تنحرفوا معهم عن الحقّ إلى الباطل.
ويريد الله بهذه الأحكام والتكاليف والشرائع والأوامر والنواهي التخفيف عنكم، فأباح لكم نكاح الإماء عند الضرورة، كما قال مجاهد وطاوس، وهذا مثل قوله تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف ٧/ ١٥٧]، وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة ٢/ ١٨٥]، وقوله: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت بالحنيفية السمحة» «١»
، لأنه تعالى وإن حرم علينا بعض النساء، فقد أباح لنا أكثر النساء، وهكذا الحلال أكثر من الحرام في كل شيء.
وأبان الله تعالى سبب التخفيف وهو: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أي يستميله الهوى والشهوة، لا سيما في أمر النساء، ويستثيره الخوف والحزن، فهو عاجز عن مقاومة الأهواء، وتحمل مشاق الطاعات، لذا خفف الله عنه التكاليف، ورخّص له بعض الأحكام.
ومن آفات الفسق تأثر أهل بيت الإنسان بالفسق والفجور لأنه قدوة لهم،
روى الطبراني عن جابر حديثا هو: «عفّوا تعفّ نساؤكم، وبرّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم».
فقه الحياة أو الأحكام:
أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، وعدّ هذه الآيات الثلاث: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ إلى قوله: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً. والرابعة: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء ٤/ ٣١]. والخامسة: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء ٤/ ٤٠].
والسادسة: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء ٤/ ١١٠]. والسابعة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨]. والثامنة: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ، أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ [النساء ٤/ ١٥٢].
دلّت الآيات الثلاثة على ما يأتي:
٢- ارتباط الماضي بالحاضر والمستقبل: إن منهج الاستقامة في العالم واحد، فهو سبحانه أراد أن يبيّن لخلقه طرق الذين من قبلهم من أهل الحق وأهل الباطل.
٣- التجاوز عن الذنوب: فهو تعالى يريد توبة العباد، أي يقبلها، فيتجاوز عن الذنوب.
٤- التخفيف في جميع أحكام الشرع: يريد الله في تشريعه التخفيف عن الناس. وهذا على الصحيح في جميع أحكام الشرع، وليس في نكاح الإماء فقط.
٥- ضعف الإنسان: أي أن هواه يستميله، وشهوته وغضبه يستخفانه، وهذا أشد الضعف، فاحتاج إلى التخفيف. ومن أبرز مظاهر ضعفه: أنه لا يصبر عن النساء. وكان عبادة بن الصامت وسعيد بن المسيّب رغم تقدّم السّنّ يخشيان على أنفسهما من فتنة النساء.
تحريم أكل المال بالباطل ومنع الاعتداء وإباحة التعامل بالتراضي
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
تِجارَةً خبر تكون الناقصة، واسمها مضمر فيها وتقديره: إلّا أن تكون التجارة تجارة.
وأن تكون: في موضع نصب على الاستثناء المنقطع. وعلى قراءة الرفع: فاعل تكون التامة، ولا تفتقر إلى خبر.
عُدْواناً وَظُلْماً منصوبان على المصدر في موضع الحال، كأنه قيل: ومن يفعل ذلك متعديا وظالما.
المفردات اللغوية:
لا تَأْكُلُوا أي لا تأخذوا، وعبّر عن الأخذ بالأكل لأنه المقصود المهم. بِالْباطِلِ بالحرام في الشرع كالرّبا والقمار والغصب. إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي لكن أن تكون الأموال أموال تجارة صادرة عن طيب نفس، فلكم أن تأكلوها.
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا، أو لا تقتلوا أنفسكم بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها، أيّا كان في الدّنيا أو في الآخرة بقرينة.
إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً في منعه لكم من ذلك.
عُدْواناً تعديا على غيره مع القصد، وتجاوزا مفرطا للحلال. وَظُلْماً هو تجاوز الحق بالفعل، وهو تأكيد نُصْلِيهِ ناراً ندخله ونحرقه بالنار. يَسِيراً هيّنا.
المناسبة:
ذكر الله تعالى هنا قاعدة التعامل العام في الأموال، بعد أن بيّن أحكام بعض المعاملات: وهي معاملة اليتامى، وإعطاء شيء من أموال اليتامى إلى أقاربهم إذا حضروا القسمة، ووجوب دفع مهور النساء.
والسبب واضح وهو أن المال قرين الرّوح، والاعتداء عليه يورث العداوة، بل قد يجرّ إلى الجرائم، لذا أوجب الله تعالى تداوله بطريق التراضي لا بطريق الظلم والاعتداء.
ينهى الله تعالى كل واحد من المؤمنين عن أكل مال غيره بالباطل، وعن أكل مال نفسه بالباطل لأن قوله تعالى: أَمْوالَكُمْ يقع على مال نفسه ومال غيره، فكل الأموال هي للأمة، وأكل مال نفسه بالباطل: إنفاقه في المعاصي، وأكل مال غيره بالباطل أي بأنواع المكاسب غير المشروعة كالرّبا والقمار والغصب والبخس، فالباطل: ما يخالف الشرع. وقال ابن عباس والحسن البصري: هو أن يأكل بغير عوض، فالباطل: ما يؤخذ بغير عوض.
ويشمل الأكل بالباطل: كل ما يؤخذ عوضا عن العقود الفاسدة أو الباطلة، كبيع ما لا يملك، وثمن المأكول الفاسد غير المنتفع به كالجوز والبيض والبطيخ، وثمن ما لا قيمة له ولا ينتفع به كالقردة والخنازير والذباب والزنابير والميتة والخمر وأجر النائحة وآلة اللهو.
فمن باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه، كان ثمنه حراما خبيثا وعليه ردّه.
وإذا لم يجز أكل المال بالباطل وهو غير المشروع والمأخوذ من عين أو منفعة ظلما من غير مقابل، فيجوز أخذه بالتراضي الذي يقرّه الشرع، لذا قال الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي ولكن كلوا الأموال بالتجارة القائمة على التراضي ضمن حدود الشرع، والتجارة تشمل عقود المعاوضات المقصود بها الربح، وخصّها بالذّكر من بين أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا في الحياة العملية، ولأنها من أطيب وأشرف المكاسب،
وأخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أطيب الكسب: كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يمدحوا، وإذا كان عليهم لم يمطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا».
وقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ معناه في الظاهر النهي عن قتل المؤمن نفسه في حال غضب أو ضجر (وهو الانتحار)،
كقوله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة-: «من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم، خالدا مخلدا فيها أبدا».
ولكن اتفق جمهور المفسرين على أن معناه: لا يقتل بعضكم بعضا، وإنما قال: أَنْفُسَكُمْ مبالغة في الزّجر، كما قال في الأموال: أَمْوالَكُمْ.
جاء في الحديث: «المؤمنون كالنفس الواحدة» «١».
ولا مانع أن تكون الآية نهيا عن قتل الإنسان نفسه وعن قتل الآخرين، وعن كلّ ما يؤدي إلى الموت كتناول المخدرات والسموم الضارة والمجازفة في المهالك.
والسبب في إيراد هذه الآية هنا في مجال الكلام عن المعاملات المالية: أنه لما كان المال شقيق الروح من حيث إنه سبب قوامها وبه صلاحها، حسن الجمع بين التوصية بحفظ المال والتوصية بحفظ النفس.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تعليل للنهي السابق، أي إنما ينهاكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس لأنه لم يزل بكم رحيما.
ومما يدلّ على حرمة المجازفة بالنفس في المهالك قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة ٢/ ١٩٥]،
وما أخرجه أحمد وأبو داود عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال:
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الآية، فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم يقل شيئا.
ففهم عمرو رضي الله عنه أن الآية تتناول بعمومها مثل حالته، وأقرّه النّبي صلّى الله عليه وسلّم على ذلك.
ثم ذكر الله تعالى عقوبة قاتل الأنفس، وهي أن من يفعل ذلك المحرم- وهو قتل النفس لأن الضمير المشار إليه يعود إلى أقرب مذكور- حال كونه معتديا ظالما، عاقبه الله على جرمه في الآخرة، بإدخاله نارا شديدة الإحراق، وذلك الإدخال هيّن سهل على الله، لا يمنعه منه مانع. وقد بيّنت أن العدوان: هو الإفراط في مجاوزة الحدّ، وأن الظلم: هو الجور ومجاوزة الحدّ أو وضع الشيء في غير موضعه. وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم ليخرج منه فعل السهو والغلط.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على الأحكام الشرعية الآتية:
١- تحريم أكل الأموال بالباطل أي بغير حق، وهو كل ما يخالف الشرع أو يؤخذ بغير عوض. وله أحوال كثيرة.
وعبّر بكلمة أَمْوالَكُمْ للإشارة إلى أن مال الفرد هو مال الأمة، مع احترام الحيازة والملكية الخاصة وإباحة التصرف بالمملوك بحرية تامة، ما لم يكن هناك ضرر بالأمة أو بالمصلحة العامة.
وهذا يومئ إلى وجوب التكافل الاجتماعي بين الفرد والأمة، وبين الشخص والمجتمع، فعلى الأمة ممثلة بالدولة إشباع حاجة الفرد عند الضرورة، وعلى الفرد دعم الأمة بالإنفاق في سبيل الله والجهاد والمصالح العامة، لتتمكن الأمة من الدفاع عن مصالح الأفراد، وحماية البلاد والأموال والأشخاص.
ولكن ليس للمحتاج أن يأخذ شيئا من أموال الآخرين إلا بإذنهم، صونا للأموال، ومنعا للفساد والفوضى، ومنعا لانتشار البطالة وشيوع روح الكسل بين الأشخاص.
٢- إباحة جميع أنواع التجارات (أي عقود المعاوضات التي يقصد بها الربح) بشرط التراضي بين العاقدين. وذلك يشمل البيع والعطاء، فكل معاوضة تجارة على أي وجه كان العوض، إلا أن قوله بِالْباطِلِ أخرج منها كل عوض لا يجوز شرعا من ربا أو جهالة أو تقدير عوض فاسد كالخمر والخنزير ونحوهما، وخرج منها أيضا كل عقد جائز لا عوض فيه، كالقرض والصدقة وهبة التبرع.
روى ابن جرير الطبري عن ميمون بن مهران قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البيع عن تراض، والخيار بعد الصفقة، ولا يحلّ لمسلم أن يغش مسلما» «١».
ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس، الذي قال به الشافعي وأحمد والليث وغيرهم، لما
ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا»
وفي لفظ البخاري: «إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا»
يعني أن الآية مخصوصة بالحديث.
ومن التراضي الضمني: بيع المعاطاة مطلقا فهو صحيح في رأي الجمهور غير الشافعي.
وأما الحنفية والمالكية فلم يقولوا بمشروعية خيار المجلس لأن الآية تقتضي حلّ التّصرف في المبيع بوقوع البيع عن تراض، سواء أتفرق المتبايعان أم لم يتفرّقا، فإن الذي يسمّى تجارة في عقد البيع إنما هو الإيجاب والقبول، وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شيء.
وخصص من التجارات أشياء إما بالقرآن وإما بالسنّة، فالخمر والميتة والخنزير وسائر المحرّمات في الكتاب لا يجوز الاتّجار فيها لأن إطلاق لفظ التحريم يقتضي أن سائر وجوه الانتفاع محرمة، ولأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعل النّهي عن الشّحوم نهيا عن أكل ثمنها،
ففي الحديث الصحيح: «لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا ثمنها».
ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن بيع المنابذة والملامسة وبيع الحصاة وبيع العبد الآبق، وبيع الغرر، وبيع ما لم يقبض، وبيع ما ليس عند الإنسان
، ونحوها من البيوع المجهولة أو المعقودة على غرر.
كلّ ذلك مخصوص من ظاهر قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ.
٣- الترغيب في التجارة: أباحت الآية التجارة ورغّبت فيها، لشدة حاجة الناس إليها، بدليل أن مدار حلّها على تراضي المتبايعين، أما الغش والكذب والتدليس فيها فهي محرّمة.
وروى الدارقطني عن ابن عمر من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «التاجر الصدوق الأمين المسلم مع النّبيين والصّدّيقين والشهداء يوم القيامة».
وفي الآية أيضا إشارة إلى أن معظم التجارات مشتملة على الأكل بالباطل للطمع في أخذ الأرباح الفاحشة، ولزخرفة البضاعة بمختلف الأساليب، ولاقترانها بالأيمان الكاذبة غالبا، لذا فإنها تحتاج إلى المسامحة والصدقة،
قال عليه الصلاة والسلام- فيما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن قيس بن أبي غرزة-: «يا معشر التجار، إن بيعكم هذا يحضره اللغو والكذب، فشوّبوه بالصدقة»
ويلاحظ أن الأكل من غير إذن من المشتريات في الأسواق قبل تمام الشراء لا يحل، وفيه شبهة، فربما لا يتم الشراء.
والجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم، وهي تساوي مائة، فذلك جائز.
وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا. قال ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله: والأول أصح،
لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأمة الزانية: «فليبعها ولو بضفير»
أي بحبل،
وقوله عليه السلام لعمر: «لا تبتعه- يعني الفرس- ولو أعطاكه بدرهم واحد»
وقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه الجماعة إلا البخاري عن جابر: «لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض»
وليس فيه تفصيل بين القليل والكثير من ثلث وغيره.
٤- التراضي أساس العقود: لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ
أي عن رضى، فلا يصح العقد بالإكراه أو الإجبار.
٥- تحريم قتل النفس (الانتحار) وتحريم قتل أنفس الآخرين، أجمع أهل التأويل على أن المراد بآية وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ النهي أن يقتل بعض الناس بعضا. ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل، في الحرص على الدنيا وطلب المال، بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف. ويحتمل أن يقال: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ في حال ضجر أو غضب، فهذا كله يتناوله النهي.
٦- عقوبة القتل وأكل المال بالباطل: دلت آية: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ..
على تحريم قتل النفس لأنه أقرب مذكور، وربما دل على تحريم كل ما سبق من أكل المال بالباطل وقتل النفس لأن النهي عنهما جاء عقبهما، ثم ورد الوعيد بحسب النهي. وقيل: هو عام على كل ما نهي عنه من القضايا، من أول السورة إلى قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ. وقال الطبري: ذلِكَ عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد، وذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [الآية ١٩] لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد، إلا قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ.. فإنه لا وعيد بعده إلا قوله: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً.
جزاء اجتناب الكبائر
[سورة النساء (٤) : آية ٣١]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
مُدْخَلًا مصدر أدخل، ومن قرأ بالفتح جعله مصدر دخل. ويجوز أن يكون مُدْخَلًا اسم المكان المدخول، والمراد به هاهنا الجنة.
المفردات اللغوية:
تَجْتَنِبُوا تتركوا الشيء جانبا، واجتناب الشيء: تركه والابتعاد عنه، كأنه ترك جانبه وناحيته كَبائِرَ جمع كبيرة: وهي المعصية العظيمة: وهي التي ورد عليها وعيد أو حد في القرآن أو السنة كالقتل والزنى والسرقة، وهي سبعون كبيرة كما في كتاب الكبائر للذهبي، وعن ابن عباس: هي إلى السبعمائة نُكَفِّرْ نغفر ونمح سَيِّئاتِكُمْ صغائركم، وغفرانها ومحوها بالطاعات مُدْخَلًا كَرِيماً بضم الميم: إدخالا، وبفتحها: موضعا أو مكانا كريما أي طيبا وهو الجنة.
المناسبة:
نهى الله سبحانه وتعالى فيما سبق عن أكل أموال الناس بالباطل وعن قتل النفس بغير حق، وتوعد على ذلك بنار جهنم، ثم نهى في هذه الآية نهيا عاما عن كل كبيرة، ووعد الممتثل بالجنة.
التفسير والبيان:
إن اجتنبتم وابتعدتم عن كبائر الآثام التي نهيتم عنها، كفّرنا عنكم صغائر الذنوب، وأدخلناكم الجنة.
ما المقصود بالكبائر والصغائر؟
اتفق جمهور العلماء على أن الذنوب نوعان: كبائر وصغائر.
والكبائر: هي كل معصية اقترنت بالوعيد الشديد أو أوجبت الحد.
وقيل: إنها سبع
لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم،
ورويت روايات أخرى تجعل من الكبائر عقوق الوالدين، وشهادة الزور لأن الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، وليس ذلك للحصر.
وقيل: تسع، وقيل: عشر، وقيل: أكثر، فقد روى عبد الرزاق عن ابن عباس أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب. وروى سعيد بن جبير أنه قال: إلى السبعمائة أقرب.
أما الصغائر أو السيئات: فهي التي لم تقترن بوعيد شديد أو بحدّ، كالنظر إلى المرأة الأجنبية والقبلة. وتصبح الصغائر مع الإصرار والاستهتار كبائر، فتطفيف الكيل والميزان، والهمز واللمز (الطعن في كرامات الناس) لمن أصرّ عليه، كبيرة.
واجتناب الكبائر يكفّر الصغائر بشرطين: أولا- إذا كان الاجتناب مع القدرة والإرادة، كمن يأبى معاشرة امرأة دعته إلى نفسها، خوفا من الله، لا لشيء آخر. وثانيا- مع إقامة الفرائض،
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفّرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»
فمن اجتنب ترك الصلاة واجتنب الكبائر، كفرت سيئاته الصغائر، فدل الحديث على أن ترك إقامة الصلاة من الكبائر.
ويمكن تكفير المعاصي التي تحدث عن جهل أو لظرف طارئ كثورة أو غضب بالندم والتوبة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أن في الذنوب كبائر وصغائر، وعلى هذا جمهور الفقهاء والمفسرين.
أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اجتنبوا الكبائر، وسددوا، وأبشروا».
ورأى الأصوليون: أنه لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما محمل ذلك على غلبة الظن، وقوة الرّجاء، وكون المشيئة الإلهية ثابتة.
والكبيرة كما قال ابن عباس: كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. وقال ابن مسعود: الكبائر: ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية، وتصديقه قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ.
وقال طاوس: قيل لابن عباس كما تقدم: الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب. وقال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس: الكبائر سبع؟
قال: هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار.
ومن أمثلة الكبائر: الشرك بالله، والكفر بآيات الله ورسله، والسحر، وقتل الأولاد، ومن ادعى لله ولدا أو صاحبة، وقتل النفس بغير الحق، والزنى، واللواطة، والقمار، وشرب الخمر، والسرقة، وأخذ المال غصبا، والقذف، وأكل الربا، والإفطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم الصلاة على وقتها، وتأخيرها عن وقتها بلا عذر، وضرب المسلم بلا حق، والكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمدا، وسب أصحابه،
قال ابن مسعود: خمس آيات من سورة النساء هي أحب إليّ من الدنيا جميعا:
قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ الآية.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
الآية.
وقوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها الآية.
وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الآية.
النهي عن التمني (الحسد) وسؤال الله تعالى من فضله
[سورة النساء (٤) : آية ٣٢]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢)
الإعراب:
وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ مفعوله محذوف لإفادة العموم، أي واسألوا الله ما شئتم من إحسانه الزائد وإنعامه المتكاثر.
يوجد إطناب في قوله: نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا.. ونَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ.
مِمَّا اكْتَسَبُوا فيه استعارة تبعية، شبه استحقاقهم للإرث وتملكهم له بالاكتساب، واشتق من لفظ الاكتساب: اكتسبوا. وهذا على رأي ابن عباس أن المراد بذلك الميراث.
المفردات اللغوية:
وَلا تَتَمَنَّوْا التمني: طلب حصول الأمر المرغوب فيه، مما يعلم أو يظن أنه لا يكون.
ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من جهة الدنيا أو الدين لئلا يؤدي إلى التحاسد والتباغض.
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ حظ مِمَّا اكْتَسَبُوا بسبب ما عملوا من الجهاد وغيره وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ من طاعة أزواجهن وحفظ فروجهن. مِنْ فَضْلِهِ أي إحسانه ونعمه، فإذا سألتم ما احتجتم إليه يعطكم إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ومنه محل الفضل وسؤالكم.
سبب النزول:
روى الترمذي والحاكم عن أم سلمة أنها قالت: يغزو الرجال ولا يغزو النساء، وإنما لها نصف الميراث، فأنزل الله: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ. وأنزل فيها: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتت امرأة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت:
يا نبي الله، للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل، أفنحن في العمل هكذا؟ إن عملت المرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة، فأنزل الله:
وَلا تَتَمَنَّوْا الآية.
المناسبة:
ينهى الله المؤمنين عن بعض أفعال القلوب وهو الحسد، ليطهر باطنهم، بعد أن نهاهم عن أكل الأموال بالباطل، وقتل النفس، وهما من أفعال الجوارح الظاهرة، ليطهر ظاهرهم. ولما فضل الله الرجال في الميراث، جاءت هذه الآية
التفسير والبيان:
ينهى الله المؤمنين عن التحاسد وعن تمني ما فضل الله به بعض الناس على بعض من الجاه والمال لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حكمة وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما يصلح المقسوم له من بسط في الرزق أو قبض، قال الله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى ٤٢/ ٢٧] فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له، علما بأن ما قسم له هو مصلحته، ولو كان خلافه لكان مفسدة له، ولا يجوز له أن يحسد أخاه على حظه.
وظاهر الآية يدل على أنه ليس لأحد أن يتمنى ما هو مختص بالآخر من المال والجاه وكل ما فيه تنافس، فإن التفاضل قسمة صادرة من حكيم خبير كما قال الله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الزخرف ٤٢/ ٣٢]. قال ابن عباس: لا يقل أحدكم: ليت ما أعطي فلأن من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي، فإن ذلك يكون حسدا، ولكن ليقل: اللهم أعطني مثله، أي أن الحسد ممنوع والغبطة جائزة.
فعلى كل إنسان أن يرضى بما قسم الله له، ولا يحسد غيره لأن الحسد أشبه شيء بالاعتراض على من أتقن كل شيء وأحكمه.
وقدر بعضهم محذوفا في الكلام فقال: ولا تتمنوا مثل ما فضل الله به بعضكم على بعض لأنه ليس المقصود طلب زوال النعمة عن الغير، وإنما هو طلب نعمة خاصة أن تكون له. وعلى هذا يكون تمني مثل ما للغير منهيا عنه لأنه قد يكون ذريعة إلى الحسد، فليس للإنسان أن يقول: اللهم أعطني دارا مثل دار فلان، ولا ولدا مثل ولده، بل يقول: اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي.
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يتمنّ أحد مال أخيه، ولكن ليقل:
اللهم ارزقني، اللهم أعطني مثله».
وفي الجملة: ينهى الله تعالى كل إنسان أن يتمنى ما فضل الله به غيره، بل الواجب عليه أن يعمل ما في جهده ويجد ويجتهد، وحينئذ يكون التفاضل بالأعمال الكسبية، ولكل من الرجال والنساء ثمرة مكاسبهم، والله تعالى جعل ما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف من حاله الموجبة للبسط أو القبض كسبا له، وما كان خاصا بالرجال من الأعمال لهم نصيب من أجره لا يشاركهم فيه النساء، وما كان خاصا بالنساء لهن نصيب من أجره لا يشاركهن فيه الرجال.
أي أن الثواب على العمل بحسب ما يتناسب مع طبيعة كل من الرجل والمرأة. وقال ابن عباس: المراد بذلك الميراث، والاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة.
ثم أراد الله تعالى توجيه الأنظار إلى مصدر الفضل والإحسان والإنعام، فقال: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أي أسألوا الله ما شئتم من الإحسان والإنعام، فإنه تعالى يعطيكموه إن شاء، وخزائنه ملأى لا تنفد، فلا تتمنوا نصيب غيركم، ولا تحسدوا أحدا، ولا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض لأن التمني لا يجدي شيئا.
روى الترمذي وابن مردويه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سلوا الله من فضله، فإن الله يجب أن يسأل، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج»
وأخرج ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يسأل الله يغضب عليه».
ومعنى قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً أنه تعالى عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها، وبمن يستحق الفقر فيفقره، وبمن يستحق الآخرة فيقيّضه
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
١- نهى الله سبحانه المؤمنين عن التمني، لأن فيه تعلق البال ونسيان الأجل. والمراد النهي عن الحسد: وهو تمني زوال نعمة الغير، وصيرورتها إليه أو لا تصير إليه. أما الغبطة: وهي أن يتمنى الرجل أن يكون له حال صاحبه، وإن لم يتمن زوال حاله، فهي جائزة في رأي الجمهور، وهي المراد عند بعضهم في
قوله عليه الصلاة والسلام في حديث البخاري وغيره: «لا حسد إلا في اثنتين:
رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار»
فمعنى قوله: «لا حسد» أي لا غبطة أعظم وأفضل من الغبطة في هذين الأمرين. وقد نبّه البخاري على هذا المعنى، حيث بوّب لهذا الحديث «باب الاغتباط في العلم والحكمة». قال المهلّب: بيّن الله تعالى في هذه الآية ما لا يجوز تمنّيه، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهها، أما التمني في الأعمال الصالحة فذلك جائز.
والخلاصة: التمني مقرون عادة بالكسل، ولا يتمنى إلا ضعيف الهمة، وضعيف الإيمان. والتمني المنهي عنه في الآية: هو الحسد: وهو أن يتمنى الشخص حال الآخر من دين أو دنيا، على أن يذهب ما عند الآخر، وسواء تمنيت مع ذلك أن يعود إليك أولا، وهو الذي ذمّه الله تعالى بقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء ٤/ ٥٤].
٢- المساواة بين الرجال والنساء في ثمرات الأعمال: للرجال ثواب وعقاب
المراد بالاكتساب هو الميراث، بمعنى الإصابة.
٣- الأمر بالسؤال لله تعالى واجب: إن سؤال الله من فضله في الدين والدنيا أمر واجب شرعا، لقوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ
وللحديث المتقدم: «سلوا الله من فضله».
قال سفيان بن عيينة: لم يأمر بالسؤال إلا ليعطي.
إعطاء كل وارث حقه من التركة
[سورة النساء (٤) : آية ٣٣]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)
الإعراب:
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ تقديره: ولكل أحد جعلنا موالي، فحذف المضاف إليه، وهو في تقدير الإثبات، ولولا ذلك لكان مبنيا كما بني: «قبل وبعد» لما اقتطعا عن الإضافة. وقيل:
التقدير: ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي، أي وارثا له.
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ جملة مستقلة عن سابقتها مؤلفة من مبتدأ وخبر.
وزيدت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط.
المفردات اللغوية:
مَوالِيَ عصبة أو ورثة يعطون، وهو جمع مولى: وهو من يحق له الاستيلاء على التركة مِمَّا تَرَكَ أي مما ترك المورث لورثته من المال. وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ أي الحلفاء الذين
المراد بهم الأزواج. وعلى القول الأول يكون الحكم منسوخا بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال ٨/ ٧٥]. شَهِيداً مطلعا.
سبب النزول:
قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ أخرج أبو داود في سننه عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد ابنة الربيع، وكانت مقيمة في حجر أبي بكر، فقرأت: «والذين عاقدت أيمانكم» فقالت: لا، ولكن وَالَّذِينَ عَقَدَتْ وإنما نزلت في أبي بكر وابنه حين أبى الإسلام، فحلف أبو بكر ألا يورثه، فلما أسلم أمر أن يؤتيه نصيبه.
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ: قال سعيد بن المسيب: نزلت هذه الآية:
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم ويورّثونهم، فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب في الوصية، ورد الله تعالى الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة، ومنع تعالى أن يجعل للمدعين ميراث من ادعاهم وتبناهم، ولكن جعل لهم نصيبا في الوصية.
المناسبة:
هذه الآية متعلقة بالمال، الذي نهى الله فيما سبق عن أكله بالباطل، وعن التمني أو الحسد فيه، والآية السابقة قررت قاعدة عامة في حيازة الثروة وهي الكسب، وهذه الآية قررت نوعا آخر من الحيازة وهو الإرث.
التفسير والبيان:
ولكل من الرجال والنساء جعلنا موالي، أي ورثة أو عصبة يأخذون مما ترك الوالدان والأقربون من ميراثهم له.
والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم قبل الإسلام بقول: «ترثني
وكان التوارث أيضا بعد الهجرة بسبب المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، يرث المهاجري الأنصاري، دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهم، ثم نسخ ذلك بآية: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ.
أي أن التوارث بالحلف والولاء، وبالمؤاخاة، أصبح منسوخا، واعلموا أن الله كان ولا يزال مطلعا على كل شيء تفعلونه، فيجازيكم عليه يوم القيامة، والله شهد معاقدتكم إياهم، وهو عز وجل يحب الوفاء.
آراء المفسرين في تأويل: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ:
اختلف المفسرون في تأويل هذه الآية على أقوال أربعة هي ما يلي:
١- ولكل إنسان موروث جعلنا وارثا من المال الذي ترك. وبه تم الكلام. وأما قوله تعالى: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ فهو جواب عن سؤال مقدر، كأنه قيل: ومن الوارث؟ فقيل: الوالدان والأقربون.
٢- ولكل إنسان وارث ممن تركهم الوالدان والأقربون جعلنا موروثين.
والجار والمجرور في قوله مِمَّا تَرَكَ متعلق بمحذوف صفة للمضاف إليه، ومِمَّا بمعنى «من» والكلام جملة واحدة.
٣- ولكل قوم جعلناهم ورّاثا نصيب مما تركه والدوهم وأقربوهم. فيكون في الكلام مبتدأ محذوف. ويكون قوله: مِمَّا تَرَكَ صفة للمبتدأ، وقوله:
لِكُلٍّ خبره، والكلام جملة واحدة.
آراء المفسرين في تأويل: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ:
الراجح أن هذه جملة مستقلة عن سابقتها وتأويلها على وجوه هي ما يلي:
١- المراد بالذين عقدت: «الحلفاء» وهم موالي الموالاة، وكان لهم نصيب من الميراث ثم نسخ. أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول: دمي دمك، وهدمي هدمك «١»، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، ثم نسخ بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال ٨/ ٧٥].
٢- المراد بهم الأدعياء وهم الأبناء بالتبني، وكانوا يتوارثون بذلك السبب ثم نسخ بآية الأنفال.
٣- المراد بهم إخوان المؤاخاة، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يؤاخي بين الرجلين من أصحابه، وتكون المؤاخاة سببا في التوارث، ثم نسخ ذلك بآية الأنفال.
٤- المراد بهم- في رأي أبي مسلم الأصفهاني- الأزواج، والنكاح يسمى عقدا.
٥- المراد بهم- في رأي الجبائي- الحلفاء، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ معطوف على الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أي ولكل شيء مما ترك الوالدان
٦- المراد بهم الحلفاء يؤتون نصيبهم من النصرة والنصح وحسن العشرة والوصية، أي لهم حق في الوصية لا في الميراث، وهو مروي عن ابن عباس «١».
والظاهر هو الرأي الأول وما في معناه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أبانت الآية أن لكل إنسان ورثة وموالي، فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث، ولا يتمنّ مال غيره.
وأوضحت أيضا وجوب الوفاء بالعقد أو العهد، فعلى الذين كانوا متحالفين في الجاهلية على التوارث أن يوفوا بالتزامهم، ويعطوا الحليف نصيبه من الميراث وهو السدس، ثم نسخ ذلك، والناسخ في رأي جمهور السلف لقوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ هو قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ.
وهناك قول آخر عن سعيد بن المسيب قال: أمر الله عز وجل الذين تبنّوا غير أبنائهم في الجاهلية، وورثوا في الإسلام أن يجعلوا لهم نصيبا في الوصية، ورد الميراث إلى ذوي الرّحم والعصبة.
وذكر الطبري والبخاري عن ابن عباس: أن قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ محكم غير منسوخ، وإنما أمر الله المؤمنين أن يعطوا الحلفاء أنصباءهم من النصرة والنصيحة والوصية وما أشبه ذلك. أما الميراث فقد ذهب.
والخلاصة: تقسم التركة بين الورثة على النحو الذي بينه الله تعالى في سورة
واحتج الحنفية بآية وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ على توريث مولى الموالاة، فهي تدل على النصيب الثابت له المسمى في عقد المحالفة. وقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ لم ينسخ هذا الحكم، وإنما أولو الأرحام أولى من الحليف، فإذا لم يكن رحم ولا عصبة، فالميراث للحليف الذي حالفه الشخص وجعله وارثا له. واحتجوا أيضا
بما روي عن تميم الداري أنه قال: «يا رسول الله، ما السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين؟ قال: هو أولى الناس بمحياه ومماته»
أي أولاهم بميراثه.
وقال الجمهور: ميراث مولى الموالاة للمسلمين. وهو: من أسلم على يد رجل ووالاه وعاقده، ثم مات ولا وارث له غيره، لأن دلالة الآية على أن الحليف يرث متوقف على ثلاثة أمور: أن يكون المراد بالذين عقدت أيمانكم الحلفاء، وأن يكون المراد بالنصيب النصيب في الميراث، وأن تكون الآية محكمة غير منسوخة، والمفسرون مختلفون في كل ذلك كما تقدم. وحديث تميم الداري ليس نصا في الميراث فإنه يحتمل أنه أولى بمعونته وحفظه في محياه ومماته، ومع ذلك فهو معارض
بما أخرجه مسلم والنسائي عن جبير بن مطعم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» «١».
فإذا كان الحديثان متعارضين والآية محتملة لعدة أوجه فالأولى الرجوع إلى ما قاله السلف كابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من أن الآية منسوخة بآية الأنفال.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
الإعراب:
بِما حَفِظَ اللَّهُ: ما: إما مصدرية وتقديره: بحفظ الله لهن، وإما بمعنى الذي، أي الشيء الذي حفظ الله.
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ قيل: معناه: من أجل تخلفهن عن المضاجعة معكم، كما تقول:
هجرته في الله. أي: من أجل الله، فلا يكون فِي الْمَضاجِعِ ظرفا للهجران، لأنهن يردن ذلك. ولا يمتنع أن يكون ظرفا له، لأن النشوز يكون بترك المضاجعة وغيرها. وقال الزمخشري:
«في المضاجع» : في المراقد أي التي لا تداخلوهن تحت اللحف، أو هي كناية عن الجماع. وقيل: هو أن يوليها ظهره في المضجع، وقيل: لا تبايتوهن في بيوتهن التي يبتن فيها.
البلاغة:
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ كناية عن الجماع.
الرِّجالُ قَوَّامُونَ صيغة مبالغة، ومجيء الجملة الاسمية لإفادة الدوام والاستمرار.
يوجد جناس اشتقاق في حافِظاتٌ.. بِما حَفِظَ. ويوجد إطناب في حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها.
قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ يقومون بأمرهن ويحافظون عليهن ويتسلطون عليهن بحق، ويؤدبونهن ويأخذون على أيديهن، أي أن القوامة تعني الرئاسة وتسيير شؤون الأسرة والمنزل، وليس من لوازمها التسلط بالباطل.
بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أي بتفضيله لهم عليهن بالعلم والعقل والولاية وغير ذلك.
قانِتاتٌ مطيعات للأزواج حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي يحفظن ما يغيب ويستتر من أمور الزوجية، فيحفظن فروجهن، وما يقال في الخلوة بالمرأة.
تَخافُونَ تظنون نُشُوزَهُنَّ عصيانهن لكم وترفعهن على الزوج، بظهور أمارة أو قرينة.
وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ اعتزلوا إلى فراش آخر إن أظهرن النشوز.
وَاضْرِبُوهُنَّ ضربا غير مبرّح إن لم يرجعن بالهجران فَلا تَبْغُوا تطلبوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا طريقا إلى ضربهن ظلما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه أن يعاقبكم إن ظلمتموهن.
وَإِنْ خِفْتُمْ علمتم. شِقاقَ نزاع وخصام أو خلاف، كأن كلّا منهما في شقّ وجانب.
بَيْنِهِما بين الزوجين. فَابْعَثُوا إليهما برضاهما. حَكَماً رجلا عدلا محكما. مِنْ أَهْلِهِ أقاربه. وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها أقاربها. ويوكل الزوج حكمه في طلاق وقبول عوض عليه، وتوكل هي حكمها في الفرقة. إِنْ يُرِيدا أي الحكمان. بَيْنِهِما بين الزوجين، أي يقدرهما الله على ما هو الطاعة من إصلاح أو فراق. عَلِيماً بكل شيء. خَبِيراً ببواطن الأمور وظواهرها.
سبب النزول:
الرِّجالُ قَوَّامُونَ:
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: جاءت امرأة إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم تستعدي على زوجها أنه لطمها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
القصاص، فأنزل الله: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ الآية
، فرجعت بغير قصاص.
قال مقاتل: نزلت هذه الآية في سعد بن الرّبيع، وكان من النّقباء (نقباء
فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: لتقتصّ من زوجها، وانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجعوا، هذا جبريل عليه السّلام أتاني، وأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أردنا أمرا وأراد الله أمرا، والذي أراد الله خير، ورفع القصاص.
المناسبة:
ذكر الله تعالى هنا سبب تفضيل الرجال على النساء، بعد أن بيّن نصيب كلّ واحد في الميراث، ونهى عن تمني الرّجال والنّساء ما فضل الله به بعضهم على بعض.
التفسير والبيان:
الرّجل قيّم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجّت، وهو القائم عليها بالحماية والرعاية، فعليه الجهاد دونها، وله من الميراث ضعف نصيبها، لأنه هو المكلّف بالنّفقة عليها.
وسبب القوامة أمران:
الأول- وجود مقوّمات جسدية خلقية: وهو أنه كامل الخلقة، قوي الإدراك، قوي العقل، معتدل العاطفة، سليم البنية، فكان الرجل مفضلا على المرأة في العقل والرأي والعزم والقوة، لذا خصّ الرّجال بالرّسالة والنّبوة والإمامة الكبرى والقضاء وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة والجمعة والجهاد، وجعل الطلاق بيدهم، وأباح لهم تعدد الزوجات، وخصهم بالشهادة في الجنايات والحدود، وزيادة النصيب في الميراث، والتعصيب.
وفيما عدا ذلك يتساوى الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وهذا من محاسن الإسلام، قال الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة ٢/ ٢٢٨] أي في إدارة البيت والإشراف على شؤون الأسرة، والإرشاد والمراقبة، وذلك كله غرم يتناسب مع قدرات الرّجل على تحمل المسؤوليات وأعباء الحياة. وأما المرأة فلها ذمة مالية مستقلة وحرية تامة في أموالها.
ثم أبان الله تعالى حالتي النساء في الحياة الزوجية: إما طائعة وإما ناشزة.
الأولى- الصالحات:
وهنّ القانتات الطائعات ربّهن وأزواجهنّ، الحافظات حال الغيبة أنفسهنّ وعفتهنّ ومال أزواجهنّ وأولادهن وحال الخلوة مع الزوج، وفي حضور الزوج أحفظ.
وقوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بسبب أمر الله بحفظه، فالله أمرهنّ أن يطعن أزواجهنّ ويحفظنهم في مقابلة ما حفظه الله لهنّ من حقوق قبل الأزواج من مهر ونفقة ومعاشرة بالمعروف، أي أن هذا بذاك. وقد وعدهنّ الله الثواب العظيم على حفظ الغيب، وأوعدهنّ بالعقاب الشديد على التفريط به.
أخرج البيهقي وابن جرير وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير النساء: امرأة إذا نظرت إليها سرّتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ إلى قوله تعالى: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ».
وفي الحديث الصحيح عند أحمد والشيخين عن أبي هريرة: «خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده».
وهنّ اللاتي تظنون أو تعلمون منهنّ التّرفع عن حدود الزوجية وحقوقها وواجباتها، وهؤلاء يتبع الزوج معهنّ المراحل الأربع التالية:
١- الوعظ والإرشاد إذا أثّر في نفوسهنّ:
بأن يقول الرّجل للزّوجة: اتّقي الله، فإن لي عليك حقّا، وارجعي عمّا أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو ذلك بما يناسبها من تخويف بالله، وتهديد بعقاب الله، وتحذير من سوء العاقبة والمصير والحرمان من نعمة الحياة الزوجية السعيدة. وهذا إنذار وتذكير قد يردها عما عليه من نشوز.
٢- الهجر والإعراض في المضجع (المرقد) :
وهو كناية عن ترك الجماع، أو عدم المبيت معها في فراش واحد، ولا يحلّ هجر الكلام أكثر من ثلاثة أيام. وهذا أشد شيء في إيحاش المرأة وجعلها تتبصّر في أمرها وتفكّر في فعلها. قال ابن عباس: إذا أطاعته في المضجع، فليس له أن يضربها.
٣- الضرب غير المبرّح:
أي المؤذي إيذاء شديدا كالضّرب الخفيف باليد على الكتف ثلاث مرات، أو بالسواك أو بعود خفيف لأن المقصود منه الصلاح لا غير.
أخرج الجصاص عن جابر بن عبد الله عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه خطب بعرفات في بطن الوادي فقال: «اتّقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، وإن لكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهنّ ضربا غير مبرح، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف». وروى ابن جرير الطّبري نحوه.
ومثله عن ابن عباس. وقال قتادة: ضربا غير شائن «١».
وإذا تجاوز الرجل المشروع فأدى الضرب إلى الهلاك وجب الضمان، كما يجب على المعلم الضمان في ضربه غلامه لتعلم القرآن والأدب.
وينبغي ألا يوالي الرّجل الضرب في محل واحد، وأن يتّقي الوجه، فإنه مجمع المحاسن، ولا يضربها بسوط ولا بعصا، وأن يراعي التخفيف لأن المقصود هو الزّجر والتأديب لا الإيلام والإيذاء، كما يفعل بعض الجهلة.
ومع أن الضرب مباح فإن العلماء اتّفقوا على أن تركه أفضل.
أخرج ابن سعد والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصّدّيق رضي الله عنه قالت: كان الرّجال نهوا عن ضرب النساء، ثم شكونهنّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخلى بينهم وبين ضربهنّ، ثم قال: ولن يضرب خياركم.
وقال عمر رضي الله عنه: ولا تجدون أولئكم خياركم.
فدلّ الحديث والأثر على أن الأولى ترك الضرب، بدليل الأمر القرآني بالإحسان في المعاملة: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة ٢/ ٢٢٩]، ويؤيده
حديث آخر: «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد، ثم يضاجعها في آخر اليوم؟!».
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا، أي إذا تحققت طاعتهنّ حينئذ فلا تطلبوا سبيلا آخر إلى التعدي عليهنّ ولا تتجاوزوا ذلك إلى غيره، أو فلا تظلموهنّ بطريق آخر فيه تعذيب وإيذاء.
إن الله كان وما يزال عليّا كبيرا، أي أنه تعالى قاهر كبير قدير ينتصف لهنّ ويستوفي حقهنّ، فلا تغترّوا بقوّتكم أو علوّكم أو درجتكم. وهذا تهديد للأزواج على
وهل العقوبات السابقة مشروعة على الترتيب أو لا؟
يرى بعضهم أن هذه العقوبات مشروعة في مجموعها، دون ترتيب بينها لأن الواو لا تقتضي الترتيب.
وذهب آخرون إلى أن ظاهر اللفظ، وإن دلّ على مطلق الجمع، فإن فحوى الآية يدلّ على الترتيب لأن الواو داخلة على جزاءات متفاوتة في القوة، متدرجة من الضعيف إلى القوي، إلى الأقوى: الوعظ، فالهجران، فالضرب، وذلك جار مجرى التصريح بالتزام التدرّج. وهذا مروي عن علي رضي الله عنه.
٤- التحكيم:
خاطب الله الحكام والزوجين وأقاربهما في هذه المرحلة، فقال: إن علمتم بوجود الخلاف أو النزاع والعداوة بين الزوجين فابعثوا حكمين: أحدهما من أهله، والآخر من أهلها، للسعي في إصلاح ذات بينهما بعد استطلاع حقيقة الحال بين الزوجين، ومعرفة سبب الخلاف، ومتى صدقت الإرادة وأخلص الحكمان النّيّة والنّصح لوجه الله، فالله يوفقهما بمهمتهما ويهدي إلى الخير، ويحقق الوفاق والتفاهم والعودة إلى التوادد والتراحم والألفة بين الزوجين ويبارك وساطتهما.
فمعنى قوله: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً أي الحكمان، ويُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما أي الزوجين.
إن الله كان وما يزال عليما خبيرا: يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المتفرقين، كما قال: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال ٨/ ٦٣].
أما كون الحكمين من أقارب الزوجين فهو على وجه الاستحباب، ويجوز كونهما من الأجانب لأن مهمتهما وهي استطلاع حقيقة الحال بين الزوجين وإجراء الصلح بينهما والشهادة على الظالم منهما، تتحقق بالأجنبي، كما تتحقق بالقريب، لكن الأولى كونهما من أهل الزوجين، حفاظا على أسرار الحياة الزوجية، ومنعا من التشهير بالسمعة، ولأن الأقارب أعرف بحال الزوجين من الأجانب، وأشدّ حرصا على الإصلاح، وأبعد عن الميل إلى أحد الزوجين، وأقرب إلى اطمئنان النفس إليهم.
وأما مهمة الحكمين: فهي في رأي الإمام مالك والشعبي وهو رأي علي وابن عباس الجمع والتفريق بين الزوجين، وإلزامهما بذلك بدون إذنهما، يفعلان ما فيه المصلحة من تطليق أو افتداء المرأة بشيء من مالها. ولا يملكان أكثر من طلقة واحدة بائنة. قال ابن العربي في قوله تعالى: حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها: هذا نصّ من الله سبحانه في أنهما قاضيان لا وكيلان «١».
ورأى الشافعية والحنابلة: أنه ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضا الزوجين، فهما عندهم وكيلان للزوجين.
وقال الحنفية: يرفع الحكمان ما يريدانه إلى القاضي، وهو الذي يطلّق طلاقا بائنا، بناء على تقريرهما، فليس للحكمين التفريق إلا أن يفوضا فيه.
ويكون رأي الحنفية كالشافعية والحنابلة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على ما يلي:
١- إثبات القوامة في الأسرة للرجل، وتفضيل الرجل على المرأة في المنزلة والشرف.
٢- العجز عن النفقة يسقط القوامة للرجل، ويمنح المرأة الحق في فسخ العقد، لزوال المقصود الذي شرع لأجله الزواج، للآية: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ. وفي قوله تعالى هذا أيضا دلالة واضحة على ثبوت فسخ النكاح عند الإعسار بالنفقة والكسوة، وهو مذهب مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يفسخ لقوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة ٢/ ٢٨٠].
٣- للزوج الحق في تأديب زوجته ومنعها من الخروج، وعلى الزوجة بقوله تعالى: فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ طاعة الزوج في غير معصية
وفي الخبر الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة: «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها».
٤- للزوج حق الحجر على زوجته في مالها، فلا تتصرف فيه إلا بإذنه لأن الله تعالى جعله قواما عليها- بصيغة المبالغة، والقوّام: الناظر على الشيء الحافظ له. وبهذا أخذ المالكية.
٥- وجوب النفقة على الزوج لزوجته.
٦- مشروعية وسائل تسوية النزاع بين الزوجين: وهي الوعظ والإرشاد، ثم الهجر في المضاجع (عدم المبيت في فراش الزوجية)، ثم الضرب غير المبرّح (غير المؤذي: وهو الذي لا يكسر عظما ولا يشين عضوا، كاللّكزة ونحوها) ثم التحكيم بإرسال حكمين إما من الأقارب وإما من الأجانب. ولم يذكر الله تعالى إلا الإصلاح في مهمة الحكمين: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً ولم يذكر التفريق إشارة إلى الحرص على الإصلاح دون التفريق المؤدي إلى خراب البيوت.
٧- الامتناع عن الظلم: دلّ قوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أي تركوا النشوز فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا على تحريم ظلم الرجل للمرأة، أي لا تجنوا عليهنّ بقول أو فعل، وهو نهي عن ظلمهنّ بعد التزام أدبهنّ.
٨- تواضع الرجل ولينه: دلّ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً على إرشاد الأزواج إلى خفض الجناح ولين الجانب أي إن كنتم تقدرون عليهنّ فتذكروا قدرة الله، فقدرته فوق كل قدرة، وهو بالمرصاد لكلّ أحد يستعلي على امرأته ويذلّها أو يهينها بغير حقّ.
ويلاحظ أن الله عزّ وجلّ لم يأمر في شيء بالضرب صراحة إلا هنا وفي الحدود الشديدة، فجعل معصية المرأة من الكبائر، وولّى الأزواج صلاحية
أخلاق القرآن عبادة الله وحده والإحسان للوالدين والأقارب والجيران والتحذير من الإنفاق رياء
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩)
الإعراب:
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ في موضع نصب على البدل من مِنْ في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ.
البلاغة:
يوجد إطناب في قوله: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ.
مُخْتالًا فَخُوراً تعريض بذم الكبر المؤدي إلى احتقار الناس.
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً فيه الحذف، وتقدير المحذوف: أحسنوا إلى الوالدين إحسانا.
المفردات اللغوية:
وَاعْبُدُوا اللَّهَ العبادة: الخضوع لله والاستسلام له سرّا وعلنا، باطنا وظاهرا مع الإخلاص. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي أحسنوا لهما، والإحسان للوالدين: البرّ بهما بخدمتهما وتحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما عند الحاجة وبقدر الاستطاعة، ولين الجانب والكلام معهما.
وَبِذِي الْقُرْبى صاحب القرابة من أخ وعمّ وخال وأولادهم. وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى الجار القريب الجوار أو النسب. وَالْجارِ الْجُنُبِ: هو البعيد عنك في الجوار أو النسب. وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ: الرفيق في السفر أو الصناعة، وكل صاحب ولو وقتا قصيرا. وَابْنِ السَّبِيلِ المنقطع في سفره: المسافر أو الضيف. ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد والإماء (الأرقاء). مُخْتالًا هو ذو الخيلاء والكبر. فَخُوراً هو الذي يتفاخر على الناس بتعداد محاسنه تعاظما وتعاليا.
أَعْتَدْنا هيأنا وأعددنا. مُهِيناً ذا إهانة وذلّ.
رِئاءَ النَّاسِ أي للمراءاة والسمعة. وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ كالمنافقين وأهل مكة. قَرِيناً صاحبا وخليلا يعمل بأمره كهؤلاء. فَساءَ بئس. وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا... المعنى أيّ ضرر عليهم في الإيمان والإنفاق، والاستفهام للإنكار، ولو: مصدرية، أي لا ضرر فيه، وإنما الضرر فيما هم عليه.
سبب نزول الآية (٣٧) :
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كان علماء بني إسرائيل يبخلون بما عندهم من العلم، فأنزل الله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ الآية. وروي عن ابن عباس أن جماعة من اليهود
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ.
وقال أكثر المفسرين: نزلت في اليهود كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ولم يبيّنوها للناس، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في كتبهم. وقال الكلبي: هم اليهود بخلوا أن يصدقوا من أتاهم صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته في كتابهم.
وقال مجاهد: الآيات الثلاث إلى قوله: عَلِيماً نزلت في اليهود.
وقال ابن عباس وابن زيد: نزلت في جماعة من اليهود كانوا يأتون رجالا من الأنصار يخالطونهم وينصحونهم ويقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر، فأنزل الله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ.
المناسبة:
الآيات السابقة من أول السورة في تنظيم روابط الأسرة، كاختبار اليتامى، والحجر على السفهاء، وكيفية معاملة النساء بالإحسان مع رقابة الله، وناسب هنا التذكير ببعض الحقوق العامة وتقوية رابطة القرابة والجوار والصداقة وترشيد الإنفاق بأن يكون بإخلاص لله تعالى لا رياء وسمعة. وقد صدّر هذا الإرشاد بالأمر بعبادة الله لأنها الأساس.
التفسير والبيان:
بعد أن أرشد الله تعالى الزوجين إلى المعاملة الحسنة وأمر الحكام بإزالة أسباب الخصومة، أرشد الناس جميعا إلى بعض خصال الخير والإحسان، ودلّهم على أنواع من الأخلاق الحسنة في معاملة بعضهم بعضا، وهي ثلاثة عشر نوعا بين مأمور به ومنهي عنه.
٢- عدم الشرك به شيئا: والإشراك ضدّ التوحيد، وهو عطف خاص على عام.
ويذكر هذان الأمران عادة معا، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه: «هل تدري ما حق الله على العباد؟» قال: الله ورسوله أعلم، قال: «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا» ثم قال:
«أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: أن لا يعذبهم».
وقدم في هذه الآية ما يتعلق بحقه تعالى لأمرين:
الأول- العبادة والإخلاص أساس الدين، وبدونه لا يقبل الله من العبد عملا ما.
الثاني- الإيماء إلى أهمية الأمور الآتية بعدها، وإن تعلقت بحقوق العباد.
والإشراك أنواع مختلفة:
منها: ما ذكره الله تعالى عن مشركي العرب من عبادة الأصنام باتخاذهم وسطاء إلى الله فقال: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، قُلْ: أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس ١٠/ ١٨] وقوله حكاية عنهم:
ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر ٣٩/ ٣].
ومنها: ما ذكره الله عن النصارى من أنهم عبدوا المسيح عليه السلام،
٣- الإحسان إلى الوالدين: قرن الله تعالى الأمر ببر الوالدين بعبادته وتوحيده في مواضع كثيرة من القرآن، كهذه الآية، وآية: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء ١٧/ ٢٣] وآية: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان ٣١/ ١٤].
وبر الوالدين: طاعتهما في معروف والقيام بخدمتهما، والسعي في تحصيل مطالبهما والبعد عن كل ما يؤذيهما لأنهما السبب الظاهر في وجود الأولاد، وتربيتهم بالرحمة والإخلاص. قال ابن العربي: بر الوالدين ركن من أركان الدين في المفروضات، وبرهما يكون في الأقوال والأعمال، أما في الأقوال فكما قال الله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما [الإسراء ١٧/ ٢٣] فإن لهما حق الرحم المطلقة، وحق القرابة الخاصة «١».
٤- الإحسان إلى القرابة: وهو صلة الرحم كالأخ والأخت والعم والخال وأبنائهم، وذلك بمودتهم ومواساتهم، على نحو ما ذكر في أول السورة: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [الآية ١]. وذلك يؤدي إلى ترابط الأسرة وتقوية معنوياتها وتساندها، فيقوى المجتمع، وتتقدم الدولة.
٥- الإحسان إلى اليتامى: وصى الله تعالى بهذا في أول السورة وفي غيرها لأن اليتيم فقد الناصر والمعين وهو الأب. قال ابن عباس: يرفق بهم ويربيهم، وإن كان وصيا فليبالغ في حفظ أموالهم.
٧- الإحسان إلى الجار ذي القربى: وهو القريب في المكان أو بالنسب أو بالدين. والإحسان إلى الجيران يحقق مبدأ التعاون والتواصل والتوادد والشعور بالسعادة.
٨- الإحسان إلى الجار الجنب: وهو الذي بعد جواره أو لم يكن ذا قرابة.
وقد حث الإسلام على الإحسان في معاملة الجار ولو غير مسلم،
فقد عاد النبي صلّى الله عليه وسلّم ابن جاره اليهودي
وذبح ابن عمر شاة، فجعل يقول لغلامه:
أهديت لجارنا اليهودي، أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول فيما رواه البيهقي عن عائشة: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه»
وأخرج الشيخان أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره».
وتحديد الجوار متروك إلى العرف، وحدده الحسن البصري بأربعين جارا من كل جانب من الجوانب الأربعة.
وإكرام الجار له مظاهر عديدة منها مواساته إن كان فقيرا، ومنها حسن العشرة وكف الأذى عنه، ومنها إرسال الهدايا إليه، ودعوته إلى الطعام، وزيارته وعيادته ونحو ذلك. قال ابن العربي: حرمة الجار عظيمة في الجاهلية والإسلام، معقولة، مشروعة مروءة وديانة «١». ومن الإحسان إلى الجار
الحديث الصحيح في الموطأ: «لا يمنعن أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره».
١٠- الإحسان إلى ابن السبيل: وهو المسافر المنقطع عن ماله، أو الضيف.
والإحسان إليه بمساعدته للوصول إلى بلده أو غرضه.
١١- الإحسان إلى ما ملكت أيمانكم: أي الأرقاء من العبيد والإماء. وقد أوصى النبي صلّى الله عليه وسلّم بهم في مرض موته، في آخر وصاياه،
أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال: «كانت عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت: الصلاة وما ملكت أيمانكم».
وروى الشيخان عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه»
والإحسان إليهم يكون أيضا بإعتاقهم أو بمساعدتهم على تحرير رقابهم.
١٢، ١٣- تحريم الاختيال والتفاخر: المختال: هو المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في حركاته وأفعاله. والفخور: المتكبر الذي تظهر آثار الكبر في أقواله.
والمختال الفخور مبغوض عند الله لاحتقاره حقوق الناس وتشبهه بصفات الإله، وهو لا يعبد الله حقا إذ لا خشوع عنده، ولا يحسن إلى الوالدين والأقارب والجيران والأصدقاء.
ومعنى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً أي أنه يعاقبه على خيلائه وفخره. وقد نهى الله تعالى عن الكبر والخيلاء في آية أخرى هي: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا [الإسراء ١٧/ ٣٧].
وليس من الكبر: الوقار في غير غلظة، وعزة النفس مع الأدب، وتحسين
ما روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة. فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس «١» ».
ثم بيّن الله تعالى أوصاف المختال الفخور بقوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي أنه تعالى يذم الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين والجيران ونحوهم، ولا يدفعون حق الله فيها، ويأمرون الناس بالبخل أيضا، ويكتمون أفضال الله عليهم، فالبخيل جحود لنعمة الله ولا تظهر عليه آثارها في مأكل أو ملبس أو إعطاء وبذل، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ [العاديات ١٠٠/ ٦- ٧] أي شهيد بحاله وشمائله.
وذم النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا البخل فقال: «وأي داء أدوأ من البخل؟»
وقال فيما رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمرو: «إياكم والشح، فإنه هلك من كان قبلكم بالبخل، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا».
ولكل هذه الخصال القبيحة في البخلاء توعدهم الله بالعقوبة بقوله:
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ... عَذاباً أَلِيماً أي وهيأنا لهؤلاء بكبرهم وبخلهم وعدم شكرهم عذابا يهينهم ويذلهم، إنه عذاب جامع بين الألم والذل، جزاء على فعلهم، وسماهم الله كفارا إشعارا بأن هذه أخلاق الكفار لا المؤمنين ولأن الكفر: هو الستر
وفي الحديث الذي رواه الترمذي والحاكم عن ابن عمرو: «إن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»
وفي الدعاء النبوي: «واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها، وأتممها علينا».
وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وكتمانهم إياها، ولهذا قال تعالى: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً.
وعلى كل حال: أهل الفخر والخيلاء فريقان: فريق يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم، وهم من سبق، وفريق آخر ذكرهم القرآن بعدئذ وهم الذين ينفقون أموالهم مرائين الناس، أي يقصدون رؤية الناس لهم فيعظمونهم ويحمدونهم.
وبعد أن ذكر الله الممسكين المذمومين وهم البخلاء، ذكر الباذلين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم، ولا يريدون به وجه الله، فيبذلون المال لا شكرا لله على نعمه، ولا اعترافا لعباده بحق. هؤلاء الذين قال الله عنهم: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ [النساء ٤/ ٣٨].
جاء في الحديث الثابت: «الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار: وهم العالم والغازي والمنفق، والمراءون بأعمالهم، يقول صاحب المال: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك، فيقول الله: كذبت، إنما أردت أن يقال: جواد، فقد قيل»
أي فقد أخذت جزاءك في الدنيا، وهو الذي أردت بفعلك.
وهؤلاء المراءون لا يؤمنون حقا بالله ولا باليوم الآخر، أي إنما حملهم على صنيعهم القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الصحيح: الشيطان، فإنه
وفي هذا إيماء إلى ضرورة البعد عن قرين السوء، واختيار القرين الصالح.
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ والمعنى: وأي ضرر يلحقهم لو آمنوا حقيقة بالله، وعملوا لليوم الآخر الذي فيه الجزاء المحقق للخلود والسعادة، وأنفقوا مما رزقهم الله ابتغاء رضوانه وامتثالا لأمره.
وهذا الأسلوب للتعجب من حالهم إذ أنهم لو أخلصوا العمل وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص، والإيمان بالله رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله، وأنفقوا فيما يحبه الله ويرضاه، لما فاتهم ما يطلبون من منافع الدنيا والآخرة معا.
وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً أي هو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وخبير بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه للخير، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم، فيتخلى عنه، وسيجازي كل امرئ بما قدم وعمل، ولن ينسى عمل العاملين المخلصين، وما على المؤمن إلا أن يجعل عمله خالصا لله، فهو الذي يراه ويتقبل منه، ويحاسبه على عمله.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه الآيات دستور التعامل بين الناس وربهم، وبين بعضهم بعضا. وهي من المحكم المتفق عليه، ليس منها شيء منسوخ، وهي مقررة في جميع الكتب
وهي مفتتحة بأمر الله تعالى عباده بالتذلل له والإخلاص في عبادته، وهي أصل في خلوص الأعمال لله تعالى وتصفيتها من شوائب الرياء وغيره، قال الله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف ١٨/ ١١٠].
وتنهى الآية عن ضد التوحيد وهو الشرك، وهو كما قال العلماء مراتب ثلاثة وكلها محرمة منكرة.
الأولى- اعتقاد شريك لله في ألوهيته، وهو الشرك الأعظم شرك الجاهلية، وهو المراد بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨].
الثانية- اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل: وهو القول بأن موجودا غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاده، وإن لم يعتقد كونه إلها، كالقدرية مجوس هذه الأمة. وقد تبرأ منهم ابن عمر.
الثالثة- الإشراك في العبادة وهو الرياء: وهو أن يفعل العبد شيئا من العبادات التي أمر الله بفعلها له لغيره. وهو الذي حرمته الآيات والأحاديث، وهو مبطل للأعمال، وهو خفي لا يعرفه كل جاهل غبي.
روى ابن ماجه عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله عز وجل أحدا، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك».
ونهت الآيات عن التكبر والخيلاء والتفاخر والتعاظم، والمختال: هو ذو الخيلاء المتكبر، والفخور: الذي يعدد مناقبه كبرا، والفخر: البذخ «١» والتطاول. وخص الله تعالى هاتين الصفتين بالذكر هنا لأنهما تحملان صاحبيهما على الأنفة والترفع من القريب الفقير والجار الفقير وغيرهم ممن ذكر في الآية، فيضيع أمر الله بالإحسان إليهم.
وذكر الله تعالى صفات المتكبرين المختالين، ومن أشنعها البخل وأمر الناس بالبخل، والبخل المذموم في الشرع: هو الامتناع من أداء ما أوجب الله تعالى عليه، وهو مثل قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ الآية [آل عمران ٣/ ١٨٠].
والمراد بهذه الآية في قول ابن عباس وغيره اليهود فإنهم جمعوا بين الاختيال والفخر والبخل بالمال وكتمان ما أنزل الله من التوراة من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم، والله لا يحب المختال الفخور أي يعاقبه، وأكّد ذلك بأنه تعالى أعد له عذابا مهينا.
ويرى القرطبي أنه تعالى توعد المؤمنين الباخلين بعدم المحبة، وتوعد الكافرين عذابا مهينا «٢».
والفريق الثاني من أهل الفخر هم الذين ينفقون أموالهم رياء، قال الجمهور:
نزلت في المنافقين، لقوله تعالى: رِئاءَ النَّاسِ والرئاء من النفاق. ونفقة الرئاء لا تجزئ، لقوله تعالى: قُلْ: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ [التوبة ٩/ ٥٣].
(٢) تفسير القرطبي: ٥/ ١٩٣
الترغيب في امتثال الأوامر والتحذير من المخالفة والعصيان
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
الإعراب:
وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً بالنصب خبر تكن الناقصة، وتقديره: وإن تكن الذرة حسنة، وقرئ بالرفع على أنها فاعل تكن التامة. وأصل (تك) : تكون بالرفع، إلا أنه حذفت الضمة للجزم، فبقيت النون ساكنة والواو ساكنة، فاجتمع ساكنان، وهما لا يجتمعان، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وكان حذف الواو أولى لأنها حرف معتل، والنون حرف صحيح، فبقي «تكن» فحذفت النون لكثرة الاستعمال. شَهِيداً حال منصوب من الضمير في بِكَ وهو الكاف، والتقدير: جئنا بك شهيدا على هؤلاء. يَوْمَئِذٍ في موضع نصب والعامل فيه يَوَدُّ وكذلك: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ في موضع نصب ب يَوَدُّ أيضا وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً إما معطوف على تُسَوَّى فيكون داخلا في التمني، أي ودوا تسوية الأرض وكتمان الحديث من الله تعالى، وإما أن تكون الواو فيه واو الحال، والجملة حالية.
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا السؤال عن المعلوم لتقريع السامع وتوبيخه.
المفردات اللغوية:
لا يَظْلِمُ الظلم: النقص وتجاوز الحد، أي لا ينقص أحدا من حسناته ولا يزيد في سيئاته. مِثْقالَ أصله المقدار الذي له ثقل مهما قل، ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب وغيره (المثقال العجمي: ٨٠، ٤ غم) والمراد به هنا وزن ذَرَّةٍ أصغر ما يدرك من الأجسام، والذرة في العلم الحديث: الجزء الذي لا يتجزأ، ومن الذرات: الهباء: وهو ما يرى في شعاع الشمس الداخل من نافذة. يُضاعِفْها من عشر إلى أكثر من سبعمائة. مِنْ لَدُنْهُ من عنده.
بِشَهِيدٍ هو نبي الأمة. لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي لو أن تتسوى بهم الأرض بأن يكونوا ترابا مثلها لعظم الهول، كما في آية أخرى: يَقُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
. وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً مما عملوه، وفي وقت آخر يكذبون ويقولون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ والحديث: الكلام.
المناسبة:
موضوع هذه الآيات الترغيب من الله تعالى في امتثال المأمورات والتحذير من المنهيات الواردة في الآيات السابقة، ونظيرها قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة ٩٩/ ٧- ٨].
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة، بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى:
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء ٢١/ ٤٧] وقال تعالى مخبرا عن لقمان أنه قال: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان ٣١/ ١٦].
وفي لفظ: «أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فأخرجوه من النار»
فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقول أبو سعيد:
اقرءوا إن شئتم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ... الآية.
ومعنى الآية: أنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله شيئا مهما قل، ولا يعاقب أحدا على شيء مهما كان بغير حق لأن الظلم نقص، والله تعالى متصف بكل كمال، منزّه عن كل نقص.
فمن اقترف سيئة بعد أن زوده الله بالعقل والتقدير والميزان، كان هو الظالم لنفسه: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت ٤١/ ٤٦].
ومع أنه تعالى لا ينقص أحدا من أجر عمله ولو مثقال ذرة، يضاعف ثواب الحسنة إلى عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، أما السيئة فلا تضاعف، ويجزى بمثلها فقط، كما في آية أخرى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها، وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام ٦/ ١٦٠].
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً أي إنه تعالى لا يكتفي بمضاعفة حسنات المحسن، بل يعطيه أجرا من غير مقابل له من الأعمال، فهو واسع الفضل كثير الإحسان. والأجر العظيم: الجنة، نسأل الله الرضا والجنة.
وإذا كان هذا هو نظام الثواب، فيتعجب الخالق من بعض الناس قائلا:
فكيف يصنع هؤلاء الكفرة من اليهود وغيرهم إذا جئنا من كل أمة بشاهد يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم، كقوله تعالى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة ٥/ ١١٧]. وجئنا بك يا محمد على هؤلاء المكذبين شهيدا.
عن ابن
وهذه الشهادة معناها: عرض أعمال الأمم على أنبيائهم.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة ٢/ ١٤٣] أي إن هذه الأمة بحسن سيرتها وكونها خاتمة أمم الوحي تكون شهيدة على الأمم السابقة، وحجة عليها في انحرافها عن هدي المرسلين، والرسول صلّى الله عليه وسلّم بسيرته واستقامته يكون حجة على من ترك سننه.
يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول أي يتمنون لو يدفنون، فتسوى بهم الأرض، كما تسوى بالموتى، وقيل: يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء، كما قال تعالى: يَقُولُ الْكافِرُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ ٧٨/ ٤٠].
وهم لا يقدرون على كتمان كلام عن الله لأن جوارحهم تشهد عليهم، وقيل: الواو للحال، أي يودون أن يدفنوا تحت الأرض، وأنهم لا يكتمون الله حديثا، ولا يكذبون في قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام ٦/ ٢٣] لأنهم إذا قالوا ذلك، وجحدوا شركهم، ختم الله على أفواههم عندئذ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم والشهادة عليهم بالشرك، فلشدة الأمر عليهم يتمنون الدفن تحت التراب.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- اتصاف الله بكل كمال، وتنزهه عن كل نقصان: فلا يبخس الناس ولا بنقصهم من ثواب أعمالهم وزن ذرة، بل يجازيهم بها ويثيبهم عليها، والمراد من
وفي صحيح مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يجزى بها».
٢- مضاعفة ثواب الحسنات ومنح الأجر العظيم وهو الجنة.
روى أحمد عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله سبحانه يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي حسنة، وتلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً.
قال عبيدة: قال أبو هريرة: وإذا قال الله أَجْراً عَظِيماً فمن الذي يقدّر قدره! وقد عرفنا أن هذه الآية إحدى الآيات التي هي خير مما طلعت عليه الشمس.
٣- التعجيب الإلهي من أفعال الكفار يوم الحساب: هذا التعجيب حافز على فعل المأمورات، وإنذار على التقصير في فعل الحسنات والخيرات.
٤- تمني الكفار أن يكونوا ترابا عند مصادمتهم بأعمالهم المنكرة، وتمنيهم أنهم لم يكتموا الله حديثا، لظهور كذبهم، ولأن ما عملوه ظاهر عند الله لا يقدرون على كتمانه.
سئل ابن عباس عن هذه الآية، وعن قوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فقال: لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، فلا يكتمون الله حديثا.
[سورة النساء (٤) : آية ٤٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
الإعراب:
وَأَنْتُمْ سُكارى الواو واو الحال، والجملة بعدها من المبتدأ والخبر في موضع نصب على الحال بفعل: تَقْرَبُوا أي لا تقربوها في هذه الحالة. والدليل على أن الواو هاهنا واو الحال قوله تعالى:
وَلا جُنُباً أي ولا تصلوا جنبا إلا عابري سبيل، استثناه من قوله: «جنبا». والمراد بعابري سبيل: المسافرين لأنه يجوز للجنب أن يتيمم في السفر عند عدم الماء.
وقيل: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد، ولا تقربوا منها جنبا إلا عابري سبيل، فيجوز للجنب العبور في المساجد عند الحاجة.
المفردات اللغوية:
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ لا تصلوا. وَأَنْتُمْ سُكارى جمع سكران وهو من شرب الخمر جُنُباً من أصابته الجنابة بالجماع أو إنزال المني. والجنب: يطلق على المفرد وغيره. إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ مجتازي طريق أي مسافرين. وقيل: المراد النهي عن قربان مواضع الصلاة، أي المساجد إلا عبورها من غير مكث.
مِنَ الْغائِطِ المكان المنخفض من الأرض كالوادي، والمراد المكان المعد لقضاء الحاجة، وأهل البادية وبعض القرى يقضون حوائجهم في المنخفضات للستر عن أعين الناس. والقصد من قوله: أو جاء أحد منكم من الغائط: أي أحدث. أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ كناية عن الجماع في رأي
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً تتطهرون به للصلاة بعد الطلب والتفتيش في غير حال المرض.
فَتَيَمَّمُوا اقصدوا. صَعِيداً طَيِّباً ترابا طاهرا فاضربوا به ضربتين. والصعيد: وجه الأرض. عَفُوًّا ذا عفو وهو محو السيئة وجعلها كأن لم تكن. غَفُوراً ذا مغفرة، والمغفرة:
ستر الذنب بعدم الحساب عليه.
سبب النزول:
نزول آية: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ: روى أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم عن علي قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموني فقرأت: «قل: يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون» فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ. وروى ابن جرير عن علي أن الإمام كان يومئذ عبد الرحمن، وأن الصلاة صلاة المغرب، وكان ذلك قبل أن تحرّم الخمر.
نزول آية: فَتَيَمَّمُوا:
أخرج الفريابي وابن أبي حاتم وابن المنذر عن علي رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية وهي قوله تعالى: وَلا جُنُباً في المسافر تصيبه الجنابة، فيتيمم ويصلي.
وأخرج ابن مردويه عن الأسلع بن شريك قال: كنت أرحّل ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأصابتني جنابة في ليلة باردة، فخشيت أن أغتسل بالماء البارد، فأموت أو أمرض، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله:
لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى الآية كلها.
وروى البخاري ومسلم من حديث مالك عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع
وفي رواية: يرحمك الله يا عائشة، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا وجعل الله فيه للمسلمين فرجا.
قالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فوجدنا العقد تحته «١».
والظاهر أن صدر الآية نزل في حادثة الخمر، وعجزها في حادثة السفر، والجمهور على أنها نزلت في غزوة المريسيع.
المناسبة:
لما نهى الله سبحانه فيما مضى عن الشرك، ورغب في امتثال الأمر واجتناب النهي، نهى هنا عن الصلاة التي هي عبادة لله وحده لا شريك له في حال السكر وحال الجنابة، والخطاب موجه للمؤمنين قبل السكر ليجتنبوه، وذلك حتى يكون الإنسان في صلاته كامل القوى العقلية، وطاهرا من الأنجاس أو الأرجاس والأخباث المادية والمعنوية.
التفسير والبيان:
ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان مواضعها التي هي المساجد للجنب إلا أن يكون مجتازا المسجد من باب إلى باب من غير مكث. وقد كان هذا قبل تحريم الخمر.
وقد أثر النهي، وفهم الصحابة أن الممنوع هو قربان الصلاة في حال السكر، فكانوا يمتنعون من شرب المسكر إلى ما بعد صلاة العشاء، فإذا صلوا العشاء شربوا، فقال عمر رضي الله عنه: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا،
ومعنى الآية: يا أيها المؤمنون لا تصلّوا حال السكر حتى تعلموا ما تقولون في الصلاة. وقد كان هذا تمهيدا لتحريم السكر تحريما باتا، وكان نزول الآية في المرحلة الثالثة من مراحل التدرج في تشريع تحريم الخمر.
واتفق أكثر المفسرين على أن الصلاة باقية على معناها الحقيقي، والمعنى إذا أردتم الصلاة فلا تسكروا، ولا تصلوا وأنتم سكارى ولا وأنتم جنب إلا في حال كونكم مسافرين حتى تغتسلوا. ويكون ذكر هذا الحكم قبل قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى تشويقا إلى بيان الحكم عند فقد الماء. ويدل لهذا الرأي قوله تعالى:
حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ أي لا تقربوا نفس الصلاة لأن فيها قراءة من آي القرآن ودعاء وأذكارا، وكلها تتطلب الوعي والإدراك واستكمال القوى العقلية.
وذهب الشافعي وابن عباس وابن مسعود والحسن البصري إلى أن الكلام على حذف مضاف وهو مجاز شائع، والمراد: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد، بدليل تفسير وَصَلَواتٌ [الحج ٢٢/ ٤٠] بأنها كما قال ابن عباس كنائس اليهود، وإلا لم يصح الاستثناء في قوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وحتى لا يكون هناك تكرار بين قوله: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ فمن أجل ذلك حملنا لفظ الصلاة على المسجد.
وقد ترتب على هذا اختلافهم في حكم اجتياز الجنب المسجد، فعلى الرأي الثاني:
يجوز له العبور دون أن يمكث، ويحرم عليه دخول المسجد في غير حال العبور.
وعلى الرأي الأول: لا تدل الآية على حرمة دخول الجنب المسجد، وإنما يستدل عليها بمثل
ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: «وجهوا هذه البيوت عن
ثم نهى الله تعالى فقال: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي ولا تقربوا الصلاة حال الجنابة إلا إذا كنتم عابري سبيل أي مجتازي الطريق.
حَتَّى تَغْتَسِلُوا أي لا تقربوا الصلاة جنبا إلى أن تغتسلوا، والغسل: أن يعم الماء جميع الجسد.
ثم ذكر الله تعالى في هذه الآية وآية المائدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة ٥/ ٦] أسبابا أربعة للتيمم وهي: المرض، والسفر، والحدث (المجيء إلى الغائط) وملامسة النساء. فإذا توافر أحد هذه الأسباب، فاقصدوا صعيدا طيبا أي وجها ظاهرا من الأرض، طاهرا غير نجس، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه إلى المرافق عند الجمهور، وإلى الرسغين عند مالك، ثم صلّوا.
هذه رخصة التيمم لأصحاب الأعذار، وسبب هذا الترخيص والتيسير هو أن الله عفوّ غفور، أي ذو عفو ومغفرة أي ستر للذنوب، أي لم يزل كائنا يقبل العفو وهو السهل، ويغفر الذنب أي يستر عقوبته فلا يعاقب.
ويلاحظ أن قيد عدم وجود الماء راجع إلى قوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء ٤/ ٤٣] فتكون الأعذار ثلاثة: السفر والمرض وفقد الماء في الحضر، أما الحدث فأمر مفروغ منه، إنما الكلام في الأعذار المبيحة للتيمم، ولا سبب في الحقيقة إلا فقد الماء، والسفر وحده عذر كاف في التيمم، وجد الماء أو لم يوجد.
تضمنت الآية أحكاما عديدة هي:
١- حرمة الصلاة حال السكر من الخمر وغيره، وذلك قبل تحريم الخمر تحريما باتا قاطعا، فقد كان شرب المسكر مباحا في أول الإسلام حتى ينتهي بصاحبه إلى السكر.
٢- السبب في تحريم المسكر في الصلاة هو إدراك معاني التلاوة والأدعية والأذكار الموجودة في الصلاة، وهذا معنى قوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ أي حتى تعلموه متيقنين فيه من غير غلط، والسكران لا يعلم ما يقول.
وأراد بعض المفسرين أن يفهم من هذه الآية وجوب القراءة في الصلاة لأنها تنهى عن قرب الصلاة في حال السكر حتى يعلم المصلي ما يقول، فلا بد من أن يكون الذي يقول شيئا يمنع منه السكر، ولا شيء سوى القراءة. ولكن وجوب القراءة في الصلاة له دليل آخر غير هذا، ومعنى النهي هنا: لا تصلوا حتى تكونوا على درجة من العلم والفهم تمكنكم من مناجاة الله والوقوف بين يدي ملك الملوك.
واستنبط عثمان رضي الله عنه من الآية: أن السكران لا يلزم طلاقه. وهو مروي عن ابن عباس وطاوس وعطاء والقاسم وربيعة، وهو قول الليث وجماعة من الشافعية، واختاره الطحاوي قائلا: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس معتوه بالوسواس.
وقال الجمهور: طلاق السكران نافذ، وأفعاله وعقوده كلها ثابتة كأفعال الصاحي، واستثنى أبو حنيفة الردة، فإنه إذا ارتد لا تبين منه امرأته إلا استحسانا.
لما أخرجه مسلم عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع ومسّ الختان الختان، فقد وجب الغسل»
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا قعد بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب عليه الغسل» زاد مسلم: «وإن لم ينزل».
وأجمع التابعون ومن بعدهم على الأخذ
بحديث: «إذا التقى الختانان... ».
٤- لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم لأن الغالب في الماء أنه لا يعدم في الحضر فالحاضر يغتسل لوجود الماء، والمسافر يتيمم إذا لم يجده، ولا يدخل المسافر الجنب المسجد إلا بعد أن يتيمم في رأي الحنفية.
ورخص الإمامان مالك والشافعي في دخول الجنب المسجد
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الأئمة الستة عن أبي هريرة: «إن المؤمن لا ينجس»
ويؤيده أن الصحابة الذين كانت أبواب دورهم شارعة في المسجد، إذا أجنب أحدهم اضطر إلى المرور في المسجد.
وقال أحمد وإسحاق في الجنب: إذا توضأ لا بأس أن يجلس في المسجد، عملا بما كان يفعله بعض الصحابة.
ويمنع الجنب عند المالكية وغيرهم من قراءة القرآن غالبا إلا الآيات اليسيرة للتعوذ،
لما أخرجه ابن ماجه عن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن».
٥- نهى الله سبحانه وتعالى عن الصلاة إلا بعد الاغتسال، والاغتسال:
معنى معقول يعبر به عن إمرار اليد مع الماء على المغسول. ولا بد أن يتدلك الجنب في اغتساله في المشهور من مذهب مالك لأن هذا هو المعقول من لفظ الغسل
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة» «١»
وإنقاؤه: لا يكون إلا بتتبعه. قال ابن العربي: «حتى تغتسلوا» اقتضى هذا عموم إمرار الماء على البدن كله باتفاق، وهذا لا يتأتى إلا بالدلك.
وقال الجمهور: يجزئ الجنب صبّ الماء والانغماس فيه إذا أسبغ وعمّ، وإن لم يتدلك، على مقتضى حديث ميمونة وعائشة في غسل النبي صلّى الله عليه وسلّم، رواهما الأئمة،
وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يفيض الماء على جسده.
وهل يخلل الجنب لحيته؟
روايتان عن مالك: رواية ابن القاسم عنه: ليس عليه ذلك
وقال ابن عبد الحكم: ذلك هو أحب إلينا لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يخلل شعره في غسل الجنابة.
وأوجب الحنفية والحنابلة المضمضة والاستنشاق في الغسل، لقوله تعالى:
حَتَّى تَغْتَسِلُوا ولأنهما من جملة الوجه، وحكمهما حكم ظاهر الوجه كالخد والجبين، فمن تركهما وصلّى، أعاد كمن ترك لمعة «٢»، ومن تركهما في وضوئه فلا إعادة عليه. وأضاف الحنابلة: هما فرض أيضا في الوضوء لقوله تعالى:
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يترك المضمضة والاستنشاق في وضوئه ولا في غسله من الجنابة.
وقال مالك والشافعي: ليستا بفرض لا في الجنابة ولا في الوضوء لأنهما باطنان كداخل الجسد
لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعل المضمضة ولم يأمر بها
، وأفعاله مندوب إليها ليست بواجبة إلا بدليل.
(٢) اللمعة: الموضع لا يصيبه الماء.
فروى مالك عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يغتسل من إناء هو الفرق من الجنابة.
والفرق ثلاثة آصع، والصاع ٢٧٥١ غم.
وعن أنس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ بالمدّ، ويغتسل بالصاع «١» إلى خمسة أمداد
، والمد ٦٧٥ غم، والصاع أربعة أمداد. وهذه الأحاديث تدل على استحباب تقليل الماء من غير كيل ولا وزن، يأخذ منه الإنسان بقدر ما يكفي، ولا يكثر منه، فإن الإكثار منه سرف، والسّرف مذموم.
٦- إباحة التيمم لفقد الماء، أو للمرض، أو للسفر، لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى.. [النساء ٤/ ٤٣] ويؤيده آية: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج ٢٢/ ٧٨] وآية: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء ٤/ ٢٩] وتيمم عمرو بن العاص لما خاف أن يهلك من شدة البرد، ولم يأمره صلّى الله عليه وسلّم بغسل ولا إعادة.
والمرض الذي يباح له التيمم على الصحيح من قول الشافعي: هو الذي يخاف فيه فوت الروح، أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء، أو خاف طول المرض.
والسفر المبيح للتيمم: هو الطويل أو القصير عند عدم الماء، ولا يشترط أن يكون مما تقصر فيه الصلاة في رأي الجمهور. وقال قوم: لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة.
وذهب المالكية وأبو حنيفة ومحمد إلى أن التيمم في الحضر والسفر جائز. وقال الشافعي: لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف. فإن عدم الماء في الحضر مع خوف فوات الوقت، تيمم الصحيح والسقيم وصلّى ثم أعاد.
وقال أبو يوسف وزفر: لا يجوز التيمم في الحضر لا لمرض ولا لخوف الوقت.
حديث مسلم عن سفينة: «أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يغسله الصاع، ويوضئه المدّ».
القرآن: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي أن المقيم إذا عدم الماء تيمم.
والسنة:
وهو ما رواه البخاري عن أبي الجهيم بن الحارث بن الصّمة الأنصاري قال: أقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم من نحو «بئر جمل «١» » فلقيه رجل، فسلّم عليه، فلم يردّ عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام.
وأخرجه مسلم وليس فيه لفظ «بئر».
٧- هل الحدث يبيح التيمم في الحضر؟ قيل: إنه يبيح لآية أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ: و «أو» بمعنى الواو، أي إن كنتم مرضى أو على سفر، وجاء أحد منكم من الغائط فتيمموا، فالسبب الموجب للتيمم على هذا هو الحديث، لا المرض والسفر، فدل على جواز التيمم في الحضر، كما تقدم بيانه.
قال القرطبي: والصحيح في «أو» أنها على بابها عند أهل النظر، أي أنها للتخيير، فلأو معناها، وللواو معناها، وهناك حذف، والمعنى: وإن كنتم مرضى مرضا لا تقدرون فيه على مسّ الماء أو على سفر، ولم تجدوا ماء، واحتجتم إلى الماء «٢».
وقوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ كنى بذلك عن التغوط وهو الحدث الأصغر.
٨- ملامسة النساء: كناية عن الجماع «٣» في رأي الحنفية، فالجنب يتيمم، واللامس بيده لا ينقض وضوءه، بدليل
ما رواه الدارقطني عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ.
والمراد بها عند الشافعي: لمس بشرة المرأة باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد، فمن لمس بشرة امرأة
(٢) تفسير القرطبي: ٥/ ٢٢٠
(٣) قال ابن عباس: إن الله تعالى حيي كريم يعفّ، كنى باللمس عن الجماع.
الحدث والجنابة عند عدم الماء، وسبب الحدث: المجيء من الغائط، وسبب الجنابة: الملامسة. ولا مانع من حمل اللفظ «الملامسة» على الجماع واللمس، وإفادة الحكمين.
٩- إن طلب الماء للمسافر شرط في صحة التيمم عند مالك والشافعي وأحمد، وليس بشرط عند أبي حنيفة.
والمقصود بوجود الماء: أن يجد منه ما يكفيه لطهارته، فإن وجد أقل من كفايته تيمم ولم يستعمل ما وجد منه، وهذا قول أكثر العلماء.
وأجاز أبو حنيفة الوضوء بالماء المتغير كماء الباقلاء وماء الورد، لقوله تعالى:
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فقال: هذا نفي في نكرة، فيعم لغة، فيكون مفيدا جواز الوضوء بالماء المتغير وغير المتغير لإطلاق اسم الماء عليه.
وأجمع العلماء على أن الوضوء والاغتسال لا يجوز بشيء من الأشربة سوى النبيذ عند عدم الماء.
والماء الذي يبيح عدمه التيمم: هو الطاهر المطهر الباقي على أوصاف خلقته.
١٠- قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا: يدل على مشروعية التيمم، وهو من خصائص هذه الأمة،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «فضّلنا على الناس بثلاث: جعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» «١» الحديث.
والتيمم
ويلزم التيمم كل مكلف لزمته الصلاة إذا عدم الماء، ودخل وقت الصلاة.
وقال أبو حنيفة وصاحباه والمزني صاحب الشافعي: يجوز قبله لأن طلب الماء عندهم ليس بشرط قياسا على النافلة، فلما جاز التيمم للنافلة دون طلب الماء، جاز أيضا للفريضة، واستدلوا
بقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ذرّ عند أبي داود والنسائي والترمذي: «الصعيد الطيب وضوء المسلم، ولو لم يجد الماء عشر حجج».
فسمى عليه السلام الصعيد وضوءا كما يسمى الماء، فحكمه إذن حكم الماء. ودليل المالكية والشافعية والحنابلة قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ولا يقال: لم يجد الماء إلا لمن طلب ولم يجد.
وأجمع العلماء على أن التيمم لا يرفع الجنابة ولا الحدث، وأن المتيمم لهما إذا وجد الماء، عاد جنبا كما كان أو محدثا
لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ذرّ: «إذا وجدت الماء فأمسّه جلدك».
وأجمعوا على أن من تيمم ثم وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه، وعليه استعمال الماء. والجمهور على أن من تيمم وصلّى وفرغ من صلاته، وقد كان اجتهد في طلبه الماء، ولم يكن في رحله: أن صلاته تامة لأنه أدى فرضه كما أمر، فغير جائز أن توجب عليه الإعادة بغير حجة،
لما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة بالوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: «أصبت السنة وأجزأتك صلاتك» وقال للذي توضأ وأعاد: «لك الأجر مرتين».
وقال أبو حنيفة وأحمد والمزني: يقطع ويتوضأ ويستأنف الصلاة لوجود الماء. وحجتهم أن التيمم لما بطل بوجود الماء قبل الصلاة، فكذلك يبطل ما بقي منها، وإذا بطل بعضها بطل كلها لإجماع العلماء على أن المعتدة بالشهور لا يبقى عليها إلا أقلها ثم تحيض أنها تستقبل عدتها بالحيض، ومثل ذلك الذي يطرأ عليه الماء وهو في الصلاة.
واختلفوا: هل يصلّى بالتيمم صلوات أو يلزم التيمم لكل صلاة فرض ونفل؟ فقال مالك والشافعي: لكل فريضة لأن عليه أن يبتغي الماء لكل صلاة، فمن ابتغى الماء فلم يجده فإنه يتيمم.
وقال أبو حنيفة وداود الظاهري: يصلي ما شاء بتيمم واحد ما لم يحدث لأنه طاهر، ما لم يجد الماء، وليس عليه طلب الماء إذا يئس منه.
وهل يجوز التيمم قبل دخول الوقت؟ الشافعي ومالك: لا يجوزانه لأنه لما قال الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ظهر منه تعلق أجزاء التيمم بالحاجة، ولا حاجة قبل الوقت، وعلى هذا فلا يصلّي الشخص فرضين بتيمم واحد. وأجاز أبو حنيفة التيمم قبل دخول الوقت لأن طلب الماء عنده ليس بشرط.
١١- الصعيد الطيب: الصعيد: وجه الأرض، كان عليه تراب أو لم يكن.
والطيب: الطاهر وقيل: الحلال. وبناء عليه قال مالك وأبو حنيفة: يتيمم بوجه الأرض كله، ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة.
واشترط الشافعي: أن يعلق التراب باليد، ويتيمم به نقلا إلى أعضاء التيمم، كالماء ينقل إلى أعضاء الوضوء.
وأجمع العلماء على أن يتيمم الرجل على تراب منبت طاهر منقول إلى العضو الممسوح لا مغصوب، وعلى أنه لا يتيمم على الذهب الصّرف والفضة والياقوت والزّمرّد والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما أو على النجاسات. واختلف في غير هذا كالمعادن، فأجازه مالك وغيره، ومنعه الشافعي وغيره.
ويجوز عند مالك التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض، وفي المدونة والمبسوط جواز التيمم على الثلج، وفي غيرهما منعه. والجمهور على منع التيمم على العود، وجمهور المالكية أجازوا التيمم على التراب المنقول من طين أو غيره، وعند المالكية قولان في التيمم على ما طبخ كالجص والاجرّ، وعلى الجدار، قال القرطبي: والصحيح الجواز على الجدار،
لحديث أبي جهيم بن الحارث بن الصّمّة الأنصاري الذي أخرجه البخاري، قال: أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من نحو بئر جمل (موضع قرب المدينة) فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يردّ عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام. وهو دليل على صحة التيمم بغير التراب كما يقول مالك ومن وافقه.
وقال الثوري وأحمد: يجوز التيمم بغبار اللّبد. وأجاز أبو حنيفة التيمم بالكحل والزّرنيخ والنّورة والجص والجوهر المسحوق.
١٢- كيفية التيمم: دل قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ على أن محل التيمم: الوجه واليدان، وقوله مِنْهُ يدل في رأي الشافعي على
وقال الجمهور: يبدأ بالوجه ثم اليدين لقوله تعالى: بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ.
وقال الحنفية والشافعية: يبلغ بالتيمم في اليدين إلى المرفقين، قياسا على الوضوء، وبدليل رواية التيمم إلى المرفقين عن جابر وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وذهب المالكية والحنابلة إلى أنه يبلغ به إلى الكوعين وهما الرسغان،
لحديث عمار بالتيمم إلى الكوعين: وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وأبو داود أمره بالتيمم للوجه والكفين.
وذهب الحنفية والشافعية إلى أن التيمم ضربتان: ضربة للوجة، وضربة لليدين لحديث ابن عمر «١» في ذلك. ورأى المالكية والحنابلة أن الفريضة:
الضربة الأولى، أي وضع اليد على الصعيد، وأما الضربة الثانية فهي سنة.
أعمال اليهود وتصرفاتهم
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)
يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ: جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو أُوتُوا ومثله وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا.
مِنَ الَّذِينَ تتعلق مِنَ إما على أنها تفسير لقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا.. أو تتعلق بمحذوف، وتقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون. وقوم: مبتدأ، ويحرفون: جملة صفة المبتدأ، وحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، وخبره: مِنَ الَّذِينَ هادُوا مقدم عليه. أو تتعلق بقوله: نَصِيراً على حد قوله: فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا.
غَيْرَ مُسْمَعٍ حال من ضمير: واسمع، أي لا سمعت، ويظهرون أنهم يريدون: واسمع غير مسمع مكروها. وقيل: إنهم يريدون: واسمع غير مسمع، أي غير مجاب.
لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً منصوبان على المصدر، وتقديره: يلوون بألسنتهم ليّا، ويطعنون طعنا. وألسنتهم: جمع لسان، ويجوز فيه التذكير والتأنيث، ويجمع على ألسنة وألسن، فمن جمعه على ألسنة جعله مذكرا، ومن جمعه على ألسن جعله مؤنثا.
وَلَوْ أَنَّهُمْ.. لو: حرف يمتنع له الشيء لامتناع غيره، كقولك: لو جئتني لأكرمتك، فيكون عدم الإكرام لعدم المجيء. وأنهم: في موضع رفع بفعل مقدر، تقديره: ولو وقع قولهم:
سمعنا وأطعنا، فإن لَوْ يقع بعدها الفعل ولا يقع بعدها المبتدأ. إِلَّا قَلِيلًا منصوب لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: إيمانا قليلا.
البلاغة:
يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ: استعارة، وكذا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ استعارة لأن أصل اللي: فتل الحبل، فاستعير للكلام الذي قصد به غير ظاهره. أَلَمْ تَرَ استفهام للتعجب.
أَلَمْ تَرَ ألم تنظر أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ حظا أو جزءا من التوراة وهم اليهود أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ تخطئوا الطريق الحق أو القويم لتكونوا مثلهم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ منكم، فيخبركم بهم لتجتنبوهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا حافظا لكم منهم يتولى شؤونكم نَصِيراً مانعا لكم من كيدهم، أو معينا يدفع شرهم عنكم مِنَ الَّذِينَ هادُوا هم اليهود يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يغيرون الكلام الذي أنزل الله في التوراة من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم عن مواضعه التي وضع عليها.
غَيْرَ مُسْمَعٍ حال بمعنى الدعاء أي لا سمعت، ويجوز أن يريدوا: غير مجاب قولك.
وَراعِنا أصلها: راقبنا وانظرنا نكلمك، والمراد بها أنها كلمة سب بلغتهم وهي «راعينا» أو من الرعونة والطيش، وقد نهي عن خطابه بها لَيًّا تحريفا بألسنتهم وطعنا وفتلا بها.
طَعْناً فِي الدِّينِ قدحا فيه وذما بالإسلام وَانْظُرْنا انظر إلينا وَأَقْوَمَ أعدل وأسدّ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم عن رحمته إِلَّا قَلِيلًا أي إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به.
سبب النزول
نزلت في يهود المدينة،
قال ابن إسحاق: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود، وإذا كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لوى لسانه، وقال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام وعابه، فأنزل الله فيه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ....
وقال المفسرون: خرج كعب بن الأشرف- أحد أحبار اليهود- في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد، ليحالفوا قريشا على غدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزل كعب على أبي سفيان، ونزلت اليهود في دور قريش...
فقال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق؟ أنحن أم محمد؟ فقال كعب:
اعرضوا علي دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء (الناقة
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ | يعني كعبا وأصحابه، الآية «١». |
بعد أن أرشد الله تعالى إلى جزيل الثواب بامتثال الأحكام الشرعية، وحذر المخالف بشديد العقاب، من خلال الترغيب والترهيب، ذكر حال بعض أهل الكتاب الذين تركوا بعض أحكام دينهم، وحرّفوا كتابهم، واشتروا الضلالة بالهدى، لينبه المؤمنين إلى وجوب التزام ما أمروا به، ويحذرهم من إيقاع العقاب عليهم بترك أحكام دينهم، مثل العقاب الذي استحقه أولئك اليهود في الآخرة حينما يتمنون أن يدفنوا في التراب، ويزج بهم في نار جهنم.
التفسير والبيان:
ألم تنظر يا محمد إلى الذين أعطوا جزءا من التوراة (الكتاب الإلهي) ثم يستبدلون الضلالة بالهدي، ويؤثرون الكفر على الإيمان، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله، ويتركون ما بأيديهم من الأحكام كالكذب وإيذاء الناس وأكل الربا، ومن العلم عن الأنبياء السابقين في صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، ليشتروا بما اصطنعوه من الطقوس والرسوم الدينية ثمنا قليلا من حطام الدنيا، ويريدون أن تضلوا معهم الطريق المستقيم، فتكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع، والله أعلم بأعدائكم أيها المؤمنون، ويحذركم منهم، وكفى بالله وليا: حافظا لكم منهم ويتولى شؤونكم، وحصنا لمن لجأ إليه، وكفى
وأما الذي يعملون به من التوراة: فهو ما أضاعوه ونسوه، وما تركوا العمل به من الأحكام الباقية لديهم.
ثم بيّن الله تعالى المراد بأولئك الذين أوتوا الكتاب بقوله: مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي اليهود، ومِنَ هنا لبيان الجنس كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج ٢٢/ ٣٠] وهم قوم يحرفون الكلم الذي أنزله الله في التوراة عن مواضعه الأصلية، إما بأن يحملوه على غير معناه الذي وضع له، كتأويل البشارات الواردة في النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتأويل ما ورد في المسيح وحمله على شخص آخر، لا يزالون ينتظرونه إلى اليوم، وإما بنقل كلمة أو جملة من الكتاب ووضعها فيه في موضع آخر، فقد خلطوا ما أثر عن موسى عليه السلام بما كتب بعده بزمن طويل، كما خلطوا كلام غيره من أنبيائهم بكلام آخر دوّنه واضعو التوراة الحالية، بدلا عن التوراة المفقودة باعترافهم.
وكانوا يقصدون بهذا التحريف الإصلاح في زعمهم، ومنشأ ذلك أنه وجدت عندهم قراطيس متفرقة من التوراة بعد فقد النسخة الأصلية التي كتبها موسى عليه السلام، وأرادوا أن يؤلفوا بينها، فخلطوا فيها بالزيادة والتكرار، كما أثبت المؤرخون الباحثون الثقات، مثل الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه «إظهار الحق».
ويقول هؤلاء اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم: سمعنا قولك وعصينا أمرك، قال مجاهد:
إنهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: سمعنا قولك، ولكن لا نطيعك. وكانوا يقولون أيضا
لا أسمعك الله، أو غير مسمع دعاؤك، أو غير مقبول منك، بدلا من أن يقولوا أدبا: «لا سمعت مكروها».
وكانوا يقولون كذلك: راعِنا اسم فاعل من الرعونة أي الطيش والحمق، أو هي «راعينا» كلمة سب وطعن عندهم، بدلا من أن تستعمل بمعنى:
أنظرنا وتمهل علينا. وقد نهى الله المؤمنين أن يستعملوا هذه الكلمة بقوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا: راعِنا، وَقُولُوا: انْظُرْنا [البقرة ٢/ ١٠٤].
هذه جرائم ثلاث ارتكبوها مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إما في مجلسه أو بعيدا عنه، بدافع الحسد والحقد، أو الاستهزاء والسخرية، يستعملون كلاما محتملا معنيين، وهم يريدون به الشتيمة والإهانة، لا التوقير والاحترام والتكريم، ليا بألسنتهم وفتلا بها وصرفا للكلام عن إرادة الخير إلى إرادة الشر والسب، وطعنا في الإسلام وقدحا فيه، فيوهمون أنهم يقولون: راعنا سمعك بقولهم: راعِنا وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم. وهذا منتهى الوقاحة والجرأة على الباطل.
ومن تحريف لسانهم تحيتهم بقولهم: «السام- الموت- عليكم» يوهمون بفتل اللسان أنهم يقولون: «السلام عليكم»
فيجيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «وعليكم»
أي كل أحد يموت.
قال ابن عطية: وهذا موجود حتى الآن في اليهود، وقد شاهدناهم يربون أولادهم الصغار على ذلك، ويحفّظونهم ما يخاطبون به المسلمين، مما ظاهره التوقير ويريدون به التحقير «١».
ثم وجّه الحق تعالى إلى الخطاب الأمثل فذكر: ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا، واسمع منا ما نقول وانظرنا، أي أمهلنا وانتظرنا ولا تعجل حتى نتفهم
ثم بيّن الله تعالى عاقبة تصرفاتهم النابية وهو الطرد من رحمة الله وعدم التوفيق للخير أبدا، فذكر أنه تعالى لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم، والكفر يمنع عادة من التفكر والأدب في الخطاب، وهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يؤبه به، وقلوبهم مطرودة عن الخير، مبعدة عنه، فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم، وإذا لم يكن هناك إيمان، لم يبق أمل في صلاح عمل، ولا رقي عقل، ولا طهارة نفس.
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات تعجب وتوبيخ وتقريع ليهود المدينة وما والاها، ولكل من سلك سلوكهم، وسار على منهجهم، وسبب ذلك تصرفاتهم الشائنة، ومواقفهم المستهجنة التي جمعت ألوانا من الجرائم والمنكرات.
فهم اشتروا الضلالة بالهدى، وأرادوا إضلال المسلمين عن طريق الحق والمنهج القويم، وأعلنوا عداوتهم للإسلام والمسلمين، فلا تستصحبوهم فإنهم الأعداء الألداء.
وهم يحرفون الكلام الإلهي عن مواضعه الصحيحة، ويؤولونه تأويلا باطلا، أو يخلطونه بكتابات البشر المغلوطة أو المشوهة أو المنفرة، فإن توراتهم الحالية تمس سمو الذات الإلهية، وتشوه سمعة أنبيائهم وتطعن فيهم، وهي مشحونة بالأحقاد والبغضاء على الشعوب الأخرى غير اليهودية، وتدعو إلى تدمير المدن وتخريب الحضارة وإتلاف الثروات الحيوانية والزراعية والصناعية.
ويعلنون وقاحتهم في خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وحب الاستهزاء والسخرية منه، فيقولون: «سمعنا قولك وعصينا أمرك»، واسمع لا سمعت، وهم يظهرون أنهم
وقوله: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ يدل على أنهم يلوون ألسنتهم عن الحق، أي يميلونها إلى ما في قلوبهم، ويطعنون في الدين، بقولهم لأصحابهم: لو كان نبيا لدرى أننا نسبّه، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك، فكان من علامات نبوته، ونهاهم عن هذا القول.
ولو خاطبوه بما يقتضيه الأدب واللياقة في الكلام، لكان ذلك أقوم أي أصوب لهم في الرأي، والحقيقة أنهم لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان.
أمر أهل الكتاب بالإيمان بالقرآن وتهديدهم باللعنة
[سورة النساء (٤) : آية ٤٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧)
الإعراب:
كَما لَعَنَّا الكاف في كَما في موضع نصب، لأنها صفة لمصدر محذوف، وتقديره: لعنا مثل لعننا أصحاب السبت.
نَطْمِسَ وُجُوهاً استعارة، شبه مسخ الوجوه بالصحيفة المطموسة التي أشكلت حروفها وغمضت سطورها.
يوجد طباق بين وُجُوهاً... أَدْبارِها.
ويوجد جناس اشتقاق في نَلْعَنَهُمْ.. لَعَنَّا.
المفردات اللغوية:
أُوتُوا الْكِتابَ التوراة نَطْمِسَ الطمس: الإزالة، والمراد به هنا: محو آثار الإنسانية بإزالة ما في الوجوه من العين والأنف والحاجب، وترددت الكلمة في القرآن، مثل: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ
[يونس ١٠/ ٨٨] أي أزلها وأهلكها، ومثل: وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس ٣٦/ ٦٦] إما بإزالة نورها، وإما بمحو حدقتها وُجُوهاً جمع وجه: وهو الوجه المعروف، وطمسها: هو ردها إلى الأدبار وجعل أبصارهم من ورائهم، أو المراد: ألا نبقي لها سمعا ولا بصرا ولا أنفا. وقال ابن عباس: وطمسها: أن تعمى.
وقد يطلق الوجه على اتجاه النفس: وهو ما تتوجه إليه من المقاصد، كما قال تعالى:
أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران ٣/ ٢٠]. وقال: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ [لقمان ٣١/ ٢٢]. وقال: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [الروم ٣٠/ ٣٠].
فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها الأدبار: جمع دبر، وهو الخلف والقفا. والرد على الأدبار: جعلها كالأقفاء لوحا واحدا. ويستعمل الرد على الأدبار إما في الحسيات وهو الهزيمة أو الفرار في القتال، وإما في المعنويات: وهو الرجوع إلى الوراء أي العودة إلى الكفر، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ [محمد ٤٧/ ٢٥].
أَوْ نَلْعَنَهُمْ أو نجزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت قردة وخنازير، وقيل: أو نهلكهم، كما أهلكنا أصحاب السبت.
سبب النزول:
أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رؤساء من أحبار اليهود، منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد، فقال لهم: «يا معشر يهود، اتقوا الله، وأسلموا، فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق» فقالوا:
التفسير والبيان:
الآية متصلة بما قبلها، واردة لفتح باب الأمل أمام أهل الكتاب بعد أن اشتروا الضلالة بالهدى بتحريفهم بعض الكتاب وإضاعة بعضه الآخر، وهي تلزمهم العمل بما عرفوا والإيمان بالقرآن، لأن إيمانهم بالتوراة يستدعي الإيمان بما يصدقها.
يأمر الله تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى بالإيمان بما نزل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن المجيد الذي جاء مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية في أصولها الأولى الصحيحة، وليس لما آلت إليه في صورتها الحالية، من تقرير التوحيد ورفض الشرك وترك الفواحش الظاهرة والباطنة، وتصديق الاخبار التي بأيديهم من البشارات بالنبي محمد، وتلك هي أصول الدين وغاياته الأساسية.
خاطبهم القرآن بأنهم أوتوا الكتاب، مع أنهم ضيعوا جزءا منه، وأحرقوا جزءا آخر، مما يدعو إلى إيمانهم بالقرآن، ويسجل عليهم تقصيرهم واستحقاقهم العقاب.
ومما يدعوهم إلى الإيمان أن الأديان السماوية كلها متفقة في الأصول العامة، كالتوحيد، ونبذ الشرك، والتحلي بكريم الأخلاق، والبعد عن الفواحش والمنكرات.
وأكد القرآن الكريم نبوة داود وسليمان وموسى وعيسى وإبراهيم ونوح وغيرهم عليهم السلام، فكيف لا يؤمن أتباع أولئك الأنبياء بالقرآن وبرسالة محمد؟ مع أنه جاء مصدقا لما معهم، وموافقا لملة إبراهيم القائمة على التوحيد.
ثم هددهم إن لم يفعلوا بطمس الوجوه والرد على الأدبار، فتجعل على هيئة أدبارها وهي الأقفاء، مطموسة مثلها، عديمة الإبصار، أو بالهلاك أو المسخ كما أهلك أصحاب السبت من اليهود، أو مسخهم قردة وخنازير. وأصحاب السبت: يعني الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد بحواجز أقاموها يوم الجمعة، فإذا حدث المد ثم الجزر. تبقى الأسماك في الأحواض المقامة على الشواطئ.
وكان أمر الله مفعولا، أي أن أمره التكويني وهو قوله: كُنْ فَيَكُونُ بإيقاع شيء ما نافذ لا محالة، فإذا أمر أمرا فإنه لا يخالف ولا يمانع. فاحذروا وعيده، وخافوا عقابه، ويراد بالأمر: المأمور، فالمعنى: أنه متى أراده أوجده.
قال ابن عباس: يريد: لا رادّ لحكمه، ولا ناقض لأمره. ولا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا. وقد تحقق الوعيد في معاصري الوحي بإذلال بني النضير وإجلائهم، وإهلاك بني قريظة، وهو معنى الطمس والارتداد على الأدبار على أنها أمور حسية.
فقه الحياة أو الأحكام:
اختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية، هل هو حقيقة، فيجعل الوجه كالقفا، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين، أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق؟
قولان: روي عن أبي بن كعب أنه قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده. والمراد به التمثيل، وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة.
فإذا آمن هؤلاء ومن اتّبعهم، رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرّد: الوعيد باق منتظر، وقال: لا بدّ من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة.
ما يغفره الله تعالى وما لا يغفره
[سورة النساء (٤) : آية ٤٨]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)
المفردات اللغوية:
وَيَغْفِرُ المغفرة: ستر الذنب، والمغفور له: أن يدخله الله الجنة بلا عذاب، ومن شاء عذّبه من المؤمنين بذنوبه، ثم يدخله الجنة. افْتَرى اختلق واعتمل وارتكب. إِثْماً عَظِيماً ذنبا كبيرا.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال: جاء رجل إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام، قال: وما دينه؟ قال:
يصلّي ويوحّد الله، قال: استوهب منه دينه، فإن أبى فابتعه منه، فطلب الرجل ذلك منه، فأبى عليه، فأتى النّبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقال: وجدته شحيحا
المناسبة:
بعد أن أوعد الله أهل الكتاب وهددهم على الكفر إن لم يؤمنوا، وأعلن أن الوعيد نافذ المفعول، بيّن هنا أن هذا الوعيد على الكفر أو الشرك، فأما سائر الذنوب فقابلة للغفران.
التفسير والبيان:
أخبر الله تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به، أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، والمراد بالشرك هنا مطلق الكفر الشامل لكفر اليهود وغيرهم، ويغفر ما دون ذلك من الذنوب لمن يشاء من عباده. ومن أشرك بالله فقد ارتكب ذنبا كبيرا.
قال الطبري: قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة، ففي مشيئة الله تعالى: إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى. وقال بعضهم: قد بيّن الله تعالى ذلك بقوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ، نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ فأعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر، ولا يغفرها لمن أتى الكبائر. والظاهر لدي هو قول الطبري.
وهذه الآية مخصصة لقوله تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا... :
اخرج ابن المنذر عن أبي مجلز قال: لما نزل قوله تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر ٣٩/ ٥٣]، قام النّبي صلّى الله عليه وسلّم على المنبر، فتلاها على الناس، فقام إليه رجل فقال: والشرك بالله، فسكت، ثم قام إليه فقال:
يا رسول الله، والشرك بالله تعالى، فسكت مرّتين أو ثلاثا، فنزلت هذه الآية.
أخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب قال: ما في القرآن آية أحبّ إليّ من هذه
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية على عظم جريمة الشرك، وأنه لا مغفرة له، وعلى فضل الله ورحمته بإمكان مغفرة بقية الذنوب لمن يشاء من عباده.
والشرك بالله قسمان:
١- شرك في الألوهية: وهو اتّخاذ شريك مع الله تعالى، وله سلطة وتدبير في الكون.
٢- وشرك في الربوبية: وهو جعل سلطة التشريع وتبيان أحكام الحلال والحرام لله ولغيره من البشر بغير الوحي، كما قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة ٩/ ٣١]، وقد فسّر النّبي صلّى الله عليه وسلّم اتّخاذهم أربابا بطاعتهم واتّباعهم في أحكام الحلال والحرام.
وفي الآية إيماء إلى اتّصاف أهل الكتاب بالشرك بتأليه العزير والمسيح، وبجعل الأحبار والرهبان أصحاب السلطة في التحليل والتحريم.
والسبب في شناعة الشرك: أنه كذب محض وافتراء صريح، وأنه وكر الخرافات والأباطيل، ومنه تنشأ سائر الجرائم التي تهدم حياة الأفراد ونظام الجماعات، ويتنافى مع رقي العقول، وطهارة النفوس، وصفاء الأرواح، ويحجب نور الإيمان الصحيح عن النفاذ إلى القلب.
أما التوحيد ففيه عزّة النفس، وتحرير الإنسان من العبودية لأحد من البشر أو لشيء في الكون، والسمو بالذات البشرية إلى عبادة الله والاتّكال عليه
ومن وسائل المغفرة المتروكة للبشر والمقيدة بالمشيئة الإلهية أيضا: الدعاء مع الإيمان والإخلاص والاستقامة وحسن الظّنّ بالله تعالى، وفعل الحسنات، لقوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود ١١/ ١١٤]، والتوبة الصادقة النّصوح التي حثّ عليها القرآن بعد التّفريط وارتكاب الذّنب جهلا.
نماذج أخرى من أعمال أهل الكتاب والجزاء عليها
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥)
أَلَمْ تَرَ استفهام يراد به التّعجب.
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ تعجب بلفظ الأمر، وعبر بفعل المضارع يَفْتَرُونَ عن الماضي للدلالة على الدوام والاستمرار.
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ وأَمْ يَحْسُدُونَ استفهام يراد به التوبيخ والتقريع.
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ مجاز مرسل في كلمة النَّاسَ يراد بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، من باب إطلاق العام على الخاص.
فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً تعريض بشدة بخلهم.
ويوجد جناس اشتقاق في يُؤْتُونَ... آتاهُمُ.
المفردات اللغوية:
يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ يمدحونها وهم اليهود الذين قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، وهو استفهام تعجبي أي ليس الأمر بتزكيتهم أنفسهم، قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى [النجم ٥٣/ ٣٢]، بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي يطهر من يريد بالإيمان وَلا يُظْلَمُونَ ينقصون من أعمالهم، والظلم: النقص وتجاوز الحد، فله جانبان: سلبي وإيجابي. فَتِيلًا قدر قشرة النواة، والأدقّ: هو ما يكون في شق نواة التمر مثل الخيط. وبه يضرب المثل في الشيء الحقير، كما يضرب بمثقال الذرة.
وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً أي ذنبا واضحا، والمراد به تعظيم الذّنب وذمّه. وقد يطلق الإثم على ما كان ضارّا.
بِالْجِبْتِ الرديء الذي لا خير فيه، والمراد به هنا الأصنام وما يتبعها من الأوهام والخرافات. وَالطَّاغُوتِ مصدر بمعنى الطغيان والجبروت، ويطلق على كل ما يعبد من دون الله، وعلى الشيطان. والجبت والطاغوت: صنمان لقريش.
نَقِيراً أي شيئا تافها قدر النقرة في ظهر النواة، ومنها تنبت النخلة، ويضرب بها المثل في القلة والحقارة، وهم لا يؤتون الناس نقيرا لفرط بخلهم.
سبب النزول:
نزول الآية (٤٩) :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال:
كانت اليهود يقدّمون صبيانهم يصلون بهم، ويقربون قربانهم، ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ.
وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك وغيرهم.
وقال الكلبي: نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأطفالهم وقالوا: يا محمد، هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ قال: لا، فقالوا: والذي نحلف به ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفّر عنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفّر عنا بالنهار، فهذا الذي زكّوا به أنفسهم.
وقال الحسن البصري وقتادة: نزلت هذه الآية وهي قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ في اليهود والنصارى حين قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة ٥/ ١٨]، وقالوا أيضا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة ٢/ ١١١].
نزول الآية (٥١) :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا: أخرج أحمد وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا المنصبر المنبتر
وأخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال: كان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة: حييّ بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق، وأبو رافع، والرّبيع بن أبي الحقيق، وأبو عمارة، وهوذة بن قيس، وكان سائرهم من بني النّضير، فلما قدموا على قريش قالوا:
هؤلاء أحبار يهود، أهل العلم بالكتب الأولى، فاسألوهم، أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا: دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه، وممن اتبعه، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ إلى قوله: مُلْكاً عَظِيماً.
نزول الآية (٥٤) :
أَمْ يَحْسُدُونَ..: أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: قال أهل الكتاب: زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، وليس همه إلا النكاح، فأي ملك أفضل من هذا، فأنزل الله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ الآية.
التفسير والبيان:
ألم تنظر إلى حال الذين يمدحون أنفسهم، ويدّعون ما ليس فيهم، ويقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه، ونحن شعب الله المختار، ولا تمسّهم النار مهما فعلوا إلا أياما معدودات، ولن يدخل الجنّة إلا من كان هودا أو نصارى، وإن
وقد ردّ الله دعواهم بأنه لا قيمة لتزكيتهم أنفسهم، فإن التزكية تكون بالعمل الصالح، لا بالادّعاء، والله هو الذي يزكي من يشاء من عباده بتوفيقه للعمل الصالح، وهدايته إلى العقيدة الصحيحة، والآداب الفاضلة.
ولا ينقص الله المزكين أنفسهم شيئا من جزاء عملهم.
ثم أكّد الله تعالى التعجب من حالهم بقوله: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي انظر كيف يكذبون على الله بتزكيتهم أنفسهم، وزعمهم أن لهم امتيازا على غيرهم.
وكفى بهذا الكذب والافتراء والتزكية للنفس إثما ظاهرا، فالله لا يخصّ شعبا بمعاملة خاصة أو امتياز، وكل ذلك غرور وأمنيات مزعومة، وجهل فاضح.
وانظر أيضا حال بعض أهل الكتاب الذين يجاملون المشركين، ويؤمنون بالأصنام والأوثان، وينصرون المشركين على المؤمنين بأنبيائهم وكتبهم، ويقولون: إن المشركين أرشد طريقة في الدّين من المؤمنين الذين صدقوا برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فهم حرموا هداية العقل والفطرة، وهدموا أساس دينهم، وتجاوزوا الحقّ، وأعلنوا الظلم، حينما نصروا الشرك والوثنية وتكذيب الله ورسوله على مبدأ التدين الصحيح والتصديق بالإله الحق.
وعاقبتهم أنهم مطرودون من رحمة الله وفضله، ومن يبعده الله من رحمته فلن يجد له نصيرا ينصره أبدا.
ثم وبّخهم الله على البخل والطمع في الملك آخر الزمان، فذكر أنه لا حظ لهم من الملك، لظلمهم وطغيانهم وبخلهم، وحبّهم أنفسهم دون غيرهم، فهم مطبوعون
ثم وبّخهم الله تعالى على الحسد الذي هو أسوأ من البخل، فهم يتمنون أن يكون الخير كله بأيديهم، ويريدون قصر فضل الله عليهم، ولا يحبّون أن يكون لأمة فضل مما لهم، فهم جماعة يحبون ذواتهم (أنانيّون) حاقدون حاسدون. لذا حسدوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم على ما آتاه الله من فضل النّبوة والعلم، وزعامة الدولة ورئاسة الحكم، وكثرة الأعوان والأنصار.
ثم بيّن الله تعالى ما يدفع ذلك الحسد، ويقلل من أهمية الأشياء التي حسدوا عليها محمدا، فهم إن يحسدوه على ما أوتي، فقد أخطئوا إذ له نظائر وأمثال كثيرة وهي أنه تعالى آتى مثل هذا لآل إبراهيم، والعرب منهم لأنهم من ذرية ولده إسماعيل، وآتاهم الله الكتاب الإلهي المشتمل على تشريع الأحكام، والحكمة التي هي فهم أسرار التشريع، والملك العظيم في أبنائه وذريته.
وفي هذا إشارة إلى أنه سيكون للمسلمين بزعامة نبيّهم ملك عظيم، بالإضافة إلى النّبوة والقرآن والحكمة، وقد بدأت تباشير القوة في المدينة شيئا فشيئا.
والخلاصة: إن اليهود قوم مغرورون مخدوعون يظنون أن فضل الله مقصور عليهم، ورحمته لا تتعداهم، ولا يستحقها غيرهم، وهم واهمون سطحيون يحسبون أن ملك الدنيا بأيديهم، وحاسدون العرب على ظهور نبي آخر الزمان فيهم، وعلى ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة.
وأولئك الأنبياء المتقدمون كإبراهيم وذريته بالرغم من اختصاصهم بالنّبوة وإيتائهم الملك، لم تؤمن أممهم جميعا برسالتهم، بل منهم من آمن بهم، ومنهم من
وإن لم يصبهم عذاب في الدنيا، فكفاهم عذاب جهنم في النار المسعّرة الشديدة اللظى، وبئس المصير، ولكن ذلك بسبب اتّباعهم الباطل وإعراضهم عن الحق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- المنع من تزكية الإنسان نفسه: فإن المزكّي نفسه بلسانه يغضّ من قدر نفسه، ولا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له، وقد نهى الله صراحة عن ذلك بقوله: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى [النجم ٥٣/ ٣٢]. وكذلك نهى النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك،
جاء في صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمّيت ابنتي برّة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن هذا الاسم، وسمّيت برّة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزكّوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البرّ منكم» فقالوا: بم نسمّيها؟ فقال: «سمّوها زينب».
وكذلك نهى النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإفراط في مدح الرجل بما ليس فيه، فيدخله بسببه الإعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة، فيحمله ذلك على تضييع العمل، وترك الازدياد من الفضل.
ثبت في البخاري من حديث أبي بكرة أنّ رجلا ذكر عند النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فأثنى عليه رجل خيرا، فقال
وفي حديث آخر: «قطعتم ظهر الرجل»
حين وصفوه بما ليس فيه.
وعلى هذا تأوّل العلماء
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: «احثوا التراب في وجوه المدّاحين»
: أن المراد بهم المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يفتنون به الممدوح.
أما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود، ليكون منه ترغيبا له في أمثاله، وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه، فليس بمدّاح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه. وهذا راجع إلى النّيّات، وقال الله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة ٢/ ٢٢٠]. وقد مدح صلّى الله عليه وسلّم في الشعر والخطب والمخاطبة، ولم يحث في وجوه المدّاحين التراب، ولا أمر بذلك، كقول أبي طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه | ثمال اليتامى، عصمة للأرامل |
ومدح هو أيضا أصحابه
فقال: «إنكم لتقلّون عند الطمع، وتكثرون عند الفزع».
وأما
قوله صلّى الله عليه وسلّم في صحيح الحديث: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وقولوا: عبد الله ورسوله»
فمعناه لا تصفوني بما ليس فيّ من الصفات، تلتمسون بذلك مدحي، كما وصف النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله، فكفروا بذلك وضلّوا.
٢- ترفع الله عن الظلم: لقوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا والفتيل:
الخيط الذي في شقّ نواة التمرة. وقيل: القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة. وهو كناية عن تحقير الشيء وتصغيره، ومثله قوله تعالى:
وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [النساء ٤/ ١٢٤] وهي النكتة التي في ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة.
٣- افتراء اليهود الكذب على الله: في قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة ٥/ ١٨]، وقيل: تزكيتهم لأنفسهم،
وروي أنهم قالوا: ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد.
ومن المتفق عليه أن المراد بالآية: يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ: اليهود. والافتراء: الاختلاق.
٤- الخلط في عقيدة اليهود: بالرغم من أن اليهود يؤمنون بالإله وعندهم كتاب سماوي، يؤمنون أيضا بالجبت والطاغوت أي بالأصنام والأوثان. وهذا ما أعلنه بعض عظمائهم: كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب، بدليل:
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النساء ٤/ ٦٠] ويقولون لكفار قريش:
أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد، كما تقدّم في سبب النزول.
٥- زوال الملك والسلطة عن اليهود: أنكر الله تعالى وجود السلطة والملك على اليهود في ذلك الزمان، فقال: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ؟ أي ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا، لبخلهم وحسدهم.
٦- البخل والحسد أسوأ أخلاق اليهود: أخبر الله تعالى عن اليهود بهاتين الصفتين الذميمتين وهما البخل والحسد: الأول في قوله سبحانه: فَإِذاً لا يُؤْتُونَ
أي يمنعون الحقوق، وهو خبر من الله عزّ وجلّ بما يعلمه منهم.
والنقير: النكتة في ظهر النواة.
وأخبر عزّ وجلّ أيضا عنهم أنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، والمراد بالناس في رأي ابن عباس ومجاهد وغيرهما: النّبي صلّى الله عليه وسلّم، حسدوه على النّبوة، كما حسدوا أصحابه على الإيمان به. وقال قتادة: الناس: العرب، حسدتهم اليهود على النّبوة. وقال الضّحّاك: حسدت اليهود قريشا لأن النّبوة فيهم. والأقوال كلها متقاربة.
والحسد مذموم، وصاحبه مغموم،
وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، كما رواه ابن ماجه عن أنس عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
٧- نعم الله وأفضاله على آل إبراهيم: أخبر الله تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما. قال همام بن الحارث: أيّدوا بالملائكة. وقيل عن ابن عباس: يعني ملك سليمان، وكان لداود تسع وتسعون امرأة، ولسليمان أكثر من ذلك.
واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء.
والمراد تكذيب اليهود والرّدّ عليهم في قولهم: لو كان نبيّا ما رغب في كثرة النّساء، ولشغلته النّبوة عن ذلك فأخبر تعالى بما كان لداود وسليمان يوبّخهم، فأقرّت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة،
فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألف امرأة؟!»، قالوا: نعم، ثلاثمائة مهريّة، وسبعمائة سرّية «١»، وعند داود مائة امرأة. فقال لهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألف عند رجل، ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة؟» فسكتوا.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)
الإعراب:
خالِدِينَ حال منصوب من ضمير سَنُدْخِلُهُمْ. أَبَداً ظرف زمان منصوب.
لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مبتدأ وخبر، والجملة حالية، أو استئنافية.
البلاغة:
يوجد طباق بين آمَنُوا... وكَفَرُوا.
ويوجد جناس اشتقاق في ظِلًّا ظَلِيلًا.
لِيَذُوقُوا الْعَذابَ استعارة، أستعير لفظ الذوق الذي يكون باللسان، إلى الألم الذي يصيب الإنسان، وله صفة الدوام وعدم الانقطاع.
المفردات اللغوية:
كَفَرُوا أنكروا وغفلوا عن النظر في آيات الله، وشككوا فيها مع العلم بصحّتها.
بِآياتِنا أي بالأدلّة التي ترشد أن هذا الدّين حق، ومن أجلّها القرآن.
نُصْلِيهِمْ نشويهم أو ندخلهم. نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ احترقت وتلاشت. بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بأن تعاد إلى حالها الأولى غير محترقة. لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ليقاسوا شدّته.
عَزِيزاً غالبا قادرا لا يعجزه شيء. حَكِيماً في خلقه، يضع الشيء في موضعه المناسب، أو
المناسبة:
هذا جزاء الفريقين: المؤمنين والكفار، الذين أشارت إليهم الآية السابقة بأن بعض الناس صدّق بالأنبياء، وبعضهم الآخر أعرض عن اتّباع الحق.
التفسير والبيان:
إن الذين كفروا بآياتنا المنزلة على أنبيائنا، وبخاصة القرآن الذي هو خاتم الكتب الإلهية وأكملها وأبينها، سوف نحرقهم بالنار، ثم أخبر الله تعالى عن دوام عقوبتهم ونكالهم فقال: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أي كلما احترقت جلودهم، حتى لم تعد صالحة لنقل الإحساس بالألم إلى الدماغ في مركز الشعور، بدّلناهم جلودا أخرى حيّة تشعر بالألم وتحسّ بالعذاب،
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تبدّل جلودهم كلّ يوم سبع مرات».
والسبب هو أن يذوقوا العذاب، أي يدوم لهم ذوقه ولا ينقطع، كقولك للعزيز: أعزّك الله، أي أدامك على عزك وزادك فيه، وهذا مثل قوله تعالى:
كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء ١٧/ ٩٧].
ثم أكّد الله تعالى علّة العقاب وبيّن مدى القدرة عليه، فذكر أنه تعالى عزيز قادر لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين، حكيم لا يعذب إلا بعدل، ولا يعاقب إلا على وفق الحكمة. ومن مقتضيات العدل: أن الكفر والمعاصي سبب للعذاب أو العقاب، وأن الإيمان والعمل الصالح سبب للنعيم والجنة، فلكل عمل ما يناسبه، لذا قرن ثواب المؤمن بجزاء الكافر، لإظهار الفرق بينهما.
ولهم أزواج بريئات من العيوب الجسدية والخلقية أو الطباع الرّدية، فليس فيهنّ ما يعكر المزاج، أو يكدر الصّفو. ونجعلهم في مكان ممتع ظليل لا حرّ فيه ولا برد، وتلك نعمة كاملة، ورفاهية تامة.
ويلاحظ الفرق بين التعبير عن جزاء الكافرين بسوف وعن ثواب المؤمنين بالسين، ليفيد تحقق الثواب بسرعة ويقين، ويبيّن بعد العقاب المنتظر للكافرين لأنهم في أهوال المحشر ربّما كانوا في عذاب أشد من عذاب النّار.
فقه الحياة أو الأحكام:
هاتان الآيتان تعقدان مقارنة واضحة بين مصير الفريقين: فريق الكافرين وفريق المؤمنين.
أما الكافرون: فعذابهم محقق، والعذاب: هو تعذيب الأبدان وإيلام الأرواح. فإن قيل: كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه؟ قيل له: ليس الجلد بمعذّب ولا معاقب، وإنما العذاب للجملة الحساسة وهي التي عصت، لا للجلد، والألم واقع على النفوس لأنها هي التي تحس وتعرف، فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس. ولو أراد الجلود لقال: ليذقن العذاب.
وتبديل الجلود: أن تأكله النار كل يوم سبع مرات، كما قال مقاتل. أو سبعين مرة كما قال الحسن البصري، أو سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم قيل لهم:
عودوا، فعادوا كما كانوا.
وأما المؤمنون: فثوابهم محقق أيضا ومقطوع به يقينا، له مظاهر عديدة، منها التمتع بجنان الخلد، والتزوج بالحور العين، والاستظلال بظلّ كثيف لا شمس فيه، ولا يدخله ما يدخل ظلّ الدّنيا من الحرّ والسّموم «١» ونحو ذلك.
منهاج الحكم الإسلامي أداء الأمانات والحقوق إلى أهلها والحكم بالعدل وإطاعة الله والرسول وولاة الأمور
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)
الإعراب:
أَنْ تُؤَدُّوا وأَنْ تَحْكُمُوا في موضع نصب لأن التقدير: بأن تؤدوا وبأن تحكموا، فلما حذف حرف الجر، اتصل الفعل به، فاستحق النصب.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ إيراد الأمر بصيغة الإخبار وتأكيده ب إِنَّ للتفخيم وتأكيد وجوب العناية والامتثال وتكرار الاسم الجليل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ، إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً لغرس المهابة في النفس.
المفردات اللغوية:
الْأَماناتِ جمع أمانة: وهي ما يؤتمن الشخص عليه، وفي عرف الناس: هي كل ما أخذته بإذن صاحبه. وتعمّ جميع الحقوق المتعلّقة بالذّمة، لله أو للناس أو لنفسه، ويسمى حافظها أمينا وحفيظا ووفيّا، ومن لا يحفظها ولا يؤدّيها خائنا.
بِالْعَدْلِ إيصال الحق إلى صاحبه من أقرب طريق. نِعِمَّا فيه إدغام ميم «نعم» في «ما» النكرة الموصوفة أي نعم الشيء يَعِظُكُمْ بِهِ تأدية الأمانة والحكم بالعدل. تَأْوِيلًا مآلا وعاقبة.
سبب النزول:
نزول الآية (٥٨) :
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ:
عن ابن عباس قال: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، دعا عثمان بن طلحة، فلما أتاه قال: أرني المفتاح، فأتاه به، فلما بسط يده إليه، قام العباس، فقال: بأبي أنت وأمي، اجمعه لي مع السقاية، فكفّ عثمان يده، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هات المفتاح يا عثمان، فقال: هاك بأمانة الله، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل بردّ المفتاح، فدعا عثمان بن طلحة، فأعطاه المفتاح، ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها حتى فرغ من الآية.
وأخرج شعبة في تفسيره عن حجاج عن ابن جريج قال: نزلت هذه الآية في عثمان بن طلحة، أخذ منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مفتاح الكعبة، فدخل به البيت يوم الفتح، فخرج، وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فناوله المفتاح.
قال:
، قلت: ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة.
نزول الآية (٥٩) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا..:
روى البخاري عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن حذافة بن قيس، إذ بعثه النّبي صلّى الله عليه وسلّم في سرية.
قال الداودي: هذا وهم يعني الافتراء على ابن عباس، فإن عبد الله بن حذافة خرج على جيش فغضب، فأوقد نارا، وقال: اقتحموا، فامتنع بعض، وهمّ بعض أن يفعل، قال: فإن كانت الآية نزلت قبل، فكيف يخصّ عبد الله بن حذافة بالطاعة دون غيره، وإن كانت نزلت بعد، فإنما قيل لهم:
«إنما الطاعة في المعروف» وما قيل لهم: لم لم تطيعوه؟
وأجاب الحافظ ابن حجر بأن المقصود من قصته: فإن تنازعتم في شيء، فإنهم تنازعوا في امتثال الأمر بالطاعة والتوقف، فرارا من النار، فتناسب أن ينزل في ذلك ما يرشدهم إلى ما يفعلونه عند التنازع، وهو الرد إلى الله والرسول.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى ثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ذكر بعض تلك الأعمال وأجلّها وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس وإطاعة الله والرسول وأولي الأمر.
التفسير والبيان:
إن السبب الخاص الذي نزلت آية أداء الأمانات من أجله لا يخصص عموم اللفظ، وإنما العبرة عادة في كل آي القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي
فرعاية الأمانة في حقوق الله: امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، واستعمال مشاعره وأعضائه فيما يقربه من ربه.
ذكر أبو نعيم في الحلية حديثا مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلها» أو قال: «كل شيء إلا الأمانة»
والأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشد ذلك الودائع. وقال جمع من الصحابة (ابن مسعود والبراء بن عازب وابن عباس وأبي بن كعب) : الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع. وقال ابن عباس: لم يرخص الله لمعسر ولا موسر أن يمسك الأمانة. وقال ابن عمر: خلق الله فرج الإنسان، وقال: هذا أمانة خبأتها عندك، فاحفظها إلا بحقها.
ورعاية الأمانة في حق النفس: ألا يفعل الإنسان إلا ما ينفعه في الدين والدنيا والآخرة، وأ لا يقدم على عمل يضره في آخرته أو دنياه، ويتوقى أسباب المرض، ويعمل بقواعد علم الصحة،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»
وقوله في الحديث الصحيح: «إن لنفسك عليك حقا».
ورعاية الأمانة في حق الآخرين: رد الودائع والعواري، وعدم الغش في المعاملات، والجهاد والنصيحة، وعدم إفشاء أسرار الناس وعيوبهم.
ووردت آيات وأحاديث كثيرة في حفظ الأمانة، منها قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب ٣٣/ ٧٢]. ومنها: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ
[المؤمنون ٢٣/ ٨] ومنها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ [الأنفال ٨/ ٢٧].
وقال صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه أحمد وابن حبان عن أنس-: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»
وقال أيضا فيما رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».
وأداء الأمانات واجب، ولا سيما عند طلبها من صاحبها، ومن لم يؤدها في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة،
كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فيما رواه أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجمّاء من القرناء».
وإذا هلكت الأمانة أو ضاعت أو سرقت، فإن كان ذلك بتعد أو تقصير أو إهمال ضمنت، وإلا فلا تضمن.
وبعد استقرار الأمانات يأتي دور الحكم بالعدل بين الناس، لذا أمر الله تعالى به، فالأمانة هي أساس الحكم الإسلامي، والعدل هو الأساس الثاني، والمخاطب بالأمرين هم جمهور الأمة.
والعدل: أساس الملك، وأمر تقتضيه الحضارة والعمران والتقدم، وتشيد به كل العقول، وأصل من أصول الحكم في الإسلام، ولا بد للمجتمع منه حتى يأخذ الضعيف حقه، ولا يبغي القوي على الضعيف، ويستتب الأمن والنظام، وأجمعت الشرائع السماوية على وجوب إقامة العدل، فعلى الحاكم وأتباعه من الولاة والموظفين والقضاة التزام العدل، حتى تصل الحقوق لأهلها، وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة في الأمر بالعدل، منها قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل ١٦/ ٩٠] ومنها: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى
كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ، شُهَداءَ بِالْقِسْطِ [المائدة ٥/ ٨] وأمر الله به داود:
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص ٣٨/ ٢٦].
وروى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال هذه الأمة بخير، ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استرحمت رحمت».
وندد الله تعالى بالظلم والظالمين في آيات عديدة منها: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم ١٤/ ٤٢] ومنها: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات ٣٧/ ٢٢]. ومن أخطر أنواع الظلم: الحكم بغير ما أنزل الله، وظلم الحكام: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النمل ٢٧/ ٥٢] وظلم القضاة.
وتحاشي الظلم من القاضي يكون بفهم الدعوى أولا، ثم عدم التحيز إلى أحد الخصمين، ومعرفة حكم الله، وتولية الأكفاء.
وفي قوله تعالى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ إشارة إلى أنه لا بد من إقامة حاكم يحكم بين الناس بالحق.
ثم بيّن الله تعالى فائدة الأمر بالعدل وأداء الأمانة، فقال: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي نعم الشيء الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوف يرجع إلى المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل.
إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً يبصر ما يحدث منكم من أداء الأمانة وخيانتها، ويسمع ما يكون من حكمكم بين الناس، فيحاسبكم ويجازيكم، فهو أعلم بالمسموعات والمبصرات.
ثم أمر الله تعالى بما يدعو إلى أداء الأمانة والتزام العدل وهو الأساس الثالث للحكم الإسلامي، وهو إطاعة الله بتنفيذ أحكامه، وإطاعة الرسول المبيّن حكم ربه، وإطاعة ولاة الأمور.
وذهب الشيعة الإمامية إلى أنهم الأئمة المعصومون.
والظاهر إرادة الجميع، فتجب طاعة الحكام والولاة في السياسة وقيادة الجيوش وإدارة البلاد، وتجب إطاعة العلماء في بيان أحكام الشرع، وتعليم الناس الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال ابن العربي: والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم.
وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب «١».
ويرى الفخر الرازي أن المراد من أولي الأمر: أهل الحل والعقد، ليستدل بالآية على حجية الإجماع الصادر من العلماء.
فإن حدث تنازع واختلاف بينكم وبين أولي الأمر منكم في شيء من أمور الدين، ولم يوجد نص في القرآن ولا في السنة، يرد الأمر المتنازع فيه إلى القواعد العامة المقررة في القرآن والسنة، فيؤخذ بما يوافقهما، ويرد ما يخالفهما، وهذا ما يسمى في علم أصول الفقه بالقياس.
وقد أقر النبي صلّى الله عليه وسلّم العمل بالقياس، فحينما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قاضيا قال له: كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله؟ قال: أقضي بسنة نبي الله، قال: فإن لم يكن في كتاب الله وسنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو. قال: فضرب رسول الله على صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله».
(٢) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن عدي والطبراني والدارمي والبيهقي.
وردوا الشيء المتنازع فيه إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فإن المؤمن لا يقدم شيئا على حكم الله، كما أنه يقصد الآخرة ورضوان الله أكثر من حرصه على الدنيا. وهذا وعيد من الله لكل من حاد عن طاعة الله ورسوله، والرد إليهما عند الاختلاف، وهو في معنى قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء ٤/ ٦٥]
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع أميري فقد أطاعني، ومن يعص أميري فقد عصاني».
ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا إشارة إلى ما أمروا به من طاعة الله ورسوله والرد إليهما عند التنازع، وذلك أحسن تأويلا أي مآلا وعاقبة.
فقه الحياة أو الأحكام:
آية الأمانة والعدل من أمهات آيات الأحكام التي تضمنت جميع الدين والشرع. والأظهر أن الآية خطاب عام لجميع الناس، فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات، والعدل في الأقضية.
وهي تدل على أساسين من أسس الحكم في الإسلام، ويتبع الأفراد الحكام:
الأول- أداء الأمانات إلى أهلها. أما الوديعة فلا يلزم أداؤها حتى تطلب.
وأما اللقطة فتعرّف سنة ثم تستهلك وتضمن إن جاء صاحبها، والأفضل أن يتصدق بها. وأما المأجور والعارية فيلزم ردهما إلى صاحبهما بعد انقضاء عمله، قبل أن يطلبهما، وأما الرهن فلا يلزم فيه أداء حتى يؤدى إلى الدائن دينه.
والخطاب في الحكمين كما أوضحت للولاة والأمراء والحكام، ويدخل معهم جميع الخلق.
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه مسلم والنسائي عن عبد الله بن عمرو: «إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا»
وقال أيضا: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسئولة عنه، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته» «١».
فجعل النبي في هذه الأحاديث الصحيحة كلّ هؤلاء رعاة وحكّاما على مراتبهم، وكذلك العالم الحاكم لأنه إذا أفتى، حكم وقضى، وفصل بين الحلال والحرام، والفرض والندب، والصحة والفساد، فجميع ذلك أمانة تؤدى، وحكم يقضى.
والله تعالى سميع وبصير، يسمع ويرى، كما قال تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه ٢٠/ ٤٦] يسمع الأحكام الصادرة فيجازي بها، ويبصر وقائع أداء الأمانات وخيانتها، فيحاسب عليها.
ولما أمر الله الولاة والحكام بأداء الأمانات والحكم بين الناس بالعدل، أمر الرعية بطاعته عز وجل أولا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثا، لكن تجب طاعة الأمراء أو السلطان فيما فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية.
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك، وجب على المسلمين أن يطيعوه لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته.
فإن حدث التنازع بين الأمة وبين الأمراء، رد الحكم إلى كتاب الله، أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم، وذلك نظير قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء ٤/ ٨٣] وقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النور ٢٤/ ٦٣] ومدعاة ذلك: الإيمان بالله وباليوم الآخر، وعاقبة الرجوع إلى القرآن والسنة ومآله أو مرجعه هو خير من التنازع.
واستنبط العلماء من هذه الآية أن مصادر التشريع الأصلية أربعة وهي:
الكتاب والسنة والإجماع والقياس لأن الأحكام إما منصوصة في كتاب أو سنة، وذلك قوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ والسنة: هي ما أثر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل أو تقرير، وإما مجمع عليها من أهل الحل والعقد من الأمة بعد استنادهم إلى دليل شرعي اعتمدوا عليه، وذلك قوله: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وإما غير منصوصة ولا مجمع عليها، وهذه سبيلها الاجتهاد والقياس: وهو عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد العامة في الكتاب والسنة، وذلك قوله:
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ.
وأما المصادر التبعية الأخرى كالاستحسان الذي يقول به الحنفية، والمصالح المرسلة التي يقول بها المالكية، والاستصحاب الذي يقول به الشافعية، فهي في الحقيقة راجعة إلى المصادر الأربعة الأصلية.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٠ الى ٦٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣)
الإعراب:
يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً صدودا: منصوب انتصاب المصادر، وهو اسم أقيم مقام المصدر، والمصدر في الحقيقة: هو الصدّ.
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ استفهام يراد به التعجب.
ويوجد جناس مغاير في يُضِلَّهُمْ ضَلالًا وفي قُلْ لَهُمْ | قَوْلًا وفي يَصُدُّونَ.. |
المفردات اللغوية:
يَزْعُمُونَ الزعم: القول حقا كان أو باطلا، ثم كثر استعماله في الكذب. الطَّاغُوتِ
سبب النزول: نزول الآية (٦٠) :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ: أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه أناس من أسلم، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا إلى قوله: إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان الجلاس بن الصامت ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد، وبشر يدّعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعوهم إلى الكهان: حكام الجاهلية، فأنزل الله فيهم: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية.
وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك، أو قال إلى النبي لأنه علم أنه لا يأخذ الرشوة في الحكم، فاختلفا واتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة، فنزلت.
وقال الكلبي عن ابن عباس: نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله تعالى الطاغوت، فأبى اليهودي إلا أن
فأقبلا إلى عمر، فقال اليهودي: اختصمنا أنا وهذا إلى محمد، فقضى عليه، فلم يرض بقضائه، وزعم أنه مخاصم إليك، وتعلق بي، فجئت إليك معه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، فقال لهما: رويدا حتى أخرج إليكما، فدخل عمر وأخذ السيف فاشتمل عليه، ثم خرج إليهما، وضرب به المنافق حتى برد (مات) وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله، وهرب اليهودي، ونزلت هذه الآية، وقال جبريل عليه السلام: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمي الفاروق «١».
والخلاصة: اختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي.
المناسبة:
بعد الأمر الإلهي السابق بطاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر، كشف الله عن موقف المنافقين الذين لا يطيعون الرسول، ولا يرضون بحكمه، بل يريدون حكم غيره كالكاهن أبي برزة الأسلمي أو الطاغية كعب بن الأشرف.
التفسير والبيان:
هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، كما ذكر في سبب النزول. والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا.
هؤلاء المنافقون إذ لم يقبلوا التحاكم إلى النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتحاكموا إلى الطاغوت والضلال من الكهنة كأبي برزة الأسلمي، أو اليهود مثل كعب بن الأشرف الذي سمي طاغوتا لإفراطه في الطغيان وعداوة النبي صلّى الله عليه وسلّم والتأليب عليه والبعد عن الحق، مع أنهم أمروا في القرآن أن يكفروا بالطاغوت ويجتنبوه، إنهم إذ لم يقبلوا ذلك، دل على عدم إيمانهم، فألسنتهم تدعي الإيمان بالله وبما أنزله على رسوله، وأفعالهم تدل على الكفر بهما، وإيمانهم بالطاغوت وإيثارهم حكمه، وهذا دليل الخروج عن الإسلام.
ومن أوامر القرآن بالكفر بالطاغوت قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦] وقوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ، وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [البقرة ٢/ ٢٥٦].
وهم بفعلهم ذلك كانوا تلامذة الشيطان، ويريد الشيطان أن يضلهم ويبعدهم عن الحق مسافة بعيدة، حتى لا يهتدوا إلى طريق الحق أصلا.
والدليل على ذلك أنه إذا قيل لأولئك الزاعمين الإيمان: تعالوا نحتكم إلى ما أنزل الله في القرآن وإلى الرسول، فهو الصراط القويم، رأيت هؤلاء المنافقين يعرضون عنك يا محمد وعن دعوتك، ويرغبون عن حكمك، بكل إصرار وعناد وتعمد للصدود. وهذه الآية مؤكدة لما سبق من تحاكمهم إلى الطاغوت وأصحاب الأهواء والجهلة، فمن أعرض عن حكم الله متعمدا، كان منافقا بلا شك.
وكيف يكون حال هؤلاء المنافقين إذا أطلعك الله على شأنهم في إعراضهم عن حكم الله وعن التحاكم إليك، ووقعوا في مصاب أو عقوبة بسبب ذنوبهم وما قدمت
وهذا وعيد شديد على ما فعلوا، وأنهم يندمون حين لا ينفع الندم. ونظير ذلك:
وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى [التوبة ٩/ ١٠٧].
هذا النوع من الناس وهم المنافقون الله يعلم ما في قلوبهم، وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، وهو عالم بظواهرهم وبواطنهم، فأعرض عنهم أي لا تأبه بهم ولا تعنفهم على ما في قلوبهم، وعظهم أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، وأنصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.
وقوله: أُولئِكَ... يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ أسلوب يستعمل فيما يعظم من خير أو شر، فمقدار ما في قلوبهم من كفر وحقد ومكر وكيد بلغ حدا لا يحيط به إلا من يعلم السر وأخفى.
وقوله: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَعِظْهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً يدل على كيفية معاملتهم بثلاثة أحوال: الإعراض عنهم، والنصح والتذكير بالخير لترق قلوبهم، والقول البليغ المؤثر في النفس بالترغيب تارة وبتخويفهم بالقتل إن ظهر منهم النفاق تارة أخرى.
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- من ردّ شيئا من أوامر الله أو أوامر الرسول فهو كافر خارج عن الإسلام، لذا حكم الصحابة بردّة مانعي الزكاة. وكذا كل من اتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحكم فهو كافر. ودلت القصة في سبب النزول على تحاكم اليهودي مع المسلم عند حاكم الإسلام.
٢- الواجب على المسلمين تنفيذ الحكم المنصوص عليه في القرآن أو السنة النبوية الثابتة، ورد كل ما يعارضهما من فتاوى وأقضية وأحكام، وأما ما لا حكم فيه بالوحي، فيعمل برأي المجتهدين المستنبط من قواعد الشريعة العامة، المتفق مع المصلحة العامة.
٣- من أعرض عن حكم الله عمدا أو حكم رسوله، كان منافقا لا صلة له بالإسلام، وكان نزول الآيات تأييدا لفعل عمر الذي نزل جبريل في شأنه، فقال: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمّي الفاروق.
٤- سيندم المنافقون حين لا ينفعهم الندم، ويعتذرون ولا يقبل عذرهم.
٥- لا يحسد المنافقون على موقفهم المخزي إذ أنهم مفضوح أمرهم من قبل الله الذي لا تخفى عليه خافية، لذا قال الله تعالى مكذبا لهم: أُولئِكَ... يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ قال الزجّاج: معناه: قد علم الله أنهم منافقون. والفائدة لنا:
اعلموا أنهم منافقون.
٦- وسائل إمكان إصلاح المنافقين ثلاث:
أ- الإعراض عنهم وعن عقابهم وعن قبول اعتذارهم وعن تلقيهم بالبشاشة والتكريم.
ج- الزجر بأبلغ الزجر بالقول المؤثر البليغ في السر والعلن عن طريق التوعد بالقتل والاستئصال إن استمروا في نفاقهم، وإخبارهم بأن ما يضمرونه من نفاق غير خاف على من يعلم السر وأخفى، وأنهم كالكفار، بل أشد منهم كفرا، وعقابهم في الدرك الأسفل من النار.
فرضية طاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)
الإعراب:
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ تقديره: فلا يؤمنون، وربك لا يؤمنون، فأخبر أولا وكرره بالقسم ثانيا، فاستغنى بذكر الفعل في الثاني عن ذكره في الأول.
البلاغة:
وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ فيه التفات عن الخطاب: «واستغفرت لهم» إلى الغيبة:
فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ استعارة لأنه استعار ما تشابك من الشجر وهو أمر محسوس إلى التنازع أو الاختلاف القائم بينهم وهو معنى معقول.
المفردات اللغوية:
بِإِذْنِ اللَّهِ بأمره، لا ليعصى، وإذن الله: إعلامه بالوحي. إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بتحاكمهم إلى الطاغوت وغير ذلك من ألوان الظلم جاؤُكَ تائبين فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ أي طلبوا مغفرته وندموا على ما فعلوا وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ أي دعا الله أن يغفر لهم، فيه التفات عن الخطاب تفحيما لشأنه تَوَّاباً عليهم رَحِيماً بهم. يُحَكِّمُوكَ يجعلوك حكما ويفوضوا الأمر إليك شَجَرَ اختلط الأمر فيه واختلف حَرَجاً ضيقا أو شكا قَضَيْتَ حكمت به وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ينقادوا ويذعنوا من غير معارضة.
سبب النزول: نزول الآية (٦٥) :
فَلا وَرَبِّكَ:
أخرج الأئمة الستة عن عبد الله بن الزبير، قال: خاصم الزبير رجلا من الأنصار في شراج الحرّة «١»، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: يا رسول الله أن «٢» كان ابن عمتك! فتلون وجهه، ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر (ما رفع حول المزرعة كالجدار) ثم أرسل الماء إلى جارك.
واستوعب للزبير حقه، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة.
قال الزبير: ما أحسب هذه الآيات إلا نزلت في ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ.
(٢) أي لأن. أو بمد الهمزة على جهة الإنكار «آن».
المناسبة:
كانت الآيات السابقة تنديدا بموقف المنافقين الذين أعرضوا عن التحاكم إلى الرسول وآثروا عليه التحاكم إلى الطاغوت، وهنا أراد الله تعالى تقرير مبدأ عام وهو فرضية طاعة الرسول بل وكل رسول مرسل.
التفسير والبيان:
وما أرسلنا من رسول إلا وقد فرضنا طاعته على من أرسله إليهم، وتلك الطاعة مفروضة بأمر الله وإذنه، وعليهم أن يتبعوه لأنه مؤد عن الله، فطاعته طاعة الله، ومعصيته معصية الله، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن يعص الرسول فقد عصى الله.
والمراد بقوله: بِإِذْنِ اللَّهِ أي بسبب إذن الله في طاعته، ويجوز أن يراد: بتيسير الله وتوفيقه في طاعته، قال مجاهد: أي لا يطيع أحد إلا بإذني، والمراد لا يطيعه إلا من وفقته لذلك، كقوله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران ٣/ ١٥٢] أي عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم.
ثم يرشد الله تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إن فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم، ولهذا قال: لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً أي لعلموه توابا، أي لتاب عليهم.
وقد سمى الله سبحانه ترك طاعة الرسول ظلما للأنفس، أي إفسادا لها.
ثم أكد الله تعالى وجوب طاعة الرسول بقسم عظيم نفى فيه الإيمان عمن لم يقبل قبولا تاما مع الرضا القلبي حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم.
فأقسم تعالى بربوبيته لرسوله بأن الذين رغبوا عن التحاكم إليك من المنافقين لا يؤمنون إيمانا حقا إلا بتوافر ثلاث صفات:
١- أن يحكّموا الرسول في قضايا المنازعات التي يختلفون فيها، فلا يؤمن أحد حتى يحكّم الرسول صلّى الله عليه وسلّم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا.
٢- ألا يجدوا حرجا أي ضيقا وشكا فيما يحكم به: بأن تذعن نفوسهم لقضائه وحكمه، مع الرضا التام، والقبول المطلق، وعدم الامتعاض.
٣- الانقياد التام والتسليم الكلي للحكم في الظاهر والباطن، من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. ويدخل هذا في مرحلة التنفيذ، فقد يرى الشخص أن الحكم حق، لكنه يتهرب من تنفيذه.
ورد في الحديث الصحيح: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يأتي:
١- وجوب الطاعة التامة لأوامر الرسول ونواهيه وأقضيته وأحكامه.
٣- استغفار الرسول لبعض المذنبين شفاعة مستجابة من الله تعالى.
٤- الرضوخ التام لأقضية الرسول واعتقاد عدالتها وأحقيتها مع الانصياع للحكم القضائي في التنفيذ شرط جوهري لصحة إيمان المؤمنين. وأمارة ذلك:
تحكيمه في الخلافات، وعدم التبرم بحكمه، والانقياد التام لقضائه.
٥- عصمة النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الخطأ في الأحكام القضائية كعصمته في تبليغ الوحي الإلهي، فهو لا يحكم إلا بالحق بحسب الظاهر له، لا بحسب الواقع، والله يتولى السرائر.
٦- المراد بهذه الآية كما قال مجاهد وغيره: من تقدم ذكره في الآية السابقة ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت، وفيهم نزلت. قال الطبري: قوله: فَلا ردّ على من تقدم ذكره، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله: وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ.
وأما على رأي من قال: نزلت في الزبير مع الأنصاري في خصومة في سقي بستان، فلا يوصف الأنصاري بالوصف المقرر آنفا وهو: كل من اتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الحكم فهو كافر، لأن الأنصاري زلّ زلّة، فأعرض عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأقال عثرته، لعلمه بصحة يقينه، وأنها كانت فلتة، وليست لأحد بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكل من لم يرض بحكم الحاكم بعده، فهو عاص آثم «١».
ويلاحظ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قضى للزبير بالحق لأن الأعلى يسقي قبل الأسفل، ولكنه
قال له أولا: «اسق يا زبير»
لقربه من الماء
«ثم أرسل الماء إلى
ومعناه: تساهل في حقك، ولا تستوفه، وعجّل في إرسال الماء إلى جارك، فحضّه على المسامحة والتيسير، فلما سمع الأنصاري هذا، لم يرض بذلك وغضب لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلا، فنطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال: «آن كان ابن عمتك؟» بمد همزة «أن» المفتوحة على جهة الإنكار، أي أتحكم له عليّ لأجل أنه قرابتك؟ فعند ذلك تلوّن وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم غضبا عليه، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له «١».
وصفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل: أن يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في بستانه، ويسقي به، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط (البستان) إلى الكعبين (الجذور) من القائم فيه، أغلق مدخل الماء، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه، فيصنع به مثل ذلك، حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط.
ويؤيده
ما روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في سيل مهزور ومذينب «٢» :«يمسك حتى الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل» «٣».
حب الوطن والتزام أوامر الله والرسول
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٦ الى ٦٨]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)
(٢) مهزور ومذينب: واديان بالمدينة، يسيلان بماء المطر خاصة.
(٣) قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من وجه من الوجوه.
أَنِ اقْتُلُوا أن مفسرة ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ قليل: مرفوع على البدل من الواو في فَعَلُوهُ وتقديره: ما فعله إلا قليل منهم. وقرئ بالنصب على الأصل في الاستثناء، والأصل في الاستثناء: النصب.
وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً منصوب لأنه مفعول ثان لهديناهم، يقال: هديته الطريق هداية، وهديت في الدين هدى. وفعل في المصادر قليل.
المفردات اللغوية:
كَتَبْنا فرضنا عليهم اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ كما كتبنا على بني إسرائيل ما فَعَلُوهُ أي المكتوب عليهم ما يُوعَظُونَ بِهِ من الأوامر والنواهي المقرونة بذكر حكمها تَثْبِيتاً تقوية وجعله ثابتا راسخا وَإِذاً لو ثبتوا مِنْ لَدُنَّا من عندنا أَجْراً عَظِيماً هو الجنة.
سبب النزول:
نزول وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ: تفاخر ثابت بن قيس بن شمّاس ورجل من اليهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلنا أنفسنا، فقال ثابت: والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا، فأنزل الله: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى أن الإيمان لا يتم إلا بتحكيم الرسول فيما شجر بينهم، ذكر هنا تقصير كثير من الناس في ذلك لضعف إيمانهم.
يخبر الله تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بالامتناع عما هم عليه من المناهي، لما فعلوه لأن طباعهم الرديئة ميّالة إلى مخالفة الأمر. وهذا من علمه تعالى بما لم يكن أو كيف يكون ما كان.
ولو أن الله تعالى فرض على الناس أن يقتلوا أنفسهم، كما أمر بني إسرائيل بذلك ليتوبوا من عبادة العجل، فكان قتل النفس (الانتحار) طريق التوبة، أو لو فرضنا عليهم أن يخرجوا من أوطانهم، ويهاجروا في سبيل الله إلى بلاد أخرى، ما فعل المأمور به من قتل النفس وهجر الوطن إلا نفر قليل منهم.
ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به من الأوامر والنواهي المقترنة بأسبابها وعللها أو حكمها، وبالوعد والوعيد، لكان ذلك خيرا لهم وأحسن، وأشد تثبيتا لهم في الدين وأرسخ.
ولو أنهم فعلوا هذا الخير العظيم وامتثلوا ما أمروا به، لمنحناهم من عندنا أجرا عظيما وهو الجنة التي وصفها النبي صلّى الله عليه وسلّم
بقوله فيما رواه البزار والطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري: «في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»
، ولهديناهم إلى الطريق المستقيم في الدنيا والآخرة وهو العمل المؤدي إلى السعادة الدنيوية والأخروية معا.
قه الحياة أو الأحكام:
تتطلب إطاعة الأوامر الإلهية إيمانا راسخا كالجبال الراسيات، والطاعة:
حمل النفس على فعل ما تكره، لا على ما تحب، ولا يفعل ذلك إلا فئة قليلة من الناس، ولو فعلوا المأمور به وتركوا ما ينهون عنه لكان لهم خيرا في الدنيا والآخرة، ودليلا على الثبات على الحق، وسببا لاستحقاق الثواب العظيم في
وحينما نزلت هذه الآية أبدى نفر من المسلمين استعداده لتنفيذ الأمر الإلهي. قال أبو إسحاق السبيعي: لما نزلت وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» قال ابن وهب: قال مالك: القائل ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وذكر النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وذكر أبو الليث السمرقندي: أن القائل منهم عمّار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن قيس، قالوا: لو أن الله أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان أثبت في قلوب الرجال من الجبال الرواسي».
وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: لما نزلت: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ..
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم» أي ابن مسعود.
وقال شريح بن عبيد: لما تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ.. أشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده هذه إلى عبد الله بن رواحة، فقال: «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل» يعني ابن رواحة.
وفي قوله: أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ إيماء إلى حب الوطن وتعلق الناس به، وجعله قرين قتل النفس، وصعوبة الهجرة من الأوطان.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠)
الإعراب:
رَفِيقاً منصوب بأحد وجهين:
أحدهما- أن يكون منصوبا على التمييز، ويراد به هاهنا الجمع، فوحّد كما وحّد في نحو:
عشرون رجلا، وقد يقام الواحد المنكور مقام جنسه.
والثاني- أنه منصوب على الحال.
المفردات اللغوية:
وَالصِّدِّيقِينَ جمع صدّيق: وهو الصادق في قوله واعتقاده، كأبي بكر الصديق وغيره من أفاضل الصحابة: أصحاب الأنبياء، لمبالغتهم في الصدق والتصديق، قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا [مريم ١٩/ ٥٦].
وَالشُّهَداءِ جمع شهيد: وهو الذي يشهد بصحة الدين بالحجة والبرهان، ويقاتل في سبيله بالسيف والسنان. والشهداء: القتلى في سبيل الله.
وَالصَّالِحِينَ جمع صالح: وهو من صلحت نفسه، وغلبت حسناته سيئاته.
وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً رفقاء في الجنة، بأن يتمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم، وإن كان مقرهم في الدرجات العالية بالنسبة إلى غيرها. جعلني الله ووالدي وأحبائي معهم.
سبب النزول:
أخرج الطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني
قال الكلبي: نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان شديد الحب له، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن، خوف عدم رؤيته صلّى الله عليه وسلّم بعد الموت، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مسروق قال: قال أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، ما ينبغي لنا أن نفارقك، فإنك لو قدّمت لرفعت فوقنا، ولم نرك، فأنزل الله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن عكرمة قال: أتى فتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله، إن لنا منك نظرة في الدنيا، ويوم القيامة لا نراك، فإنك في الجنة في الدرجات العلى، فأنزل الله هذه الآية، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنت معي في الجنة إن شاء الله.
المناسبة:
توّج الله تعالى الآيات السابقة الآمرة بطاعة الله والرسول ببيان جزاء الطاعة، الذي هو الأمل الأسمى الذي تطمح إليه النفوس.
التفسير والبيان:
من عمل بما أمره الله به ورسوله، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقا لأصحاب الدرجات العليا وهم صفوة الله من عباده، وهم أربع مراتب:
الأنبياء، ثم الصدّيقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين
ثم أثنى الله تعالى عليهم فقال: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي أن الأصناف الأربعة يكونون رفقاء له من شدة محبتهم إياه وسرورهم برؤيته. ورفيقا بمعنى المرافق والمراد به الجمع وهو رفقاء، فكأن المعنى: وحسن كل واحد منهم رفيقا، مثل: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج ٢٢/ ٥] أي نخرج كل واحد منكم طفلا.
ويؤيد الآية:
ما رواه الطبراني مرفوعا: «من أحب قوما، حشره الله معهم»
وما أخرجه الشيخان عن أنس: «المرء مع من أحب»
والمحبة تقتضي الطاعة، كما قال الله تعالى: قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ.. [آل عمران ٣/ ٣١].
هذا الجزاء لمن يطيع الله والرسول هو الفضل الإلهي العظيم، والله أعلم بمن يستحقه، فهو أعلم بمن اتقى، وكفى به سبحانه عليما بالأتقياء المطيعين، وبالعصاة المنحرفين، وبالمنافقين المرائين.
والآية إخبار من الله تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة بطاعتهم، بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه.
فليحذر المنافقون المصير المشؤوم إن لم يصلحوا حالهم، وليهنأ المؤمنون الطائعون الصادقون بفضل الله ونعمته، وليفرحوا بما أثابهم به.
فقه الحياة أو الأحكام:
لمّا ذكر الله تعالى الأمر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه، لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله.
قوله عليه السلام عند موته: «اللهم الرفيق الأعلى».
وفي البخاري عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما من نبي يمرض إلا خيّر بين الدنيا والآخرة» كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحّة «١» شديدة، فسمعته يقول: «مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين» فعلمت أنه خيّر.
قال القرطبي: في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون، ثم ثنّى بالصديقين، ولم يجعل بينهما واسطة. وأجمع المسلمون على تسمية أبي بكر الصديق رضي الله عنه صدّيقا، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق، وأنه ثاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لم يجز أن يتقدم بعده أحد «٢».
قواعد القتال في الإسلام
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧١ الى ٧٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (٧٥)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (٧٦)
(٢) تفسير القرطبي: ٥/ ٢٧٣
ثُباتٍ حال من واو فَانْفِرُوا الأولى. جَمِيعاً حال من واو فَانْفِرُوا الثانية، وكل واحد من الفعلين هو العامل في الحال الذي يليه.
لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ اللام في لَمَنْ لام الابتداء التي تدخل مع «إن» وهي هنا داخلة على اسم «إن». واللام في لَيُبَطِّئَنَّ: هي اللام الواقعة في جواب القسم، وهو هنا محذوف وتقديره: لمن والله ليبطئن. ولام القسم في صلة «من».
يا لَيْتَنِي المنادي محذوف وتقديره: يا هذا ليتني، مثل: «ألا يا اسجدوا لله» أي يا هؤلاء اسجدوا. وحذف المنادي كثير في كلامهم. فَأَفُوزَ منصوب بأن مضمرة بعد التمني، وتقديره: فأن أفوز. وقرئ بالرفع على تقدير: فأنا أفوز. كَأَنْ مخففة واسمها محذوف، أي كأنه. مَوَدَّةٌ اسم يكن، وبينكم وبينه: خبرها المقدم على اسمها. ولا يجوز أن تكون التامة لأن الكلام لا يتم معناه بدون «بينكم وبينه» فهو الخبر، وتتم به الفائدة.
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ ما: مبتدأ، ولكم: خبره، ولا تقاتلون حال من الكاف واللام في «لكم» وتقديره: أي شيء استقر لكم غير مقاتلين، مثل: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء ٤/ ٨٨]. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ: معطوف على اسم الله تعالى. وقيل: على سبيل. الظَّالِمِ
الظالم صفة للقرية، وجاز وصف القرية وإن لم يكن الظلم لها لعود الضمير العائد إليها من «أهلها». وأهلها: فاعل الظالم.
البلاغة:
يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ استعارة، استعار لفظ الشراء للمبادلة، أي يبيعون الفانية بالباقية.
كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراض بين القول ومقوله وهو: يا ليتني.
ويوجد مقابلة في قوله: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ.
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ استفهام توبيخ، أي لا مانع لكم من القتال.
المفردات اللغوية:
خُذُوا حِذْرَكُمْ أي احترزوا وتيقّظوا من عدوّكم، والحذر والحذر بمعنى واحد، كالمثل والمثل: وهو التيقّظ والاستعداد. فَانْفِرُوا انهضوا إلى قتاله. ومصدره: النفر: وهو الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء، كالنزوع عن الشيء وإلى الشيء. ثُباتٍ متفرقين واحدها ثبة: وهي الجماعة، أي اخرجوا جماعة تلو جماعة. لَيُبَطِّئَنَّ ليتأخرن عن القتال، كعبد الله بن أبي المنافق وأصحابه، وجعله من المسلمين من حيث الظاهر. والتبطؤ: يطلق على الإبطاء وعلى الحمل على البطء: وهو التأخر في السير عن الانبعاث للجهاد وغيره. مُصِيبَةٌ ما يصيب الإنسان من قتل أو هزيمة أو غيرهما. شَهِيداً حاضرا معهم. الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ كفتح وغنيمة. مَوَدَّةٌ معرفة وصداقة. فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً آخذ حظّا وافرا من الغنيمة.
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه، وسبيل الله: تأييد الحق ونصرته، بإعلاء كلمة الله ونشر دعوته. الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي يبيعونها ويأخذون بدلها نعيم الآخرة وثوابها. فَيُقْتَلْ يستشهد. أَوْ يَغْلِبْ يظفر بعدوه. أَجْراً عَظِيماً ثوابا جزيلا.
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لا مانع لكم من القتال. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ أي في تخليص المستضعفين. وَالْوِلْدانِ الذين حبسهم الكفار عن الهجرة وآذوهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت أنا وأمي منهم. الْقَرْيَةِ مكة. الظَّالِمِ أَهْلُها بالكفر. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا من عندك من يتولى أمورنا. نَصِيراً يمنعنا منهم. وقد استجاب دعاءهم، فيسّر لبعضهم الخروج، وبقي بعضهم إلى أن فتحت مكة،
وولّى صلّى الله عليه وسلّم عتاب بن أسيد، فأنصف مظلومهم من ظالمهم.
وكيد الشيطان: السعي في الفساد بالحيلة.
المناسبة:
لما حذر الله تعالى من المنافقين وأمر بطاعة الله والرسول، أمر هنا أهل الطاعة بالجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته ورفع شأن دينه، وأمر بالاستعداد حذرا من مباغتة الكفار، ثم بيّن حال المنافقين المثبطين العزائم عن الجهاد، وهذا انتقال من الميدان الداخلي إلى المجال الخارجي، انتقال من السياسة الاجتماعية في التعامل إلى السياسة الحربية.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوّهم، وهذا يستلزم التأهّب لهم بإعداد الأسلحة وإعداد الجيش المقاتل. ويرسم الله تعالى سياسة الحرب ويضع قواعد القتال المؤدية إلى النصر والفوز الساحق.
يا أيها المؤمنون التزموا الحذر، واحترسوا من الأعداء، واستعدوا لردّ العدوان، فإنكم معرّضون لشنّ معارك كثيرة طاحنة، وهذا أمر دائم يتكيّف بحسب تطور وسائل الحرب وقواعد القتال على ممر العصور. قال أبو بكر لخالد بن الوليد في حرب اليمامة: حاربهم بمثل ما يحاربونك به، السيف بالسيف، والرمح بالرمح. وهكذا بحسب المعروف بين الأمم من وسائل الحرب البرية والبحرية والجوية.
ولا يصح للمؤمن أن يخشى اقتحام المعارك لأن أجل الإنسان لا يتأخر ساعة ولا يتقدم، وعلى المؤمنين اتّخاذ ما يمكنهم من أسباب القوة، غير محتجّين
فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي فانهضوا للقتال جماعة إثر جماعة، فصائل وفرقا وسرايا، أو انهضوا جميعا متعاضدين كلكم حسبما ترون من قوة العدو وحاله. وهذا يعني كون الأمة على استعداد دائم للجهاد، وهذا نظير قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ، وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال ٨/ ٦٠].
لكن بعضا منكم في ساحة الجبهة الداخلية قد يتخلف عن الجهاد، وقد يعرقل مسيرة المجاهدين، وقد يعوق أو يسعى لتثبيط العزائم عن الجهاد، وهؤلاء هم المنافقون وضعاف الإيمان والجبناء.
أما المنافقون فلا يرغبون في القتال لأنهم لا يحبون الإسلام وأهله، وأما الجبناء وضعاف الإيمان فيترددون في المشاركة بالجهاد خورا وضعفا وجبنا.
وهؤلاء يصطادون في الماء العكر ويستغلون النتائج والوقائع، فإن أصابتكم مصيبة كقتل أو هزيمة، فرحوا فرحا شديدا بنجاة أنفسهم، وحمدوا الله على أن لم يكن أحدهم حاضرا في المعركة، يعدون ذلك من نعم الله عليهم، ولم يدروا ما فاتهم من الأجر في الصبر، أو الشهادة إن قتلوا.
وإن أصابكم فضل من الله، أي نصر وظفر وغنيمة قالوا- وكأنهم ليسوا من أهل دينكم-: يا ليتنا اشتركنا في القتال لنحظى بسهم من الغنيمة.
وهم في الحالين ضعاف العقول، قاصرو النظر، ضعاف الإيمان جبناء، لذا وبّخهم الله تعالى وقرّعهم بعبارة لطيفة تدلّ على انقطاع صلتهم بالمسلمين وهي:
ثم انتقل الله تعالى ببيانه من وصف حال الضعفاء إلى بيان مركز الأقوياء، ومن دائرة الهبوط في دائرة التخلف عن القيام بالواجب إلى الصعود إلى مرتبة يمكن فيها تطهير النفوس من ذلك الذنب العظيم: ذنب التقاعس عن القتال.
فحرض عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله، وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة أو غيرها من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من القيام بها.
فليقاتل في سبيل الله ولإعلاء كلمته ولنصرة دينه- دين الحق والتوحيد، والعدل والكرامة، والقوة والمدنية: من يبيع دنياه الفانية بالآخرة الباقية، حتى يحقق علو كلمة الله، فيجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم.
ثم رغّب الله تعالى في القتال بعد الأمر به ببيان الثواب عليه، فمن يقاتل في سبيل الله، فيغلبه عدوه، أو يغلب هو العدو، فإن الله سيؤتيه ثوابا عظيما هو الجنة والأجر الحسن. وهذا يدلّ على شرف الجهاد والمجاهدة، وقد عانى المسلمون أشدّ البلاء من الكفار في مكة قبل الفتح، مثلما حدث لبلال وصهيب وعمار وأسرته.
ثم زاد الترغيب في الجهاد بنفي الأعذار، فأي عذر لكم يمنعكم عن القتال في سبيل الله لإحلال التوحيد محل الشرك، والخير محل الشّر، والعدل والرّحمة في موضع الظلم والقسوة، وعن إنقاذ المستضعفين إخوانكم في الدّين رجالا ونساء وصبية الذين منعهم كفار قريش من الهجرة وفتنوهم عن دينهم. والتحدث عن هؤلاء يثير النخوة ويهزّ الأريحية ويوقظ الشعور بالواجب والتفاني من أجل رفع الظلم عن الضعفاء.
ثم عقد الحق سبحانه وتعالى مقارنة بين أهداف الجهاد عند المسلمين وأغراض القتال عند المشركين. وهي أن المؤمنين يقاتلون لأجل إعلاء كلمة الله- كلمة الحق والتوحيد والعدل وإنصاف الشعوب، لا من أجل الاستعمار والاستغلال، والتعدي والظلم، وسلب الملكيات ونهب الثروات، كما هو حاصل الآن وأما الكافرون فهم يقاتلون لأغراض وهمية، أو مادية دنيئة، أو شهوانية ذاتية، فهم إنما يرضون وسوسة الشيطان، وإعلاء الوثنية، ومناصرة الكفر، أو يطمعون في الحصول على الغنائم، أو للتفاخر والاعتزاز وإرضاء النفس بمجرد الشعور بالانتصار والغلبة، وتحقيق السمعة والشهرة أمام القبائل العربية.
ولكن المصير المحتوم هو تغلّب الحق على الباطل في النهاية لأن الحق قوي ثابت وجنده أعزّ وأمنع، والباطل ضعيف مهزوم، وجنده أضعف وأخوف، والحق يعلو ولا يعلى عليه، لذا أمر الله تعالى بقوله بما معناه: فقاتلوا أيها المؤمنون أولياء أو نصراء الشيطان الذين أوهمهم ووسوس لهم أن في الظلم والتدمير شرفا وإعلاء مكانة، ولا تغرنكم قوتهم وأعدادهم وأسلحتهم، فإن كيد الشيطان وتدبيره أو وسوسته كان ضعيفا لا تأثير له عند ذوي العقول الناضجة، والأفكار السامية. وأما أنتم فوليكم الرحمن وناصركم ومدبر أموركم ما نصرتموه، وجند الله هم الغالبون، وحزب الله هم المفلحون.
هذه الآيات تبيّن المواقف الثابتة للأمة الإسلامية في علاقاتها الخارجية أثناء الحرب.
فهي أولا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالاستعداد للجهاد، وأخذ الحذر الدائم، وأمر لهم بجهاد الأعداء والنضال في سبيل الله، وحماية الشرع، وديار الإسلام، وتخليص المستضعفين، ومطالبتهم ألا يقتحموا عدوهم على جهالة حتى يستطلعوا ما عندهم من قوى وعدد وعدد، ويعلموا كيف يردّون عليهم، فذلك أثبت لهم، لذا قال لهم: خُذُوا حِذْرَكُمْ وهو تعليم لأسلوب مباشرة الحروب.
ولا ينافي أخذ الحذر التوكل على الله، بل هو مقام عين التوكل لأن التوكل ليس معناه ترك الأسباب، وإنما هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتّباع سنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم في السّعي فيما لا بدّ منه من الأسباب من مطعم ومشرب، وتحرز من عدو، وإعداد أسلحة، واستعمال ما تقتضيه سنة الله المعتادة. قال سهل: من قال: إن التّوكل يكون بترك السبب، فقد طعن في سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن الله عزّ وجلّ يقول: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً [الأنفال ٨/ ٦٩]، فالغنيمة: اكتساب. وقال تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [الأنفال ٨/ ١٢]، فهذا عمل.
وقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى يحبّ العبد المؤمن المحترف» «١».
وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرضون على السرية «٢».
(٢) تفسير القرطبي: ٤/ ١٨٩، ٥/ ٢٧٣، أحكام القرآن للجصاص: ٢/ ٢١٥، والسرية: طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، سمّوا بذلك لأنها تكون من خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري: النفيس.
وورد في الحديث: «اعقلها وتوكل» «١»
والقدر جار على ما قضى الله، ويفعل الله ما يشاء، ويكون أخذ الحذر من القدر، كما أوضحت في تفسير الآيات.
ودلّت الآيات ثانيا على قاعدة من قواعد الحرب أو سياسة من سياسات المعركة وخطتها وهي النهوض لقتال العدو إذا دعا الإمام الناس إلى النفر، أي للخروج إلى قتال العدو إما جماعة إثر جماعة، أو الزّج بطاقة الجيش الكثيف كله في قلب المعركة، على وفق ما يرى القائد الحربي من مصلحة، معتمدا على استطلاع أحوال العدو واستعداداته واستحكاماته، واحتمالات تطور المعركة.
ويقال للقوم الذين ينفرون: النفير.
وبناء على هذا، فليست الآية منسوخة ولا معارضة لقوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة ٩/ ٤١]، وقوله: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ [التوبة ٩/ ٣٩]، وقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة ٩/ ١٢٢] لأن كل آية يعمل بها بحسب الظرف الحربي الملائم لها، فإحداها في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعيين الجميع، والأخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها.
وترشد الآيات ثالثا إلى أن في الأمة في كل زمان فئة المثبطين أو المبطئين وهم المنافقون، والتبطئة والإبطاء: التأخر، وديدنهم القعود عن القتال ويقعدون غيرهم معهم. فهم من جنس الأمة ودخلائها وممن يظهر الإيمان للجماعة، ويتظاهر بالإخلاص في رسالتها. وهم جماعة انتهازيون: إن حققت الجماعة فتحا ونصرا وأحرزت غنيمة، يقول المنافق الواحد منهم: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما، كأنه مقطوع الصلة والمودة بالأمة ولم يعاقد على الجهاد.
وأكدت الآيات رابعا أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله، أولئك المؤمنون الذين يبيعون الحياة الدّنيا بالآخرة، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عزّ وجلّ مقابل الحصول على ثواب الآخرة.
وثواب الآخرة لمن قتل أو غلب العدو عظيم جدا لا يخضع لتصور إنسان.
وظاهر قوله تعالى: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما، أي إن كلّ من قاتل في سبيل الله، سواء قتل (استشهد) أو غلب العدو، فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل، فللشهيد أجر، وللغانم أجر، بدليل
ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو عليّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر وغنيمة».
ومعنى الجملة الأخيرة: يقتضي أن من لم يستشهد من المجاهدين له أحد الأمرين: إما الأجر إن لم يغنم، وإما الغنيمة ولا أجر. وهذا كله بالنسبة للمجاهد الذي أخلص النيّة في الجهاد.
أما إن نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم، فإن أصاب الغنيمة تعجل ثلثي أجره من الآخرة، ويبقى له الثلث، وإن لم يصب غنيمة تمّ له أجره. وهذا مستفاد من حديث آخر عن عبد الله بن عمرو «١».
١- القتال في سبيل الله: يفسره
الحديث النّبوي الذي رواه الجماعة عن أبي موسى: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»
أي أنه قاتل لإعلاء كلمة الدّين وإظهاره، ورفع راية الإسلام المتضمنة توحيد الله، وإقرار العدل والحقّ، والدعوة إلى فضائل الأخلاق، وعبادة الله الواحد القهّار وتعظيمه لا تعظيم أحد من البشر.
٢- استنقاذ الضعفاء المؤمنين من عباد الله من براثن العدو: وهذا واجب وإن كان في ذلك تلف النفوس. ويكون تخليص الأسارى واجبا على جماعة المسلمين إما بالقتل وإما بالأموال، وهو أوجب لكونها دون النفوس إذ هي أهون منها. قال مالك: واجب على الناس أن يفدوا الأسارى بجمع أموالهم. وهذا لا خلاف فيه لقوله عليه الصّلاة والسّلام
فيما رواه أحمد والبخاري عن أبي موسى: «فكّوا العاني»
أي الأسير. وكذلك قال العلماء: عليهم أن يواسوهم، فإن المواساة دون المفاداة.
ومن أمثلة المستضعفين في التاريخ: من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم وهم المعنيون
بقوله عليه الصّلاة والسّلام: «اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعيّاش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين»
، وقال ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
وما أمتع تلك المقارنة في أهداف القتال: المؤمنون يقاتلون في سبيل طاعة الله، ومن أجل نشر دينه وأحكام شرعه فهو ناصرهم ووليهم، والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت (الشيطان وما يمثله من ظلم وخرافة وكهانة ودعوة إلى عبادة الأصنام والأوثان) فلا ولي لهم إلا الشيطان، وكيد الشيطان للمؤمنين إلى
قال جابر بن عبد الله، وقد سئل عن أعداد الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها: كانت في جهينة واحدة، وفي أسلم واحدة، وفي كل حي واحدة.
وقال أبو إسحاق: الدليل على أنه (أي الطاغوت) : الشيطان قوله عزّ وجلّ: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ، إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أي إن مكره ومكر من اتبعه واه ضعيف التأثير.
أحوال الناس حين فرضية القتال
[سورة النساء (٤) : الآيات ٧٧ الى ٧٩]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَأَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩)
إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ فريق: مبتدأ، وحسن الابتداء به لأنه وصفه بمنهم.
فتخصص، فحسن أن يكون مبتدأ، ويخشون: خبر المبتدأ.
كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً الكاف في موضع نصب لأنها صفة مصدر محذوف وتقديره:
يخشون الناس خشية كخشية الله، أي: مثل خشية الله. أو أشدّ: منصوب معطوف على الكاف، أو حال.
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ أين: ظرف مكان فيه معنى الشرط والاستفهام، ودخلت «ما» ليتمكن الشرط ويحسن. وتكونوا: فعل الشرط مجزوم بأينما، وأينما: متعلق بتكونوا، ويدرككم: مجزوم لأنه جواب الشرط.
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ما: في موضع رفع مبتدأ، بمعنى الذي، وأصابك:
صلته، وفَمِنَ اللَّهِ خبر المبتدأ، ودخلت الفاء في خبر المبتدأ لما في «ما» من الإبهام، فأشبهت الشرطية التي تقتضي الفاء. وليست هاهنا شرطية لأنها نزلت في شيء بعينه وهو الخصب والجدب، وهما المراد بالحسنة والسيئة، ولهذا قال: ما أصابك، ولم يقل: ما أصبت، والشرط لا يكون إلا مبهما.
وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا رسولا: مصدر مؤكد بمعنى إرسالا، أو حال مؤكدة.
البلاغة:
يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ تشبيه مرسل مجمل.
فَمالِ هؤُلاءِ استفهام يراد به التعجب من فرط جهلهم.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ هم جماعة من الصحابة، قيل لهم: امنعوا أيديكم عن قتال الكفار، لما طلبوه بمكة، لأذى الكفار لهم.
كُتِبَ عَلَيْهِمُ فرض القتال عليهم وأمروا به. يَخْشَوْنَ يخافون. النَّاسَ الكفار أي عذابهم بالقتل. كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كخوفهم من بأس الله وعذابه. أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا القريبة. مَتاعُ الدُّنْيا ما يتمتع به فيها أو الاستمتاع بها وبلذاتها. قَلِيلٌ سريع الزوال. وَالْآخِرَةُ الجنة. لِمَنِ اتَّقى أي جعل لنفسه وقاية من عقاب الله، بترك معصيته. وَلا تُظْلَمُونَ تنقصون من أعمالكم فَتِيلًا هو الخيط البسيط الذي يكون في شقّ النواة، وهو مثل في القلّة والبساطة.
يَفْقَهُونَ حَدِيثاً يفهمون كلاما يلقى إليهم، أي لا يقاربون أن يفهموا، ونفي مقاربة الفعل أشدّ من نفيه.
سبب النزول: نزول الآية (٧٧) :
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ:
أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا نبي الله، كنا في عز، ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة؟ قال: إني أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم، فلما حوّله الله إلى المدينة، أمره بالقتال، فكفّوا، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ.
قال الحسن البصري: هي في المؤمنين، وقال مجاهد: هي في اليهود، وقيل: هي في المنافقين، والمعنى: يخشون القتل من المشركين كما يخشون الموت من الله.
وأما قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ الآية [٧٨] فروي عن ابن عباس أنه قال: لما استشهد الله من المسلمين من استشهد يوم أحد، قال المنافقون الذين تخلّفوا عن الجهاد: لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
المناسبة:
بعد أن أمر الله بالاستعداد للقتال وأخذ الحذر، وذكر حال المبطئين، وأمر بالقتال في سبيله ومن أجل إنقاذ الضعفاء، ذكر هنا حال جماعة كانوا يريدون
التفسير والبيان:
كان المؤمنون في مكة مأمورين بالصلاة والزكاة ومواساة الفقراء، وبالصفح والعفو عن المشركين، وكانوا يودّون الإذن لهم بالقتال ليثأروا من أعدائهم، ولم يكن الحال مناسبا لذاك لأسباب كثيرة منها: قلّة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم، ومنها كونهم في بلد حرام وأشرف بقاع الأرض، فلهذا لم يؤمروا بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار. ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودّونه جزع بعضهم منه، وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا، فقصّ الله علينا قصّتهم.
ألم تنظر إلى أولئك الذين قيل لهم في مكة في ابتداء الإسلام: التزموا السلم وامنعوا أيديكم وأنفسكم عن الحروب الجاهلية، وأدّوا الصلاة بخشوع مقوّمة تامة الأركان، وأدّوا الزكاة التي تؤدي إلى التراحم بين الخلق، وكانوا في الجاهلية يشنون الحروب لأتفه الأسباب، وتطفح قلوبهم بالأحقاد، ولكن حين فرض عليهم القتال في المدينة، كرهه جماعة وهم المنافقون والضعفاء، وخافوا أن يقاتلهم الكفار ويقتلوهم، كخوفهم من إنزال عذاب الله وبأسه بهم، بل أشدّ خوفا من الله تعالى.
وحكى الله تعالى قولهم لشدة هلعهم وخوفهم من القتال وقالوا: ربّنا لم فرضت علينا القتال، لولا تركتنا نموت موتا طبيعيّا، ولو بعد أجل قريب، ولولا أخرت فرض القتال إلى مدّة أخرى، فإن في القتال سفك الدماء، ويتم الأولاد، وتأيم النساء. وهذا كقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ [محمد ٤٧/ ٢٠].
ولا تنقصون شيئا مهما قلّ كالفتيل (ما يكون في شقّ نواة التمر كالخيط) من أعمالكم، بل توفونها أتمّ الجزاء. وهذا تسلية لهم عن الدّنيا، وترغيب لهم في الآخرة، وتحريض لهم على الجهاد.
وإن الموت أمر محتم لا مفرّ منه، وأنتم صائرون إلى الموت لا محالة، ولا ينجو منه أحد ولو كان في قصر محصن منيع مرتفع مشيد، فملك الموت لا تحجزه حواجز ولا تعوقه عوائق، كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران ٣/ ١٨٥]، وقوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن ٥٥/ ٢٦]، وقوله: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء ٢١/ ٣٤]. وإذا كان الموت مصير الخلائق جميعهم، وفي أجل محدود لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، فلا خشية من الجهاد، فسواء جاهد الإنسان أو لم يجاهد، فإن له أجلا محتوما ومقاما مقسوما، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه: «لقد شهدت كذا وكذا موقفا، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية، وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء». وكم من محارب نجا، وقاعد على فراشه عن الحرب مات حتف أنفه.
ثم ذكر سبحانه وتعالى ما يتعجب منه بسبب مقالة أولئك المنافقين، فإذا أصابتهم حسنة من غنيمة أو خصب أو رزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك،
وهكذا قال اليهود والمنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا، وهم كارهون له في حقيقة الأمر، حتى إنه إذا أصابهم شرّ أسندوه إلى اتّباعهم للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، وتشاءموا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: «هذه من عندك» أي أنه بتركنا ديننا واتّباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء.
فردّ الله عليهم بأن هذا زعم باطل منهم، وكلّ من عند الله، أي الجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البرّ والفاجر، والمؤمن والكافر، بحسب سنّة الله في ربط المسببات بالأسباب.
فماذا أصاب هؤلاء القوم في عقولهم، وما لهم لا يفهمون حقيقة ما يلقى إليهم من حديث وما يلقونه من كلام؟ وما الذي دهاهم في عقولهم حتى وصلوا إلى هذا الفهم السقيم؟ فقد ربطت الأسباب بمسبباتها، وإن كان الله خالقا لكلّ شيء.
ثم خاطب الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بالخطاب جنس الإنسان ليحصل على الجواب: ما أصابك من حسنة فمن الله، أي من فضل الله ورحمته ولطفه وتوفيقه حتى تسلك سبيل النجاة والخير وما أصابك من سيئة فمن نفسك، أي من قبلك ومن عملك أنت لأنك لم تسلك سبيل العقل والحكمة والاسترشاد بقواعد الهداية الإلهية وبمعطيات العلم والتجربة، حتى قالوا: إن المرض بسببك،
وأما أنت يا محمد فرسول من عندنا أرسلناك للناس، تبلغهم شرائع الله، وما يحبه ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وكفى بالله شهيدا على أنه أرسلك، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم، وعالم بما تبلغهم إياه، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادا، وما عليك إلا البلاغ، والخير والشّر من عند الله خلقا وإيجادا، والشّر من العبد كسبا واختيارا.
والخلاصة: هناك شيئان:
١- كل شيء من عند الله: أي أنه خالق الأشياء وواضع النظم والسّنن للوصول إليها بسعي الإنسان وكسبه.
٢- ما يصيب الإنسان من السّوء والشّر: يكون بتقصير منه في معرفة السّنن والأسباب.
ولا تعارض بين قوله تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي كلّ من الحسنة والسّيئة، وبين قوله: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ لأن الآية الأولى تعني كون الأشياء كلها من الله خلقا وإيجادا، والثانية تسبّبا وكسبا بسبب الذنوب، أو التقصير في فهم النظم والقواعد العامة.
فقه الحياة أو الأحكام:
الراجح لدي أن آية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ.. واردة في جماعة من اليهود والمنافقين وضعفاء الإيمان إذ لم يعرف في تاريخ الصحابة أنهم اعترضوا على نزول الوحي بحكم من الأحكام التشريعية، ويدلّ له سياق الآية:
أما ما رواه النسائي والحاكم في سبب النزول فيحتاج إلى تحقق ونظر، ويستبعد أن يكون عبد الرّحمن بن عوف المبشّر بالجنّة ممن يقول القول المتقدّم.
ومما أرشدت إليه الآية ما يأتي:
١- الدّنيا وما فيها من متع ولذات وشهوات قليلة فانية محدودة، والآخرة بما فيها من نعيم مقيم وخلود في الجنان خير لمن اتّقى المعاصي.
قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «مثلي ومثل الدّنيا كراكب قال قيلولة «١» تحت شجرة ثم راح وتركها».
٢- الموت أمر محتم لا يتأخر عمن انتهى أجله، سواء أكان في الحصون المحصنة في الأراضي المبنية، أم في ساحات المعركة، وموت خالد بن الوليد على فراشه أكبر عبرة.
وبعبارة أخرى: الآجال متى انقضت لا بدّ من مفارقة الرّوح الجسد، كان ذلك بقتل أو موت أو غير ذلك مما أجرى الله العادة بزهوقها به.
٣- اتّخاذ البلاد وبناؤها وتشييد العمارات للمعيشة فيها وحفظ الأموال والنّفوس هي سنّة الله في عباده. وهو من أكبر الأسباب وأعظمها، وقد أمرنا بها، واتّخذها الأنبياء وحفروا حولها الخنادق عدّة وزيادة في التّمنع، وذلك أبلغ ردّ على قول من يقول: التّوكل ترك الأسباب.
٤- قوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا: هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ
٥- الشدّة والرّخاء والظفر والهزيمة من عند الله، أي بقضاء الله وقدره، ومن خلقه وإيجاده.
٦- ما أصابكم يا معشر الناس من خصب واتّساع رزق فمن تفضل الله عليكم، وما أصابكم من جدب وضيق رزق فمن أنفسكم، أي من أجل ذنوبكم، وقع ذلك بكم، كما قال الحسن البصري والسّدّي وغيرهما.
والجهّال هم الذين أخطئوا في فهم آية: قُلْ: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ على أن الحسنة والسيئة من الله دون خلقه، ومصدر الخطأ أنهم فسّروا السّيئة بالمعصية، وليست كذلك، فإن المراد بالسّيئة شيء معين وهو القحط والجدب ونحوه. ولأنه لو كان المراد بالحسنة فعل المحسن وبالسيئة فعل المسيء، لكان يقول: ما أصبت من حسنة، وما أصبت من سيئة لأنه الفاعل للحسنة والسيئة جميعا، فلا يضاف إليه إلا بفعله لهما، لا بفعل غيره.
٧- النّبي صلّى الله عليه وسلّم ذو رسالة سماوية إلهية موحى إليه بها، وكفى بالله شهيدا على صدق رسالة نبيّه وأنه صادق.
طاعة الرسول طاعة لله وتدبّر القرآن وكونه من عند الله
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٠ الى ٨٢]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢)
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ طاعة: خبر مبتدأ محذوف تقديره: أمرنا طاعة.
بَيَّتَ طائِفَةٌ ذكّر الفعل لتقدّمه ولأن تأنيث الفاعل غير حقيقي، أي أن تأنيث الطائفة مجازي غير حقيقي، ولأنها في معنى الفريق والفوج.
البلاغة:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ استفهام يراد به الإنكار.
المفردات اللغوية:
تَوَلَّى أعرض عن طاعته. حَفِيظاً حافظا لأعمالهم، بل نذيرا، وإلينا أمرهم.
فنجازيهم، وهذا قبل الأمر بالقتال.
طاعَةٌ أي يقول المنافقون: أمرنا طاعة لك. بَرَزُوا خرجوا. بَيَّتَ طائِفَةٌ أضمرت طائفة، أو دبرت جماعة منهم ليلا رأيا غير الذي قالوه لك، أو زوّرت وسوّت خلاف ما قلت وما أمرت به، أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة لأنهم أضمروا الرّدّ لا القبول، والعصيان لا الطاعة، وإنما ينافقون بما يقولون ويظهرون.
وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ يأمر بكتب ما يبيّتون في صحائفهم، ليجازوا عليه. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ بالصفح. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثق به، فإنه كافيك. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مفوضا إليه.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتأملون القرآن وينظرون ما فيه من المعاني البديعة، فمعنى تدبّر القرآن: تأمل معانيه والتّبصر بما فيه. اخْتِلافاً كَثِيراً تناقضا في معانيه، وتباينا في نظمه وبلاغته، فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب
سبب النزول:
روى مقاتل أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «من أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله» فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل؟
لقد قارف الشرك، وقد نهى أن نعبد غير الله، ويريد أن نتخذه ربّا كما اتّخذت النصارى عيسى، فأنزل الله هذه الآية.
المناسبة:
أكّد الله تعالى هنا ما سبق من الأمر بطاعة الله والرسول، وأوضح أن طاعة الرسول تعود في النهاية لله تعالى، وكشف مراوغة المنافقين.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم بأن من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني».
معنى الآية: من أطاع الرسول فقد أطاع الله لأنه الآمر والناهي في الحقيقة، والرسول مبلّغ للأمر والنّهي، فليست الطاعة له بالذات، وإنما هي لمن بلّغ عنه، وهو الله عزّ وجلّ.
أما ما يأمر به الرّسول من الأمور الدّنيوية، كتأبير النخل (تلقيحه بطلع الذكور) وأكل الزيت والادّهان به، وكيل الطعام من قمح وغيره عند طحنه
وكان الصحابة رضي الله عنهم إذا شكّوا في الأمر، أهو وحي من عند الله أم اجتهاد من الرّسول؟ سألوه، فإن كان وحيا أطاعوه بلا تردّد، وإن كان رأيا من عنده، ذكروا رأيا آخر وأشاروا بما هو أولى، كما حدث في غزوتي بدر وأحد، وربما رجع إلى رأيهم.
ومن أعرض عن طاعتك خاب وخسر، وليس عليك من أمره شيء، وليس لك أن تكرهه على ما تريد، إن عليك إلا البلاغ، لست عليهم بمسيطر، والخسران لاحق به،
كما جاء في الحديث الصحيح: «من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله، فإنه لا يضر إلا نفسه».
ثم أخبر الله تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة، فيقولون:
أمرنا طاعة لك، أو أمرك طاعة أي أمرك مطاع، نفاقا وانقيادا ظاهرا، فإذا خرجوا من مكانك وتواروا عنك، دبروا ليلا فيما بينهم رأيا غير ما أظهروه لك.
روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس أنه قال: هم ناس يقولون عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: آمنا بالله ورسوله، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، وإذا برزوا من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالفوا إلى غير ما قالوا عنده، فعاتبهم الله على ذلك.
والله يعلم ما يبيتون، ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد. والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعصيانه، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة، وسيجزيهم على ذلك.
فأعرض عنهم، أي اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم ولا تهتم بمؤامراتهم، ولا تكشف أمورهم للناس، ولا تخف منهم أيضا. وتوكل على الله أي فوض الأمر
ثم يأمرهم الله تعالى بتدبر القرآن وتفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة، فهو الكفيل بتصحيح خطتهم ومنهجهم، ويخبرهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد، فهو حق من حق، ولهذا قال تعالى:
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد ٤٧/ ٢٤] ثم قال: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ [النساء ٤/ ٨٢] أي لو كان مفتعلا مختلقا، كما يقول جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم، لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، أي اضطرابا وتضادا كثيرا، وهذا سالم من الاختلاف، فهو من عند الله.
ومظاهر الاختلاف المفترضة إما في نظمه وإما في معانيه.
أما في نظمه وبلاغته: فقد يكون بعضه بالغا حد الإعجاز، وبعضه قاصرا عنه.
وأما في معانيه: فقد يكون بعضه صحيح المعنى وبعضه فاسدا سقيما. وقد يخبر عن الغيب وقصص السابقين بما يوافق الواقع وبما يخالفه، وقد يصيب في تصوير حقائق الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمم، وقد يجانب الصواب. وقد يأتي بحقائق العقيدة وأسس الأحكام التشريعية، وأحكم القواعد العامة، وقد تكون مفندة.
أما ترتيبه فبالرغم من نزوله منجما مفرقا بحسب الوقائع والمناسبات على مدى ثلاث وعشرين سنة فهو في غاية الإبداع والإحكام، إذ كان النبي صلّى الله عليه وسلّم عند نزول آية أو آيات أو سورة يأمر بما يوحي إليه بأن توضع كل آية في محلها من سورة كذا، وهو يحفظه حفظا ثابتا لا ينمحي من ذاكرته: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى ٨٧/ ٦].
وصوّر لنا عالم الغيب ومشاهد القيامة بصور مرئية محسوسة كأننا نشاهدها وننجذب إليها وترتسم صورها في أذهاننا دون أن تفارقها لشدة وقعها، وبراعة تصويرها، وصدق حكايتها وواقعيتها: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر ٣٩/ ٢٣].
ولو أنصف المسلمون أنفسهم ما اتخذوا هذا القرآن مهجورا، ولو تدبروا ما فيه وفهموا ما رسمه لهم من طريق الحياة السوية، لما انحدروا إلى ما هم عليه الآن، فهو مرشد الهداية، ونور الأمة، وصراط الله المستقيم، ومفتاح السعادة، وطريق تحقق المصلحة، وبناء الأمة وتحضرها، قال الله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً [الإسراء ١٧/ ٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
٢- المعرض عن طاعة الرسول متبع هواه، منقاد لشهواته، مضيع لصلحته، يقود نفسه إلى الهاوية في الدنيا ونار جهنم في الآخرة.
٣- مراوغة المنافقين مكشوفة، فهم يقولون عند النبي صلّى الله عليه وسلّم: أمرنا طاعة، أو نطيع طاعة، أو أمرك طاعة، ثم يظهرون بسرعة نقيض ما يقولون. وهذا موقف يأباه صغار الناس وجهالهم وسفهاؤهم، فقولهم ذلك أمام النبي ليس بنافع لأن من لم يعتقد الطاعة ليس بمطيع حقيقة، والعبرة بالنتائج، فثبت أن الطاعة بالاعتقاد مع وجودها فعلا.
ولم يحصد هؤلاء المنافقون من موقفهم هذا أي شيء، وإنما هو على العكس كان سبب افتضاح شأنهم في الدنيا أمام الناس، وسبب دمارهم وإهلاكهم في الآخرة لأن الله تعالى يثبته في صحائف أعمالهم، ليجازيهم عليه.
لذا لا داعي للاهتمام بشأنهم، وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم، وتفويض أمره إلى الله تعالى والتوكل عليه والثقة به في النصر على عدوه، فهو نعم المولى ونعم الوكيل.
٤- وجوب تدبر القرآن لمعرفة معانيه، هذا أمر مفروض على كل مسلم، ولا تكفيه التلاوة من غير تأمل ونظر في معانيه وأهدافه. وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستدلال، وإبطال التقليد في العقائد وأصول الدين. كما أن فيه دليلا على إثبات القياس.
٥- ليس المراد من قوله اخْتِلافاً كَثِيراً اختلاف ألفاظ القراءات وألفاظ الأمثال والدلالات، ومقادير السور والآيات، وإنما أراد اختلاف التناقض والتفاوت في المستوى البلاغي والنظم المعجز، وفي المعاني والأفكار، وفي الأخبار والمغيبات، وفي أصول تنظيم الحياة.
[سورة النساء (٤) : آية ٨٣]
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣)
الإعراب:
إِلَّا قَلِيلًا في هذا الاستثناء ستة أوجه ذكرها ابن الأنباري: ١/ ٢٦٢ وهي:
١- أن يكون استثناء من قوله تعالى: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ.
٢- أن يكون استثناء من واو يَسْتَنْبِطُونَهُ.
٣- أن يكون استثناء من واو أَذاعُوا بِهِ أي أذاعوا بالخبر.
٤- أن يكون استثناء من هاء بِهِ.
٥- أن يكون استثناء من الهاء والميم في جاءَهُمْ.
٦- أن يكون استثناء من الكاف والميم في عَلَيْكُمْ.
وقيل: إلا قليلا: منصوب لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: إلا اتباعا قليلا، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه. وقال الزمخشري: إلا قليلا منكم، أو إلا اتباعا قليلا.
المفردات اللغوية:
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ عن سرايا النبي صلّى الله عليه وسلّم بما حصل لهم مِنَ الْأَمْنِ النصر. أَوِ الْخَوْفِ بالهزيمة. أَذاعُوا بِهِ أفشوه وأشاعوه بين الناس. وَلَوْ رَدُّوهُ أي أرجعوا الخبر.
أُولِي الْأَمْرِ أي ذوي الرأي من أكابر الصحابة، أي لو سكتوا عنه حتى يخبروا به. لَعَلِمَهُ لعرفوا: هل هو مما ينبغي أن يذاع أو لا؟
يَسْتَنْبِطُونَهُ استنبط الماء: استخرجه من البئر، والمراد هنا: ما يستخرجه الرجل العالم بفضل عقله وعلمه من الأفكار والأحكام وحلول القضايا. وهم المذيعون منهم من الرسول وأولي
سبب النزول:
روى مسلم عن عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل النبي صلّى الله عليه وسلّم نساءه، دخلت المسجد، فإذا الناس ينكتون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه، فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ، أَذاعُوا بِهِ، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.
قال ابن جرير الطبري: إن هذه الآية نزلت في الطائفة التي كانت تبيّت غير ما يقول لها الرسول أو تقول له. اه.
وذكر السيوطي: نزلت الآية في جماعة من المنافقين أو في ضعفاء المؤمنين كانوا يفعلون ذلك، فتضعف قلوب المؤمنين، ويتأذى النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والظاهر لدي ما يقوله السيوطي فإن إشاعة الأخبار وترويج الإشاعات إما أن تكون من المنافقين أعداء الأمة بقصد سيء، وإما أن تكون من ضعاف الإيمان وعوام الناس الجهلة بقصد حسن. وربما كان موقف عمر أحد أسباب النزول.
قال الزمخشري: هم ناس من ضعفة المسلمين الذين لم تكن فيهم خبرة بالأحوال، ولا استبطان للأمور، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أمن وسلامة، أو خوف وخلل، أذاعوا به، وكانت إذاعتهم مفسدة «١».
مناسبة الآية واضحة بالنسبة لما قبلها، فإنه تعالى أمر بتدبر القرآن ووعيه والتثبت من فهمه، وذلك مدعاة للتعلم بضرورة التثبت في كل شؤون الحياة، كنقل الأخبار وغيرها.
التفسير والبيان:
هذا إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها، فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا تكون صحيحة.
روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع».
وفي الصحيح: «من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين»
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نهى عن قيل وقال»
أي الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس، من غير تثبت، ولا تدبر، ولا تبين.
وفي سنن أبي داود: «بئس مطية الرجل: زعموا».
معنى الآية: قد يبلغ الخبر عن أحوال الأمن (السلم) والخوف (الحرب) من مصادر غير موثوقة إلى الجهلة أو المنافقين أو ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالقضايا العامة، فيبادرون إلى إذاعته ونشره وترويجه بين الناس، وهذا أمر منكر يضر بالمصلحة العامة.
لذا يجب أن يترك الحديث في الشؤون العامة الى قائد المسلمين وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو إلى أولي الأمر وهم أهل الرأي والحل والعقد ورجال الشورى في الأمة، فهم أولى الناس وأدراهم بالكلام فيها، فهم الذين يتمكنون من استنباط الأخبار الصحيحة، واستخراج ما يلزم تدبيره وقوله بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها.
أما التحدث بكل ما نسمع، ونقل الأخبار من غير تثبت، ففيه ضرر واضح
ثم امتنّ الله تعالى على صادقي الإيمان فعصمهم من الانزلاق في تلك التيارات، فذكر: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم إذ هداكم ووفقكم لطاعة الله والرسول، وأرشدكم إلى الرجوع إلى المصدر العلمي الصحيح وهو الرسول وأولو الأمر من الأمة، لاتبعتم وساوس الشيطان، أو لبقيتم على الكفر- كما قال الزمخشري- إلا قليلا منكم، أو إلا اتباعا قليلا. وهي نظير قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [النور ٢٤/ ٢١].
فقه الحياة أو الأحكام:
وجّهت الآية النصائح والإرشادات التالية:
١- وجوب التثبت من الأخبار قبل روايتها وحكايتها، وضرورة الرقابة العامة على الأخبار المعلنة، حفاظا على أسرار الأمة ووحدتها، والعمل على إبقائها قوية متماسكة متعاضدة، لا تتأثر بالدعايات الكاذبة والإشاعات المغرضة.
٢- أهل العلم والخبرة والقادة هم أولى الناس بالتحدث عن القضايا أو الشؤون العامة، وهم أيضا أهل الاجتهاد في الدين.
٣- الانزلاق في وساوس الشيطان كثير شائع لولا فضل الله ورحمته.
٤- قال الجصاص الرازي: في الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام الحوادث وذلك لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حياته إذا كانوا بحضرته، وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته صلّى الله عليه وسلّم.
وهذا لا محالة فيما لا نص فيه لأن المنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه، فثبت
فقد حوت هذه الآية معاني منها: أن في أحكام الحوادث ما ليس بمنصوص عليه، بل مدلول عليه. ومنها: أن على العلماء استنباطه، والتوصل إلى معرفته برده إلى نظائره من المنصوص. ومنها أن العامي عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث. ومنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد كان مكلفا باستنباط الأحكام والاستدلال عليها بدلائلها لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر. ثم قال:
لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولم يخص أولي الأمر بذلك دون الرسول، وفي ذلك دليل على أن للجميع الاستنباط والتوصل إلى معرفة الحكم بالاستدلال «١».
التحريض على الجهاد
[سورة النساء (٤) : آية ٨٤]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)
المفردات اللغوية:
لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ لا تهتم بتخلفهم عنك، وقاتل ولو وحدك، فإنك موعود بالنصر.
وَحَرِّضِ حثهم على القتال ورغبهم فيه. بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي شدتهم وقوتهم. وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا ومعاقبة بما فيه عبرة ونكال لغيرهم.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة تثبيطهم (شغلهم) عن القتال وإظهارهم
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عبده ورسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بأن يباشر القتال بنفسه، وأما من نكل عنه فليتركه.
فقاتل يا محمد في سبيل الله إن أفردوك وتركوك وحدك إن أردت الظفر على الأعداء، لا تكلف غير نفسك وحدها أن تقدمها إلى الجهاد، فإن الله هو ناصرك، لا الجنود، فإن شاء نصرك وحدك، كما ينصرك وحولك الألوف.
أما غيرك الذين يقولون: لم كتبت علينا القتال، ويبيتون غير ما يعلنون أمامك من الطاعة، فاتركهم وشأنهم، والله مجازيهم على أعمالهم.
وما عليك في شأنهم إلا التحريض على القتال فحسب، لا التعنيف بهم، عسى الله- هنا بمعنى الخبر والوعد ووعد الله لا يخلف- أن يرد عنك بأس أي شدة وقوة الذين كفروا وهم قريش، والله أشد بأسا- قوة- من قريش، وأشد تنكيلا: تعذيبا ومعاقبة وهو قادر عليهم في الدنيا والآخرة لكفرهم وجرأتهم على الحق.
وقد تحقق هذا الوعد الإلهي، فكفّ بأس الكافرين،
وذلك أن أبا سفيان بعد موقعة أحد كان قد طلب اللقاء في بدر في العام المقبل، فأجابه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى مطلبه، فحينما حل موعد بدر الصغرى في السنة الثالثة لغزوة أحد، صمم النبي صلّى الله عليه وسلّم على الخروج، وقال: «والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي»
فخرج ومعه سبعون فقط، وتحقق لهم النصر لأن أبا سفيان بدا له وقال: هذا عام مجدب، وما كان معهم زاد إلا السويق، ولا يلقون إلا في عام مخصب، فرجع من الطريق، وصرفه الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
هذه الآية في الغاية القصوى من التحريض على القتال وخوض المعارك، فلا يكلف إلا النبي وحده إذا امتنع المسلمون عن مشاركته في الجهاد، والمعنى لا تدع جهاد العدو والاستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين، ولو وحدك لأنه وعده بالنصر. قال الزجاج: أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالجهاد وإن قاتل وحده لأنه قد ضمن له النصرة.
وهي تدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتال المشركين الذين قاوموا دعوته بقوتهم وإن كان وحده، كما أنها تدل على اتصاف النبي صلّى الله عليه وسلّم بشجاعة لا نظير لها، وقد ثبت وحده في أحد وحنين وكان الأبطال يتقون به،
قال علي كرم الله وجهه: «كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه».
واشتملت الآية على حض المؤمنين على الجهاد والقتال، ودلت على وعد من الله بنصر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتحقق هذا الوعد، كما أوضحت، ولا يلزم وجوده على الاستمرار والدوام، فمتى وجد ولو لحظة مثلا، فقد صدق الوعد، فكف الله بأس المشركين ببدر الصغرى، وأخلفوا ما كانوا عاهدوه من الحرب والقتال: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب ٣٣/ ٢٥]. وكذلك انتصر المؤمنون على المشركين في الحديبية أيضا عما راموه من الغدر وانتهاز الفرصة، ففطن بهم المسلمون، فخرجوا فأخذوهم أسرى، وكان ذلك والسفراء يمشون بينهم في الصلح، وهو المراد بقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [الفتح ٤٨/ ٢٤].
وألقى الله الرعب في قلوب الأحزاب يوم الخندق، وانصرفوا من غير قتل ولا قتال، كما قال تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب ٣٣/ ٢٥].
وخرج اليهود من ديارهم وأموالهم بغير قتال المؤمنين لهم. وقبل كثير من
الشفاعة الحسنة ورد التحية وإثبات البعث والتوحيد
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٥ الى ٨٧]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (٨٧)
الإعراب:
لَيَجْمَعَنَّكُمْ: اللام موطئة للقسم، فقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر، وقوله:
لَيَجْمَعَنَّكُمْ قسم، وكل لام بعدها نون مشددة فهي لام القسم.
المفردات اللغوية:
مَنْ يَشْفَعْ يتوسط في أمر لقضائه، بأن ينضم إلى آخر ناصرا له في طلبه نَصِيبٌ حظ من الأجر كِفْلٌ نصيب مكفول من الوزر مُقِيتاً حافظا ومقتدرا، فيجازي كل أحد بما عمل.
بِتَحِيَّةٍ مصدر حيّاه بأن قال له: حيّاك الله أو سلام عليكم، والتحية في الأصل: الدعاء بالحياة، ثم صار اسما لكل دعاء بالخير في الصباح أو المساء، وجعل الشرع تحية المسلمين: «السلام عليكم» إشارة إلى أن شعار الإسلام: السلام والأمان والمحبة حَسِيباً محاسبا على العمل، فيجازي عليه، وقد يراد به المكافئ لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً أي لا أحد أصدق قولا من الله.
لما أمر الله نبيه بتحريض المؤمنين على القتال، بين هنا أنهم حين أطاعوك أصابهم خير كثير، وأن لك من هذا الخير نصيبا تؤجر عليه، لما بذلت في ترغيبهم بالجهاد من جهود. قال مجاهد: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض.
التفسير والبيان:
من يسعى في أمر، فيترتب عليه خير، كان له نصيب منه بانتصار الحق على الباطل وما يتبعه من شرف وغنيمة في الدنيا، وبما يحظى به من الثواب في الآخرة.
ومن يسعى في سيئة يكون عليه وزر مما ترتب على سعيه ونيته،
كما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اشفعوا- أي في الخير- تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء» «١».
فالشفاعة نوعان: حسنة وسيئة، أما الشفاعة الحسنة: فهي التي روعي بها حق مسلم، ودفع بها عنه شر، أو جلب إليه خير، وابتغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، لا في حدّ من حدود الله، ولا في حق من الحقوق. وقيل: الشفاعة الحسنة: هي الدعوة للمسلم لأنها في معنى الشفاعة إلى الله.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب، استجيب له، وقال له الملك: ولك مثل ذلك» «٢»
فذلك النصيب. والدعوة على المسلم بضد ذلك.
(٢)
رواه مسلم وأبو داود عن أبي الدرداء، بلفظ: «من دعا لأخيه بظهر الغيب، قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثله».
وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً أي حفيظا شهيدا، وقيل: مقتدرا، أو محاسبا، فهو تعالى مطلع عالم بأغراض الشفعاء، مجاز كل واحد بحسب مقصده، وقادر على جزائه بما يستحق لأن الجزاء في سنته مرتبط بالعمل.
ثم علّم الله الناس التحية وآدابها، وهي كالشفاعة الحسنة من أسباب التواصل والتقارب بين الناس، وعدت من التحية. وأصل التحية: الدعاء بالحياة، والتحيات لله: أي الألفاظ التي تدل على الملك، ويكنى بها عنه لله تعالى، والصحيح أن التحية هاهنا: السلام، لقوله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ [المجادلة ٥٨/ ٨].
فإذا سلم عليكم المسلم فالواجب الرد عليه بأفضل مما سلم، أو الرد عليه بمثل ما سلم، فالزيادة مندوبة، والمماثلة مفروضة. فإذا قال الشخص: السلام عليكم، أجاب المسلّم عليه إما بقوله: وعليكم السلام، أو وعليكم السلام ورحمة الله، وإذا زاد: «وبركاته» كان أفضل، وفي كل كلمة عشر حسنات. والأولى أن يكون الرد ببشاشة وسرور وحسن استقبال.
روى ابن جرير عن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال السلام عليك يا رسول الله، فقال: «وعليك السلام ورحمة الله» ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وعليك
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً أي يحاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها، وهذا تأكيد لإشاعة السلام ووجوب رد التحية على من سلّم.
روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم».
ثم بيّن الله تعالى أنهم مجزيون على التحية والجهاد وأعمال الخير والشفاعة، فقرر أن المرجع والمصير إلى الله الواحد الأحد، وأن البعث والجزاء في الدار الآخرة ثابت. وهذه الآية تقرر ركنين أساسيين للدين وهما: إثبات التوحيد وإخباره تعالى بتفرده بالألوهية لجميع المخلوقات بقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
وإثبات البعث والجزاء في الآخرة بالقسم الذي أقسمه: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ «١» لا رَيْبَ فِيهِ أي أنه سيجمع الأولين والآخرين في الموت وتحت الأرض ثم يبعثهم في صعيد واحد، فيجازي كل عامل بعمله. وقد نزلت في الذين شكوا في البعث، فأقسم الله تعالى بنفسه.
وقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً معناه: لا أحد أصدق منه عز
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات آدابا وأحكاما مهمة هي:
١- إباحة الشفاعة الحسنة، أي الموصلة إلى الحق، غير المقترنة بالرشوة، وتحريم الشفاعة السيئة، أي التي فيها التعاون على الباطل أو الإثم والعدوان، أو المسقطة لحد من حدود الله، أو المضيعة لحق من الحقوق، أو المصحوبة بالرشوة.
والحسنة فيما استحسنه الشرع ورضيه أي في البر والطاعة، والسيئة فيما كرهه الشرع أو حرمه أي في المعاصي.
٢- الترغيب في التحية والسلام على من عرفت ومن لم تعرف،
وعن النخعي: «السلام سنة، والرد فريضة»
وكلما كان الرد أفضل كان الثواب أكثر،
فالسلام وحده من المسلّم والمجيب له من الأجر عشر حسنات، وضم الرحمة إليه: له عشرون حسنة، وضم: «وبركاته» له ثلاثون حسنة كما روى النسائي عن عمران بن حصين.
وعن ابن عباس: «الرد واجب، وما من رجل يمر على قوم مسلمين، فيسلم عليهم ولا يردون عليه، إلا نزع عنهم روح القدس، وردت عليه الملائكة»
وروى ابن جرير عن ابن عباس أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه، وإن كان مجوسيا، فإن الله يقول: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها [النساء ٤/ ٨٦].
ومن قال لخصمه: السلام عليكم، فقد أمنه على نفسه.
والسنة أن يسلم القادم، والراكب- لعلو مرتبته- على الماشي، والماشي على
جاء في الصحيحين أنه «يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير».
وروي «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرّ بصبيان فسلم عليهم»
وروى الترمذي: «أنه مر بنسوة فأومأ بيده بالتسليم»
وفي الصحيحين: «إن أفضل الإسلام وخيره: إطعام الطعام، وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»
وروى الحاكم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أفشوا السلام تسلموا»
وأجاز المالكية التسليم على النساء إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين، ومنعه الحنفية إذا لم يكن منهن ذوات محرم، وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن رد السلام، فلا يسلم عليهن.
والصحيح مذهب المالكية لما ثبت في البخاري من تسليم الصحابة في المدينة على عجوز.
وذكر السيوطي: أنه ثبت في السنة أنه لا يجب الرد على الكافر والمبتدع والفاسق وعلى قاضي الحاجة ومن في الحمام والآكل، بل يكره في غير الأخير، ويقال للكافر: وعليك. ثبت
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا سلم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» «١»
أي وعليكم ما قلتم لأنهم كانوا يقولون: السام عليكم.
وروي: «لا تبتدئ اليهودي بالسلام، وإن بدأ فقل: وعليك»
وهذا مذهب الجمهور.
ولا يرد السلام في الخطبة، وقراءة القرآن جهرا، ورواية الحديث، وعند مذاكرة العلم، والأذان والإقامة. ولا يسلّم على المصلي، فإن سلّم عليه فهو بالخيار: إن شاء ردّ بالإشارة بإصبعه، وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يرد.
وذكر الطحاوي: أن المستحب رد السلام على طهارة،
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه تيمم لرد السلام».
وعن أبي حنيفة: لا تجهر بالرد يعني الجهر الكثير.
وأجاز الحسن البصري أن تقول للكافر: وعليك السلام، ولا تقل: ورحمة الله، فإنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلّم عليه: وعليك السلام ورحمة الله، فقيل له في ذلك؟ فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟
وقد رخص بعض العلماء في أن يبدأ أهل الذمة بالسلام إذا دعت إلى ذلك حادثة تحوج إليهم، وروي ذلك عن النخعي. والخلاصة: يجوز بدء السلام ورده على غير المسلمين عند بعض الأئمة.
والسنة في السلام والجواب الجهر، ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي. وعند المالكية: تكفي إذا كان على بعد.
٣- الله على كل شيء مقيت (شهيد أو مقتدر) وحسيب (أي رقيب وحفيظ ومحاسب على الأعمال) ولا أحد أصدق من الله حديثا في خبره ووعده ووعيده وحديثه.
٤- إثبات التوحيد وتفرد الله بالألوهية والربوبية لجميع المخلوقات، وإثبات البعث والجزاء في الدار الآخرة.
٥- القرآن كلام الله لأنه وحي منه: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً أما كلام غير الله وغير النبي فمحتمل للصدق والكذب عمدا أو سهوا أو جهلا.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٨٨ الى ٩١]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)
الإعراب:
فِئَتَيْنِ منصوب على الحال من الكاف والميم في لَكُمْ أي ما لكم في المنافقين مختلفين؟
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ جملة فعلية: إما في موضع جر، صفة لمجرور وهو إِلى قَوْمٍ وإما في موضع نصب لأنها صفة لقوم مقدر تقديره: أو جاءوكم قوما حصرت صدورهم. والفعل الماضي إذا وقع صفة لمحذوف جاز أن يقع حالا بالإجماع.
لَسَلَّطَهُمْ اللام جواب لَوْ واللام في «لقاتلوكم» : تأكيد لجواب لَوْ في لَسَلَّطَهُمْ لأنها حوذيت بها، وإلا فالمعنى: فسلطهم عليكم فيقاتلوكم، فزيدت للمحاذاة والازدواج: وهي اللام التي تأتي في إثر جواب «لو» ثم تقترن بها لام أخرى، يقصد بها التأكيد.
البلاغة:
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ وقوله: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا: استفهام بمعنى الإنكار.
أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ: فيه طباق.
تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا: جناس مغاير.
المفردات اللغوية:
فِئَتَيْنِ فرقتين أو جماعتين أَرْكَسَهُمْ ردهم إلى الكفر والقتال. والمراد هنا تحولهم إلى الغدر والقتال، بعد أن أظهروا الولاء للمسلمين. أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي تعدوهم من جملة المهتدين. سَبِيلًا طريقا إلى الهدى.
وَدُّوا تمنوا وَلِيًّا نصيرا ومعينا يَصِلُونَ يتصلون بهم أو يلجأون إليهم مِيثاقٌ عهد،
كما عاهد النبي صلّى الله عليه وسلّم هلال بن عويمر الأسلمي
حَصِرَتْ ضاقت عن قتالكم وقتال قومهم السَّلَمَ الصلح أو السلام والاستسلام، أي انقادوا سَبِيلًا طريقا بالأخذ والقتل.
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ بإظهار الإيمان عندكم وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ بالكفر إذا رجعوا إليهم، وهم أسد وغطفان الْفِتْنَةِ الشرك أُرْكِسُوا فِيها وقعوا أشد وقوع فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ بترك قتالكم فَخُذُوهُمْ بالأسر ثَقِفْتُمُوهُمْ وجدتموهم سُلْطاناً مُبِيناً برهانا بينا أو حجة واضحة على قتلهم وسبيهم لغدرهم.
نزول الآية (٨٨) :
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ:
روى الشيخان وغيرهما عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه، فكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا، فأنزل الله:
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ.
وروى ابن جرير عن ابن عباس أنها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين، فاختلف المسلمون في شأنهم وتشاجروا، فنزلت الآية.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن سعد بن معاذ بن عبادة قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس، فقال: من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني؟ فقال سعد بن معاذ: إن كان من الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك، فقام سعد بن عبادة، فقال: يا ابن معاذ: طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولقد عرفت ما هو منك فقام أسيد بن حضير فقال: إنك يا بن عبادة منافق وتحب المنافقين فقام محمد بن مسلمة فقال: اسكتوا يا أيها الناس، فإن فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يأمرنا فننفذ أمره، فأنزل الله:
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ الآية.
وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف أن قوما من العرب أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فأسلموا، وأصابهم وباء المدينة وحماها، فأركسوا خرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من الصحابة، فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوة حسنة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فأنزل الله: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ الآية
، لكن
سبب نزول الآية (٩٠) :
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ:
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن البصري أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم، قال: لما ظهر النبي صلّى الله عليه وسلّم على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم، قال سراقة: بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، إنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا، ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم يحسن تغليب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد خالد، فقال: اذهب معه، فافعل ما يريد، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، وأنزل الله: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ
فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة بن عامر بن عبد مناف. وأخرج أيضا عن مجاهد أنها نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وكان بينه وبين المسلمين عهد، وقصده ناس من قومه، فكره أن يقاتل المسلمين، وكره أن يقاتل قومه.
المناسبة:
هذه الآيات استمرار في بيان أحوال المنافقين ومواقفهم المخزية، وهي إنكار على المؤمنين في اختلافهم في شأن المنافقين على رأيين، وتقسيمهم فئتين، مع أن كفرهم واضح، فيجب القطع بكفرهم وقتالهم. وقد كانت الآيات السابقة:
٦٠- ٦٣، و٦٤- ٦٨، و٧٢- ٧٣، والآيات اللاحقة ١٤٢- ١٤٣ كلها في مناقشة أعمال المنافقين والتنديد بها وإنكارها.
يخاطب الله المؤمنين مستنكرا عليهم انقسامهم في شأن كفر المنافقين، مع قيام الأدلة عليه، فما لكم اختلفتم في شأنهم فئتين: فئة تزكيهم وتشهد لهم بالخير، وفئة تطعن بهم وتشهد لهم بالكفر؟ والحال أنهم كافرون، صرفهم الله عن الحق وأوقعهم في الضلال، بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول، واتباعهم الباطل، ومعاداتهم المسلمين وبغضهم والتآمر عليهم، وعدم هجرتهم من مكة إلى المدينة، فكأنهم نكسوا على رءوسهم، وصاروا يمشون على وجوههم، لفساد فطرتهم، كما قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟ [الملك ٦٧/ ٢٢]. ومعنى قوله: أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي ردّهم في حكم المشركين كما كانوا بسبب ارتدادهم ولحوقهم بالمشركين واحتيالهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ.. أي هل تريدون إعادتهم إلى هداية الإسلام مع أنهم ضالون بأنفسهم؟ ومن يكون ضالا عن طريق الحق، فلن تجد له طريقا للعودة إليه، أي لا طريق لهم إلا الهدى ولا مخلص لهم إليه لأن سبيل الحق واضح وهو التزام منهج الفطرة، وهداية العقل الرشيد، والتفكير المجرد غير المتحيز في الخير والشر، والنافع والضار، والحق والباطل.
ثم ذكر الله تعالى موقفا غريبا لهم وهو أنهم يتمنون الضلالة لكم، لتستووا أنتم وإياهم فيها، ليقضى على الإسلام كله، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم، وتماديهم في الكفر، حيث لا يكتفون بضلالهم وكفرهم وغوايتهم، بل يتأملون إضلال غيرهم.
لذا حذر الله المؤمنين من مكائدهم وسعاياتهم هذه، فلا تتخذوا منهم أنصارا يساعدونكم على المشركين الوثنيين، حتى يدل الدليل الواضح على إيمانهم
فإن أعرضوا عن الإيمان الظاهر بالهجرة في سبيل الله، ولزموا أماكنهم خارج المدينة، فخذوهم واقتلوهم أنى وجدتموهم في أي مكان وزمان، في الحل أو في الحرم، ولا توالوهم أو تولوهم شيئا من مهام أموركم، ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك.
ثم استثنى الله من هؤلاء أحد صنفين:
الأول:
الذين يتصلون بقوم معاهدين للمسلمين ويلجأون إلى أهل عهدكم بمهادنة أو عقد ذمة، فينضمون إليهم في عهدهم، فاجعلوا حكمهم كحكم المعاهدين. وهذا موافق
لما جاء في صلح الحديبية في صحيح البخاري: «من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم، دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم، دخل فيه».
قال أبو بكر الرازي: إذا عقد الإمام عهدا بينه وبين قوم من الكفار، فلا محالة يدخل فيه من كان في حيزهم ممن ينسب إليهم بالرحم أو الحلف أو الولاء، بعد أن يكون في حيزهم ومن أهل نصرتهم وأما من كان من قوم آخرين فإنه لا يدخل في العهد ما لم يشرط، ومن شرط من أهل قبيلة أخرى دخوله في عهد المعاهدين، فهو داخل فيهم إذا عقد العهد على ذلك، كما دخلت بنو كنانة في عهد قريش «١».
الثاني:
المحايدين: الذين جاءوكم وقد ضاقت صدورهم بقتالكم وأبغضوا أن
وكلا الفريقين يعاملون بقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة ٢/ ١٩٠].
وكان من رحمة الله ولطفه بكم أن سالموكم وكفّ بأس هذين الفريقين عنكم، ولو شاء الله لسلطهم عليكم بأن يلهمهم القتال فيقاتلوكم.
فإن اعتزلكم هؤلاء وأمثالهم فلم يقاتلوكم، وألقوا إليكم المسالمة، فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك. وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين، فحضروا القتال، وهم كارهون، كالعباس ونحوه، ولهذا
نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره.
قال الزمخشري: فقرر أن كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض عنهم وترك الإيقاع بهم.
ثم بيّن الله تعالى حكم جماعة أخرى موافقة في الظاهر للفئة السابقة، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك، فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأصحابه الإسلام، ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم (النساء والصبيان) ويصانعون الكفار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون، ليكونوا في أمان من المسلمين، وهم في الباطن مع الكفار «١»، كما قال تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة ٢/ ١٤] وقال هاهنا: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها أي كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين، أركسوا فيها، أي قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه وانهمكوا فيها، وكانوا شرا فيها من كل عدو، كما قال
وحكمهم أنه إن لم يعتزلوكم، ويسالموكم، ويقفوا على الحياد، ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين، فخذوهم أسراء، واقتلوهم حيث لقيتموهم، وأولئكم جعلنا لكم عليهم حجة واضحة، أو برهانا بيّنا واضحا على قتالهم، لظهور عداوتهم.
وهذا كله تأكيد لحرص الإسلام على السلم والأمن والعهد والصلح، قال الرازي: قال الأكثرون: وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا، وطلبوا الصلح منا، وكفوا أيديهم عن قتالنا، لم يجز لنا قتالهم وقتلهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أحكام كثيرة هي:
١- وضوح موقف الإسلام من المنافقين: وهو الحكم عليهم بالكفر وجواز قتلهم، فلا يصح الانقسام في الحكم عليهم فرقتين مختلفتين، ما دامت أدلة كفرهم واضحة للعيان. والمنافقون الذين نزلت الآية في شأنهم: هم عبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد، ورجعوا بعسكرهم بعد أن خرجوا كما تقدم في «آل عمران» وقال ابن عباس: هم قوم بمكة آمنوا وتركوا الهجرة. قال الضحاك: وقالوا: إن ظهر محمد فقد عرفنا، وإن ظهر قومنا فهو أحب إلينا.
فصار المسلمون فيهم فئتين: قوم يتولّونهم، وقوم يتبرءون منهم فقال الله عز وجل: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ؟
والهجرة أنواع:
منها- الهجرة إلى المدينة لنصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكانت هذه واجبة أول الإسلام، حتى
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: «لا هجرة بعد فتح مكة».
ومنها- هجرة المنافقين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغزوات.
وهجرة من أسلم في دار الحرب، فإنها واجبة.
وهجرة المسلم ما حرّم الله عليه كما
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عمرو: «والمهاجر: من هجر ما نهى الله عنه» أو: «من هجر ما حرم الله عليه».
وهاتان الهجرتان ثابتتان الآن.
وهجرة أهل المعاصي حتى يرجعوا تأديبا لهم، فلا يكلّمون ولا يخالطون حتى يتوبوا
كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم مع كعب بن مالك وصاحبيه.
٣- أسر المنافقين وقتلهم: قال الله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ أي إن أعرضوا عن التوحيد والهجرة فأسروهم واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم في مختلف الأماكن من حلّ وحرم.
٤- تحريم قتال وقتل المنضمين إلى المعاهدين الذين تعاهدوا مع المسلمين، وكذا المحايدين الذين وقفوا على الحياد، فلم يقاتلوا المسلمين ولم يقاتلوا قومهم.
٥- دلت الآية إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ على مشروعية الموادعة (الهدنة) بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين.
وتسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين: هو بأن يقدرهم على ذلك ويقوّيهم، إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي، وإما ابتلاء واختبارا، كما قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [محمد ٤٧/ ٣١] وإما تمحيصا للذنوب، كما قال تعالى: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران ٣/ ١٤١].
٧- مسالمة الانتهازيين الذين يظهرون الإيمان، ولكنهم مستعدون للعودة إلى الشرك وهم المذكورون في قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ... الآية.
قال قتادة: نزلت في قوم من تهامة طلبوا الأمان من النبي صلّى الله عليه وسلّم ليأمنوا عنده وعند قومهم.
وقال مجاهد: هي في قوم من أهل مكة.
وقال السدّي: نزلت في نعيم بن مسعود كان يأمن المسلمين والمشركين.
وقال الحسن البصري: هذا في قوم من المنافقين.
وقيل: نزلت في أسد وغطفان قدموا المدينة، فأسلموا، ثم رجعوا إلى ديارهم، فأظهروا الكفر.
وانتهازيتهم واضحة في قوله تعالى: كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها ومعنى أُرْكِسُوا: انتكسوا عن عهدهم الذي عاهدوا، وقيل: إذا دعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٩٢) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (٩٣)
الإعراب:
أَنْ يَقْتُلَ أن المصدرية وصلتها اسم كان المرفوع ولِمُؤْمِنٍ خبرها مقدم على الاسم.
إِلَّا خَطَأً استثناء منقطع، ومثله قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا.
وانتصاب خطأ: إما لأنه مفعول لأجله، أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ، أو لأنه صفة لمصدر محذوف أي قتلا خطأ، أو حال.
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ تحرير: مبتدأ، وخبره محذوف وتقديره: فعليه تحرير رقبة ودية مسلّمة، وكذلك فَصِيامُ شَهْرَيْنِ أي فعليه صيام شهرين.
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ توبة: منصوب على المصدر بفعله المقدر، وإن شئت على المفعول لأجله.
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً: إطناب.
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مجاز مرسل في رَقَبَةٍ من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل.
المفردات اللغوية:
خَطَأً أي مخطئا في قتله بغير قصد للقتل وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً بأن قصد رمي غيره كصيد أو شجرة، فأصابه أو ضربه بما لا يقتل غالبا.
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي عتق مملوك مُؤْمِنَةٍ أي عليه نفس مؤمنة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي مؤداة إلى ورثة المقتول، والدية: مال يدفع لأهل القتيل عوضا عنه أَنْ يَصَّدَّقُوا أن يتصدقوا عليه بها بأن يعفوا عنها. مِيثاقٌ عهد كأهل الذمة أو الأمان أو الصلح فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة بأن فقدها أو فقد ثمنها مُتَتابِعَيْنِ شهرين قمريين لا يتخللهما فطر إلا لعذر شرعي. ولم يذكر الله تعالى الانتقال إلى الطعام كالظهار، وبه أخذ الشافعي في أصح قوليه تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ تطهيرا لأنفسكم ولأما لجرحكم عَلِيماً بخلقه حَكِيماً فيما دبره لهم.
سبب النزول:
نزول الآية (٩٢) :
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ:
أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عيّاش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلقيه عيّاش بالحرّة، فعلاه بالسيف، وهو يحسب أنه كافر، ثم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره فنزلت: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً الآية.
نزول الآية (٩٣) :
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً:
أخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن عكرمة أن رجلا من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة، فأعطاه النبي صلّى الله عليه وسلّم
قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية:
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أحكام قتال المنافقين، والذين يعاهدون المسلمين على السلم ثم يغدرون بهم ويعينون أعداءهم، ذكر هنا حكم قتل من لا يحل قتله عمدا أو خطأ، سواء كان من المؤمنين أو المعاهدين والذميين.
التفسير والبيان:
ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بأي وجه، إلا إذا وقع القتل خطأ، أي ما كان لمؤمن قتل مؤمن إلا خطأ، والقتل الخطأ: هو الذي يحدث من غير قصد الفعل أو الشخص أو إزهاق الروح غالبا لأن القتل جريمة عظمي ومن الكبائر أو السبع الموبقات، قال تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ، فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً [المائدة ٥/ ٣٢].
وثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة»
وهذه الخصال الثلاث ليس لأحد من الرعية أن يفعل شيئا منها، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه.
وأخرج بن ماجه عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أعان على قتل مسلم مؤمن بشطر كلمة، جاء يوم القيامة، مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله».
وأخرج البيهقي عن البراء بن عازب أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مؤمن».
وعقوبة القتل الخطأ شيئان: تحرير رقبة مؤمنة أي عتق نفس مملوكة، ودية مدفوعة إلى أهل القتيل. أما الواجب الأول وهو تحرير الرقبة فهو كفارة لما ارتكب من الذنب العظيم، وإن كان خطأ. ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة، فلا تجزئ الكافرة. والذي عليه الجمهور: أنه متى كان العبد مسلما صح عتقه عن الكفارة، سواء كان صغيرا أو كبيرا.
قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار: أنه جاء بأمة سوداء فقال: يا رسول الله، إن علي عتق رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتشهدين أن لا إله إلا الله؟» قالت: نعم. قال: «أتشهدين أني رسول الله؟» قالت: نعم، قال: «أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟» قالت: «نعم» قال: «أعتقها»
وهذا إسناد صحيح وجهالة الصحابي لا تضره.
وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود والنّسائي عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء، قال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أين الله؟»، قالت: في السماء، قال: «من أنا؟»، قالت: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة».
وأما الواجب الثاني وهو الدّية: فتجب عوضا عما فات أهل القتيل من قتيلهم، وهي كما ثبت في السّنّة مائة من الإبل، ودية المرأة نصف دية الرجل لأن المنفعة التي تفوت أهل الرجل بفقده أعظم من المنفعة التي تفوت بفقدها.
أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما عن عمرو بن حزم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى أهل اليمن كتابا جاء فيه:
«إن من اعتبط- قتل بغير سبب شرعي- مؤمنا قتلا عن بيّنة، فإنه قود
أي أن جنس الدّية بحسب رأس المال الشائع عند أهلها، فعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الفضة عشرة آلاف درهم عند الحنفية، واثنا عشر ألف درهم عند الجمهور، وعلى أهل الإبل مائة، وقال الشافعي: لا تؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق (الفضة) إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت.
وإنما تجب دية الإبل أخماسا،
كما روى الإمام أحمد وأصحاب السّنن عن ابن مسعود، قال: «قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض، وعشرين بني مخاض ذكورا، وعشرين بنت لبون، وعشرين جذعة وعشرين حقّة».
وهذا مذهب أحمد ومالك والشافعي، وكذا عند أبي حنيفة إلا أنه يجعل مكان ابن اللبون: ابن مخاض «١».
وأما دية شبه العمد في رأي الحنفية فهي مثلثة: أربعون خلفة (حامل) وثلاثون حقّة، وثلاثون جذعة «٢».
ومالك لا يقول بشبه العمد إلا في قتل الوالد ولده. وأما ديّة العمد فما اتّفق عليه عند أبي حنيفة ومالك في المشهور من قوله. وأما عند الشافعي فكدية شبه العمد.
ودية الخطأ على العاقلة، وهي عند علماء الحجاز: قرابة القاتل من جهة أبيه، وهم عصبته لأن الناس تعاقلوا في زمن النّبي صلّى الله عليه وسلّم وفي زمن أبي بكر، ولم يكن هناك ديوان.
وعند الحنفية: العاقلة: هم أهل ديوان القاتل، على النحو الذي نظمه
(٢) المرجع السابق: ص ٢٣٤
فإن قيل: كيف تتحمل العاقلة الدية وتؤخذ بجريرة القاتل، والله يقول:
وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام ٦/ ١٦٤]،
ويقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البزار عن ابن مسعود: «لا يؤخذ الرّجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه»
وقال لأبي رمثة وابنه فيما رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي رمثة: «إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه».
فالجواب: أن هذا ليس من باب تحميل الشخص وزر غيره لأن الدّية على القاتل ابتداء، وتحمل العاقلة إياها من باب المعاونة، كما يتعاون هو في دية قاتل آخر، وكما تتعاون القبيلة في النصرة فترد الغارات، تتعاون بمالها، فيدي بعضها عن بعض.
وقد دلّت الأحاديث على أن العاقلة (العصبة من جهة الأب) تحمل الدّية،
روى الشيخان عن أبي هريرة: أن امرأة ضربت بطن امرأة أخرى، فألقت جنينا ميتا، فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عاقلة الضاربة بالغرّة، فقام حمل بن مالك فقال:
كيف ندي من لا شرب ولا | أكل ولا صاح ولا استهلّ |
فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا من سجع الجاهلية.
وورد أن عمر رضي الله عنه قضى على علي بأن يعقل مولى صفية بنت عبد المطلب حين جنى مولاها، وعلي كان ابن أخي صفية، وقضى للزبير بميراثها.
ولا خلاف بين العلماء في أن الجنين إذا خرج حيّا فيه الكفارة مع الدّية،
وقال الحنفية: الغرّة للأم وحدها لأنها جناية جني عليها بقطع عضو من أعضائها وليست بدية.
وذهب أبو بكر الأصمّ وجمهور الخوارج إلى أن الدّية على القاتل، لا على العاقلة لأن قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ [النساء ٤/ ٩٢]، يقتضي أن من يجب عليه هو القاتل، وكذلك في الدّية.
ونظرا لاختلاف النظام الاجتماعي عما كان عليه في زمن العرب، وانهيار روابط القبيلة وفقد العصبية القبلية، واعتماد كل امرئ على نفسه دون قبيلته، كما في الوقت الحاضر، يكون الأوفق الأخذ برأي الأصم والخوارج، وهذا ما نصّ عليه متأخرو الحنفية كما أبان ابن عابدين.
وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا معناه: أن الدّية تجب لأهل المقتول إلا أن يعفوا عنها ويتنازلوا عنها فلا تجب لأنها إنما وجبت جبرا لخاطرهم وتطييبا لنفوسهم، حتى لا تقع عداوة ولا بغضاء بينهم وبين القاتل، وتعويضا عما فاتهم من المنفعة بقتله، فإذا عفوا فقد طابت نفوسهم، وسمّى الله هذا العفو تصدقا ترغيبا فيه.
فإن كان المقتول من الأعداء أهل الحرب وهو مؤمن كالحارث بن يزيد من قريش أعداء النّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمؤمنون في حرب معهم، ولم يعلم المسلمون إيمانه لأنه لم يهاجر، وقد قتله عياش حين هاجر وهو لم يعلم بذلك، كما تقدم، ومثله
وأما إن كان المقتول من قوم معاهدين للمسلمين على السلم، كأهل الذّمّة أو الهدنة، فلهم دية قتيلهم. والواجب في قتل المعاهد المؤمن أو الكافر دية كاملة وتحرير رقبة مؤمنة أيضا. وهذا رأي أبي حنيفة، لظاهر الآية في أهل الميثاق، وهم المعاهدون وأهل الذّمة، ولأنه يسوّى في القصاص بين المسلم والذّمّي، فيسوّى بينهما في الدّية.
وقال مالك: دية المعاهدين نصف دية المسلمين في الخطأ والعمد،
لما روى أحمد والترمذي أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «عقل- دية- الكافر نصف دية المسلم»،
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه أنه قال: كانت الدّيات على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمانمائة دينار، وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين
، قال: فكان ذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر على أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وترك دية أهل الذّمّة لم يرفع فيها شيئا.
وقد روى أهل السّنن الأربعة عنه صلّى الله عليه وسلّم: «إن دية المعاهد نصف دية المسلم».
وروي عن أحمد: أن ديته كدية المسلم إن قتل عمدا، وإلا فنصف ديته.
وقال الشافعي: ديته ثلث دية المسلم في الخطأ والعمد لأنه أقل ما قيل في المسألة، ولأن عمر جعل ديته أربعة آلاف، وهي ثلث دية المسلم.
وتأخذ الدّية ورثة المقتول، وهي كميراث، يقضى منها الدّين، وتنفذ منها الوصايا، وتقسم على الورثة، روي أن امرأة جاءت تطلب نصيبها من دية الزوج، فقال عمر: لا أعلم لك شيئا، إنما الدّية للعصبة الذين يعقلون عنه،
فمن لم يملك الرقبة ولا ثمنها أو لم يجد رقيقا كما في عصرنا (وهذا من أهداف الإسلام) فعليه صيام شهرين متتابعين قمريين، لا يقطعهما إفطار من غير عذر شرعي، وإلا استأنف الصوم من جديد.
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي شرعها الله لكم قبولا منه ورحمة لتطهير نفوسكم من آثار التقصير وقلّة الاحتراز والتّحري، مما أدى إلى القتل خطأ.
وكان الله عليما بأحوال النفوس وما يطهرها، وقد علم أن القاتل خطأ لم يتعمد، فلذلك لم يؤاخذه بالقصاص، حكيما فيما شرعه، فإن فرض الدّية تعويضا لهم في غاية الحكمة والمصلحة.
القتل العمد:
أما من قتل مؤمنا عمدا فجزاؤه على قتله عذاب جهنم خالدا فيها أي باقيا فيها، وغضب الله عليه أي انتقم منه لما ارتكبه من هذا الجرم الخطير، وأخزاه ولعنه أي أبعده عن رحمته، وهيأ له عذابا عظيما.
وهل تقبل توبة القاتل عمدا؟
يرى ابن عباس وجماعة آخرون من الصحابة والتابعين «١» : أنه لا توبة لقاتل العمد، للأحاديث الكثيرة التي تدلّ على عظم هذه الجريمة، كما تقدّم عن ابن عمر والبراء بن عازب. ويختلف هذا عن التائب من الشرك- وقد كان قاتلا زانيا- فإنه تقبل توبته لأنه لم يكن يؤمن بالشريعة التي تحرم هذه الأمور، فله شبه عذر، وترغيبا له في الإسلام. أما المؤمن العالم بحرمة القتل فلا عذر له.
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس، ثم سأل عالما:
هل لي من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه، فهاجر إليه، فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة. وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون قبول التوبة في هذه الأمة بطريق الأولى والأحرى لأن الله وضع عنّا الآصار والأغلال التي كانت عليهم، وبعث نبيّنا بالحنيفية السمحة.
ولأن الكفر أعظم من القتل، والتوبة عنه تقبل، فتقبل عن القتل بالأولى، ثم إن آية الفرقان تدلّ على قبول توبته وهي قوله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلا يَزْنُونَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً، يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً، إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الآيات ٦٨- ٧٠].
فأما الآية الكريمة: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً.. فقال أبو هريرة وجماعة من السّلف: هذا جزاؤه إن جازاه. وعليه يحمل كل وعيد على ذنب، وقد يكون له أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قول أصحاب الموازنة، أي وزن الحسنات والسيئات.
وعلى قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به، فليس بمخلد أبدا، بل الخلود هو المكث الطويل، لا الدوام،
وقد تواترت الأحاديث عن
ويرى بعضهم (عكرمة وابن جريج) أن حكم الآية إنما هو لمن استحلّ القتل، فإنما فسّر متعمدا، أي مستحلّا، فجزاؤه حينئذ جهنم خالدا فيها أبدا.
واختار الرازي في الجواب: أن هذه الآية قد خصصت في موضعين:
أحدهما- القتل العمد إذا لم يكن عدوانا كقتل القصاص.
والثاني- القتل الذي تاب عنه. وإذا دخلها التخصيص في هذين، فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو، بدليل قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- شأن الإيمان الامتناع النهائي عن قتل النفس، لا عمدا ولا خطأ لأنه اعتداء على صنع الخالق، وجريمة عظيمة، ومنكر قبيح.
٢- أجمع العلماء على أن قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً أنه لم يدخل فيه العبيد، وإنما أريد به الأحرار دون العبيد، وكذلك أيضا
قوله عليه الصّلاة والسّلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» «١»
أريد به الأحرار خاصة.
٣- فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فعليه تحرير رقبة مؤمنة كالرقبة التي
٤- الواجب الثاني في القتل الخطأ هو الدّية: وهي ما يعطى عوضا عن دم القتيل إلى وليه. والمسلّمة: المدفوعة المؤداة، ولم يعين الله في كتابه ما يعطى في الدّية، وإنما في الآية إيجاب الدّية مطلقا، وليس فيها إيجابها على العاقلة أو على القاتل، وإنما أخذ ذلك من السّنّة، وقد بيّنت ذلك.
٥- دلّ قوله: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا على جواز العفو عن الدّية، والتّصدّق:
الإعطاء والمراد: إلا أن يبرئ الأولياء ورثة المقتول مما أوجب الله لهم من الدّية على عاقلة القاتل. أما الكفارة التي هي لله تعالى فلا تسقط بإبرائهم لأنه أتلف شخصا في عبادة الله سبحانه، فعليه أن يخلّص آخر لعبادة ربّه.
وإنما تسقط الدّية التي هي حقّ لهم. وتجب الكفارة في مال الجاني ولا يتحملها أحد عنه.
٦- فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ: موضوعها المؤمن يقتل في بلاد الكفار أو في حروبهم على أنه من الكفار، ففي المشهور من قول مالك، وقول أبي حنيفة: إن كان هذا المقتول رجلا مؤمنا قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة، فلا دية له، وإنما كفارته تحرير الرقبة لأن أولياء القتيل كفار، فلا يصح أن تدفع إليهم فيتقووا بها، ولأن حرمة هذا الذي آمن ولم يهاجر قليلة، فلا دية لقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا [الأنفال ٨/ ٧٢]. فإن قتل المؤمن في بلاد المسلمين وقومه حرب، ففيه الدّية لبيت المال والكفارة «١».
ولو وجبت الدّية لوجبت لبيت المال على بيت المال، فلا تجب الدّية في هذا الموضع، وإن جرى القتل في بلاد الإسلام.
ويؤيد هذا الحكم
ما جاء في صحيح مسلم من قتل أسامة رجلا من جهينة قال: لا إله إلا الله، خوفا من السلاح في تقديره، قال له النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «أعتق رقبة» ولم يحكم بقصاص ولا دية.
٧- وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ: هذا في الذّمّي والمعاهد يقتل، فتجب الدّية والكفارة، وهو قول ابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي.
٨- أجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل لأن لها نصف الميراث، وشهادتها نصف شهادة الرجل. وهذا ثابت بالسّنّة لا بالقرآن. أما القتل العمد ففيه القصاص بين الرجال والنساء، لقوله عزّ وجلّ: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والْحُرُّ بِالْحُرِّ كما تقدم في سورة البقرة.
واختلف العلماء في رجل يسقط على آخر فيموت أحدهما:
فقال شريح والنخعي وأحمد وإسحاق: يضمن الأعلى الأسفل، ولا يضمن الأسفل الأعلى. وقال مالك في رجلين جرّ أحدهما صاحبه حتى سقطا وماتا:
على عاقلة الذي جبذه الدّية. وقال بعض أصحاب الشافعي: يضمن نصف الدّية لأنه مات من فعله، ومن سقوط الساقط عليه.
أما في حال التصادم: فقال الشافعي في رجلين يصدم أحدهما الآخر فماتا:
دية المصدوم على عاقلة الصادم، ودية الصادم هدر. وقال في الفارسين إذا
وقال مالك وأبو حنيفة: على كل واحد منهما دية الآخر على عاقلته.
وذلك يقال أيضا في تصادم السفينتين، أو السيارتين اليوم.
٩- إن دية أهل الكتاب فيها اختلاف:
فقال المالكية وأحمد: هي على النصف من دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، ودية نسائهم على النّصف من ذلك، لحديث عمرو بن شعيب المتقدّم.
وقال الحنفية: الدّيات كلها سواء، المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذّمي لقوله تعالى: فَدِيَةٌ وذلك يقتضي الدّية كاملة كدية المسلم «١»، ويؤيده
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن عباس- جعل دية يهود بني قريظة والنضير سواء، دية كاملة.
لكنه حديث عن ابن عباس ضعيف جدا.
وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم لأنه أقل ما قيل في ذلك، كما أوضحت، والذّمة بريئة إلا بيقين أو حجّة.
١٠- صيام شهرين متتابعين لمن لم يجد الرّقبة ولا اتّسع ماله لشرائها، فلو أفطر يوما بلا عذر استأنف. وهذا قول الجمهور. فإن وجد عذر كالحيض، أو مرض، لم يستأنف في رأي مالك. وقال أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه:
يستأنف في المرض.
١١- ذكر الله عزّ وجلّ في كتابه العمد والخطأ ولم يذكر شبه العمد، فقال مالك: ليس في كتاب الله إلا العمد والخطأ، وأما شبه العمد فلا نعرفه.
بما روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد: ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها»
لكنه حديث مضطرب عند المحدثين. ذكر ابن عبد البرّ أنه لا يثبت من جهة الإسناد.
واختلف القائلون بشبه العمد في تحديده وبيان ما هو عمد على أقوال ثلاثة:
الأوّل- قال أبو حنيفة: العمد: ما كان بالحديد، وكل ما عدا الحديد من القضيب أو النار وما يشبه ذلك فهو شبه العمد «١».
الثاني- قال أبو يوسف ومحمد: شبه العمد ما لا يقتل مثله.
الثالث- قال الشافعي: ما كان عمدا في الضرب، خطأ في القتل، أي ما كان ضربا لم يقصد به القتل، فتولد عنه القتل. وأما الخطأ فما كان خطأ فيهما جميعا، وأما العمد: فما كان عمدا فيهما جميعا.
ويعتمد الفقهاء في إثبات العمد وشبهه والخطأ على الآلة التي بها القتل لأن نيّة القاتل لا اطلاع لنا عليها، فأقيمت الآلة مقام النيّة. وكان الأولى هو البحث عن ظروف القتل وقرائن الأحوال لتعلم نيّة القاتل أهو عمد أم مخطئ.
واختلفوا في الدّية المغلظة على القتل شبه العمد: فقال عطاء والشافعي ومالك في المشهور عنه، فيما يقول فيه بشبه العمد، وهو قتل الوالد ولده: هي ثلاثون حقّة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة «٢».
(٢) الحقّة: إذا دخلت الناقة في السنة الرابعة، والجذعة: إذا دخلت في السنة الخامسة. والخلفة.
الحامل. وابنة المخاض: ما كان لسنة، وابنة اللبون: ما كان لسنتين.
ودية شبه العمد عند الحنفية والشافعية والحنابلة على العاقلة (القرابة من جهة الأب).
ولا تحمل العاقلة دية العمد، وإنها في مال الجاني.
وهل تجب الكفارة في القتل العمد؟ أجمعوا على وجوب الكفارة على القاتل خطأ، واختلفوا في وجوبها على قاتل العمد، فلم يوجبها الجمهور لأنه لا قياس في الكفارات، واقتصر النّص القرآني على الكفارة في القتل الخطأ جبرا للذنب غير المقصود «١». وأوجبها الشافعي في العمد وفي شبه العمد وفي الخطأ لأن الذنب في القتل العمد أعظم من القتل الخطأ، فكانت الكفارة في العمد أحرى وأولى، والعامد أحوج إليها لتكفير الخطيئة.
وإذا اشترك جماعة في القتل الخطأ، وجبت الكفارة على كلّ واحد منهم باتّفاق المذاهب الأربعة.
الحرص على السّلام والتّثبّت في الأحكام
[سورة النساء (٤) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٩٤)
تَبْتَغُونَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الضمير المرفوع في تَقُولُوا أي:
لا تقولوا ذلك مبتغين.
البلاغة:
إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ استعارتان: استعار الضرب للسعي في جهاد الأعداء، واستعار السبيل لدين الله.
المفردات اللغوية:
ضَرَبْتُمْ في الأرض: سافرتم للتجارة، وفي سبيل الله: سافرتم للجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لجهاد الأعداء. فَتَبَيَّنُوا وفي قراءة: فتثبّتوا، والمراد تحققوا من الأمر ولا تتسرعوا في الحكم.
السَّلامَ أي التّحية، أو الاستسلام والانقياد بقوله كلمة الشهادة التي هي أمارة على الإسلام.
عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي متاعها الفاني من الغنيمة. مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أي أرزاق ونعم كثيرة تغنيكم عن قتل شخص لماله. كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ تعصم دماؤكم وأموالكم بمجرد النطق بالشهادة. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالاشتهار بالإيمان والاستقامة. فَتَبَيَّنُوا أن تقتلوا مؤمنا، وافعلوا بالداخل في الإسلام كما فعل بكم. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم به.
سبب النزول:
١- روى البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال: مرّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يسوق غنما له، فسلّم عليهم، فقالوا: ما سلّم علينا إلا ليتعوّذ منا، فعمدوا إليه، فقتلوه، وأتوا بغنمه النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ الآية.
٢-
وأخرج البزار من وجه آخر عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
«كيف لك بلا إله إلا الله غدا؟» وأنزل الله هذه الآية.
٣-
وأخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلّم بن جثّامة، فمرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي، فسلّم علينا، فحمل عليه محلّم، فقتله، فلما قدمنا على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية.
وأخرج ابن جرير من حديث ابن عمر نحوه.
٤- وروى الثعلبي عن ابن عباس أن اسم المقتول مرداس بن نهيك الغطفاني من أهل فدك، وأن اسم القاتل أسامة بن زيد، وأن اسم أمير السّريّة غالب بن فضالة الليثي، وأن قوم مرداس لما انهزموا بقي هو وحده، وكان ألجأ غنمه بجبل، فلما لحقوه قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامة بن زيد، فلما رجعوا نزلت الآية.
ولا مانع من تعدد أسباب النزول، سواء بعد إعلان صاحب الغنم التحية الإسلامية (كما في رقم ١، ٣) أو اتّقاء للسلاح في الحرب، وكان القاتل المقداد (رقم ٢) أو محلّم (رقم ٣) أو أسامة (رقم ٤)،
وكان النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ الآية على أصحاب كل واقعة.
قال القرطبي: الذي عليه الأكثر وهو في سير ابن إسحاق ومصنّف أبي داود والاستيعاب لابن عبد البرّ: أن القاتل محلّم بن جثّامة، والمقتول عامر بن الأضبط.
هذا بيان نوع من أنواع القتل الخطأ الذي كان يحصل في الماضي بسبب قيام حالة الحرب أو الحرب نفسها مع المشركين، وفيه تسرّع بالحكم بعدم الإسلام على الرجل، بعد أن بيّن الله تعالى في الآية السابقة حكم نوعي القتل: الخطأ والعمد.
وذكر القرطبي أن هذه الآية متصلة بذكر القتل والجهاد في الآيات السابقة.
التفسير والبيان:
يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله إذا سرتم لجهاد الأعداء، ورأيتم من تشكّون أهو مسلم أم كافر، مسالم أم محارب، فتمهّلوا في الحكم عليه، وتبيّنوا حقيقة أمره، أهو مؤمن لتحيته لكم بالسّلام أو نطقه بالشهادتين، ولا تعجلوا بقتله، ولا تقولوا لمن استسلم ولم يقاتلكم وأظهر أنه مسلم: إنك لست مؤمنا، فأنتم مأمورون بالعمل بالظاهر، والله أعلم بأمره.
تبتغون بذلك الحصول على متاع الحياة الدّنيا ومغانمها الفانية الزائلة، فعند الله أرزاق كثيرة ونعم وأفضال لا تحصى، وعنده خزائن السموات والأرض، فالتمسوها بطاعته، فهي خير لكم، ولا يصح منكم ولا يليق بكم أن تفعلوا هذا الفعل، وتتسرّعوا في الحكم على ما في قلوب الناس، وتتهموهم بالمصانعة والتّقية، والخوف من السيف.
على أنكم نسيتم حالكم، فكنتم هكذا من قبل، آمنتم سرّا، وكنتم تخفون إيمانكم من المشركين، ثم أظهرتم الإسلام علنا، وهذا حال من قتلتموه، كان يسرّ إيمانه ويخفيه من قومه، وكما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال ٨/ ٢٦]، فمنّ الله عليكم أي فصرتم آمنين مطمئنين وفي عداد المؤمنين، ومنّ الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان، وبإعزاز دينه وتقوية
ثم أكّد الله تعالى وجوب التّبيّن، فأمر أن يكونوا على بيّنة من الأمر الذي يقدمون عليه بأدلّة ظاهرة وقرائن كافية، وألا يأخذوا بالظن السريع، وإنما عليهم التدبّر، حتى يظهر الأمر، فإن الحكم بالإيمان يكفي فيه مجرد ظاهر الحال، أما القتل فلا بدّ فيه من غلبة الظّنّ الراجح على البقاء على حال الكفر، وعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم، وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في الكفّ عن القتل والقتال.
إن الله تعالى خبير بأعمالكم، مطّلع على أحوالكم، ونيّاتكم ومقاصدكم، وسيجازيكم عليها، وهذا تهديد ووعيد وتحذير من تكرار التّورّط في مثل هذا الخطأ، فلا تتهافتوا في القتل، وكونوا محترزين محتاطين في ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآية محصور في ضرورة التّثبّت في الأحكام وعدم التّسرّع في أمر القتل، لخطورته، وأنه يكتفى في الحكم على الشخص بالإسلام بالنّطق بالشهادتين في الظاهر، دون حاجة للكشف عما في القلب واستبطان الحقيقة والواقع، فذلك ليس من شأن البشر، وإنما أمر القلوب متروك لعلّام الغيوب، وهذا مناسب للرّواية التالية:
ما جاء في صحيح مسلم عن أسامة قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سريّة، فصبّحنا الحرقات «١» من جهينة، فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أقال: لا إله إلا الله، وقتلته؟» قال: قلت:
يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: «أفلا شققت عن قلبه، حتى تعلم أقالها أم لا؟!». «٢»
وروي عن أسامة أنه قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استغفر لي بعد ثلاث مرات، وقال: «أعتق رقبة» ولم يحكم بقصاص ولا دية.
أما الفقهاء فقالوا: إذا قتله في هذه الحالة قتل به، وإنما لم يقتل أسامة لأنه كان في صدر الإسلام، وتأوّل أنه قالها متعوّذا وخوفا من السلاح، وإن العاصم قولها مطمئنا، فأخبر النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه عاصم كيفما قالها،
فقال عليه الصّلاة والسّلام في الحديث المتواتر: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها»
، ولذلك
قال لأسامة: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟!»
أي تنظر أصادق هو في قوله أم كاذب، وذلك لا يمكن، فلم يبق إلا أن يبين عنه لسانه. والمراد من
الحديث: «أمرت أن أقاتل الناس»
هم مشركو العرب دون اليهود والنصارى فإنهم يقولون: لا إله إلا الله، فلا بدّ فيهم من إعلان الاعتراف بنبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم.
وفي هذا من الفقه حكم عظيم: وهو أن الأحكام تناط بالمظانّ والظواهر، لا على القطع واطّلاع السرائر «٣».
(٢) أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٢٤٨
(٣) تفسير القرطبي: ٥/ ٣٢٤، ٣٣٨- ٣٣٩
قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:
لا إله إلا الله» «١».
أي أن الكلمة الفاصلة بعد التحية بالسّلام أو برؤيته يصلي هو أن يقول:
لا إله إلا الله. وهذا في شأن إنهاء الحرب ومنع القتل والقتال، فيكتفى بالحكم بالظاهر، وليس في قضية أن الإيمان هو الإقرار فقط، كما حاول بعضهم الاستدلال بالآية، وإنما حقيقة الإيمان: التّصديق بالقلب، بدليل أن المنافقين كانوا يقولون هذا القول: «لا إله إلا الله» وليسوا بمؤمنين.
وفي الآية نصّ صريح على أن هدف المؤمنين من الجهاد كما شرع الله هو إعلاء كلمة الله تعالى، لا من أجل التّوصل إلى المغانم الحربية أو العروض الدّنيوية أو المكاسب المادية، فإن الله وعد بالرّزق والمغانم الكثيرة من طرق أخرى حلال دون ارتكاب محظور، فلا تتهافتوا.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٥ الى ٩٦]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٩٦)
الإعراب:
غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ غير: بدل مرفوع من الْقاعِدُونَ أو وصف لهم لأنهم غير معينين، فجاز أن يوصفوا بغير. وقرئ بالجر على أنه بدل من الْمُؤْمِنِينَ أو وصف لهم، وقرئ بالنصب على الاستثناء أو الحال من الْقاعِدِينَ.
وَكُلًّا وَعَدَ.. كلا: منصوب بوعد، وكذلك الحسنى: منصوب به لأن وَعَدَ يتعدى إلى مفعولين، تقول وعدت زيدا خيرا وشرا، وقال تعالى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الحج ٢٢/ ٧٢].
أَجْراً إما منصوب بفضّل، أو منصوب على المصدر.
دَرَجاتٍ مِنْهُ منصوب على البدل من أَجْراً وتقديره: أجر درجات، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
مَغْفِرَةً وَرَحْمَةً مصدران منصوبان بفعلين مقدرين، والتقدير: وغفر لهم مغفرة، ورحمهم رحمة.
البلاغة:
إطناب في قوله: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.. وقوله: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ...
المفردات اللغوية:
الضَّرَرِ المرض والعلة التي تمنع صاحبها من الجهاد كالعمى والعرج والزمانة ونحوها.
دَرَجَةً فضيلة، لاستوائهما في النية، وزيادة المجاهدين بمباشرة القتال. الْحُسْنى الجنة.
سبب النزول:
روى البخاري عن البراء قال: لما نزلت لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ادع فلانا فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف، فقال: اكتب «لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله» وخلف النبي صلّى الله عليه وسلّم ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله: أنا ضرير فنزلت مكانها:
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ...
وروى الترمذي نحوه من حديث ابن عباس
وفيه: قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم: إنا أعميان. هذا بيان سبب إضافة غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
وقال السيوطي: قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ نزل في جماعة أسلموا ولم يهاجروا، فقتلوا يوم بدر مع الكفار، وكان نزولها في غزوة بدر.
المناسبة:
هذه الآية تبين فضيلة الجهاد وتمييز المجاهدين عن القاعدين، بعد أن عاتب الله المؤمنين على ما صدر منهم من القتل الخطأ لمن نطق بالشهادة.
التفسير والبيان:
لا يتساوى القاعدون من المؤمنين عن الجهاد، كقعود جماعة عن بدر، والمجاهدون بأموالهم وأنفسهم التي يبذلونها في سبيل مرضاة الله بمنع عدوان الطغاة، وإقرار الحق والدفاع عنه، كجهاد الخارجين إلى بدر في مبدأ الإسلام بعد الهجرة.
لكن استثنى سبحانه وتعالى من التكليف بفريضة الجهاد أصحاب الأعذار
روى البخاري وأحمد وأبو داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال عند دخوله المدينة بعد غزوة تبوك: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله: وهم بالمدينة؟ قال: نعم وهم بالمدينة، حبسهم العذر».
ثم أخبر الله تعالى عن فضيلة المجاهدين على غير أولي الضرر القاعدين عن الجهاد: وهي أن الله رفع المجاهدين درجة لا يعرف قدرها: في الدنيا بالظفر والنصر والسمعة الحسنة والغنيمة، وفي الآخرة بمنزلة عالية في الجنة، وأجر عظيم أو جزيل.
ووعد الله كلا ممن جاهد وقعد عن الجهاد لعذر أو عجز مع تمني الجهاد:
الحسنى وهي الجنة والجزاء الجزيل، لكمال إيمان الفريقين وإخلاص نيته وعمله.
قال ابن كثير: وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين، بل هو فرض كفاية «١».
ثم أخبر سبحانه عما فضل به المجاهدين بإطلاق على القاعدين من غير أولي الضرر من الدرجات، وهو الأجر العظيم.
وذلك الأجر العظيم هو الدرجات العالية أي المنازل الرفيعة في غرف الجنان العاليات، التي يصعب في تقدير الناس في الدنيا حصرها وعدها، كما قال تعالى:
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء ١٧/ ٢١] والتفاضل في الدرجات مبني على مدى قوة الإيمان، وإيثار رضا
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض»
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من رمى بسهم فله أجره درجة» فقال رجل: يا رسول الله، وما الدرجة؟ فقال: «أما إنها ليست بعتبة أمك، ما بين الدرجتين مائة عام» «١».
والأجر أيضا مغفرة الذنوب والزلات، وأحوال الرحمة والبركات وهي ما يخصهم به الرحمن زيادة على المغفرة من فضله وإحسانه، إحسانا منه وتكريما، وكان شأن الله وصفته الدائمة الملازمة له المغفرة لمن يستحقها، والرحمة لمن يستوجبها عقلا، ولكنها متروكة للفضل الإلهي.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يأتي:
١- لا تساوي بداهة وطبعا وشرعا بين القاعدين عن الجهاد من غير أولي الضرر (أصحاب الأعذار من زمانة وعرج وعمى ونحوها) وبين المجاهدين الذين يبذلون أنفسهم وأموالهم رخيصة في سبيل مرضاة الله. ومعنى الآية: لا يستوي القاعدون الذين هم غير أولي الضرر من المؤمنين الأصحاء مع المجاهدين.
قال العلماء: أهل الضرر: هم أهل الأعذار إذ قد أضرّت بهم العاهة حتى منعتهم الجهاد. وقد دل
الحديث المتقدم: «إن بالمدينة رجالا»
على أن صاحب العذر يعطى أجر الغازي. فقيل: يحتمل أن يكون أجره مساويا، وفي فضل الله متسع، وثوابه فضل لا استحقاق، فيثيب على النية الصادقة ما لا يثيب على
للحديث الصحيح في ذلك: «إن بالمدينة رجالا» «١».
٢- تمسك بعض العلماء بهذه الآية بأن أهل الديوان أعظم أجرا من أهل التطوع لأن أهل الديوان لما كانوا متملّكين بالعطاء، ويصرّفون في الشدائد، وتروّعهم البعوث والأوامر، كانوا أعظم من المتطوع لسكون جأشه ونعمة باله في الصوائف (الغزو في الصيف) الكبار ونحوها.
٣- احتج بعضهم أيضا بهذه الآية على أن الغنى أفضل من الفقر لذكر الله تعالى المال الذي يوصل به إلى صالح الأعمال.
وعلى كل للعلماء آراء ثلاثة في هذه المسألة:
فذهب قوم إلى تفضيل الغني لأن الغني مقتدر والفقير عاجز، والقدرة أفضل من العجز. وهذا أولى لقولهم: الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر.
وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر لأن الفقير تارك والغني ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها أي مخالطتها والانخراط في شهواتها.
وذهب آخرون إلى تفضيل التوسط بين الأمرين: بأن يخرج عن حدّ الفقر إلى أدنى مراتب الغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، وليسلم من مذمة الحالين.
٤- فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً ثم قال:
دَرَجاتٍ مِنْهُ.. فقال قوم: التفضيل بالدرجة، ثم بالدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين أصحاب الأعذار بدرجة واحدة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات.
هجرة المستضعفين
[سورة النساء (٤) : الآيات ٩٧ الى ١٠٠]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (٩٧) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (٩٩) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠)
الإعراب:
ظالِمِي حال منصوب من الهاء والميم في تَوَفَّاهُمُ وأصله: ظالمين أنفسهم، فحذفت النون للإضافة.
فِيمَ كُنْتُمْ فيم: جار ومجرور في موضع نصب خبر كنتم. و «ما» هنا: استفهامية، ولهذا حذفت الألف منها لدخول حرف الجر عليها لأن «ما» إذا دخل عليها حرف الجر حذفت ألفها تخفيفا لكثرة الاستعمال، وليفرق بينها وبين «ما» التي بمعنى الذي، ليميز بين الخبر
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مستثنى منصوب من قوله تعالى: الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ وهو استثناء من موجب، فلهذا وجب فيه النصب.
البلاغة:
قالُوا: فِيمَ كُنْتُمْ وأَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً: استفهام يراد به التوبيخ والتقريع.
ويوجد جناس مغاير في يَعْفُوَ... عَفُوًّا وفي يُهاجِرْ... مُهاجِراً.
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ فيه إطلاق الجمع على الواحد لأن المراد به ملك الموت، وذلك بقصد تفخيم شأنه.
المفردات اللغوية:
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي قبضت أرواحهم حين الموت ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بالمقام مع الكفار وترك الهجرة قالُوا لهم موبخين: فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شيء كنتم في أمر دينكم؟
مُسْتَضْعَفِينَ عاجزين عن إقامة الدين مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ مسكنهم حِيلَةً لا قوة لهم على الهجرة ولا نفقة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا طريقا إلى أرض الهجرة مُراغَماً مهاجرا أي مكانا للهجرة ومأوى يجد فيه الخير، فيرغم بذلك أنوف من أذلوه وَقَعَ ثبت ووجب.
سبب النزول:
نزول الآية (٩٧) :
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ: روى البخاري عن ابن عباس أن أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيأتي السهم يرمى به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ.
وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل المدينة
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الآية، فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم، وأنه لا عذر لهم، فخرجوا، فلحق بهم المشركون، ففتنوهم فرجعوا فنزلت: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: آمَنَّا بِاللَّهِ، فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ
[العنكبوت ٢٩/ ١٠] فكتب إليهم المسلمون بذلك، فتحزنوا، فنزلت: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا [النحل ١٦/ ١١٠] الآية، فكتبوا إليهم بذلك، فخرجوا، فلحقوهم، فنجا من نجا، وقتل من قتل.
سبب نزول الآية (١٠٠) :
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ: أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس قال: خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا فقال لأهله: احملوني، فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزل الوحي: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً الآية.
ويقال: كان جندب بن ضمرة من بني ليث من المستضعفين بمكة، وكان مريضا، فلما سمع ما أنزل الله في الهجرة، قال: أخرجوني، فهيئ له فراش، ثم وضع عليه، وخرج به، فمات في الطريق بالتنعيم «١»، فأنزل الله فيه: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً الآية «٢».
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى في الآية السابقة تفضيل المجاهدين في سبيل الله على
(٢) تفسير القرطبي: ٥/ ٣٤٩
التفسير والبيان:
إن الذين تتوفاهم الملائكة حين انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمي أنفسهم بترك الهجرة، ورضاهم الإقامة في دار الشرك، تقول لهم (أي للمتوفين) الملائكة توبيخا لهم وتقريعا: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ أي إنهم لم يكونوا في شيء منه، لقدرتهم على الهجرة ولم يهاجروا.
وهؤلاء كانوا ناسا من أهل مكة أسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة.
فقالوا معتذرين عما وبخوا به بغير العذر الحقيقي: كنا مستضعفين ومستذلين في مكة، فلم نقدر على إقامة الدين وواجباته، وهذه حجة واهية لم تقبلها الملائكة، فردوا عليهم المعذرة قائلين:
ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟ المراد أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم، ومن الهجرة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة.
وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة شعائر
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرا من الأرض، استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد عليهما الصلاة والسلام. اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني، فاجعلها سببا في خاتمة الخير، ودرك المرجوّ من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك بجوارك في دار كرامتك، يا واسع المغفرة» «١».
فإن أولئك المقصرين عن القيام بالهجرة مسكنهم جهنم، لتركهم ما كان مفروضا عليهم لأن الهجرة كانت واجبة في صدر الإسلام.
وقبحت جهنم مصيرا لهم لأن كل ما فيها يسوءهم.
ثم استثنى الله تعالى من أهل الوعيد: المستضعفين حقيقة الذين لا يجدون لديهم قدرة على الخروج لفقرهم أو عجزهم أو هرمهم مثل عياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام «٢»، ومن النساء أم الفضل والدة ابن عباس، ومن الولدان (وهم المراهقون الذين قاربوا البلوغ) ابن عباس المذكور وغيره.
فهؤلاء لا يجدون قدرة على الهجرة إما للعجز كمرض أو زمانة، وإما للفقر، ولا يهتدون طريقا للجهل بمسالك الأرض، قال ابن عباس: كنت أنا وأمي من
(٢)
ذكر ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رفع يده بعد ما سلم وهو مستقبل القبلة، فقال: «اللهم خلص الوليد بن الوليد، وعياش بن أبي ربيعة، وسلمة بن هشام، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة، ولا يهتدون سبيلا، من أيدي الكفار».
فهؤلاء يرجى أن يعفو الله عنهم، ولا يؤاخذهم بترك الهجرة والإقامة في دار الشرك. وفي هذا إيماء إلى أن ترك الهجرة ذنب كبير.
وكان شأن الله تعالى العفو عن الذنوب، والمغفرة بستر العيوب في الآخرة.
وتساءل الزمخشري: لم قيل: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ بكلمة الإطماع؟ ثم أجاب قائلا: للدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى إن المضطر البيّن الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني، فكيف بغيره؟ «١».
ثم رغب الله تعالى في الهجرة تنشيطا للمستضعفين فذكر: أن من يهاجر في سبيل الله، أي بقصد مرضاته وإقامة دينه كما يجب، يجد في أرض الله الواسعة مراغما كثيرا أي مهاجرا (مكانا للهجرة) وطريقا يراغم بسلوكه قومه، أي يفارقهم على رغم أنوفهم، والرغم: الذل والهوان، وأصله: لصوق الأنف بالرغام وهو التراب. ويجد مأوى فيه الخير والسعة، عدا النجاة من الذل والاضطهاد.
فالمراغم الكثير: يعني المتزحزح عما يكره. والسعة: الرزق.
وفي هذا وعد من الله للمهاجرين بتسهيل سبل العيش لهم وإرغام أعدائهم والنصر عليهم، وهو كله للترغيب في الهجرة.
ثم وعد الله تعالى من يخرج من منزله بنية الهجرة تاركا الوطن والأهل والمال، ثم يموت في أثناء الطريق قبل الوصول إلى المدينة، وعده بالأجر العظيم والثواب عند الله على الهجرة أي وجب ثوابه عليه ووقع، وعلم الله كيف يثيبه.
الحديث المشهور في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
وما أعظم الفرق بين هذا الوعد الصريح الأكيد من الله، وبين الوعد بالمغفرة لتاركي الهجرة لضعف أو عجز بأنه محل رجاء وطمع عند الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
المراد بهذه الآية في الأصح كما ذكر القرطبي: جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلّى الله عليه وسلّم الإيمان به، فلما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة فافتتنوا، فلما كان أمر بدر، خرج منهم قوم مع الكفار، فنزلت الآية.
وبخ الله تعالى هؤلاء المتقاعسين عن الهجرة، وأرشدهم إلى أنهم كانوا متمكنين قادرين على الهجرة والابتعاد عمن كان يستضعفهم، وأنه لم يقبل عذرهم بكونهم مستضعفين حقيقة.
وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يعمل فيها بالمعاصي.
أما المستضعفون حقيقة من زمنى الرجال وضعفة النساء والولدان، كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام الذين دعا لهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالنجاة، فهؤلاء يرجى لهم من الله العفو والمغفرة.
وكانت أسباب الهجرة إلى المدينة في صدر الإسلام كثيرة منها:
١- التمكين من إقامة شعائر الدين والبعد عن الاضطهاد الديني، فعلى كل مضطهد البحث عن مكان يأمن فيه، وإلا ارتكب إثما كبيرا.
٢- التمكن من تعلم أمور الدين والتفقه في أحكامه، فعلى كل مسلم يقيم في بلد ليس فيه علماء يعلّمون أحكام الدين أن يهاجر إلى بلد يتلقى فيه العلوم الدينية.
٣- الإعداد لإقامة دولة الإسلام ونشر الدعوة الإسلامية في أنحاء الأرض، والدفاع عنها وعن الدعاة إلى الله.
وظلت هذه الأسباب واضحة قائمة إلى فتح مكة، حتى إذا فتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وانتشر الصحابة في البلاد يعلمون الناس أحكام دينهم، وقويت شوكة الإسلام، وتطهرت الجزيرة العربية من رجس الشرك والوثنية، زال حكم وجوب الهجرة،
روى أحمد والشيخان عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا».
ويلاحظ أنه إذا وجدت الدواعي للهجرة وتوافر أحد الأسباب المتقدمة، وجبت الهجرة في أي عصر وزمان.
ويحسن أن أذكر أقسام الهجرة كما أوضحها ابن العربي فقال: الهجرة تنقسم إلى ستة أقسام:
الأول- الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام وكانت فرضا في أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم مع غيرها من أنواعها. وهذه الهجرة باقية مفروضة إلى يوم القيامة، التي
الثاني- الخروج من أرض البدعة: قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول:
لا يحلّ لأحد أن يقيم ببلد يسبّ فيها السلف. قال ابن العربي: وهذا صحيح فإن المنكر إذا لم تقدر على تغييره فزل عنه، قال الله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام ٦/ ٦٨].
الثالث- الخروج عن أرض غلب عليها الحرام: فإن طلب الحلال فرض على كل مسلم.
الرابع- الفرار من الإذاية في البدن: وذلك فضل من الله عز وجل أرخص فيه، فإذا خشي المرء على نفسه في موضع فقد أذن الله سبحانه له في الخروج عنه، والفرار بنفسه ليخلّصها عن ذلك المحذور.
الخامس- خوف المرض في البلاد الوخمة والخروج منها إلى الأرض النّزهة.
وقد أذن النبي صلّى الله عليه وسلّم للرّعاء حين استوخموا المدينة أن يتنزهوا إلى المسرح، فيكونوا فيه حتى يصحّوا. وقد استثني من ذلك الخروج من الطاعون، فمنع الله سبحانه منه بالحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، بيد أني رأيت علماءنا قالوا: هو مكروه.
السادس- الفرار خوف الإذاية في المال فإن حرمة مال المسلم كحرمة دمه، والأهل مثله أو آكد «١».
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠١ الى ١٠٣]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (١٠٣)
الإعراب:
كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً إنما قال: عدوا بلفظ المفرد، وإن كان ما قبله جمعا لأنه بمعنى المصدر، كأنه قال: كانوا لكم ذوي عداوة، وهذا كقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ.
قِياماً وَقُعُوداً منصوبان على الحال من واو فَاذْكُرُوا. وكذلك قوله: وَعَلى جُنُوبِكُمْ في موضع نصب على الحال لأنه في موضع: مضطجعين.
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فيه إطلاق العام وإرادة الخاص لأن المراد بها صلاة الخوف.
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً فيه إطناب بتكرار لفظ الصلاة، تنبيها على فضلها.
المفردات اللغوية:
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ سافرتم فيها جُناحٌ تضييق، وهذا يدل للشافعي أن القصر رخصة لا واجب أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ تتركوا شيئا منها بأن تصلوا الصلاة الرباعية ركعتين فقط يَفْتِنَكُمُ يؤذوكم بالقتل أو غيره أو ينالوكم بمكروه الَّذِينَ كَفَرُوا بيان للواقع إذ ذاك، فلا مفهوم له. وبينت السنة أن المراد بالسفر: الطويل وهو أربعة برد وهي مرحلتان تقدر ب (٨٩ كم) عَدُوًّا مُبِيناً بيّني العداوة.
فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ إقامة الصلاة: الذكر الذي يدعى به للدخول في الصلاة. وهذا جري على عادة القرآن في الخطاب، فلا مفهوم له. أَسْلِحَتَهُمْ جمع سلاح: وهو كل ما يقاتل به من الأسلحة القديمة كالسيف والخنجر والسهم، والأسلحة الحديثة كالبندقية والمسدس والمدفع ونحوها.
قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ أديتموها فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ائتوا بها مقوّمة تامة الأركان والشروط كِتاباً مَوْقُوتاً فرضا ثابتا محددا بوقت معلوم لا بد من أدائها فيه.
سبب النزول:
نزول الآية (١٠١) :
وَإِذا ضَرَبْتُمْ:
أخرج ابن جرير الطبري عن علي قال: سأل قوم من بني النجار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل الله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ثم انقطع الوحي، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلّى الله عليه وسلّم، فصلّى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في أثرها، فأنزل الله بين
نزول الآية (١٠٢) :
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ:
أخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي والدارقطني عن أبي عيّاش الزرقيّ «١» قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعسفان، فاستقبلنا المشركون، عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة، فصلّى بنا النبي صلّى الله عليه وسلّم الظهر، فقالوا: قد كانوا على حال لو أصبنا غرّتهم قال: ثم قالوا: تأتي الآن عليهم صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأنفسهم قال: فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآية بين الظهر والعصر: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ وذكر الحديث. وهذا كان سبب إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه. وروى الترمذي نحوه عن أبي هريرة، وابن جرير نحوه عن جابر بن عبد الله وابن عباس.
نزول الآية: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ..:
أخرج البخاري عن ابن عباس قال: نزلت: إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى في عبد الرحمن بن عوف حينما كان جريحا.
المناسبة:
لا يزال الكلام في الجهاد والهجرة، والجهاد يستلزم السفر، فبيّن الرب تبارك وتعالى أن الصلاة لا تسقط بعذر السفر، ولا بعذر الجهاد وقتال العدو.
وكانت الآيات في إثبات مشروعية القصر بالسفر، وصلاة الخوف في الجهاد.
وإذا سرتم في الأرض وسافرتم فيها، فليس عليكم تضييق ولا إثم في قصر الصلاة الرباعية، إذا خفتم فتنة الكافرين لكم بالقتل أو الأسر أو غيرهما، أو خفتم من قطاع الطريق، وذلك بأن يتخذ أعداؤكم الاشتغال بالصلاة فرصة لتغلبهم عليكم، فلا تمكنوهم من هذا، بل اقصروا من الصلاة. ويصح أن يكون المراد:
إن خفتم أن يفتنكم الكافرون في حال الركوع والسجود حيث لا ترون حركاتهم، فصلوا راجلين أو راكبين. ثم أكد تعالى تحذيرنا من الأعداء فذكر: إن الكافرين لكم أعداء واضحة عداوتهم، فهم ذوو عداوة بينة، فاحذروهم أن يوقعوا بكم، ويغلبوكم، فلا تتركوا لهم فرصة لتحقيق أغراضهم.
وعملا بظاهر الآية: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ قال بعضهم: المراد هنا القصر في صلاة الخوف المذكور في الآية الأولى، والمبيّن في الآية التي بعدها وفي سورة البقرة بقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً [٢٣٩]. قال الشافعي:
القصر في غير الخوف بالسّنة، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسّنة، ومن صلّى أربعا فلا شيء عليه، ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السّنة.
ورأى آخرون: أن قوله: إِنْ خِفْتُمْ خرج الكلام على الغالب، إذ كان الغالب على المسلمين الخوف في الأسفار ولهذا
قال يعلى بن أمية لعمر فيما رواه مسلم: ما لنا نقصر وقد أمنّا؟ قال عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته».
ثم إن صلاة الخوف لا يعتبر فيها الشرطان فإنه لو لم يضرب في الأرض ولم يوجد السّفر، بل جاءنا الكفار وغزونا في بلادنا، فتجوز صلاة الخوف، فلا يعتبر وجود الشّرطين.
وقوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ظاهره التخيير بين القصر والإتمام، وأن الإتمام أفضل «٢»، وإلى التخيير ذهب الشافعي، وروي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أتمّ في السفر،
وعن عائشة رضي الله عنها فيما رواه الدارقطني: «اعتمرت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى مكة، حتى إذا قدمت مكة، قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي: قصرت وأتممت، وصمت وأفطرت؟ فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ».
وكان عثمان رضي الله عنه يتمّ ويقصر.
وعند أبي حنيفة رحمه الله: القصر في السفر عزيمة غير رخصة، لا يجوز غيره. بدليل قول عمر رضي الله عنه: «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيّكم»، وقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه أحمد: «أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرّت في السفر، وزيدت في الحضر».
(٢) الكشاف: ١/ ٤٢٠
فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا خرج مسافرا، صلّى ركعتين حتى يرجع.
وروي عن عمران بن حصين: حججت مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان يصلّي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة، وقال لأهل مكة: صلّوا أربعا فإنّا قوم سفر.
وقال ابن عمر فيما رواه الشيخان: صحبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السفر، فلم يزد على ركعتين
، وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في السفر، فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب ٣٣/ ٢١]، وقال: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف ٧/ ١٥٨]، ولو كان مراد الله التّخيير بين القصر والإتمام، لبيّن ذلك كما بيّنه في الصوم.
وأما
ما ورد عن عثمان فقد اعتذر عنه بأنه قد تأهل (أقام) فقال: إنّما أتممت لأني تأهلت بهذا البلد، وقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من تأهّل ببلد فهو من أهله».
وأجاب الزمخشري عن آية فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا بقوله: كأنهم ألفوا الإتمام، فكانوا مظنّة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر، فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه «١».
واختلف العلماء في المراد بالقصر هنا، أهو القصر في عدد ركعات الصلاة أم هو القصر من هيئتها «٢» ؟
فقال جماعة: إن القصر قصر عدد الركعات، لما
روى مسلم عن يعلى بن
(٢) أحكام القرآن للجصاص: ١/ ٢٥١ وما بعدها، أحكام القرآن لابن العربي: ١/ ٤٨٨، تفسير القرطبي: ٥/ ٣٦٠ [.....]
عجبت مما عجبت منه، فسألت النّبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته».
وهذا يدلّ كما أوضحت على أن المراد بالقصر في الآية القصر في عدد الركعات. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. لكن قال القاضي ابن العربي في كتابه القبس: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: هذا الحديث مردود بالإجماع.
وأيضا فإن القصر: أن تقتصر من الشيء على بعضه، والقصر في الصفة تغيير لا إتيان بالبعض لأنه جعل الإيماء بدل الرّكوع والسّجود مثلا.
وأيضا فإن «من» في قوله: «من الصلاة» للتبعيض، وهو يدلّ على الاقتصار على بعض الركعات.
وقال آخرون كالجصاص: إن المراد بقصر الصلاة في الآية قصر الصفة والهيئة، دون نقصان أعداد الرّكعات، أي بترك الرّكوع والسّجود والإيماء، وبترك القيام إلى الرّكوع لأن الآية في صلاة السفر، لابتدائها بقوله تعالى:
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ولأن قول عمر المتقدم: «صلاة السفر ركعتان... »
إلخ يدلّ على أن صلاة السفر، سواء أكانت صلاة أمن أم خوف تمام غير قصر، فيكون معنى القصر في الآية قصر الصفة، لا قصر عدد الركعات.
أما السفر المبيح للقصر ففيه خلاف على آراء أهمها ما يأتي:
١- قال الحنفية: من الكوفة إلى المدائن وهي مسيرة ثلاثة أيام. ويروى عنهم: يومان وأكثر الثالث.
ودليل الحنفية:
قوله عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه أحمد عن عوف بن مالك الأشجعي، فيما معناه: «يمسح المقيم يوما وليلة، والمسافر ثلاثة أيام».
٢- وقال مالك والشافعي: أربعة برد، كل بريد أربعة فراسخ لما
روى الدارقطني عن ابن عباس أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان».
والفرسخ (٥٥٤٤ م).
صلاة الخوف:
ثم بيّن الله تعالى كيفية صلاة الخوف ومجملها في القرآن ما يأتي:
وإذا كنت يا محمد أو من يقوم مقامك من الأئمة في جماعة المؤمنين، وأردت أن تقيم بهم الصلاة وناديتهم بالأذان والإقامة فاقسم الجيش طائفتين: تصلّي طائفة معك الرّكعة الأولى بجماعة، ومعهم أسلحتهم حتى يستعدّوا عقب الصلاة لمجابهة العدوّ الذي قد يباغتهم، فإذا سجدوا حرستكم الطائفة الأخرى من خلفكم لأن المصلّي أشدّ ما يكون حاجة للحراسة حين السجود، لعدم رؤيته العدوّ. ثم تتمّ الطائفة الأولى الرّكعة الثانية وحدها، وأنت واقف في أول الرّكعة الثانية.
ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلّي معك أيضا ركعة هي الثانية لك، كما صلّت الطائفة الأولى، وعليها أن تأخذ حذرها وأسلحتها في الصلاة، كما فعل الذين من قبلهم. والحكمة في الأمر بالحذر للطائفة الثانية أن العدو قلّما يتنبّه لصلاة الطائفة الأولى، فإذا سجدوا فربّما باغتهم.
ثم تنتظر الطائفة الثانية في جلوس التّشهد الأخير، حتى تقوم هي، وتصلّي الرّكعة الثانية، ثم تسلّم بها.
وعلى هذا تحظى الطائفة الأولى بالتّكبير مع الإمام، والثانية بالتّسليم معه.
ثم بيّن الله تعالى علّة الأمر بأخذ الحذر والسلاح في الصلاة، وهي أن الكفار
ثم أبان الأعذار التي يشقّ معها حمل السلاح، فذكر:
ولا إثم عليكم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر أو مرض أو عذر، ولكن مع أخذ الحذر والاستعداد للعدوّ لأن العدوّ ينتظر أي فرصة من الضعف، ويراقب تحركاتكم، فاحذروه ولا تغفلوا عنه.
إن الله أعدّ للكافرين عذابا شديد الإهانة في الدّنيا والآخرة. أما في الدّنيا فهو تغلّب المسلمين عليهم، وأما في الآخرة فهو العذاب الخالد في نار جهنم، وهذا وعيد للكفار بأنه مهينهم وخاذلهم وغير ناصرهم، لكن الحذر مطلوب من المؤمنين أخذا بسنّة الله في إتباع المسببات الأسباب، حتى لا يتهاونوا ويتركوا الأسباب جانبا.
وقد روى الجماعة إلا ابن ماجه عن سهل بن أبي حثمة عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوم ذات الرقاع: «أن طائفة صفت مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وطائفة وجاه العدوّ (أي جهته) فصلّى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما، فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدوّ. وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الرّكعة الثانية التي بقيت من صلاته، فأتمّوا فسلّم بهم».
فإذا أدّيتم الصلاة أي صلاة الخوف على هذه الصورة، فاذكروا الله تعالى في أنفسكم، بتذكّر نعمه ووعده بنصر من ينصرونه في الدّنيا ونيل الثواب في الآخرة. وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء، فذكر الله مما يقوي القلب، ويعلي الهمّة، وبالثبات والصبر يتحقق النصر، كما قال تعالى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال ٨/ ٤٥].
والسبب في فرضية الصلاة حتى في وقت الخوف: أن الصلاة مفروضة فرضا ثابتا في أوقات معلومة، فلا يصحّ تركها أبدا حتى في الحروب وساعة الخوف، كما قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة ٢/ ٢٣٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات في مشروعية قصر الصلاة الرباعية في السفر، وكيفية صلاة الخوف.
فآية وَإِذا ضَرَبْتُمْ واضحة الدّلالة- بغضّ النّظر عن الاختلاف الفقهي- على حكم القصر في السفر.
أما العلماء فاختلفوا في حكم القصر، كما سبق بيانه، فقال جماعة منهم الحنفية: إنه فرض
لحديث عائشة رضي الله عنها: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين»
لكن قال القرطبي: ولا حجّة فيه لمخالفتها له، فإنها كانت تتمّ في السفر، وذلك يوهنه، وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر: صلاة المسافر خلف المقيم، أي أنه إذا اقتدى المسافر بالمقيم أتمّ صلاته بالإجماع.
وقال آخرون منهم عمر وابن عباس وجبير بن مطعم: «إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة».
ومشهور مذهب المالكية: أن القصر سنة، وذهب الشافعي وأحمد إلى أنه رخصة يخير فيها المسافر بين القصر والإتمام، وهو الظاهر من قوله تعالى:
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ. وأيهما أفضل؟ الصحيح في مذهب مالك التّخيير للمسافر بين الإتمام والقصر، وأما مالك رحمه الله فيستحب له القصر، ويرى عليه الإعادة في الوقت إن أتمّ، والقصر أفضل من الإتمام مطلقا
والسفر المبيح للقصر: هو السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالبا، وهو عند الحنفية بمقدار ثلاثة أيام تقدر ب ٩٦ كم، عملا بقول عثمان وابن مسعود وحذيفة، وبالأدلّة السابقة. وعند الجمهور: بمقدار ثمانية وأربعين ميلا هاشمية أو مرحلتين وهما سير يومين بلا ليلة معتدلين أو ليلتين بلا يوم معتدلتين، أو أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا لأن ابن عمر وابن عباس كانا يفطران ويقصران في أربعة برد، تقدر ب ٨٩ كم.
وأجمع الناس على جواز القصر في الجهاد والحج والعمرة ونحوها من صلة رحم وإحياء نفس، واختلفوا فيما سوى ذلك.
فالجمهور: على جواز القصر في السفر المباح كالتّجارة ونحوها لقول ابن مسعود: لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد، ولا قصر في سفر المعصية، كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما.
وأباح أبو حنيفة والأوزاعي القصر في جميع ذلك، فيصحّ القصر ولو لعاص بسفره.
واختلفوا متى يقصر المسافر؟
فالجمهور على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو ضارب في الأرض.
وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا، فصلّى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود، وبه قال
وعلى المسافر أن ينوي القصر من حين الإحرام، فإن افتتح الصلاة بنيّة القصر، ثم عزم على المقام في أثناء صلاته، جعلها نافلة.
واختلف العلماء في مدّة الإقامة التي إذا نواها المسافر أتمّ:
فقال مالك والشافعي وأحمد: إذا نوى الإقامة أربعة أيام أتمّ، إلا أن الإمام أحمد قال: إذا نوى الإقامة مدة تتسع لإحدى وعشرين فريضة قصر. وقال الحنفية: إذا نوى إقامة خمس عشرة ليلة أتمّ، وإن كان أقل قصر، عملا بقول ابن عمر وابن عباس.
والمسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه، أو ينزل وطنا له، وإن بقي سنين.
أما صلاة الخوف المذكورة في القرآن فيحتاج إليها، والمسلمون مستدبرون القبلة، ووجه العدو القبلة، وهذا موافق لصلاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم بذات الرقاع. أما صلاته عليه الصّلاة والسّلام بعسفان والموضع الآخر المروي عن ابن عمر فالمسلمون كانوا في قبالة القبلة.
واختلفت الرّوايات في السّنة النبويّة في هيئة صلاة الخوف، واختلف العلماء لاختلافها،
فذكر ابن القصّار أنه صلّى الله عليه وسلّم صلاها في عشرة مواضع.
قال ابن العربي: روي عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صلّى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة «١».
وقال الإمام أحمد: لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت. وهي كلها
وأذكر هنا أقوال الفقهاء بصفتها نموذجا عمليا مطبّقا بين المسلمين، ويمكن تأويل الآية بما يوافق هذه الأقوال:
١- ذهب أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله إلى الكيفية التالية لصلاة الخوف وهي: أن يقسم الإمام القوم طائفتين: تقوم طائفة مع الإمام، وطائفة إزاء العدوّ، فيصلّي بهم ركعة وسجدتين، ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم، ثم تأتي الطائفة الأخرى التي بإزاء العدوّ، فيصلّي بهم الإمام ركعة وسجدتين ويسلّم هو، ولم يسلّموا لأنهم مسبوقون، وإنما يذهبون مشاة للحراسة في وجه العدو، ثم تجيء الطائفة الأولى إلى مكانها الأول، أو تصلي في مكانها تقليلا للمشي، فتتمم صلاتها وحدها بغير قراءة لأنهم في حكم اللاحقين، ثم تشهدوا، وسلموا، وعادوا لحراسة العدوّ.
ثم تأتي الطائفة الثانية، فتتمم صلاتها بقراءة سورة مع الفاتحة لأنهم لم يدخلوا مع الإمام في أول الصلاة، فاعتبروا في حكم السابقين. وهذه الكيفية مروية عن الزهري عن سالم عن أبيه: وهي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مواجهة للعدو، ثم انصرفوا وقاموا في مقام أولئك، وجاء أولئك فصلّى بهم ركعة أخرى ثم سلّم، ثم قام هؤلاء، فقضوا ركعتهم، وهؤلاء فقضوا ركعتهم.
وروي مثله أيضا عن نافع، وابن عمر في حديث متفق عليه، وابن عباس.
٢- قال عبد الرّحمن بن أبي ليلى: إذا كان العدوّ بينهم وبين القبلة، جعل
وإذا كان العدوّ في دبر القبلة، قام الإمام ومعه صف مستقبل القبلة والصف الآخر يستقبل العدو، فيكبر ويكبرون جميعا، ويركع ويركعون جميعا، ثم يسجد الصف الذي مع الإمام سجدتين، ثم ينقلبون فيكونون مستقبلي العدو، ثم يجيء الآخرون، فيسجدون، ويصلي بهم الإمام الركعة الثانية، فيركعون جميعا، ويسجد الصف الذي معه، ثم ينقلبون إلى وجه العدوّ، ويجيء الآخرون، فيسجدون معه، ويفرغون، ثم يسلم الإمام وهم جميعا.
وهذه الكيفية رواها ابن عباس في صلاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم بعسفان، ورواها أيضا أحمد ومسلم وابن ماجه من حديث جابر.
وقد اعتمدها الشافعية والحنابلة إذا كان العدوّ في جهة القبلة.
٣- قال مالك رضي الله عنه: يتقدم الإمام بطائفة، وطائفة بإزاء العدوّ، فيصلّي بالتي معه ركعة وسجدتين، ويقوم قائما، وتتم الطائفة التي معه لأنفسها ركعة أخرى، ثم يتشهدون ويسلّمون، ثم يذهبون إلى مكان الطائفة التي لم تصلّ، فيقومون مكانهم، وتأتي الطائفة الأخرى، فيصلي بهم ركعة وسجدتين، ثم يتشهدون ويسلّم، ويقومون فيتمّون لأنفسهم الرّكعة التي بقيت.
وهذه كيفية صلاة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة ذات الرّقاع، رواها الجماعة إلا ابن ماجه عن سهل بن أبي حثمة، وهي التي قال عنها أحمد: وأما حديث سهل فأنا أختاره.
صلاة الخوف في المغرب:
اختلف الفقهاء في كيفية صلاة الخوف في المغرب: فقال الحنفية والمالكية والشافعية: يصلّي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالطائفة الثانية ركعة، غير أن المالكية والشافعية يقولون: إن الإمام ينتظر قائما حتى تتم الطائفة الأولى لنفسها، وتجيء الثانية، لكن لا يسلم الإمام في رأي الشافعية، كما تقدم «١».
الصلاة حال اشتباك القتال:
اختلف الفقهاء أيضا في صلاة الخوف عند التحام الحرب وشدّة القتال، وخيف خروج الوقت:
فقال الحنفية: لا صلاة حال اشتباك القتال، فإن قاتلوا فيها، فسدت صلاتهم، ويؤخرون الصلاة.
وقال مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وعامة العلماء: يصلي المجاهد كيفما أمكن لقول ابن عمر: فإن كان خوف أكثر من ذلك، فيصلي راكبا أو قائما، يومئ إيماء. قال مالك في الموطأ: مستقبل القبلة وغير مستقبلها، أي أن الصلاة تكون بالإيماء إذا لم يقدر على الرّكوع والسجود. وقال الشافعي: لا بأس أن يضرب الضربة، ويطعن الطعنة، فإن تابع الضرب والطعن، فسدت صلاته. والأدلّة من غير الآية «٢».
(٢) المرجع والمكان السابق.
واختلفوا أيضا في صلاة الطالب والمطلوب: فقال مالك وجماعة من أصحابه: هما سواء، كلّ واحد منهما يصلّي على دابته. وقال الأوزاعي والشافعي وفقهاء الحديث: لا يصلّي الطالب إلا بالأرض. وقال القرطبي: وهو الصحيح لأن الطلب تطوّع، والصلاة المكتوبة فرضها أن تصلّى بالأرض حيثما أمكن ذلك، ولا يصلّيها راكب إلا خائف شديد خوفه، وليس كذلك الطالب.
العسكر إذا رأوا سوادا فظنوه عدوّا فصلّوا صلاة الخوف، ثم بان لهم أنه غير شيء: اختلفوا أيضا في ذلك:
قال بعض المالكية وأبو حنيفة: يعيدون الصلاة لأنه تبيّن لهم الخطأ فعادوا إلى الصواب كحكم الحاكم. وقال بعض آخر من المالكية، وهو أظهر قولي الشافعي: لا إعادة عليهم لأنهم عملوا على اجتهادهم، فجاز لهم، كما لو أخطئوا القبلة، وهذا أولى لأنهم فعلوا ما أمروا به.
أخذ الحذر وحمل السلاح:
تأمر الآيتان: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ووَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ بالحذر وأخذ السلاح، لئلا ينال العدوّ أمله ويدرك فرصته.
والسلاح: ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب.
وهل حمل السلاح في الصلاة مندوب أو واجب؟
قال أبو حنيفة: لا يحملون الأسلحة لأنه لو وجب عليهم حملها لبطلت الصلاة بتركها. وردّ عليه: بأنه لم يجب حملها لأجل الصلاة، وإنما وجب عليهم قوة لهم ونظرا لمصلحتهم.
وقال ابن عبد البرّ: أكثر أهل العلم يستحبّون للمصلّي أخذ سلاحه إذا صلّى
وقال ابن العربي المالكي والشافعي والظاهرية: أخذ السلاح في صلاة الخوف واجب لأمر الله به، إلا لمن كان به أذى من مطر، فإن كان ذلك جاز له وضع سلاحه. وعلى كلّ حال: إن لم يجب فيستحب للاحتياط، كما قال القرطبي.
هذا.. وقوله تعالى: فَإِذا سَجَدُوا أي إذا سجدوا ركعة القضاء، وهم الطائفة المصلّية فلينصرفوا، دلّ على أنّ السجود قد يعبر به عن جميع الصلاة، مثل
قوله عليه الصّلاة والسّلام: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» «١»
أي فليصلّ ركعتين.
وقوله تعالى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بيّن وجه الحكمة في الأمر بأخذ السلاح. وذكر الحذر في الطائفة الثانية دون الأولى لأنها أولى بأخذ الحذر لأن العدوّ لا يؤخّر قصده عن هذا الوقت لأنه آخر الصلاة وأيضا يقول العدوّ: قد أثقلهم السلاح وكلّوا.
وفي هذه الآية دليل على تعاطي الأسباب، واتّخاذ وسائل النجاة وما يوصل إلى السلامة.
ثم أمر الله تعالى بشيئين: ذكر الله، وأداء الصلاة في أوقات معلومة.
أما ذكر الله تعالى فأبان سبحانه أنه متى فرغتم أيها المؤمنون من صلاة الخوف، فاذكروا الله في مختلف أحوالكم، حال القيام وحال القعود، وحال الاضطجاع على الجنوب، وذكره تعالى يكون في أنفسكم بتذكر وعده بنصر من
وهذا الذكر المأمور به في رأي الجمهور إنما هو إثر صلاة الخوف، والذكر يكون مع التعظيم والخشوع، والحكمة فيه ربط المؤمنين المجاهدين بالله تعالى في كل الأحوال حتى يعتمدوا في جهادهم على الله تعالى، ويكون طلب النصر والظفر منه، فإنه الذي بيده النصر، وهو القادر على كل شيء، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال ٨/ ٤٥].
والذكر كما طلب الله تعالى يكون دائما وبكثرة لأنه أداة الفلاح إذ هو وسيلة الخشية، ومتى وجدت الخشية وجدت الطاعة واجتنبت المعصية، وذلك هو الفوز والسعادة. روى ابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً: أنه كان يقول: لم يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها جزاء، ثم عذرهم إن عنّ ما يمنعهم من أدائها من العذر، إلا الذكر، فإن الله لم يجعل له حدّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، فقال:
فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم بالليل والنهار، في البّر والبحر، والسفر والحضر، والغنى والفقر، والصّحة والسّر والعلانية، وعلى كلّ حال.
وأما فرضية الصلاة بنحو دائم: فإن الله تعالى أبان أنه إذا أقمتم، وهو مقابل لقوله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ وزال عنكم الخوف الذي ترتب عليه قصر الصلاة وقصر صفتها وهيئتها، فأدّوا الصلاة على وجهها الأكمل تامّة الأركان والعدد والهيئة، إن الصلاة مفروضة عليكم في وقت معين، أي إنها مفروضة
والسبب في جعل الصلوات الخمس مفروضة بأوقات معينة: أن تكون مذكرة للمؤمن بربّه في الليل والنهار، وفي أوقات دورية، لئلا تحمله الغفلة على الشّر أو التّقصير في الخير.
الحث على القتال بعدم التفكير في الآلام وانتظار إحدى الحسنيين
[سورة النساء (٤) : آية ١٠٤]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٠٤)
المفردات اللغوية:
وَلا تَهِنُوا لا تضعفوا. فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ في طلب القوم، وهم الكفار، لتقاتلوهم.
يَأْلَمُونَ تجدون ألم الجراح فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ أي مثلكم ولا يجبنون عن قتالكم.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بكل شيء «حكيما» في صنعه.
سبب النزول:
قيل: نزلت في حرب أحد،
حيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالخروج في آثار المشركين، وكان بالمسلمين جراحات، وقد أمر ألا يخرج معه إلا من كان في الوقعة
، كما تقدم في «آل عمران».
الآيات السابقة في بيان كيفية الصلاة في أثناء المعركة، وقد نبهت إلى شدة عداوة الكفار وانتظار هم الفرصة المواتية لضرب المسلمين، ونبهت أيضا إلى ما يجب أن يكون عليه المؤمنون من أخذ الحذر أثناء الصلاة.
وهنا ينهى الله تعالى عن الضعف في القتال لأن الألم في الحروب وإن كان مشتركا بين الفريقين، فإن المؤمن يمتاز بما له من الرجاء عند ربه، بأنه ينتظر إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الجنة والثواب، فهذه الآية عود إلى بعث المؤمنين وحثهم على القتال بأسلوب إقناعي مستمد من الواقع.
التفسير والبيان:
ولا تضعفوا في قتال الأعداء ولا تتواكلوا، واستعدوا لقتالهم دائما بعد الفراغ من الصلاة، ولا تترددوا في خوض المعارك الفاصلة مع الأعداء بحجة ما يصيبكم من آلام القتل والجرح، فذلك أمر مشترك بين كل فريقين متحاربين لأنهم بشر مثلكم يتألمون ويصبرون، فما لكم لا تصبرون وأنتم أولى بالصبر؟! والحقيقة أنه لا يوجد لقتالهم هدف مقبول لأنهم على الباطل، والباطل في النهاية زائل، وأنتم على حق، ولم يعدهم الله بالنصر كما وعدكم، وليس لهم ثواب ولا ثمرة عائدة إليهم من قتالهم والله ضمن لكم الجنة، وليس عندهم ملجأ يستمدون منه النصر إلا الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع، وأنتم بعبادتكم الله وحده تلجؤون إليه في طلب النصر والرحمة، وهو الذي بيده مفاتيح السموات والأرض، وبقدرته ومشيئته يتحقق النصر.
وإنكم ترجون من الله ما لا يرجون من ظهور الدين الحق على سائر الأديان الباطلة، ومن الثواب الجزيل ونعيم الجنة.
أما فاقد الأمل، اليائس من الآخرة، فإنه يكون عادة جبانا ضعيف العزيمة فاتر الهمة، يقاتل فقط تنفيذا للأوامر أو للعصبية، والعنصرية، والنزعة الجامحة في التفوق والسيادة على الأمم.
وكان الله عليما حكيما، عليما بحالكم، حكيما فيما يأمركم به وينهاكم عنه، فلا يكلفكم شيئا إلا ما فيه صلاحكم في دينكم ودنياكم على مقتضى علمه وحكمته.
فقه الحياة أو الأحكام:
نظير هذه الآية: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران ٣/ ١٤٠]، وكلتا الآيتين تحضّان على القتال، والصبر في ميدان المعركة، والثبات أمام الأعداء، وتجنب الاستضعاف والتراخي وفتور الهمة والعزيمة.
وفيهما إقناع بأدلة واقعية، فإن الحرب دمار وخراب وتقتيل وجراح وخسارة مال للفريقين المتحاربين، فإن كان المؤمنون يتألمون مما أصابهم من الجراح، فأعداؤهم يتألمون أيضا مما يصيبهم.
ولكن للمؤمنين مزية: وهي أنهم يرجون النصر وثواب الله، وغيرهم لا يرجونه لأن من لا يؤمن بالله لا يرجو من الله شيئا، فينبغي أن تكونوا أرغب منهم في القتال.
والله تعالى عليم بكل الأشياء وأحوال عباده المؤمنين، فلا يشرع لهم إلا ما فيه الحكمة البالغة والمصلحة المؤكدة، والنفع الثابت الدائم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٠٥ الى ١١٣]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (١٠٩)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (١١٠) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١١١) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (١١٢) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (١١٣)
بِالْحَقِّ حال مؤكدة من الكاف في إِلَيْكَ.
بِما أَراكَ اللَّهُ أي أراكه الله، فالكاف المفعول الأول، والهاء المحذوفة: المفعول الثاني لأن «أرى» هنا تتعدى إلى مفعولين لأنها قلبية اعتقادية. ولا يجوز أن تكون «أرى» بمعنى «أعلم» لأن «أعلم يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، وليس في الآية إلا مفعولان: الكاف والهاء.
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
ها: للتنبيه في أنتم وأولاء، وهما مبتدأ وخبر.
ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
لم يقل: بهما لأن معنى قوله: ومن يكسب خطيئة أو إثما: ومن يكسب أحد هذين الشيئين، ثم يرم به لأن «أو» لأحد الشيئين.
البلاغة:
يوجد جناس مغاير في يَخْتانُونَ
.. خَوَّاناً
وفي خَصِيماً.. اسْتَغْفِرِ وفي يَسْتَغْفِرِ
..
غَفُوراً.
ويوجد طباق السلب في يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ.
المفردات اللغوية:
بِما أَراكَ بما عرّفك وأوحى به إليك لِلْخائِنِينَ الذين يخونون الناس وأنفسهم بالسرقة وارتكاب المعاصي واتهام الآخرين بها. خَصِيماً مخاصما ومدافعا عنهم. وَلا تُجادِلْ
الجدال: أشد أنواع المخاصمة. يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
يخونونها بالمعاصي لأن وبال خيانتهم عليهم.
خَوَّاناً
كثير الخيانة.
أَثِيماً
مبالغا في ارتكاب الإثم. يَسْتَخْفُونَ
يستترون من الناس حياء وخوفا.
يُبَيِّتُونَ
يضمرون ويدبرون. ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
من عزمهم على الحلف على نفي السرقة ورمي اليهودي بها. مُحِيطاً
عالما بكل شيء، أي شاملا علمه الأشياء كلها.
جادَلْتُمْ
خاصمتم. وَكِيلًا
مدافعا محاميا يتولى أمرهم ويذب عنهم، أي لا أحد يفعل ذلك. سُوءاً
ذنبا يسوء به غيره. أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
يعمل ذنبا قاصرا عليه. ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ
منه أي يتب، والاستغفار: طلب المغفرة من الله مع الندم على الذنب والتوبة منه.
إِثْماً
ذنبا فإنما يكسبه على نفسه لأن وباله عليها ولا يضر غيره.
خَطِيئَةً
ذنبا صغيرا، والفرق بين الخطيئة والإثم: أن الخطيئة هي الذنب المتعمد أو غير المتعمد، أو الذنب الصغير. والإثم: الذنب المتعمد الملحوظ فيه أنه ذنب، أو أنه الذنب الكبير.
ينسبه إليه ويقذفه به. احْتَمَلَ
تحمل أي كلف نفسه أن تحمل. بُهْتاناً
البهتان: افتراء الكذب على غيرك، مما يجعله يتحير عند سماعه ويصطدم بما يبهته.
لَهَمَّتْ
أضمرت. أَنْ يُضِلُّوكَ
أن يصرفوك عن القضاء بالحق بتلبيسه عليك.
وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
لأن وبال إضلالهم عليهم. ومن: زائدة.
سبب النزول:
روى الترمذي والحاكم وابن جرير عن قتادة بن النعمان: أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق، وكان رجلا من الأنصار، ثم أحد بني ظفر، سرق درعا لعمه كان وديعة عنده، وقد خبأها في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه، وخبأها عند زيد بن السمين من اليهود، فالتمسوا الدرع عند طعمة، فلم يجدوها، وحلف بالله: ما أخذها وما له به من علم، فساروا في أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي، فأخذوها، فقال: دفعها إليّ طعمة، وشهد له ناس من اليهود بذلك، ولكن طعمة أنكر ذلك، فقالت بنو ظفر وهم قوم طعمة: انطلقوا بنا إلى رسول الله، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم، وقالوا:
إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرئ اليهودي فهمّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يفعل وكان هواه معهم، وأن يعاقب اليهودي فنزلت.
وهذا قول جماعة من المفسرين «١».
وروي أن طعمة هرب إلى مكة وارتد، وسقط عليه حائط في سرقة، فمات.
المناسبة:
هذه الآيات استمرار في تحذير المؤمنين من المنافقين، والاستعداد لمجاهدتهم، ومن أخطر حالات الحذر: القضاء بين الناس، فعلى المؤمنين القضاء بالحق والعدل دون محاباة أحد.
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ.
التفسير والبيان:
أمر الله تعالى رسوله أن يقضي بين الناس بالحق والعدل دون محاباة أحد، ولا إلحاق ظلم بأحد ولو كان غير مسلم، فقال له: إنا أنزلنا إليك هذا القرآن بالحق في خبره وطلبه وحكمه بتحقيق الحق وبيانه، لأجل أن تحكم بين الناس بما أوحى إليك وأعلمك من الأحكام، فتقضي بالوحي إن وجد، أو تقضي بالاجتهاد إن لم يوجد وحي صريح فاحكم بين الناس بشريعة الله، ولا تكن لمن خان نفسه مخاصما ومدافعا تدافع عنه، وترد من طالبه بالحق، أي لا تتهاون في تحري الحق تأثرا بقوة جدل خصم في الخصومة.
وفي هذا دلالة- كما ذكر علماء الأصول- على أنه كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بالاجتهاد، بهذه الآية، وبما ثبت
في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: «ألا إنما أنا بشر، وإنما أقضي بنحو مما أسمع، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو ليذرها».
وفي رواية الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مواريث بينهما قد درست «١»، ليس عندهما بينة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق
وفي رواية أبي داود من حديث أسامة بن زيد زيادة هي: «إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه».
ومن أجاز الاجتهاد للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهم الجمهور يقول: يجوز عليه الخطأ، لكنه لا يقر على الخطأ، بدليل هذه الحادثة، وحادثة قبول الفداء من أسارى بدر.
واللام في قوله: لِلْخائِنِينَ للتعليل، أي لا تكن لأجل الخائنين مخاصما لما يستعدونك عليه. والخائنون: هم طعمة وقومه.
واستغفر الله مما هممت به في أمر طعمة وبراءته التي لم تتثبت في شأنها، وعقاب اليهودي.
والأمر بالاستغفار في هذا ونحوه لا يقدح في عصمة الأنبياء لأنه لم يكن منه إلا الهم، والهم لا يوصف بأنه ذنب، بل إن ذلك من قبيل «حسنات الأبرار سيئات المقربين» وما أمره بالاستغفار إلا لزيادة الثواب، وإرشاده وإرشاد أمته إلى وجوب التثبت في القضاء.
والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات، ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه حق، وإنما أحسن الظن بدفاع قوم طعمة، فبيّن الله تعالى له حقيقة الأمر، خلافا لما ظنه من غلبة الصدق على المسلم وغلبة الكذب على اليهودي.
ثم رغب الله تعالى قوم طعمة وغيرهم بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً
ولا تجادل يا محمد عن هؤلاء الذين يخونون أنفسهم بتعديهم على حقوق الغير، وسمى خيانة غيرهم خيانة لأنفسهم لأن ضررها عائد إليهم، أي لا تدافع عن هؤلاء الخونة، ولا تساعدهم عند التخاصم.
إن الله يبغض كثير الخيانة معتاد الإثم أي ارتكاب الذنب واجتراح السيئة، ويحب أي يثيب أهل الأمانة والاستقامة. وجاء الكلام بصيغة المبالغة، لعلم الله بإفراط طعمة في الخيانة وركوب المآثم.
وعبر بقوله: لِلْخائِنِينَ ويَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
مع أن السارق طعمة وحده لوجهين: أحدهما- أن بني ظفر قومه شهدوا له بالبراءة ونصروه، فكانوا شركاء له في الإثم. والثاني- أنه جمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته، فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه «١».
ثم بيّن الله تعالى أحوال الخائنين وخصالهم المنكرة، فقال: إن شأن هؤلاء الخائنين أنهم يستترون من الناس عند ارتكاب الجريمة إما حياء وإما خوفا، ولا يستترون ولا يستحيون من الله عالم الغيب والشهادة، الذي هو معهم أي عالم بهم مطلع عليهم، لا يخفى عليه خاف من سرهم، إذ يدبرون ويزورون ما لا يرضى الله من القول، وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد اليهودي، ليسرق دونه، ويحلف بالبراءة.
وكان الله محيطا بأعمالهم، حافظا لها، فلا أمل في نجاتهم من عقابه. قال الزمخشري: وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم فيه من قلة الحياء، والخشية من ربهم، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة «٢».
(٢) المرجع والمكان السابق.
وبعبارة أخرى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا، فمن يخاصم عنهم في الآخرة، إذا أخذهم الله بعذابه، ومن هو المستعد أن يكون عنهم وكيلا أي حافظا ومحاميا من بأس الله وانتقامه؟
وفي هذا توبيخ وتقريع لمن أرادوا مساعدة طعمة على اليهودي، وفيه دلالة أيضا على أن حكم الحاكم ينفذ في الظاهر فقط، لا في الباطن، أي لا يحل للمحكوم له الحرام، ولا يجيز له أن يأخذ شيئا علم أنه لا حق له فيه.
ثم رغب الله تعالى في التوبة فقال: ومن يعمل ذنبا قبيحا يسوء به غيره، أو يظلم نفسه بمعصية كالحلف الكاذب، ثم يطلب من الله المغفرة على ذنبه، يجد الله غفورا للذنوب، رحيما بأهل العيوب، تفضلا منه وإحسانا.
وفي ذلك ترغيب لطعمة وقومه بالتوبة والاستغفار، وبيان للمخرج من الذنب، وتحذير لأعداء الحق الذين يحاولون طمس الحقائق وهدم صرح العدل.
ثم حذر الله تعالى من ارتكاب الذنوب والمعاصي بنحو عام فقال: ومن يرتكب ما يوجب الإثم من المعاصي، فإن إجرامه وعمله وبال على نفسه وضرر على شخصه، لا يتعدى إلى غيره لأنه هو الذي يعاقب على فعله. وكان الله تعالى وما يزال واسع العلم بأفعال الناس، فشرع لهم ما يمنعهم عن تجاوز شرائعه، وهو أيضا عظيم الحكمة بتشريعه العقاب لمرتكب الإثم.
ثم أبان الله تعالى حمايته لنبيه فقال: ولولا فضل الله عليك ورحمته أي عصمته وألطافه وما أوحى إليك من الاطلاع على سرهم، لهمت طائفة من بني ظفر أن يصرفوك عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل، مع علمهم بأن الجاني هو صاحبهم.
أي لولا فضل الله عليك بالنبوة، والتأييد بالعصمة، ورحمته لك، ببيان حقيقة الواقع، لهمت طائفة منهم أن يصرفوك عن الحكم العادل، ولكن محاولاتهم باءت بالفشل، إذ جاءك الوحي ببيان الحق.
وهم في الحقيقة بانحرافهم عن طريق الحق والاستقامة لا يضلون إلا أنفسهم لأن الوزر عليهم فقط ووباله ملحق بهم، وهم لا يضرونك شيئا لأنك عملت بظاهر الحال، وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك، والله يعصمك من الناس ومن اتباع الهوى في الحكم بينهم ومن كل مكروه.
والله أنزل عليك الكتاب أي القرآن، والحكمة أي فقه مقاصد الشريعة وفهم أسرارها، وعلمك من الكتاب والشريعة، وإفهام الحقائق ما لم تكن تعلم قبل ذلك من خفيات الأمور، وضمائر القلوب، وأمور الدين والشريعة.
وكان فضل الله عليك عظيما إذ أرسلك للناس كافة، وجعلك خاتم النبيين، وشهيدا عليهم يوم القيامة، وعصمك من الناس، وجعل أمتك أمة وسطا عدولا، فاشكر الله على ذلك، ولتشكر أمتك تلك النعم، حتى تكون خير أمة أخرجت للناس، وقدوة حسنة للآخرين.
تضمنت الآيات طائفة من الأحكام:
١- تفويض الحكم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليقضي بين الناس بالحق والعدل حسبما علّمه الله وأوحى إليه، سواء بالنص الصريح أو بالاجتهاد والرأي المعتمد على أصول التشريع.
٢- تأنيب طعمة بن أبيرق ومن آزره من قومه، وكانوا ثلاثة إخوة: بشر وبشير ومبشّر، وأسير بن عروة ابن عمّ لهم لأنهم تعاونوا معه على الباطل لتبرئته من تهمة السرقة: سرقة أدراع وطعام من رفاعة بن زيد في الليل، ومحاولة إلصاق التهمة بيهودي اسمه: زيد بن السمين.
٣- القانون الذي يحكم به: هو بِما أَراكَ اللَّهُ معناه على قوانين الشرع إما بوحي ونصّ، أو بنظر جار على سنن الوحي. وهذا أصل في القياس، وهو يدل على جواز الاجتهاد للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وعلى أنه في رأي القرطبي إذا رأى شيئا أصاب لأن الله تعالى أراه ذلك، وقد ضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة فأما أحدنا إذا رأى شيئا فلا قطع فيما رآه.
٤- دل قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً على أن النيابة أو الوكالة عن المبطل والمتهم في الخصومة لا تجوز، فلا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محقّ، وقد نهى الله عز وجل في هذه الآية رسوله عن معاضدة أهل التهم والدفاع عنهم بما يقوله خصمهم من الحجة.
٥- قال العلماء: لا ينبغي إذا ظهر للمسلمين نفاق قوم أن يجادل فريق منهم فريقا عنهم، ليحموهم ويدافعوا عنهم فإن هذا قد وقع على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيهم نزل قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً وقوله: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان حكما فيما بينهم، ولذلك كان يعتذر إليه ولا يعتذر هو إلى غيره، فدل على أن القصد لغيره.
٦- قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ دل على أن الأنبياء صلوات الله عليهم قد يؤمرون بالاستغفار مما ليس ذنبا، كالهمّ بتقديم الدفوع عن بني أبيرق ومعاقبة اليهودي بقطع يده، وهو دفاع وعمل بالظاهر لاعتقاده براءتهم. وهذا من قبيل «حسنات الأبرار سيئات المقربين».
وقيل: الأمر بالاستغفار للمذنبين من أمتك والمتخاصمين بالباطل، وقيل:
هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح، كالرجل يقول: أستغفر الله، على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب. وقيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد بنو أبيرق، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب ٣٣/ ١]، فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ [يونس ١٠/ ٩٤].
٧- قوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
نهي صريح عن الدفاع عن الخونة، أي لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم. والمجادلة:
المخاصمة. والله لا يرضى عن الخائن أو الخوّان- الذي هو من صيغ المبالغة لعظم قدر تلك الخيانة.
٨- الإنسان قاصر النظر، محدود التفكير، سطحي المواقف: فتراه إذا حاول ارتكاب ذنب يستتر ويستحي من الناس، ولا يستتر ولا يستحي من الله، والله أحق أن نخشاه وأن نستحي منه لأن المصير إليه، وبيده وحده الجزاء.
٩- الحقائق تنكشف بنحو واضح قاطع يوم القيامة في عالم الحساب بين
ومن يكون وكيلا عليهم، أي قائما بتدبير أمورهم؟ فالله تعالى قائم بتدبير خلقه، ولا أحد لهم يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه وأدخلهم النار.
١٠- باب التوبة للعصاة والمذنبين مفتوح: لقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
قال ابن عباس:
عرض الله التوبة على بني أبيرق بهذه الآية.
١١- وبال الذنب وعاقبته على المذنب نفسه: لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
- أي ذنبا- فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
أي عاقبته عائدة عليه، وضرره راجع إليه لأنه المتضرر في الحقيقة في الدنيا بالتعرض للمصائب، وفي الآخرة لعذاب جهنم.
والكسب: ما يجرّ به الإنسان إلى نفسه نفعا أو يدفع عنه به ضررا. ولهذا لا يسمى فعل الرب تعالى كسبا.
١١- البهتان جريمة عظمي: وهو إلقاء التهمة واختلاق الكذب على البريء، أو هو أن تستقبل أخاك بأن تقذفه بذنب وهو منه بريء.
قال تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً، ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً، فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
فيه تشبيه، إذ الذنوب ثقل ووزر، فهي كالمحمولات. وقد قال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت ٢٩/ ١٣].
قال الطبري: إنما فرق بين الخطيئة والإثم: أن الخطيئة تكون عن عمد وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد.
- بأن نبهك على الحق، أو بالنبوة والعصمة- لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
عن الحق لأنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبرئ ابن أبيرق من التهمة ويلحقها باليهودي، ولا يفعل هذا إلا منافق كما أوضحت، فتفضل الله عز وجل على رسوله عليه السلام بأن نبّهه على ذلك وأعلمه إياه. وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
لأنهم يعملون عمل الضالين، فوباله راجع عليهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
لأنك معصوم.
١٣- أنزل الله على نبيه القرآن، والحكمة: القضاء بالوحي وفهم أسرار الشريعة وعلمه ما لم يكن يعلم من الشرائع والأحكام.
حالات النجوى الخيّرة وعقاب معاداة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين (الإجماع)
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١١٤) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (١١٥)
الإعراب:
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ: إن جعلت النجوى بمعنى المناجاة، كان
المفردات اللغوية:
نَجْواهُمْ النجوى: المسارّة بالحديث أو السر بين اثنين، أي لا خير في كثير من نجوى الناس أي ما يتناجون فيه ويتحدثون إلا نجوى من أمر بصدقة أو معروف (عمل بر) أو إصلاح بين الناس. ويصح كونه جمع نجي بمعنى جماعة المتناجين، أي المتسارّين أَوْ مَعْرُوفٍ ما يقره الشرع والعقل الصحيح وتتلقاه النفوس بالقبول ابْتِغاءَ طلب مَرْضاتِ اللَّهِ لا غيره من أمور الدنيا.
وَمَنْ يُشاقِقِ يعادي ويخالف، كأن كل واحد من المتعاديين يكون في شق.
سبب النزول:
نزلت في تناجي أهل طعمة بن أبيرق ليلا بالفساد وتعاونهم على الشر وإلصاق تهمة السرقة باليهودي.
وروي أن طعمة لما حكم عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقطع، هرب إلى مكة، وارتد عن الإسلام، ومات مشركا، فنزلت الآية:
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ... الآية.
المناسبة:
موضوع الآيتين متصل بما قبلهما وهو أمر الذين يختانون أنفسهم، ويستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهم طعمة بن أبيرق ومساعدوه الذين تآمروا في السر لإيقاع البريء بالسرقة، فبيّن الله تعالى هنا أن كل حديث سري أو تدبير خفي أو مناجاة لا خير فيه إلا ما كان بقصد التعاون أو الأمر بالمعروف أو الإصلاح، ثم ذكر الله تعالى أن مخالفة أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم واتباع غير سبيل جماعة المؤمنين جرم عظيم يستوجب دخول نار جهنم.
لا خير في كثير من كلام الناس وتناجيهم كجماعة طعمة إلا إذا كان التناجي في أحد أمور ثلاث:
١- الأمر بالصدقة لإعانة المحتاج ومواساة الفقير والمسكين.
٢- الأمر بالمعروف: وهو ما تعارف عليه الشرع من كل ما فيه مصلحة عامة أو خير عام.
٣- الإصلاح بين الناس في خصوماتهم ومنازعاتهم.
وذلك كما جاء في
حديث رواه ابن مردويه والترمذي وابن ماجه عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلام ابن آدم كله عليه، لا له، إلا ذكر الله عز وجل، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر»
وروى الإمام أحمد عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا أو يقول خيرا»
وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها».
وروى أحمد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين»
وروى أبو بكر البزار والبيهقي عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي أيوب: «ألا أدلك على تجارة؟» قال: بلى يا رسول الله، قال: «تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا، وتقارب بينهم إذا تباعدوا».
وإنما قال: فِي كَثِيرٍ لأن من النجوى ما يكون في المباحات والمصالح الخاصة من زراعة وتجارة وصناعة وغيرها، فلا توصف بالشر، ولا هي مقصودة من الخير. وإنما المراد بالنجوى الكثير المنفي عنها صفة الخير هي النجوى في شؤون الناس.
وثبت عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيما يرويه مالك والشيخان: «إذا كان ثلاثة، فلا يتناجى اثنان دون واحد، فإن ذلك يحزنه»
وهو ضرر، والضرر لا يحل بإجماع.
والسبب في اتصاف النجوى بالشر كثيرا: أن العادة جرت بحب إظهار الخير، وأن الشر والإثم هو الذي يذكر في السر، وتتم المؤامرات سرا،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «الإثم: ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وكرهت أن يطلع عليه الناس» «١».
وخيرية الأمور الثلاثة المذكورة في الآية إنما تكون في السر لا في الجهر لقوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة ٢/ ٢٧١].
ثم ذكر الله تعالى الثواب المقرر على فعل تلك الأعمال الثلاثة فذكر: ومن يفعل هذه الأعمال الثلاثة، بقصد إرضاء الله وطاعة أمره، مخلصا في ذلك، محتسبا ثواب فعله عند الله عز وجل، فإن الله سيؤتيه ثوابا جزيلا كثيرا واسعا.
وبعد هذا الوعد بالخير والجزاء الحسن على أحوال النجوى الخيّرة أوعد الله الذين يتناجون بالشر ويدبرون المكائد للناس ويعلنون اعتزالهم عن الجماعة ومعاداتهم الرسول، فقال: ومن يخالف الرسول ويعاديه، ويسلك غير طريق
ويجعل الله النار مصيره في الآخرة، وساء المصير مصيره لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات ٣٧/ ٢٢] وقال: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الكهف ١٨/ ٥٣].
وفي هذا إشارة واضحة إلى أن من يتجه بنفسه في طريقة أو وجهة يتوجه إليها ويرضاها لنفسه، يتركه الله وشأنه، ويكون عقابه أمرا منتظرا وعادلا لاختياره طريق الشر، وبعده عن منهج الاستقامة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يأتي:
١- لا خير في كثير من نجوى الناس سرا، أو من كلام الجماعة المنفردة أو كلام الاثنين، سواء كان ذلك سرا أو جهرا إلا نجوى ثلاثة: من أمر بصدقة، ففيها عون الفقير والمسكين والمحتاج الذي لا يطلع على حاجته إلا القليل من الناس. ومن أمر بالمعروف، والمعروف: لفظ يعم أعمال البرّ كلّها،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «كل معروف صدقة، وإن من المعروف: أن تلقى أخاك بوجه طلق» «١»
وقال
ومن أمر بإصلاح بين الناس، والإصلاح عام في الدماء والأموال والأعراض، وفي كل شيء يقع الاختلاف فيه بين الناس، وفي كل كلام يراد به وجه الله تعالى. فأما من طلب الرياء والترؤس، فلا ينال الثواب. كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «ردّ الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورّث بينهم الضغائن». وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة. وهذه الآية نظير قوله تعالى:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات ٤٩/ ٩] الآية، وقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء ٤/ ١٢٨] وقوله عن الحكمين: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما
[النساء ٤/ ٣٥].
٢- إن معاداة الرسول ومخالفته وترك الإسلام أو الردة عنه، ومخالفة طريق المسلمين تحجب عن مرتكبها عناية الله ورعايته، وتجعله يتخبط في دياجير الظلام والضلال، وتجعله مقودا بنفسه وهواه، وتوجب له الدخول في نار جهنم، وساءت مصيرا يصير إليه هذا المنحرف. ونظير هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ [المجادلة ٥٨/ ٢٠] يعني أن يصير في حد غير حد الرسول وهو مباينته في الاعتقاد والديانة.
٣- قال العلماء وعلى رأسهم الإمام الشافعي: في قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى، وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.. دليل على صحة القول بالإجماع، أي اتفاق المجتهدين من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته في عصر من العصور على حكم شرعي لأنه تعالى قرن اتباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول فيما ذكر له من الوعيد، فدل على صحة إجماع الأمة، لإلحاقه
٤- قوله: نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى إخبار عن براءة الله منه، وأنه يكله إلى ما تولى من الأوثان والأديان الباطلة، واعتضد به، ولا يتولى الله نصره ومعونته «٢».
٥- قوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى تغليظ في الزجر عنه، وتقبيح لحاله وتبيين للوعيد فيه إذ كان معاندا بعد ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم «٣».
الشرك وعاقبته والشيطان وشروره وجزاء الإيمان والعمل الصالح
[سورة النساء (٤) : الآيات ١١٦ الى ١٢٢]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١١٦) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢٠)
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (١٢١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (١٢٢)
(٢) الجصاص: المرجع والمكان السابق.
(٣) الجصاص: المكان السابق. [.....]
أُولئِكَ مبتدأ. مَأْواهُمْ مبتدأ ثان. جَهَنَّمُ خبر المبتدأ الثاني، والجملة خير الأول.
البلاغة
يوجد جناس مغاير في ضَلَّ... ضَلالًا وفي خَسِرَ... خُسْراناً.
المفردات اللغوية:
إِنْ يَدْعُونَ إن نافية بمعنى ما أي ما يعبد المشركون أو يتوجهون ويطلبون المعونة، وهذا نوع من العبادة إِلَّا إِناثاً أصناما مؤنثة كاللات والعزى ومناة. وَإِنْ يَدْعُونَ ما يعبدون بعبادتها إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً متمرنا على الخبث، خارجا عن الطاعة، لطاعتهم له فيها وهو إبليس، والشيطان: هو الخبيث المؤذي من الجن والإنس. والمراد من قوله: مَرِيداً أنه مرن على الإغواء والإضلال، أو تمرد واستكبر عن الطاعة، فالمريد: العاتي المتمرد. لَعَنَهُ اللَّهُ أبعده عن رحمته وطرده مع السخط والإهانة. لَأَتَّخِذَنَّ لأجعلن لي. نَصِيباً حظا.
مَفْرُوضاً مقطوعا أو معينا ثابتا أدعوهم إلى طاعتي.
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الحق بالوسوسة ولأدفعنهم إلى الضلال والفساد. وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ألقي في قلوبهم طول الحياة أن لا بعث ولا حساب، وأزين لهم الأماني الباطلة. فَلَيُبَتِّكُنَّ يقطعن آذان الأنعام لأجل تمييزها وتخصيصها للآلهة. فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ دينه بالكفر، وإحلال ما حرم وتحريم ما أحل. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا يتولاه ويطيعه. مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره.
خُسْراناً مُبِيناً بينا، لمصيره إلى النار المؤبدة عليه.
المناسبة:
الآية الأولى متصلة بما قبلها في قصة طعمة الذي ارتد، فإنه لو لم يرتد لم يكن محروما من رحمة الله، فإن كل ذنب قابل للمغفرة إلا ذنب الشرك. قال العلماء عن آية وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء ٤/ ١١٥] وعن آية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ هاتان الآيتان نزلتا بسبب ابن أبيرق السارق، لما حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقطع، وهرب إلى مكة وارتد. قال سعيد بن جبير: لما صار إلى مكة نقب بيتا بمكة، فلحقه المشركون فقتلوه فأنزل الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إلى قوله: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً.
وقال الضحاك: قدم نفر من قريش المدينة، وأسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين، فنزلت هذه الآية: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ والمشاقة: المعاداة.
والآية وإن نزلت في سارق الدرع أو غيره، فهي عامة في كل من خالف طريق المسلمين «١».
وأما الآيات التي بعدها فمناسبة لما قبلها، ففي هذه الآيات عقد الله تعالى مقارنة بين جريمة الشرك وخطرها، وأعمال الشيطان ولعنته وعقابه، والإيمان والعمل الصالح وجزائهما لأن الشيطان يدعو إلى الشرك وعبادة الأوثان، وفي مواجهة ذلك صرح الإيمان الراسخ الذي لا يتأثر أهله بنزعات الشياطين في أصل الاعتقاد، وإن تأثروا أحيانا بها في بعض أعمال الشر، وهذا تحذير وترغيب.
إن الله لا يغفر الشرك بالله أصلا، ولا لمن يشرك به أحدا سواه، ولكنه قد يغفر ما دون الشرك من الذنوب، فلا يعذبهم عليه، ومن يشرك بالله شيئا، فقد ضل وبعد عن سبيل الرشاد ضلالا بعيدا في مهاوي الغواية، وسلك غير الطريق الحق، وضل عن الهدى، وبعد عن الصواب، وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة وفاتته السعادة فيهما لأن الشرك ضلال يفسد العقل، ويكدّر صفاء الروح، ويكون المشرك عبدا للأوهام والخرافات. فالشرك: هو منتهى فساد الروح وضلال العقول، ووكر الخرافات والأباطيل، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة ٢/ ١٦٥].
وقد تقدم إيراد هذه الآية، وأعيدت هنا تأكيدا لاقتلاع آثار الشرك من النفوس المريضة، ودحض الشرك وهدم طقوسه من مقاصد الإسلام الأساسية، فهو الواجهة المضادة أصلا لعقيدة الإسلام: عقيدة التوحيد. ولا عيب في هذا التكرار للتأكد من غرس الإيمان بالله، والتحذير من مغبة الشرك وخطره وخروجه عن أساس الفطرة ومقتضيات العقل السليم.
روى الترمذي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ثم قال الترمذي: هذا حسن غريب.
ومغفرة ما دون الشرك من الذنوب بسبب بقاء نور الإيمان، وهو مشروط بمشيئة الله، فهو يغفر لمن يشاء من عباده، كما يغفر بالتوبة والإنابة إليه، فذلك سبيل محو الذنوب.
وأما أولئك المشركون فهم لا يعبدون أو لا يتوجهون بقضاء حوائجهم إلا إلى
وهم في الواقع ما يعبدون إلا شيطانا عاتيا مرد على الإيذاء وتمرن على الخبائث إذ هو الذي أمرهم بعبادتها، فكانت طاعتهم له عبادة.
لَعَنَهُ اللَّهُ أي طرده وأبعده من رحمته وفضله مع الذل والهوان، فإنه داعية الشر والفساد والباطل بما يوسوس في صدر الإنسان.
ومن غلو الشيطان ودعوته إلى الفساد أنه أقسم: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً أي لأجعلن تلامذة لي جزءا معينا مقدرا معلوما من الناس، مثل قوله تعالى حكاية عنه: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر ١٥/ ٣٩- ٤٠].
ولأضلّنهم، أي أصرفنهم عن الحق، وعن الاعتقاد الصحيح.
ولأمنينّهم، أي أزين لهم اللذات وترك التوبة، وأعدهم الأماني، وآمرهم بالتسويف والتأخير، وأغريهم من أنفسهم.
ولآمرنهن بالضلال فليقطّعن آذان الأنعام، أي تشقيقها ووسمها وجعلها متميزة خالصة للأصنام، كالبحيرة التي يتركون الحمل عليها، والسائبة الناقة التي يسيبونها للأصنام إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث، فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضعيف، والوصيلة التي ولدت جديا وعناقا، فيقولون: وصلت
ولآمرنّهم فليغيرن خلق الله بخصي الدواب، والوشم في الوجه ونحوهما مما فيه تشوية الفطرة وتغييرها عما فطرت عليه، ثبت في الصحيح عند أحمد وأصحاب الكتب الستة عن ابن مسعود أنه قال: «لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن، المغيرات خلق الله عز وجل» ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو في كتاب الله عز وجل، يعني قوله: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر ٥٩/ ٧].
وقال جماعة من المفسرين: تغيير خلق الله معناه دين الله عز وجل، كقوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم ٣٠/ ٣٠] وكما ثبت في الصحيحين: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه، أو ينصرانه، أو يمجّسانه، كما تولد البهيمة جمعاء، هل تجدون بها من جدعاء» «١».
ومن يتخذ الشيطان وليا يتولى أمره وإماما يقتدي به، فقد خسر خسرانا ظاهرا في الدنيا والآخرة، بل إنه خسرهما في الواقع، وتلك خسارة لا جبر لها، ولا استدراك لفائتها، وأي خسران أعظم من ترك هدي القرآن واتباع أساليب الشيطان؟! الشيطان يعد أولياءه الباطل، ويمنيهم بما هو كاذب، يعدهم بالفقر والمرض والتخلف عن ركب التقدم إذا أنفقوا شيئا من أموالهم في سبيل الله، ويعدهم الغنى والثروة بالقمار مثلا، ويمنيهم بأنهم الفائزون في الدنيا والآخرة، وقد كذب وافترى في ذلك.
أولئك المستحسنون لما وعدهم الشيطان ومنّاهم مصيرهم ومآلهم جهنم يوم القيامة، ولا يجدون عنها مهربا يفرون إليه، أي ليس لهم مندوحة ولا مصرف، ولا خلاص، ولا مناص، يتهافتون فيها تهافت الفراش على النار.
ثم ذكر الله تعالى حال السعداء والأتقياء وما لهم من الكرامة التامة فقال:
والذين آمنوا: صدقوا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر ورضوا بقضائه، وعملوا الصالحات، أي الأعمال الطيبة وما أمروا به من الخيرات، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات، سيدخلهم الله جنات تجري من تحتها الأنهار بما اشتملت عليه من ألوان النعيم المقيم، ويصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا، وهم ماكثون مقيمون فيها على الدوام، بلا زوال ولا انتقال، وذلك هو الفوز العظيم الأسمى الذي تطمح إليه النفوس.
وهو وعد حق لا شك فيه، أي هذا وعد من الله، ووعد الله واقع لا محالة، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر، وهو قوله «حقا» فهو القادر على كل شيء، وهو الواسع الكرم والرحمة والفضل، وأما وعد الشيطان فهو غرور من القول وزور.
ثم قال الله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي لا أحد أصدق منه قولا، أي خبرا، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول في خطبته فيما رواه الترمذي وغيره: «إن أصدق
فقه الحياة أو الأحكام:
في الآيات دلالة على ما يأتي:
١- قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ رد على الخوارج حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر. وقد ذكرت حديثا عن علي أن هذه الآية أحب آي القرآن لديه. وأجمع المالكية وغيرهم من أهل السنة على أنه لا تخليد إلا للكافر، وأن الفاسق من أهل القبلة إذا مات غير تائب، فإنه إن عذب بالنار، فلا محالة أنه يخرج منها بشفاعة الرسول أو بابتداء رحمة من الله تعالى.
وقال الضحاك: إن شيخا من الأعراب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يا رسول الله، إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ.
٢- وصف الله الأصنام بالإناث إيماء إلى الضعف، فقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً نزل في أهل مكة إذ عبدوا الأصنام، وهي إناث كاللات والعزّى ومناة، وكان لكل حي صنم يعبدونه ويقولون: أنثى بني فلان، فخرج الكلام مخرج التعجب لأن الأنثى من كل جنس أخسه، فهذا جهل ممن يشرك بالله جمادا، فيسميه أنثى، أو يعتقده أنثى.
وقيل: إِلَّا إِناثاً مواتا لأن الموات لا روح له، كالخشبة والحجر.
وقيل: إِلَّا إِناثاً ملائكة لقولهم: الملائكة بنات الله، وهي شفعاؤنا عند الله.
[التوبة ٩/ ٣١] أي أطاعوهم فيما أمروهم به، لا أنهم عبدوهم.
٤- اللعنة على إبليس: هي في العرف إبعاد مقترن بسخط وغضب، ولعنة الله على إبليس على التعيين جائزة، وكذلك على سائر الكفرة الموتى كفرعون وهامان وأبي جهل، فيجوز لعن الكفار جملة من غير تعيين، جزاء على الكفر وإظهار قبح كفرهم، ويجوز أيضا لعن الظالمين، لقوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود ١١/ ١٨] ويجوز إجماعا لعن العاصي مطلقا
لقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده»
وهذا كله دون تعيين.
٥- تلامذة الشيطان هم الكفرة والعصاة، فهؤلاء الذين يستخلصهم الشيطان بغوايته، ويضلهم بإضلاله.
وفي الخبر: «من كل ألف واحد لله، والباقي للشيطان»
وبعث النار الذي أخبر عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم في صحيح مسلم: هو نصيب الشيطان.
٦- وسائل الشيطان: هي الإضلال (الصرف عن طريق الهدى) وزرع التمنيات الباطلة طوال الحياة بإمهال الخير والتوبة، والمعرفة مع الإصرار على المعصية، وتقطيع آذان الأنعام وجعل علامات عليها للأصنام، وتغيير أصل الخلقة تغييرا حسيا كالخصاء وفقء الأعين وقطع الآذان ونحو ذلك مما فيه تعذيب الحيوان، أو تغييرا معنويا كتغيير الاعتقاد، والتحريم والتحليل بالطغيان.
أخرج مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم».
فيما رواه أبو داود عن علي في الأضاحي- «أن نستشرف العين والأذن، ولا نضحّي بعوراء ولا مقابلة، ولا مدابرة ولا خرقاء، ولا شرقاء» «١»
فلم يجز مالك والشافعي وجماعة الفقهاء الأضحية بمقطوعة الأذن أو جلّ الأذن، أو السكاء: وهي التي خلقت بلا أذن.
وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من العلماء إذا قصدت فيه المنفعة إما لسمن أو غيره، وأجاز الجمهور أن يضحى بالخصي. وأما الخصاء في الآدمي فحرام، لما فيه من ألم عظيم ربما يفضي بصاحبه إلى الهلاك، وهو مثلة نهى عنها النبي صلّى الله عليه وسلّم، ومؤد إلى قطع النسل المأمور به في
قوله عليه السلام فيما رواه عبد الرزاق عن سعيد بن أبي هلال مرسلا: «تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة».
والوسم والإشعار في الحيوان من أجل تمييزها عن غيرها مستثنى من نهيه عليه السلام عن شريطة الشيطان. والوسم: الكي بالنار،
ثبت في صحيح مسلم عن أنس قال: «رأيت في يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الميسم وهو يسم إبل الصدقة والفيء وغير ذلك، حتى يعرف كل مال، فيؤدى في حقه، ولا يتجاوز به إلى غيره».
والوسم جائز في كل الأعضاء غير الوجه لأنه مقر الحسن والجمال، ولأن به يقوّم الحيوان،
ولما روى مسلم عن جابر قال: نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه».
ومن حالات التغيير الممنوعة حديث ابن مسعود المتقدم في الواشمة
وهو نص أيضا في تحريم وصل الشعر.
٧- إطاعة الشيطان خسارة: لقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يطيعه ويدع أمر الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أي نقص نفسه وغبنها بأن أعطى الشيطان حق الله تعالى فيه، وتركه من أجله.
٨- وعود الشيطان وأمنياته كاذبة وخديعة: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً المعنى يعدهم أباطيله وترّهاته من المال والجاه والرياسة، وأن لا بعث ولا عقاب، ويوهمهم الفقر حتى لا ينفقوا في الخير، وكل ذلك خديعة وتغرير. قال ابن عرفة: الغرور: ما رأيت له ظاهرا تحبّه، وفيه باطن مكروه أو مجهول. والشيطان غرور لأنه يحمل على محابّ النفس، ووراء ذلك ما يسوء.
٩- عقاب الطائعين للشيطان جهنم: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً ملجأ.
١٠- ثواب المؤمنين العاملين الصالحات والخيرات: جنات الخلد التي تجري من تحتها الأنهار، وذلك يرمز لكل ألوان النعيم المقيم، وأصناف المشتهيات، وطمأنينة النفس، وراحة البال، والسعادة الأبدية. ومن أصدق من الله قيلا أي لا أحد أصدق قولا ووعدا من الله تعالى.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٦]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)
الإعراب:
وَهُوَ مُحْسِنٌ مبتدأ وخبر في موضع الحال.
البلاغة:
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ استعارة، استعار الوجه للقصد والجهة.
ويوجد جناس مغاير في أَحْسَنُ.. مُحْسِنٌ.
المفردات اللغوية:
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ ليس الأمر منوطا بالأماني، بل بالعمل الصالح. والأماني جمع أمنية:
وهي تمني الشيء المحبوب مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ إما في الآخرة أو في الدنيا بالبلاء والمحن، كما
النكتة التي تكون في ظهر النواة، ويضرب بها المثل في القلة أَسْلَمَ وَجْهَهُ أي انقاد وأخلص عمله وَهُوَ مُحْسِنٌ عامل للحسنات تارك للسيئات وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ديانته الموافقة لملة الإسلام.
حَنِيفاً مائلا عن الزيغ والضلال، أي مائلا عن الأديان كلها إلى الدين الحق القيم.
خَلِيلًا صفيا خالص المحبة له وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا مُحِيطاً أي عالما بالأشياء مع القدرة عليها، ولم يزل متصفا بذلك.
سبب النزول: نزول الآية (١٢٣) :
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قالت اليهود والنصارى: لا يدخل الجنة غيرنا، وقالت قريش: إنا لا نبعث، فأنزل الله:
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ.
وأخرج ابن جرير الطبري عن مسروق قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، فأنزل الله:
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ.
وأخرج الطبري أيضا عن مسروق قال: لما نزلت: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ قال أهل الكتاب: وأنتم سواء، فنزلت هذه الآية:
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى في الآيات السابقة دور الشيطان في إلقاء الأماني الكاذبة، وكان لهذا تأثير في نفوس أهل الكتاب وبعض ضعاف الإيمان من المسلمين، ناسب بيان أثر الأماني، وفضل العمل وجزائه.
التفسير والبيان:
ليس الأمر منوطا بالأماني منكم أيها المسلمون، ولا أنتم أهل الكتاب، ولكن الجزاء منوط بالعمل، فليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني، بل العبرة بطاعة الله عز وجل واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام، أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا: «ليس الإيمان التمني، لكن ما وقر في القلب، وصدّقه العمل» وقال الحسن: «إن قوما غرّتهم المغفرة، فخرجوا من الدنيا وهم مملوؤون بالذنوب، ولو صدقوا لأحسنوا العمل».
فمن يعمل سوءا يلق جزاءه لأن الجزاء أثر للعمل، مثل قوله تعالى:
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة ٩٩/ ٨]، روى الإمام أحمد عن أبي بكر بن زهير قال: أخبرت أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، كيف الفلاح بعد هذه الآية: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فكل سوء عملنا جزينا به
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض، ألست تنصب- تتعب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء- الشدة؟» قال: بلى، قال: «فهو مما تجزون به».
هذا الحديث وأمثاله يدل على أن الأمراض والبلايا والمصائب في الدنيا، وهمومها ومخاوفها، يكفر الله بها الخطايا.
ومن يعمل السوء لا يجد له غير الله وليا يتولى أمره ويدفع الجزاء عنه، ولا نصيرا ينصره وينقذه مما يحلّ به، وإنما المدار على الإيمان والأعمال، لا على الأماني والأحلام.
وفي مقابل ذلك ومن أجل المقارنة والعدل: من يعمل صالحا يصلح به نفسه، سواء كان العامل ذكرا أو أنثى، وهو صادق الإيمان، فأولئك العاملون المؤمنون بالله واليوم الآخر، يدخلون الجنة، ولا يظلمون شيئا من أجور الأعمال، ولو كان العمل تافها قليلا جدا كالنقير.
فسبيل الجنة والسعادة هو العمل الصالح مع الإيمان، وطريق النار هو العمل السيء، ولا ينفع الافتخار بالانتساب إلى ملة أو فئة أو نبي، من غير اتباع لشرع الله ودينه.
ثم أردف الله تعالى بذكر درجات الكمال فقال: لا أحد أحسن دينا ممن أسلم قلبه مخلصا لله وحده، ولم يتجه إلى غيره في دعاء ولا رجاء، وجعل نفسه سالمة لله لا تعرف لها ربا ولا معبودا سواه، وقد عبر عن توجه القلب والقصد بإسلام الوجه لأن الوجه مرآة لما في القلب، وهو مع هذا الإخلاص القلبي والإيمان الذاتي الكامل، محسن للعمل أي عامل للحسنات، تارك للسيئات، متصف بفضائل الأخلاق والخصال، ومتبع ملة إبراهيم في حنيفيته بالميل عن الشرك
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ، إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ، وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف ٤٣/ ٢٦- ٢٧] وقال: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [البقرة ٢/ ١٣٥].
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا جملة اعتراضية مجاز، مفادها أن الله اصطفى إبراهيم واختصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، ومن كانت له هذه المنزلة من الزلفى عند الله بأن اتخذه خليلا، كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته.
أي أن الله امتن على إبراهيم بسلامة الفطرة والاعتقاد، وقوة العقل وصفاء الروح، وكمال المعرفة بالله، وشدة العزيمة وعلو الهمة في محاربة الوثنية والشرك، حتى صار من أولي العزم، فهو خليل الرحمن، عدو الشيطان.
ثم ذكر الله تعالى ما هو العلة والدافع على الطاعة فقال:
جميع ما في السموات والأرض ملك الله وعبيده وخلقه وهو المتصرف في جميع ذلك، لا رادّ لما قضى، ولا معقّب لما حكم، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته، وعلمه محيط مع القدرة كل شيء، ونافذ في جميع ذلك، لا تخفى عليه خافية من عباده، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، ومن كان عالما بأعمال عباده فهو مجازيهم على خيرها وشرها، فعليهم أن يختاروا لأنفسهم ما هو أصلح لها.
فهذه الآية متصلة بذكر العمال الصالحين والطالحين، والمعنى: أن له ملك السموات والأرض، فطاعته واجبة عليهم، فهو تعالى مستحق التوجه إليه في كل شيء، حتى من إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء، لما يتصف به من القدرة الشاملة على الكون وإنجاز ما وعد وأوعد.
دلت الآيات على ما يأتي من التوجيهات والأحكام:
١- لا تعلق لأحد بالآمال والتمنيات، وإنما الجزاء منوط بالعمل. فمن عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد. وأهل الصلاح وليهم وناصرهم هو الله، وأهل الضلال والفساد وليهم الشيطان، والشيطان أعجز من أن يدفع عن نفسه عذاب الله، فكيف يدفعه عمن غررهم في الحياة الدنيا؟! وليس للمشركين ولي يتولى أمورهم ولا ناصر ينصرهم، أي أن الآية إن حملت على الكافر فليس له غدا ولي ولا نصير، وإن حملت على المؤمن فليس له ولي ولا نصير من دون الله.
٢- لا تقبل الأعمال الحسنة من غير إيمان: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ.. الآية، فالإيمان شرط أساسي إذ هو قاعدة البناء الديني لأن المشركين قاموا بخدمة الكعبة، وإطعام الحجيج وقرى الضيف، وأهل الكتاب لهم سبق، وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ولكن لم ينفع الجميع عملهم الصالح من غير إيمان، عملا بمقتضى هذه الآية.
٣- تفضيل دين الإسلام على سائر الأديان لقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ.. الآية. ومعنى أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أخلص دينه لله، وخضع له، وتوجه إليه بالعبادة. ورأى بعضهم أن معنى وَهُوَ مُحْسِنٌ أي موحد، فلا يدخل فيه أهل الكتاب لأنهم تركوا الإيمان بمحمد عليه السلام. والملة: الدين. والحنيف: المسلم.
٤- إبراهيم خليل الله: قال الزمخشري «١» : مجاز عن اصطفائه واختصاصه
وعلى كل حال، ليس في اتخاذ الله إبراهيم خليلا شيء من المقاربة في حقيقة الذات والصفات. وسبب اتخاذه خليلا إما لإطعامه الطعام أو لأنه التزم أن يكون خادما للرب حتى يموت،
وعن القاسم بن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وإنه لم يكن نبي إلا له خليل، ألا وإن خليلي أبو بكر» «١».
٥- الله مالك السموات والأرض وخالقهما. ومعنى الآية وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هنا أنه اتخذ إبراهيم خليلا بحسن طاعته لا لحاجته إلى مخالّته، ولا للتكثير به والاعتضاد، وكيف وله ما في السموات وما في الأرض، وإنما أكرمه لامتثاله لأمره.
٦- سعة علم الله: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أي أحاط علمه بكل الأشياء.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٢٧ الى ١٣٠]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)
الإعراب:
ما يُتْلى في موضع رفع لأنه معطوف على اسم الله تعالى، أي الله يفتيكم والمتلو.
ولا يجوز أن يكون معطوفا على ضمير فِيهِنَّ لأنه لا يجوز العطف على الضمير المجرور، وأجازه الكوفيون. والأولى أن تكون «ما» اسم موصول مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: والذي يتلى عليكم في القرآن كذلك، أي يفتيكم فيهن أيضا. فِي الْكِتابِ صلة يتلى، وكذلك: فِي
. اللَّاتِي في موضع جر صفة ليتامى ولا تُؤْتُونَهُنَّ إلى قوله: أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ: في صلة اللاتي. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ: مجرور لأنه معطوف على يَتامَى النِّساءِ، وكذلك قوله: وَأَنْ تَقُومُوا في موضع جر عطفا على الْمُسْتَضْعَفِينَ.
والتقدير: يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين، وأن تقوموا لليتامى بالقسط وَإِنِ امْرَأَةٌ مرفوع بفعل يفسره: خافت أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً: صلحا: منصوب على المصدر على تقدير: فيصلح الأمر صلحا.
البلاغة:
يوجد جناس مغاير في يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً.. وَالصُّلْحُ وفي تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ.
فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ تشبيه مرسل مجمل.
المفردات اللغوية:
وَيَسْتَفْتُونَكَ يطلبون منك الفتيا فِي النِّساءِ في شأن النساء وميراثهن يُفْتِيكُمْ يبين لكم ما أشكل عليكم ما كُتِبَ لَهُنَّ أي فرض لهن من ميراث وصداق وَأَنْ تَقُومُوا أي تعنوا عناية خاصة بهن بِالْقِسْطِ بالعدل في الميراث والمهر فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً فيجازيكم به خافَتْ مِنْ بَعْلِها توقعت من زوجها ما تكره نُشُوزاً ترفعا وتكبرا عليها بترك مضاجعتها والتقصير في نفقتها لبغضها وطموح عينه إلى أجمل منها أَوْ إِعْراضاً عنها بوجهه أي ميلا وانحرافا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً في القسم والنفقة، بأن تترك له شيئا، طلبا لبقاء الصحبة، فإن رضيت بذلك وإلا فعلى الزوج أن يوفيها حقها أو يفارقها وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة والنشوز والإعراض وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ شدة البخل أي إن الشح حاضر لها لا يغيب عنها، أي جبلت مطبوعة عليه، فكأنها حاضرته لا تغيب عنه، المعنى أن المرأة لا تكاد تسمح بنصيبها من زوجها، والرجل لا يكاد يسمح لها بنفسه إذا أحب غيرها.
وَإِنْ تُحْسِنُوا عشرة النساء وَتَتَّقُوا الجور عليهن فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم به أَنْ تَعْدِلُوا تسووا بَيْنَ النِّساءِ في المحبة ولو حرصتم على ذلك فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ إلى التي تحبونها في القسم والنفقة فَتَذَرُوها أي تتركوا الممال عنها كَالْمُعَلَّقَةِ التي ليست مطلقة ولا هي ذات زوج أو بعل. وَإِنْ تُصْلِحُوا بالعدل بالقسم وَتَتَّقُوا الجور فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لما في قلبكم من الميل رَحِيماً بكم في ذلك.
مِنْ سَعَتِهِ أي فضله وغناه بأن يرزقها زوجا غيره ويرزقه غيرها وَكانَ اللَّهُ واسِعاً لخلقه في الفضل حَكِيماً فيما دبره لهم.
نزول الآية (١٢٧) :
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ: روى البخاري عن عائشة في هذه الآية قالت: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد شركته في مالها حتى في العذق (النخلة بحملها) فيرغب عن أن ينكحها، ويكره أن يزوجها رجلا، فيشركه في مالها، فيعضلها (يمنعها عن الزواج) فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي: كان لجابر بنت عم دميمة، ولها مال ورثته عن أبيها، وكان جابر يرغب عن نكاحها، ولا ينكحها خشية أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت.
سبب نزول الآية (١٢٨) :
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ:
روى الترمذي عن ابن عباس أنها نزلت بسبب سودة بنت زمعة، قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت:
لا تطلّقني وأمسكني، واجعل يومي منك لعائشة، ففعل، فنزلت: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً فما اصطلحا عليه فهو جائز. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وروى أبو داود والحاكم عن عائشة مثل ذلك.
وروى ابن عيينة وسعيد بن منصور عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رافع بن خديج كانت تحته خولة ابنة محمد بن مسلمة، فكره من أمرها إما كبرا وإما غيره، فأراد أن يطلقها، فقالت: لا تطلقني، واقسم لي ما شئت، فجرت السنة بذلك، ونزلت: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ. وله شاهد موصول أخرجه الحاكم من طريق ابن المسيب عن رافع بن خديج.
وروى البخاري والحاكم عن عائشة رضي الله عنها: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ
قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعلك من شأني في حلّ، فنزلت هذه الآية.
المناسبة:
اشتملت السورة على موضوعين عامين: كان أولهما في أحكام النساء واليتامى والقرابة والإرث والمصاهرة، ثم أبانت بدءا من قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا أسس الدين، وأحوال أهل الكتاب والمنافقين، والقتال. ثم عاد الكلام هنا إلى أحكام النساء واليتامى الضعفاء، وتوطيد دعائم الرابطة الزوجية بالإصلاح، وبالعدل بين الزوجات حال التعدد.
التفسير والبيان:
ويستفتونك يا محمد في شأن النساء وحقوقهن الشاملة للميراث وحقوق الزواج، أي المالية والزوجية، كالعدل في المعاملة، والعشرة الطيبة وعلاج حالة النشوز. قل: الله يفتيكم فيهن ويبين لكم ما أشكل من أمورهن، وكذلك يوضح لكم أحكاما أخرى في المتلو عليكم في القرآن من أول السورة، كأحكام معاملة النساء اليتامى في المواريث، وإيتاء أموال الأيتام بقوله: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ [النساء ٤/ ٢] والتحرج من الزواج باليتيمات: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ.. [النساء ٤/ ٣].
فقد جرت عادتكم القبيحة ألا تعطوهن ما كتب (فرض) لهن من الإرث إذا كان في أيديكم، لولايتكم عليهن، وترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن والتمتع بأموالهن. ويحتمل: وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن، روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا جاءه ولي اليتيمة نظر، فإن كانت جميلة غنية قال: زوّجها غيرك، والتمس لها من هو خير منك، وإن كانت دميمة ولا مال لها قال: تزوجها، فأنت أحق بها. هذا مع العلم أنه كان الرجل منهم يضم اليتيمة
والمستضعفين: معطوف على يتامى النساء، أي وما يتلى عليكم في شأن المستضعفين من الأولاد الذين لا تعطونهم حقهم في الميراث المنصوص عليه في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ وقد كانوا في الجاهلية إنما يورّثون الرجال القوامين بالأمور دون الأطفال والنساء.
ويصح في حال العطف على يتامى النساء أن يكون العامل هو يفتيكم بمعنى يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط.
والخلاصة: إن الله يذكّر بحق الضعيفين: المرأة والطفل اليتيم، سواء بالآيات السابقة ليتدبروا معناها ويعملوا بما فيها، لتغافلهم عنها، أو بالإفتاء المجدد فيهما عدا المذكور سابقا.
وَأَنْ تَقُومُوا أي والله يفتيكم أيضا بأن تعاملوا اليتامى بالعدل، وأن تعنوا بشؤونهم عناية خاصة. ويجوز كما ذكر الزمخشري أن يكون قوله وَأَنْ تَقُومُوا منصوبا بفعل مقدر وهو: ويأمركم أن تقوموا، وهو خطاب للأمة في أن ينظروا لهم، ويستوفوا لهم حقوقهم، ولا يدعوا أحدا يظلمهم أو يهضم حقوقهم.
وما تفعلوا من خير قليل أو كثير لليتامى والضعفاء والنساء، فإن الله به عليم، فيجازيكم عليه أحسن الجزاء. وهذا تهييج على فعل الخيرات وامتثال الأوامر، وأن الله عز وجل عالم بجميع ذلك، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه.
ثم أخبر الله تعالى عن طرق علاج الخلاف بين الزوجين، وذكر أحوالا ثلاثة: حال نفور الرجل عن المرأة، وحال اتفاقه معها، وحال فراقه لها.
ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غيرها من حقوقها عليه، وله أن يقبل ذلك منها، فلا حرج عليها في بذلها شيئا من مالها له، ولا عليه في قبوله منها. والخوف هنا مستعمل في حقيقته بشرط ظهور أمارات تدل عليه.
ومعنى الآية في هذه الحالة: إن توقعت المرأة من زوجها نشوزا وترفعا عليها بأمارات وقرائن، كأن منعها نفسه ونفقته ولم يعاملها بالود والرحمة، أو آذاها بسبّ أو ضرب ونحو ذلك، أو أعرض عنها بأن أحجم عن محادثتها ومؤانستها لسوء في الطبع والخلق، أو لطعن في السن، أو دمامة أو ملال لها أو طموح إلى غيرها، ففي هذه الأحوال لا بأس من اللجوء إلى الإصلاح بينهما، بالتنازل عن بعض حقوقها أو كل حقوقها، لتبقى في عصمته، أو تمنحه شيئا من مالها ليطلقها وهو عوض الخلع: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. ولكن ليذكر الزوجان دائما ما أقامه الله بينهما من عاطفة الود والرحمة كما قال: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم ٣٠/ ٢١].
وقد ذكرت في أسباب النزول أكثر من حالة لبعض النسوة في صدر الإسلام، تنازلت الزوجة عن حقها في القسم لضرتها، أو اكتفت بالمبيت كل شهرين، على أن تبقى لديه ولا يطلقها.
والحالة الثانية:
وهي حالة الاتفاق بين الزوجين المعبر عنه بالصلح: أي أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج، وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية. ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق، قال تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من الفراق
وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ.
أي لقد استطرد القرآن إلى بيان طبيعة في النفوس: وهي الحرص على البخل، فالنساء حريصات على حقوقهن في القسم والنفقة وحسن العشرة، وعلى الزوج أيضا، وعلى حقها المالي في المهر ونفقة العدة، وكذا الرجال حريصون على أموالهم أيضا وعلى كراهة تهديم الأسرة، فيكون التسامح والتصالح خيرا للطرفين، ما دام بهذا الطبع، والصلح عند المشاحة خير من الفراق.
ومعنى الصلح: أن يتصالحا على أن تطيب له نفسا عن القسمة أو عن بعضها، كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعرفت مكان عائشة من قلبه، فوهبت لها يومها، كما روي أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها، وكان لها منه ولد، فقالت: لا تطلقني، ودعني أقوم على ولدي، وتقسم لي في كل شهرين، فقال: إن كان هذا يصلح، فهو أحب إلي، فأقرها «٢».
ومن حالات الصلح أن تهب له بعض المهر أو كله، أو النفقة، فإن لم تفعل، فليس له إلا أن يمسكها بإحسان أو يسرحها.
وإن تحسنوا البقاء مع نسائكم وإن كرهتموهن، وتصبروا على ما تكرهون،
روى أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق».
الكشاف: ١/ ٤٢٧
كان عمران بن حطّان الخارجي من أدمّ بني آدم، وامرأته من أجملهم، فأجالت في وجهه نظرها يوما، ثم تابعت: الحمد لله، فقال: ما لك؟ قالت:
حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة، قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله الجنة عباده الشاكرين والصابرين «١».
ثم بين الله تعالى أن تمام العدل وكماله وغايته في معاملة النساء محال، فخفف الله التكليف بالعدل التام، وطالب الرجال بقدر الاستطاعة، فقال:
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ لأن العدل في المعاملة يشمل أمورا مادية وغير مادية، أما المادية فهي كالمبيت والنفقة والكسوة، وأما غير المادية فهي كالحب والميل وغير ذلك مما يرجع إلى الشعور النفسي، وأحاسيس النفس يصعب كبحها.
فكلف الله ما يستطيعه الرجال وهو العدل المادي، ورفع عنهم الحرج فيما لا يستطيعونه من الحب والاشتهاء وأحوال الجبلّة البشرية، كما هو الشأن في سائر التكاليف، فإن الحب والبغض ونحوهما لسنا مكلفين به.
ولكن الله جعل التكليف بالمستطاع في معاملة النساء مشروطا بأن يبذلوا ما فيه ولوسعهم وطاقتهم لأن تكليف ما لا يستطاع داخل في حد الظلم، وما ربك بظلام للعبيد.
يعني المحبة لأن عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه.
فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور، فتمنعوها قسمتها من غير رضا منها، يعني أن اجتناب كل الميل مما هو في حد اليسر والسعة، فلا تفرطوا فيه، وإن وقع منكم التفريط في العدل كله، وفيه نوع من التوبيخ، فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية.
فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي فتبقى هذه الأخرى أو المرأة المرغوب عنها كالمعلّقة، لا هي مطلقة ولا هي متزوجة، بل عليكم إرضاؤها وحسن عشرتها وحفظ حقوقها.
روى الإمام أحمد وأهل السنن وأبو داود الطيالسي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة، وأحد شقّيه ساقط».
وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا.. أي وإن أصلحتم أموركم وقسمتم بالعدل، وتبتم عن الميل والجور، واتقيتم الله في المستقبل في جميع الأحوال، غفر الله لكم ما كان من ميل في الماضي إلى بعض النساء دون بعض، وكان شأن الله دائما المغفرة للمقصرين والرحمة بعباده التائبين الراجعين إليه.
والحالة الثالثة:
وهي حالة الفراق: أخبر الله تعالى أنه إذا تفرّق الزّوجان لاستعصاء الحلول والعلاج والتوفيق والمصالحة بينهما، فإن الله يغني الرّجل عنها، ويغنيها عنه، بأن يعوّضه الله من هو خير له منها، ويعوّضها عنه بمن هو خير لها منه، وكان الله واسع الفضل، عظيم المنّ، حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.
الاستفتاء في الدّين أمر مطلوب شرعا لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل ١٦/ ٤٣]، والآية (١٢٧) نزلت للجواب عن الاستفتاء فيما يجب للنساء وما يجب عليهنّ مطلقا، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن أحكام كثيرة تتعلّق بالنّساء، سواء في الميراث وغير ذلك.
والمراد بقوله: ما كُتِبَ لَهُنَّ أي ما فرض لهنّ من الميراث أو الصّداق أو النّكاح وما يعم ذلك كله وغيره.
وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ: معناه أنهم كانوا يسألون عن أحوال كثيرة، فما كان منها غير مبيّن الحكم قبل نزول هذه الآية، ذكر أن الله يفتيهم فيه. وما كان منها مبيّن الحكم في الآيات المتقدّمة مثل: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى (الآية ٣) أحالهم فيه إلى تلك الآيات، وذكر أنها تفتيهم فيما عنه يسألون. وقد جعل دلالة الكتاب على الأحكام إفتاء من الكتاب، إذ يصح القول: إن كتاب الله بيّن كذا، وإن كتاب الله أفتى بكذا.
واحتجّ بعض الحنفية بقوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ على أنه يجوز لغير الأب والجدّ تزويج الصغيرة لأن الله ذكر الرغبة في نكاحها، فاقتضى جوازه.
وقال الشافعية: إن الله ذكر في هذه الآية ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذّم، فلا دلالة فيها على ذلك، على أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحهنّ فعله في حال الصّغر.
والخلاصة: إن الآية ترغّب في الإحسان ليتامى النساء بالميراث والصداق والنكاح وغير ذلك، كما ترغب وتأمر بالإحسان إلى الولدان الضعفاء الصغار،
ومن الأحكام التي أخبر الله تعالى أنه يفتيهم بها في النساء: علاج حالة النشوز أو الإعراض من الرجل عن زوجته، والإعراض: الانصراف عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه، مثل أن يقلل محادثتها أو مؤانستها لكبر سنّ أو دمامة أو عيب خلقي أو ملال. والإعراض أخفّ من النّشوز.
والعلاج بالصّلح بأن تترك له المرأة يومها، كما فعلت سودة رضي الله عنها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو تضع عنه بعض ما يجب له من نفقة أو كسوة أو تهب له شيئا من مهرها، أو تعطيه مالا لتستعطفه وتستديم المقام معه.
ولا يكون أخذ الرجل شيئا من مال الزوجة بالصلح أكلا بالباطل أو أخذا بالإكراه إذا كان هناك عذر حقيقي مما تقدّم، دون اتّخاذ الأعذار ذريعة أو حيلة لأخذ المال، فإن لم يكن هناك مسوغ مقبول شرعا، ولكنه تظاهر بالنشوز والإعراض، كان أخذ المال حراما.
والسبب في أنه تعالى أجاز للرجل أخذ شيء من مال المرأة حال النشوز الحاصل منه، وجعل لنشوز المرأة عقوبة من زوجها يعظها ويهجرها في المضجع ويضربها، فقال: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ [النساء ٤/ ٣٤] : السبب أن الله تعالى جعل للرجال درجة القوامة على النساء، فليس للمرؤوس معاقبة رئيسه، وأن الله فضّل الرجال على النساء في العقل والدين وتحمل التكاليف الشاقة، والتفضيل يقتضي ألا يكون نشوز الرجل إلا لسبب قاهر، أما المرأة لغلبة عواطفها عليها ونقصان عقلها ودينها
ودلّ قوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ على أن أنواع الصّلح كلها مباحة في هذه المسألة بإعطاء أحدهما للآخر مالا، أو بتنازل المرأة عن حقّها في المبيت مطلقا أو لمدة معينة أو لفترة طويلة. بل إن الآية تدلّ على جواز الصّلح في غير أحوال النزاع بين الزوجين إلا ما خصّه الدّليل، وهو يدلّ على جواز الصّلح عن إنكار والصّلح من المجهول، كما قال الجصاص «١» لأن وقوع الجملة اعتراضا وجريانها مجرى الأمثال، مما يرجّح كون اللفظ عاما. وقال القرطبي أيضا:
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لفظ عام مطلق يقتضي أن الصّلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق. ويدخل في هذا المعنى الصّلح بين الرّجل وامرأته في مال أو وطء أو غير ذلك «٢».
وأخبر الله تعالى بقوله: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ بأن الشّحّ في كلّ أحد، وأن الإنسان لا بدّ أن يشحّ بحكم خلقته وجبلّته، حتى يحمل صاحبه على بعض ما يكره. والشّح إذا أدّى إلى منع الحقوق الشرعية أو التي تقتضيها المروءة فهو البخل وهي رذيلة.
ودلّ قوله تعالى: وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا وهو خطاب للأزواج على أن للزوج أن يشحّ ولا يحسن، أي إن تحسنوا وتتّقوا في عشرة النساء بإقامتكم عليهنّ مع كراهيتكم لصحبتهنّ واتّقاء ظلمهنّ فهو أفضل لكم.
أما العدل المرفوع من دائرة التكاليف فهو الذي لا يخضع لسلطة الإنسان
(٢) تفسير القرطبي: ٥/ ٤٠٦
وأما العدل المأمور به الذي جعل شرطا في جواز تعدد الزوجات أو الجمع بينهن فهو التسوية بينهن فيما يقدر عليه المكلف، ويملكه، مثل التسوية بينهن في القسم والنفقة والكسوة والسكنى وما يتبع ذلك من كل ما يملك ويقدر عليه.
ويترتب عليه أنه لا تجب التسوية بين النساء في المحبة، فإنها لا تملك، وكانت عائشة رضي الله عنها كما تقدّم أحبّ نسائه إليه صلّى الله عليه وسلّم. وأخذ منه أنه لا تجب التسوية بينهن في الوطء لأنه موقوف على المحبة والميل، وهي بيد مقلّب القلوب.
ولكن لا يصح اتّخاذ الميل سببا للظلم، لقوله تعالى: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ قال مجاهد: لا تتعمدوا الإساءة، بل الزموا التسوية في القسم والنفقة، لأن هذا مما يستطاع.
وينبغي صون كرامة المرأة واحترام شخصيتها وعدم إلجائها إلى الانحراف، لقوله تعالى: فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي لا هي مطلّقة ولا ذات زوج. وهذا تشبيه بالشيء المعلّق من شيء لأنه لا على الأرض استقرّ، ولا على ما علّق عليه انحمل.
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ جواز الفرقة إذا لم يكن منها بدّ، وطيّب الله خاطر كلّ من الزوجين، ووعد كلّ واحد منهما بأنه سيغنيه عن الآخر، إذا كان القصد من الفرقة هو التّخوّف من ترك حقوق الله التي أوجبها، فليحسنا الظنّ بالله، فقد يقيض للرجل امرأة تقرّ بها عينه، وللمرأة من يوسّع عليها.
وروي عن جعفر بن محمد أن رجلا شكا إليه الفقر، فأمره بالنّكاح، فذهب الرجل وتزوّج، ثم جاء إليه وشكا إليه الفقر، فأمره بالطّلاق فسئل عن هذه الآية فقال: أمرته بالنّكاح لعله من أهل هذه الآية: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور ٢٤/ ٣٢]، فلما لم يكن من أهل تلك الآية أمرته بالطلاق فقلت: فلعله من أهل هذه الآية: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ «١».
ثم ختم الله الآية بأنه كان وما يزال غنيّا كافيا للخلق، حكيما متقنا في أفعاله وأحكامه. وهذا نصّ صريح على أن الله هو مصدر الرزق والغنى والسعة، وأنه متكفّل بأرزاق العباد، وأن حكمته سامية عالية في كلّ شيء خلقا وإبداعا، وتشريعا وحكما، وتصرّفا وجزاء.
لله حقيقة الملك في الكون وكمال القدرة والمشيئة وثواب الدّنيا والآخرة للمجاهد
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣١ الى ١٣٤]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)
مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وإياكم: ضمير منفصل منصوب عطفا على الَّذِينَ وهو مفعول وصينا، والتقدير: ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب وإياكم بأن اتّقوا الله. وحذف حرف الجر من أَنِ. أو تكون أَنِ المفسّرة لأن التوصية في معنى القول.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي أمرنا اليهود والنصارى في كتبهم، والكتاب: اسم جنس يتناول الكتب السماوية. وَإِيَّاكُمْ يا أهل القرآن. اتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه بأن تطيعوه. وَإِنْ تَكْفُرُوا وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا بما وصيتم به فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وعبيدا فلا يضرّه كفركم. وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا عن خلقه وعن عبادتهم.
حَمِيداً محمودا في صنعه بهم، سواء حمده الناس أو لم يحمدوه. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كرر الجملة تأكيدا لتقرير موجب التقوى وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا قيّما حافظا شهيدا بأن ما فيهما له.
المناسبة:
لما أمر الله تعالى بالعدل والإحسان إلى اليتامى والضعفاء، أوضح أنه ما أمر بهذه الأفعال لحاجته إلى أعمال العباد لأن كلّ ما في السموات والأرض ملكه،
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما، وأن جميع ما فيهما لله ملكا وخلقا وإيجادا وتصريفا وعبيدا، له الحكم المطلق.
ولقد أمرنا من قبلكم من اليهود والنصارى وغيرهم بما أمرناكم، ووصيناهم بما وصيناكم به من تقوى الله عزّ وجلّ بعبادته وحده لا شريك له، وإقامة سننه وشريعته.
وإن تكفروا نعم الله وإحسانه، فإن الله مالك الملك لا يضرّه كفركم وعصيانكم، كما لا ينفعه شكركم وتقواكم، وقد أوصى بهما لرحمته، لا لحاجته.
وقوله: وَإِنْ تَكْفُرُوا عطف على اتَّقُوا لأن المعنى أمرناهم وأمرناكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله الملك، والمعنى- كما قال الزمخشري «١» -: إن لله الخلق كله، وهو خالقهم ومالكهم، والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها، فحقّه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصيّ، يتّقون عقابه، ويرجون ثوابه، ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من الأمم السالفة ووصيناكم أن اتّقوا الله، يعني أنها وصية قديمة ما زال يوصي الله بها عباده، لستم بها مخصوصين لأنهم بالتقوى يسعدون عنده، وبها ينالون النجاة في العاقبة، وقلنا لهم ولكم:
وإن تكفروا فإن لله في سمواته وأرضه من الملائكة والثقلين من يوحّده ويعبده ويتّقيه.
وكان الله بذاته غنيّا عن خلقه وعن كل شيء وعن عبادتهم جميعا، مستحقّا لأن يحمد بذاته وكمال صفاته لكثرة نعمه، وإن لم يحمده أحد منهم، قال الله
ثمّ كرر القول للتأكيد: ولله ما في السموات وما في الأرض خلقا وملكا يتصرّف فيهما كيف شاء إيجادا وإعداما، إحياء وإماتة، وكفى بالله وكيلا، أي قيّما وحافظا وكفيلا لأمور العباد في أرزاقهم وسائر شؤونهم.
قال الزمخشري: تكرير قوله: ما في السموات وما في الأرض: تقرير لما هو موجب تقواه، ليتّقوه فيطيعوه ولا يعصوه لأن الخشية والتّقوى أصل الخير كله «١».
ثم هدّد تهديدا عامّا صريحا فقال:
إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين، أي إن يرد إفناءكم وإيجاد قوم آخرين بدلا عنكم، فهو قادر على ذلك لأن كل شيء في السموات والأرض تحت قبضته وخاضع لسلطانه، وكان الله على ذلك من الإعدام والإيجاد بليغ القدرة، لا يمتنع عليه شيء أراده.
وهذا غضب على المشركين الذين كانوا يؤذون النّبي صلّى الله عليه وسلّم ويقاومون دعوته، وتخويف وبيان لاقتداره على الإذهاب والتّبديل إذا عصيتموه، كما قال: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد ٤٧/ ٣٨]، قال بعض السّلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره. وقال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم ١٤/ ١٩- ٢٠] أي وما هو عليه بممتنع.
ثم قال تعالى:
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا | أي من كان بسعيه وعمله |
وهي نظير قوله تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ. أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة ٢/ ٢٠٠- ٢٠٢]، وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى ٤٢/ ٢٠]، وقال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ- إلى قوله- انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [الإسراء ١٧/ ١٨- ٢١].
ثم ختم الله الآية بقوله: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً أي كان الله وما يزال سميعا لأقوال عباده، بصيرا بكل قصد وعمل، فعليهم أن يراقبوه في الأقوال والأفعال.
فقه الحياة أو الأحكام:
المستفاد من هذه الآيات هو معرفة ثوابت الأخبار الدائمة في الوحي الإلهي منذ بدء الخليقة، وفي كل ملة ودين، ولكل العاملين والمجاهدين في سبيل الله، وهي ما يأتي:
١- لله ملك السموات والأرض ملكا وخلقا وتصرفا وسلطانا.
٣- الله تعالى لا تضره معصية العباد وكفرهم، ولا تنفعه طاعتهم وإيمانهم.
ولقد كرر قوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ في الآية (١٣١) مرتين، ثم في الآية (١٣٢) : إما تأكيدا، ليتنبه العباد وينظروا ما في ملكوته وملكه، وأنه غني عن العالمين، أو كرره لفوائد: فأخبر أولا أن الله تعالى يغني كلا من سعته (رزقه) لأن له ما في السموات وما في الأرض، فلا تنفد خزائنه. ثم قال ثانيا: أوصيناكم وأهل الكتاب بالتقوى، وإن تكفروا فإنه غني عنكم لأن له ما في السموات وما في الأرض. ثم أعلم ثالثا بحفظ خلقه وتدبيره إياهم بقوله: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا لأن له ما في السموات وما في الأرض.
وقال: ما فِي السَّماواتِ ولم يقل: من في السموات لأنه ذهب به مذهب الجنس، وفي السموات والأرض من يعقل ومن لا يعقل.
والخلاصة: كان التكرار لترسيخ الاعتقاد بأن كل شيء من سعة الله، وللإعلان عن غنى الله المطلق فلا يتضرر بكفر العباد، ولبيان قيام الله بحفظ خلقه وتدبيره إياهم.
٤- لله المشيئة المطلقة والقدرة الكاملة في إذهاب المشركين والمنافقين وكل العصاة، والإتيان بآخرين هم أطوع لله من الموجودين. وفي الآية: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورياسة، فلا يعدل في رعيته، أو كان عالما فلا يعمل بعلمه، ولا ينصح الناس، من أن يذهبه ويأتي بغيره.
والقدرة صفة أزلية لله تعالى، لا تتناهى مقدوراته، كما لا تتناهى
٥- من عمل بما افترضه الله عليه طلبا للآخرة، آتاه الله ذلك في الآخرة، ومن عمل طلبا للدنيا آتاه بما كتب له في الدنيا، وليس له في الآخرة من ثواب لأنه عمل لغير الله تعالى، كما قال سبحانه: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى ٤٢/ ٢٠]. وقال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ [هود ١١/ ١٦] وهذا على أن يكون المراد بالآية: المنافقون والكفار، وهو اختيار الطبري «١».
والحق كما ذكر ابن كثير: أن الآية عامة ومعناها ظاهر، فلا يقتصرن قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة «٢».
العدل في القضاء والشهادة بحق والإيمان بالله والرسول والكتب السماوية
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣٥ الى ١٣٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦)
(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ٥٦٥
شُهَداءَ منصوب إما لأنه صفة قوامين، أو حال من ضمير قوامين.
إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما: إنما قال: بهما، ولم يقل: به لأن أَوِ لأحد الشيئين لأربعة وجوه:
الأول- أنه محمول على المعنى، والمعنى: إن يكن الخصمان غنيين أو فقيرين فالله أولى بهما.
الثاني- أنه لما كان المعنى: فالله أولى بغنى الغني وفقر الفقير، رد الضمير إليهما.
الثالث- إنما رد الضمير إليهما لأنه لم يقصد غنيا بعينه ولا فقيرا بعينه.
الرابع- أن أَوِ بمعنى الواو، والواو لإيجاب الجمع بين الشيئين أو الأشياء، فلهذا قال: أولى بهما. وأو بمعنى الواو في مذهب الأخفش والكوفيين.
أَنْ تَعْدِلُوا أن: في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: لئلا تعدلوا، أو تكون في موضع نصب على تقدير: كراهة أن تعدلوا، كقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء ٤/ ١٧٦] أي لئلا تضلوا.
وَإِنْ تَلْوُوا بواوين: أصله تلويوا على وزن تفعلوا، من لويت، فنقلت الضمة من الياء إلى ما قبلها، فبقيت الياء ساكنة، وواو الجمع ساكنة، فحذفت الياء لالتقاء الساكنين، فبقي: تلووا ووزنه تفعوا.
البلاغة:
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ مبالغة أي مبالغين في إقامة العدل.
غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً طباق.
آمَنُوا آمِنُوا جناس ناقص لتغير الشكل.
ضَلَّ ضَلالًا جناس مغاير.
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ صيغة مبالغة أي قائمين بالعدل على أتم وجه شُهَداءَ لِلَّهِ أي شاهدين بالحق لوجه الله وحده وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ولو كانت الشهادة على أنفسكم، فاشهدوا بالحق عليها، بأن تقروا به ولا تكتموه فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما منكم وأعلم بمصالحهما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى في شهادتكم بأن تحابوا الغني لرضاه، أو الفقير رحمة به. أَنْ تَعْدِلُوا أن لا تعدلوا أي تميلوا عن الحق وَإِنْ تَلْوُوا تحرفوا ألسنتكم بالشهادة. وفي قراءة بحذف الواو الأولى تخفيفا أَوْ تُعْرِضُوا عن أدائها أي لا تؤدوها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم به.
سبب النزول: نزول الآية (١٣٥) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ:
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: لما نزلت هذه الآية في النبي صلّى الله عليه وسلّم اختصم إليه رجلان: غني وفقير، وكان صلّى الله عليه وسلّم مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغني، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير.
المناسبة:
هذا أمر عام بالقسط بين الناس، جاء عقب الأمر بالقسط في اليتامى والنساء في آية الاستفتاء لأن قوام المجتمع لا يكون إلا بالعدل، وحفظ النظام ودوام الملك لا يتم إلا به، فالعدل أساس الملك الدائم.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يقوموا بالعدل، فلا تأخذهم في الله لومة لائم، وأن يتعاونوا ويتعاضدوا فيه. يا أيها المؤمنون كونوا مبالغين بإقامة العدل، والعدل عام شامل الحكم بين الناس من الحكام، والعمل في أي مجال، وفي الأسرة، فيسوي الحاكم أو الوالي أو الموظف بين الناس في الأحكام والمجالس وقضاء
وكونوا شاهدين بالحق لله، بأن تتحروا الحق الذي يرضي الله، وتؤدوا الشهادة ابتغاء وجه الله، لتكون الشهادة صحيحة عادلة حقا من غير مراعاة أحد ولا محاباة.
اشهدوا بالحق المجرد ولو كانت الشهادة على أنفسكم، وعاد ضررها عليكم، بأن تقروا بالحق ولا تكتمونه، ومن أقر على نفسه بحق فقد شهد عليها لأن الشهادة إظهار الحق.
واشهدوا بالحق أيضا ولو كانت الشهادة على الوالدين والأقارب وعاد ضررها عليهم لأن بر الوالدين وصلة الأقارب لا تكون بالشهادة لغير الله، بل البر والصلة والطاعة في الحق والمعروف.
ولا تراعوا غنيا لغناه، أو ترحموا فقيرا لفقره، بل اتركوا الأمر لله، فالله يتولى أمرهما، وأولى بهما منكم، وأعلم بما فيه صلاحهما.
ولا تتبعوا الهوى لئلا تعدلوا عن الحق إلى الباطل، إذ في الهوى الزلل، أو فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على أي حال، كما قال الله تعالى: «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة ٥/ ٨].
وإن تلووا ألسنتكم أي تحرفوا الشهادة وتغيروها، والليّ: هو التحريف وتعمد الكذب، قال تعالى: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ [آل عمران ٣/ ٧٨] أو تعرضوا عن أداء الشهادة، والإعراض: هو كتمان الشهادة وتركها، قال تعالى: وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة ٢/ ٢٨٣]
وقال النبي
وإن تلووا أو تعرضوا فالله خبير بأعمالكم، وسيجازيكم بذلك. وعبر بالخبير ولم يعبر بالعليم لأن الخبرة العلم بدقائق الأمور وخفاياها، والشهادة يكثر فيها الغش والاحتيال واللف والدوران. فليحذر المخالفون.
ثم أمر الله بالإيمان به وبرسوله وبالكتب التي أنزلها، فإن كان هذا خطابا للمؤمنين فمعناه اثبتوا على ذلك وداوموا واستمروا عليه، كما يقول المؤمن في كل صلاة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة ١/ ٦] أي بصرنا فيه وزدنا هدى وثبتنا عليه، وكما قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ [الحديد ٥٧/ ٢٨]. وهذا رأي ابن كثير والقرطبي «١». وقوله:
وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ يعني القرآن، وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة.
وإن كان الخطاب لمؤمني أهل الكتاب فيراد به الأمر بالإيمان بالنبي محمد وبالقرآن، كالأنبياء السابقين والكتب المنزلة قبل القرآن. فقد روي أن هذا خطاب لمؤمني اليهود.
قال ابن عباس وكذا الكلبي: «إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام، وأسد وأسيد ابني كعب، وثعلبة بن قيس، وسلام ابن أخت عبد الله بن سلام، ويامين بن يامين، إذ أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير، ونكفر بما سوى ذلك من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل آمنوا بالله ورسوله وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله، فقالوا: لا نفعل، فنزلت، قال: فآمنوا كلهم» «٢».
(٢) الكشاف: ١/ ٤٣٠، أسباب النزول للواحدي: ص ١٠٦
ثم توعد الله من كفر بعد الأمر بالإيمان فذكر:
ومن يكفر بالله أو بملائكته أو ببعض كتبه أو رسله، أو اليوم الآخر، فقد ضل أي خرج عن طريق الهدى والحق، وبعد عن المطلوب كل البعد.
ومن فرّق بين كتب الله ورسله، فآمن ببعض وكفر ببعض كاليهود والنصارى فلا يعتد بإيمانه ولا يعترف به لأن الكفر بكتاب أو برسول كفر بالكل، ولو آمن إيمانا صحيحا بنبيه وكتابه كما كفر بمحمد المبشر به عندهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات أصول الحكم أو القضاء بين الناس على أساس من العدل، وأداء الشهادة بالحق، وأصول التدين والإيمان الصحيح بالتصديق بجميع أنبياء الله ورسله الكرام، دون تفرقة بين أحد من رسل الله.
أما الآية الأولى فهي آمرة أمرا صريحا قاطعا بشيئين:
الأول- المبالغة في إقامة العدل والتعاون فيه دون تهيب ولا انحراف ولا تردد في القضاء به إذ بالعدل قامت السموات والأرض. ولقد كان السلف الصالح مضرب المثل في التزام شريعة العدل في كل الأقضية حتى مع الأعداء، ولو كان المسلمون هم المقضي عليهم، ولهم في ذلك روائع الأمثال والقصص، منها:
أن عبد الله بن رواحة، لما بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم، فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ، ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه، وبغضي
الثاني- أداء الشهادة بالحق ولو على النفس أو الوالدين أو الأقربين لأن الحق يعلو ولا يعلى عليه، ولأنه أحق أن يتبع، ولأن الاستعلاء على مصالح النفس ومراعاة حظوظها هو أمارة الإيمان الصحيح بالله، ولأن بر الوالدين وصلة الأرحام والأقارب إنما يكونان ضمن دائرة الحق والمعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
فالشهادة ينبغي أن تكون خالصة لله أي لذات الله ولوجهه ولمرضاته وثوابه، فيقر الإنسان بالحق لأهله، فذلك قيامه بالشهادة على نفسه، وبهذا أدب الله عز وجل المؤمنين، كما قال ابن عباس: أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم.
ولا حاجة لمراعاة غني أو فقير، فالله وحده يتولى أمورهما، وهو أولى بكل واحد منهما.
واتباع الهوى مرد أي مهلك، قال الله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص ٣٨/ ٢٦] فاتباع الهوى يحمل على الشهادة بغير الحق، وعلى الجور في الحكم، قال الشعبي: أخذ الله عز وجل على الحكّام ثلاثة أشياء: ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا.
وإن التحريف في الشهادة والميل إلى أحد الخصمين، وعدم قول الحق فيها، والإعراض عن أداء الحق فيها، والظلم في القضاء، كل ذلك مدعاة إلى الجزاء والعقاب الشديد، كما وضح من التهديد المذكور في ختام الآية: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً أي فمجازيكم بذلك. ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة، وكل إنسان مأمور بأن يعدل.
وفي الحديث: «ليّ الواجد
واللي: المطل، والواجد: الغني المليء، وعرضه:
شكايته، وعقوبته: حبسه.
وذكر الفقهاء بعض الأمور المتعلقة بالشهادة للوالدين أو على الوالدين فقالوا: لا خلاف في أن شهادة الولد على الوالدين (الأب والأم) ماضية ومقبولة، ولا يمنع ذلك من برّهما، بل من برّهما أن يشهد عليهما، ويخلصهما من الباطل، وهو معنى قوله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم ٦٦/ ٦].
وأما الشهادة للوالدين أو شهادتهما للأولاد ففيها خلاف: قال الزهري: كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ، ويتأولون في ذلك قول الله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، شُهَداءَ لِلَّهِ فلم يكن أحد يتّهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم. ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتّهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والزوجة، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعي وابن حنبل وأبي حنيفة وأصحابه.
وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما، وبه قال إسحاق والمزني. وأجاز الشافعي شهادة الزوجين بعضهما لبعض لأنهما أجنبيان، وإنما بينهما عقد الزوجية، وهو معرّض للزوال، والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص، فبقي ما عدا المخصوص على الأصل. وأجيب بأن الزوجية توجب الحنان والمواصلة والألفة والمحبة، وتتواصل منافع الأملاك بين الزوجين، فالتهمة قوية ظاهرة.
وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن «رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّ شهادة الخائن والخائنة، وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت،
قال الخطابي: ذو الغمر: هو الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة، فترد شهادته عليه للتهمة. والقانع: هو المنقطع إلى القوم يخدمهم ويكون في حوائجهم مثل الأجير أو الوكيل ونحوه. ومعنى رد الشهادة: التهمة في جر المنفعة إلى نفسه، وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعا، فشهادته مردودة.
والحديث حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه لأنه يجرّ به النفع، لما جبل عليه من حبه والميل إليه. وممن ترد شهادته عند مالك: البدوي على القرويّ،
لما روى أبو داود والدارقطني عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية».
وأما الآية الثانية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا فالظاهر أنها نزلت في جميع المؤمنين، والمعنى: يا أيها الذين صدّقوا أقيموا على تصديقكم واثبتوا عليه، وصدقوا بالقرآن وبكل كتاب أنزل على النبيين.
وقيل: إنه خطاب للمنافقين والمعنى على هذا: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله.
وقيل: المراد المشركون والمعنى: يا أيها الذين آمنوا باللات والعزّى والطاغوت آمنوا بالله، أي صدّقوا بالله وبكتبه.
وقيل: نزلت فيمن آمن بمن تقدم محمدا صلّى الله عليه وسلّم من الأنبياء عليهم السلام.
صفات المنافقين وجزاؤهم ومواقفهم من المؤمنين
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣٧ الى ١٤١]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ بدل أو نعت المنافقين.
فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً: إنما قال: جميعا بالتذكير، ولم يقل جمعاء بالتأنيث لأن العزة في معنى العز. وجَمِيعاً حال منصوب، والتقدير: فإن العزة لله تعالى كائنة في حال اجتماعهما.
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بدل من الذي قبله.
أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ أن: مخففة من الثقيلة واسمها محذوف أي أنه، وهي مع الفعل في تأويل المصدر مفعول: نزل، على من قرأها بالفتح، وفي موضع نائب فاعل على قراءة من قرأ نزّل بضم النون والتشديد.
إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ أي أمثالهم، وقد يأتي مثل أيضا للاثنين والجماعة، كما يأتي للواحد، قال الله تعالى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا.
البلاغة:
آمَنُوا... كَفَرُوا طباق
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ أسلوب تهكمي، لاستعمال لفظ البشارة مكان الإنذار تهكما.
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ استفهام إنكاري، قصد منه التقريع والتوبيخ.
المفردات اللغوية:
بَشِّرِ يا محمد أي أنذر، واستعمل البشارة مكان الإنذار تهكما عَذاباً أَلِيماً مؤلما هو عذاب النار أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أولياء جمع ولي: وهو الناصر والمعين، واتخذوهم أولياء لما يتوهمون فيهم من القوة.
أَيَبْتَغُونَ يطلبون، أي لا يجدونها عندهم. فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً في الدنيا والآخرة ولا ينالها إلا أولياؤه وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ القرآن آياتِ اللَّهِ القرآن فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ أي مع الكافرين والمستهزئين. حَتَّى يَخُوضُوا يتحدثوا بحديث آخر.
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ينتظرون بكم الدوائر، أي ينتظرون وقوع أمر بكم. فَتْحٌ ظفر وغنيمة أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في الدين والجهاد، فأعطونا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نصيب من الظفر عليكم أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ نستول عليكم ونقدر على أخذكم وقتلكم، فأبقينا عليكم، والمراد: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم، فأبقينا عليكم. وَنَمْنَعْكُمْ وأ لم نمنعكم من المؤمنين أن يظفروا بكم بتخذيلهم ومراسلتكم بأخبارهم، فلنا عليكم المنّة.
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وبينهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بأن يدخلكم الجنة، ويدخلهم النار. وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا طريقا بالاستئصال في الدنيا، قال ابن كثير: وذلك بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة «١»، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [غافر ٤٠/ ٥١].
المناسبة:
لما أمر الله في الآية السابقة بالإيمان بالله والرسول والكتب المنزلة، ناسب أن يذكر صنفين خارجين عن الإيمان: الصنف الأول- وهم الذين آمنوا في الظاهر نفاقا ثم عادوا إلى الكفر وماتوا على ضلالهم، فلا توبة لهم بعد الموت ولا يغفر الله
التفسير والبيان:
إن هؤلاء الذين أعلنوا إيمانهم، ثم عادوا إلى الكفر، ثم آمنوا ثم كفروا، ثم تغالوا وتمادوا في الكفر، ثم ماتوا على كفرهم، فلا مغفرة لهم، ولن يهتدوا إلى الخير. أي إن الذين تكرر منهم الارتداد، وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه، وفقدوا الاستعداد لفهم حقيقة الإيمان، ولم يحاولوا الثبات على الهداية، لن يظفروا أبدا بمغفرة الله ورحمته وإحسانه ورضوانه، ولن يهتدوا بعد هذا التردد إلى الجنة وما فيها من خير وفلاح وسعادة، إذ لم تحدث منهم توبة في حال الحياة، وظلوا على كفرهم وطغيانهم ومعاداتهم للإسلام حتى الموت.
بشر أي أنذر يا محمد المنافقين من هؤلاء وغيرهم الذين كانوا يميلون مع الكفرة ويوالونهم بالعذاب المؤلم الذي لا يعرف قدره في نار جهنم.
ومن صفاتهم أنهم كانوا يتخذون الكافرين أولياء وأنصارا وأعوانا، ويتجاوزون ولاية المؤمنين ويتركونها، ظنا منهم أن الغلبة ستكون للكافرين، ولم يدروا أن العاقبة للمتقين لأن الله معهم.
ثم أنكر الله عليهم ووبخهم فذكر أنهم إن كانوا بذلك يطلبون العزة أي القوة والمنعة عند هؤلاء، فقد أخطئوا لأن العزة لله في الدنيا والآخرة، وهو يؤتيها من يشاء، والمراد أن العزة تكون في النهاية لأولياء الله الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم، وقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون ٦٣/ ٨] قال ابن عباس: يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ يريد بني قينقاع، فإن ابن أبيّ كان يواليهم.
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام ٦/ ٦٨] وسبب النهي أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم، فيستهزءون به، فنهي المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه.
وكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين، فنهوا أن يقعدوا معهم، كما نهوا عن مجالسة المشركين بمكة، وكان الذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار هم المنافقون، فقيل لهم: إنكم إذا مثل الأحبار في الكفر.
وفي هذا إيماء إلى أن الساكت عن المنكر شريك في الإثم.
ثم أوضح الله تعالى عاقبة الجميع، فقرر أن الله تعالى جامع المنافقين والكافرين جميعا في جهنم، يعني القاعدين والمقعود معهم، فإنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا، سيجتمعون في العقاب يوم القيامة لأن من رضي بالشيء حكمه حكم المرتكب له تماما.
ثم بيّن الله تعالى بعض أحوال المنافقين: وهي أنهم ينتظرون ما يحدث للمؤمنين من خير أو شر.
فإن كان للمؤمنين نصر من الله وفتح أو غنيمة، قالوا زاعمين: إنا كنا معكم مؤيدين ومظاهرين، فأسهموا لنا في الغنيمة، وشاركونا في القسمة المستحقة لنا.
وإن كان للكافرين نصيب من الظفر، كما حصل يوم أحد، قالوا لهم: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم، فأبقينا عليكم، وكنا عونا لكم على المؤمنين نمنعهم
والسبب في تسمية ظفر المسلمين فتحا وظفر الكافرين نصيبا: هو تعظيم شأن المسلمين، وتخسيس حظ الكافرين لأن ظفر المسلمين أمر عظيم تفتح لهم أبواب السماء حتى ينزل على أولياء الله، وأما ظفر الكافرين فما هو إلا حظ دني، ولمظة من الدنيا يصيبونها، كما قال الزمخشري «١».
ثم حسم الله الموقف بين المؤمنين والمنافقين فقال: فالله يحكم بينكم أيها المؤمنون الصادقون والمنافقون الكاذبون، يوم القيامة، فيجازي كلا على عمله، فيدخل المؤمنين الجنة، ويدخل المنافقين النار.
ثم قطع الله تعالى أي أمل يتعلق به الواهمون المنافقون فقال: ولن يمكّن الله الكافرين من استئصال شأفة المؤمنين بالكلية ما داموا متمسكين بشرع الله ودينه، وإن حصل لهم ظفر أحيانا فهو نصر موقوت لأن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم ٣٠/ ٤٧] إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد ٤٧/ ٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إذا آمن الكافر غفر له كفره السابق، فإذا رجع فكفر، لم يغفر له الكفر الأول، لما
ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قال أناس لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله، أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: أمّا من أحسن منكم في الإسلام، فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية
وفي رواية: «ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر»
والإساءة هنا بمعنى الكفر إذ لا يصح أن يراد هنا ارتكاب سيئة، فإنه يلزم عليه ألا يهدم الإسلام ما سبق قبله، إلا لمن يعصم من جميع السيئات إلى حين موته، وذلك باطل بالإجماع «١».
٢- في هذه الآية وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا رد على أهل القدر فإن الله تعالى بيّن أنه لا يهدي الكافرين طريق خير، ليعلم العبد أنه إنما ينال الهدى بالله تعالى، ويحرم الهدى بإرادة الله تعالى أيضا.
٣- تضمنت الآية أيضا: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا حكم المرتدين، وأن الردة تحبط الأعمال.
٤- العذاب الأليم مستحق للمنافقين لا محالة بإخبار الله تعالى، وخبر الله لا يتغير.
٥- قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ.. فيه دليل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق لأنه لا يتولى الكفار.
وتضمنت الآية المنع من موالاة الكفار، وأن يتخذوا أعوانا على الأعمال المتعلقة بالدين.
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم يقاتل معه، فقال له: «ارجع فإنا لا نستعين بمشرك». «٢»
٦- العزة أي الغلبة والقوة الحقيقية التامة لله عز وجل.
٧- يحرم الجلوس في مجالس الكفرة الذين يستهزئون بآيات الله (القرآن)
والحديث الذي رواه مسلم عن عمرو بن العاص بلفظ «أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله».
(٢)
رواه أحمد وأبو داود عن عائشة بلفظ: «إنا لا نستعين بمشرك».
ودل قوله تعالى: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ- أي غير الكفر- إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر. قال الله عز وجل: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ فكل من جلس في مجلس معصية، ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم، فينبغي أن يقوم عنهم، حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
وإذا ثبت تجنّب أصحاب المعاصي، فتجنب أهل البدع والأهواء أولى.
٨- موقف المنافقين موقف ضعيف يستدعي العجب والسخرية والطرد من الجانبين: فإنهم كانوا يطمعون في غنائم المسلمين متذرعين بأنهم مظاهرون لهم ومؤيدون جهادهم. وكذلك كانوا يطمعون في غنائم الكفار متذرعين بأنهم دافعوا عنهم وخذلوا عنهم المسلمين، حتى هابهم المسلمون.
والآية: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ.. تدل على أن المنافقين كانوا يخرجون في الغزوات مع المسلمين، ولهذا قالوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟. وتدل على أنهم كانوا لا يعطونهم الغنيمة، ولذا طالبوها وقالوا: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟
ويحتمل أن يريدوا بقولهم: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ الامتنان على المسلمين، أي كنا نعلمكم بأخبارهم، وكنا أنصارا لكم «١».
منها: أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن تتواصوا بالباطل، ولا تتناهوا عن المنكر، وتتقاعدوا عن التوبة، فيكون تسليط العدوّ من قبلكم. قال ابن العربي: وهذا نفيس جدا.
ومنها: أن المراد بالسبيل الحجة. ومنها: أن هذا يوم القيامة وقد رجحه الطبري، وضعفه ابن العربي لعدم فائدة الخبر فيه.
ومنها- الذي رجحته وهو أن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا يمحو به دولة المؤمنين، ويذهب آثارهم، ويستبيح بيضتهم، كما جاء
في صحيح مسلم عن ثوبان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «... ودعوت ربي ألّا يسلّط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم»
أي ساحتهم.
قال الجصاص في قوله: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا:
ويحتج بظاهره في وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت عليها للزوج سبيلا في إمساكها في بيته، وتأديبها، ومنعها من الخروج، وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح، كما قال تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ فاقتضى قوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ... وقوع الفرقة بردة الزوج، وزوال سبيله عليها لأنه ما دام النكاح باقيا، فحقوقه ثابتة، وسبيله باق عليها «٢».
(٢) أحكام القرآن: ١/ ٢٩٠
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٧]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦)
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)
الإعراب:
كُسالى
جمع كسلان، وهو حال منصوب من واو قامُوا
وكذلك قوله:
يُراؤُنَ
.. وَلا يَذْكُرُونَ.
مُذَبْذَبِينَ منصوب من وجهين: أحدهما- أن يكون منصوبا على الذم بفعل مقدر، تقديره: أذم مذبذبين. والثاني- أن يكون منصوبا على الحال من واو يَذْكُرُونَ.
ما يَفْعَلُ ما: فيها وجهان: أحدهما- أن تكون استفهامية في موضع نصب ب يَفْعَلُ وتقديره: أيّ شيء يفعل بعذابكم؟ والثاني- أن تكون «ما» نفيا، فلا يكون لها موضع من الإعراب. قال ابن الأنباري: والوجه الأول أوجه الوجهين، وحذف الياء من يُؤْتِ في المصحف تخفيفا.
في يُخادِعُونَ
.. خادِعُهُمْ
وفي شَكَرْتُمْ.. شاكِراً جناس اشتقاق. وقوله:
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ؟ استفهام بمعنى النفي أي لا يعذبكم ما دمتم شكرتم نعم الله وآمنتم به.
المفردات اللغوية:
يُخادِعُونَ اللَّهَ
بإظهار خلاف ما أبطنوه من الكفر، فيدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية. من الخداع: وهو إيهام غيرك خلاف حقيقة الشيء. وَهُوَ خادِعُهُمْ
مجازيهم على خداعهم، فيفتضحون في الدنيا باطلاع الله نبيه على ما أبطنوه، ويعاقبون في الآخرة. كُسالى
جمع كسلان وهو المتثاقل المتباطئ. يُراؤُنَ النَّاسَ
بصلاتهم، أي يقصدون بعملهم الظهور للناس ليحمدوهم عليه، وهم في داخلهم غير مقتنعين بما يعملون. وَلا يَذْكُرُونَ
أي ولا يصلون.
إِلَّا قَلِيلًا
أي رياء. مُذَبْذَبِينَ مترددين. بَيْنَ ذلِكَ بين الكفر والإيمان. لا إِلى هؤُلاءِ لا منسوبين إلى الكفار. وَلا إِلى هؤُلاءِ ولا إلى المؤمنين. سَبِيلًا طريقا إلى الهدى.
سُلْطاناً مُبِيناً حجة قوية ظاهرة أو برهانا بيّنا على نفاقكم. الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ الدرك: المكان، والأسفل من النار: هو قعرها. وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً مانعا من العذاب.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من النفاق. وَأَصْلَحُوا عملهم. وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ ووثقوا بالله.
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ من الرياء. أَجْراً عَظِيماً في الآخرة وهو الجنة. وَكانَ اللَّهُ شاكِراً لأعمال المؤمنين بالإثابة عليها. عَلِيماً بخلقه.
المناسبة:
الآيات مكملة لما سبقها في تبيان صفات المنافقين وأحوالهم ومواقفهم.
التفسير والبيان:
إن المنافقين لجهلهم، وسذاجتهم، وقلة علمهم وعقلهم ومرضهم النفسي، وسوء تقديرهم يلجأون إلى الخداع، فيفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر، كما تقدم في أول سورة البقرة: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية [٩] ولا شك بأن الله لا يخادع فإنه العالم بالسرائر والضمائر، ولكنهم
وَهُوَ خادِعُهُمْ
أي مجازيهم على خداعهم، وسمي ذلك مخادعة مشاكلة للفظ الأول، مثل وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [الأنفال ٨/ ٣٠]. أو وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث تركهم تطبق عليهم أحكام الشريعة في الظاهر، معصومي الدماء والأموال في الدنيا، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة، ولم يخلهم في الدنيا العاجلة من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم. وقد يخذلهم في الآخرة أمام الناس، فيعطون على الصراط نورا، كما يعطى المؤمنون، ثم يطفأ نورهم، كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ- إلى قوله- وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [الحديد ٥٧/ ١٣- ١٥].
وفي الحديث الذي رواه أحمد ومسلم عن ابن عباس: «من سمّع سمّع الله به، ومن رأيا رأيا الله به»
قال ابن عباس: خداعه تعالى لهم أن يعطيهم نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين، فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم، وبقوا في ظلمة، ودليله قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ، ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة ٢/ ١٧].
وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
أي متباطئين متثاقلين إذ لا إيمان يدفعهم إليها، ولا نية لهم فيها، ولا يعقلون معناها. هذه صفة ظواهرهم.
ثم ذكر الله تعالى صفة بواطنهم الفاسدة، فقال: يُراؤُنَ النَّاسَ
بها،
كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء، وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا..» الحديث.
وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
أي في صلاتهم لا يخشون، ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون، وإنهم في الواقع لا يصلون إلا قليلا، فإذا لم يرهم أحد لم يصلوا.
وهم أيضا مذبذبون مضطربون متحيرون بين الإيمان والكفر، فليسوا مع المؤمنين حقيقة، ولا مع الكافرين حقيقة، بل ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكافرين، ومنهم من يعصف به الشك، فتارة يميل إلى المؤمنين، وتارة يميل إلى الكافرين كاليهود، كما قال تعالى في أول سورة البقرة: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ، وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا الآية [٢٠] فإذا ظهرت الغلبة لأحدهما ادعوا أنهم منه.
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا أي ومن صرفه عن طريق الهدى، بسبب أعماله ومواقفه وأخلاقه، فلن تجد له سبيلا (طريقا) إلى الخير والسداد يسلكه.
ثم حذّر الله المؤمنين أن يفعلوا فعل المنافقين وأن يوالوا الكافرين، فقال:
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أي لا تتخذوهم نصراء وأعوانا تصاحبونهم وتصافونهم، وتناصحونهم وتصادقونهم، وتسرون إليهم المودة، وتفشون أحوال المؤمنين الباطنة إليهم، كما قال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ
[آل عمران ٣/ ٢٨] أي يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه، وقال أيضا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [المائدة ٥/ ٥١].
أما تولي الذميين الوظائف العامة في الدولة الإسلامية، فليس بمحظور، فإنهم اشتغلوا في عصر الصحابة في الدواوين، وكان أبو إسحاق الصابي وزيرا في الدولة العباسية.
أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي أتريدون أن تجعلوا لله على أعمالكم حجة بينة في استحقاق العقاب إذا اتخذتموهم أولياء، يعني أن موالاة الكافرين دليل على النفاق، ولا يصدر هذا إلا من منافق.
ثم ذكر الله تعالى عقوبة المنافقين الشهيرة: وهي إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي إن مكانهم في الطبقة السفلى من النار، والنار سبع دركات، سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض. قال المفسرون:
النار سبع دركات: أولها جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية، وقد يسمى بعضها باسم بعض. وأما الجنة فهي درجات، بعضها أعلى من بعض.
والسبب في أن عذاب المنافق أشد من عذاب الكافر: هو أنه مثله في الكفر، وضم إلى كفره الاستهزاء بالإسلام وأهله.
وهذا العذاب لن يجدوا أحدا ينقذهم منه أو يخففه عنهم: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً.
ثم ذكر الله تعالى طريق الإصلاح وهو فتح باب التوبة عن النفاق، وشرط الله تعالى لقبول توبة المنافقين توبة صحيحة أربعة شروط في قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا، وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ، وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ، وتلك الشروط هي
هذه شروط قبول توبة المنافق، أما الكافر فشرط توبته فقط هو الانتهاء عن الكفر كما قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال ٨/ ٣٨]. والمنافق: هو من أظهر الإيمان وأبطن الكفر. والكافر:
من أعلن الكفر صراحة.
أولئك التائبون هم مع المؤمنين أي أصحاب المؤمنين ورفقاؤهم في الدارين، وفي زمرتهم يوم القيامة.
وسوف يعطي الله المؤمنين أجرا عظيما لا يعرف قدره، فيشاركونهم فيه كما قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ، جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة ٣٢/ ١٧].
ثم بين الله تعالى سبب تعذيبهم وهو كفرهم بأنعم الله فقال مستفهما استفهاما إنكاريا: ماذا يريد الله بعذابكم أيها الناس؟ إنه يعذبكم لا من أجل الانتقام والثأر، ولا من أجل دفع ضر وجلب خير لأن الله غني عن كل الناس، وهو الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، ولكنه أيضا عادل حكيم، لا يسوي بين الصالح والطالح، فالكافر والمنافق والعاصي لم يشكروا الله تعالى على نعمه، ولم يؤدوا واجبهم في الإيمان الحق بالله تعالى، ولم يصرفوا نعم الله في الخير. ولو
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى طائفة مهمة من الأحكام:
١- النفاق والرياء أمران قائمان في كل أمة وزمان: والنفاق إبطان الكفر وإظهار الإسلام، والرياء إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله.
٢- يعتمد المنافق كالثعلب على المكر والخداع، وسرعان ما يتكشف أمره للناس، ولا يخفى على الله من فعله شيء منذ بدء نفاقه، فالمنافقون يخادعون الله لقلة علمهم وعقلهم، والله خادعهم- على سبيل المشاكلة اللفظية- أي أن الخداع من الله هو مجازاتهم على خداعهم أولياءه ورسله.
٣- تطبق على المنافق في الدنيا أحكام الشريعة في الظاهر، وفي الآخرة قال الحسن: يعطى كل إنسان من مؤمن ومنافق نورا يوم القيامة، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا فإذا جاءوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق، فذلك قولهم: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد ٥٧/ ١٣].
٤- من أوصاف المنافقين الصلاة رياء: أي يصلون مراءاة وهم متكاسلون
وفي صحيح الحديث المتقدم: «إن أثقل صلاة على المنافقين: العتمة والصبح»
والعتمة: العشاء، لا يصلونها بسبب تعب النهار، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم، ولولا السيف ما قاموا.
ثم وصفهم الله بقلة الذكر عند المراءاة وعند الخوف،
وقال صلّى الله عليه وسلّم ذامّا لمن أخّر الصلاة: «تلك صلاة المنافقين- ثلاثا- يجلس أحدهم يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان- أو على قرني الشيطان- قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» رواه مالك وغيره.
وصفهم بقلة الذكر لأنهم كانوا لا يذكرون الله بقراءة ولا تسبيح، وإنما كانوا يذكرونه بالتكبير. وقيل: وصفه بالقلة لأن الله تعالى لا يقبله. وقيل:
لعدم الإخلاص فيه.
٥- من صلّى كصلاة المنافقين وذكر كذكرهم لحق بهم في عدم القبول، وخرج من مقتضى قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [٢٣/ ١- ٢]. اللهم إلا أن يكون له عذر، فيقتصر على الفرض حسبما
علّم النبي صلّى الله عليه وسلّم الأعرابي حين رآه أخل بالصلاة، فقال له- فيما رواه الأئمة-: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها»
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن عبادة: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن».
وقال فيما رواه الترمذي: «لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود»
وبناء عليه قال أكثر العلماء:
الطمأنينة فرض لهذا الحديث. ورأى أبو حنيفة أنها ليست بفرض، وإنما هي واجب لثبوتها بخبر آحاد.
٧- المنافق مذبذب قلق مضطرب: والمذبذب: المتردد بين أمرين، والذبذبة: الاضطراب. والمنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين، لا مخلصين الإيمان ولا مصرّحين بالكفر.
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المنافق كمثل الشاة العاثرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه أخرى».
٨- تحرم موالاة الكافرين دون المؤمنين: والمراد كما قال ابن كثير:
مصاحبتهم ومصادقتهم، ومناصحتهم، وإسرار المودة إليهم، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم. والآيات الناهية عن ولاية الكافرين كثيرة.
٩- عقاب المنافق في الدرك الأسفل من النار وهي الهاوية لغلظ كفره، وكثرة غوائله، وتمكّنه من أذى المؤمنين. وأعلى الدركات جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وقد يسمى جميعها باسم الطبقة الأولى، أعاذنا الله من عذابه بمنه وكرمه «٢».
١٠- توبة المنافق مقبولة بشروط هي: أن يصلح قوله وفعله، ويعتصم بالله، أي يجعله ملجأ ومعاذا، ويخلص دينه لله، كما نصت عليه هذه الآية، وإلا فليس بتائب.
(٢) تفسير القرطبي: ٥/ ٤٢٥
قال مكحول من التابعين: أربع من كنّ فيه كنّ له، وثلاث من كنّ فيه كنّ عليه، فالأربع اللاتي له: الشكر والإيمان والدعاء والاستغفار، قال الله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء ٤/ ١٤٧]. وقال الله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال ٨/ ٣٣]. وقال الله سبحانه: قُلْ: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي، دُعاؤُكُمْ [الفرقان ٢٥/ ٧٧]. وأما الثلاث اللاتي عليه: فالمكر والبغي والنكث قال الله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر ٣٥/ ٤٣].
وقال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [يونس ١٠/ ٢٣]. وقال تعالى: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ [الفتح ٤٨/ ١٠].
١٢- الله يشكر عباده على طاعتهم. ومعنى يشكرهم: يثيبهم، فيقبل العمل القليل، ويعطي عليه الثواب الجزيل، وذلك شكر منه على عبادته.
انتهى الجزء الخامس ولله الحمد
[الجزء السادس]
[تتمة سورة النساء]الجهر بالسوء والعفو عنه وإبداء الخير وإخفاؤه
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٤٨ الى ١٤٩]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩)
الإعراب:
بِالسُّوءِ في موضع نصب: لأنه يتعلق بالجهر، وإعمال المصدر الذي فيه الألف واللام قليل، وليس في التنزيل إعماله إلا في هذا الموضع، ولم يعمل في اللفظ وإنما عمل في الموضع.
إِلَّا مَنْ ظُلِمَ: من: في موضع نصب، لأن الاستثناء منقطع.
البلاغة:
تُبْدُوا.. أَوْ تُخْفُوهُ طباق.
المفردات اللغوية:
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أي لا يحب من أحد ذلك بمعنى أنه يعاقبه عليه، والجهر: الإعلان إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي فلا يؤاخذه بالجهر به، بأن يخبر عن ظلم ظالمة، ويدعو عليه. وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لما يقال عَلِيماً بما يفعل.
سبب النزول:
أخرج هناد بن السري عن مجاهد قال: أنزلت لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ في رجل أضاف رجلا بالمدينة، فأساء قراه، فتحول عنه، فجعل يثني عليه بما أولاه، فرخص له أن يثني عليه بما أولاه، أي نزلت هذه الآية رخصة في أن يشكو. وهذا مروي أيضا عن ابن جريج.
الآيتان متصلتان بما قبلهما في الكلام عن المنافقين وكفار أهل الكتاب، فبعد أن حذر الله المؤمنين من عيوبهم وأعمالهم وصفاتهم وأوضح أنهم في الدرك الأسفل من النار، أبان حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه، حتى لا يفهم المؤمنين مشروعية الجهر بالسوء من القول على الإطلاق، وفي ذلك إشاعة الفواحش والعيوب، وإضرار الأمة، وإنما المشروعية مقيدة في حال الظلم، كما أن الإسرار بالخير والجهر به سواء.
التفسير والبيان:
يعاقب الله تعالى المجاهر بسوء القول، أي بذكر عيوب الناس وتعداد سيئاتهم، لأنه يؤدي إلى إثارة العداوة، والكراهة والبغضاء، ويزرع الأحقاد في النفوس، ويسيء أيضا إلى السامعين، فيجرئهم على اقتراف المنكر، وتقليد المسيء، ويوقعهم في الإثم، لأن سماع السوء كعمل السوء.
وكذلك الإسرار بسوء القول محرّم ومعاقب عليه، إلا أن الآية نصت على حالة الجهر، لأن ضرره أشد، وفساده أعم وأخطر، لذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور ٢٤/ ١٩].
ثم استثنى الله تعالى حالة يجوز فيها إعلان السوء من القول: وهي حالة الشكوى من ظلم الظالم لحاكم أو قاض أو غيره ممن يرجى منه رفع ظلامته وإغاثته ومساعدته في إزالة الظلم. والشكوى على الظالم أمر مطلوب شرعا، إذ لا يحب الله لعباده أن يسكتوا على الظلم، أو أن يخضعوا للضيم أو أن يقبلوا المهانة ويسكتوا على الذل،
روى الإمام أحمد: «إن لصاحب الحق مقالا».
وهذا من قبيل ارتكاب أخف الضررين ودفع أعظم الشرين.
وإبداء الخير من قول أو فعل، أو إخفاؤه، أو العفو عمن أساء يجازي الله تعالى عليه خيرا، بل يرغب فيه، فالله تعالى يحبّ فعل الخير، ويعفو عن السّيئات، وهو مع ذلك قادر تمام القدرة على معاقبة المسيء، والتّخلّق بأخلاق الله تعالى أمر حسن مرغّب فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيتان على ما يأتي:
١- الجهر بالسوء من القول بإشاعة عيوب الناس أمر منكر يعاقب الله تعالى عليه.
٢- يباح للمظلوم اللجوء إلى القضاء والشكوى لرفع الظلم ووصف فعل الظالم، كما أنه يجوز الدّعاء على الظالم، ودعوة المظلوم مستجابة،
روى الحاكم عن ابن عمر: «اتّقوا دعوة المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة»
وروى الطبراني والضياء عن خزيمة بن ثابت: «اتّقوا دعوة المظلوم، فإنها تحمل على الغمام، يقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين».
وقال ابن عباس وغيره: المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو خير له.
وقال الحسن البصري: لا يدع عليه، وليقل: اللهم أعنّي عليه، واستخرج حقّي منه. والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمة، ولكن
٣- استدلّ من أوجب الضيافة بهذه الآية، قالوا: لأن الظلم ممنوع منه، فدلّ على وجوبها. وهو قول الليث بن سعد.
وذهب الجمهور إلى أن الضيافة من مكارم الأخلاق.
٤- الاعتدال في طلب الحقّ أمر مطلوب شرعا، لأن قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً تحذير للظالم حتى لا يظلم، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحدّ في الانتصار.
٥- التعاون في إزالة الظلم من أصول الإسلام، قال عليه الصّلاة والسّلام فيما رواه الطبراني عن النعمان بن بشير، وهو ضعيف: «خذوا على أيدي سفهائكم»
وقال فيما رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قالوا: هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: «تجزه عن الظلم فإن ذلك نصره».
٦- إبداء الخير حسن لمن عمر قلبه بالإيمان والإخلاص، أو قصد ترغيب الناس وحضّهم على فعل الخير. وإخفاء الخير أفضل إن خيف شيء من الرياء المحبط للأجر والثواب. وهذا بيان وجه الأفضلية، أما الأصل الذي نصّت عليه الآية لإحراز الثواب على فعل الخير غير المصحوب بالرياء: فهو أن إبداء الخير وإخفاءه سواء.
٧- العفو عن المسيء مندوب إليه ومرغّب فيه، لأن العفو من صفة الله تعالى، مع القدرة على الانتقام.
روى ابن المبارك عن الحسن يقول: إذا جثت الأمم بين يدي ربّ العالمين يوم القيامة نودي: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا في الدّنيا، يصدق هذا الحديث قوله تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.
[الشورى ٤٢/ ٤٠]
وروى أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة أن
الكفر والإيمان وجزاء كلّ
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٠ الى ١٥٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢)
الإعراب:
حَقًّا مصدر مؤكّد لمضمون الجملة قبله.
وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ للكافرين يقوم مقام المفعول الثاني لأعتدنا.
البلاغة:
نُؤْمِنُ... وَنَكْفُرُ طباق.
المفردات اللغوية:
نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ من الرّسل. وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ منهم. وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ الكفر والإيمان. سَبِيلًا طريقا يذهبون إليه. وَأَعْتَدْنا هيأنا وأعددنا. عَذاباً مُهِيناً ذا إهانة وهو عذاب النار. أُجُورَهُمْ ثواب أعمالهم. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للطائعين.
رَحِيماً بأهل طاعته.
بعد أن حذّر الله تعالى من مصاحبة الكفار ومصادقتهم ومناصحتهم، وندّد بخصال المنافقين، ونبّه المؤمنين إلى ما يباح إعلانه من سوء القول، أوضح سبب كفر أهل الكتاب، من طريق بيان ركني الإيمان وهما: الإيمان بالله تعالى، والإيمان بجميع الرّسل دون تفرقة بين رسول وآخر، فمن آمن ببعض الرّسل وكفر ببعض آخر، فهو من الكافرين الذين استحقّوا العقاب في نار جهنم. أي أنه تعالى لما ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب: اليهود والنصارى.
التفسير والبيان:
يتوعّد الله تعالى في هذه الآيات الكافرين به وبرسله، من اليهود والنصارى، حيث فرّقوا بين الله ورسله في الإيمان، فآمنوا ببعض الأنبياء، وكفروا ببعض، تعصّبا وتمسّكا بالموروث، واعتصاما بالأهواء والشهوات، فاليهود آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمدا عليهما الصّلاة والسّلام، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلّى الله عليه وسلّم.
فمن كفر بنبيّ من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء، لأن الإيمان بسائر الأنبياء واجب، فمن ردّ نبوّة نبيّ للحسد أو العصبيّة أو التّشهي، تبيّن أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانا شرعيا، إنما هو عن غرض وهوى وعصبيّة.
ولهذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله، وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أي في الإيمان وَيَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي طريقا ومسلكا وسطا بين الإيمان والكفر، ودينا مبتدعا بين الإسلام واليهودية، هؤلاء أخبر تعالى عنهم فقال: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا أي كفرهم محقّق لا محالة بمن ادّعوا الإيمان به، لأنه ليس شرعيّا، إذ لو كانوا مؤمنين به
وبه يتبيّن أن الكفر بالرّسل نوعان: كفر بجميع الرّسل، وكفر ببعض الرّسل، وأصحاب الكفر الأول لا يؤمنون بأحد من الأنبياء، لإنكارهم النّبوات، وأهل الكفر الثاني يؤمنون ببعض الأنبياء ولا يؤمنون ببعض آخر، مثل اليهود الذين يؤمنون بموسى عليه السلام ويكفرون بعيسى ومحمد عليهما السّلام، والنصارى الذين يؤمنون بموسى وعيسى ويكفرون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
والفريقان سواء في استحقاق العذاب، لأن الإيمان بالله ورسله لا يتجزأ، فمن آمن حقيقة بالله، آمن بجميع رسله الذين أرسلهم لهداية الناس، فهو مصدر الإرسال، والرّسل سفراء بين الله وخلقه، فلا يتصور إيمان بالله وكفر ببعض رسله. وحينئذ لا يقبل إيمان بموسى وكفر بعيسى، وإيمان بجميع الرّسل وكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فهو مذكور في كتبهم، ومبشّر به عندهم، ومصدّق لما معهم، والقرآن مهيمن على ما سبقه من الكتب السماوية، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو سبحانه القائل: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة ٥/ ٤٨].
ثم قرن الله تعالى بالفريقين السابقين الكلام عن فريق ثالث: وهم المسلمون، للمقارنة والعظة والعبرة، وهم الذين آمنوا بالله وجميع رسله، فإنهم يؤمنون بكلّ كتاب أنزله الله تعالى، وبكلّ نبيّ بعثه الله، كما قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ... [البقرة ٢/ ٢٨٥].
هؤلاء أعدّ الله لهم الجزاء الجزيل، والثواب الجليل: أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ
على ما آمنوا بالله ورسله وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي غفورا لذنوبهم إن كان لبعضهم ذنوب، رحيما بهم يعاملهم بالإحسان ويضاعف حسناتهم، كما أنه تعالى رحيم بجميع عباده حيث أرسل لهم الرّسل لهدايتهم، وبيان المنهج الأسلم، والطريق المستقيم الأفضل.
فقه الحياة أو الأحكام:
الإيمان والكفر ضدّان لا يجتمعان، والإيمان لا يتجزّأ، وجزاء الكفر واحد، وإن تعددت أشكاله، فمن أنكر الأديان والنّبوّات، ومن ألحد فلم يؤمن بوجود الله ووحدانيته، ومن كفر بجميع الرّسل، أو آمن ببعضهم وكفر ببعضهم الآخر، فهو كافر، ويكون أهل الكتاب من اليهود والنصارى من الكفار، لأنهم كفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، والآية بيّنت أن الكفر به، كفر بالكلّ، لأنه ما من نبيّ إلا وقد أمر قومه بالإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبجميع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام، ونصّ سبحانه على أنّ التفريق بين الله ورسله كفر، وإنما كان كفرا لأن الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرّسل، فإذا جحدوا الرّسل، ردّوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم، وكأن ردّ الشرائع كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر.
ونصّ سبحانه أيضا على أن الإيمان ببعض الرّسل والكفر ببعض كفر بالكلّ. واتّخاذ طريق وسط بين الإيمان والكفر أو دين مبتدع بين الإسلام واليهودية مرفوض في شرعة القرآن.
وأكّد تعالى أن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله بقوله: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به عزّ وجلّ، وكفروا بكلّ رسول مبشّر بذلك الرّسول، فلذلك صاروا الكافرين حقّا.
أما المسلمون وهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته، الذين صدقوا بوجود الله ووحدانيته، وآمنوا بجميع الرّسل، فلم يفرّقوا بين أحد منهم، فسوف يؤتيهم الله ثواب أعمالهم، والله غفور للعصاة منهم، رحيم بالعباد فلا يعجل لهم العذاب، وإنما يترك لهم فرصة للتوبة والإنابة، ويهديهم بالقرآن والرّسل والعقل والحواس والتّجارب المتكرّرة والأحداث التي توقظ مشاعر الإيمان، يهديهم صراطا مستقيما.
مواقف اليهود المتعنتة
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٩]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩)
جَهْرَةً نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة. لا تَعْدُوا فيه ثلاث قراءات:
لا تعدوا: بسكون العين مع تخفيف الدّال، وبسكون العين مع تشديد الدّال، وبفتح العين مع تشديد الدّال. والقراءة الثانية ضعيفة في القياس، لما أدت إليه من الاجتماع بين الساكنين على غير حدّه.
فَبِما نَقْضِهِمْ ما: زائدة للتوكيد، وهو رأي الأكثرين، والباء للسببية متعلقة بمحذوف أي لعنّاهم بسبب نقضهم.
بُهْتاناً منصوب بالمصدر على حدّ قولهم: قلت شعرا وخطبة، لأن القول يعمل فيما كان من جنسه. عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عيسى: منصوب على البدل. وفي نصب ابن مريم وجهان: إما على الوصف أو على البدل. إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ منصوب، لأنه استثناء منقطع من غير الجنس أي لكن، ويجوز رفعه على البدل من محل إعراب من عِلْمٍ ومحله الرفع، لأن تقديره: ما لهم به علم، مثل:
ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ [الأعراف ٧/ ٥٩ ومواضع أخرى] وتقديره: ما لكم إله غيره.
يَقِيناً إما منصوب على الحال من واو قَتَلُوهُ أي متيقنين، أو على الحال من هاء قَتَلُوهُ أي ما قتلوه متيقنا بل مشكوكا فيه، أو لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: وما قتلوه قتلا متيقنا. والهاء في قتلوه يجوز أن تكون لعيسى كما في قوله: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ ويجوز أن تكون الهاء للعلم، والمعنى: وما قتلوه علمهم به يقينا. وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إن هنا للنفي، ومعناه: وما من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمنن به أي بعيسى. وأما هاء قَبْلَ مَوْتِهِ ففيه وجهان: أن يكون المراد به كل واحد من الكفار من أهل الكتاب وغيرهم لظهور الحقيقة له عند موته، أو تكون الهاء لعيسى لأنه ينزل في آخر الزمان إلى الأرض، فيؤمن به من كان مكذبا له من اليهود وغيرهم، وهذا الوجه مخالف لظاهر الآية، والوجه الأول أصح.
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وصفوه بالرسالة على سبيل التهكم والاستهزاء لأنهم لا يؤمنون برسالته.
فَبِما نَقْضِهِمْ زيادة الحرف للتأكيد، أي فبنقضهم.
وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ مجاز مرسل حيث أطلق الكل وأريد البعض. وكذلك في قوله:
وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ مجاز مرسل لأنهم كفروا بالقرآن والإنجيل دون غيرهما قُلُوبُنا غُلْفٌ استعارة، استعار الغلاف لعدم الفهم.
وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ مجاز مرسل حيث أطلق الكل وأريد البعض.
المفردات اللغوية:
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أي اليهود إنزال كتاب جملة واحدة من السماء، كما أنزل على موسى تعنتا. فَقَدْ سَأَلُوا أي آباؤهم. جَهْرَةً أي رؤية جهرة عيانا. الصَّاعِقَةُ النار النازلة من السماء التي أدت بهم إلى الموت عقابا على التعنت في السؤال والظلم. الْبَيِّناتُ المعجزات الدّالة على وحدانية الله، والدلائل الواضحة على نبوّة موسى كفلق البحر واليد البيضاء والعصا. فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ ولم نستأصلهم. وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً تسلّطا بيّنا ظاهرا عليهم، حيث أمرهم بقتل أنفسهم توبة، فأطاعوه.
الطُّورَ الجبل الذي كانوا مقيمين أسفله، رفعه فوقهم ليخافوا فيقبلوا الميثاق.
بِمِيثاقِهِمْ بسبب أخذ الميثاق عليهم، فلا ينقضوه. ادْخُلُوا الْبابَ باب القرية.
سُجَّداً سجود انحناء، أي خاضعين متذللين. لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ لا تتجاوزوا ما أبيح لكم ولا تنتهكوا حرمة السبت باحتيال اصطياد الحيتان فيه.
غُلْفٌ جمع غلاف، أي مغطاة بأغطية تجعلها لا تعي ما تقول.
طَبَعَ ختم عليها بالخاتم بسبب كفرهم، فلا تعي وعظا. فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. بُهْتاناً كذبا مفترى يبهت صاحبه ويدهشه، حيث رموا السيدة مريم بالزنى. إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أي في زعمهم، فبمجموع ذلك عذبناهم.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء ناس من
بُهْتاناً عَظِيماً فجثى رجل من اليهود فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا، فأنزل الله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
وروي أن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وغيرهما قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن كنت نبيّا صادقا، فأتنا بكتاب من السماء جملة، كما أتى به موسى، فنزلت.
وقال ابن جريج: سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به.
ومن المعلوم عند المفسّرين أن اليهود سألت محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يصعد إلى السماء، وهم يرونه، فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدّعيه على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة تعنّتا له صلّى الله عليه وسلّم، فأعلم الله عزّ وجلّ أن آباءهم قد عنتوا موسى عليه السّلام بأكبر وأعظم من هذا، فقالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أي عيانا.
وهذا إنما قالوه على سبيل التّعنّت والعناد والكفر والإلحاد، كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك، كما هو مذكور في سورة الإسراء: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [١٧/ ٩٠].
المناسبة:
الآيات مرتبطة بما قبلها، فموضوعها أهل الكتاب، وكانت الآيات السابقة تبيانا لكفرهم إذ قالوا: نؤمن ببعض الرّسل ونكفر ببعض، وهذه الآيات تدلّ على تعنّتهم وتصلّبهم ومطالبتهم بأشياء على سبيل العناد والإلحاد.
التفسير والبيان:
يطلب منك أهل الكتاب من اليهود أن تنزل عليهم كتابا مكتوبا بخطّ
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ، فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام ٦/ ٧]، وسبب الجهل أنهم لا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين الشعوذة وحيل السحرة المثيرة للدهشة والعجب.
وسؤالهم ذلك ليس بنيّة حسنة، فهو لا من أجل الإقناع وطلب الحجّة والبرهان بصدق ويقين، وإنما هو من قبيل التعنّت والتّعجيز والإحراج. قال الحسن البصري: لو سألوه ذلك استرشادا لأعطاهم ما سألوا.
ولا تعجب يا محمد من سؤالهم، فقد سألوا موسى أعظم من هذا، فقالوا: أرنا الله رؤية جهرة عيانا، بلا حواجز ولا حجب، وذلك دليل على الجهل بالله تعالى إذ هم ظنّوا أن الله جسم محدود تدركه الأبصار.
ونسب السؤال إلى اليهود المعاصرين للنّبوّة، مع أن السؤال من آبائهم لأنهم ورثتهم المقلّدون لهم الرّاضون بفعلهم، وهو مظهر من مظاهر تكافل الأمة الواحدة حال الرّضا بفعل بعض أفرادها.
وكان عقابهم على هذا الطلب المصحوب بالتعجيز والمراوغة نزول الصاعقة التي أماتتهم، ثم أحياهم الله. والصواعق: شرارات كهربائية تنشأ بسبب اصطكاك الأجرام السماوية.
والإحياء مفسّر في سورة البقرة حيث يقول تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة ٢/ ٥٥- ٥٦].
وكانت توبتهم بقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم: كفّوا، فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحيّ، كما قال تعالى في سورة البقرة: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة ٢/ ٥٤].
وكان من عجائب أحوالهم وأساليب تأديبهم أن الله تعالى رفع فوقهم جبل الطور، كأنه ظلّة، وقد كانوا في واديه، وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة، وأبوا إطاعة ما جاء به موسى عليه السّلام، فكان عقابهم بسبب ميثاقهم الذي أخذه الله عليهم أن يعملوا بما أنزل إليهم بقوّة وإخلاص.
ثم ألزموا بالطاعة فالتزموا وسجدوا، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم، كما قال تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [الأعراف ٧/ ١٧١].
وأوصاهم الله تعالى بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم ما دام مشروعا لهم، فقال لهم على لسان داود عليه السّلام: لا تعدوا في السبت، أي لا تتجاوزوا حدود الله فيه بالعمل الدّنيوي، فخالفوا واحتالوا بحيلتهم المعروفة باصطياد الحيتان فيه: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة ٢/ ٦٥].
وأخذ الله منهم ميثاقا غليظا، أي عهدا مؤكّدا شديدا على الأخذ بالتوراة بجدّ وقوّة، والعمل بها، وعدم كتمان البشارة بعيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام، فخالفوا وعصوا وتحايلوا على ارتكاب ما حرّم الله عزّ وجلّ، كما ورد في سورة الأعراف: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف ٧/ ١٦٣].
ثم ذكر تعالى بعد هذا الميثاق أسباب ما حلّ بهم من عقاب وغضب الله، مما يعدّ أقبح المخالفات: وهي نقض الميثاق الذي أخذه الله عليهم، فأحلّوا حرامه، وحرّموا حلاله: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي فبسبب نقض اليهود الميثاق، وكفرهم بآيات الله الدّالة على صدق أنبيائه، وقتلهم الأنبياء كزكريا ويحيى عليهما السّلام بغير ذنب، وقولهم: قلوبنا مغلفة بغلاف، فلا يصل إليها شيء مما تدعو إليه: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت ٤١/ ٥] فردّ الله عليهم بأن ذلك
وكفرهم بعيسى عليه السلام والإنجيل واتهام مريم البتول العذراء بالفاحشة، ورميهم لها برجل صالح فيهم هو يوسف النجار، وهذا بهتان عظيم وكذب مفترى يدهش البريء، وزعمهم أنهم قتلوا عيسى ابن مريم، ووصفوه بأنه رسول الله تهكما واستهزاء بدعوته، ووصفه القرآن بأنه: ابن مريم للرد على النصارى القائلين بأنه ابن الله. ورد الله عليهم: والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه كما ادعوا، ولكن ألقى الله الشبه على رجل آخر فصلبوه، وما قتلوه يقينا أي متيقنين أنه عيسى ذاته بعينه لأن الجند الذين قتلوه وصلبوه ما كانوا يعرفونه، والمعروف في الأناجيل أن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الأسخريوطي.
وإن اختلفوا في صلب المسيح، أهو المصلوب أم غيره؟ لفي شك وتردد من حقيقة أمره، وليس لهم علم يقيني مقطوع به، وإنما هم يتبعون الظن والقرائن والأمارات غير المؤدية إلى الحق.
وإنما أنجاه الله من أيدي اليهود ورفعه إليه، كما قال تعالى في سورة آل عمران: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران ٣/ ٥٥] قال ابن عباس: إني متوفيك أي مميتك. وقال وهب:
أماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه. وقال ابن جرير: توفيه هو رفعه «١»، وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا النوم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام ٦/ ٦٠] وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر ٣٩/ ٤٢].
قال الحسن البصري: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
أي أن المشهور بين المفسرين أن الله تعالى رفع عيسى بروحه وجسده إلى السماء، وقال الرازي:
المراد رافعك إلى محل كرامتي، وجعل ذلك رفعا إليه للتفخيم والتعظيم، ومثله قوله تعالى عن إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات ٣٧/ ٩٩] وإنما ذهب إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم من العراق إلى الشام، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم، وتدل الآية وَرافِعُكَ إِلَيَّ على أن الرفعة بالدرجة والمنقبة، لا بالمكان والجهة، كما أن الفوقية في قوله: وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ [آل عمران ٣/ ٥٥] ليست بالمكان، بل بالدرجة والرفعة «١».
ثم دلل سبحانه وتعالى على قدرته على حماية عيسى من الصلب وإنقاذه من اليهود والروم الظالمين ورفعه إليه بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً أي إن الله عزيز لا يغلب، حكيم في صنعه وفي جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها. ويجازي كل عامل بعمله، ومن جزائه لليهود في الدنيا ما أحل بهم من الذلة والمسكنة والتشريد في الأرض.
هذه عقيدتنا في صلب المسيح ورفعه مستقاة من أوثق مصدر في الوجود وهو القرآن الكريم كلام الله، المنقول إلينا بالتواتر، فلا مجال لتصديق روايات أخرى لم تثبت صحتها، بل إن ما فيها من تناقض واختلاف كثير يدل على الشك فيها ثم القطع بأنها ليست محل ثقة.
ثم إن القول بعدم الصلب أكرم وأفضل لكرامة عيسى عليه السلام، وأما القول بأنه صلب ليجعل نفسه فداء للبشرية والعالم، وليكفر عن خطيئة آدم عليه السلام وخطايا أبنائه، فهو من أوهام المسيحية، ومن القصص الروائية في الأناجيل التي دونتها أيدي البشر لأن الله تعالى أناط التخلص من الخطيئة
ثم حسم تعالى القول في شأن المسيح، فأبان أن كل أحد من أهل الكتاب عند ما يدركه الموت ينكشف له الحق في أمر عيسى، فيؤمن به إيمانا صحيحا حقا لا انحراف فيه، فيعلم اليهودي أنه رسول صادق غير كذاب، ويعلم النصراني أنه بشر ليس بإله ولا ابنا للإله.
وقوله تعالى: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به، ونحوه: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات ٣٧/ ١٦٤] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها. [مريم ١٩/ ٧١] والمعنى: وما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى وبأنه عبد الله ورسوله، يعني إذا عاين الموت قبل أن تزهق روحه، حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف «١»، ولأن كل أحد ينجلي له ما كان جاهلا به، فيؤمن به، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له إذا كان قد شاهد الملك «٢».
ويوم القيامة يشهد عيسى على اليهود بأنهم كذبوه، وعلى النصارى بأنهم دعوه «ابن الله» فتظهر حقيقة حاله، كما قال تعالى عنه: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة ٥/ ١١٧] أي يشهد للمؤمنين منهم بالإيمان وعلى الكافر بالكفر لأن كل نبي شهيد على أمته كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء ٤/ ٤١]
(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ٥٧٧
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- أخلاق اليهود وطباعهم وعرة صعبة غريبة، فهم لا يذعنون للحق، وإنما يجادلون فيه، وينحازون عنه إلى المطالبة بأمور على سبيل التعجيز والإلحاد والعناد والمراوغة والتعنت.
فقد سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إنزال كتاب مكتوب من السماء دفعة واحدة إلى فلان وفلان يؤيد ما يدعيه ويصدقه فيما يقول، تعنتا، كما أتى به موسى.
وطلبوا من موسى أن يريهم الله تعالى رؤية جهرة عيانا.
واتخذوا العجل إلها بالرغم من الأدلة القاطعة التي أيد الله تعالى بها موسى عليه السلام من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها، التي تدل على أنه لا معبود إلا الله عز وجل.
٢- لا يخضع اليهود إلا للمادة، لذا ألزمهم الله تعالى إطاعة التوراة وإطاعة موسى برفع الجبل فوقهم كأنه ظلة، لتخويفهم.
٣- إنهم محتالون مخادعون ماكرون، فقد أمرهم الله باحترام يوم السبت وعدم العمل فيه، فاحتالوا على صيد السمك بوضع حواجز على سواحل البحار يوم الجمعة، يبقى فيها السمك الآتي بالمد البحري، حينما ينحسر عنه بالجزر.
٤- إنهم ينقضون العهود ويخالفون المواثيق، فقد أخذ الله عليهم العهد
٥- استحقوا غضب الله عليهم وتسلط الروم الظلمة عليهم بأسباب كثيرة هي نقض الميثاق، والكفر بآيات الله وعدم الاعتراف برسالتي عيسى ومحمد عليهما السلام، وقتل الأنبياء بغير حق ولا ذنب، وتحدي الأمر الإلهي بقولهم: قلوبنا غلف لا ينفذ إليها الخير والهدى الإلهي، وكفرهم بعيسى والإنجيل، وقذف السيدة مريم بالزنى ورميهم لها بيوسف النجار، وهو البهتان العظيم، وادعاؤهم قتل المسيح عيسى ابن مريم.
٦- الثابت المؤكد بإخبار الله الصادق القاطع أنهم لم يقتلوا عيسى ولم يصلبوه، بل حماه الله منهم، وخلصه من مكرهم وكيدهم، ورفعه الله إليه إما رفعا حقيقيا بالروح والجسد إلى السماء، كما قال الأكثرون لأن الله متعال عن المكان، وإما رفع منزلة وتفخيم وتعظيم كما قال الرازي.
٧- ما من أحد من اليهود والنصارى إلا ويدرك قبل موته حقيقة عيسى عليه السلام، ويؤمن به إيمانا حقيقيا في وقت لا ينفعه الإيمان، إذا عاين الملك لأنه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت، فاليهودي يقرّ في ذلك الوقت بأنه رسول الله، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله. وهذا معلوم بالأحاديث أيضا،
روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته، وإن الكافر إذا حضر (حضره الموت) بشر بعذاب الله وعقوبته».
وروى ابن مردويه عن ابن عباس: «ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار».
٨- سيفاجأ النصارى يوم القيامة بشهادة عيسى المتضمنة تكذيب من كذبه،
عاقبة ظلم اليهود وأخذهم الربا وثواب المؤمنين منهم
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٠ الى ١٦٢]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)
الإعراب:
وَبِصَدِّهِمْ.. كَثِيراً كَثِيراً: منصوب لأنه صفة مصدر محذوف وتقديره: صدا كثيرا. وَالْمُقِيمِينَ يجوز فيه النصب والجر، أما النصب فهو على المدح بتقدير أعني وأمدح. وأما الجر فيجوز من ثلاثة أوجه: أن يكون معطوفا على بِما وتقديره: يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة من الأنبياء، أو أن يكون معطوفا على الكاف في إِلَيْكَ وتقديره: بما أنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة، أو أن يكون معطوفا على كاف قَبْلِكَ وتقديره: من قبلك وقبل المقيمين الصلاة من أمتك. والعطف على الكاف في إِلَيْكَ وقَبْلِكَ على رأي الكوفيين ولا يجوز ذلك عند البصريين.
وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ مرفوع من خمسة أوجه: إما مبتدأ وخبره: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ، وإما
البلاغة:
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ استعارة، استعار الرسوخ للثبوت في العلم والتمكن فيه أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً فيه التفات من الغيبة إذ الأصل: سيؤتيهم، إلى الخطاب، وتنكير الأجر للتفخيم.
المفردات اللغوية:
فَبِظُلْمٍ أي فبسبب ظلم هادُوا هم اليهود الذين تابوا بعد عبادة العجل حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ هي التي في قوله تعالى: حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ.. [الأنعام ٦/ ١٤٦] الآية وَبِصَدِّهِمْ أي منعهم الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه كَثِيراً صدا كثيرا. وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ في التوراة وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشاوى في القضاء أَلِيماً مؤلما الرَّاسِخُونَ الثابتون في العلم المتقنون له وَالْمُؤْمِنُونَ المهاجرون والأنصار أَجْراً عَظِيماً هو الجنة.
المناسبة:
الآيات استمرار في الكلام عن اليهود، فبعد أن عدد الله تعالى قبائحهم وأفعالهم التي أدت إلى غضب الله، ذكر تعالى هنا نوع العقاب الذي عاقبهم الله به في الدنيا وهو تحريم بعض الطيبات، وفي الآخرة وهو العذاب المؤلم. أما المؤمنون الصالحون منهم فلهم الأجر العظيم وهو الجنة.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوا من الذنوب العظيمة، حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم لعلهم يرجعون، كما قال تعالى: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ
ثم إنه تعالى حرّم أشياء كثيرة في التوراة، كما قال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا، أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ [الأنعام ٦/ ١٤٦] أي إنما حرمنا عليهم ذلك لأنهم يستحقون التحريم بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه، ولذا قال: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي فبسبب ظلمهم، وصدهم الناس وصد أنفسهم عن اتباع الحق، وأمرهم بالمنكر، ونهيهم عن المعروف، وكتمانهم البشارة بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذه سجية لهم اتصفوا بها من قديم الدهر وحديثه، ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خلقا من الأنبياء، وكذبوا عيسى ومحمدا عليهما السلام.
وبسبب أخذهم الربا الذي نهاهم الله عنه على ألسنة أنبيائهم، فإنهم احتالوا عليه بأنواع الحيل، وأكلوا أموال الناس بالباطل بالرشوة والخيانة ونحوهما من غير مقابل، كما قال تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة ٥/ ٤٢] والسحت: الكسب الحرام.
وكان جزاؤهم الأخروي إعداد عذاب مؤلم لهم في نار جهنم ولكل كافر أمثالهم.
ويلاحظ أن تحريم الطيبات كان عاما، أما العذاب الأخروي فكان للمصرّين منهم على الكفر، الذين ماتوا عليه كافرين، لذا استدرك سبحانه فقال فيما معناه: أما الراسخون في العلم النافع الثابتون فيه المطلعون على حقائق الدين، الذين يؤمنون إيمانا صادقا بالله وبما أنزل إليك، وما أنزل على من قبلك من الرسل كموسى وعيسى، ولا يفرقون بين أحد منهم، والمؤمنون إيمانا حقيقيا
هؤلاء الموصوفون بما تقدم، سيؤتيهم ربهم أجرا عظيما هو الجنة، لا يدرك حقيقته إلا الله.
روى ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أن الآية لكِنِ الرَّاسِخُونَ.. أنزلت في عبد الله بن سلام، وأسيد بن سعية، وثعلبة بن سعية، وأسد بن عبيد حين فارقوا يهود وأسلموا، أي دخلوا في الإسلام وصدقوا بما أرسل الله به محمدا صلّى الله عليه وسلّم.
فقه الحياة أو الأحكام:
ذكر سبحانه وتعالى أسباب استحقاق اليهود العذاب الأليم في نار جهنم وتحريم بعض الطيبات في عالم الدنيا: وهي الظلم، وقدّم على التحريم إذ هو الذي قصد الإخبار عنه بأنه سبب التحريم، وصد أنفسهم وغيرهم عن اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأكل الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وهذا كله تفسير للظلم الذي تعاطوه، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وعبادة العجل وغير ذلك مما ذكر.
وهذا يؤيد مذهب الجمهور غير الحنفية القائلين بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، قال ابن العربي «١» : لا خلاف في مذهب مالك في أن الكفار مخاطبون
فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز، وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد.
والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم، واقتحامهم ما حرّم الله سبحانه عليهم، فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة، قال الله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة ٥/ ٥] وهذا نص في مخاطبتهم بفروع الشريعة، وقد عامل النبي صلّى الله عليه وسلّم اليهود، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله.
ثم استثنى مؤمني أهل الكتاب لأن اليهود أنكروا وقالوا: إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلّها، ولم تكن حرّمت بظلمنا، فنزل: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ والراسخ: هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه.
هؤلاء المؤمنون من الكتابيين مثل عبد الله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما والمؤمنون من المهاجرين والأنصار أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، ومقيمو الصلاة، ومؤدو الزكاة، سيعطيهم الله ثوابا عظيما لا يقدر وصفه إلا الله وهو الجنة.
وأشارت الآيات إلى أن أنواع الذنوب محصورة في نوعين: الظلم للخلق، والإعراض عن الدين الحق، أما ظلم الخلق فإليه الإشارة بقوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ
وأما الإعراض عن الدين الحق، فإليه الإشارة بقوله: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً.
ومظاهر الظلم كثيرة وهي أكل الربا، وأخذ أموال الناس بالباطل بطريق الرشوة والاحتيال والغش ونحوها، وسماع الكذب، وأكل السحت، وهذه الذنوب الأربعة هي الموجبة لتشديد العقاب عليهم في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فهو تحريم الطيبات عليهم، وأما في الآخرة فهو العذاب المؤلم في نار جهنم.
وحدة الوحي للرسل وحكمة إرسالهم
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٦]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦)
الإعراب:
تَكْلِيماً مصدر كلّم، وفي ذكر هذا المصدر تأكيد للفعل ودليل على أنه كلمه حقيقة لا مجازا لأن الفعل المجازي لا يؤكد بالمصدر.
رُسُلًا منصوب من ثلاثة أوجه: إما منصوب على المدح بفعل مقدر وتقديره: وأمدح رسلا مبشرين. أو منصوب على البدل من قوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ أو منصوب على
واللام في لِئَلَّا متعلق إما بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وإما بفعل مقدر يشار به إلى جميع ما تقدم، وتقديره: فعلنا ذلك لئلا يكون للناس.
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الباء للحال، أي: أنزله معلوما، كما تقول: خرج زيد بسلاحه، أي خرج متسلحا.
البلاغة:
كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ تخصيصه بالذكر للتشريف، وقوله: وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ لإظهار فضلهم، والتشبيه مرسل مفصل.
يَشْهَدُونَ.. وشَهِيداً جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي أنزلنا إليك كتابا بواسطة جبريل عليه السلام، والوحي: إعلام في خفاء «١». وقال الزجاج: الإيحاء: الاعلام على سبيل الخفاء. ويأتي في اللغة على معان منها:
١- الإشارة: مثل قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم ١٩/ ١١] أي أشار إليهم.
٢- الإلهام: مثل قوله تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي [المائدة ٥/ ١١١] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص ٢٨/ ٧].
٣- الإلهام غريزة: مثل قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [النحل ١٦/ ٦٨].
٤- الاعلام في خفاء: مثل قوله تعالى: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً «٢» [الأنعام ٦/ ١١٢].
الْأَسْباطِ جمع سبط: وهو ولد الولد، والمراد بالأسباط هنا: أولاد يعقوب لصلبه أو أولاد أولاده.
(٢) تفسير الألوسي: ٨/ ٥
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ روي أنه تعالى بعث ثمانية آلاف نبي، أربعة آلاف من إسرائيل، وأربعة آلاف من سائر الناس.
مُبَشِّرِينَ بالثواب من آمن وَمُنْذِرِينَ بالعقاب من كفر.
وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً في ملكه لا يغلب حَكِيماً في صنعه.
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ يبين نبوتك بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ من القرآن المعجز أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي عالما به أو وفيه علمه.
سبب النزول:
نزول الآية (١٦٣) :
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ: روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: قال عدي بن زيد: ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء من بعد موسى، فأنزل الله هذه الآية.
فهي قد نزلت في قوم من اليهود- منهم سكين وعديّ بن زيد- قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى، فكذبهم الله.
نزول الآية (١٦٦) :
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ:
روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال: دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم: إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله، فقالوا: ما نعلم ذلك، فأنزل الله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ...
المناسبة:
تستمر الآيات في مناقشة أهل الكتاب وبيان ألوان عنادهم، فهم كما سبق لا يؤمنون بكل الرسل، ويتطلبون أشياء صعبة من الرسل، سواء من موسى أو
التفسير والبيان:
ذكر الله تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم، كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين، فهو ليس بدعا من الرسل، ولو آمنوا بالرسل حقيقة لآمنوا بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، فالوحي جنس واحد لم يتغير، وفي كتبهم البشارة به ووصفه.
والوحي: إعلام من الله نبيا أو رسولا كلاما أو معنى بطريقة تفيده العلم اليقيني القاطع بما أعلمه الله به. أو هو كما قال الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد: عرفان يجده الشخص من نفسه، مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة.
ونموذج الوحي واحد: إلى نوح وبدأ به لأنه أقدم الأنبياء وأول نبي شرعت على لسانه الشرائع، ثم إلى من بعده من النبيين: وهم إبراهيم أبو الأنبياء وخليل الله، وإسماعيل ابنه الأكبر وأبو العرب وجد المصطفى عليه الصلاة والسلام ومات بمكة، وإسحاق وهو ابن إبراهيم وأبو يعقوب المسمى إسرائيل، وإليه تنسب اليهود ومات بالشام، ثم لوط وإبراهيم عمه، ثم يعقوب، ثم الأسباط أولاد يعقوب العشرة، وحفيداه ابنا يوسف، فيصبح مجموعهم اثني عشر سبطا، والأسباط في بني إسرائيل من نسل إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل. ثم إلى موسى وهارون وأيوب وداود وسليمان بن داود ويونس، وقدم عيسى ابن مريم على هؤلاء لأن اليهود طعنوا به، والواو لا تقتضي الترتيب، وخص هؤلاء الأنبياء بالذكر لشرفهم وكرامتهم على الله.
وأرسلناك يا محمد كما أرسلنا رسلا غير هؤلاء، منهم من قصصنا عليك قبل تنزيل هذه السورة، ذكروا في السور المكية، كما قال تعالى في سورة الأنعام عن إبراهيم: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ [٦/ ٨٤- ٨٦].
ومجموع الأنبياء الذين نص القرآن على أسمائهم خمسة وعشرون، وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد صلّى الله عليه وسلّم. وأجمع السور لقصص الأنبياء: هود والشعراء.
وهناك رسل آخرون لم نقصصهم عليك، لم يذكروا في القرآن لأن أممهم مجهولة، وفي ذكر غيرهم فائدة أجدى، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل ١٦/ ٣٦] وقال تعالى أيضا:
وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر ٣٥/ ٢٤].
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ، ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى..
[يوسف ١٢/ ١١١] وقال سبحانه أيضا: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود ١١/ ١٢٠].
والمشهور في عدد الأنبياء والمرسلين
حديث أبي ذر الطويل، وذلك فيما رواه ابن مردويه رحمه الله في تفسيره، حيث قال أبو ذر: قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا» قلت: يا رسول الله، كم الرسل منهم؟ قال: «ثلثمائة وثلاثة عشر، جمّ غفير» قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: «آدم» قلت: يا رسول الله، نبي مرسل؟ قال: نعم خلقه الله بيده، ثم نفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلا» ثم قال: «يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم، وشيث، ونوح، وأخنوخ وهو إدريس، وهو أول من خط بالقلم، وأربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر، وأول نبي من بني إسرائيل: موسى، وآخرهم عيسى، وأول النبيين: آدم وآخرهم نبيك» ورواه أيضا أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه (الأنواع والتقاسيم) وقد وسمه بالصحة «١».
ثم ذكر الله تعالى مزية لموسى عليه السلام وهي أنه كليم الله خصه الله بهذه المزية لأن قومه هم المقصودون بالحديث: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً أي تكليما صحيحا حقيقيا بلا واسطة، والتكليم للأنبياء يسمى وحيا، كما قال تعالى:
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى ٤٢/ ٥١] والحكمة في الحجاب:
توجيه الاهتمام والانتباه إلى شيء واحد، والرسول الذي يوحي بإذن الله ما يشاء:
ثم ذكر تعالى الحكمة من إرسال الرسل وهي إقامة الحجة على الناس، وتبيان طريق الهداية الأسلم إذ لو لم يرسلوا لاحتج البشر بجهلهم ما يجب عليهم من الإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا: رَبَّناأَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه ٢٠/ ١٣٤] وقال عز وجل: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ١٥] فكان إرسال الرسل وإنزال الكتب لئلا يبقى لمعتذر عذر.
ومهمة الرسل: أنهم يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب.
وكان الله عزيزا لا يغلبه أحد، حكيما في صنعه وجميع أفعاله، فلا يبقى لأحد اعتراض.
ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين» وفي لفظ آخر: «من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه».
ولما تضمنت الآية المتقدمة: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إثبات نبوته صلّى الله عليه وسلّم، والرد على من أنكر ذلك من المشركين وأهل الكتاب، قال الله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ فهو استدراك لما علم من السياق من إنكار اليهود والمشركين وغيرهم نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعدم شهادتهم برسالته، ومضمونه أن الله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العظيم، الذي لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ
[فصلت ٤١/ ٤٢] وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك.
ثم أكد تعالى شهادته بقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان، وما يحبه الله ويرضاه، وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا أن يعلمه الله به، كما قال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة ٢/ ٢٥٥].
والملائكة يشهدون بذلك أيضا، أي بصدق ما جاءك وأوحي إليك، وأنزل عليك، مع شهادة الله تعالى بذلك وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ما شهد به لك، حيث أقام الدليل، وأوضح السبيل، فشهادته أصدق وأوقع: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام ٦/ ١٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أن الوحي جنس واحد، فمن آمن بالنبوات أو آمن بنبي، وجب عليه الإيمان بباقي الأنبياء.
وأول الأنبياء الذي أتى بتشريع هو نوح، وقيل: إدريس أول نبي بعثه الله في الأرض، ثم انقطعت الرسل، حتى بعث الله نوحا، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم، ثم إسحاق بن إبراهيم، ثم لوط ابن أخي إبراهيم، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق، ثم يوسف بن يعقوب، ثم شعيب بن يوبب، ثم هود بن عبد الله، ثم صالح بن أسف، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم أيوب، ثم الخضر وهو خضرون، ثم
وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف وسبعمائة سنة، وليسا من سبط واحد.
وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلّى الله عليه وسلّم وشرفه، حيث قدمه في الذكر بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ على بقية الأنبياء.
والكتب المنزلة على الأنبياء أربعة هي: زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وقرآن محمد عليهم السلام. وموسى هو كليم الله.
والأنبياء آلاف كثيرة والرسل مئات كما سبق، منهم من ذكر اسمه وقصته في القرآن وهم خمسة وعشرون نبيا، ومنهم من لم يذكر.
ومهمة الرسل التبشير والإنذار، والحكمة من إرسالهم هداية الناس إلى الحق والخير والصراط المستقيم.
والله تعالى وملائكته شهدوا بصدق رسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، والله يعلم أنه أهل لإنزال القرآن عليه، ودلت الآية: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ على أنه تعالى عالم بكل علم، وكفى الله شاهدا.
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٦٧ الى ١٧٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (١٦٩) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠)
الإعراب:
خالِدِينَ فِيها منصوب على الحال، والعامل فيها: يهديهم، ومعناه: ما يهديهم إلا طريق جهنم في حال خلودهم. بِالْحَقِّ أي مصحوبا بالحق وهو القرآن، وقيل: الباء للتعدية، أي جاءكم ومعه الحق فهو في موضع الحال.
فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ. خيرا: إما منصوب بفعل مقدر دل عليه فَآمِنُوا فهو يدل على إخراجهم من أمر وإدخالهم فيما هو خير لهم، فكأنه قال: ائتوا خيرا لكم. وكذلك قوله تعالى فيما بعد: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ أو منصوب لأنه صفة لمصدر محذوف وتقديره: فآمنوا إيمانا خيرا لكم أو منصوب لأنه خبر (يكن) المقدرة، وتقديره: فآمنوا يكن خيرا لكم.
المفردات اللغوية:
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي منعوهم من دين الإسلام بكتمهم نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهم اليهود قَدْ ضَلُّوا لم يهتدوا إلى الحق كَفَرُوا بالله وَظَلَمُوا نبيه بكتمان نعته إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ أي الطريق المؤدي إليها يَسِيراً هينا يا أَيُّهَا النَّاسُ أي أهل مكة قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ محمد صلّى الله عليه وسلّم خَيْراً لَكُمْ أي آمنوا به واقصدوا خيرا لكم مما أنتم فيه فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا، فلا يضره كفركم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بخلقه حَكِيماً في صنعه بهم.
أثبت الحق تعالى في الآيات السابقة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم بشهادته له بما أنزل عليه، ثم أنذر في هذه الآيات من يكفر به، وقد ذكر فيها صفات اليهود الذين تقدم ذكرهم، وهي أنهم كفروا بمحمد وبالقرآن، وصدوا غيرهم عن سبيل الله.
التفسير والبيان:
إن الذين كفروا بالله وبرسوله وبالقرآن، وصدوا غيرهم عن دين الإسلام واتباع النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والاقتداء به، بإلقاء الشبهات في قلوبهم، نحو قولهم: لو كان رسولا لأتى بكتابه دفعة واحدة من السماء، كما نزلت التوراة على موسى، وقولهم: إن الله تعالى ذكر في التوراة أن شريعة موسى لا تبدل ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وقولهم: إن الأنبياء لا يكونون إلا من ولد هارون وداود.. هؤلاء وهم اليهود قد ضلوا ضلالا بعيدا أي خرجوا عن الحق والصواب وبعدوا عنه بعدا عظيما شاسعا.
ثم أعلن الله تعالى حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله، الظالمين لأنفسهم بذلك وبالصد عن سبيله وارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه، وهو أنه لا يغفر لهم، ولا يهديهم طريقا إلى الخير، ولا يوفقهم بعدئذ إلى صواب، وليس من شأنه أن يوصلهم إلا إلى الجزاء على أعمالهم وهو طريق جهنم. وقوله: إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ استثناء منقطع، فهي طريق الكافرين الظالمين.
ومصيرهم في جهنم هو الخلود فيها، أي البقاء فيها على حال واحدة لا تغيير فيها ولا فناء، وهو خلود أبدي، والأبد: الزمن الممتد، والله أعلم باستمراره بما يتناسب مع أعمالهم، وكان ذلك الجزاء سهلا على الله دون غيره لأنه القادر على كل شيء، الواحد القهار، يفعل بما تقتضيه الحكمة والعدل. وفي هذا تحقير لشأنهم.
فهذا الرسول قد جاءكم بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله عز وجل، فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه، يكن الإيمان خيرا لكم لأنه يزكيكم ويطهركم من الأدناس والأرجاس، ويرشدكم لما فيه السعادة في الدنيا والآخرة، والحق الذي أتى به من ربه: هو القرآن المعجز، والدعوة إلى عبادة الله والإعراض عن غيره.
ثم هدد الحق تعالى وأنذر أنه إن تكفروا فإن الله غني عنكم وعن إيمانكم وقادر على عقابكم، ولا يتضرر بكفرانكم، فإن له جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، أي جميع ما في الكون مملوك لله، وهو الذي خلقهم، وكلهم عبيد له خاضعون لحكمه، كما قال تعالى: وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم ١٤/ ٨] وقال هاهنا: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بمن يستحق منكم الهداية فيهديه، وبمن يستحق الغواية فيغويه ولا يخفى عليه شيء من أعمال عباده حَكِيماً في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، ولا يضيع عمل عامل منهم، ولا يسوي بين المؤمن والكافر والمسيء والمحسن، لقوله تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص ٣٨/ ٢٨].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- اليهود وغيرهم ممن كفر بالإسلام بعيدون عن الحق والصواب جدا لأنهم كفروا بالله وبرسوله وبالقرآن، ومع ذلك منعوا الناس من الإسلام.
٣- دعوة الإسلام هي دعوة الحق من الله، فهي الدين الحق المشتملة على شهادة أن لا إله إلا الله، المؤيدة بالقرآن المعجز، الداعية إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإعراض عما سواه، والعقل يدل على أن هذا هو الحق، مما يدل على أن محمدا جاء بالحق من ربه.
المسيح عيسى ابن مريم في القرآن
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧١ الى ١٧٣]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)
وَلا تَقُولُوا: ثَلاثَةٌ: ثلاثة: خبر مبتدأ محذوف، وتقديره: ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثة.
سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ أن المصدرية وصلتها: في موضع نصب لحذف حرف الجر وتقديره:
سبحانه عن أن يكون له والد، ومن أن يكون له ولد. وكذلك قوله تعالى: نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: من أن يكون عبدا لله.
البلاغة:
يا أَهْلَ الْكِتابِ أطلق العام وأريد به الخاص وهم النصارى بدليل قوله بعده: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ وهو قول النصارى.
إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ فيه قصر موصوف على صفة.
وَرُوحٌ مِنْهُ: نْ
: كما تأتي للتبعيض تأتي لابتداء الغاية، كما هنا، مثل قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية ٤٥/ ١٣].
المفردات اللغوية:
يا أَهْلَ الْكِتابِ أي الإنجيل والمراد بهم هنا النصارى لا تَغْلُوا لا تتجاوزوا الحد بالتفريط أو الإفراط إِلَّا الْحَقَّ أي إلا القول الحق من تنزيهه عن الشريك والولد وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ المراد أنه حدث بكلمة لكِنْ التكوينية، لا بمادة أخرى كغيره من الناس، وأوصلها الله إلى مريم. وَرُوحٌ مِنْهُ أي ذو روح من الله تعالى أي وجد بنفخ من روح الله وهو جبريل، وأضيف إليه تعالى تشريفا له، وليس كما زعمتم: ابن الله، أو إلها معه، أو ثالث ثلاثة لأن ذا الروح مركب، والإله منزه عن التركيب وعن نسبة المركب إليه. وَلا تَقُولُوا: ثَلاثَةٌ أي ولا تقولوا: الآلهة ثلاثة: الله وعيسى وأمه انْتَهُوا عن ذلك خَيْراً وأتوا خيرا لكم منه وهو التوحيد سُبْحانَهُ تنزيها له عن الولد. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وعبيدا، والملكية تنافي البنوة. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا شهيدا على ذلك.
ْ يَسْتَنْكِفَ
يتكبر ويأنف يَسْتَكْبِرْ
يجعل نفسه كبيرة غرورا منه وإعجابا بها فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ثواب أعمالهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يزيدهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت
المناسبة:
لما أجاب تعالى عن شبهات اليهود وألزمهم الطريق الأقوم، أردف ذلك بمحاجة النصارى، وألزمهم الرأي الحق في عيسى ابن مريم.
التفسير والبيان:
ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء، فإن النصارى تجاوزوا الحد في عيسى حتى ألّهوه، فنقلوه من منزلة النبوة إلى اتخاذه إلها من دون الله، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه، فادعوا فيهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه، سواء كان حقا أو باطلا. وكذلك اليهود غلوا في تحقير عيسى وإهانته وكفروا به. والمطلوب هو التوسط بين الأمرين، فلا إفراط بتعظيم عيسى وتقديسه، ولا تفريط بتحقيره.
يا أهل الكتاب لا تتجاوزوا حدود الله بالزيادة أو النقص في الدين، ولا تعتقدوا إلا بالحق الثابت بنص ديني متواتر أو برهان عقلي قاطع، وإياكم ما زعمتم من دعوى الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد، ولا تكفروا بعيسى وتبهتوا أمه، وتحتقروه وتهينوه، كما فعلت اليهود، ولا تتغالوا في تعظيم عيسى وتقديسه، حتى تجعلوه إلها أو ابن الله، كما زعمت النصارى.
إنما المسيح عيسى ابن مريم البتول الطاهرة القديسة، رسول الله إلى بني إسرائيل، أمرهم بأن يعبدوا الله وحده لا شريك له، ونهاهم عن الشرك والتثليث، وحثهم على التقوى، وزهّدهم في الدنيا، وبشرهم بخاتم النبيين والمرسلين، كما حكى القرآن عنه: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف ٦١/ ٦].
وهو مؤيد أيضا بروح كائنة من الله تعالى، لا جزءا ولا بعضا منه، كما فهم المسيحيون، وإلا لكان كل بشر مخلوق بنفخ الروح من الله من طريق الملك بعضا من الله: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ أي من الله [الجاثية ٤٥/ ١٣]. وتأييده بالروح الأمين ثابت بقوله تعالى: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة ٢/ ٨٧، ٢٥٣] ووصف الله المؤمنين أيضا بتأييدهم بروح من الله فقال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة ٥٨/ ٢٢].
قال مجاهد: رُوحٌ مِنْهُ أي ورسول منه، أي أنه مخلوق من روح مخلوقة. وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف ٧/ ٧٣] وفي قوله: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج ٢٢/ ٢٦]
وكما روي في الحديث الصحيح: «فأدخل على ربي في داره»
أضافها إليه إضافة تشريف، وهذا كله من قبيل واحد، ونمط واحد.
وإذا كان الخلق الحقيقي لله تعالى لعيسى وغيره، فآمنوا بالله الواحد الأحد، وصدقوا بأن الله واحد أحد، لا ولد له ولا صاحبة، واعلموا وتيقنوا بأن
انْتَهُوا أيها النصارى عن القول بالتثليث، وقولوا قولا آخر يكن خيرا لكم منه وهو التوحيد الخالص الذي دعا إليه جميع الأنبياء والمرسلين ومنهم عيسى.
إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ بالذات، منزه عن التعدد، ليس له أجزاء أو أقانيم، ولا هو مركب من أجزاء، سبحانه، أي أنه منزه عن أن يكون له ولد أو شريك، كما قلتم في المسيح: إنه ابنه أو هو عينه، فإن أردتم الابن الحقيقي فهذا محال على الله تعالى لأنه يقتضي كونه أبا أو زوجا، وإن أردتم الابن المجازي فلا يختص ذلك بعيسى.
ليس لله ولد حقيقة، بل له كل ما في السموات وما في الأرض، أي الجميع ملكه وخلقه وجميع ما فيهما عبيده، وهم تحت تدبيره وتصريفه، وهو وكيل على كل شيء، والمسيح من جملة مخلوقاته، فكيف يكون له منهم صاحبة وولد لأن الملكية تنافي البنوة، كما قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا
[مريم ١٩/ ٩٣] وقال: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [الأنعام ٦/ ١٠١].
وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي شهيدا على ذلك، وقال الرازي: والمعنى أن الله سبحانه كاف في تدبير المخلوقات، وفي حفظ المحدثات، فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر «١».
ْ يَسْتَنْكِفَ
، أي لن يتكبر أو يأنف المسيح عن عبادة الله وحده، أو عن أن يكون عبدا لله، لعلمه بعظمة الله وما يستحقه من العبودية والشكر، وكذلك الملائكة المقربون لن يترفعوا عن أن يكون أحدهم عبدا لله.
ومن يستنكف أو يترفع عن عبادته تعالى وحده، ويدعي الإشراك أو التثليث، فسيحشرهم إليه جميعا للجزاء، ويجازيهم ويحاسبهم على أعمالهم، أي فيجمعهم إليه يوم القيامة، ويفصل بينهم بحكمه العدل الذي لا جور فيه ولا حيف.
فأما المؤمنون بالله الذين يعملون الأعمال الصالحة، فيعطيهم أجورهم وثواب أعمالهم كاملة غير منقوصة، أي يعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة، ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه.
وأما الذين استنكفوا وتكبروا أي امتنعوا من طاعة الله وعبادته فيعذبهم عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة حسبما يستحقون، ولا يجدون لهم من غير الله تعالى وليا يلي أمورهم ويدبر مصالحهم، ولا مناصرا ينصرهم من بأس الله ويرفع عنهم العذاب، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر ٤٠/ ٦٠] أي صاغرين حقيرين ذليلين، كما كانوا ممتنعين مستكبرين.
في الآيات دلالات على أحكام جوهرية في العقيدة هي:
١- التغالي في الأمور ممنوع شرعا، فقد تغالى اليهود في عيسى حتى قذفوا مريم، وتغالى النصارى فيه حتى جعلوه ربا، وأول عبارة في الإنجيل هي:
«هذا كتاب إلهنا وربنا يسوع المسيح» فالإفراط والتقصير كله سيئة وكفر، ولذا
ورد في صحيح البخاري عنه عليه الصلاة والسلام: «لا تطروني «١» كما أطرت النصارى عيسى، وقولوا: عبد الله ورسوله».
٢- قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ فيه إشارة إلى ثلاثة أحكام:
الأول- قوله: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ دل على أن من كان منسوبا بوالدته كيف يكون إلها، وحق الإله أن يكون قديما لا محدثا.
الثاني- لم يذكر الله عزّ وجلّ امرأة وسمّاها باسمها في كتابه إلا مريم ابنة عمران، فإنه ذكر اسمها في نحو من ثلاثين موضعا لحكمة: هي ترسيخ صفة العبودية لها، ومجاراة عادة العرب في ذكر الإماء بأسمائهن، أما الحرائر فكانوا يصونون أسماءهنّ عن الذكر والتصريح بها، لئلا تبتذل أسماؤهنّ.
الثالث- اعتقاد أن عيسى عليه السلام لا أب له واجب، فإذا تكرر اسمه منسوبا للأم استشعرت القلوب نفي الأب عنه، وتنزيه الأم الطاهرة عن مقالة اليهود وقذفهم لها بالزنى.
٣- كان لعيسى أربعة أسماء: المسيح، وعيسى، وكلمة، وروح. والمراد بالكلمة: أنه وجد بكلمة لكِنْ التكوينية، فكان بشرا من غير أب. والمراد
وقد وقع النصارى في الخطأ والضلال حينما قالوا: عيسى جزء من الله لأنه روح من الله.
٤- الإيمان بأن الله إله واحد خالق المسيح ومرسلة، وبأن الرّسل ومنهم عيسى عبيد لله: هو الواجب الذي لا محيد عنه، وهو الحق الذي تقبله العقول الرشيدة، فلا يصح جعل عيسى إلها.
٥- يحرم القول بتعدد الآلهة أو بأن الآلهة ثلاثة، قال ابن عباس: يريد بالتثليث: الله تعالى وصاحبته وابنه. والنصارى مجمعون على التثليث ويقولون: إن الله جوهر واحد، وله ثلاثة أقانيم، فيجعلون كلّ أقنوم إلها، ويعنون بالأقانيم: الوجود والحياة والعلم. والسائد أنهم يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس، فيعنون بالأب: الوجود، وبالروح: الحياة، وبالابن:
المسيح. ومحصول كلامهم كما تقدّم يؤول إلى القول بأن عيسى إله، بسبب ما كان يظهر على يديه من المعجزات وخوارق العادات، وذلك خارج عن مقدور البشر، فيكون المقتدر عليها متصفا بالألوهية.
وليس أدلّ على إسقاط صفة الألوهية عنه: أنه لو كان إلها لخلص نفسه من أعدائه، ودفع شرّهم، ولم يمكّنهم من صلبه، كما يزعمون.
٦- الانتهاء عن القول بالتثليث هو الخير المحض، وهو الصواب لأن الله إله واحد، منزّه عن أن يكون له ولد، بل له ما في السموات وما في الأرض، والملكية
٧- لن يترفع المسيح ولن يأنف ولن يحتشم من أن يكون عبدا لله، وكذلك الملائكة المقرّبون من رحمة الله ورضاه لن يترفعوا عن عبوديتهم لله.
ومن يأنف عن عبادة الله ويستكبر فلا يلتزم بفعل العبادة أو الطاعة، فإن الله سيجمع الخلائق إلى المحشر، ويجازي كلّا بما يستحق.
فالمؤمنون العاملون الصالحات لهم ثواب أعمالهم كاملا غير منقوص، ويزيدهم الله من فضله ورحمته وإحسانه. والمستنكفون المتكبرون يعذبون عذابا مؤلما، دون أن يجدوا لهم وليّا يلي أمورهم، أو نصيرا ينصرهم.
٨- استدلّ بعضهم بقوله: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
على تفضيل الملائكة على البشر، وأنهم أعظم من المسيح خلقا وأفعالا. وردّ عليهم بأن الآية في معرض تفضيل الملائكة في عظم الخلق والقدرة على الأعمال العظيمة، فهم أقدر على الامتناع من عبادة الله من المسيح، ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل.
دعوة الناس إلى الإيمان بالنور المبين (القرآن)
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧٤ الى ١٧٥]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥)
وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً: صراطا: إما منصوب بتقدير فعل، وتقديره: يعرفهم صراطا، ودل يَهْدِيهِمْ على المحذوف أو منصوب على أنه مفعول ثان ليهدي، وتقديره:
ويهديهم صراطا مستقيما إلى ثوابه.
المفردات اللغوية:
بُرْهانٌ حجة من ربكم عليكم، وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم نُوراً مُبِيناً وهو القرآن صِراطاً طريقا مُسْتَقِيماً سويا وهو دين الإسلام.
المناسبة:
أقامت الآيات السابقة الحجة على المنافقين والمشركين واليهود والنصارى، وأثبتت نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فكان ذلك مقدمة لهاتين الآيتين اللتين وجهت فيهما الدعوة إلى الناس كافة لاتباع دعوة الإسلام.
التفسير والبيان:
يا أيها الناس، قد جاءكم برهان ساطع ودليل قاطع من ربكم، يبين لكم حقيقة الإيمان بالله وأنظمة المجتمع الصالحة لحياة أفضل، وهو النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم، النبي العربي الأمي الأمين، الذي نشأ بينكم في الجاهلية، ولكنه لم يتلوث بمفاسدها وأدرانها، وإنما تعهده ربه بالتربية والعناية والإعداد لحمل الرسالة، فكان المثل الأعلى في سلوكه وخلقه وسيرته وقيادته، وكان برهانا عمليا عظيما على صدق رسالته: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام ٦/ ١٢٤].
وأنزلنا إليكم مع هذا البرهان نورا مبينا أي ضياء واضحا على الحق، وهو القرآن الكريم الذي جاء لتصحيح العقيدة والنظام، فقرر التوحيد الخالص، وحارب الوثنية والشرك، وأبان زيف اليهودية والنصرانية المحرفة الحالية،
وترتب عليه أن الذين آمنوا بالله، وتمسكوا واعتصموا بالقرآن أو الإسلام، واتبعوا نوره، فيدخلهم الله في رحمته، ويعمهم بفضله في الدنيا والآخرة، أي يرحمهم فيدخلهم الجنة ويزيدهم ثوابا ورفعا بالقرآن، قال ابن عباس: الرحمة:
الجنة، والفضل: ما يتفضل به عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر «١».
ويهديهم طريقا قويما يوصلهم إلى إحراز السعادة في الدنيا بالعزة والكرامة واتباع طريق السلامة في الاعتقاد والعمل، وفي الآخرة بالجنة والرضوان، أي يوفقهم إلى ذلك، ولا توفيق ولا هداية خاصة بغير الاعتصام بالقرآن المجيد واتباع سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب مرفوعا: «القرآن: صراط الله المستقيم، وحبل الله المتين».
فقه الحياة أو الأحكام:
البرهان العظيم من الله لعباده هو محمد صلّى الله عليه وسلّم، وسمي برهانا لأن معه البرهان وهو المعجزة أو الحجة، فإن المعجزات حجته صلّى الله عليه وسلّم.
والنور المبين: هو القرآن الكريم، وسمي نورا لأن به تتبين الأحكام، ويهتدى به من الضلالة، فهو نور مبين أي واضح بيّن.
فمن آمن بالله واعتصم بالقرآن عن معاصيه، والعصمة: الامتناع، فاز بالجنة
ودل قوله تعالى: وَفَضْلٍ على أنه تعالى يتفضل على عباده بثوابه من غير مقابل إذ لو كان في مقابلة العمل لما كان فضلا.
قال الرازي: الرحمة والفضل محمولان على ما في الجنة من المنفعة والتعظيم، وأما الهداية فالمراد منها السعادات الحاصلة بتجلي أنوار عالم القدس والكبرياء في الأرواح البشرية، وهذا هو السعادة الروحانية. وأخر ذكرها عن القسمين الأولين تنبيها على أن البهجة الروحانية أشرف من اللذات الجسمانية «١».
والهداية في القرآن نوعان: هداية عامة وهداية خاصة.
أما الهداية العامة: فهي كما في قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:
٩٠/ ١٠] أي طريقي السعادة والشقاوة، والخير والشر، وهذه تشمل هداية الحواس الظاهرة والباطنة، وهداية العقل، وهداية الدين.
وأما الهداية الخاصة: فهي مثل: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ، فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام ٦/ ٩٠] ومثل اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة ١/ ٦]. هذه الهداية ليست الدلالة العامة كما سبق، وإنما هي الإعانة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة مع الدلالة. ولما كان الإنسان عرضة للخطأ والضلال في فهم الدين وفي استعمال الحواس والعقل، كان محتاجا إلى المعونة الخاصة، فأمرنا الله بطلبها منه في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.
[سورة النساء (٤) : آية ١٧٦]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
الإعراب:
لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ محله الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد. فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ: إنما قال: اثْنَتَيْنِ ولم يقتصر على قوله: كانَتَا لأنها تفيد التثنية العددية لوجهين:
أحدهما- أنه لو اقتصر على قوله: كانتا ولم يقل اثنتين لاحتمل أن يريد بهما الصغيرتين أو الكبيرتين، فلما قال: اثنتين أفاد العدد مجردا عن الصغر والكبر، فكأنه قال: فإن كانتا صغيرتين أو كبيرتين، فقام اثْنَتَيْنِ مقام هذين الوصفين.
والثاني- أن يكون محمولا على المعنى، وتقديره: فإن كان ممّن يرث اثنتين، فبنى الضمير على معنى (من) وهذا قول الأخفش، والوجه الأول أوجه.
أَنْ تَضِلُّوا تقديره: كراهة أن تضلوا، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه وهو مفعول لأجله. وقيل: تقديره: لئلا تضلوا، فحذف (اللام ولا) من الكلام لأن فيما أبقى دليلا على ما ألقى. والوجه الأول أوجه.
المفردات اللغوية:
الْكَلالَةِ: من لا والد له ولا ولد، والآية في ميراث الإخوة والأخوات من الميت الكلالة هَلَكَ: مات أَنْ تَضِلُّوا ألا تضلوا.
روى النسائي عن جابر قال: اشتكيت، فدخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا رسول الله، أوصي لأخواتي بالثلث؟ قال: أحسن، قلت:
بالشطر؟ قال: أحسن، ثم خرج، ثم دخل علي، قال: لا أراك تموت في وجعك هذا، إن الله أنزل وبيّن ما لأخواتك وهو الثلثان، فكان جابر يقول:
نزلت هذه الآية فيّ: يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.
قال الحافظ ابن حجر: هذه قصة أخرى لجابر غير التي تقدمت في أول السورة، أي في الآية (١١).
وفي رواية: اشتكيت فدخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندي سبع أخوات.
وأخرج ابن مردويه عن عمر أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، كيف يورث الكلالة؟
فأنزل الله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.
وروى أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن جابر بن عبد الله قال: «دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ، ثم صبّ علي فعقلت، فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الميراث، يريد هذه الآية».
وروى الشيخان عن البراء: أنها آخر آية نزلت، أي من الفرائض.
قال الخطابي: أنزل الله في الكلالة آيتين: إحداهما- في الشتاء وهي التي في أول سورة النساء، وفيها إجمال وإبهام لا يكاد يتبين المعنى من ظاهرها، ثم أنزل الآية الأخرى في الصيف، وهي التي في آخرها، وفيها من زيادة البيان ما ليس في آية الشتاء، فأحال السائل عليها ليتبين المراد بالكلالة المذكورة فيها. والآية الأولى تسمى آية الشتاء، والآية الثانية تسمى آية الصيف.
قال الرازي: اعلم أنه تعالى تكلم في أول السورة في أحكام الأموال، وختم آخرها بذلك، ليكون الآخر مشاكلا للأول، ووسط السورة مشتمل على المناظرة مع الفرق المخالفين للدين «١».
التفسير والبيان:
أجمع العلماء على أن هذه الآية في ميراث الإخوة من الأب والأم (الأشقاء) أو من الأب. وأما الإخوة والأخوات لأم ففيهم نزلت الآية السابقة في صدر السورة وهي: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ، وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [١٢].
روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال في خطبة له: ألا إن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض، فأولها- في الولد والوالد، وثانيها- في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم، أو من الأب. والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام «٢».
يطلب منك أيها النبي الفتيا فيمن يورث كلالة، كجابر بن عبد الله، ليس له والد ولا ولد، وله أخوات من العصبة، لم يفرض لهم شيء من التركة قبل، وإنما فرض للإخوة لأم: السدس للواحد، والثلث لاثنين فأكثر.
والكلالة: مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه. وهي اسم يقع على الوارث وعلى الموروث، فإن وقع على الوارث: فهو من سوى الوالد
(٢) المرجع السابق: ١١/ ١٢١ [.....]
فهو الذي مات ولا يرثه أحد الوالدين ولا أحد من الأولاد.
إن هلك امرؤ غير ذي ولد، وله أخت شقيقة أو لأب، فلها نصف التركة.
وقد أشكل حكم الكلالة على عمر فقال فيما ثبت في الصحيحين: «ثلاث وددت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه: الجد والكلالة وباب من أبواب الربا» أي ما أنزل أواخر سورة البقرة من آيات الربا. وأخرج ابن ماجه في سننه بلفظ: «الكلالة والربا والخلافة».
والمراد بالولد هنا: ما يشمل الذكر والأنثى لأن الكلام في الكلالة: وهو من ليس له ولد أصلا، لا ذكر ولا أنثى، وليس له والد أيضا. واقتصر على ذكر الولد لظهور الأمر.
والمقصود بالأخت هنا: الأخت الشقيقة أو لأب، أما الأخت لأم فقد بين الله حكمها في أول السورة بالإجماع كما تقدم.
وتستحق الأخت النصف إن كان للميت بنت، فإن كان له ابن فلا شيء لها، أما ظاهر الآية وهو أن الأخت تأخذ النصف عند عدم الولد (ذكرا أو أنثى) فليس مرادا. ويشترط أيضا لاستحقاقها النصف ألا يكون للميت والد، وظاهر الآية أنها تستحق النصف إذا لم يكن للميت ولد غير مراد أيضا لأن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع «١».
ثم قال تعالى: وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ يعني أن الأخ يرث تركة أخته جميعها بالتعصيب إذا لم يكن للأخت ولد ولا والد يحجبه عن الإرث.
والمقصود بالأخ هنا: الأخ الشقيق أو لأب، أما الأخ لأم فلا يستغرق الميراث، وإنما فرضه السدس.
وإن كان من يرث إخوة ذكورا وإناثا، فللذكر مثل حظ الأنثيين. أما الإخوة لأم فهم شركاء في الثلث.
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أمور دينكم وجميع الأحكام من حلال وحرام كراهة أن تضلوا، أو عند الكوفيين لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان في قسمة التركات وغيرها، وعلى التأويل الأول حذف المضاف عند البصريين وهو: كراهة أَنْ تَضِلُّوا كقوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف ١٢/ ٨٢] والتأويل الثاني
كحديث ابن عمر الثابت: «لا يدعونّ أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة» «١»
والمعنى: لئلا يوافق من الله إجابة.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي أن ما شرعه لكم من الأحكام فيه الخير والمصلحة لكم، وهو صادر عن علم واسع لله، فيكون بيانه حقا وتعريفه صدقا.
فقه الحياة أو الأحكام:
اشتملت الآية في ميراث الإخوة والأخوات من الميت الكلالة أربع حالات:
الأولى- أن يموت امرؤ وترثه أخت واحدة: فلها النصف فرضا، والباقي للعصبة إن كانوا، وإلا فيعود الباقي لها بالرد. وكذلك ترث الأخت من أختها النصف.
الثانية- العكس وهو أن تموت امرأة ويرثها أخ واحد، فله جميع التركة.
وكذلك يرث الأخ جميع تركة أخيه.
الرابعة- أن يكون ورثة الأخ أو الأخت عددا من الإخوة والأخوات، فللذكر مثل حظ الأنثيين. لكن إن اجتمع إخوة أشقاء وإخوة لأب، قدم الأشقاء لأن الإخوة لأب يحجبون بالإخوة الأشقاء.
أما إذا كان إخوة الميت الكلالة عددا من الإخوة الذكور فإنهم يرثون جميع التركة.
وجمهور الصحابة والتابعين غير ابن عباس وداود الظاهري يجعلون الأخوات عصبة مع البنات، وإن لم يكن معهن أخ. أما ابن عباس وداود فلا يجعلون الأخوات عصبة مع البنات، لظاهر قول الله تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ، وَلَهُ أُخْتٌ، فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ولم يورثوا الأخت إلا إذا لم يكن للميت ولد، قالوا: ومعلوم أن الابنة من الولد، فوجب ألا ترث الأخت مع وجودها.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدةمدنية وهي مائة وعشرون آية، وهي السورة الخامسة من القرآن الكريم.
تسميتها:
تسمى هذه السورة سورة المائدة لاشتمالها على قصة نزول المائدة من السماء بعد أن طلبها الحواريون من عيسى عليه السلام، لتدل على صدق نبوته، وتكون لهم عيدا. وتسمى أيضا سورة العقود، وسورة المنقذة،
قال صلّى الله عليه وسلّم: «سورة المائدة تدعى في ملكوت الله: المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب».
تاريخ نزولها:
هي سورة مدنية نزلت بعد الهجرة ولو في مكة بعد الانصراف من الحديبية، وثبت في الصحيحين عن عمر: «أن قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نزلت عشية عرفة، يوم الجمعة، عام حجة الوداع».
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال: «يا أيها الناس، إن سورة المائدة آخر ما نزل، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها»
وروى أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي عن عبد الله بن عمر قال: «آخر سورة نزلت:
المائدة والفتح» وروى أحمد والنسائي والحاكم وصححه، والبيهقي عن عائشة قالت: المائدة آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه».
هناك أوجه تشابه بينها وبين سورة النساء، لاشتمال كل منهما على عدة عهود وعقود وأحكام ومناقشة أهل الكتاب والمشركين والمنافقين، ففي سورة النساء الكلام على عقود الزواج والأمان والحلف والمعاهدة، والوصايا والودائع والوكالات والإجارات، وابتدأت سورة المائدة بالأمر بالوفاء بالعقود. ومهدت سورة النساء لتحريم الخمر، وحرمتها سورة المائدة بنحو قاطع، وتضمنت السورتان مناقشة أهل الكتاب والمشركين والمنافقين في عقائدهم ومواقفهم من الرسالة المحمدية.
ما اشتملت عليه:
اشتملت سورة المائدة على أحكام تشريعية وثلاث قصص. أما الأحكام:
فهي بيان أحكام العقود ونكاح الكتابيات والوصية عند الموت، والمطعومات من ذبائح وصيود، وصيد الإحرام وجزائه، والطهارة من وضوء وغسل وتيمم، وتحريم الخمر والميسر وجزاء الردة، وحد السرقة وحد الحرابة (قطع الطريق) وكفارة اليمين، وشريعة الجاهلية بتحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وحكم تارك العمل بما أنزل الله، ونحو ذلك في أثناء مناقشة ومجادلة النصارى واليهود والمشركين والمنافقين.
قال العلماء: فيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها وهي: الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ، وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وتمام الطهور: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله: عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ وما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وقوله تعالى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الآية.
وفي الجملة انفردت سورة المائدة ببيان أصول مهمة في الإسلام هي:
١- إكمال الدين، وأن دين الله واحد، وإن اختلفت شرائع الأنبياء ومناهجهم.
٢- بيان عموم بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمره بالتبليغ العام، وانحصار مهمته بالتبليغ فقط.
٣- أوجب الله على المؤمنين إصلاح نفوسهم، وأنه لا يضرهم إن استقاموا ضلال غيرهم، وطريق الإصلاح الوفاء بالعقود، وتحريم الاعتداء على الآخرين، والتعاون على البر والتقوى وتحريم التعاون على الإثم والعدوان، وتحريم موالاة الكفار، ووجوب الشهادة بالعدل، والحكم بالقسط والمساواة بين المسلمين وغيرهم.
٤- بيان أحكام المطعومات، وتحريم الخمر والميسر (القمار) والأنصاب والأزلام.
٥- تفويض أمر الجزاء في الآخرة إلى الله وحده، وأن النافع في ذلك اليوم الصدق.
وأما القصص الثلاث الواردة للعبرة والعظة فهي: الأولى- قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام إذ قالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. والثانية- قصة ابني آدم، حيث قتل قابيل هابيل، وهي أول جريمة في الأرض. والثالثة- قصة المائدة التي كانت معجزة خارقة لعيسى عليه السلام أمام صحبه الحواريين.