تفسير سورة النجم

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة النجم من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة والنجم مكية وآيها إحدى أو اثنتان وستون.

﴿والنجم إِذَا هوى﴾ المرادُ بالنجم إما الثرية فإنَّه اسمٌ غالبٌ لَهُ أو جنسُ النجومِ وبهَوِيّه غروبُه وقيلَ طلوعُه يقالُ هَوَى هَوِيا بوزن قبول إذا غربَ وهُوِيّا بوزنِ دخول إذا علا وصعِد وأما النجمُ من نجومِ القُرآنِ فهَوِيَّهُ نزولُه والعاملُ في إذَا فعلُ القسمِ بذلك فإنَّه بمعنى مطلقِ الوقتِ منسلخٌ من مَعْنى الاستقبالِ كَما في قولِك آتيكَ إذا حمر البُسْرُ وفي الإقسامِ بذلكَ على نزاهتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عن شائبِه الضلال والغَوايةِ من البراعةِ البديعةِ وحسن الموقع مالا غايةَ وراءَهُ أما على الأولينِ فلأنَّ النجمَ شأنُه أنُ يهتدِيَ بهِ السَّارِي إلى مسالكِ الدُّنيا كأنَّه قبل والنجمِ الذي يَهتدِي به السابلةُ إلى سواءِ السبيلِ
﴿مَا ضَلَّ صاحبكم﴾ أيْ ما عدَلَ عن طريقِ الحقِّ الذي هُو مسلكُ الآخرةِ ﴿وَمَا غوى﴾ أيْ وما اعتقدَ باطلاً قطُّ أيْ هُو في غايةِ الهُدى والرُّشدِ وليسَ مما تتوهمونَهُ من الضلالِ والغوَايةِ في شىءٍ أَصلاً وأما على الثالثِ فلأنَّه تنويهٌ بشأنِ القُرآنِ كما أشيرَ إليه في مطلعِ سورةِ يس وسورةِ الزخرفِ وتنبيهٌ على مناطِ اهتدائِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومدارِ رشادِه كأنَّه قيلَ والقرآنِ الذي هُو عَلَمٌ في الهدايةِ إلى مناهجِ الدِّينِ ومسالكِ الحقِّ ما ضلَّ عنَها محمَّدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام وما غَوى والخطابُ لقريشٍ وإيرادُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بعنوان صاحبيته لهم وللإيذان بوقوفِهم على تفاصيلِ أحوالِه الشريفةِ وإحاطتِهم خُبراً ببراءتِه عليه الصلاة والسلام مما نفى عنه بالكلية واتصافه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بغايةِ الهُدَى والرشادِ فإنَّ طولَ صُحبتهِم له عليهِ الصَّلاةُ والسلام ومشاهدتهم لمحاسن شؤنه العظيمةِ مقتضيةٌ لذلكَ حتْمَاً وتقييدُ القسمِ بوقت الهَوِيِّ على الوجهِ الأخيرِ ظاهرٌ وأمَّا على الأولينِ فلأنَّ النجمَ لا يهتدِي به السَّارِي عندَ كونِه في وسطِ السماءِ ولا يعلمُ المشرق من المغرب والا الشمالِ من الجنوبِ وإنما يهتدِي بهِ عندَ هبوطِه أو صعودِه معَ ما فيهِ من كمالِ المناسبةِ لما سيُحكى من تدلِّي جبريلَ من الأفقِ الأَعْلى ودنوِّه منْهُ عليهما السَّلامُ هذا هو اللائقُ بشأنِ التنزيلِ الجليلِ وأما حملُ هويه على انتثارِه يومَ القيامةِ أو على انقضا النجمِ الذي يرجمُ بهِ أو حملُ النجمِ على النباتِ وحملُ هويهِ على سقوطِه على الأرضِ أو
154
٩ {
على ظهورِه منها فمما لا يناسبُ المقامَ
155
﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى﴾ أي وما يصدرُ نطقُه بالقرآنِ عن هَوَاهُ ورأيهِ أصلاً فإنَّ المرادَ استمرارُ نفي النطقِ عن الهوى لا نَفيُ استمرارِ النطقِ عنه كما مر مرار
﴿إِنْ هُوَ﴾ أي مَا الذي ينطقُ به من القرآنِ ﴿إِلاَّ وَحْىٌ﴾ من الله تعالى وقوله تعالى ﴿يُوحَى﴾ صفةٌ مؤكدةٌ لوحي رافعةٌ لاحتمالِ المجازِ مفيدةٌ للاستمرارِ التجدديِّ
﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى﴾ أي مَلَكٌ شديدٌ قُواهُ وهو جبريلَ عليهِ السَّلامُ فإنَّه الواسطةُ في إبداءِ الخوارقِ وناهيكَ دليلاً على شدةِ قوتِه أنه قلعَ قُرَى قومِ لوطٍ من الماءِ الأسودِ الذي هو تحتَ الثَّرى وحملَها على جناحِه ورفعَها إلى السماءِ ثم قلبَها وصاحَ بثمودَ صيحةً فأصبحُوا جاثمينَ وكانَ هبوطُه على الأنبياءِ وصعودُه في أسرعَ منْ رجعةِ الطرفِ
﴿ذُو مِرَّةٍ﴾ أي حصافةٍ في عقلِه ورأيِه ومتانةِ في دينِه ﴿فاستوى﴾ عطفٌ على علَّمه بطريقِ التفسير فإنَّه إلى قولِه تعالى ما أَوْحَى بيانٌ لكيفيةِ التعليمِ أي فاستقامَ على صورته التى خلقه الله تعالى عليها دون الصورة التي كانَ يتمثلُ بها كلما هبطَ بالوحَيْ وذلكَ أنَّ رسولَ اللَّهِ ﷺ أحبَّ أنْ يراهُ في صورتِه التي جُبلَ عليها وكان رسول الله ﷺ بحراءَ فطلعَ له جبريلُ عليهِ السَّلامُ من المشرقِ فسدَّ الأرضَ من المغربِ وملأَ الأفقَ فخرَّ رسولُ الله ﷺ فنزل جبريل على السَّلامُ في صورةِ الآدميينَ فضمَّهُ إلى نفسِه وجعلَ يمسحُ الغُبارَ عن وجههِ قيلَ ما رآهُ أحدٌ من الأنبياءِ في صورتِه غيرُ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ ولاسلام فإنه رآه مرتينِ مرةً في الأرضِ ومرةً في السماءِ وقيلَ استوَى بقوتِه على ما جُعلَ له من الأمرِ وقولُه تعالَى
﴿وهو بالأفق الأعلى﴾ أى أفقِ الشمسِ حالٌ منْ فاعلٍ استوى
﴿ثُمَّ دَنَا﴾ أي أرادَ الدنوَّ من النبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ ﴿فتدلى﴾ أي استرسلَ من الأفقِ الأَعْلى مع تعلقٍ بهِ فدنَا من النبيِّ يقالُ تدلّت الثمرةُ ودلَّى رجليهِ من السريرِ وأدلَى دلْوَهُ والدَّوالي الثمرُ المعلقُ
﴿فَكَانَ﴾ أي مقدارُ امتدادِ ما بينَهما ﴿قَابَ قَوْسَيْنِ﴾ أي مقدارَهُما فإنَّ القابَ والقيب والقادر والقِيْدَ والقِيْسَ
155
} ٤ ١٠
المقدارُ وقيلَ فكانَ جبريلَ عليهِ السَّلامُ كَما في قولكَ هو مِنِّي معقدُ الإزارِ ﴿أَوْ أدنى﴾ أيْ عَلى تقديرِكم كَما في قوله تعالى أويزيدون والمرادُ تمثيلُ ملَكةِ الاتصالِ وتحقق استماعِه لما أُوحيَ إليه بنفِي البُعدِ المُلبسِ
156
﴿فأوحى﴾ أي جبريلَ عليهِ السَّلامُ ﴿إلى عَبْدِهِ﴾ عبدِ الله تعالَى وإضمارُه قبلَ الذكرِ لغايةِ ظُهورِه كَما في قوله تعالى ما ترك على ظرهها ﴿مَا أوحى﴾ أيْ من الأمورِ العظيمةِ التي لا تَفِي بها العبارةُ أو فأَوْحَى الله تعالى حينئذٍ بواسطةِ جبريلَ ما أَوْحى قيلَ أَوْحى إليهِ أنَّ الجنةَ محرمةٌ على الأنبياءِ حتى تدخلَها وعلى الأممِ حتى تدخلَها أمتكَ
﴿مَا كَذَبَ الفؤاد﴾ أي فؤادُ محمَّدٍ عليهِ الصَّلاة والسَّلام ﴿مَا رأى﴾ أي ما أراه ببصرِه من صورةِ جبريلَ عليهما السَّلامُ أي ما قال فؤداه لما رآهُ لم أعرفْكَ ولو قال ذلك لكنا كاذباً لأنه عرفَهُ بقلبِه كما رآهُ ببصرِه وقُرىءَ ما كذَّب أي صدَّقَهُ ولم يشك أن جبريلُ بصورتِه
﴿أفتمارونه على مَا يرى﴾ أي أتكذبونَهُ فتجادلونه على ما يراهُ مُعاينةً أو أبعدَ ما ذُكر من أحوالِه المنافيةِ للمماراةِ تمارونَهُ من المراءِ وهو الملاحاةُ والمجادلةُ واشتقاقُه من مَرَى الناقةَ كأنَّ كلاًّ من المتجادلينَ يمرِي ما عندَ صاحبه وقرىء أتفمرونه أي أفتغلبونَهُ في المراءِ منْ ماريتُه فمريته ولِما فيهِ من مَعْنى الغلبةِ عُدِّيَ بعَلَى كما يقالُ غلبتُه عَلى كَذَا وقيلَ أفتمرونَهُ أفتجحدونَهُ من مَراهُ حقَّهُ إذَا جحدَهُ
﴿ولقد رآه نَزْلَةً أخرى﴾ أي وبالله لقَدْ رأى جبريلَ في صورتِه مرةً أُخرى من النزولِ نصبت النزلُةَ نصبَ الظرفِ الذي هو مرةٌ لأن الفَعْلةَ اسمٌ للمرةِ من الفعلِ فكانتْ في حكمها وقيل تقديره ولقدرآه نازلاً نزلةً أُخْرى فنصبُها على المصدرِ
﴿عِندَ سِدْرَةِ المنتهى﴾ هي شجرةُ نبْقٍ في السماءِ السابعةِ عن يمينِ العرشِ ثمرُها كقِلال هَجَرَ وورقُها كآذانِ الفيولِ تنبعُ من أصلِها الأنهارُ التي ذكرَهَا الله تعالَى في كتابِه يسير الراكب في ظلها سبعين عما لا يقطعُها والمُنْتهى موضعُ الانتهاءِ أو الانتهاءُ كأنَّها في مُنْتَهى الجنةِ وقيلَ إليها يَنْتهي علمُ الخلائقِ وأعمالهم ولايعلم أحدٌ ما وراءَها وقيلَ ينتهِي إليها أرواحُ الشهداءِ وقيلَ ينتهي إليها ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتِها قيل إضافةُ السدرةِ إلى المُنْتهى إما إضافةُ الشيءِ إلى مكانِه كقولك شجر البستان وإضافة المحلِّ إلى الحالِّ كقولك كتابُ الفقهِ والتقديرُ سدرةٌ عندَها مُنتهى علومِ الخلائقِ أو إضافةُ المِلكَ إلى المالك على حذفِ الجارِّ والمجرورِ أي سدرةُ المُنْتَهى إليهِ هو الله عزَّ وجلَّ قالَ تعالَى إلى ربِّكَ المُنْتهى
156
} ٠ ١٥
157
﴿عِندَهَا جَنَّةُ المأوى﴾ أي الجنةُ التي يأوِي إليها المتقون أو أوراح الشهداءِ والجملةُ حاليةٌ وقيلَ الأحسنُ أن يكونَ الحالُ هُو الظرفَ وجنةُ المَأْوى مرتفعٌ به على الفاعليةِ وقولُه تعالى
﴿إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى﴾ ظرفُ زمانٍ لرآهُ لا لِما بعَدُه من الجملةِ المنفيةِ كما قيلَ فإنَّ مَا النافيةَ لا يعمل بعدَها فيما قبلَها والغشيانُ بمعنى التغطية والسترِ ومنه الغَوَاشِي أو بمَعْنى الإتيانِ يقالُ فلانٌ يشغاني كل حين أى يأتين والأولُ هو الأليقُ بالمقامِ وفي إبهامِ ما يغشَى من التفخيم مالا يخفى وتأخيرُه عن المفعولِ للتشويقِ إليهِ أي ولقد رآهُ عندَ السدرةِ وقتَ ما غشِيَها مما لا يكتنههه الوصفُ ولا يَفي به البيانُ كيفاً ولا كمَّاً وصيغةُ المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ استحضاراً لصورتِها البديعةِ وللإيذانِ باستمرار الغشيانِ بطريقِ التجددِ وقيلَ يغشاهَا الجمُّ الغفيرُ من الملائكةِ يعبدونَ الله تعالَى عندَها وقيلَ يزورُونها متبرّكينَ بها كما يزورُ الناسُ الكعبةَ وقيلَ يغشاهَا سبحاتُ أنوارِ الله عزَّ وجلَّ حين يتجلَّى لها كما يتلجى للجبل لكنها أقوى من الجبلِ وأثبتَ حيثُ لم يُصبْها ما أصابَهُ من الدكِّ وقيلَ يغشاهَا فَراشٌ أو جرادٌ من ذهبٍ وهو قولُ ابن عبَّاسٍ وابن مسعود والضخاك وروى عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنَّه قالَ رأيتُ السدرةَ يغشاها فَراشٌ من ذهبٍ ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله تعالَى وعنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يغشاهَا رفرف من طيرٍ خُضرٍ
﴿مَا زَاغَ البصر﴾ أي ما مالَ بصرُ رسولِ الله ﷺ عما رآهُ ﴿وَمَا طغى﴾ وما تجاوزُه مع ما شاهده هناكَ من الأمورِ العجيبةِ المذهلة مالا يُحصَى بل أثبتَهُ إثباتاً صحيحا متيقنا أوما عدلَ عن رؤيةِ العجائبِ التي أمر ابرؤيتها ومُكنَ منَها وما جاوزَها
﴿لقد رأى من آيات رَبّهِ الكبرى﴾ أيْ والله لقدْ رَأَى الآياتِ التي هي كُبراهَا وعُظماهَا حين عُرج به إلى السماءِ فأرى عجائب الملك والملكوت مالا يُحيط به نِطاقُ العبارةِ ويجوزُ أنْ تكونَ الكُبرى صفةً للآياتِ والمفعولُ محذوفٌ أي شيئاً عظيماً من آياتِ ربِّه وأن تكونَ من مزيدة
﴿أفرأيتم اللات والعزى﴾ ﴿ومناة الثالثة الأخرى﴾ هي أصنامٌ كانتْ لهم فاللاتُ كانتْ لثقيفٍ بالطائفِ وقيلَ لقريشٍ بنخلةَ وهيَ فعَلة من لَوَى لأنَّهم كانُوا يلوُون علَيها ويطوفُونَ بها وقُرِىءَ بتشديدِ التاءِ على أنَّه اسمُ فاعل اشتر به رجلٌ كانَ يلتُّ السمنَ بالزيتِ ويطعمُه
157
} ٢ ٢ {
الحاجَّ وقيلَ كان يلتُّ السويقَ بالطائفِ ويطعمُه الحاجَّ فلمَّا ماتَ عكفُوا على قبرِه يعبدونَهُ وقيلَ كانَ يجلسُ على حجرٍ فلما ماتَ سُمِّيَ الحجرُ باسمِه وعُبدَ منْ دونِ الله وقيلَ كانَ الحجرُ على صورتِه والعُزَّى تأنيثُ الأعزِّ كانت لغطفان رهى سَمُرةً كانُوا يعبدونَها فبعثَ رسول الله ﷺ خالدَ بنَ الوليدِ فقطعَها فخرجتْ منَها شيطانةٌ ناشرةً شعرَها واضعةً يدَها على رأسِها وهي تُولْوِلُ فجعلَ خالدٌ يضربُها بالسيفِ حتى قتلَها فأخبرَ رسولَ الله ﷺ فقالَ تلكَ العُزَّى ولنْ تعبد أباد ومناةُ صخرةٌ لهُذَيلٍ وخُزاعةَ وقيلَ لثقيفٍ وكأنَّها سميتْ مناةَ لأنَّ دماءَ النسائِكَ تُمْنَى عندَها أي تُراقُ وقُرىءَ ومناءة وهي مفعلة من النواء كأنَّهم كانُوا يستمطرونَ عندَها الأنواء تبركا بها والأخرى صفةُ ذمَ لهَا وهي المتأخرةُ الوضيعةُ المقدارِ وقدْ جوزأن تكونَ الأوليةَ والتقدمَ عندهم للاتِ والعُزَّى ثمَّ أنَّهم كانُوا معَ ما ذُكِرَ من عبادتِهم لها يقولونَ إنَّ الملائكةَ وتلكَ الأصنامَ بناتُ الله تعالَى الله عن ذلكَ عُلواً كبيراً فقيل لهم توبيخا وتبكيتاأفرأيتم الخ والهمزةُ للإنكارِ والفاءُ لتوجيهه إلى ترتيب الرؤيةِ على ما ذكر من شؤن الله تعالى المنافيةِ لها غايةَ المُنافاةِ وهي قلبيةٌ ومفعولُها الثَّانِي محذوفٌ لدلالةِ الحال عليه فالمعنى عقيب ما سمعتُم من آثارِ كمالِ عظمةِ الله عزَّ وجلَّ في مُلكِه وملكوتِه وجلالِه وجبروتِه وإِحكامِ قدرتِه ونفاذِ أمرِه في الملأ الأَعْلى وما تحتَ الثَّرى ومابينهما رأيتُم هذهِ الأصنامَ مع غايةِ حقارتِها وقماءتِها بناتٍ له تعالَى وقيلَ المعَنْى أفراءيتم هذه الأصنام مع حقراتها وذلَّتِها شركاءَ الله تعالَى معَ ما تقدمَ من عظمته وقيل أخبرون عن آلهتِكم هلْ لهَا شئ من القدرة والعظمة الت وُصفَ بها ربُّ العزةِ في الآي السابقةِ وقيلَ المَعْنى أظننتُم أنَّ هذه الأصنامَ التي تعبدونها تنفعُكم وقيل أظننتُم أنَّها تشفعُ لكُم في الآخرةِ وقيل أفرأيتُم إلى هذهِ الأصنامِ إنْ عبدتُموها لا تنفعْكُم وإنْ تركتُموَها لا تضرَّكم والأولُ هو الحقُّ كما يشهدُ به قولُه تعالَى
158
ومناةُ صخرةٌ لهُذَيلٍ وخُزاعةَ وقيلَ لثقيفٍ وكأنَّها سميتْ مناةَ لأنَّ دماءَ النسائِكَ تُمْنَى عندَها أي تُراقُ. وقُرئَ ومناءة وهي مفعلة من النَّوءِ كأنَّهم كانُوا يستمطرونَ عندَها الأنواءَ تبركاً بها، و( الأُخْرى ) صفةُ ذمَ لهَا وهي المتأخرةُ الوضيعةُ المقدارِ. وقدْ جُوِّزَ أنْ تكونَ الأوليةَ والتقدمَ عندهم للاتِ والعُزَّى. ثمَّ أنَّهم كانُوا معَ ما ذُكِرَ من عبادتِهم لها يقولونَ إنَّ الملائكةَ وتلكَ الأصنامَ بناتُ الله تعالَى الله عن ذلكَ عُلواً كبيراً فقيلَ لهم توبيخاً وتبكيتاً أفرأيتُم الخ. والهمزةُ للإنكارِ، والفاءُ لتوجيهه إلى ترتيب الرؤيةِ على ما ذُكِرَ من شؤونِ الله تعالى المنافيةِ لها غايةَ المُنافاةِ، وهي قلبيةٌ ومفعولُها الثَّانِي محذوفٌ لدلالةِ الحال عليهِ فالمَعْنى أعَقيبَ ما سمعتُم من آثارِ كمالِ عظمةِ الله عزَّ وجلَّ في مُلكِه وملكوتِه وجلالِه وجبروتِه وإِحكامِ قدرتِه ونفاذِ أمرِه في الملأ الأَعْلى وما تحتَ الثَّرى وما بينهما رأيتُم هذهِ الأصنامَ مع غايةِ حقارتِها وقماءتِها بناتٍ له تعالَى وقيلَ المعَنْى أفرأيتُم هذِه الأصنامَ مع حقارتِها وذلَّتِها شركاءَ الله تعالَى معَ ما تقدمَ من عظمتِه وقيلَ أخبرونِي عن آلهتِكم هلْ لهَا شيءٌ من القُدرةِ والعظمةِ التي وُصفَ بها ربُّ العزةِ في الآي السابقةِ وقيلَ المَعْنى أظننتُم أنَّ هذه الأصنامَ التي تعبدونها تنفعُكم وقيل أظننتُم أنَّها تشفعُ لكُم في الآخرةِ وقيل أفرأيتُم إلى هذهِ الأصنامِ إنْ عبدتُموها لا تنفعْكُم وإنْ تركتُموَها لا تضرَّكم والأولُ هو الحقُّ كما يشهدُ به قولُه تعالَى :﴿ أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى ﴾.
﴿أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى﴾ شهادةٌ بينةً فإنَّه توبيخٌ مبنيٌّ على التوبيخِ الأولِ وحيثُ كانَ مدارُه تفضيلَ جانب أنفسهم على حنابة تعالى بنسبتِهم إليه تعالى الإناثَ مع اختيارِهم لأنفسِهم الذكورَ وجبَ أن يكون مناطُ الأولِ نفسَ تلك النسبةِ حتَّى يتسنَّى بناءُ التوبيخ الثان وعليه ظاهر أنْ ليسَ في شيءٍ من التقديراتِ المذكورةِ من تلكَ النسبةِ عينٌ ولا أثرٌ وأما ما قيلَ من أنَّ هذه الجملةَ مفعول ثاني للرؤيةِ وخلوُّها عن العائدِ إلى المفعولِ الأولِ لما أنَّ الأصلَ أخبرونِي أن اللاتَ والعُزَّى ومناةَ ألكُم الذكرُ وله هُنَّ أي تلك الأصنام فوضع موضع الأُنثى لمراعاةِ الفواصلِ وتحقيقِ مناطِ التوبيخِ فمعَ ما فهي من التمحلاتِ التي ينبغي تنزيهُ ساحةِ التنزيلِ عن أمثالها يقتضِي اقتصارَ التوبيخِ على ترجيحِ جانبِهم الحقير على جنابِ الله العزيز الجليلِ من غيرِ تعرضٍ للتوبيخِ على نسبةُ الولِد إليه سبحانَه
﴿تِلْكَ﴾ إشارةٌ إلى القسمةِ المنفهمةِ من الجملةِ الاستفهاميةِ ﴿إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى﴾ أي جائرةً حيثُ جعلتُم له تعالى ما تستنكرون
158
} ٥ ٢ {
منه وهي فُعْلَى من الضيزِ وهُو الجورُ لكنَّه كُسرَ فاؤُه لتسلمَ الياءُ كما فُعلَ في بِيْضٍ فإنَّ فِعْلى بالكسرِ لم يأتِ في الوصفِ وقُرِىءَ ضئزى بالهزة من ضأَزَهُ إذا ظلمَهُ على أنه مصدر نعت به وقُرِىءَ ضَيزى إمَّا على أنَّه مصدرٌ وصف به كدعوى أو على أنه صفةٌ كسَكْرى وعطشى
159
﴿إِنْ هِىَ﴾ الضميرُ للأصنامِ أيْ ما الأصنامُ باعتبار الأولوهية التي يدَّعُونها ﴿إِلاَّ أَسْمَاء﴾ محضةٌ ليسَ تحتَها مما تنبىءُ هي عنْهُ من معنى الأولوهية شيءٌ ما أصلاً وقوله تعالى ﴿سَمَّيْتُمُوهَا﴾ صفة لأسماء وضميرها لها لا للأصنام والمعَنْى جعلتمُوها أسماءً لا جعلتُم لها أسماءً فإنَّ التسميةَ نسبةً بين الاسمِ والمُسمَّى فإذا قيستْ إلى الإسمِ فمعناهَا جعلُه إسماً للمسمَّى وإن قيستْ إلى المسمَّى فمعناهَا جعلُه مسمَّى للإسمِ وإنما اختيرَ ههنا المعَنْى الأولُ من غيرِ تعرضٍ للمسمَّى لتحقيق أن تلكَ الأصنامَ التي يسمُّونها آلهةً أسماءً مجردةٌ ليسَ لها مسمياتٌ قطعاً كما في قوله تعالى مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا الآيةَ لا أنَّ هناكَ مسمياتٍ لكنَّها لا تستحقُ التسميةَ وقيلَ هي للأسماءِ الثلاثةِ المذكورةِ حيثُ كانُوا يطلقونَها على تلك الأصنامِ لاعتقادِهم أنَّها تستحقُّ العكوفَ على عبادتِها والإعزازَ والتقربَ إليها بالقرابينِ وأنتَ خبيرٌ بأنَّه لو سُلِّم دلالةُ الأسماءِ المذكورةِ على ثبوت تلك المعانِي الخاصَّةِ للأصنامِ فليسَ في سلبِها عنها مزيدُ فائدةٍ بل إنَّما هي في سلبِ الألوهيةِ عنها كما هو زعمُهم المشهورُ في حقِّ جميعِ الأصنامِ على وجهٍ برهانيَ فإنَّ انتفاءَ الموصوفِ يقتضِي انتفاءَ الوصفِ بطريقِ الأولويةِ أيْ ما هيَ إلا أسماءٌ خالية عن المسميات وضعتموها ﴿أنتم ولا آباؤكم﴾ بمقتضَى أهوائِكم الباطلةِ ﴿مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان﴾ برهانٍ تتعلقونَ به ﴿إِن يَتَّبِعُونَ﴾ التفاتٌ إلى الغيبة للإذيان بأنَّ تعدادَ قبائحِهم اقتضَى الإعراضِ عنهم وحكايةِ جناياتِهم لغيرِهم أي ما يتبعونَ فيما ذُكرَ من التسميةِ والعملِ بموجِبها ﴿إِلاَّ الظن﴾ إلا توهَم أَن ما هُم عليهِ حقٌّ توهماً باطلاً ﴿وَمَا تَهْوَى الأنفس﴾ أي تشتهيِه أنفسُهم الأمارةُ بالسُّوءِ ﴿وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى﴾ قيلَ هي حالٌ من فاعلِ يتبعونَ أو اعتراضٌ وأياً ما كان ففيهِ تأكيدٌ لبطلانِ اتباعِ الظنِّ وهو النفسُ وزيادةُ تقبيحٍ لحالِهم فإنَّ اتباعهما من أيِّ شخصٍ كان قبيحٌ وممن هداهُ الله تعالى بإرسال الرسول ﷺ وإنزالِ الكتابِ أقبحُ
﴿أَمْ للإنسان مَا تمنى﴾ أمْ منقطعةٌ وما فيَها من بَلْ للانتقالِ من بيانِ أنَّ ما هُم عليه مستندٍ إلا إلى توهمِهم وهى أنفسِهم إلى بيانِ أنَّ ذلكَ ممَّا لا يُجدي نفعاً أصلاً والهمزةُ للإنكارِ والنَّفي أي ليسَ للإنسانِ كلُّ ما يتمنَّاهُ وتشتهيِه نفُسه من الأمورِ التي من جُمْلتِها أطماعُهم الفارغةُ في شفاعةِ الآلهةِ ونظائرِها التي لا تكادُ تدخلُ تحتَ الوجودِ
﴿فَلِلَّهِ الأخرة والأولى﴾ تعليلٌ لانتفاءِ أنْ يكونَ للإنسانِ ما يتمنَّاهُ حتماً فإنَّ اختصاصَ
159
} ٩ ٢٦
أمور الآخرة والأولى جميع بهِ تعالى مقتضٍ لانتفاءِ أن يكونَ له أمرٌ من الأمور وقولُه تعالى
160
﴿وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السماوات لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئاً﴾ إقناطٌ لهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم من شفاعةِ الملائكةِ لهم موجبٌ لإقناطِهم من شفاعةِ الأصنامِ بطريقِ الأولويةِ وكم خبريةٌ مفيدةٌ للتكثيرِ محلُّها الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ هي الجملةُ المنفيةُ وجمعُ الضميرِ في شفاعتِهم مع إفرادِ المَلكِ باعتبارِ المَعْنى أي وكثيرٌ من الملائكةِ لا تُغني شفاعتُهم عند الله تعالى شيئاً من الإغناءِ في وقتٍ من الأوقاتِ ﴿إلا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله﴾ لهمُ في الشفاعةِ ﴿لِمَن يَشَاء﴾ إنْ يشفعوا له ﴿ويرضى﴾ ويراهُ أهلاً للشفاعةِ من أهلِ التوحيدِ والإيمانِ وأمَّا مَنْ عداهُم من أهلِ الكفرِ والطغيانِ فهمُ من إذنِ الله تعالى بمعزل ومن الشفاعة ألف منزلٍ فإذا كانَ حالُ الملائكةِ في بابِ الشفاعةِ كما ذُكِرَ فما ظنُّهم بحالِ الأصنامِ
﴿إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة﴾ وبما فيها من العقابِ على ما يتعاطَونه من الكفرِ والمَعَاصي ﴿لَيُسَمُّونَ الملائكة﴾ المنزهينَ عن سماتِ النقصان على الإطلاق يسمون كلَّ واحدٍ منهم ﴿تَسْمِيَةَ الأنثى﴾ فإن قولَهم الملائكةُ بناتُ الله قولُ منهُم بأنَّ كلاً منهم بنتُه سبحانَهُ وهي التسميةُ بالأُنثى وفي تعليقِها بعدمِ الإيمانِ بالآخرةِ إشعارٌ بأنَّها في الشناعةِ والفظاعةِ واستتباعِ العقوبةِ في الآخرةِ بحيثُ لا يجترىءُ عليها إلا من يؤمنُ بَها رأساً وقولُه تعالى
﴿وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ حالٌ من فاعِل يسمون أى يسمونه والحالُ أنَّه لا علمَ لهم بما يقولونَ أصلاً وقُرىءَ بَها أي بالملائكةِ أو بالتسميةِ ﴿إِن يَتَّبِعُونَ﴾ في ذلكَ ﴿إِلاَّ الظنَّ﴾ الفاسدَ ﴿وَإِنَّ الظن﴾ أي جنسَ الظنِّ كما يلوحُ به الإظهارُ في موقعِ الإضمارِ ﴿لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا﴾ من الإغناءِ فإن الحقَّ الذي هو عبارةٌ عن حقيقةِ الشيءِ لا يُدرك إلا بالعلمِ والظنُّ لا اعتدادَ به في شأنِ المعارفِ الحقيقيةِ وإنما يعتدُّ به في العملياتِ وما يؤدِّي إليها
﴿فأعرض عن من تولى عَن ذِكْرِنَا﴾ أي عنْهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوسل به إلى وصفُهم بما في حيزِ صلتِه من الأوصافِ القبيحةِ وتعليلِ الحكمِ بهَا أيْ فأعرضْ عمَّن أعرضَ عن ذكرِنا المفيدِ للعلمِ اليقينيِّ وهو القُرآنُ المُنطوي عَلى علومِ الأولينَ والآخرينَ المذكرِ لأمورِ الآخرةِ أو عن ذكرِنا كما ينبغِي فإنَّ ذلكَ مستتبعٌ لذكرِ الآخرةَ وما فيها من الأمور المرغوبِ فيها والمرهوبِ عنَها ﴿وَلَمْ يُرد إِلاَّ الحياةَ الدنيا﴾ راضياً بها قاصراً نظرَهُ عليها والمرادُ النهيُ عن دعوتِه والاعتناءُ بشأنِه قال من أعرضَ عمَّا ذُكرَ وانهمكَ في الدُّنيا بحيثُ كانتْ هي مُنتهَى همتِه وقُصارَى سعيِه
160
} ١ ٣٠
لا تزيدُه الدعوةُ إلى خلافِها إلا عناداً وإصراراً على الباطلِ
161
﴿ذلك﴾ أي ما أدَّاهم إلى ما هم فيه من التولِّي وقصْرِ الإرادةِ على الحياةِ الدُّنيا ﴿مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم﴾ لا يكادونَ يجاوزونَهُ إلى غيرهِ حتَّى تُجديهم الدعوةُ والإرشادُ وجمعُ الضميرِ في مبلغُهم باعتبارِ مَعْنى مَنْ كما أن إفراده فيما سبق باعتبارِ لفظِها والمرادُ بالعلمِ مطلقُ الإدراكِ المنتظمِ للظنِّ الفاسدِ والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبلَها من قصرِ الإرادةِ على الحياةِ الدُّنيا وقولُه تعالَى ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أعلم بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى﴾ تعليلٌ للأمرِ بالإعراضِ وتكريرُ قولِه تعالى هو أعلمُ لزيادةِ التَّقريرِ والإيذانِ بكمالِ تباينِ المعلومَينِ والمرادُ بمَنْ ضَلَّ منْ أصرَّ عليهِ ولم يرجعُ إلى الهُدَى أصلاً وبمَنْ اهتدَى من مَنْ شأنُه الاهتداءُ في الجملةِ أي هو المبالغُ في العلمِ بمن لا يرعوِي عنِ الضلالِ أبداً وبمن يقبلُ الاهتداءَ في الجملةِ لا غيرُه فلا تُتعبْ نفسَك في دعوتِهم فإنه من القبيلِ الأولِ وفي تعليلِ الأمرِ بإعراضِه عليهِ السلامُ عن الاعتناءِ بأمرِهم باقتصارِ العلمِ بأحوالِ الفريقينِ عليهِ تعالَى رمزٌ إلى أنَّه تعالَى يعاملُهم بموجبِ علمِه بهم فيجزى كلاً منْهم بما يليقُ بهِ من الجزاءِ ففيهِ وعيدٌ ووعدٌ ضِمناً كما سيأتي صَريحاً
﴿ولله ما في السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي خلقا وملكا لالغيره أصلا لا استقلال ولا اشتراكاً وقوله تعالى ﴿لِيَجْزِىَ﴾ الخ متعلقٌ بما دلَّ عليهِ أعلمُ الخ وما بينهما اعتراض مقرر لما قبلَهُ فإنَّ كونَ الكلِّ مخلوقاً له تعالى ممَّا يقررُ علمَهُ تعالَى بأحوالِهم أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ كأنَّه قيلَ فيعلمُ ضلالَ من ضلَّ واهتداءَ من اهتدَى ويحفظُهما ليجزيَ ﴿الذين أساؤوا بِمَا عَمِلُواْ﴾ أي بعقابِ ما عملُوا من الضلالِ الذي عبَّر عنْهُ بالإساءةِ بياناً لحالهِ أو بسببِ ما عملوا ﴿وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ﴾ أي اهتدوا ﴿بالحسنى﴾ أي بالمثوبةِ الحْسْنَى التي هي الجنةُ أو بسببِ أعمالِهم الحُسْنَى وقيلَ متعلقٌ بما دل عليه قوله تعالى وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فى الأرض كأنَّه قيلَ خلقَ ما فيهمَا ليجزيَ الخ وقيلَ متعلقٌ بضلَّ واهتدَى على أن اللامَ للعاقبةِ أي هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ ليؤول أمره إلى أن يجزيَهُ الله تعالى بعملِه وبمنِ اهتدَى ليؤولَ أمرُهُ إلى أنْ يجزيَهُ بالحُسْنَى وفيه من البعد مالا يَخْفى وتكريرُ الفعلِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ الجزاءِ والتنبيهِ على تباينِ الجزاءينِ
161
} ٤ ٣ {
162
﴿الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم﴾ بدل من الموصول الثان وصيغةُ الاستقبال في صلتِه للدلالةِ على تجددِ الاجتناب أو استمراره أو بيانٌ أو نعتٌ أو منصوبٌ على المدحِ وكبائرُ الإثمِ ما يكبرُ عقابُه من الذنوبِ وهو ما رتبَ عليه الوعيدُ بخصوصِه وقُرِىءَ كبيرَ الإثمِ على إرادةِ الجنسِ أو الشركِ ﴿والفواحش﴾ وما فُحش من الكبائِر خُصُوصاً ﴿إِلاَّ اللمم﴾ أي إلا ما قلَّ وصغُرَ فإنَّه مغفورٌ ممَّن يجتنبُ الكبائرَ قيلَ هي النظرةُ والغمزةُ والقبلةُ وقيلَ هي الخطرةُ من الذنبِ وقيلَ كلُّ ذنبٍ لم يذكرِ الله عليهِ حدَّاً ولا عذاباً وقيلَ عادةُ النفسِ الحينِ بعد الحين والاستثناءُ منقطعٌ ﴿إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة﴾ حيث يغفرُ الصغائرَ باجتنابِ الكبائرِ فالجملةُ تعليلٌ لاستثناءِ اللممِ وتنبيهٌ على أنَّ إخراجَهُ عن حُكمِ المؤاخذةِ به ليسَ لخلوهِ عن الذنبِ في نفسِه بل لسَعةِ المغفرةِ الربانَّيةِ وقيلَ المَعْنى له أن يغفرَ لمن يشاءُ من المؤمنينَ ما يشاءُ من الذنوبِ صغيرِها وكبيرها لعل تعقيب وعد المسييئين ووعدِ المحسنينَ بذلكَ حينئذٍ لئلاَّ ييأسَ صاحبُ الكبيرةِ من رحمتِه تعالى ولا يتوهَم وجوبَ العقابِ عليه تعالى ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ أى بأحولكم يعلمُها ﴿إِذْ أَنشَأَكُمْ﴾ في ضمنِ إنشاءِ أبيكم آدمَ عليهِ السَّلامُ ﴿مّنَ الأرض﴾ إنشاءً إجمالياً حسبَما مرَّ تقريرُه مراراً ﴿وَإِذْ أَنتُمْ أجنة﴾ أى وقت كونِكم أجنةً ﴿فِى بُطُونِ أمهاتكم﴾ على أطوار مخلتفة مترتبة لا يخفى عليها حالٌ من أحوالِكم وعملٌ من أعمالِكم التي منْ جُملتِها اللممُ الذي لولا المغفرةُ الواسعةُ لأصابكُم وبالُه فالجملةُ استئنافٌ مقرِّر لما قبلَها والفاءُ في قولِه تعالى ﴿فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ﴾ لترتيبِ النَّهي عن تزكيةِ النفسِ على ما سبقَ منْ أنَّ عدمَ المؤاخذةِ باللممِ ليسَ لعدمِ كونِه من قبيلِ الذنوبِ بلْ لمحضِ مغفرتِه تعالى مع علمه بصدروه عنكُم أي إذَا كانَ الأمرُ كذلكَ فلا تُثنوا عليها بالطهارةِ عن المعاصِي بالكليةِ أو بما يستلزمُها من زكاءِ العملِ ونماءِ الخير بلِ اشكرُوا الله تعالى على فضلهِ ومغفرتِه ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى﴾ المعاصيَ جميعاً وهو استئنافٌ مقررٌ للنَّهي ومشعرٌ بأنَّ فيهم منْ يتقيها بأسرِها وقيلَ كانَ ناسٌ يعملونَ أعمالاً حسنةً ثم يقولونَ صلاتُنا وصيامُنا وحجُّنا فنزلتْ وهَذا إذا كانَ بطريقِ الإعجابِ أو الرياءِ فأمَّا من اعتقدان ما عملَهُ من الأعمالِ الصالحةِ من الله تعالى وبتوفيقِه وتأييدهِ ولم يقصدْ بهِ التمدحَ لم يكنْ من المزكينَ أنفسَهُم فإن المسرةَ بالطاعةِ طاعةٌ وذكرَهَا شكرٌ
﴿أَفَرَأَيْتَ الذى تولى﴾ أي عنِ اتباعِ الحقِّ والثباتِ عليهِ
﴿وأعطى قَلِيلاً﴾ أي شيئاً قليلاً أو إعطاءً قليلاً ﴿وأكدى﴾ أي قطعَ العطاءَ
162
} ٩ ٣٥
من قولِهم أكدَى الحافرُ إذا بلغَ الكُديةَ أي الصَّلابةَ كالصَّخرةِ فلا يمكنه أنْ يحفرَ قالُوا نزلتْ في الوليد ابن المغيرةَ كانَ يتبعُ رسول الله ﷺ فعيَّره بعضُ المشركينَ وقالَ له تركتَ دينَ الأشياخِ وضلَّلتَهم فقالَ أخشَى عذابَ الله فضمن أنْ يتحملَ عنه العذابَ إن أعطاهُ بعضَ مالِه فارتدَّ وأعطاهُ بعضَ المشروطِ وبخلَ بالباقِي وقيلَ نزلتْ في العاصِ بنِ وائلٍ السَّهميِّ لما كان يوافق النبي عليه الصلاةَ والسلام في بعضِ الأمورِ وقيلَ في أبي جهلٍ كان ربما يوافق الرسول عليه الصلاة والسلام في بعضِ الأمورِ وكان يقولُ والله ما يأمرُنا محمدٌ إلا بمكارمِ الأخلاقِ وذلكَ قولُه تعالى وأعطى قَلِيلاً وأكدى والأولُ هو الأشهرُ المناسبُ لما بعدَه من قوله تعالى
163
﴿أعنده عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى﴾ الخ أي أعندَهُ علمٌ بالأمورِ الغيبيَّةِ التي منْ جُملِتها تحمّلُ صاحبِه عنه يومَ القيامةِ
﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ موسى﴾ ﴿وإبراهيم الذى وفى﴾ أيْ وفَّر وأتمَّ ما ابتُلي به من الكلماتِ أو أُمرَ به أو بالغَ في الوفاءِ بما عاهدَ الله وتخصيصه بذلك لاحتماله مالم يحتملْهُ غيرُه كالصبرِ على نار نمروذ حتى إذا إنه أتاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ حينَ يُلقى في النَّارِ فقالَ ألكَ حاجةٌ فقالَ أمَّا إليكَ فَلاَ وعلى ذبحِ الولدِ ويُروَى أنَّه كانَ يمشِي كلَّ يومٍ فرسخاً يرتادُ ضيفاً فإنْ وافقَهُ أكرمَهُ وإلا نَوَى الصومَ وتقديمُ مُوسى لما أنَّ صحفَهُ التي هي التوارة أشهرُ عندَهُم وأكثرُ
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٦:﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى * وإبراهيم الذي وفى ﴾ أيْ وفَّر وأتمَّ ما ابتُلي به من الكلماتِ أو أُمرَ به أو بالغَ في الوفاءِ بما عاهدَ الله وتخصيصُه بذلكَ لاحتمالِه ما لم يحتملْهُ غيرُه كالصبرِ على نارِ نمرودَ حتَّى إنه أتاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ حينَ يُلقى في النَّارِ فقالَ ألكَ حاجةٌ فقالَ أمَّا إليكَ فَلاَ وعلى ذبحِ الولدِ ويُروَى أنَّه كانَ يمشِي كلَّ يومٍ فرسخاً يرتادُ ضيفاً فإنْ وافقَهُ أكرمَهُ وإلا نَوَى الصومَ وتقديمُ مُوسى لما أنَّ صحفَهُ التي هي التوراةُ أشهرُ عندَهُم وأكثرُ.
﴿أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ أي أنهُ لا تحملُ نفسٌ من شأنِها الحملُ حِملَ نفسٍ أُخْرَى عَلى أنَّ أنْ هيَ المخففةُ منَ الثقيلةِ وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمُها محذوفٌ والجملةُ المنفيةُ خبرُها ومحلُّ الجملةُ الجرُّ على أنَّها بدلٌ ممَّا في صحفِ مُوسى أو الرفعِ على أنَّها خبرٌ مبتدإٍ محذوفٍ كأنَّهُ قيلَ ما في صحفِهما فقيلَ هو أنْ لا تزرُ الخ والمَعْنى أنَّه لا يُؤاخذُ أحدٌ بذنبِ غيرِه ليتخلصَ الثَّانِي عن عقابةِ ولا يقدحُ في ذلك قولُه عليه الصلاة والسلام من سَنَّ سُنَّةً سيئةً فعليهِ وزرُهَا ووزرُ مَنْ عمِلَ بها إلى يومِ القيامةِ فإنَّ ذلكَ وزرُ الإضلالِ الذي هُو وزرُهُ وقولُه تعالَى
﴿وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى﴾ بيانٌ لعدمِ انتفاعِ الإنسانِ بعملِ غيرِه من حيثُ جلبُ النفعِ إليهِ إثرَ بيانِ عدمِ انتفاعِه بهِ منْ حيثُ دفعُ الضررِ عنْهُ وأما شفاعةُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ واستغفارُ الملائكةِ عليهم السَّلامُ ودعاءُ الأحياءِ للأمواتِ وصدقتُهم عنُهم وغيرُ ذلكَ ممَّا لا يكادُ يُحصَى من الأمورِ النافعةِ للإنسانِ مع أنَّها ليستْ من عملِه قطعاً فحيثُ كان مناطُ منفعةِ كلِّ منهَا عمله الذي هو الإيمانُ والصَّلاحُ ولم يكن لشيءٍ منها نفعٌ مَا بدونِه جُعل النافعُ نفسَ عملِه وإنْ
163
٥٠ ٤٠
كان بانضمامِ عملِ غيرِه إليهِ وأنْ مخففةٌ كأختِها معطوفةٌ عليهَا وكَذا قولُه تعالَى
164
﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى﴾ أي يُعرضُ عليهِ ويكشفُ له يومَ القيامةِ في صحيفتِه وميزانِه من أريتُه الشيءَ
﴿ثُمَّ يُجْزَاهُ﴾ أي يُجزى الإنسانُ سعيَهُ يقالُ جزاهُ الله بعملِه وجَزَاهُ على عمله وجزاه عملِه بحذفِ الجارِّ وإيصالِ الفعلِ ويجوزُ أن يُجعلَ الضميرُ للجزاءِ ثم يُفسَّرَ بقولِه تعالى ﴿الجزاء الأوفى﴾ أو يبدلُ هو عنْهُ كما في قولِه تعالى وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ
﴿وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى﴾ أي انتهاءَ الخلقِ ورجوعَهم إليهِ تعالى لا إلى غيرِه استقلالا ولا اشتراكا وقرىء بكسران على الابتداءِ
﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى﴾ أي هو خلقَ قُوتَي الضحكِ والبكاءِ
﴿وأنه هو أمات وأحيا﴾ لا يقدرُ على الإماتةِ والإحياءِ غيرُه فإنَّ أثرَ القاتلِ نقضُ البنيةِ وتفريقُ الاتصالِ وإنما يحصلُ الموتُ عندَهُ بفعلِ الله تعالَى على العادةِ
﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى﴾ ﴿مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى﴾ تدفقُ في الرحمِ أو تخلقُ أو يقدرُ منها الولد من مى بمعنى قَدر
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٥:﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى * مِن نُطْفَةٍ إِذَا تمنى ﴾ تدفقُ في الرحمِ أو تخلقُ أو يقدرُ منها الولدُ من مَنَى بمعنى قَدر.
﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى﴾ أَى الإحياءَ بعد الموتِ وفاءً بوعدِه وقُرىءَ النشاءةَ بالمدِّ وهي أيضاً مصدرُ نشأَهُ
﴿وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى﴾ وأعطَى القُنيةَ وهي ما يُتأثلُ من الأموالِ وأفردَها بالذكرِ لأنَّها أشرفُ الأموالِ أو أَرْضى وتحقيقُه جعلُ الرِّضا له قنيةً
﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى﴾ أي ربُّ معبودِهم وهي العَبورُ وهي أشدُّ ضياءً من الغِميصاءِ وكانتْ خزاعةُ تعبدُها سنَّ لهم ذلكَ أبو كبشةَ رجلٌ من أشرافِهم وكانتْ قرِيشٌ تقولُ لرسول الله ﷺ أبو كبشةَ تشبيهاً له عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ به لمخالفتِه إيَّاهم في دينِهم
﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى﴾
164
هي قومُ هودٍ عليه السلام وعاد الأخرى إرم وقيلَ الأُولى القدماءُ لأنَّهم أُوْلى الأممِ هلاكاً بعدَ قوم نوح وقرىء عاد الاولى بحذف الهمزةِ ونقل ضمتها إلى اللام وعادَ لُّولى بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة أولى وثقل حركتها إلى لام التعريف
165
﴿وَثَمُودُ﴾ عطفٌ عَلى عاداً لأنَّ ما بعدَهُ لا يعملُ فيهِ وقُرِىءَ وثموداً بالتنيون ﴿فَمَا أبقى﴾ أي أحداً من الفريقينِ
﴿وَقَوْمَ نُوحٍ﴾ عطفٌ عليهِ أَيْضاً ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي من قبلِ إهلاكِ عادٍ وثمودَ ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أظلم وأطغى﴾ من الفريقين حيثُ كانُوا يؤذونَهُ وينفّرون الناسَ عنْهُ وكانُوا يحذرونَ صبيانَهُم أن يسمعُوا منه وكانوا يضربونَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حتَّى لا يكونُ به حَراكٌ وما أثر فيهم دُعاؤُه قريباً من ألفِ سنةٍ
﴿والمؤتفكة﴾ هي قُرَى قومِ لوطٍ ائتفكتْ بأهلِها أي انقلبتْ بِهم ﴿أهوى﴾ أي أسقطَها إلى الأرضِ بعد أنْ رفعَها على جناحِ جبريلَ عليه السَّلامُ إِلَىَّ السماءِ
﴿فغشاها مَا غشى﴾ من فنونِ العذابِ وفيه منَ التهويل والتفظيع مالا غاية وراءه
﴿فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى﴾ تتشكك والخطاب للرسول عليه الصلاة والسَّلامُ على طريقةِ قولِه تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ أولكل أحدٍ وإسنادُ فعلِ التَّمارِي إلى الواحدِ باعتبارِ تعددِه بحسبِ تعددِ متعلقِه فإنَّ صيغةَ التفاعلِ وإن كانتْ موضوعة لإفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يكونُ كلٌّ منْ ذلك فاعلا ومفعولا معا لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني فيراد بها المَعْنى الأولَ فقط كما في يتداعونهم أي يدعونهم وقد تُجرّد عنهم أيضاً فيُكتفى بتعدد الفعل بتعدد متعلّقه كما فيما نحن فيه فإن المِراء متعددٌ بتعدد الآلاء فتدبر وتسمية الأمور المعدودة آلاءَ مع أن بعضها نِقمٌ لِما أنها أيضاً نعم من حيث إنها نصرى للأنبياءِ والمؤمنين وانتقام لهم وفيها عظاتَ وعِبر للمعتبرين
﴿هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الأولى﴾ هَذا إمَّا إشارةٌ إلى القُرآنِ والنذيرُ مصدرٌ أو إِلى الرسولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والنذيرُ بمَعْنى المُنذرِ وأياً ما كانَ فالتنوينُ للتفخيمِ ومِنْ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو نعتٌ لنذيرٌ مقررٌ له ومتضمنٌ للوعيدِ أي هَذا القرآنُ الذي تشاهدونَهُ نذيرٌ من قبيلِ الإنذاراتِ المتقدمةِ التي سمعتُم عاقبتَها أو هذا الرسولُ منذرٌ من جنسِ المنذرينَ الأولينَ والأُولى على تأويلِ الجماعةِ لمراعاةِ الفواصلِ وقد علمتُم أحوالَ قومِهم المنذرين وفي
165
٦٢ ٥٧
تعقيبهِ بقولِه تعالى
166
﴿أَزِفَتِ الأزفة﴾ إشعارٌ بأنَّ تعذيبَهُم مؤخرٌ إلى يَوْمِ القيامةِ أي دنتِ الساعةُ الموصوفةُ بالدنوِّ في نحوِ قولِه تعالى اقتربت الساعة
﴿لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ﴾ أي ليسَ لها نفسٌ قادرةٌ على كشفِها عندَ وقوعِها إلا الله تعالَى لكنَّه لا يكشفُهَا أو ليسَ لها الآنَ نفسٌ كاشفةٌ بتأخيرِها إلا الله تعالَى فإنَّه المؤخِّرُ لَها أو ليسَ لها كاشفةٌ لوقتِها إلا الله تعالى كقوله تعالى لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ أو ليسَ لها من غيرِ الله تعالى كشفٌ على أنَّ كاشفةٌ مصدرٌ كالعافيةِ
﴿أَفَمِنْ هذا الحديث﴾ أي القرآنِ ﴿تَعْجَبُونَ﴾ إنكاراً
﴿وَتَضْحَكُونَ﴾ استهزاءً مع كونِه أبعدُ شيءٍ من ذلكَ ﴿وَلاَ تَبْكُونَ﴾ حُزناً على ما فرَّطُّتم في شأنِه وخوفاً من أنْ يَحيقَ بكُم ما حاقَ بالأممِ المذكورةِ
﴿وَأَنتُمْ سامدون﴾ أي لاهونَ أو مستكبرونَ من سَمد البعيرُ إذا رفعَ رأسَهُ أو مغنونَ لتشغَلوا النَّاسَ عن استماعِه من السمودِ بمَعْنى الغناءِ على لغةِ حِميرَ أو خاشعونَ جامدونَ من السمودِ بمَعْنى الجمودِ والخشوعِ كما في قولِ مَنْ قالَ... رَمَى الحِدْثانُ نِسْوةَ آلِ سَعْد بمقْدَارٍ سمدن له سجودا... فرد شعروهن السود بيضا ورد وجوههن البيضَ سُوداً...
والجملةُ حالٌ مِنْ فاعلِ لا تبكونَ خَلاَ أنَّ مضمونَها على الوجه الأخير قيد للمنفى والإنكارُ واردٌ على نَفي البكاءِ والسمودِ معاً وعلى الوجوهِ الأُولِ قيدٌ للنفي والإنكارُ متوجهٌ إلى نفي البكاءِ ووجودِ السمودِ والأولُ أوفَى بحقِّ المقامِ فتدبرْ والفاء في قوله تعالى
﴿فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا﴾ لترتيبِ الأمرِ أو موجبِه على ما تقررَ من بُطلانِ مقابلةِ القرآنِ بالإنكارِ والاستهزاءِ ووجوبِ تلقيهِ بالإيمانِ مع كمالِ الخضوعِ والخشوعِ أي وإذَا كانَ الأمرُ كذلِكَ فاسجدُوا لله الذي أنزلَهُ واعبدوا عن النبي عليه الصلاةَ والسلام من قرأ سورة النجم أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد من صدق بمحمدٍ وجحدَ به بمكةَ شرفها الله تعالى
166
القمر ٣ {

بسم الله الرحمن الرحيم

167
Icon