تفسير سورة إبراهيم

مراح لبيد
تفسير سورة سورة إبراهيم من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة إبراهيم
مكية، اثنتان وخمسون آية، ثمانمائة وإحدى وثلاثون آية، ثلاثة آلاف وخمسمائة وتسعة وثلاثون حرفا
الر كِتابٌ أي السورة المسماة ب «الر» كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ يا أشرف الخلق لِتُخْرِجَ النَّاسَ كافة بدعائك إياهم مِنَ الظُّلُماتِ أي ظلمات الكفر والضلالة والجهل إِلَى النُّورِ أي الإيمان وهذه الآية دالة على أن طرق الكفر والبدعة كثيرة وطريق الحق واحد بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بتسهيله فإن الرسول لا يمكنه إخراج الناس من الظلمات إلى النور إلا بمشيئة الله وتخليقه إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) أي إلى دين الكامل القدوة المستحق للحمد في كل أفعاله اللَّهِ.
قرأه نافع وابن عامر بالرفع الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ملكا وملكا وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) أي لما ترك الكفار عبادة الله الذي هو المالك للسموات والأرض ولكل ما فيهما وعبدوا ما لا يملك ضرا ولا نفعا فالويل ثم الويل لمن كان كذلك أي يولولون أي يصيحون من عذاب غليظ ويقولون: يا ويلاه الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أي يختارون الدنيا على الآخرة فهم ضالون وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون الناس عن قبول دين الله فهم مضلون وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون لسبيل الله زيغا ويقولون لمن يريدون إضلاله: إنها زائغة غير مستقيمة فهذا نهاية الضلال والإضلال أُولئِكَ الموصوفون بتلك القبائح فِي ضَلالٍ عن طريق الحق بَعِيدٍ (٣) أي في غاية البعد عنه فلا يوجد ضلال أكمل من هذا الضلال وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ أي إلا متكلما بلغة من أرسل إليهم الرسول أيا كان وهم بالنسبة لغير سيدنا محمد خصوص عشيرة رسولهم وبالنسبة إليه كل من أرسل إليه من أصناف الخلق، لأن رسالته عامة لجميع الخلق وهو صلّى الله عليه وسلّم كان يخاطب كل قوم بلغتهم، وإن لم يثبت أنه تكلم باللغة التركية لأنه لم يصادف أنه خاطب أحدا من أهلها ولو خاطبه لكلمه بها لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ما كلفوا به بلغاتهم فيكون فهمهم لأسرار الشريعة أسهل
565
ووقوفهم على المقصود أكمل فَيُضِلُّ اللَّهُ عن دينه مَنْ يَشاءُ أي يمنع ألطافه تعالى به وَيَهْدِي لدينه بمنح الألطاف مَنْ يَشاءُ فتقوية البيان لا توجب حصول الهداية فربما قوي البيان ولا تحصل الهداية وربما ضعف البيان، وحصلت الهداية لأن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) فلا يغالب في مشيئته ولا يفعل شيئا إلا لحكمة وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وهي معجزاته التي أظهرها لبني إسرائيل أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ أي ظلمات الكفر إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان فإن مفسرة لأرسلنا وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أي بنعم الله عليهم كانفلاق البحر وتظليل الغمام وعلى من قبلهم ممن آمن بالرسل فيما سلف من الأيام وببأس الله عليهم، وهي أيامهم تحت قهر فرعون، وبعذاب الله من كذب الرسل فيما سلف من الأيام كما نزل بعاد وثمود وغيرهم ليرغبوا في الوعد فيصدقوا وليحذروا من الوعيد فيتركوا التكذيب إِنَّ فِي ذلِكَ أي في التذكير بالوقائع لَآياتٍ أي دلائل لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥). وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يخلو زمانه عن أحد الأمرين الصبر والشكر، لأن الحال إما أن يكون حال بلية أو حال عطية فإن جرى الوقت على ما يلائم طبعه كان شكورا، وإن جرى بما لا يلائم طبعه كان صبورا فالانتفاع بهذا التذكير لا يكون إلا لمن كان صابرا أو شاكرا وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي مستقرة عليكم إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي وقت إنجائه إياكم منهم يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يطلبون منكم الأعمال الشاقة وَيُذَبِّحُونَ تذبيحا كثيرا أَبْناءَكُمْ صغارا وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يستخدمونهن كبارا بالاستحياء ويبقونهن منفردات عن الرجال وَفِي ذلِكُمْ أي المذكور من الأفعال الفظيعة بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) لا يطاق وفي الخلاص من ذلك نعمة عظيمة وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ أي واذكروا حين أعلم ربكم في الكتاب وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وإذ قال ربكم: لَئِنْ شَكَرْتُمْ يا بني إسرائيل نعمة الإنجاء وإهلاك العدو وغير ذلك بالإيمان الخالص والعمل الصالح لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمة إلى نعمة وحقيقة الشكر هو الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه ومزيد النعم الجسمانية أن كل من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر كان وصول نعم الله إليه أكثر، ومزيد النعم الروحانية أن النفس إذا اشتغلت بمطالعة أنواع فضل الله وإحسانه أوجب ذلك الاشتغال تأكد محبة العبد لله تعالى، ثم قد يترقى العبد من ذلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلا له عن الالتفات إلى النعم فالشكر مقام شريف يوجب السعادة في الدين والدنيا. وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ أي أنكرتم نعمتي فعسى يصيبكم عذابي إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وكفران النعمة لا يكون إلا عند الجهل بكون تلك النعمة نعمه من الله تعالى والجاهل بها جاهل بالله والجهل بالله من أعظم أنواع العذاب وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا نعمة تعالى ولم تشكروها أَنْتُمْ يا بني إسرائيل وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً لم يرجع
ضرر الكفر إلا عليكم فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن شكر
566
الشاكرين حَمِيدٌ (٨) أي مستحق للحمد في ذاته، وإن لم يحمده أحد بل كل ذرة من ذرات العالم ناطقة بحمده أَلَمْ يَأْتِكُمْ يا بني إسرائيل نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هؤلاء المذكورين لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ أي لا يعلم عددهم إلا الله لكثرتهم وهذه الجملة حال من الذين أو من الضمير المستكن في من بعدهم جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالدلائل الواضحة على صدقهم وهذه الجملة تفسير لنبأ الذين من قبلكم فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي وعض الكفار أيديهم من الغيظ من شدة نفرتهم عن استماع كلام الرسل أو وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين إلى الرسل أي كفوا عن هذا الكلام واسكتوا وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ على ادعائكم فإنهم ما أقروا بأن أوامر الرسل ومنهياتهم من الله تعالى وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ عظيم مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإيمان بالله والتوحيد.
وقرئ «تدعونا» بإدغام النون مُرِيبٍ (٩) أي ذي قلق النفس قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ أي أفي وجود الله ووحدته شك وهو أظهر من كل ظاهر فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وما فيهما يَدْعُوكُمْ إلى التوحيد بإرساله إيانا لِيَغْفِرَ لَكُمْ بسببه مِنْ ذُنُوبِكُمْ في الجاهلية وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أي يؤخر موتكم إلى وقت معين عند الله إن آمنتم وإلا عاجلكم الله بالاستئصال قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا من غير فضل تُرِيدُونَ بالدعوة أَنْ تَصُدُّونا أي تصرفونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا أي عن عبادة ما استمر آباؤنا على عبادته فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) أي وإن كنتم رسلا من الله فأتونا بحجة ظاهرة تدل على صحة ما تدعونه من النبوة حتى نترك ما لم نزل نعبده قالوا ذلك عنادا فإن الرسل قد أتوهم بالآيات الظاهرة
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ مجاراة معهم في أول مقالتهم إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كما تقولون وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بالنبوة فإنها عطية من الله من غير سبب وَما كانَ لَنا أي ما استقام لنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ أي بحجة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) ومقصود الرسل بهذا القول حمل أنفسهم على التوكل فإن الكفار أخذوا في التخويف حتى قالوا للرسل: توكلوا أنتم على الله حتى تروا ما يفعل بكم فقالت الرسل:
وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا أي أيّ عذر لنا في ترك التوكل على الله والحال أنه قد هدانا طرقه التي نعرفه بها ونعلم أن الأمور كلها بيده وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا بالعناد واقتراح الآيات وغير ذلك فإن الصبر مفتاح الفرج ومطلع الخيرات وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) أمر الرسل في هذا أتباعهم بالتوكل بعد أمر أنفسهم به وذلك يدل على أن الآمر بالخير لا يؤثر إلا بعد الإتيان به فالإنسان إما أن يكون ناقصا أو كاملا، فالناقص إما أن يكون ناقصا غير ساع في تنقيص حال غيره فهو ضال، وإما أن يكون ساعيا في ذلك فهو مضل، وإما خاليا عن الوصفين فهو مهتد. والكامل إما أن يكون غير قادر على تكميل الغير فهو ولي، وإما قادرا على
ذلك فهو نبي فالولي: هو الإنسان الكامل، والنبي: هو الإنسان الكامل المكمل. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي الغالون في الكفر لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أي من مدينتنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي لتصيرن داخلين في ملتنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي الرسل رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ أي أرض الظالمين وديارهم مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هلاكهم ذلِكَ أي إسكان الأرض ثابت لِمَنْ خافَ مَقامِي أي لمن خافني وخاف حفظي لأعماله وَخافَ وَعِيدِ (١٤) أي عذابي الموعود للكفار وَاسْتَفْتَحُوا أي طلب كل من الرسل والقوم النصرة على عدوه فنصر الله الرسل وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ أي خسر عند الدعاء من النصرة كل متكبر عن عبادة الله عَنِيدٍ (١٥) أي منحرف عن الحق مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي من بعد هذه الخيبة جهنم يلقى فيها وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) أي مما يسيل من جلود أهل النار من القبح والدم يَتَجَرَّعُهُ أي يتناوله جرعة جرعة على الاستمرار لغلبة العطش والحرارة عليه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي لا يكاد أن يجريه في الحلق بل يستمسكه فيه لمرارته ونتنه فوصوله إلى الجوف ليس بإجازة وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ أي يجد ذلك الكافر ألم الموت من كل مكان من أعضائه حتى من أصول شعره وإبهام رجله والحال أنه لا يموت من ذلك العذاب وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) أي ومن بعد ذلك العذاب عذاب أشد مما هو عليه لا ينقطع ولا يخف بسبب الاعتياد كما في عذاب الدنيا مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ أي صفة أعمالهم الصالحة كصدقة وصلة رحم، وإعتاق رقاب وفداء أسير، وقري ضيف وبر والد، وإغاثة ملهوف كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ أي ذرت بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ أي شديد الريح لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ أي لا يجدون يوم القيامة أثرا مما عملوا في الدنيا من ثواب أو تخفيف عذاب كما لا يوجد من الرماد شيء إذا ذرته الريح وذلك لفقد شرط الأعمال وهو الإيمان ذلِكَ أي عملهم هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أي الضياع البعيد عن نيل الثواب أَلَمْ تَرَ أي قد أخبرت أيها المخاطب أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي ملتبسا بالحكمة وليس عبثا.
وقرأ حمزة والكسائي «خالق السموات» على اسم الفاعل والإضافة إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي يهلككم بالمرة وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) سواكم أطوع لله منكم. وَما ذلِكَ أي إذهابكم والإتيان ببدلكم عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) أي بمتعسر لأن القادر لا يصعب عليه شيء
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً أي ويخرجون من قبورهم إلى الله ليحاسبهم ويجازيهم على قدر أعمالهم فَقالَ الضُّعَفاءُ في الرأي وهم السفلة لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عبادة الله وهم أكابرهم إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في الدنيا في تكذيب الرسل والإعراض عن نصيحتهم فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي فهل أنتم في هذا اليوم دافعون عنا بعض شيء هو عذاب الله؟ قالُوا أي القادة: لَوْ
568
هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ
أي لو خلصنا الله من العقاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم طريق النجاة ودفعنا عنكم بعض العذاب ولكن سد الله عنا طريق الخلاص سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا مما لقينا أَمْ صَبَرْنا على ذلك أي الصياح، فالتضرع والصبر مستويان علينا في عدم الإنجاء ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) أي محل هرب من العقاب وَقالَ الشَّيْطانُ أي يقول إبليس رئيس الشياطين خطيبا في محفل الأشقياء من الثقلين لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ منه بأن استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وقد قالوا له: اشفع لنا فإنك أضللتنا إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وهو الوعد بالبعث والجزاء على الأعمال فصدق في وعده إياكم وَوَعَدْتُكُمْ أن لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار ولئن كان فالأصنام شفعاؤكم فَأَخْلَفْتُكُمْ أي كذبت لكم وتبين خلف وعدي وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي حجة تدل على صدقي أو قهر فأقهركم على الكفر والمعاصي إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أي أجبتموني فَلا تَلُومُونِي بوعدي إياكم حيث لم يكن ذلك على طريقة القسر وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث أجبتموني باختياركم حين دعوتكم بلا دليل فما كان مني إلا الدعاء وإلقاء الوسوسة وقد سمعتم دلائل الله، وجاءتكم الرسل، وكان من الواجب عليكم أن لا تغتروا بقولي فلما رجحتم قولي على الدلائل الظاهرة كان اللوم عليكم لا علي في هذا الباب ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ أي بمغيثكم من عذابكم وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ أي بمغيثي من عذابي إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أي إني الآن تبرأت من إشراككم إياي مع الله في الطاعة من قبل هذا اليوم، أي في الدنيا أي، لأن الكفار كانوا يطيعون إبليس في أعمال الشر كما يطاع الله في أعمال الخير. ومعنى إشراكهم إبليس بالله تعالى طاعتهم لإبليس في تزيينه لهم في عبادة الأوثان. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) هذا تمام كلام إبليس قطعا لأطماع أولئك الكفار عن الإغاثة فالوقف على من قبل حسن أو ابتداء كلام من حضرة الله تعالى إيقاظا للسامعين حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم فالوقف على من قبل تام كما هو عند أبي عمرو وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلق بأدخل أي أدخلتهم الملائكة بأمر ربهم تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) فإن بعضهم يحيي بعضا بهذه الكلمة، والملائكة يحيونهم بها والرب الرحيم يحييهم أيضا بهذه الكلمة.
وقرأ الحسن «وأدخل» على صيغة التكلم وعلى هذه القراءة فقوله: «بإذن» ربهم متعلق «بتحيتهم» أي تحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم. أَلَمْ تَرَ أي ألم تخبر يا أشرف الخلق كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً أي كيف جعل الله كلمة طيبة وهي لا إله إلا الله مثلا وهي كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وهي النخلة أَصْلُها ثابِتٌ أي ضارب بعروقه في الأرض وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) أي أعلاها في الهواء تُؤْتِي أُكُلَها أي تعطي هذه الشجرة ثمرها كُلَّ حِينٍ أي
569
كل وقت وكل ساعة ليلا أو نهارا شتاء أو صيفا، فيؤكل منها الجمار والطلع والبلح، والخلال والبسر، والمنصف والرطب وبعد ذلك يؤكل التمر اليابس إلى حين الطري الرطب فأكلها دائم في كل وقت بِإِذْنِ رَبِّها أي بإرادة خالقها كذلك كلمة التوحيد ثابتة في قلب المؤمن بالبرهان وعمل المؤمن المخلص يرفع إلى السماء وفي كل حين يعمل خيرا بأمر ربه وحكمة تمثيل كلمة التوحيد بالشجرة أن الشجرة تكون بثلاثة أشياء عرق راسخ، وأصل قائم، وفرع عال كذلك التوحيد يكون بثلاثة أشياء تصديق بالقلب، وقول باللسان وعمل بالأبدان وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أي يبين الله صفات التوحيد لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) أي يتعظون لأن في ضرب الأمثال تصويرا للمعاني فيحصل به الفهم التام والوصول إلى المطلوب وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهي الشرك بالله كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ كالحنظل والكشوت وهي نبت يتعلق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الأرض اجْتُثَّتْ أي استؤصلت مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ لكون عروقها في وجه الأرض أي ليس لها أصل ولا عرق يغوص في الأرض فتسميتها شجرة للمشاكلة فكذلك الشرك بالله ليس له حجة ولا قوة ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) أي ثبات على وجه الأرض فلا يقبل مع الشرك عمل يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أي الذي
يثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم وهو شهادة أن لا إله إلا الله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فلا يزالون عن تلك الشهادة إذا افتتنوا في دينهم كزكريا ويحيى، وجرجيس، وشمسون والذين فتنهم أصحاب الأخدود وَفِي الْآخِرَةِ أي في القبر حين يقال له: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام؟ ونبيي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وحكي أن سهل بن عمار العملي يقول: رأيت يزيد بن هارون في منامي بعد موته فقلت:
ما فعل الله بك؟ قال: أتاني في قبري ملكان فظان فقالا: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟
فأخذت بلحيتي البيضاء فقلت لهما: ألمثلي يقال هذا وقد علّمت النّاس جوابكما ثمانين سنة! فذهبا، وكلما كانت مواظبة العبد على ذكر لا إله إلا الله وعلى التأمل في دقائقها أتم وأكمل كان رسوخ هذه المعرفة في قلبه بعد الموت أقوى وأكمل.
قال ابن عباس: من داوم على الشهادة في الحياة الدنيا يثبته الله عليها في قبره ويلقنه إياها وإنما فسر الآخرة هاهنا بالقبر، لأن الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا ودخل في أحكام الآخرة وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أي يصرف الله المشركين عن قول لا إله إلا الله في الدنيا وفي القبر وعند خروجهم من القبور فإنهم إذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧) من الإضلال والتثبيت ومن صرف منكر ونكير أَلَمْ تَرَ أي ألم تنظر إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً كأهل مكة حيث أسكنهم الله حرمه الآمن، ووسّع عليهم أبواب رزقه،
570
وشرّفهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين فقتلوا وأسروا يوم بدر وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ أي أنزل بعض قريش المطعمون يوم بدر وهم بنو أمية وبنو المغيرة أتباعهم، وهم بقية قريش بسبب إضلالهم إياهم دارَ الْبَوارِ (٢٨) أي دار الهلاك جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها أي يدخلونها يوم القيامة مقاسين لحرها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) أي بئس المنزل جهنم وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي أشباها وشركاء في التسمية والحظ والعبادة لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ الذي هو التوحيد.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء فاللام للعاقبة. والباقون بضمها فاللام إما للعاقبة لأن عبادة الأوثان سبب يؤدي إلى الضلال، أو للتعليل فالذين اتخذوا الأوثان يريدون إضلال غيرهم وتحقيق لام العاقبة أن المقصود من الشيء لا يحصل إلا في آخر المراتب كما قيل: أول الفكر آخر العمل وكل ما حصل في العاقبة كان شبيها بالأمر المقصود في هذا المعنى قُلْ تَمَتَّعُوا بعبادتكم الأوثان وعيشوا بكفركم وهذا الأمر تهديد لهم فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ أي مرجعكم يوم القيامة إِلَى النَّارِ (٣٠) ليس إلا
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وهذان إما مجزومان في جواب أمر محذوف أي قل لهم أقيموا الصلاة فإن قلت لهم ذلك يقيموا الصلاة أو مجزومان بلام أمر مقدر، أي ليقيموا الصلاة أي الواجبة، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ أي أعطيناهم سِرًّا وَعَلانِيَةً أي أنفقوا إنفاق سر وعلانية. والمراد حث المؤمنين على الشكر لنعم الله تعالى بالعبادة البدنية والمالية، وعلى ترك التمتع بمتاع الدنيا كما هو صنيع الكفرة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ أي معاوضة فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) أي مصادقة تنفع وهو يوم القيامة وإنما الانتفاع فيه للمؤمن بالعمل الصالح، أو الإنفاق لوجه الله تعالى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وهما أصلان في دلالة وجود الصانع وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي السحاب ماءً فلولا السماء لم يصح إنزال الماء منها ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه فَأَخْرَجَ بِهِ أي بذلك الماء مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ تعيشون به فإذا علم المكلفون أن في تحصيل هذه المنافع القليلة تحمل المتاعب فالمنافع العظيمة الدائمة في الآخرة أولى بتحمل المشاق في طلبها وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ أي السفن لِتَجْرِيَ أي الفلك جريا تابعا لإرادتكم بِأَمْرِهِ أي بمشيئته التي نيط بها كل شيء فإن الانتفاع بما ينبت من الأرض لا يكمل إلا بوجود الفلك لنقله إلى البلد الآخر المحتاج أهلها إليه وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) أي لتنتفعوا بها في نحو الشرب وسقي الزراعات وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ أي جاريين فيما يعود إلى مصالح العباد لا يفتران في سيرهما إلى انقضاء عمر الدنيا ولولاهما لاختلت مصالح العالم بالكلية، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) لمنامكم ومعاشكم وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي كل ما لم تصلح أحوالكم إلا به فكأنكم سألتموه أو من كل ما طلبتموه بلسان الحال. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ التي أنعم الله بها عليكم لا تُحْصُوها أي لا تطيقوا على عد أنواعها فضلا عن عد أفرادها فإنها غير متناهية إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) أي فإن
571
الإنسان مجبول على النسيان والملالة، فإذا وجد نعمة نسيها في الحال، وترك شكرها فذلك ظلم، وإن لم ينسها فإنه يملها فيقع في كفران النعمة، وأيضا إن نعم الله كثيرة فمتى حاول الإنسان التأمل في بعضها غفل عن الباقي. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ أي مكة آمِناً من الخراب ومن الخوف لمن التجأ إليه وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) أي ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة الإسلام ومن البعد عن عبادة الأصنام. أو المراد أعصمنا من الشرك الخفي وهو عند الصوفية تعليق القلب بالوسائط وبالأسباب الظاهرة رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أي إن الأصنام ضلّ بهن كثير من الناس أي لما حصل الإضلال عند عبادتها نسب إليها فَمَنْ تَبِعَنِي في ديني واعتقادي فَإِنَّهُ مِنِّي أي فإنه جار مجرى بعضي لقربه مني وَمَنْ عَصانِي أي خالف ديني فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) أي فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي بعض ذريتي إسماعيل ومن سيولد له بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ أي في واد ليس فيه زرع عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ أي المعظم الذي يهابه كل جبار أو الذي منع من الطوفان وهو مكة شرفها الله تعالى فلعله قال ذلك باعتبار ما سيؤول إليه أو باعتبار ما كان رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي يا ربنا إنما أسكنت قوما من ذريتي وهم إسماعيل وأولاده في هذا الوادي الذي لا زرع فيه ليقيموا الصلاة نحو الكعبة فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي فاجعل قلوب بعض الناس تسرع إلى ذريتي شوقا إليهم بنقل المعاشات إليهم بسبب التجارات بالنسك والطاعة لله تعالى.
وقرأ العامة «تهوي» بكسر الواو، وقرأ أمير المؤمنين علي، وزيد بن علي، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، ومجاهد بفتح الواو أي تحبهم. وقرئ على البناء للمفعول أي اجعل قلوب بعض الناس ممالة إليهم، وَارْزُقْهُمْ أي ذريتي مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) تلك النعمة فإن إبراهيم عليه السلام إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرغوا لإقامة الصلاة وأداء الواجبات رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ من الحاجات وغيرها فلا حاجة بنا إلى الدعاء، إنما ندعوك إظهارا للعبودية لك وافتقارا إلى ما عندك وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) وهذه الجملة من كلام الله تعالى تصديقا لإبراهيم عليه السلام، وهي اعتراض بين كلامي إبراهيم، فالوقف على «نعلن» حسن كالوقف على «في السماء» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي حال كوني بعد الكبر إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ. روي أنه لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) أي لمجيب الدعاء وهو عالم بالمقصود رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ أي مثابرا عليها وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي واجعل بعض ذريتي كذلك رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠).
572
وقال ابن عباس: أي عبادتي.
أن لا ينتقم للمظلوم من الظالم إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ بلا عذاب الاستئصال لِيَوْمٍ أي لأجل يوم تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) أي تبقى مفتوحة لا تتحرك أجفانهم للدهشة مُهْطِعِينَ أي مسرعين نحو البلاء ناظرين إلى الداعي وهو جبريل حيث يدعو إلى الحشر من صخرة بيت المقدس مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ أي رافعي رؤوسهم إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ أي يدوم شخوص أبصارهم لدوام الحيرة في قلوبهم وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) أي خالية عن جميع الأفكار لعظم ما ينالهم من الحيرة لما تحققوه من العقاب وحصول هذه الصفات الخمس عند المحاسبة وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ أي وخوف الكفار يا أكرم الرسل أهوال يوم القيامة فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي كل من ظلم بالشرك رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي أخر العذاب عنا وردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى حد من الزمان قريب نُجِبْ دَعْوَتَكَ لنا على ألسنة الرسل إلى التوحيد وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيما جاءونا به أي نتدارك في الدنيا ما فاتنا من إجابة الدعوة واتباع الرسل فيقول الله لهم توبيخا أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ أي أطلبتم هذا المطلوب وهل لم تكونوا خلفتم مِنْ قَبْلُ هذا اليوم أي في الدنيا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) أي كانوا يقولون بالحلف لا زوال لنا من هذه الحياة إلى حياة أخرى ومن هذه الدار إلى دار المجازاة، أما زوالهم من غنى إلى فقر، ومن شباب إلى هرم، ومن حياة إلى موت فلا ينكرونه وَسَكَنْتُمْ معطوف على أقسمتم فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعصية وهم قوم نوح وعاد وثمود، لأن من شاهد هذه الأحوال وجب عليه أن يعتبر فإذا لم يعتبر كان مستحقا للتقريع وَتَبَيَّنَ لَكُمْ أي وظهر لكم حالهم بمشاهدة الآثار وبتواتر الأخبار كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من الإهلاك بما فعلوا من الفساد. وقرئ «وبين» على المجهول، وقرئ أيضا «وتبين» بنون المتكلم، أي أولم نبين لكم. وَضَرَبْنا لَكُمُ
573
الْأَمْثالَ
(٤٥) أي بينا لكم الأمثال في القرآن مما يعلم به أنه تعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وقادر على التعذيب المؤجل كما يفعل الهلاك المعجل وَقَدْ مَكَرُوا أي المهلكون مَكْرَهُمْ حال من الضمير في فعلنا بهم أي فعلنا بهم ما فعلنا، والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق مكرهم الذي جاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي أخذه بهم بالعذاب الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون وهذه الجملة حال من الضمير في مكروا وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) أي وإن كان مكرهم في غاية العظم والشدة بحيث تزول منه الجبال فإن وصلية. وقيل: «إن» نافية و «اللام» لتأكيدها، وينصره قراءة ابن مسعود رضي الله عنه وما كان مكرهم فالجملة حينئذ حال من الضمير في «مكروا» أي ومكروا مكرهم. والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الشرائع والمعجزات. وقيل:
هي مخففة من «أن» أي وأنه كان مكرهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات من الشرائع والمعجزات.
وقرأ الكسائي وحده «لتزول» بفتح اللام الفارقة ورفع الفعل. فالجملة حينئذ حال من قوله تعالى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي وعند الله المكر بهم. والحال أن مكرهم في غاية القوة بحيث تزول منه الجبال. فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ تفريع على ولا تحسبن الله إلخ فكأنه قيل: وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة وأخبرناك بما يلقونه من الشدائد وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا وبما أجبناهم به وقرعناهم بعدم تأملهم في أحوال من سبقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلهم بإهلاكهم فدم على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافنا رسلنا وعدنا فمخلف إما متعد لاثنين مضاف لمفعوله الثاني، وإما متعد لواحد مضاف لمفعوله ورسله مفعول لوعده إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي غالب لا يماكر ذُو انتِقامٍ (٤٧) لأوليائه من أعدائه يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ أي تغير في صفاتها فتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت وَالسَّماواتُ أي تبدل السموات غير السموات فتنتثر كواكبها، وتكسف شمسها، ويخسف قمرها وتكون السماء أبوابا، وذكر شبيب بن إبراهيم بن حيدرة أن الأرض والسموات يبدلان كرتين إحداهما قبل نفخة الصعق فتنتثر أولا الكواكب وتكسف الشمس والقمر، وتصير السماء كالمهل، ثم تكشط عن رؤوسهم، ثم تسير الجبال، ثم تموج الأرض، ثم تصير البحار نيرانا، ثم تنشق الأرض من قطر إلى قطر، فإذا نفخ في الصور نفخة الصعق طويت السماء وبدلت السماء سماء أخرى من ذهب، ودحيت الأرض أي مدت مد الأديم، وأعيدت كما كانت فيها القبور أو البشر على ظهرها وفي بطنها، وتبدل تبديلا ثانيا إذا وقفوا في المحشر فتبدل لهم ساهرة يحاسبون عليها وهي أرض بيضاء من فضة، وحينئذ يقوم الناس على الصراط، وعلى متن جهنم وهي أرض من نار، فإذا جاوزوا الصراط وحصل أهل
574
الجنان من وراء الصراط في الجنان وأهل النيران في النار بدلت الأرض خبزا نقيا فأكلوا من تحت أرجلهم، وعند دخولهم الجنة كانت الأرض قرصا واحدا يأكل منه جميع من دخل الجنة وإدامهم زيادة كبد ثور الجنة وزيادة كبد النون. وحاصل كلام القرطبي أن تبديل هذه الأرض بأرض أخرى من فضة يكون قبل الصراط وتكون الخلائق إذ ذاك مرفوعة في أيدي ملائكة سماء الدنيا، وأن تبديل الأرض بأرض من خبز يكون بعد الصراط وتكون الخلائق إذ ذاك على الصراط وهذه الأرض خاصة بالمؤمنين عند دخولهم الجنة.
وقال الرازي: لا يبعد أن يقال: المراد من تبديل الأرض والسموات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم، ويجعل السموات الجنة وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) أي واذكروا يوم يبرز الخلائق جميعا من قبورهم للحساب والجزاء وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ أي وتبصر يا أكرم الخلق الكافرين يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ برزوا له تعالى مُقَرَّنِينَ أي قرن بعضهم ببعض بحسب مشاركتهم في العقائد والأعمال فِي الْأَصْفادِ (٤٩) أي القيود سَرابِيلُهُمْ أي قمصانهم مِنْ قَطِرانٍ وهو ما يتحلب من شجر الأبهل فيطبخ ويطلى به الإبل الجربي. فيحرق الجرب بحرارته وقد تصل إلى الجوف. والمراد أنه تطلى به جلود أهل النار ليجتمع عليهم الأنواع الأربعة من العذاب لذع القطران ووحشة لونه ونتن ريحه، وإسراع النار في جلودهم وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) أي تعلوها النار وخصّ الله هذا العضو بظهور آثار العقاب، كما خصّ القلب بذلك في قوله تعالى: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: ٦، ٧] لأن الرأس محل الفكر والوهم والخيال، والقلب موضع العلم والجهل، ولا يظهر أثر هذه الأحوال إلا في الوجه ولأنه مجمع الحواس ولخلوه عن القطران ويفعل الله بهم تلك الأمور الثلاثة
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مجرمة ما كَسَبَتْ من أنواع الكفر والمعاصي جزاء موافقا لعملها إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) فلا يشغله حساب عن حساب ولا يظلمهم ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه هذا أي الموعظة التي في هذه السورة بَلاغٌ أي كفاية في الموعظة لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ عطف على مقدر متعلق ببلاغ أي كفاية لهم لينتصحوا ولينذروا به أي بهذا البلاغ وَلِيَعْلَمُوا بما فيه من الأدلة أَنَّما هُوَ أي الله إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢) أي وليتعظوا بذلك وهذه الآيات مشعرة بأن التذكير بهذه المواعظ يوجب الوقوف على التوحيد والإقبال على العمل الصالح.
Icon