تفسير سورة الحاقة

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الحاقة من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
مكية وآياتها ٥٢.

تفسير سورة «الحاقّة»
[وهي] مكّيّة بإجماع
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤)
قوله عز وجل: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ المُرَادُ بالحاقَّةِ: القيامةُ، وهي اسْمُ فاعلٍ مِنْ حَقَّ الشَّيءُ يَحِقُّ لأنَها حَقَّتْ لِكُل عَامِلٍ عملَه، قال ابن عباس وغيره: سُمِّيَت القيامةَ حَاقَّةً لأنَّها تُبْدِي حَقَائِقَ الأشياء «١»، والْحَاقَّةُ: مبتدأ ومَا مبتدأُ ثانٍ، والحاقَّةُ الثانية خَبَرُ مَا والجملةُ خَبَرُ الأُولى، وهذا كما تقول: زَيْدٌ مَا زَيْدٌ على معنى التعظيمِ له، وإبْهام التعظيمِ أيضاً ليتخَيَّلَ السّامِعُ أقْصَى جُهْدَه.
وقوله: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ مبالغة في هذا المعنى: أي: أن فيها مَا لَمْ تَدْرِه مِنْ أهْوَالِها، وتَفَاصِيلِ صِفَاتِها، ثم ذكرَ تعالى تكذيبَ ثَمُودَ وَعَادٍ بهذَا الأَمْرِ الذي هو حَقُّ مشيراً إلى أنْ مَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ يَنزلُ به ما نزل بأولئك، والقارعة: من أسماء القيامة أيضاً لأنها تَقْرَعُ القلوبَ بصدمتها.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٥ الى ١٧]
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤)
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧)
وقوله سبحانه: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ قال قتادة: معناه: بالصَّيْحَةِ التي خَرَجَتْ عن حدِّ كل صيحةٍ «٢»، وقيل: المعنى بسَبَبِ الفِئَةِ الطاغيةِ، وقيل: بسببِ الفعلة الطاغية، وقال ابن زيد ما معناه: الطاغيةُ مصدرٌ كالعَاقِبة، فكأنه قال بطغيانهم «٣» وقاله أبو
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٥٦). [.....]
(٢) ذكره البغوي (٤/ ٣٨٦)، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٥٦)، وذكره ابن كثير (٤/ ٤١٢).
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٢٠٧)، رقم: (٣٤٧٢٢) بنحوه، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٥٧).
473
عبيدة، وَيُقَوِّي هذا قوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشمس: ١١] وأوْلَى الأقوال وأصوبُها الأوَّلُ، وباقي/ الآيةِ تقدم تفسيرُ نظيرهِ، وما في ذلك من القصص، والعَاتِيَةُ:
معناه الشديدةُ المخالِفَة، فكانت الريحُ قد عَتَتْ على خُزَّانِها بخلافِها، وعلى قومِ عادٍ بشدتها، ورُوِيَ عن عليٍّ وابن عباس أنهما قَالا: لَمْ ينزلْ من السماء قطرةُ ماءٍ قط إلا بمكيالٍ عَلَى يدِ مَلَكٍ، ولا هبتْ ريحٌ إلاَّ كذلك إلاَّ ما كَانَ مِنْ طوفانِ نوحٍ، وريحِ عادٍ، فإنَّ اللَّه أَذِنَ لهما في الخروج دونَ إذن الخزّان «١»، وحُسُوماً: قال ابن عباس وغيره:
معناه كَامِلَةً تِبَاعاً لم يتخللْها غيرُ ذلك «٢»، وقال ابن زيد: حُسُوماً جمعُ حَاسِمٍ، ومعناه أنَّ تلكَ الأَيامَ قطعَتْهُم بالإهلاكِ «٣»، ومنه حَسَمَ العِلَلَ، ومنه الحُسَامُ، والضميرُ في قوله:
فِيها صَرْعى يُحتملُ عُوْدُه على الليالي والأيامِ، ويُحْتَمَلُ عودُه على ديارِهم، وقيل: على الريح، - ص-: «ومن قِبَلَه» النْحويانِ وعاصمٌ في روايةٍ- بكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباء- أي:
أجنادُه وأهلُ طاعتهِ، وقرأ الباقون «٤» :«قَبْلَه» ظَرْفَ زمانٍ، انتهى.
وقوله: بِالْخاطِئَةِ صفةٌ لمحذوفٍ، أي: بالفعلةِ الخاطئةِ، وال «رابية» النَّامِيَة التي قد عَظُمَتْ جِدًّا، ومنه رِبَا المالِ، ومنه اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [ٍالحج: ٥]، ثم عدد تعالى على الناس نعمه في قوله: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ يعني في وقتِ الطوفانِ الذي كانَ على قوم نوح، والْجارِيَةِ سفينةُ نوحٍ قاله منذر بن سعيد «٥»، والضميرُ في: لِنَجْعَلَها
عائِدٌ على الجاريةِ أو على الفعلة.
وقوله تعالى: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
: عبارةٌ عن الرجلِ الفَهِمِ المُنَوَّرِ القلبِ الذي يسمعُ القرآنَ فيتلقاه بِفَهْمٍ وتدبُّرٍ، قال أبو عمران الجوني: واعِيَةٌ
عَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ تعالى، وقال الثعلبيُّ: المعنى: لِتَحْفَظَهَا كلُّ أذُنٍ فتكونَ عِظَةً لِمَنْ يأتي بعدُ، تقول وَعَيْتَ العِلْمَ إذا
(١) أخرجه الطبري (١٢/ ٢٠٧- ٢٠٨)، رقم: (٣٤٧٢٧)، (٣٤٧٢٨) بنحوه، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٥٧)، وذكره ابن كثير (٤/ ٤١٣)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٠٥)، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عبّاس.
(٢) أخرجه الطبري (١٢/ ٢٠٨)، رقم: (٣٤٧٣٢) بنحوه، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٥٧)، وذكره ابن كثير (٤/ ٤١٢)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٠٦)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عبّاس.
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٢٠٩)، رقم: (٣٤٧٤٥) بنحوه، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٥٧).
(٤) ينظر: «السبعة» (٦٤٨)، و «الحجة» (٦/ ٣١٤)، و «إعراب القراءات» (٢/ ٣٨٥)، و «حجة القراءات» (٧١٨)، و «معاني القراءات» (٨٦)، و «العنوان» (١٩٦)، و «شرح شعلة» (٦٠٦)، و «شرح الطيبة» (٦/ ٦٦)، و «إتحاف» (٢/ ٥٥٧).
(٥) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٥٨).
474
حَفِظْتَه، انتهى، ثم/ ذَكَّر تعالى بأمر القيامةِ، وقرأ الجمهور «١» :«وَحُمِلَتْ» بتخفيفِ الميمِ بمعنى: حَمَلَتْهَا الريح أو القدرة، وفَدُكَّتا معناه سُوِّيَ جميعُها، وانشقاقُ السماءِ هو تَفَطُّرُهَا وتميُّزُ بعضِها من بعضٍ، وذلك هو الوَهْيُ الذي ينالُها، كما يقال في الجدرات الباليةِ المتشققةِ واهيةٌ، والملَكُ اسْمُ الجنسِ يريدُ به الملائكةَ، وقال جمهور من المفسرين:
الضميرُ في أَرْجائِها عائدٌ على السَّمَاءِ أي: الملائِكَة على نواحيها، والرجاء الجَانِبُ مِنْ البئر أو الحائط ونحوه، وقال الضحاكُ وابنُ جبير وغيرهما: الضميرُ في: أَرْجائِها عائدٌ عَلى الأرْضِ «٢»، وإنْ كان لم يتقدم لها ذكرٌ قريبٌ لأنَّ القصةَ واللفظَ يَقْتَضِي إفهَام ذلك، وفَسَّرُوا هذه الآيةَ بما رُوِيَ من أن اللَّه تعالى يأمر ملائِكَةَ سَمَاءِ الدنيا، فيقفونَ صَفًّا على حَافَّاتِ الأرضِ، ثم يأمرُ ملائكة السماءِ الثانية فَيَصُفُّونَ خلفَهم، ثم كذلك ملائكةُ كُلّ سماءٍ، فكلما نَدَّ أحدٌ من الجنِ أو الإنسِ، وَجَدَ الأرضَ قد أُحِيطَ بها، قالوا: فهذا تفسير هذه الآية وهو أيضاً معنى قوله: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: ٢٢] وهو تفسير: «يَوْمَ التناد يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ» [غافر: ٣٢- ٣٣] على قراءةِ من شَدَّدَ الدال، وهو تفسيرُ قوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ... [الرحمن: ٣٣] الآية، واختلفَ الناسُ في الثمانيةِ الحاملينَ للعرشِ، فقال ابن عباس: هي ثمانيةُ صفوفٍ مِنَ الملائكة لا يَعْلَم أَحَدٌ عِدَّتَهم «٣»، وقال ابن زيدِ: هُمْ ثمانيةُ أمْلاَكٍ على هيئةِ الوُعُولِ «٤»، وقال جماعة من المفسرين: هم على هيئة الناسِ أرجلُهم تَحْتَ الأرْضِ السابعةِ، ورؤوسهم وكواهلهم فَوْقَ السماءِ السابعةِ، قال الغَزَّالِيُّ في «الدرة الفاخرة» : هم ثمانيةُ أمْلاَكٍ قَدَمُ المَلَكِ منهم مسيرةُ عشرينَ ألْفَ سنةٍ، انتهى، والضميرُ في قوله: فَوْقَهُمْ قيل: هو للملائكَةِ/ الحَمَلَةِ، وقيل: للعالم كلّه.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ١٨ الى ٢٩]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧)
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩)
(١) وقرأ ابن عبّاس، والأعمش، وابن أبي عبلة، وابن مقسم بتشديد الميم.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (١٦١)، و «المحرر الوجيز» (٥/ ٣٧٩)، و «البحر المحيط» (٨/ ٣١٧)، و «الدر المصون» (٦/ ٣٦٣)، و «التخريجات النحوية» (٢٣٨).
(٢) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٥٩).
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٢١٥- ٢١٦)، رقم: (٣٤٧٨٨، ٣٤٧٩٠) بنحوه، وذكره البغوي (٤/ ٣٨٨)، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٥٩)، وذكره ابن كثير (٤/ ٤١٤)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤٠٩)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الطبري (١٢/ ٢١٦)، رقم: (٣٤٧٩٢) بنحوه. وذكره ابن عطية (٥/ ٣٥٩).
475
وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ خطابٌ لجميعِ العَالَمِ، وفي الحديثِ الصحيحِ:
«يُعْرَضُ النَّاسُ ثَلاَثَ عَرْضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، فَعِنْدَهَا تَتَطَايَرُ الصُّحُفُ في الأَيْدِي، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ بِشِمَالِهِ» «١»، قال الغَزَّالِيُّ: يَجِبُ على كُلِّ مُسْلِمٍ البِدَارُ، إلى مُحَاسَبَةِ نفسِه كما قال عمرُ- رضي اللَّه عنه-: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا «٢»، وإنَّمَا حِسَابُهُ لِنَفْسِهِ، أَنْ يَتُوبَ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ قَبْلَ المَوْتِ تَوْبَةً نَصُوحاً، وَيَتَدَارَكَ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَقْصِيرٍ في فَرَائِضِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- ويردَّ المظالمَ حَبَّةً حَبَّةً، ويستحلَّ كلَّ مَنْ تَعَرَّضَ له بلسانِه ويدِه، وسوء ظِنّه بقلبِه، ويُطَيِّبَ قلوبَهم حتى يموتَ، ولم يَبْقَ عليه فريضة ولا مظلمة، فهذا يدخل بغيرِ حِسَابٍ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى، انتهى من آخِر «الإحياء»، ونَقَلَ القرطبيُّ في «تذكرَتِه» هذه الألفاظَ بعينها.
وقوله: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ معناه تَعَالُوا، وقَوْله: اقْرَؤُا كِتابِيَهْ هُو استبشارٌ وسرورٌ- ص-: هاؤُمُ «ها» بمعنَى خُذْ، قَالَ الكسائي: والعربُ تقول: هَاءِ يَا رَجُلُ، وللاثنين رجلين أو امرأتين: هَاؤُمَا، وللرجال: هَاؤُمْ، وللمرأَةِ: هَاءِ بهمزة مكسورة من غير ياء، وللنساء: هَاؤُنَّ، وزعم القُتَبِيُّ أَنَّ الهمزةَ بَدَلٌ من الكافِ، وهو ضعيفٌ، إلا أنْ يعني أنها تحلُّ محلَّها في لغةِ مَنْ قال: هَاكَ وهَاكِ، وهَاكُمَا وهَاكُمْ وَهَاكُنَّ، فذلكَ مُمْكِنٌ، لا أَنَّه بَدَلٌ صناعيٌّ لأَنّ الكافَ/ لاَ تُبْدَلُ من الهمزةِ ولا الهمزةُ منها. انتهى.
وقوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ عبارةٌ عن إيمانه بالبعث وغيره، وظَنَنْتُ هنا واقَعةٌ موقع: تَيَقَّنْتُ، وهي في مُتَيَقَّنٍ لم يقعْ بَعْدُ ولا خرج إلى الحسِّ، وهذا هُو باب الظنِّ الذي يوقع موقعَ اليقين، وراضِيَةٍ بمعنى مَرْضِيَّة، والقُطُوفُ: جمع قَطْفٍ وهو ما يُجْتَنَى من الثمارِ، ويقطفُ، ودنوُّها هُوَ أَنهَا تأتي طوع التّمنّي فيأكلها القائم والقاعد
(١) أخرجه الترمذي (٤/ ٦١٧)، كتاب «صفة القيامة» باب: ما جاء في العرض (٢٤٢٥)، وابن ماجه (٢/ ١٤٣٠)، كتاب «الزهد» باب: ذكر البعث (٤٢٧٧)، وأحمد (٤/ ٤١٤).
قال الترمذي: ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن علي الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤١٠)، وعزاه لابن المبارك.
476
والمضطجع بفيه من شجرتها، وبِما أَسْلَفْتُمْ معناه بِمَا قَدَّمْتُمْ من الأَعْمَالِ الصالحةِ، والْأَيَّامِ الْخالِيَةِ هي أيام الدنيا، لأنها في الآخرة قَدْ خَلَتْ وذَهَبَتْ، وقال وكيع وغيره:
المرادُ بِما أَسْلَفْتُمْ من الصوم «١»، وعموم الآية في كل الأعمال أوْلى وأحسن، ت:
ويدلُّ على ذلك الآية الأخرى كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المرسلات: ٤٣] قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا مالك بن مغول أنّه بلغَه أنّ عمر بن الخطاب- رضي اللَّه عنه- قال: حَاسِبُوا أنفُسَكم قبل أن تحاسَبُوا فإنَّه أهْونُ أو أيْسَرُ لحسابِكم، وزنوا أنفسَكم قبل أن تُوزَنُوا، وتجهَّزُوا للعرْضِ الأَكْبَرِ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ قال ابن المبارك: أخبرنا معمر عن يحيى بن المختارِ، عن الحسن قال: إن المؤمِنَ قَوَّامٌ على نفسه، يحاسبُ نفسَه للَّه، وإنما خَفَّ الحسابُ يوم القيامة عَلَى قومٍ حَاسَبُوا أنفسهم في الدنيا، وإنَّما شَقَّ الحسابُ يومَ القيامةِ على قومٍ أَخَذُوا هذا الأَمْرَ عن غير محاسبةٍ «٢»، انتهى، والذينَ يُؤتَوْنَ كتبَهم بشمائِلهم هم المخلَّدُونَ/ في النارِ أهلُ الكفرِ، فيتمنَّوْن أن لو كانوا معدومين.
وقوله: يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ إشارة إلى موتة الدنيا، أي: ليتها لم يكن بعدها رجُوع، - ص-: مَا أَغْنى «ما» نافيةٌ أو استفهاميةٌ انتهى، والسلطانُ في الآيةِ الحجةُ، وقيل: إنه يَنْطِقُ بذلكَ مُلُوكُ الدنيا، والظاهر أنَّ سلطانَ كلِّ أحَدٍ حَالُه في الدنيا من عَدَدٍ وعدد، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «لاَ يُؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ، وَلاَ يجلس على تكرمته إلّا بإذنه» «٣».
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣)
وقوله سبحانه: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ الآية، المعنى يقول الله تعالى، أو الملك بأمره
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٦٠). [.....]
(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤١٢)، وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج.
(٣) أخرجه مسلم، كتاب «المساجد» باب: من أحق بالإمامة، حديث (٢٩٠- ٢٩١)، وأبو داود (١/ ٢١٥)، كتاب «الصلاة» باب: في من أحق بالإمامة (٥٨٢)، والترمذي (١/ ٤٥٨- ٤٥٩)، كتاب «المواقيت» باب: من أحق بالإمامة (٢٣٠)، والنسائي (٢/ ٧٦)، كتاب «الإمامة» باب: من أحق بالإمامة (٧٨٠)، (٢/ ٧٧)، كتاب «الإمامة» باب: اجتماع القوم وفيهم الوالي (٧٨٣)، وابن ماجه (١/ ٣١٣، ٣١٤)، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: من أحق بالإمامة (٩٨٠)، وأحمد (٤/ ١١٨، ١٢١- ١٢٢)، (٥/ ٢٧٢)، وهو في الترمذي أيضا (٥/ ٩٩)، كتاب «الأدب» باب: (٢٤) (٢٧٧٢).
قال الترمذي: حسن صحيح.
للزبانيةِ: خذوه واجْعَلُوا في عنقه غلاًّ، قال ابن جُرَيْجٍ: نزلَتْ في أبي جَهْلٍ «١».
وقوله تعالى: فَاسْلُكُوهُ معناه: أدْخِلوه، ورُوِيَ أن هذه السلسلةَ تدخلُ في فَمِ الكافرِ وتخرجُ من دُبُرِه، فهي في الحقيقةِ التي تَسْلُكُ فيه، لكنَّ الكلامَ جَرَى مَجْرَى:
أدْخَلْتُ القَلَنْسُوةَ في رَأْسِي، ورُوي أن هذه السلسلةَ تلوى حَوْلَ الكافرِ حتى تعمَّه وتَضْغَطَه، فالكلامُ على هذا على وجهه وهو المسلوك.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٣٤ الى ٣٧]
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧)
وقوله تعالى: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ خُصَّتْ هذه الخلةُ بالذكرِ، لأنَّها من أضَرِّ الخِلاَلِ بالبشر إذا كثُرَتْ في قوم هَلَكَ مساكينُهم، ت: ونَقَلَ الفخرُ «٢» عن بعض الناس أنه قال في قوله تعالى: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ: دليلانِ قويَّانِ على عِظَمِ الجرْمِ في حِرْمَانِ المساكين، أحدهما: عَطْفُه على الكفرِ وجَعْلُه قريناً له، والثاني: ذِكْرُ الحضِّ دُونَ الفِعْلِ ليعلمَ أنَّه إذا كانَ تاركَ الحضِّ بهذه المنزلةِ، فكيفَ بمن ترك الفِعْل، قال الفخر «٣» : ودلتِ الآية على أنَّ الكفارَ يُعَاقَبُونَ على ترك الصلاةِ والزكاةِ، وهو المرادُ من قولنا: إنهم مخاطَبُون بفروعِ الشريعة/ وعن أبي الدَّرْدَاءِ أنه: كانَ يَحُضُّ امرأتَه على تكثيرِ المَرَقِ لأجْلِ المساكينِ، ويقول: خَلَعْنَا نصفَ السلسلةِ بالإيمَانِ، أَفَلاَ نَخْلَعُ النصفَ الثاني «٤»، انتهى.
وقوله: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ أي صَدِيقٌ لطيفُ المودةِ قاله الجمهور، وقيلَ: الحميمُ الماءُ السُّخْنُ، فكأنه تعالى أخبرَ أنَّ الكافرَ ليس له ماءٌ ولا شيءٌ مائعٌ ولا طَعَامٌ إلا مِنْ غِسْلينٍ، وهو ما يَجْرِي من الجَرَاحِ، إذا غَسِلَتْ، وقال ابن عباس: الغسلينُ هو صَدِيدُ أهْلِ النار «٥»، وقال قَوم: الغسلينُ: شيءٌ يجري من ضَرِيع النارِ، - ص-:
إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ أبو البقاء: النونُ في (غسلين) زائدةٌ: لأنه غُسَالَةُ أهلِ النار، انتهى،
(١) ذكره ابن عطية (٥/ ٣٦١) عن ابن جرير.
(٢) ينظر: «الفخر الرازي» (٣٠/ ١٠٢).
(٣) ينظر: المصدر السابق.
(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤١٢)، وعزاه لأبي عبيد، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن أبي الدرداء.
(٥) أخرجه الطبري (١٢/ ٢٢١)، رقم (٣٤٨٢٥)، وابن عطية (٥/ ٣٦١)، وابن كثير (٤/ ٤١٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤١٢)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
والخاطئ الذي يفعل ضدّ الصواب.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠)
وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ قيل: «لا» زائدةٌ وقيل: «لا» رَدٌّ لما تَقَدَّمَ من أَقوالِ الكفار، والبَدْأَة: أقْسِمُ.
وقوله: بِما تُبْصِرُونَ وَما لاَ تُبْصِرُونَ قَال قتادة: أرادَ اللَّه تعالى أن يَعُمَّ بهذا القسمِ جميعَ مخلوقاتهِ «١»، والرسولُ الكريمُ قيل: هو جبريلٌ، وقيل: هو نبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤)
وقوله تعالى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ نَفى سبحانه أن يكونَ القرآن من قولِ شاعرٍ كما زعمت قريش، وقَلِيلًا نَصْبٌ بفعلِ مَضْمَر يدل عليه تُؤْمِنُونَ و «ما» يحتملُ أنْ تكونَ نافيةً فينتفي إيمَانُهم أَلْبَتَّةَ، ويحتملُ أَن تكونَ مصدريةً فيتَّصِفُ إيمانهم بالقلةِ، ويكونُ إيماناً لُغَوِيًّا لأنهم قَدْ صَدَّقُوا بأشياءَ يسيرةٍ لاَ تُغْنِي عَنْهم شيئاً، ثم أخبر سبحانه أن محمّدا ع لَوْ تَقَوَّلَ عليه لعَاقَبَه بما ذكر، - ص-: الأَقَاويلُ جمع أقوالٍ، وأقْوَالٌ جَمْعُ قَوْلٍ، فهو جمع الجمع، انتهى.
[سورة الحاقة (٦٩) : الآيات ٤٥ الى ٥٢]
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢)
وقوله سبحانه: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ قال ابن عباس: المعنى لأَخَذْنا منه بالقوةِ، أي لَنِلْنَا منه عقَابَه بقوةٍ/ منا «٢»، وقيل: معناه لأَخَذْنَا بيدهِ اليمنى على جهةِ الهَوانِ، كما يقال لِمَنْ يسجنُ أو يقامُ لعقوبةٍ: خُذُوا بيدِه أو بيمينه، والوَتِينُ نِيَاطُ القلبِ قاله ابن عباس، وهُو عِرْقٌ غَلِيظٌ تصادفُه شفرةُ الناحِرِ «٣»، فمعنى الآيةِ: لأَذْهَبْنَا حياتَه معجَّلاً، والحاجِزُ:
المانِعُ والضمير في قوله: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ عائدٌ على القرآن، وقيل: على النبي صلّى الله عليه وسلّم،
(١) ذكره البغوي (٤/ ٣٩٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٦٢).
(٢) ذكره البغوي (٤/ ٣٩٠)، وذكره ابن عطية (٥/ ٣٦٣).
(٣) أخرجه الطبري (١٢/ ٢٢٣)، رقم: (٣٤٨٣٢- ٣٤٨٣٣، ٣٤٨٣٤) بنحوه، والبغوي (٤/ ٣٩١)، وابن عطية (٥/ ٣٦٣)، وابن كثير (٤/ ٤١٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦/ ٤١٣)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عبّاس.
479
- ص-: وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ: ضمير (إنه) يعودُ على التكذيبِ المفهومِ من مُكَذِّبِينَ، انتهى، وقال الفخر «١» : الضميرُ في قوله: وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ فيه وجهانِ: أحدهما أنه يعودُ على القرآن، أي: هو على الكافرينَ حَسْرَةً، إمَّا يوم القيامةِ إذَا رَأَوا ثَوَابَ المصدِّقينَ به، أو في الدنيا إذا رأوا دَوْلَةَ المؤمنِين، والثاني: قال مقاتلٌ: وإنَّ تكذيبَهم بالقرآن لَحَسْرَةٌ عليهم يَدلُّ عَلَيْه قوله: أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، انتهى، ثم أمَرَ تعالى نبيه بالتسبيحِ باسْمِه العظيم، ولمّا نَزَلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اجعلوها في ركوعكم.
(١) ينظر: «الفخر الرازي» (٣٠/ ١٠٦).
480
Icon