تفسير سورة الصافات

فتح البيان
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الصافات
وهي مائة واثنتان وثمانون آية وهي مكية
قال القرطبي : في قول الجميع. قال ابن عباس : نزلت بمكة وعن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات ) أخرجه النسائي والبيهقي في سننه.
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من قرأ يس والصافات يوم الجمعة ثم سأل الله أعطاه سؤله ) أخرجه ابن أبي داود في فضائل القرآن وابن النجار في تاريخه.
وعنه :( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله ملوك حضرموت عند قدومهم عليه أن يقرأ عليهم شيئا مما أنزل إليه قرأ : والصافات صفا. حتى بلغ رب المشارق والمغارب ) الحديث أخرجه أبو نعيم في الدلائل والسلفي في الطيوريات.

(والصافات صفاً) الواو للقسم، والمقسم به الملائكة، والمراد بالصافات التي تصف في السماء من الملائكة كصفوف الخلق في الدنيا قاله ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة.
وعن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قالوا وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف (١) "، أخرجه أبو داود.
وقيل: إنها تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد، وقال الحسن: صفاً كصفوفهم عند ربهم في صلاتهم، وقيل: المراد بالصافات هنا الطير كما في قوله: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات) والأولى، هو الأول والصف ترتيب الجمع على خط كما يصف في الصلاة، وقيل: الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفاً في الصلاة وفي الجهاد ذكره القشيري:
_________
(١) صحيح الجامع/٢٦٤٥.
(فالزاجرات زجراً) أي الفاعلات للزجر من الملائكة إما لأنها تزجر السحاب كما قال السدي، وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ والنصائح، وقال قتادة: المراد بالزاجرات الزواجر من القرآن، وهي كل ما ينهي ويزجر
367
عن القبيح والأول أولى، وانتصاب صفاً وزجراً على المصدرية لتأكيد ما قبلهما وقيل: المراد بالزاجرات العلماء لأنهم هم الذين يزجرون أهل العاصي عن المعاصي والزجر في الأصل الدفع بقوة، وهو هنا قوة التصويت ومنه زجرت الإبل والغنم إذا أفزعتها بصوتك.
368
(فالتاليات ذكراً) أي الملائكة التي تتلو القرآن كما قال ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وابن جبير والسدي، وقيل: المراد جبريل وحده فذكر بلفظ الجمع تعظيماً له مع أنه لا يخلو من أتباع له من الملائكة، وقال قتادة: المراد كل من تلا ذكر الله وكتبه، وقيل: المراد آيات القرآن ووصفها بالتلاوة وإن كانت متلوة، كما في قوله: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل). وقيل: لأن بعضها يتلو بعضاً ويتبعه.
وذكر الماوردي: أن التاليات هم الأنبياء يتلون الذكر على أممهم؛ وانتصاب ذكراً على أنه مفعول به، ويجوز أن يكون مصدراً كما قبله، قيل: وهذه الفاء في قوله: فالزاجرات فالتاليات إما لترتيب الصفات أنفسها في الوجود، أو لترتيب موصوفاتها في الفضل؛ وفي الكل نظر.
(إن إلهكم لواحد) جواب القسم أي: أقسم الله بهذه الأقسام أنه واحد ليس له شريك وأجاز الكسائي: فتح إن الواقعة في جواب القسم وإنما أقسم بهذه الأشياء للتنبيه على شرف ذواتها وكمال مراتبها، والرد على عبدة الأصنام في قولهم، وللتأكيد لما تقدم لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب، وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عندهم، قال ابن الأنباري: الوقف على (لواحد) وقف حسن ثم يبتدىء.
(رب السموات والأرض) على معنى هو ربهما، وقيل: غير ذلك، والمعنى في الآية: إن وجود هذه المخلوقات على هذا الشكل البديع من أوضح الدلائل على وجود الصانع وقدرته وأنه رب ذلك كله، أي خالقه ومالكه (وما بينهما) أي من المخلوقات والكائنات.
368
(ورب المشارق) أعاد الرب فيها لما فيها من غاية ظهور آثار الربوبية وتجددها كل يوم، قيل: أراد مشارق الكواكب، والظاهر أنها مشارق الشمس، قيل: إن الله خلق للشمس كل يوم مشرقاً ومغرباً بعدد أيام السنة تطلع كل يوم من واحد منها، وتغرب في واحد، كذا قال ابن الأنباري وابن عبد البر، وأما قوله في سورة الرحمن (رب المشرقين ورب المغربين) فالمراد بالمشرقين أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال، وأقصر يوم في الأيام القصار، وكذلك في المغربين.
وأما ذكر المشرق والمغرب بالإفراد فالمراد بهما الجهة التي تشرق منها الشمس والجهة التي تغرب فيها، واقتصر على المشارق اكتفاء على حد: (سرابيل تقيكم الحر) أي والمغارب للشمس، ولم يعكس لأن شروق الشمس سابق على غروبها، وأيضاًً فالشروق أبلغ في النعمة وأكثر نفعاً من الغروب، فذكر المشرق تنبيهاً على كثرة إحسان الله تعالى على عباده، ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم عليه السلام بالمشرق فقال: (إن الله يأتي بالشمس من المشرق).
قال الكرخي: وجمع هنا المشرق وحذف مقابله وثناه في الرحمن وجمعه في المعارج وأفرده في المزمل مع ذكر مقابله في الثلاثة لأن القرآن نزل على المعهود من أساليب كلام العرب وفنونه، ومنها الإجمال والتفصيل والذكر والحذف والتثنية والجمع، والإفراد باعتبارات مختلفة، فأفرد وأجمل في المزمل أراد مشرق الصيف والشتاء ومغربهما، وجمع وفصل في المعارج، أراد جميع مشارق السنة ومغاربها، وهي تزيد على سبعمائة، وثنى وفصل في الرحمن أراد مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما، وجمع وحذف هنا أراد جميع مشارق السنة، واقتصر عليه لدلالته على المحذوف كما مرت الإشارة إليه، وخص ما هنا بالجمع موافقة للجموع أول السورة، وبالحذف مناسبة للزينة إذ هي إنما تكون غالباً بالضياء والنور، وهما ينشآن من المشرق لا من المغرب وما في الرحمن بالتثنيه موافقة للتثنيه في (يسجدان) وفي: (فبأي آلاء ربكما
369
تكذبان).
وبذكر المقابلين موافقة لبسط صفاته تعالى وإنعاماته ثم، وما في المعارج بالجمع موافقة للجمع قبله وبعده، وبذكر المقابلين موافقة لكثرة التأكيد في القسم وجوابه، وما في المزمل بالإفراد موافقة لما قبله من إفراد ذكر النبي ﷺ وما بعده، من إفراد ذكر الله تعالى، وبذكر المقابلين موافقة للحصر في قوله: لا إله إلا هو، ولبسط أوامر الله تعالى لنبيه ﷺ ثمة.
370
(إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) المراد بالسماء الدنيا التي تلي الأرض من الدنو وهو القرب، فهي أقرب السموات إلى الأرض، قرأ الجمهور بإضافة زينة إلى الكواكب والمعنى زيناها بتزيين الكواكب، أي بحسنها وقرىء: بتنوين زينة وخفض الكواكب علي أنها بدل من الزينة علي أن المراد بالزينة الاسم لا المصدر، والتقدير بعد طرح المبدل منه: إنا زينا السماء بالكواكب فإن الكواكب في أنفسها زينة عظيمة فإنها في الليلة المظلمة في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة علي سطح أزرق.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بتنوين زينة ونصب الكواكب، على أن الزينة مصدر، وفاعله محذوف، والتقدير بأن الله زين الكواكب بكونها مضيئة حسنة في أنفسها، أو تكون الكواكب منصوبة بإضمار أعني، أو بدلاً من السماء بدل اشتمال، وقيل: المعنى بضوء الكواكب لأن الضوء والنور من أحسن الصفات وأكملها، ولو لم تحصل هذه الكواكب في السماء لكانت شديدة الظلمة عند غروب الشمس، وقيل: زينتها أشكالها المتناسبة والمختلفة في الشكل، كشكل الجوزاء وبنات نعش، وغيرها وقيل: غير ذلك.
(وحفظاً) أي حفظناها حفظاً، وقيل: زيناها بالكواكب للحفظ، وقيل: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً (من كل شيطان مارد) أي عات متمرد خارج عن الطاعة، يرمي بالكواكب والشهب، كقوله: (إنا زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين).
370
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (٨) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (٩) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (١٠) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (١١)
371
(لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى) مستأنفة لبيان حالهم بعد حفظ السماء منهم، وقال أبو حاتم: أي لئلا يسمعوا ثم حذف أن فرفع الفعل وكذا قال الكلبي، قال النسفي: وفيه تعسف يجب صون القرآن عن مثله، فإن كل واحد من الحرفين غير مردود على انفراده، ولكن اجتماعهما منكر، والفرق بين سمعت فلاناً يتحدث، وسمعت إليه يتحدث، وسمعت حديثه، وإلى حديثه، أن المعدى بنفسه يفيد الإدراك والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك انتهى. والملأ الأعلى أهل السماء الدنيا فما فوقها، وسمى الكل منهم أعلى بإضافته إلى ملأ الأرض لأنهم سكان السماء، والضمير في يسمعون للشياطين، وقيل: إن جملة (لا يسمعون) صفة لكل شيطان.
وقيل: جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فما حالهم بعد حفظ السماء عنهم؟ فقال: (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى) قرأ الجمهور: بسكون السين وتخفيف الميم، وقرىء بتشديدهما والأصل يتسمعون فالأولى تدل على انتفاء سماعهم دون استماعهم، والثانية تدل على انتفائهما وفي معنى الأولى قوله تعالى: (إنهم عن السمع لمعزولون) قال مجاهد: كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون، واختار الثانية أبو عبيدة قال لأن العرب لا تكاد تقول سمعت إليه، وتقول تسمعت إليه، وكان ابن عباس يقرأ مخففة وقال: إنهم كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون.
(ويقذفون من كل جانب
دحوراً) أي يرمون من كل جانب من جوانب السماء ونواحيها وجهاتها بالشهب إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع،
371
والدحور الطرد، تقول: دحرته دحراً ودحوراً طردته، قرىء يقذفون مبنياً للمفعول وللفاعل، وهي غير مطابقة لما هو المراد من النظم القرآني، وقيل: دحوراً أي مدحورين، وقيل: هو جمع داحر نحو قاعد وقعود فيكون حالاً، وقيل: إنه مصدر لمقدر أي يدحرون دحوراً.
وقال الفراء: إن المعنى يقذفون بما يدحرهم أي بدحور ثم حذفت الباء فانتصب بنزع الخافض، قرأ الجمهور دحوراً بضم الدال، وقرىء بفتحها، واختلف هل كان هذا الرمي لهم بالشهب قبل المبعث أو بعده، فقال بالأول طائفة وبالآخر آخرون، وقالت طائفة بالجمع بين القولين إن الشياطين لم تكن ترمى قبل المبعث رمياً يقطعها عن السمع، ولكن كانت ترمى وقتاً ولا ترمى وقتاً آخر وترمى من جانب ولا ترمى من جانب آخر ثم بعد المبعث رميت في كل وقت ومن كل جانب حتى صارت لا تقدر على استماع شيء.
(ولهم عذاب واصب) أي دائم لا ينقطع والمراد به العذاب في الآخرة غير العذاب الذي لهم في الدنيا من الرمي بالشهب، وقال مقاتل: يعني دائماً إلى النفخة الأولى، والأول أولى.
وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن الواصب الدائم وقال السدي وأبو صالح والكلبي هو الموجع الذي يصل وجعه إلى القلب، مأخوذ من الوصب أو الوصوب وهو المرض، وقيل هو الشديد.
372
(إلا من خطف الخطفة) الاستثناء هو من قوله (لا يسمعون) أو من قوله (ويقذفون) وقيل الاستثناء راجع إلى غير الوحي لقوله: (إنهم عن السمع لمعزولون) بل يخطف الواحد منهم خطفة مما يتفاوض فيه الملائكة، ويدور بينهم مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض، والخطف الاختلاس مسارقة وأخذ الشيء بسرعة، قرأ الجمهور: خطف بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة وقرىء بكسرهما وتشديد الطاء وهي لغة تميم بن مر وبكر بن وائل وقرىء بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة: وقرأ ابن عباس بكسرهما مع تخفيف
372
الطاء، وقيل إن الاستثناء منقطع.
(فأتبعه) أي لحقه وتبعه (شهاب ثاقب) أي نجم مضيء أو مستوقد فيحرقه أو يقتله ويخبله، وربما لا يحرقه، فيلقي إلى إخوانه ما خطفه وليست الشهب التي ترجم بها هي من الكواكب الثوابت، بل من غير الثوابت وأصل الثقوب الإضاءة. قال الكسائي: ثقبت النار تثقب ثقابة إذا اتقدت وهذه الآية هي كقوله:
(إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين)، قال ابن عباس: إذا رمى الشهاب لم يخطىء، من رمي به، وتلا: فأتبعه شهاب ثاقب وقال: لا يقتلون بالشهاب ولا يموتون، ولكنها تحرق وتخبل وتجرح في غير قتل.
قال سليمان الجمل قالوا: إنه ليس المراد أنهم يرمون بأجرام الكواكب بل يجوز أن تنفصل منها شعلة يرمي بها الشيطان والكواكب باقية بحالها، وهذا كمثل القبس الذي يؤخذ من النار وهي على حالها ويعود الشيطان مرة أخرى مع أنه يعلم أنه يصاب ولا يصل إلى مقصوده رجاء نيل المطلوب. وطمعاً في السلامة، كراكب البحر فإنه يشاهد الغرق أحياناً لكن يعود إلى ركوبه رجاء السلامة ونيل المقصود.
373
(فاستفتهم) أي اسأل الكفار المنكرين للبعث (أهم أشد خلقاً)؟ وأقوى أجساماً وأعظم أعضاء وأمتن بنية وأشق إيجاداً وأصعب خلقاً (أم من خلقنا) من السموات والأرض والجبال والملائكة؟ قال الزجاج: المعنى فاسألهم سؤال تقرير أهم أحكم صنعة؟ أم من خلقنا قبلهم ممن قبلهم من الأمم السالفة؟ يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقاً من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم بالتكذيب فما الذي يؤمنهم من العذاب. قرىء: أم من خلقنا بتشديد الميم وهي أم المتصلة عطفت من على هم وقرىء بتخفيفها وهو استفهام ثان فالهمزة للاستفهام أيضاًً، ومن مبتدأ وخبره محذوف أي الذين خلقناهم أشد فهماً جملتان مستقلتان، وغلب من يعقل على غيره فلذلك أتى بـ (من) قاله
373
السمين وتكتب (أم) مفصولة من (من) في هذا الموضع ثم ذكر خلق الإنسان فقال:
(إنا خلقناهم) أي في ضمن خلق أبيهم آدم (من طين لازب) أي لاصق. يقال: لزب يلزب لزوبا إذا لصق من باب دخل، وقال قتادة وابن زيد: اللازب اللاصق، وقال عكرمة: اللازب اللزج، وقال سعيد ابن جبير: اللازب الجيد الذي يلصق باليد، وقال مجاهد: هو اللازم والعرب تقول: طين لازب ولازم تبدل الباء من الميم واللازم الثابت كما يقال: صار الشيء ضربة لازب ومنه قول النابغة:
لا تحسبون الخير لا شر بعده ولا تحسبون الشر ضربة لازب
وحكى الفراء عن العرب طين لاتب بمعنى لازم؛ واللاتب الثابت، قال الأصمعي: واللاتب اللاصق مثل اللازب، والمعنى في الآية أن هؤلاء كيف يستبعدون المعاد وهم مخلوقون من هذا الخلق الضعيف، ولم ينكره من هو مخلوق خلقاً أقوى منهم وأعظم وأكمل وأتم، وقيل: إن اللازب هو المنتن قاله مجاهد والضحاك.
قيل وقد قرىء لازم ولاتب ولا أدري من قرأ بذلك، قال ابن عباس: لازب ملتصق، وقال: اللزج الجيد، وقال اللازب والحمأ والطين واحد، كان أوله تراباً، ثم صار حمأ منتناً، ثم صار طيناً لازباً فخلق الله منه آدم.
وعن ابن مسعود: اللازب الذي يلصق بعضه إلى بعض. والآية تشهد عليهم بالضعف لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة، أو احتجاج عليهم بأن الطين اللازب -الذي خلقوا منه- تراب فمن أين استنكروا أن يخلقوا من تراب مثله؟ حيث قالوا: أئذا كنا تراباً، وهذا المعنى يعضده ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث، والغرض من هذا السياق إثبات المعاد والرد عليهم في دعوى استحالته، ثم أضرب سبحانه عن الكلام السابق فقال:
374
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (١٨) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (٢٤)
375
(بل عجبت) يا محمد من قدرة الله سبحانه أو من تكذيبهم إياك، قرأ الجمهور بفتح التاء من عجبت على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقرىء بضمها، وقال الفراء: قرأها الناس بنصب التاء ورفعها والرفع أحب إليّ لأنها عن علي وعبد الله وابن عباس، قال: والعجب إن أسند إلى الله فليس معناه من الله كمعناه من العباد.
قال الهروي: قال بعض الأئمة معنى بل عجبت بل جازيتهم على عجبهم لأن الله أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الخلق، كما قال: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم) وقالوا: (إن هذا لشيء عجاب) (أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم)؟ وقال علي بن سليمان: معنى القراءتين واحد، والتقدير: قل يا محمد: بل عجبت لأن النبي ﷺ مخاطب بالقرآن، قال النحاس: وهذا قول حسن، وإضمار القول كثير، وقيل: إن معنى الإخبار من الله سبحانه عن نفسه بالعجب أنه ظهر من أمره وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين، قال الهروي: ويقال معنى عجب ربكم أي رضى ربكم وأثاب، فسماه عجباً، وليس بحجب في الحقيقة فيكون معنى عجبت هنا عظم فعلهم عندي. وحكى النقاش: أن معنى بل عجبت بل أنكرت.
375
قال الحسن بن الفضل: التعجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه، وهو لغة العرب، وقيل: معناه الإنكار والذم، وسئل الجنيد رحمه الله عن هذه الآية فقال: إن الله لا يعجب من شيء ولكن وافق رسوله ولما عجب رسوله قال: (وإن تعجب فعجب قولهم)، أي هو كما تقوله، وقيل: معناه أنه بلغ في كمال قدرته وكثرة مخلوقاته إلى حيث عجب منها (١).
(و) هؤلاء لجهلهم (يسخرون) منها والواو للحال، أي والحال، أنهم يسخرون أو للاستئناف والمعنى: ويسخرون منك بسبب تعجبك؛ أو بما تقوله من إثبات المعاد
_________
(١) روى أحمد في مسنده ٤/ ١٥١: إن الله عز وجل ليعجب من الشاب ليس له صبوه.
376
(وإذا ذكروا لا يذكرون) أي وإذ وعظوا بموعظة من مواعظ الله أو مواعظ رسوله لا يتعظون بها ولا ينتفعون بما فيها. قال سعيد ابن المسيب: أي إذا ذكر لهم ما حل بالمكذبين ممن كان قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا.
(وإذا رأوا آية) أي معجزة من معجزات رسول الله ﷺ كانشقاق القمر (يَسْتَسْخِرُونَ) أي يبالغون في السخرية. قال قتادة: يسخرون ويقولون: إنها سخرية، يقال: سخر واستسخر بمعنى مثل: قر واستقر، وعجب واستعجب، والأول أولى، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، وقيل: المعنى يستدعون السخرى من غيرهم، وقال مجاهد: يستهزئون
(وقالوا إن هذا إلا سحر مبين) أي ما هذا الذي تأتينا به إلا سحر واضح ظاهر.
(أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون) الاستفهام للإنكار أي أنبعث إذا متنا، فالعامل في إذا هو ما دل عليه أئنا لمبعوثون، وهو أنبعث؟ لا نفس مبعوثون لتوسط ما يمنع من عمله فيه، فبدلوا الفعلية بالاسمية، وقدموا الظرف وكرروا الهمزة مبالغة في الإنكار، وإشعاراً بأن البعث مستنكر في نفسه، وفي هذه الحالة أشد استنكاراً وهذا الإنكار للبعث منهم هو السبب
376
الذي لأجله كذبوا الرسل وما نزل عليهم، واستهزأوا بما جاؤوا به من المعجزات، وقد تقدم تفسير معنى هذه الآية في مواضع.
377
(أو آباؤنا الأولون) هو مبتدأ وخبره محذوف أي آباؤنا الأولون مبعوثون يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل، وقيل: معطوف على إن واسمها، وقيل: على الضمير في مبعوثون لوقوع الفصل بينهما والهمزة للإنكار داخلة على حرف العطف ولهذا قرأ الجمهور بفتح الواو وقرىء: بسكونها على أن أو هي العاطفة، وليست الهمزة للاستفهام، ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عنهم تبكيتاً لهم فقال:
(قل نعم) كلكم مبعوثون (وأنتم داخرون) أي صاغرون ذليلون والخطاب لهم ولآبائهم بطريق التغليب، والجملة حال من فاعل ما دل عليه نعم، قال الواحدي: والدخور أشد الصغار، ثم ذكر سبحانه أن بعثهم يقع بزجرة واحدة فقال:
(فإنما) أي إذا كان الأمر كذلك فإنما.
(هي زجرة واحدة) أو لا تستصعبوه، فإنما هي زجرة واحدة، والضمير للقصة أو البعثة المفهومة مما قبلها أي إنما قصة البعث أو البعثة صيحة واحدة من إسرافيل بنفخة في الصور عند البعث، وقال الحسن: هي النفخة الثانية، وسميت الصيحة زجرة لأن المقصود منها الزجر من قولك: زجر الراعي الإبل أو الغنم إذا صاح عليها.
(فإذا هم) أحياء بصراء (ينظرون) أي يبصرون سوء أعمالهم أو ينتظرون ما يفعل الله بهم من العذاب والأول أولى.
(وقالوا) أي قال أولئك المبعوثون لما عاينوا البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا (يا ويلنا) دعوا بالويل على أنفسهم، قال الزجاج: الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، وقال الفراء: إن أصله يا وي لنا ووي بمعنى الحزن، كأنه قال: يا حزن لنا، قال النحاس: ولو كان كما قال لكان منفصلاً، وهو في المصحف متصل، ولا نعلم أحداً يكتبه إلا متصلاً والوقف هنا تام لأن ما بعده كلام مستقل وجملة.
377
(هذا يوم الدين) تعليل لدعائهم بالويل على أنفسهم، والدين الجزاء، فكأنهم قالوا: هذا اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا من الكفر والتكذيب للرسل فأجابتهم الملائكة بقولهم:
378
(هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون) ويجوز أن يكون هذا من قول بعضهم لبعض، والفصل الحكم والقضاء لأنه يفصل فيه بين المحسن والمسيء.
(احشروا الذين ظلموا) هو أمر من الله سبحانه للملائكة بأن يحشروا المشركين (وأزواجهم) وهم أشباههم في الشرك والتابعون لهم في الكفر والمشايعون لهم في تكذيب الرسل، كذا قال قتادة وأبو العالية، وقال الحسن ومجاهد: والمراد بأزواجهم نساؤهم المشركات الموافقات لهم على الكفر والظلم، وقال الضحاك أزواجهم قرناؤهم من الشياطين يحشر كل كافر مع شيطانه، وبه قال مقاتل.
قال ابن عباس: تقول الملائكة للزبانية هذا القول أو خطاب من بعضهم لبعض بحشر الظلمة من مقامهم إلى الموقف، وقيل: من الموقف إلى الجحيم، وعن عمر بن الخطاب قال: أمثالهم الذين هم مثلهم يجيء أصحاب الربا مع أصحاب الربا وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر، أزواج في الجنة وأزواج في النار، وعن ابن عباس أيضاًً قال: أشباههم، وفي لفظ نظراؤهم، أي من العصاة عابد الصنم مع عبدة الأصنام وعابد الكوكب مع عبدة الكواكب، كقوله:
(وكنتم أزواجاً ثلاثة) ولا مانع من حمل الآية على الجميع.
(وما كانوا يعبدون
من دون الله) من الأصنام والشياطين ونحوها، وهذا العموم المستفاد من ما الموصولة، فإنها عبارة عن المعبودين لا عن العابدين كما قيل: مخصوص، لأن من طوائف الكفار من عبد المسيح، ومنهم من عبد الملائكة، فيخرجون بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) ووجه حشر الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل هو زيادة التبكيت لعابديها، وتخجيلهم وإظهار أنها لا تنفع ولا تضر، وقيل: الموصول عبارة عن المشركين خاصة جيء به لتعليل الحكم بما في حيز صلته، فلا عموم
378
ولا تخصيص.
(فاهدوهم إلى صراط الجحيم) أي عرفوا هؤلاء المحشورين طريق النار وسوقوهم إليها، يقال: هديته الطريق وهديته إليها أي دللته عليها، وفي هذا تهكم بهم وقال ابن عباس: وجهوهم ودلوهم إلى طريق النار.
379
(وقفوهم) أي احبسوهم في الموقف، يقال: وقفت الدابة أقفها وقفاً فوقفت هي وقوفاً يتعدى ولا يتعدى، وهذا الحبس لهم يكون قبل السوق إلى جهنم أي وقفوهم للحساب، ثم سوقوهم إلى النار بعد ذلك، كأن الملائكة سارعوا إلى ما أمروا به من حشرهم إلى الجحيم فأمروا بذلك.
(إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) تعليل للجملة الأولى أي ذلك ليس للعفو عنهم، ولا ليستريحوا بتأخير العذاب في الجملة، بل ليسألوا لكن لا عن عقائدهم، وأعمالهم، كما قيل، فإن ذلك قد وقع قبل الأمر بهم إلى الجحيم، بل عما ينطق به قوله الآتي: ما لكم بطريق التهكم والتوبيخ. قال الكلبي: أي مسؤولون عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم أي جميعها، وقال الضحاك: عن خطاياهم، وقيل: عن لا إله إلا الله. وقيل: عن ظلم العباد، وقال ابن عباس: احبسوهم إنهم محبوسون.
وأخرج البخاري في تاريخه والدارمي والترمذي وابن جرير والحاكم وغيرهم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفاً معه يوم القيامة لازماً به لا يفارقه، وإن دعا رجل رجلاً، ثم قرأ: وقفوهم إنهم مسؤولون (١) ".
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: " لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه وفي رواية عن شبابه فيم أبلاه "، (٢) وأخرجه الترمذي.
_________
(١) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير والترمذي عن أنس بن مالك مرفوعاً.
(٢) صحيح الجامع ٧١٧٦/ ٧١٧٧.
379
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٢٧) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥)
380
(مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ) أي أيُّ شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم في الدنيا، وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت لأنه وقت تنجيز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة، وحالة انقطاع الرجاء عنها بالكلية، فالتوبيخ حينئذ أشد وقعاً وتأثيراً وأصل تناصرون تتناصرون فطرحت إحدى التاءين تخفيفاً، وقيل: الإشارة بقوله: (ما لكم) إلى قول أبي جهل يوم بدر نحن جميع منتصر، ثم أضرب سبحانه عما تقدم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنالك فقال:
(بل هم اليوم مستسلمون) أي منقادون لعجزهم عن الحيلة، قال قتادة: مستسلمون خاضعون في عذاب الله، وقال الأخفش: ملقون بأيديهم، يقال استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع.
(وأقبل بعضهم) أي بعض الكفار (على بعض يتساءلون) أي يتلاومون ويتخاصمون، قيل: هم الأتباع والرؤساء يسأل بعضهم بعضاً سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة، قال ابن عباس: ذلك إذا بعثوا في النفخة الثانية وقال مجاهد: هو قول الكفار للشياطين، وقال قتادة: هو قول الإنس للجن، والأول أولى لقوله:
(قالوا إنكم تأتوننا) في الدنيا.
(عن اليمين) أي من جهة الحق والدين والطاعة وتصدوننا عنها قال
380
الزجاج: كنتم تأتوننا من قبل الدين فتروننا أن الدين والحق ما تضلوننا به، واليمين عبارة عن الحق، وهذا كقوله تعالى إخبارا عن إبليس:
(ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم).
قال الواحدي: قال أهل المعاني: إن الرؤساء كانوا قد حلفوا لهؤلاء الاتباع أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بإيمانهم فمعنى تأتوننا عن اليمين أي من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها، قال: والمفسرون على القول الأول. وقيل: المعنى تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفاءل بها لتغرونا بذلك عن جهة النصح، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه السانح، وقيل: اليمين بمعنى القوة أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر، كما في قوله: (فراغ عليهم ضرباً باليمين) أي بالقوة، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر وكذلك جملة:
381
(قالوا بل لم تكونوا مؤمنين) أي قال الرؤساء أو الشياطين لهؤلاء القائلين: كنتم تأتوننا عن اليمين، بل لم تكونوا مؤمنين ولم نمنعكم من الإيمان والمعنى أنكم لم تكونوا مؤمنين قط حتى ننقلكم عن الإيمان إلى الكفر، بل كنتم من الأصل على الكفر فأقمتم عليه، أجابوا بأجوبة خمسة الأول (بل لم تكونوا) الخ.
والثاني قوله:
(وما كان لنا عليكم من سلطان) أي قوة وقدرة وتسلط بقهر وغلبة حتى ندخلكم في الكفر ونخرجكم من الإيمان.
والثالث قوله: (بل كنتم قوماً طاغين) أي متجاوزين الحد في الكفر والضلال.
والرابع قوله:
(فحق علينا) أي وجب علينا وعليكم ولزمنا (قول ربنا) يعنون قوله تعالى: (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) (إنا) جميعاً (لذائقون) العذاب الذي ورد به الوعيد، قال الزجاج: أي إن المضل والضال في النار.
381
الخامس:
382
(فأغويناكم) أي أضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا فيه من الغي وزينا لكم ما كنتم عليه من الكفر، فاستجبتم لنا باختياركم، واستحبابكم الغي على الرشد.
(إنا كنا غاوين) فلا عتب علينا في تعرضنا لإغوائكم بتلك الدعوة لأنا أردنا أن تكونوا أمثالنا في الغواية، ومعنى الآية: أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية، فأقروا ههنا بأنهم تسببوا لإغوائهم لكن لا بطريق القهر والغلبة، ونفوا عن أنفسهم فيما سبق أنهم قهروهم وغلبوهم فقالوا: (وما كان لنا عليكم من سلطان) ثم أخبر الله سبحانه عن الاتباع والمتبوعين بقوله:
(فإنهم يومئذ) أي يوم إذ يتساءلون ويتحاورون ويتخاصمون بما سبق (في العذاب مشتركون) كما كانوا مشتركين في الغواية
(إنا كذلك نفعل بالمجرمين) أي بأهل الإجرام، وهم المشركون كما يفيده قوله سبحانه:
(إنهم كانوا إذا قيل لهم) قولوا (لا إله إلا الله يستكبرون) عن القبول.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله " (١).
وأنزل الله في كتابه.
وذكر قوماً استكبروا فقال: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) وقال: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله استكبر عنها المشركون يوم الحديبية يوم كاتبهم رسول الله ﷺ على قضية المدة، وعن ابن عباس قال: كانوا إذا لم يشرك بالله يستنكفون.
_________
(١) أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعاً.
382
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٩) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (٤٤) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (٤٧)
383
(وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ) أي لقول شاعر (مجنون) لا يعقل: يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، فحكى الله سبحانه صدقه ورد عليهم بقوله:
(بل جاء بالحق) يعني القرآن المشتمل على التوحيد والوعد والوعيد (وصدق المرسلين) أي صدقهم فيما جاؤوا به من التوحيد والوعيد وإثبات الدار الآخرة، ولم يخالفهم ولا جاء بشيء لم تأت به الرسل قبله.
(إِنَّكُمْ) بسبب شرككم وتكذيبكم (لذائقو العذاب الأليم) أي الشديد، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لإظهار كمال الغضب عليهم، قرأ الجمهور: لذائقو بحذف النون وخفض العذاب، وقرىء بحذفها ونصب العذاب، وأجاز سيبويه أيضاًً (والمقيمي الصلاة) بنصب الصلاة على هذا التوجيه، وقد قرىء بإثبات النون ونصب العذاب على الأصل، ثم بين سبحانه إن ما ذاقوه من العذاب ليس إلا بسبب أعمالهم فقال:
(وما تجزون إلا) جزاء (ما) أو بما (كنتم تعملون) من الكفر والمعاصي، ثم استثنى المؤمنين فقال:
(إلا عباد الله المخلصين) قرأ أهل المدينة والكوفة بفتح اللام، أي الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده وقرىء بكسرها أي الذين أخلصوا لله العبادة والتوحيد، والاستثناء إما متصل على تقدير تعميم الخطاب في تجزون لجميع المكلفين؛ أو منقطع، أي لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب.
(أولئك) المخلصون (لهم رزق) يرزقهم الله إياه (معلوم) في
383
حسن منظره وطيبه ولذته ورائحته وطعمه وعدم انقطاعه، قال قتادة: يعني الجنة وقيل: معلوم الوقت وهو أن يعطوا منه بكرة وعشياً كما في قوله: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً) والنفس إليه أسكن.
وقيل: معلوم خصائصه من الدوام، وتمحض اللذة، وقيل: معلوم القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله تعالى، وقيل: هو المذكور في قوله بعده
384
(فواكه) فإنه بدل من رزق أو هو فواكه، وهذا هو الظاهر؛ والفواكه جمع فاكهة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها وخصص الفواكه بالذكر لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه كذا قيل والأولى أن يقال: إن تخصيصها بالذكر لأنها أطيب ما يأكلونه وألذ ما تشتهيه أنفسهم، وقيل: إن الفواكه من أتباع سائر الأطعمة فذكرها يغني عن ذكر غيرها.
(وهم مكرمون) في محل نصب على الحال أي: ولهم من الله عز وجل إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده وسماع كلامه ولقائه في الجنة أو مكرمون في نيل ثواب يصل إليهم من غير تعب وسؤال، كما عليه رزق الدنيا. قرىء: مكرمون بتخفيف الراء وبتشديدها.
(في جنات النعيم على سرر متقابلين) قال عكرمة ومجاهد معنى التقابل أنه لا ينظر بعضهم في قفا بعضهم تواصلاً وتحابباً، وقيل: إنها تدور بهم الأسرة كيف شاءوا فلا يرى بعضهم قفا بعض، قرأ الجمهور: سرر بضم الراء وقرىء بفتحها، وهي لغة بعض تميم قيل: على سرر مكللة بالدر والياقوت والزبرجد، والسرير ما بين صنعاء إلى الجابية وما بين عدن إلى أيلة وقيل: تدور بأهل المنزل الواحد والله أعلم. ذكره القرطبي.
ثم ذكر سبحانه صفة أخرى لهم فقال:
﴿ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ قال عكرمة ومجاهد معنى التقابل أنه لا ينظر بعضهم في قفا بعضهم تواصلا وتحاببا، وقيل : إنها تدور بهم الأسرة كيف شاءوا فلا يرى بعضهم قفا بعض، قرأ الجمهور : سرر بضم الراء وقرئ بفتحها، وهي لغة بعض تميم قيل : على سرر مكللة بالدر والياقوت والزبرجد، والسرير ما بين صنعاء إلى الجابية وما بين عدن إلى أيلة وقيل : تدور بأهل المنزل الواحد والله أعلم. ذكره القرطبي.
(يطاف عليهم بكأس) مستأنفة جواب سؤال مقدر، أو في محل نصب على الحال، والكأس عند أهل اللغة ما كان من الزجاج، وهو اسم شامل لكل إناء فيه الشراب، فإن كان فارغاً فليس بكأس، وقد تسمى الخمر كأساً تسمية للشيء باسم محله، قال الشاعر:
384
وكأساً شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
وقال الضحاك والسدي: كل كأس في القرآن فهي الخمر، قال النحاس وحكى من يوثق به من أهل اللغة: أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر كأساً، فإذا لم يكن فيه خمر فهو قدح كما يقال للخوان إذا كان فيه طعام مائدة فإذا لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة.
(من معين) صفة لكأس، قال الزجاج: أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض ظاهرة تراها العيون، والمعين: الماء الجاري وقوله
385
(بيضاء لذة للشاربين) صفتان لكأس قال الزجاج: أي ذات لذة، فحذف المضاف ويجوز أن يكون الوصف بالمصدر لقصد المبالغة في كونها لذة، ولا يحتاج إلى تقدير المضاف، قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن، له لذة لذيذة. يقال: شراب لذ ولذيذ، كما يقال: نبات غض وغضيض، واللذيذ كل شيء مستطاب، وقيل: البيضاء هي التي لم تعتصرها الرجال ثم وصف هذه الكأس من الخمر بغير ما يتصف به خمر الدنيا فقال:
(لا فيها غول) أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها، ولا يصيبهم منها مرض ولا صداع، قال الفراء: العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول سواء، وقال أبو عبيدة: الغول أن تغتال عقولهم، وقال الواحدي: الغول حقيقته الإهلاك، يقال: غاله غولاً واغتاله أي أهلكه، والغول: كل ما اغتالك أي أهلكك، ومنه الغول بالضم شيء توهمته العرب، ولها فيه أشعار كالعنقاء.
(ولا هم عنها ينزفون) أي يسكرون. يقال: نزف الشارب فهو منزوف ونزيف إذا سكر قرأ الجمهور: ينزفون مبنياً للمفعول. وقرىء: بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الرجل إذا ذهب عقله من السكر فهو نزيف ومنزوف ومنزف، يقال: أحصد الزرع إذا آن حصاده وأقطف الكرم إذا حان قطافه.
قال الفراء: من كسر الزاي فله معنيان يقال: أنزف الرجل إذا فنيت خمره، وأنزف إذا ذهب عقله من السكر، وتحمل هذه القراءة على معنى لا ينفد شرابهم لزيادة الفائدة، قال النحاس: والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى
385
لأن معنى ينزفون عند جمهور المفسرين لا تذهب عقولهم فنفى الله سبحانه عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها، من الصداع والسكر.
وقال الزجاج وأبو علي الفارسي معنى لا ينزفون بكسر الزاي: لا يسكرون، قال المهدوي: لا يكون معنى ينزفون يسكرون. لأن قبله لا فيها غول أي لا تغتال عقولهم، فيكون تكريراً، وهذا يقوي ما قاله قتادة: إن الغول وجع البطن وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد، وقال الحسن: إن الغول الصداع، وبه قال ابن عباس.
وقال ابن كيسان هو المغص فيكون معنى الآية لا يكون فيها نوع من أنواع الفساد المصاحبة لشرب الخمر في الدنيا من مغص أو وجع بطن أو صداع أو عربدة أو لغو أو تأثيم، ولا هم يسكرون منها، ويؤيد هذا أن أصل الغول الفساد الذي يلحق في خفاء يقال: اغتاله اغتيالاً إذا أفسد عليه أمره في خفية، ومنه الغول والغيلة: القتل خفية، وقرىء: ينزفون بفتح الياء وكسر الزاي، وقرىء: بفتح الياء وضم الزاي.
عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فنزه الله خمر الجنة عنها، فقال: (لا فيها غول) أي لا تغول عقلهم من السكر، (ولا هم عنها ينزفون) قال: لا يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها.
وعنه قال: هي الخمر ليس فيها وجع بطن، قال في النهر: ذكر أولاً الرزق وهو ما تتلذذ به الأجسام، وثانياً الإكرام وهو ما تتلذذ به النفوس، ثم ذكر المحل الذي هم فيه وهو جنات النعيم، ثم أشرف المحل وهو السرر. ثم لذة التأنس بأن بعضهم مقابل بعضاً وهو أتم السرور وآنسه ثم المشروب وأنهم لا يتناولون ذلك بأنفسهم بل يطاف عليهم بالكؤوس، ثم وصف ما يطاف عليهم به من الطيب وانتفاء المفاسد، ثم ذكر تمام النعمة الجسمانية وختم بها كما بدأ باللذة الجسمانية من الرزق وهي أبلغ الملاذ وهي التأنس بالنساء فقال:
386
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (٤٨) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (٥٠) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (٥٥)
387
(وعندهم قاصرات الطرف) أي نساء حابسات الأعين غاضات العيون قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم، والقصر: معناه الحبس، وقيل: القاصرات المحبوسات على أزواجهن والأول أولى، لأنه قال قاصرات الطرف ولم يقل مقصورات.
(عين) أي عظام العيون جمع عيناء وهي الواسعة العين، والذكر أعين قال الزجاج: معنى عين كبار الأعين حسانها، وقال مجاهد العين حسان العيون عظام المقلة، وقيل: نجل العيون بضم النون جمع نجلاء وهي التي اتسع شقها سعة غير مفرطة، وقال الحسن: هن الشديدات بياض العين الشديدات سوادها والأول أولى.
(كأنهن بيض) جمع بيضة وهو معروف (مكنون) أي مصون مستور من كننته إذا جعلته في كن، قال الحسن وابن زيد: شبهن ببيض النعام تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار، فلونه أبيض في صفرة، وهو أحسن ألوان النساء عند العرب، وإلا فأحسنها عند العجم والروم: الأبيض المشرب بحمرة وقال سعيد بن جبير والسدي: شبههن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي، وبه قال ابن جرير قال المبرد: وتقول العرب إذا وصفت الشيء بالحسن والنظافة: كأنه بيض النعام المغطى بالريش.
وقيل: المكنون المصون عن الكسر أي إنهن عذارى وقيل: المراد بالبيض اللؤلؤ كما في قوله وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون والأول أولى، وإنما قال مكنون ولم يقل مكنونات لأنه وصف البيض باعتبار اللفظ، وعن ابن عباس في قوله: (كأنهن بيض مكنون) قال اللؤلؤ المكنون: وعنه قال بياض البيضة
387
ينزع عنها فوفها وغشاؤها.
388
(فأقبل بعضهم على بعض) يعني أهل الجنة في الجنة (يتساءلون) أي يسأل هذا ذاك، وذاك هذا حال شربهم عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، وما جرى لهم، وما عملوه، وذلك من تمام نعيم الجنة، والتقدير فيقبل بعضهم على بعض وإنما عبر عنهم بالماضي للتأكيد والدلالة على تحقق وقوعه، قيل: المعنى يشربون ويتحادثون على الشراب كعادة الشراب، قال الشاعر:
(قال قائل منهم) أي من أهل الجنة في حال إقبال بعضهم على بعض بالحديث وسؤال بعضهم لبعض: (إني كان لي قرين) أي صاحب ملازم لي في الدنيا كافر بالبعث منكر له. قيل: كان قرينه شيطاناً، وقيل: كان من الإنس وقيل: كانا أخوين، وقيل: كانا شريكين أحدهما كافر اسمه قطروس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وهما اللذان قص الله خبرهما في سورة الكهف في قوله: واضرب لهم مثلاً رجلين، والأول أولى.
(يقول) لي (أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) بالبعث والجزاء وهذا الاستفهام من القرين لتوبيخ ذلك المؤمن وتبكيته بإيمانه، وتصديقه بما وعد الله به من البعث، وكان هذا القول منه في الدنيا، قرأ الجمهور: مصدقين بتخفيف الصاد من التصديق أي لمن المصدقين بالبعث وقرىء: بتشديدها ولا أدري من قرأ بها ومعناها بعيد لأنها من التصدق لا من التصديق، وممكن تأويلها بأنه أنكر عليه التصدق بماله لطلب الثواب، وعلل ذلك باستبعاد البعث ثم ذكر ما يدل على الاستبعاد للبعث عنده وفي زعمه فقال:
(أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)؟ أي لمجزيون بأعمالها ومحاسبون بها بعد أن صرنا تراباً وعظاماً، وقيل: معنى مدينون مسوسون يقال: دانه إذا ساسه، وقد اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة والثالثة بكسر الألف من غير الاستفهام ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين، وابن عامر الأولى والثالثة
388
بهمزتين، والثانية بكسر الألف من غير استفهام والباقون بالاستفهام في جميعها ثم اختلفوا، فابن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعده ساكنة خفيفة، وأبو عمرو مطولة وعاصم وحمزة بهمزتين.
389
(قال هل أنتم مطلعون)؟ القائل هو المؤمن الذي في الجنة بعد ما حكى لجلسائه فيها ما قاله له قرينه في الدنيا، أي هل أنتم يا إخواني مطلعون إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة؟ كيف منزلته في النار فيقول أهل الجنة أنت أعرف به منا.
قال ابن الأعرابي: والاستفهام هو بمعنى الأمر، أي اطلعوا، وقيل القائل هو الله سبحانه، وقيل: الملائكة والأول أولى، قرأ الجمهور: مطلعون بتشديد الطاء مفتوحة، وبفتح النون فاطلع ماضياً مبنياً للفاعل من الطلوع، وقرأ ابن عباس ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو: بسكون الطاء وفتح النون فاطلع بقطع الهمزة مضمومة وكسر اللام ماضياً مبنياً للمفعول، وقرىء: مطلعون بتخفيف الطاء وكسر النون: فاطلع مبنياً للمفعول، وأنكرها أبو حاتم وغيره، قال النحاس: هي لحن، لأنه لا يجوز الجمع بين النون والإضافة، ولو كان مضافاً لقال: هل أنتم مطلعي، وإن كان سيبويه والفراء قد حكيا مثله، ولكنه شاذ خارج عن كلام العرب.
(فاطلع فرآه في سواء الجحيم) أي فاطلع ذلك المؤمن على النار؛ الذي صار يحدث أصحابه في الجنة بما قال له قرينه في الدنيا، فرأى قرينه في وسط الجحيم، وقال الزجاج: سواء كل شيء وسطه، قال النحاس: فاطلع فيه قولان: أحدهما أن يكون فعلاً مستقبلاً أي فاطلع أي أنا، والثاني أن يكون فعلاً ماضياً أي المؤمن، قال ابن مسعود في الآية: اطلع ثم التفت إلى أصحابه فقال: لقد رأيت جماجم القوم تغلي، قال ابن عباس: " إن في الجنة كوى ينظر منها أهلها إلى النار "، جمع كوة وهي الثقب في الحائط وهي بفتح الكاف وضمها وفي الجمع وجهان كسرها وضمها لكن مع الكسر يصبح المد والقصر، ومع الضم يتعين القصر.
389
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (٦١) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦)
390
(قَالَ) ذلك الذي من أهل الجنة لما اطلع على قرينه ورآه في النار (تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي لتهلكني بالإغواء، وفيه معنى التعجب، قال الكسائي: الردى الهلاك. قال المبرد: لو قيل (لتردين) لتوقعني في النار لكان جائزاً قال مقاتل: المعنى والله لقد كدت أن تغويني، فأنزل منزلتك والمعنى متقارب فمن أغوى إنساناً فقد أهلكه.
(ولولا نعمة ربي) أي رحمته وإنعامه علي بالإسلام وهدايتي إلى الحق وعصمتي عن الضلال (لكنت) معك في النار (من المحضرين) قال الماوردي: ولا يستعمل أحضر إلا في الشر. ولما تمم كلامه مع ذلك القرين الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة فقال:
(أفما نحن بميتين) الهمزة للاستفهام التقريري وفيها معنى التعجب، والفاء للعطف على محذوف كما في نظائره أي: أنحن مخلدون منعمون؟ فما نحن بميتين، وقرأ زيد بن علي بمائتين.
قال ابن عباس: في الآية قول الله لأهل الجنة (كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون) قال: هنيئاً أي لا تموتون فيها، فعند ذلك قالوا: أفما نحن بميتين إلى قوله الفوز العظيم، وقيل: هذا السؤال من أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت، وقيل: من قولهم توبيخاً للكفار لما كانوا ينكرونه من البعث وإنه ليس
390
إلا الموت في الدنيا والأول أولى.
391
(إلا موتتنا الأولى) التي كانت في الدنيا، وقوله: هذا كان على طريقة الابتهاج والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة الذي لا ينقطع، وأنهم مخلدون لا يموتون أبداً، والاستثناء مفرغ، وقيل: منقطع بمعنى لكن (وما نحن بمعذبين) كما يعذب الكفار ثم قال: مشيراً إلى ما هم فيه من النعيم
(إن هذا) الأمر العظيم والنعيم المقيم والخلود الدائم الذي نحن فيه (لهو الفوز العظيم) الذي لا يقادر قدره، ولا يمكن الإحاطة بوصفه.
(لمثل) أي لنيل مثل (هذا) العطاء والفضل العظيم (فليعمل العاملون) فإن هذه هي التجارة الرابحة لا العمل للدنيا الزائلة، وحظوظها المشوبة بالآلام السريعة الانصرام، فإنها صفقة خاسرة، نعيمها منقطع، وخيرها زائل، وصاحبها عن قريب منها راحل، وهذا من تمام كلامه وقيل: إن هذا من قول الله سبحانه قاله ابن عباس وقيل من قول الملائكة والأول أولى.
وأخرج ابن مردويه عن البراء بن عازب قال: " كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده في يدي، فرأى جنازة فأسرع المشي حتى أتى القبر، ثم جثا على ركبتيه فجعل يبكي حتى بل الثرى ثم قال: لمثل هذا فليعمل العاملون " وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: " دخلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مريض يجود بنفسه فقال: لمثل هذا فليعمل العاملون ".
(أذلك)؟ الذي ذكره من نعيم الجنة وهو مبتدأ وخبره (خير) و (نزلاً) تمييز والنزل في أصل اللغة الفضل والريع فاستعير للحاصل من الشيء والرزق الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه، والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره، والمعنى: قل يا محمد لقومك على سبيل التوبيخ والتبكيت والتهكم: أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير نزلاً.
391
(أم شجرة الزقوم)؟ أي التي حاصلها الألم والغم، قال الزجاج: المعنى أذلك خير في باب الإنزال التي يبقون بها نزلاً أم نزل أهل النار؟ وهو الزقوم وهو ما يكره تناوله، قال الواحدي: وهو شيء مر كريه يكره أهل النار على تناوله فهم يتزقمونه فهي على هذا مشتقة من التزقم؛ وهو البلع على جهد لكراهتها ونتنها؛ واختلف فيها: هل هي من شجر الدنيا التي تعرفها العرب؟ أم لا؟ على قولين أحدهما: أنها معروفة من شجر الدنيا، فقال قطرب: إنها شجرة مرة كريهة الرائحة تكون بتهامة من أخبث الشجر، وقال غيره: بل هو كل نبات قاتل، وقيل: شجرة مسمومة متى مست جسد أحد تورم فمات والإضافة من إضافة المسمى إلى الاسم.
القول الثاني: أنها غير معروفة في شجر الدنيا، وقيل: إنه قال ابن الزبعري لصناديد قريش: إن محمداً يخوفنا بالزقوم وهي بلسان بربر الزبد والتمر، وقيل: هي بلغة أهل اليمن، قال قتادة: لما ذكر الله هذه الشجرة افتتن بها الظلمة فقالوا كيف تكون في النار شجرة؟ فأنزل الله تعالى:
392
(إنا جعلناها فتنة للظالمين) قال الزجاج: أي حين افتتنوا بها وكذبوا بوجودها، ولم يعلموا أن من يقدر على خلق حيوان وهو السمندل يعيش في النار؛ ويتلذذ بها يقدر على خلق الشجر في النار وحفظه منها، وقيل: معنى جعلها فتنة لهم أنها محنة لهم لكونهم يعذبون بها؛ والمراد بالظالمين هنا الكفار أو أهل المعاصي الموجبة للنار، ثم بين سبحانه أوصاف هذه الشجرة رداً على منكريها فقال:
(إنها شجرة تخرج) أي تنبت (في أصل الجحيم) أي في قعرها وأسفلها قال الحسن: أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترفع إلى دركاتها.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس فلما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)؛ فلما سمع أبو جهل قال: من
392
توعد يا محمد؟ قال إياك، قال بم توعدني، قال أوعدك بالعزيز الكريم فقال: أبو جهل أليس أنا العزيز الكريم؟ فأنزل الله: (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم إلى قوله ذق إنك أنت العزيز الكريم) فلما بلغ أبا جهل ما نزل فيه جمع أصحابه فأخرج إليهم زبداً وتمراً فقال: تزقموا من هذا فوالله ما يتوعدكم محمد إلا بهذا فأنزل الله: (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) الآية؛ وعنه قال: لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم، ثم قال الله تعالى:
393
(طلعها) الطلع حقيقة اسم لثمر النخل أول بروزه، فإطلاقه على ثمر هذه الشجرة مجاز بالاستعارة، والمعنى ثمرها وما تحمله (كأنه) في تناهي قبحه وهوله وشناعة منظره (رؤوس الشياطين) فشبه المحسوس بالمتخيل؛ وإن كان غير مرئي للدلالة على أنه غاية في القبح كما يقولون في تشبيه من يستقبحونه كأنه شيطان، وفي تشبيه من يستحسنونه كأنه ملك كما في قوله تعالى: (ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم).
قال الزجاج والفراء: الشياطين حيات هائلة لها رؤوس وأطراف، وهي من أقبح الحيات وأخبثها وأخفها جسماً، وقيل: إن رؤوس الشياطين اسم لنبت قبيح معروف باليمن يقال له الأستن، ويقال له الشيطان، قال النحاس: وليس ذلك معروفاً عند العرب، وقيل: هو شجر خشن منتن مر منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين، وقيل: هو شجر يقال له الصرم فعلى هذا قد خوطب العرب بما تعرفه وهذه الشجرة موجودة، فالكلام حقيقة وقيل: إنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات.
(فإنهم لآكلون) لشدة جوعهم أو لقهرهم على الأكل (منها) أي من الشجرة أو من طلعها، والتأنيث لاكتساب الطلع والتأنيث من إضافته إلى الشجرة (فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ) وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلىء بطونهم فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة.
393
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤)
394
(ثم إن لهم عليها) أي على الشجرة بعد الأكل منها (لشوباً من حميم) الشوب الخلط، قال الفراء: يقال شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبها شوباً وشيابة، وقال ابن عباس: شوباً مزجاً أي يخالط طعامهم ويشاب بالحميم وهو الماء الحار، فأخبر الله سبحانه أنه يشاب لهم طعامهم من تلك الشجرة بالماء الحار ليكون أفظع لعذابهم وأشنع لحالهم كما في قوله: (وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم) (١) قرأ الجمهور: بفتح الشين وهو مصدر وقرأ شيبان النحوي بالضم، قال الزجاج: المفتوح مصدر والمضموم اسم بمعنى المشوب كالنقض بمعنى المنقوض.
_________
(١) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ إنه كان يقول: " يقرب -إلى أهل النار- ماء فيتكرهه فإذا أدني منه شوي وجهه ووقعت فروة رأسه فيه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره " (رواه ابن أبي حاتم).
(ثم إن مرجعهم) بعد شرب الحميم وأكل الزقوم (لإلى الجحيم) وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه وهو خارج الجحيم كما تورد الإبل ثم يردون إلى الجحيم كما في قوله سبحانه: (يطوفون بينها وبين حميم آن) وهذا قول الأقل والجمهور على أنه داخلها وأنهم لا يخرجون أصلاً، وقيل: إن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولها. قال أبو عبيدة: ثم بمعنى الواو، وقرأ ابن مسعود. ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم وعنه قال: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء أهل الجنة وأهل النار، وقرأ: أن مقيلهم لإلى الجحيم.
(إنهم ألفوا) أي وجدوا (آباءهم ضالين) تعليل لاستحقاقهم ما تقدم ذكره، أي صادفوهم كذلك فاقتدوا بهم تقليداً وضلالة، لا لحجة أصلاً قال أبو السعود: أي بتقليد آبائهم في الدين من غير أن يكون لهم أو لآبائهم شيء يتمسك به أصلاً.
(فهم على آثارهم يهرعون) أي من غير أن يتدبروا أنهم على الحق أو لا، مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل والإهراع الإسراع الشديد، وقال الفراء: الإسراع برعدة، وقال أبو عبيدة: يهرعون يستحثون من خلفهم، يقال: جاء فلان يهرع إلى النار إذا استحثه البرد إليها، وقال المفضل: يزعجون من شدة الإسراع، قال الزجاج: هرع وأهرع إذا استحث وأزعج، والمعنى يتبعون آباءهم في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم وذلك في الدنيا.
(ولقد ضل قبلهم) أي قبل هؤلاء المذكورين (أكثر الأولين) من الأمم الماضية بالتقليد، ورفض الدليل وترك النظر وإيثار التأويل
(ولقد أرسلنا فيهم منذرين) أي أرسلنا في هؤلاء الأولين رسلاً أنذروهم العذاب وحذروهم عواقب التقليد، وبينوا لهم الحق فلم ينجع ذلك فيهم، وكذلك لا ينجع في مقلدة هذا الزمان فما أشبه الليلة بالبارحة.
(فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) أي الذين أنذرتهم الرسل فإنهم صاروا إلى النار، قال مقاتل: يقول كان عاقبتهم العذاب، يحذر كفار مكة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يتأتى منه التمكن من مشاهدة آثارهم، ثم استثنى عباده المؤمنين فقال:
(إلا عباد الله المخلصين) أي إلا من أخلصهم الله بتوفيقهم إلى الإيمان والتوحيد، وإيثار الدليل، وترك التقليد، وقرىء: المخلصين بكسر اللام أي الذين أخلصوا لله طاعتهم ولم يشوبوها بشيء يغيرها.
ولما ذكر سبحانه أنه أرسل في الأمم الماضية منذرين ذكر تفصيل بعض ما أجمله فيما سبق فقال:
395
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (٨٣) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦)
396
(ولقد نادانا نوح) اللام هي الموطئة للقسم، والمراد أن نوحاً دعا ربه على قومه لما عصوه فأجاب الله دعاءه وأهلك قومه بالطوفان، فالنداء هنا هو نداء الدعاء لله، والاستغاثة به، كقوله: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) وقوله: (إني مغلوب فانتصر)، وحاصل ما يأتي من القصص سبع: قصة نوح، وقصة إبراهيم، وقصة إسماعيل، وقصة موسى وهارون، وقصة إلياس، ولوط ويونس (فلنعم المجيبون) له نحن أي دعانا فأجبناه وأهلكنا قومه، والواو للتعظيم.
(ونجيناه وأهله) المراد بأهله أهل دينه، وهم من آمن معه وكانوا ثمانين أو زوجته وأولاده الثلاثة وزوجاتهم الثلاث (من الكرب العظيم) هو الغرق وقيل تكذيب قومه له وما يصدر إليه منهم من أنواع الأذى.
(وجعلنا ذريته هم الباقين) وحدهم دون غيرهم كما يشعر به ضمير الفصل وذلك لأن الله أهلك الكفرة بدعائه، ولم يبق منهم باقية، ومن كان معه في السفينة من المؤمنين ماتوا كما قيل ولم يبق إلا أولاده قال سعيد بن المسيب: كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب السند
396
والهند والنوب والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم ويافث أبو الصقالب والترك والخزر ويأجوج ومأجوج وغيرهم وقيل: إنه كان لمن مع نوح ذرية كما يدل عليه قوله: (ذرية من حملنا مع نوح) وقوله: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) فيكون على هذا معنى الآية: ذريته وذرية من معه دون ذرية من كفر، فإن الله أغرقهم فلم يبق لهم ذرية والأول أولى.
وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال: " حام وسام ويافث " (١) وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم " والحديثان هما من سماع الحسن عن سمرة، وفي سماعه منه مقال معروف وقد قيل: إنه لم يسمع منه إلا حديث العقيقة فقط، وما عداه فبواسطة قال ابن عبد البر.
وقد روي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله.
وأخرج البزار وابن أبي حاتم والخطيب في تالي التلخيص عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ولد نوح ثلاثة سام وحام ويافث، فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم، وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم، وولد حام القبط والبربر والسودان " وهو من حديث إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد ابن المسيب عنه.
قلت: في الآية دليل على أن الطوفان عم كل البلاد، وشمل جميع العباد، ولم يبق أحد من الناس سوى من كان معه في السفينة، والفرس
_________
(١) أخرجه أحمد والترمذي وصحيح الجامع/٦١٤٥.
397
وسائر المجوس والكلدانيون أهل بابل والهند وأهل الصين وأصناف الأمم المشرقية ينكرون الطوفان، وأقر به بعض الفرس لكنهم قالوا لم يسكن الطوفان بسوى الشام والمغرب، ولم يعم العمران كله، ولا أغرق إلا بعض الناس، ولم يتجاوز عقبة حلوان، ولا بلغ إلى ممالك المشرق، قالوا: ووقع في زمان طهمورث، وأن أهل المغرب لما أنذر حكماؤهم بالطوفان اتخذوا المباني العظيمة كالهرمين بمصر ونحوهما ليدخلوا فيها عند حدوثه، ولما بلغ طهمورث الإنذار بالطوفان قبل كونه بمائة وإحدى وثلاثين سنة أمر باختيار مواضع في مملكته صحيحة الهواء والتربة، فوجد ذلك بأصبهان فأمر بتجليد العلوم ودفنها فيها في أسلم المواضع، ويشهد لهذا ما وجد بعد الثلثمائة من سني الهجرة في حي من مدينة أصفهان من التلال التي انشقت عن بيوت مملوءة أعدالاً عدة كثيرة قد ملئت من لحاء الشجر التي تلبس بها القسي، وتسمى التور مكتوبة بكتابة لم يدر أحد ما هي، ذكره المقريزي في الخطط، وقال بعض محققي الهنود: إن سري كشن الهندي قد أخبر قبل وفاته بسبعة أيام أن بلدة دواركا ستغرق عن قريب وأشار إلى حصول الطوفان بأرض الهند، والحق ما دلت عليه هذه الآية وغيرها من عموم الغرق للعمران، وشمول الطوفان لجميع الأرض ونوع الإنسان، ولا يلتفت إلى قول من أنكره أو أوله أو خصه ببعض الأمكنة دون بعضها فإنه إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل (والله يعلم وأنتم لا تعلمون).
398
(وتركنا عليه في الآخرين) يعني في الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة من أمم وقال ابن عباس: يقول، يذكر بخير، والمتروك هذا هو قوله:
(سلام على نوح) أي تركنا هذا الكلام بعينه، والسلام هو الثناء الحسن، أي يثنون عليه ثناء حسناً، ويدعون له ويترحمون عليه. قال الزجاج: تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة، وذلك الذكر هو قوله: (سلام على نوح) قال الكسائي في ارتفاع سلام وجهان: أحدهما: وتركنا عليه في الآخرين يقال سلام.
والثاني: أن يكون المعنى وأبقينا عليه، وتمّ الكلام، ثم ابتدأ فقال:
398
سلام على نوح أي سلامة له من أن يذكر بسوء في الآخرين، قال المبرد: أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية يعني يسلمون عليه تسليماً، ويدعون له، وهو من الكلام المحكي كقوله (سورة أنزلناها)، وقيل: إنه ضمن تركنا معنى قلنا. قال الكسائي: وفي قراءة ابن مسعود سلاماً منصوب بتركنا أي تركنا عليه ثناء حسنا وقيل: المراد بالآخرين أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
(في العالمين) أي سلام ثابت أو مستمر أو مستقر على نوح في العالمين من الملائكة، والجن والإنس، وهذا يدل على عدم اختصاص ذلك بأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما قيل:
399
(إنا كذلك نجزي المحسنين) هذه الجملة تعليل لما قبلها من التكرمة لنوح بإجابة دعائه وبقاء الثناء من الله عليه، وبقاء ذريته أي إنا كذلك نجزي من كان محسناً في أقواله وأفعاله، راسخاً في الإحسان معروفاً به، والكاف في كذلك نعت مصدر محذوف أي جزاء كذلك الجزاء.
(إنه من عبادنا المؤمنين) هذا بيان لكونه من المحسنين وتعليل له بأنه كان عبداً مؤمناً مخلصاً لله وذلك إجلال لشأن الإيمان وشرفه وترغيب في تحصيله والثبات عليه، والازدياد منه. كما قال في مدح إبراهيم: (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) وفيه من الدلالة على جلالة قدرهما ما لا يخفى، فلا يقال: كيف مدح الرسول بذلك؟ مع أن مرتبتهم فوق مرتبة المؤمنين.
(ثم أغرقنا الآخرين) أي الكفرة الذين لم يؤمنوا بالله ولا صدقوا نوحاً معطوف على نجيناه، والترتيب حقيقي لأن نجاتهم بركوب السفينة حصلت قبل غرق الباقين، والشهاب فهم أنه معطوف على قوله: (وجعلنا ذريته) فجعل الترتيب إخبارياً لأن إغراق الآخرين كان قبل جعل ذريته باقين، ثم ذكر سبحانه قصة إبراهيم وبين أنه ممن شايع نوحاً فقال:
(وإن من شيعته لإبراهيم) أي من أهل دينه وممن شايعه ووافقه على الدعاء إلى الله، وإلى توحيده والإيمان به، قال مجاهد وابن عباس أي على
399
منهاجه وسنته، قال الأصمعي: الشيعة الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع وهو الحطب الصغار التي توقد مع الكبار حتى تستوقد، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وما كان بينهما إلا نبيان هود وصالح والذين قبل نوح ثلاثة إدريس وشيث وآدم، فجملة من قبل إبراهيم من الأنبياء ستة، والمعنى كان من أتباعه في أصل الدين وإن اختلفت فروع شرائعهما أو كان بين شريعتهما اتفاق كلي أو أكثري، وإن طال الزمان، وقال الفراء: المعنى وإن من شيعة محمد لإبراهيم، فالهاء على هذا في شيعته لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا قال الكلبي، ولا يخفى ما في هذا من الضعف والمخالفة للسياق.
400
(إذ جاء ربه بقلب سليم) أي مخلص من الشرك والشك أو من آفات القلوب وقيل: هو الناصح لله في خلقه، وقيل: الذي يعلم أن الله حق وأن الساعة قائمة وأن الله يبعث من في القبور، ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته، والثاني عند إلقائه في النار، وجاء استعارة تصريحية تبعية. شبه إخلاصه قلبه بمجيئه بتحفة كأنه جاء به تحفة من عنده في أنه فاز بما يستجلب به رضاه، والظرف في قوله إذا جاء منصوب بفعل محذوف، أي أذكر، وقيل: بما في الشيعة من معنى المتابعة، قال أبو حيان: لا يجوز لأن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو إبراهيم، والأولى أن يقال إن لام الابتداء تمنع ما قبلها عن العمل فيما بعدها.
(إذ) أو وقت إذ (قال لأبيه) آزر (وقومه) من الكفار (ماذا) أي أيُّ شيء (تَعْبُدُونَ (٨٥)
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) انتصاب (إفكاً) على أنه مفعول لأجله أي أتريدون آلهة من دون الله للإفك، وتقديم هذه المعمولات للفعل عليه للاهتمام، وقيل: انتصاب (إفكاً) على أنه مفعول به لتريدون والآلهة بدل منه جعلها نفس الإفك مبالغة، وهذا أولى من الوجه الأول، وقيل. أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك. قال المبرد: الإفك أسوأ الكذب وهو الذي لا يثبت ويضطرب، ومنه ائتفكت بهم الأرض.
400
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٩١) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥)
401
(فما ظنكم برب العالمين) إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره وما ترونه يصنع بكم وهو تحذير مثل قوله: (ما غرك بربك الكريم)؟ وقيل: المعنى أي شيء توهمتموه بالله حتى أشركتم به غيره؟.
(فنظر نظرة في النجوم) أي إليها
(فقال إني سقيم) قال الواحدي: قال المفسرون: كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم بذلك لئلا ينكروا عليه، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم لتلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم في الغد يوم عيد يخرجون إليه، وأراد أن يتخلف عنهم فاعتل بالسقم، وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم فنظر إلى النجوم أي في علمها أو في كتبها يريهم أنه مستدل بها على حاله: فلما نظر إليها قال: إني سقيم أي مشارف للسقم.
وقال الحسن: إنهم لما كلفوه أن يخرج معهم تفكر فيما يعمل فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي أي فيما طلع له منه فعلم أن كل شيء يسقم فقال: إني سقيم، قال الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره نظر في النجوم، وقيل: كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تعتاده فيها الحمى، وقال الضحاك: معنى إني سقيم سأسقم سقم الموت لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب، ثم يموت، وهذا تورية وتعريض كما قال للملك لما سأله عن سارة: هي أختي يعني أخوة الدين.
401
وقال سعيد بن جبير: أشار لهم إلى مرض يسقم ويعدي وهو الطاعون، وكانوا يهربون من ذلك.
قال ابن عباس: سقيم أي مريض، وقال أيضاًً: مطعمون ولهذا قال:
402
(فتولوا عنه مدبرين) أي تركوه وذهبوا مخافة العدوى.
(فراغ إلى آلهتهم) يقال: راغ يروغ روغاً وروغاناً إذا مال، ومنه طريق رائغ أي مائل، وقال السدي: ذهب إليهم، وقال أبو مالك: جاء إليهم، وقال الكلبي: أقبل عليهم، والمعنى متقارب. وكانت اثنين وسبعين صنماً من حجر وخشب وذهب وفضة ونحاس وحديد ورصاص، وكان كبيرها من ذهب مكللاً بالجواهر (فقال) إبراهيم للأصنام التي راغ إليها استهزاء وسخرية (ألا تأكلون)؟ من الطعام الذي كانوا يصنعونه لها وخاطبها كما يخاطب من يعقل لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة وكذا قوله:
(ما لكم لا تنطقون)؟ فإنه خاطبهم خطاب من يعقل والاستفهام للتهكم بهم، لأنه قد علم أنها جمادات لا تنطق، قيل: إنهم تركوا عند أصنامهم طعامهم للتبرك بها وليأكلوه إذا رجعوا من عيدهم، وقيل: تركوه للسدنة، وقيل: إن إبراهيم هو الذي قرب إليها الطعام مستهزئاً بها.
(فراغ عليهم ضرباً باليمين) أي فمال عليهم ضربهم ضرباً، مصدر مؤكد لفعل محذوف، أو هو مصدر لراغ لأنه بمعنى ضرب، قال الواحدي: قال المفسرون يعني بيده اليمنى يضربهم بها: وقال السدي: بالقوة والقدرة لأن اليمين أقوى اليدين، قال الفراء وثعلب: ضرباً بالقوة واليمين القوة، وقال الضحاك والربيع ابن أنس: المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال: (وتالله لأكيدن أصنامكم) وقيل: المراد باليمين هنا العدل كما في قوله: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين) أي بالعدل، واليمين كناية عن العدل كما أن الشمال كناية عن الجور وأولى هذه الأقوال أُولاها.
(فأقبلوا إليه يزفون) أي أقبل إليه عبدة تلك الأصنام يسرعون لما
402
علموا بما صنعه بها فقالوا نحن نعبدها وأنت تكسرها، ويزفون في محل نصب على الحال حال من فاعل أقبلوا، قرأ الجمهور بفتح الياء من زف الظليم يزف إذا عدا بسرعة، وقرىء: بضم الياء من أزف يزف أي دخل في الزفيف، أو يحملون غيرهم على الزفيف.
قال الأصمعي: أزففت الإبل أي حملتها على أن تزف، وقيل: هما لغتان يقال: زف القوم وأزفوا وزفت العروس وأزففتها حكي ذلك عن الخليل، قال النحاس: زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة، يعني يزفون بضم الياء، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء وشبهها بقولهم: اطردت الرجل أي صيرته إلى ذلك، وقال المبرد: الزفيف الإسراع.
قال الزجاج: الزفيف أول عدو النعام وقال قتادة والسدي معنى يزفون يمشون وقال الضحاك يسعون، وقال يحيى بن سلام: يرعدون غضباً، وقال مجاهد: يختالون أي يمشون مشي الخيلاء، وقيل: يتسللون تسللاً بين المشي والعدو والأولى تفسيره بيسرعون، وقال ابن عباس: يزفون يخرجون وقرىء: يزفون على البناء للمفعول؛ وقرىء: على زنة يرمون، وحكى الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميفع أنهم قرأوا يرفون بالراء المهملة وهي ركض بين المشي والعدو ولما أنكروا على إبراهيم ما فعله بالأصنام ذكر لهم الدليل الدال على فساد عبادتها و
403
(قال) مبكتاً لهم ومنكراً عليهم:
(أتعبدون ما تنحتون) أي أتعبدون أصناماً أنتم تنحتونها، والنحت النجر والبري؛ نحته ينحته بالكسر نحتاً أي براه والنحاتة البراية، ووجه التوبيخ ظاهر وهو أن الخشب والحجر قبل النحت والإصلاح ما كان معبوداً البتة فإذا نحته وشكله على الوجه المخصوص لم يحدث فيه إلا آثار تصرفه عن هيئته، فلو صار معبوداً لهم عند ذلك لزم أن الشيء الذي لم يكن معبوداً إذا حصل فيه آثار صار معبوداً وفساده واضح.
403
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)
404
(والله خلقكم وما تعلمون) أي وخلق الذي تصنعونه على العموم ويدخل فيها الأصنام التي تنحتونها دخولاً أولياً ويكون معنى العمل هنا التصوير والنحت ونحوهما نحو عمل الصائغ السوار، أي صاغه ويرجحه ما قبله، أي أتعبدون الذي تنحتون، أو خلقكم وخلق عملكم، وجعلها الأشعرية دليلاً على خلق أفعال العباد لله تعالى وهو الحق، فإن فعلهم كان بخلق الله فيهم فكان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك، ويرجح على الأول بعدم الحذف، ويجوز أن تكون (ما) استفهامية أي أيُّ شيء تعملون، ومعنى الاستفهام التوبيخ والتقريع، ويجوز أن تكون نافية، أي أن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون شيئاًً وقد طول صاحب الكشاف الكلام في رد قول من قال إنها مصدرية، ولكن بما لا طائل تحته، وجعلها موصولة أولى بالمقام وأوفق بسياق الكلام، والجملة إما حالية أو مستأنفة.
(قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم) مستأنفة جواب سؤال مقدر كالجملة التي قبلها، قالوا هذه المقالة لما عجزوا عن جواب ما أورده عليهم من الحجة الواضحة فتشاوروا فيما بينهم أن يبنوا له حائطاً من حجارة ويملأوه حطباً ويضرموه، ثم يلقوه فيه، والجحيم النار الشديد الاتقاد. قال الزجاج: وكل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم، والألف واللام في جحيم عوض عن المضاف إليه أي في جحيم ذلك البنيان، ثم لما ألقوه فيها نجاه الله منها وجعلها عليه برداً وسلاماً وهو معنى قوله:
(فأرادوا به كيداً) مكراً وحيلة أي احتالوا لإهلاكه.
(فجعلناهم الأسفلين) أي المقهورين المغلوبين بإبطال كيدهم وجعله
404
برهاناً نيراً على علو شأنه، لأنها قامت له بذلك عليهم الحجة التي لا يقدرون على دفعها ولا يمكنهم جحدها، فإن النار الشديدة الاتقاد، العظيمة الاضطرام، المتراكمة الجمار، إذا صارت بعد إلقائه فيها برداً وسلاماً ولم تؤثر فيه أقل تأثير كان ذلك من الحجة بمكان يفهمه كل من له عقل. وصار المنكر له سافلاً ساقط الحجة، ظاهر التعصب، واضح التعسف، وسبحان من يجعل المحن لمن يدعو إلى دينه منحاً، ويسوق إليهم الخير بما هو من صور الضير.
405
(و) لما انقضت هذه الواقعة وأسفر الصبح لذي عينين، وظهرت حجة الله لإبراهيم، وقامت براهين نبوته وسطعت أنوار معجزته.
(قال إني ذاهب إلى ربي) أي مهاجر من مولدي وبلد قومي الذين فعلوا ما فعلوا تعصباً للأصنام وكفراً بالله وتكذيباً لرسله إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه أو إلى حيث أتمكن من عبادته، وهذه الآية أصل في الهجرة والعزلة وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام وذلك حين خلصه الله من النار.
(سيهدين) فيما نويت إلى المكان الذي أمرني بالذهاب إليه أو إلى مقصدي، وقيل: ذاهب بعملي وعبادتي وقلبي ونيتي، فعلى هذا ذهابه بالعمل لا بالبدن والأول أظهر، قيل: إن الله سبحانه أمره بالمصير إلى الشام وقد سبق بيان هذا في سورة الكهف مستوفى قال ابن عباس: قال هذا حين هاجر قال مقاتل فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال:
(رب هب لي) ولداً صالحاً (من الصالحين) يعينني على طاعتك ويؤنسني في الغربة. هكذا قال المفسرون، وعللوا ذلك بأن الهبة قد غلب معناها في الولد، فتحمل عند الإطلاق عليه، وإذا وردت مقيدة حملت على ما قيدت به، كما في قوله: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبياً) وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد فقوله:
405
فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)
406
(فبشرناه بغلام حليم) يدل على أنه ما أراد بقوله: (رب هب لي من الصالحين) إلا الولد، والمعنى: بشرناه به على لسان الملائكة الذين جاؤوا له في صورة الأضياف، ثم انتقلوا من قريته إلى قرية لوط كما تقدم في هود، ويأتي في الذاريات، ومعنى حليم أن يكون حليماً عند كبره فكأنه بشر ببقاء ذلك الغلام حتى يكبر ويصير حليماً لأن الصغير لا يوصف بالحلم، قال الزجاج: هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر وأنه يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم.
(فلما بلغ معه السعي) في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة النقد فوهبنا له الغلام فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه معيناً له على أعماله. قال مجاهد: أي لما شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم، قال ابن عباس: شب حتى بلغ سعيه سعي أبيه في العمل، وقال مقاتل: لما مشى معه، قال الفراء: كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة، وقال الحسن: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة، وقال ابن زيد: هو السعي في العبادة، وقيل: هو الاحتلام.
(قال) إبراهيم لابنه لما بلغ ذلك المبلغ: (يا بني) بفتح الياء وكسرها سبعيتان (إني أرى في المنام أني أذبحك) أي أفعل الذبح، أو أومر به فهما احتمالان ويشير للثاني قوله: افعل ما تؤمر، ويشير للأول: قد صدقت الرؤيا، والمعنى إني رأيت في المنام هذه الرؤيا.
406
قال مقاتل: رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات، قال قتادة: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا شيئاًً فعلوه وقد اختلف أهل العلم في الذبيح هل هو إسحق أو إسماعيل عليهما السلام، قال القرطبي: فقال أكثرهم: الذبيح إسحق وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب، وابنه عبد الله وهو الصحيح عن ابن مسعود ورواه أيضاًً عن جابر وعلي وابن عمر وعمر بن الخطاب قال: فهؤلاء سبعة من الصحابة. قال: ومن التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار، وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي برزة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس كلهم قالوا: الذبيح إسحق، وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى، واختاره غير واحد منهم النحاس وابن جرير الطبري وغيرهما.
قال: وقال آخرون هو إسماعيل وممن قال بذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن وائلة، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضاًً كما سيجيء ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة.
وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك ومتى كان إسحق بمكة، وإنما كان إسماعيل بمكة، قال ابن كثير في تفسيره: وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحق وحكي ذلك عن طائفة من السلف حتى يقال: عن بعض الصحابة وليس في ذلك كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقى إلا عن أخبار أهل الكتاب، وأخذ مسلماً من غير حجة، وكتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر أنه الذبيح، وقال بعد ذلك (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) انتهى.
407
واحتج القائلون بأنه إسحق بأن الله عز وجل قد أخبرهم عن إبراهيم حين فارق قومه وهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال: (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) أنه دعا فقال: (رب هب لي من الصالحين) وقال تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) ولأن الله قال: (وفديناه بذبح عظيم) فذكر أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم، وإنما بشر بإسحق لأنه قال: وبشرناه بإسحق وقال هنا: بغلام حليم، وذلك قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن يصير له إسماعيل، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحق، قال الزجاج: الله أعلم أيهما الذبيح انتهى، وهذا مذهب ثالث وهو الوقف عن الجزم بأحد القولين وتفويض علم ذلك إلى الله تعالى، وما استدل به الفريقان يمكن الجواب عنه، والمناقشة له.
ومن جملة ما احتج به القائلون بأنه إسماعيل أن الله وصفه بالصبر دون إسحاق، كما في قوله: (وإسماعيل واليسع وذا الكفل كل من الصابرين) وهو صبره على الذبح ووصفه بصدق الوعد في قوله: (إنه كان صادق الوعد) لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به، ولأن الله سبحانه قال: (وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا) فكيف يأمره بذبحه، وقد وعده أن يكون نبياً، وأيضاًً فإن الله قال: (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) فكيف يؤمر بذبح إسحق قبل إنجاز الوعد في يعقوب. وأيضاًً ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة فدل على أن الذبيح إسماعيل.
ولو كان إسحق لكان الذبح واقعاً ببيت المقدس وكل هذا أيضاً يحتمل المناقشة والمسألة ليست من العقائد التي كلفنا بمعرفتها فلا نسأل عنها في القيامة فهي مما لا ينفع علمه، ولا يضر جهله. وزعم ابن عباس أن الذبيح إسماعيل، وعنه قال: المفدي إسماعيل وهو الأظهر، وعنه قال: فدي إسماعيل بكبشين أملحين أقرنين أعينين، وعن ابن عمر قال: " إسماعيل ذبح عنه
408
إبراهيم الكبش ".
وعن الفرزدق الشاعر قال: " رأيت أبا هريرة يخطب على منبر رسول الله ﷺ ويقول: إن الذي أمر بذبحه إسماعيل "، وعن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله ﷺ " قال نبي الله داود يا رب أسمع الناس يقولون رب إبراهيم وإسحق ويعقوب فاجعلني رابعاً، قال: إن إبراهيم ألقي في النار فصبر من أجلي، وإن إسحق جاد لي بنفسه، وإن يعقوب غاب عنه يوسف، وتلك بلية لم تنلك ".
أخرجه البزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه وفي إسناده الحسن بن دينار البصري وهو متروك.
عن علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، وأخرج الديلمي عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه، وعن ابن مسعود قال " قال رسول الله ﷺ الذبيح إسحق " (١) أخرجه الدارقطني في الأفراد والديلمي.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً مثله، وعن ابن مسعود قال: سئل النبي ﷺ " من أكرم الناس؟ قال يوسف بن يعقوب بن إسحق ذبيح الله "، أخرجه الطبراني وابن مردويه.
وعن ابن مسعود موقوفاً مثله وعن العباس مثله أخرجه البخاري في تاريخه وغيره في غيره، وعن علي قال كبش أعين أبيض أقرن قد ربط بسمرة في أصل ثبير، وعن ابن عباس قال فدي إسماعيل بكبشين أملحين أقرنين أعينين.
وبما سقناه من الاختلاف في الذبيح هل هو إسحق أو إسماعيل؟ وما استدل به المختلفون في ذلك تعلم أنه لم يكن في المقام ما يوجب القطع أو يتعين رجحانه تعيناً ظاهراً وقد رجح كل قول طائفة من المحققين النصفين
_________
(١) وانظر ما كتبه ابن الجوزي في زاد المسير ص ٧/ ٧٢.
409
كابن جرير فإنه رجح أنه إسحق، ولكنه لم يستدل على ذلك إلا ببعض ما سقناه ههنا وكابن كثير فإنه رجح أنه إسماعيل وجعل الأدلة على ذلك أقوى وأصح وليس الأمر كما ذكره فإنها إن لم تكن دون أدلة القائلين بأن الذبيح إسحق لم تكن فوقها ولا أرجح منها، ولم يصح عن رسول الله ﷺ في ذلك شيء، وما روي عنه فهو إما موضوع أو ضعيف جداً ولم يبق إلا مجرد استنباطات من القرآن كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق، وهي محتملة ولا تقوم حجة بمحتمل، فالوقف هو الذي لا ينبغي مجاوزته، وفيه السلامة من الترجيح بلا مرجح ومن الاستدلال بالمحتمل.
(فانظر ماذا ترى) قرىء: بضم التاء الفوقية وكسر الراء والمفعولان محذوفان أي انظر ماذا تريني إياه من صبرك واحتمالك، وقرىء: بفتح التاء والراء من الرأي، وهو مضارع رأيت وقرىء ترى بضم التاء وفتح الراء مبنياً للمفعول، أي ماذا يخيل إليك ويسنح لخاطرك؟ قال الفراء: في بيان معنى القراءة: الأولى انظر ماذا ترى من صبرك وجزعك.
وقال الزجاج: لم يقل هذا أحد غيره وإنما قال العلماء: ماذا تشير أي ما تريك نفسك من الرأي؟ وقال أبو عبيد: إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة، وكذا قال أبو حاتم، وغلطهما النحاس. وقال: هذا يكون من رؤية العين وغيرها، ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله وإلا فرؤيا الأنبياء وحي وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم.
(قال يا أبت افعل ما تؤمر) به مما أوحي إليك من ذبحي و (ما) موصولة. وقيل: مصدرية على معنى افعل أمرك، والمصدر مضاف إلى المفعول وتسمية المأمور به أمراً والأول أولى (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) على ما ابتلاني به من الذبح، والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبرك بها منه.
410
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (١٠٦)
411
(فلما أسلما) أي استسلما لأمر الله وأطاعاه، وانقادا له وخضعا، قرأ الجمهور: أسلما، وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس: فلما سلما أي فوضا أمرهما إلى أمر الله، وروي عن ابن عباس أنه قرأ: استسلما، قال قتادة: أسلم أحدهما نفسه لله، وأسلم الآخر ابنه، يقال: سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد، وقد اختلف في جواب (لما) ماذا هو؟ فقيل محذوف تقديره: ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما، أو فديناه بكبش، هكذا قال البصريون، وقال الكوفيون: الجواب هو ناديناه، والواو زائدة مقحمة، واعترض عليهم النحاس بأن الواو من حروف المعاني ولا يجوز أن تزاد، وقال الأخفش: الجواب وتله للجبين والواو زائدة، وروي هذا أيضاًً عن الكوفيين، ويرد عليه اعتراض النحاس كما ورد على الأول.
(وتله للجبين) أي صرعه وأسقطه على شقه، وقيل: هو الرمي بقوة وأصله من رماه على التل، وهو المكان المرتفع، أو من التليل وهو العنق، أي رماه على عنقه، ثم قيل: لكل إسقاط وإن لم يكن على تل ولا على عنق، وفي القاموس: تله تلا من باب قتل فهو متلول وتليل صرعه وألقاه على عنقه وخده، يقال: تللت الرجل إذا ألقيته، والتل الصرع والدفع، والمراد أنه أضجعه على جبينه على الأرض، والجبين ما انكشف من الجبهة قاله السمين.
وفي المصباح: الجبين ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ، وهما جبينان عن يمين الجهة وشمالها، قاله الأزهري وابن فارس وغيرهما فتكون الجبهة بين جبينين، وجمعه جبن بضمتين مثل بريد وبرد، وأجبنة مثل أسلمة، وقيل: المعنى كبه على وجهه كيلا يرى منه ما يؤثر الرقة لقلبه، واختلف في
411
الموضع الذي أراد ذبحه فيه فقيل: هو مكة في المقام، وقيل في المنحر بمنى عند الجمار، وقيل: على الصخرة التي بأصل جبل ثبير، وقيل بالشام.
412
(وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) أي عزمت على الإتيان بما رأيته، قال المفسرون: لما أضجعه للذبح نودي من الجبل يا إبراهيم الخ وجعله مصدقاً بمجرد العزم، وإن لم يذبحه لأنه قد أتى بما أمكنه، والمطلوب استسلامهما لأمر الله، وقد فعلا. قال القرطبي: قال أهل السنة: إن نفس الذبح لم يقع ولو وقع لم يتصور رفعه، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل، لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء، قال: ومعنى صدقت الرؤيا فعلمت ما أمكنك، ثم امتنعت لما منعناك، هذا أصح ما قيل في هذا الباب، وقالت طائفة: ليس هذا مما ينسخ بوجه لأن معنى ذبحت الشيء قطعته، وقد كان إبراهيم يأخذ السكين فيمر بها على حلقه فتنقلب كما قال مجاهد.
وقال بعضهم: كان كلما قطع جزءاً التأم وقالت طائفة منهم السدي: ضرب الله على عنقه صفحة نحاس فجعل إبراهيم يحز ولا يقطع شيئاً وهذا كله جائز في القدرة الإلهية، لكنه يفتقر إلى نقل صحيح فإنه أمر لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر، ولو كان قد جرى ذلك لبينه الله تعظيماً لرتبة إسماعيل وإبراهيم وكان أولى بالبيان من الفداء.
وقال بعضهم: إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج وإنهار الدم، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي فلما أتى بما أمر به من الاضجاع قيل له: قد صدقت الرؤيا وهذا كله خارج عن المفهوم. ولا يظن بالخليل والذبيح أن يفهما من هذا الأمر ما ليس له حقيقة، حتى يكون منهما التوهم، وأيضاًً لو صحت هذه الأشياء لما احتيج إلى الفداء.
أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: " لما أراد إبراهيم أن يذبح إسحق
412
قال لأبيه: إذا ذبحتني فاعتزل لا أضطرب فينتضخ عليك دمي، فشده فلما أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه نودي من خلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا "، وأخرج أحمد عنه مرفوعاً مثله مع زيادة، وأخرجه عنه موقوفاً.
وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه قال: " فلما أسلما سلما ما أمرا به وتله وضع وجهه إلى الأرض فقال: لا تذبحني وأنت تنظر، عسى أن ترحمني فلا تجهز علي، وأن أجزع فأنكص فأمتنع منك، ولكن اربط يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي إلى الأرض فلما أدخل يده ليذبحه فلم تحل المدية حتى نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده.
وعنه أيضاًً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رؤيا الأنبياء وحي "، أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه البخاري وغيره من قول عبيد بن عمير، واستدل بهذه الآية. (١)
(إنا كذلك) أي كما جزيناك (نجزي المحسنين) أي نجزيهم بامتثال الأمر بالخلاص من الشدائد والسلامة من المحن. فالجملة كالتعليل لما قبلها قال مقاتل: جزاه الله سبحانه بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه.
_________
(١) زاد المسير ٧/ ٧٣.
413
﴿ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ﴾ أي عزمت على الإتيان بما رأيته، قال المفسرون : لما أضجعه للذبح نودي من الجبل يا إبراهيم الخ وجعله مصدقا بمجرد العزم، وإن لم يذبحه لأنه قد أتى بما أمكنه، والمطلوب استسلامهما لأمر الله، وقد فعلا. قال القرطبي : قال أهل السنة : إن نفس الذبح لم يقع ولو وقع لم يتصور رفعه، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل، لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء، قال : ومعنى صدقت الرؤيا فعلت ما أمكنك، ثم امتنعت لما منعناك، هذا أصح ما قيل في هذا الباب، وقالت طائفة : ليس هذا مما ينسخ بوجه لأن معنى ذبحت الشيء قطعته، وقد كان إبراهيم يأخذ السكين فيمر بها على حلقه فتنقلب كما قال مجاهد.
وقال بعضهم : كان كلما قطع جزءا التأم وقالت طائفة منهم السدي : ضرب الله على عنقه صفحة نحاس فجعل إبراهيم يحز ولا يقطع شيئا وهذا كله جائز في القدرة الإلهية، لكنه يفتقر إلى نقل صحيح فإنه أمر لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر، ولو كان قد جرى ذلك لبينه الله تعظيما لرتبة إسماعيل وإبراهيم وكان أولى بالبيان من الفداء.
وقال بعضهم : إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج وإنهار الدم، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي فلما أتى بما أمر به من الإضجاع قيل له : قد صدقت الرؤيا وهذا كله خارج عن المفهوم. ولا يظن بالخليل والذبيح أن يفهما من هذا الأمر ما ليس له حقيقة، حتى يكون منهما التوهم، وأيضا لو صحت هذه الأشياء لما احتيج إلى الفداء.
أخرج الطبراني عن ابن عباس قال :( لما أراد إبراهيم أن يذبح إسحق قال لأبيه : إذا ذبحتني فاعتزل لا أضطرب فينتضخ عليك دمي، فشده فلما أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه نودي من خلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا )، وأخرج أحمد عنه مرفوعا مثله مع زيادة، وأخرجه عنه موقوفا.
وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه قال :( فلما أسلما سلما ما أمرا به وتله وضع وجهه إلى الأرض فقال : لا تذبحني وأنت تنظر، عسى أن ترحمني فلا تجهز علي، وأن أجزع فأنكص فأمتنع منك، ولكن اربط يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي إلى الأرض فلما أدخل يده ليذبحه فلم تحل المدية حتى نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده.
وعنه أيضا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( رؤيا الأنبياء وحي )، أخرجه ابن أبي حاتم وأخرجه البخاري وغيره من قول عبيد بن عمير، واستدل بهذه الآية. ١
﴿ إِنَّا كَذَلِكَ ﴾ أي كما جزيناك ﴿ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ أي نجزيهم بامتثال الأمر بالخلاص من الشدائد والسلامة من المحن. فالجملة كالتعليل لما قبلها قال مقاتل : جزاه الله سبحانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه.
١ زاد المسير ٧/ ٧٣..
(إن هذا لهو البلاء المبين) الابتلاء والبلاء الاختبار والمعنى إن هذا هو الاختبار الظاهر حيث اختبره الله في طاعته بذبح ابنه وقيل: إن هذا لهو النعمة الظاهرة حيث سلم الله ولده من الذبح وفداه بالكبش. يقال: أبلاه الله إبلاء وبلاء إذا أنعم عليه والأول أولى وإن كان الابتلاء يستعمل في الاختبار بالخير والشر ومنه: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) ولكن المناسب للمقام المعنى الأول قال أبو زيد: هذا في البلاء الذي نزل به في أن يذبح ولده، قال: وهذا من البلاء المكروه.
413
وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (١٠٩) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧)
414
(وفديناه بذبح عظيم) الذبح اسم المذبوح، وجمعه ذبوح كالطحن اسم للمطحون، وبالفتح المصدر، ومعنى عظيم عظيم القدر، ولم يرد عظيم الجثة وإنما عظم قدره لأنه فدى به الذبيح أو لأنه متقبل، قال النحاس: العظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف، وأهل التفسير على أنه ههنا للشريف، أي المتقبل، قال الواحدي: قال أكثر المفسرين ومنهم ابن عباس: " أنزل عليه كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً "، وقال الحسن ما فدي إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه، قال الزجاج: قد قيل إنه فدي بوعل والوعل التيس الجبلي، ومعنى الآية جعلنا الذبح فداء له وخلصناه به من الذبح، قال ابن عباس: بكبش عظيم متقبل، قيل: قد بقي قرناه معلقين على الكعبة إلى أن احترق البيت في زمن ابن الزبير، قال الشعبي: رأيت قرني الكبش منوطين بالكعبة.
وقال ابن عباس: والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه في ميزاب الكعبة وقد يبس. انتهى. ومن المعلوم المقرر أن كل ما هو من الجنة لا تؤثر فيه النار فلم يطبخ لحم الكبش بل أكلته السباع والطيور تأمل.
قال أبو السعود: لما ذبحه السيد إبراهيم قال جبريل: الله أكبر الله أكبر الله أكبر فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر، فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد، فبقي هذا سنة انتهى. عن ابن عباس: " أن رجلاً قال: نذرت لأذبح نفسي فقال ابن عباس: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) ثم
414
تلا: (وفديناه بذبح عظيم) فأمره بكبش فذبحه " وقد استشهد أبو حنيفة بهذه الآية فيمن نذر بذبح ولده أنه يلزمه ذبح شاة.
415
(وتركنا عليه في الآخرين) أي في الأمم الآخرة التي تأتي بعده ولا وقف عليه لأن قوله:
(سلام على إبراهيم) مفعول وتركنا، والسلام الثناء الجميل وقال عكرمة: سلام منا، وقيل: سلامة من الآفات، والكلام في هذا كالكلام في قوله: سلام على نوح في العالمين وقد تقدم في هذه السورة بيان معناه.
(كذلك نجزي المحسنين) أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزي من انقاد لأمر الله، ولم يقل: إنا كذلك هنا، كما في غيره لأنه قد سبق في هذه القصة فاستخف بتركه اكتفاء بذكره مرة عن ذكره ثانية
(إنه من عبادنا المؤمنين) أي الذين أعطوا العبودية حقها ورسخوا في الإيمان بالله وتوحيده.
(وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي بشرنا إبراهيم بولد يولد له ويصير نبياً بعد أن يبلغ السن التي يتأهل فيها لذلك، ونبياً منصوب على الحال، وهي حال مقدرة. وقال ابن عباس: إنما بشر نبياً حين فداه الله من الذبح، ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده.
قال الزجاج: إن كان الذبيح إسحق فيظهر كونها مقدرة والأولى أن يقال: إن من فسر الذبيح بإسحق جعل البشارة هنا خاصة بنبوته. وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه، ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال ليس بشرط وإنما الشرط المقارنة للفعل وقوله: (من الصالحين) كما يجوز أن يكون صفة (لنبياً) يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه فتكون أحوالاً متداخلة.
(وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ) أي على إبراهيم (وَعَلَى إِسْحَاقَ) بمرادفة نعم الله عليهما وقيل: كثرنا أولادهما وقيل: إن الضمير في عليه يعود إلى إسماعيل وهو بعيد. وقيل: المراد بالمباركة هنا هي الثناء الحسن عليهما إلى يوم القيامة. وقيل: أخرجنا من صلبه ألف نبي أولهم يعقوب وآخرهم عيسى.
415
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) أي محسن في عمله بالإيمان والتوحيد، وظالم لها بالكفر والمعاصي، لما ذكر الله سبحانه البركة في الذرية بين أن كون الذرية من هذا العنصر الشريف والمحتد المبارك، ليس بنافع لهم ولا يجري أمر الخبث والطيب على العرق والعنصر.
فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر، وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر، بل إنما ينتفعون بأعمالهم لا بآبائهم فإن اليهود والنصارى وإن كانوا من ولد إسحق فقد صاروا إلى ما صاروا إليه من الضلال المبين، وإن العرب وإن كانوا من ولد إسماعيل فقد ماتوا على الشرك إلا من أنقذه الله بالإسلام، وفيه تنبيه على أن الظلم في أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة، وأن المرء إنما يعاب بسوء فعله ويعاقب على ما اجترحت يداه لا على ما وجد من أصله وفرعه، ولما فرغ سبحانه من ذكر إنجاء الذبيح من الذبح وما من عليه بعد ذلك من النبوة ذكر ما منّ به على موسى وهرون فقال:
416
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ) يعني بالنبوة وغيرها من النعم العظيمة التي أنعم الله بها عليهما
(ونجيناهما وقومهما) المراد بقومهما هم المؤمنون من بني إسرائيل (من الكرب العظيم) هو ما كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم، وما كان يصيبهم من جهته من البلاء، وقيل: هو الغرق الذي أهلك فرعون وقومه، والأول أولى.
(ونصرناهم) جاء بضمير الجمع. قال الفراء: الضمير لموسى وهرون وقومهما لأن قبله: (ونجيناهما وقومهما) وقيل: الضمير عائد على الاثنين موسى وهارون تعظيماً لهما. والأول أولى (فكانوا) بسبب نصرنا وتأييدنا (هم الغالبين)، على عدوهم من القبط بعد أن كانوا تحت أسرهم وقهرهم وهم تأكيد أو بدل أو فصل وهو الأظهر.
(وآتيناهما الكتاب) أي التوراة (المستبين) البين الظاهر فيما أتى به من الحدود. والأحكام. يقال: استبان كذا أي صار بيناً.
416
وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (١٢٥) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤)
417
(وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي القيم الذي لا اعوجاج فيه وهو دين الإسلام فإنه الطريق الموصلة إلى الحق والصواب عقلاً وسمعاً أو إلى المطلوب وهو الجنة
(وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلَامٌ) منا (عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ) أي أبقينا عليهما في الأمم المتأخرة الثناء الجميل وقد قدمنا الكلام في السلام وكذلك تقدم في هذه السورة تفسير قوله
﴿ سَلامٌ ﴾ منا ﴿ عَلَى مُوسَى وَهَرُونَ ﴾ أي أبقينا عليهما في الأمم المتأخرة الثناء الجميل وقد قدمنا الكلام في السلام وكذلك تقدم في هذه السورة تفسير قوله ﴿ سَلامٌ ﴾
(إنا كذلك) أي كما جزيناهما (نجزي المحسنين
إنهما من عبادنا المؤمنين) تعليل لإحسانهما بالإيمان وإظهار لجلالة قدره وأصالة أمره.
(وإن إلياس لمن المرسلين) قال المفسرون هو نبي من أنبياء بني إسرائيل وقصته مشهورة مع قومه، قيل: وهو إلياس بن ياسين من سبط هرون أخي موسى، قال ابن إسحق وغيره: كان إلياس هو القيم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع، وقال قتادة: هو إدريس، وقيل: هو ابن عم اليسع والأول أولى.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: " الخضر هو إلياس " (١)
_________
(١) ضعيف الجامع ٢٩٤٠.
417
أخرجه ابن مردويه، قرىء: إلياس بهمزة مكسورة مقطوعة ويوصلها وهما سبعيتان وتوجيههما أنه اسم أعجمي تلاعبت به العرب فقطعوا همزته تارة ووصلوها أخرى. وقرأ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب: وإن إدريس لمن المرسلين، وقرىء: إبليس وقالوا فيه: إلياسين كإسرافيل قيل: في الإلياس والخضر: إنهما حيان وقيل: إلياس وكّل بالفيافي كما وكّل الخضر بالبحار، قال السيوطي في الاتقان قال وهب: إن إلياس عمر كما عمر الخضر وأنه يبقى إلى آخر الدنيا أهـ.
وقال الحسن البصري: قد هلكا ولا نقول كما يقول الناس إنهما حيان وهو الراجح نظراً في الأدلة والله أعلم، وعلمه أتم وأحكم.
ثم اختلف في كون الخضر نبياً مرسلاً أو نبياً فقط أو هو من الأولياء، وأما إلياس فهو نبي مرسل باتفاق، وذكر الثعلبي أنه كان إلياس على صفة موسى في الغضب والقوة، نشأ نشأة حسنة يعبد الله، جعله الله نبياً رسولاً وآتاه آيات وسخر له الجبال والأسود وغيرهما، وتوهم قوم أن اليسع هو إلياس وليس كذلك لأن الله تعالى أفرد كل واحد بالذكر وقال وهب: اليسع صاحب إلياس وكانا قبل زكريا ويحيى وعيسى وقيل: إلياس هو إدريس وهذا غير صحيح لأن إدريس جد نوح وإلياس من ذريته، وقيل: إلياس هو الخضر وقيل: لا بل الخضر هو اليسع.
418
(إذ) ظرف لقوله لمن المرسلين أو متعلق بمحذوف أي: اذكر يا محمد إذ (قال لقومه ألا تتقون) عذاب الله، ثم أنكر عليهم بقوله:
(أَتَدْعُونَ بَعْلًا) هو اسم لصنم كانوا يعبدونه أي: أتعبدون صنماً وتطلبون الخير منه؟ قال ثعلب: اختلف الناس في قوله سبحانه (بَعْلًا) فقالت طائفة: البعل هنا الصنم وكان الشيطان يدخل في جوفه ويتكلم بالضلال والخدمة يحفظونه ويعلمونه الناس، وكان طوله عشرين ذراعاً وله أربعة أوجه فاعتنوا به وعظموه حتى أخدموه بأربعمائة خادم، وجعلوهم أبناءه.
418
وقالت طائفة: البعل هناك ملك، وقال إسحق امرأة كانوا يعبدونها، قال الواحدي والمفسرون يقولون: رباً وهو بلغة اليمن يقولون للسيد والرب البعل قال النحاس: القولان صحيحان أي أتدعون صنماً عملتموه رباً، وكان موضعه يقال له: بك فركب وصار: بعلبك وهو من بلاد الشام.
(وتذرون أحسن الخالقين) أي تتركون عبادة أحسن من يقال له: خالق بأي معنى كان كما قاله الآمدي، وانتصاب الاسم الشريف في قوله:
419
(الله ربكم ورب آبائكم الأولين) على أنه بدل من أحسن هذا على قراءة حمزة والكسائي والربيع بن خيثم وابن أبي إسحق وغيرهم منهم قرأوا بنصب الثلاثة الأسماء، وقيل: النصب على المدح. وقيل: على عطف البيان، وحكى أبو عبيد: أن النصب على النعت. قال النحاس: وهو غلط، وإنما هو بدل ولا يجوز النعت لأنه ليس بتحلية، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وغيرهما بالرفع. قال أبو حاتم: بمعنى هو الله ربكم، قال النحاس وأولى ما قيل أنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف، وحكي عن الأخفش: أن الرفع أولى وأحسن. قال ابن الأنباري: من رفع أو نصب لم يقف على أحسن الخالقين على جهة التمام لأن الله مترجم عن أحسن الخالقين على الوجهين جميعاً، والمعنى أنه خالقكم وخالق من قبلكم فهو الذي تحق له العبادة.
(فكذبوه فإنهم) بسبب تكذيبه (لمحضرون) في العذاب أو في النار، وقد تقدم أن الإحضار المطلق مخصوص. بالشر
(إلا عباد الله المخلصين) أي من كان مؤمناً به من قومه، قرىء بكسر اللام وفتحها كما تفم، والمعنى: على الكسر أنهم أخلصوا لله وعلى الفتح أن الله استخلصهم من عباده، والاستثناء متصل، وفيه دلالة على أن في قومه من لم يكذبه فلذلك استثنوا،
وقد تقدم تفسير قوله: (وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلَامٌ عَلَى آل يَاسِينَ) قرأ نافع وابن عامر: بإضافة آل بمعنى آل ياسين، وقرأ الباقون
419
بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة بياسين إلا الحسن فإنه قرأ: الياسين بإدخال آلة التعريف على ياسين، قيل: المراد على هذه القراءة كلها إلياس، وعليه وقع التسليم، ولكنه اسم أعجمي، والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية ويكثر تغييرهم لها.
قال ابن جني: العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعباً؛ فياسين وإلياس وإلياسين شيء واحد، قال الأخفش: العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم، فيقولون المهالبة على أنهم سموا كل رجل منهم بالمهلب، قال: فعلى هذا أنه سمي كل رجل منهم بالياسين. قال الفراء: نذهب بالياسين إلى أن نجعله جمعاً فنجعل أصحابه داخلين معه في اسمه، قال أبو علي الفارسي: تقديره الياسيين إلا أن اليائين للنسبة حذفتا كما حذفتا في الأشعرين والأعجمين ورجح الفراء وأبو عبيدة قراءة الجمهور، قالا: لأنه لم يقل في شيء من السور على آل فلان، إنما جاء بالاسم كذلك الياسين، لأنه إنما هو بمعنى إلياس أو بمعنى إلياس وأتباعه.
وقال الكلبي: المراد بآل ياسين آل محمد صلى الله عليه وسلم، قال الواحدي: وهذا بعيد لأن ما بعده من الكلام وما قبله لا يدل عليه، قال ابن عباس: نحن آل محمد آل ياسين. وقيل: آله القرآن لأن ياسين من أسماء القرآن، وفيه بعد بعيد.
وقد تقدم تفسير قوله:
420
﴿ سَلامٌ عَلَى آل يَاسِينَ ﴾ قرأ نافع وابن عامر : بإضافة آل بمعنى آل ياسين، وقرأ الباقون بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة بياسين إلا الحسن فإنه قرأ : الياسين بإدخال آلة التعريف على ياسين، قيل : المراد على هذه القراءة كلها إلياس، وعليه وقع التسليم، ولكنه اسم أعجمي، والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية ويكثر تغييرهم لها.
قال ابن جني : العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا ؛ فياسين وإلياس وإلياسين شيء واحد، قال الأخفش : العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل منهم، فيقولون المهالبة على أنهم سموا كل رجل منهم بالمهلب، قال : فعلى هذا أنه سمي كل رجل منهم بالياسين. قال الفراء : نذهب بالياسين إلى أن نجعله جمعا فنجعل أصحابه داخلين معه في اسمه، قال أبو علي الفارسي : تقديره الياسيين إلا أن اليائين للنسبة حذفتا كما حذفتا في الأشعرين والأعجمين ورجح الفراء وأبو عبيدة قراءة الجمهور، قالا : لأنه لم يقل في شيء من السور على آل فلان، إنما جاء بالاسم كذلك الياسين، لأنه إنما هو بمعنى إلياس أو بمعنى إلياس وأتباعه.
وقال الكلبي : المراد بآل ياسين آل محمد صلى الله عليه وسلم، قال الواحدي : وهذا بعيد لأن ما بعده من الكلام وما قبله لا يدل عليه، قال ابن عباس : نحن آل محمد آل ياسين. وقيل : آل القرآن لأن ياسين من أسماء القرآن، وفيه بعد بعيد.
(إنا كذلك نجزي المحسنين) أي كما جزيناه ببقاء سيرته الحسنة في الآخرين وتقدم أيضاًً تفسير قوله:
(إنه من عبادنا المؤمنين) مستوفى.
(وإن لوطاً لمن المرسلين) قد تقدم ذكر قصة لوط عليه السلام مستوفى
(إذ نجيناه وأهله أجمعين) الظرف متعلق بمحذوف هو اذكر، ولا يصح تعلقه بالمرسلين لأنه لم يرسل وقت تنجيته.
420
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٣٨) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤)
421
(إلا عجوزاً في الغابرين) قد تقدم أن الغابر يكون بمعنى الماضي ويكون بمعنى الباقي. فالمعنى: إلا عجوزاً في الباقين في العذاب أو الماضين الذين قد هلكوا
(ثم دمرنا الآخرين) أي أهلكناهم بالعقوبة والمعنى: أن في نجاته وأهله جميعاً إلا العجوز وتدمير الباقين من قومه الذين لم يؤمنوا به دلالة بينة على ثبوت كونه من المرسلين.
(وإنكم لتمرون عليهم) خاطب بهذا العرب أو كفار مكة على الخصوص أي تمرون على منازلهم التي فيها آثار العذاب (مصبحين) أي داخلين في وقت الصباح وهو من أصبح التامة
(وبالليل) المعنى تمرون على منازلهم في ذهابكم إلى الشام ورجوعكم منه نهاراً وليلاً، والوقف عليه مطلق والياء للملابسة.
(أفلا تعقلون)؟ ما تشاهدونه في ديارهم من آثار عقوبة الله النازلة بهم، فإن في ذلك عبرة للمعتبرين وموعظة للمتدبرين. وإنما لم يختم قصة لوط ويونس بالسلام كما ختم قصة من قبلهما لأن الله تعالى قد سلم على جميع المرسلين في آخر السورة فاكتفى بذلك عن ذكر كل واحد منفرداً بالسلام.
(وإن يونس لمن المرسلين) يونس هو ذو النون وهو ابن متى، قال
421
المفسرون: وكان يونس قد وعد قومه العذاب فلما تأخر عنهم العذاب خرج عنهم وقصد البحر وركب السفينة، فكان بذهابه إلى البحر كالفار من مولاه فوصف بالإباق وهو معنى قوله:
422
(إذ أبق إلى الفلك المشحون) أي المملوء وأصل الإباق الهرب من السيد، لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه وصف به فهو استعارة تصريحيية أو مجاز مرسل من استعمال المقيد في المطلق وقال المبرد: تأويل ابق تباعد أي ذهب إليه. ومن ذلك قولهم عبد أبق. وقد اختلف أهل العلم: هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إياه أو بعده؟.
(فساهم فكان من المدحضين) المساهمة: أصلها المغالبة وهي الاقتراع، وهو أن يخرج السهم على من غلب، قال المبرد: أي فقارع أهل السفينة، قال: وأصله من السهام التي تجال، والمعنى: فصار من المغلوبين. قال: يقال دحضت حجته وأدحضها الله وأصله من الزلق عن مقام الظفر، قال ابن عباس اقترع فكان من المقروعين.
وعنه قال بعث الله يونس إلى أهل قريته فردوا عليه ما جاءهم به فامتنعوا منه، فلما فعلوا ذلك أوحى الله إليه أني مرسل إليهم العذاب في يوم كذا وكذا فأخرج من بين أظهرهم فأعلم قومه الذي وعد الله من عذابه إياهم فقالوا: ارمقوه فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم، فلما كانت الليلة التي وعدوا بالعذاب في صبيحتها أدلج فرآه القوم فحذروا فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم وفرقوا بين كل دابة وولدها ثم عجوا إلى الله وأنابوا واستقالوا فأقالهم الله وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر به مار، فقال: ما فعل أهل القرية؟ قال: إن نبيهم لما خرج من بين أظهرهم عرفوا أنه قد صدقهم ما وعدهم من العذاب فخرجوا من القرية إلى براز من الأرض ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها، ثم عجوا إلى الله وتابوا فتقبل منهم، وأخر عنهم العذاب، فقال يونس عند ذلك: لا أرجع إليهم كذاباً
422
أبداً، ومضى على وجهه. أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ومعنى هذه المساهمة أن يونس لما ركب السفينة احتبست. فقال الملاحون ههنا عبد أبق من سيده وهذا رسم السفينة إذا كان فيه آبق لا تجري، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس. فقال: أنا الآبق وزج نفسه في الماء وقد قدمنا الكلام على قصته وما روي فيها في سورة يونس فلا نكرره.
423
(فالتقمه الحوت) يقال: لقمت اللقمة والتقمتها إذا ابتلعتها أي فابتلعه الحوت ومعنى (وهو مليم) هو مستحق للوم، يقال رجل مليم إذا أتى بما يلام عليه. وأما الملوم فهو الذي يلام سواء أتى بما يستحق أن يلام عليه أم لا، وقيل: المليم المعيب يقال: ألام الرجل إذا عمل شيئاًً صار به معيباً، وقيل: داخل في الملامة، وقال ابن عباس: المليم المسيىء، قال سعيد بن جبير لما استهموا جاء حوت إلى السفينة فاغراً فاه ينتظر أمر ربه حتى إذا ألقى نفسه في الماء أخذه الحوت.
(فلولا أنه كان من المسبحين) أي الذاكرين لله أو المصلين له أو من القائلين (لا إله إلا أنت) الآية، وقيل: من العابدين، وقال ابن عباس: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة، وقال الحسن: ما كانت له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملاً صالحاً فشكر الله تعالى له طاعته القديمة.
(للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) أي لصار بطن الحوت له قبراً إلى يوم البعث وقيل للبث في بطنه حياً، واختلف المفسرون كم أقام في بطن الحوت؟ فقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوماً، وقال الضحاك: عشرين يوماً، وقال عطاء: سبعة أيام، وقال مقاتل بن حيان: ثلاثة أيام، وقيل: ساعة واحدة؛ وقيل: التقمه ضحى ولفظه عشية وفي هذه الآية ترغيب في ذكر الله وتنشيط للذاكرين له.
423
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (١٥٠) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٥٢)
424
(فنبذناه بالعراء) النبذ الطرح، والعراء قال ابن الأعرابي هو الصحراء وقال الأخفش: الفضاء وقال أبو عبيدة: الواسع من الأرض، وقال الفراء: المكان الخالي وروي عن أبي عبيدة أيضاًً أنه قال: هو وجه الأرض، وقيل: الأرض الخالية عن الشجر والنبات، وقيل: بالساحل، قاله ابن عباس؛ والمعنى أن الله طرحه من بطن الحوت في الصحراء الواسعة التي لا نبات فيها، أو أمرنا الحوت بنبذه وإنما أضاف النبذ إلى نفسه وإن كان الحوت هو النابذ لأن أعمال العباد مخلوقة لله.
(وهو) عند إلقائه (سقيم) لما ناله في بطن الحوت من الضرر، قيل: صار بدنه كبدن الطفل حين يولد، وقيل: كالفرخ الممعط أي المنتوف شعره وقيل كان قد بلي لحمه ورق عظمه ولم تبق له قوة، وقد استشكل بعض المفسرين الجمع بين ما وقع هنا من قوله (فنبذناه بالعراء) وقوله في موضع آخر (لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم) فإن هذه الآية تدل على أنه لم ينبذ بالعراء، وأجاب النحاس وغيره بأن الله سبحانه أخبر ههنا أنه نبذ بالعراء وهو غير مذموم، ولولا رحمته عز وجل لنبذ بالعراء وهو مذموم.
(وأنبتنا عليه شجرة) فوقه تظلل عليه، وقيل: معنى عليه عنده، وقيل:
424
معنى عليه له أي مظلة له (من يقطين) هو شجرة الدباء وقال المبرد: اليقطين يقال لكل شجرة ليس لها ساق، بل يمتد على وجه الأرض نحو الدباء والبطيخ والحنظل، فإن كان لها ساق تقلها فيقال لها شجرة فقط، وهذا قول الحسن ومقاتل وغيرهما، وقال سعيد بن جبير. هو كل شيء ينبت ثم يموت من عامه قال الجوهري: اليقطين ما لا ساق له من الشجر كشجر القرع ونحوه. قال الزجاج: اشتقاق اليقطين من قطن بالمكان أي أقام به؛ فهو يفعيل. وقيل: هو اسم أعجمي.
قال المفسرون: كان يستظل بظلها من الشمس وقيض الله له أروية من الوحش تروح عديه بكرة وعشية فكان يشرب من لبنها حتى اشتد لحمه ونبت شعره ثم أرسله الله بعد ذلك، قال ابن عباس: يقطين القرع. وعليه الجمهور وفائدته أن الذباب لا يجتمع عنده. وأنه أسرع الأشجار نباتاً وامتداداً وارتفاعاً.
قال ابن جزي: وخص الله القرع لأنه يجمع برد الظل، ولين الملمس، وكبر الورق، وأن الذباب لا يقربه فإن جسد يونس حين ألقي لم يكن يتحمل الذباب، وقيل: اليقطين شجرة التين، وقيل: الموز، وقال سعيد بن جبير: اليقطين كل شيء يذهب على وجه الأرض، وعنه قال: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت وهو معنى قوله:
425
(وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) هم قومه الذين هرب منهم إلى البحر وجرى له ما جرى بعد هربه، كما قصه الله علينا في هذه السورة: وهم أهل نينوى.
قال قتادة: أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل قبل أن يصيبه ما أصابه و (أو) في قوله أو يزيدون، قيل بمعنى الواو، والمعنى ويزيدون، وقال الفراء: أو ههنا بمعنى بل وهو قول مقاتل والكلبي وأبي عبيدة، وقال المبرد والزجاج والأخفش: أو ههنا على أصله والمعنى أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم الرائي، قال هؤلاء: مائة ألف أو يزيدون، فالشك إنما دخك على حكاية قول المخلوقين وقرأ جعفر بن محمد: ويزيدون بدون ألف الشك.
425
قال السمين الشك بالنسبة إلى المخاطبين، والإبهام بالنسبة إلى أن الله أبهم أمرهم. والإباحة بالنسبة إلى الناظر، وكذلك التخيير أي هو مخير بين أن يحزرهم كذا أو كذا.
وقد وقع الخلاف بين المفسرين هل هذا الإرسال هو الذي كان قبل التقام الحوت له وتكون الواو وأرسلناه لمجرد الجمع بين ما وقع له مع الحوت وبين إرساله إلى قومه من غير اعتبار تقديم ما تقدم في السياق، وتأخير ما تأخر، أو هو إرسال له بعد ما وقع له من الحوت ما وقع، على قولين وقد قدمنا الإشارة إلى الاختلاف بين أهل العلم: هل كان قد أرسل قبل أن يهرب من قومه إلى البحر؟ أو لم يرسل إلا بعد ذلك؟.
والراجح أنه كان رسولاً قبل أن يذهب إلى البحر كما يدل عليه ما قدمنا في سورة يونس، وبقي مستمراً على الرسالة.
وهذا الإرسال المذكور هنا هو بعد تقدم نبوته ورسالته. قال سعيد ابن جبير: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت، ثم تلا: (فنبذناه بالعراء) إلى قوله (إلى مائة ألف أو يزيدون)، وقد تقدم ما يدل على أن رسالته كانت من قبل ذلك، وليس في الآية ما يدل على ما ذكره كما قدمنا.
وقيل: يجوز أن يكون إرساله إلى قوم آخرين غير القوم الأولين وفيه بعد وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله - ﷺ - عن قول الله هذا قال: " يزيدون عشرين ألفاً " قال الترمذي غريب.
وكذا روي عن الكلبي ومقاتل وعن ابن عباس قال: يزيدون ثلاثين ألفاً، وروي عنه أنهم يزيدون بضعة وثلاثين ألفاً، وكذا روي عن الحسن وروي عن ابن عباس: أنهم يزيدون بضعة وأربعين ألفاً وقال سعيد بن جبير: سبعين ألفاً ولا يتعلق بالخلاف في هذا كثير فائدة.
426
(فآمنوا فمتعناهم إلى حين) أي وقع منهم الإيمان بعدما شاهدوا أعلام نبوته فمتعهم الله في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم، ومنتهى أعمارهم. ولما كانت قريش وقبائل من العرب يزعمون أن الملائكة بنات الله أمر الله سبحانه رسوله ﷺ باستفتائهم على طريقة التقريع والتوبيخ فقال:
(فاستفتهم) أي استخبرهم يا محمد.
(ألربك البنات ولهم البنون)؟ أي كيف يجعلون لله على تقدير صدق ما زعموه من الكذب أدنى الجنسين؟ وأوضعهما وهو الإناث ولهم أعلاهما وأرفعهما وهم الذكور، وهل هذا إلا حيف في القسمة لضعف عقولهم وسوء إدراكهم؟ ومثله قوله: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (٢١) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى) ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم فقال:
(أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون) فأضرب عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه في التبكيت والتهكم بهم، أي كيف جعلوهم إناثاً وهم لم يحضروا عند خلقنا لهم، وهذا كقوله: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ)؟ فبين سبحانه أن مثل ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة، ولم يشهدوا ولا دل دليل على قولهم من السمع، ولا هو مما يدرك بالعقل حتى ينسبوا إدراكه إلى عقولهم
ثم أخبر سبحانه عن كذبهم فقال:
(أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) استئناف من جهته تعالى غير داخل تحت الأمر بالاستفتاء مسوق لإبطال مذهبهم الفاسد ببيان أنه ليس مبناه إلا الإفك الصريح، والافتراء القبيح من دون دليل ولا شبهة دليل؛ فإنه لم يلد ولم يولد، قرأ الجمهور: ولد الله فعلاً ماضياً مسنداً إلى الله وقرىء: بإضافة ولد إلى الله على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي يقولون: الملائكة ولد الله، والولد بمعنى مفعول يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، ثم كرر سبحانه تقريعهم وتوبيخهم فقال:
427
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (١٦١) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (١٦٢) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥)
428
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥١:ثم أخبر سبحانه عن كذبهم فقال :﴿ أَلا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ : وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾. استئناف من جهته تعالى غير داخل تحت الأمر بالاستفتاء مسوق لإبطال مذهبهم الفاسد ببيان أنه ليس مبناه إلا الإفك الصريح، والافتراء القبيح من دون دليل ولا شبهة دليل ؛ فإنه لم يلد ولم يولد، قرأ الجمهور : ولد الله فعلا ماضيا مسندا إلى الله وقرئ : بإضافة ولد إلى الله على أنه خبر مبتدأ محذوف ؛ أي يقولون : الملائكة ولد الله، والولد بمعنى مفعول يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث
(أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ)؟ قرأ الجمهور: بفتح الهمزة على أنها للاستفهام الإنكاري وقد حذف معها همزة الوصل استغناء بها عنها، وقرىء بهمزة وصل تثبت ابتداء وتسقط درجاً، ويكون الاستفهام منوباً قاله الفراء وحذف حرفه للعلم به من المقام، أو على أن اصطفى وما بعده بدل من الجملة المحكية بالقول، وعلى تقدير عدم الاستفهام والبدل فقد حكى جماعة من المحققين منهم الفراء أن التوبيخ يكون باستفهام وبغير استفهام كما في قوله: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) وقيل: هو على إضمار القول والاصطفاء أخذ صفوة الشيء.
(ما لكم كيف تحكمون)؟ جملتان استفهاميتان ليس لإحداهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب استفهمهم أولاً عما استقر لهم، وثبت استفهام إنكار، وثانياً استفهام تعجب من هذا الحكم الذي حكموا به، والمعنى أي شيء ثبت لكم كيف تحكمون لله بالبنات؟ وهو القسم الذي تكرهونه ولكم بالبنين وهو القسم الذي تحبونه
(أفلا تذكرون)؟ أي تتذكرون والمعنى ألا تعتبرون وتتفكرون فتتذكرون بطلان قولكم.
(أم لكم سلطان مبين) أي حجة واضحة ظاهرة على هذا الذي تقولونه ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من مسند حسي أو عقلي، وحيث انتفى كلاهما فلا بد من مستند نقلي، وهو إضراب عن توبيخ إلى توبيخ،
428
وانتقال من تقريع إلى تقريع
429
(فأتوا بكتابكم) أي فأتوا بحجتكم الواضحة على هذا أو فأتوا بالكتاب الذي ينطق لكم بالحجة ويشتمل عليها (إن كنتم صادقين) فيما تقولونه.
(وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً) التفات للغيبة للإيذان بانقاطعهم عن درجة الخطاب، واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم، وتحكى جناياتهم للآخرين قال أكثر المفسرين: إن المراد بالجنة هنا الملائكة، قيل لهم: جنة لأنهم لا يرون، وقال مجاهد: هم بطن من بطون الملائكة يقال هم: الجنة، وقال أبو مالك: إنما قيل لهم الجنة لأنهم خزان على الجنان، والنسب الصهر قال قتادة والكلبي: قالوا لعنهم الله إن الله صاهر الجن. فكانت الملائكة من أولادهم قالا: والقائل بهذه المقالة اليهود، وقال مجاهد والسدي ومقاتل: إن القائل بذلك كنانة وخزاعة، قالوا: إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن، وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه. وقال ابن عباس: زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان، ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله:
(ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون) أي علموا أن هؤلاء الكفار الذين قالوا هذا القول يحضرون النار. ويعذبون فيها لكذبهم في قولهم ذلك، والمراد به المبالغة في التكذيب ببيان أن الذين ادعى هؤلاء لهم تلك النسبة، ويعلمون أنهم أعلم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك، ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكماً مؤبداً وقيل: علمت الجنة أنهم أنفسهم يحضرون للحساب والأول أولى لأن الإحضار إذا أطلق فالمراد به العذاب، وقيل: المعنى ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون إلى الجنة، ثم نزه سبحانه وتعالى نفسه الكريمة فقال:
(سبحان الله عما يصفون) أو هو حكاية لتنزيه الملك لله عز وجل عما وصفه به المشركون ذكره العمادي، وأشار له أبو السعود. والاستثناء في قوله
(إلا عباد الله المخلصين) منقطع، والتقدير: لكن عباد الله المخلصين بريئون
429
عن أن يصفوا الله بشيء من ذلك، وقد قرىء: بفتح اللام وكسرها ومعناهما ما بيناه قريباً، وقيل هو استثناء من المحضرين أي إنهم يحضرون النار إلا من أخلص فيكون متصلاً لا منقطعاً، قاله أبو البقاء. وعلى هذا تكون جملة التسبيح معترضة، ثم خاطب الكفار على العموم أو كفار مكة على الخصوص فقال:
430
(فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين) أي فإنكم وآلهتكم التي تعبدون من دون الله لستم بفاتنين على الله بإفساد عباده، وإضلالهم، وعلى متعلقة بفاتنين والواو في وما تعبدون إما للعطف على اسم إن أو هو بمعنى مع وما موصولة أو مصدرية أي فإنكم والذي تعبدون أو وعبادتكم ومعنى فاتنين مضلين، يقال: فتنت الرجل وأفتنته ويقال فتنه على الشيء وبالشيء كما يقال: أضله على الشيء، وأضله به، قال الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنته، وأهل نجد يقولون: أفتنته، ويقال: فتن فلان على فلان امرأته، أي أفسدها عليه، فالفتنة هنا بمعنى الإضلال والإفساد، قال مقاتل: يقول ما أنتم بمضلين أحداً بآلهتكم إلا من قدر الله له أن يصلى الجحيم.
و (ما) في
(ما أنتم) نافية. (وأنتم) خطاب لهم ولمن يعبدونه على التغليب، قال الزجاج: أهل التفسير مجمعون فيما علمت أن المعنى ما أنتم بمضلين أحداً إلا من قدر الله عز وجل عليه أن يضل، والجملة تعليل وتحقيق لبراءة المخلصين ببيان عجزهم عن إغوائهم وإضلالهم، والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام.
(إلا من هو صال الجحيم) أي إلا من سبق له في علم الله الشقاوة وأنه سيدخل النار، والاستثناء مفرغ قاله السمين. وهذا من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فهو استثناء من المفعول المقدر، وقال ابن عباس: في الآية إنكم يا معشر المشركين وما تعبدون يعني الآلهة ما أنتم عليه بمضلين إلا من سبق في علمه أنه سيصلى الجحيم، وعنه قال: يقول إنكم لا تضلون أنتم ولا أضل منكم إلا من قضيت عليه أنه صال الحجيم وعنه قال: لا تفتنون إلا من
430
هو صال الجحيم، قرأ الجمهور: صال بكسر اللام لأنه منقوص مضاف حذفت الياء لالتقاء الساكنين وحمل على لفظ من فأفرد كما أفرد هو.
وقرأ الحسن وابن أبي عبلة: بضم اللام مع واو بعدها، وروي عنهما أنهما قرآ: بضم اللام بدون الواو، فأما مع الواو فعلى أنه جمع سلامة بالواو حملاً على معنى من، وحذفت نون الجمع للإضافة، وأما بدون الواو فيحتمل أن يكون جمعاً، وإنما حذفت الواو خطأ كما حذفت لفظاً، ويحتمل أن يكون مفرداً وحقه على هذا كسر اللام.
قال النحاس وجماعة أهل التفسير يقولون: إنه لحن لأنه لا يجوز هذا قاضي المدينة، والمعنى أن الكفار وما يعبدونه لا يقدرون على إضلال أحد من عباد الله إلا من هو من أهل النار وهم المصرون وإنما يصر على الكفر من سبق القضاء عليه بالشقاوة، وأنه ممن يصلى النار أي يدخلها. ثم قال الملائكة مخبرين للنبي ﷺ كما حكاه الله سبحانه عنهم
431
(وما منا) في الكلام حذف والتقدير وما منا أحد أو وما منا ملك.
(إلا له مقام معلوم) في عبادة الله، وقيل: التقدير وما منا إلا من له مقام معلوم، رجح البصريون التقدير الأول، ورجح الكوفيون الثاني. قال الزجاح هذا قول الملائكة وفيه مضمر، والمعنى وما منا ملك إلا له مقام معلوم يعبد ربه فيه لا يتجاوزه، وقيل: مقام معلوم في القربة والمشاهدة، وقيل: يعبد الله على مقامات مختلفة كالخوف والرجاء والمحبة والرضاء، والأول أولى، وقيل: هو من كلام النبي والمؤمنين، أي وما منا إلا له مقام معلوم في الجنة أو بين يدي الله في القيامة، وفيه بعد ثم قالوا:
(وإنا لنحن الصافون) أي في مواقف الطاعة أو حول العرش، داعين للمؤمنين، قال قتادة: هم الملائكة صفوا أقدامهم، وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل الدنيا في الأرض، أو نحن الصافون له في الصلاة، وهذا على القول الثاني أنهم المؤمنون، والأول أظهر.
431
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (١٦٦) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠)
432
(وإنا لنحن المسبحون) أي المنزهون لله المقدسون له عما أضافه إليه المشركون، وقيل: المصلون، وقيل: المراد بقولهم (المسبحون) مجموع التسبيح باللسان وبالصلاة، والمقصود: أن هذه الصفات هي صفات الملائكة، وليسوا كما وصفهم به الكفار من أنهم بنات الله.
وعن ابن عباس قال: هذه الملائكة وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم " وذلك قول الملائكة (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (١٦٤) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه وغيرهم.
وعن العلاء ابن سعد أن رسول الله ﷺ قال يوماً لأصحابه: " أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فيها موضع قدم إلا عليه ملك راكع أو ساجد، ثم قرأ: وإنا لنحن الصافون، وإنا لنحن المسبحون " أخرجه محمد بن نصر وابن عساكر.
وعن ابن مسعود قال: " إن من السموات لسماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائماً أو ساجداً، ثم قرأ: وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون.
وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، إن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجداً لله "، (١) قيل: الأطيط أصوات الأقتاب، وقيل:
_________
(١) روى مسلم في صحيحه ١/ ٣٧١ عن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا بصفوف الملائكة....
432
أصوات الإبل وحنينها.
وقد ثبت في الصحيح وغيره: " أن النبي ﷺ أمر أصحابه بأن يصفوا كما تصف الملائكة عند ربهم، فقالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: يقيمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف ". قال القرطبي: قال مقاتل: هذه الآيات الثلاث نزلت ورسول الله ﷺ عند سدرة المنتهى، فتأخر جبريل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أهنا تفارقني؟ فقال جبريل: ما أستطيع أن أتقدم عن مكاني هذا.
وأنزل الله حكاية عن قول الملائكة: (وما منا إلا له مقام معلوم) إلى آخرها ".
433
(وإن كانوا ليقولون) إن مخففة من الثقيلة، وفيها ضمير شأن محذوف، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، أي وإن الشأن كان كفار العرب ليقولون الخ، وهذا رجوع إلى الإخبار عن المشركين. أي كانوا قبل المبعث المحمدي إذا عيروا بالجهل قالوا:
(لو أن عندنا ذكراً من الأولين) أي كتاباً من كتبهم كالتوراة والإنجيل
(لكنا عباد الله المخلصين) أي لأخلصنا العبادة له، ولم نكفر به كما كفروا فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار، والكتاب الذي هو معجز من بين الكتب.
(فكفروا به) قال ابن عباس: لما جاء المشركين من أهل مكة ذكر الأولين، وعلم الآخرين؛ كفروا بالكتاب والفاء هي الفصيحة الدالة على محذوف مقدر في الكلام، قال الفراء: تقديره فجاءهم محمد بالذكر، فكفروا به، وهذا على طريق التعجب منهم، ونظير ذلك قوله: في سورة فاطر: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا) والمراد بالنذير الرسول، وقد قيل هنا: إن الذكر هو الرسول (فسوف يعلمون) عاقبة كفرهم ومغبة تكذيبهم، وما يحل بهم من الانتقام، وفي هذا تهديد لهم شديد.
433
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٧) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٨٢)
434
(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) مستأنفة مقررة للوعيد وتصديرها بالقسم لغاية الاعتناء بتحقيق مضمونها أي وبالله والمراد بالكلمة ما وعدهم الله به من النصر والغلبة والظفر على الكفار. قال مقاتل: عنى بالكلمة قوله سبحانه: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) وقال الفراء: سبقت كلمتنا بالسعادة لهم، والأولى تفسير هذه الكلمة بما هو مذكور هنا فإنه قال:
(إنهم لهم المنصورون) فهذه هي الكلمة المذكورة سابقاً وهذا تفسير لها وإنما سماها كلمة وهي كلمات لأنها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة فهو مجاز من إطلاق الجزء على الكل.
(وإن جندنا) المراد بجند الله حزبه وهم الرسل وأتباعهم، والجند الأنصار والأعوان والجمع أجناد وجنود، والواحد جندي، فالياء للوحدة مثل روم ورومي وجند بفتحتين بلد باليمن. قال الشيباني: جاء هنا على الجمع يعني قوله:
(لهم الغالبون) من أجل أنه رأس آية، وهذا الوعد لهم بالنصر والغلبة لا ينافيه انهزامهم في بعض المواطن، وغلبة الكفار لهم، فإن الغالب في كل موطن هو انتصارهم على الأعداء وغلبتهم لهم فخرج الكلام مخرج الغالب على أن العاقبة المحمودة لهم على كل حال، وفي كل موطن كما قال سبحانه: (والعاقبة للمتقين) والمراد الوعد بعلوهم على عدوهم، في مقادم
434
الحجاج وملاحم القتال في الدنيا. وعلوهم عليهم في الآخرة، وعن ابن عباس: إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في العقبى، والحاصل أن قاعدة أمرهم وأساسه الظفر والنصرة، وإن وقع في تضاعيف ذلك شوب من الابتلاء والمحنة فالعبرة للغالب، ويعطي الأكثر حكم الكل ويلحق القليل بالعدم أو الغلبة باعتبار عاقبة الحال، وملاحظة المآل، ثم أمر سبحانه رسوله بالإعراض عنهم والإغماض عما يصدر منهم من الجهالات والضلالات فقال:
435
(فتول عنهم حتى حين) أي أعرض عنهم إلى مدة معلومة عند الله سبحانه وهي مدة الكف عن القتال، قال السدي ومجاهد: حتى نأمرك بالقتال وقال قتادة: إلى الموت. وقيل: إلى يوم بدر، وقيل: إلى يوم فتح مكة. قيل هذه الآية منسوخة بآية السيف والأول أولى؛ وكان ﷺ أول الأمر مأموراً بالتبليغ والإنذار والصبر على أذى الكفار تأليفاً لهم. ثم أمر بالجهاد في السنة الثانية من الهجرة. قال ابن حجر رحمه الله: وغزواته ﷺ سبع وعشرون غزوة، قاتل في ثمان منها بنفسه: بدر وأحد والمصطلق والخندق وقريظة؛ وخيبر، وحنين، والطائف أهـ.
(وأبصرهم) إذا نزل بهم العذاب بالقتل والأسر؛ وما هيأنا لهم (فسوف يبصرون) ذلك عن قريب حين لا ينفعهم الإبصار؛ وسوف هنا للوعيد لا للتبعيد؛ إذ ليس المقام مقامه، كما تقول: سوف أنتقم منك؛ وأنت متهيء للانتقام؛ قاله الكرخي ولذا عبر بالإبصار عن قرب الأمر كأنه حاضر قدامه. مشاهد له. خصوصاً إذا قيل: إن الأمر للفور، وقيل: يبصرون العذاب يوم القيامة؛ ثم هددهم سبحانه بقوله: (
أفبعذابنا يستعجلون)؟ كانوا يقولون من فرط تكذيبهم: متى هذا العذاب؟.
(فإذا نزل بساحتهم) إذا نزل عذاب الله لهم بفنائهم والساحة في اللغة فناء الدار الواسع الخالي من الأبنية وجمعها سوح، قال الفراء: نزل بهم، نزل بساحتهم سواء؛ قال الزجاج: وكان عذاب هؤلاء بالقتل، قيل: المراد به
435
نزول رسول الله ﷺ بساحتهم يوم فتح مكة شبه العذاب بجيش هجم عليهم؛ فأناخ بفنائهم بغتة وهم في ديارهم. ففي الضمير المستتر في نزل استعارة بالكناية والنزول تخييل. قرأ الجمهور: نزل مبنياً للفاعل.
وقرىء: مبنياً للمفعول والجار والمجرور قائم مقام الفاعل.
(فساء صباح المنذرين) أي بئس صباح الذين أنذروا بالعذاب، والمخصوص بالذم محذوف، أي صباحهم وخص الصباح بالذكر لأن العذاب كان يأتيهم فيه وإن وقع في وقت آخر، وفي التعبير بالمنذرين إقامة الظاهر مقام المضمر واللام للجنس لا للعهد فإن أفعال الذم والمدح تقتضي الشيوع للإبهام والتفصيل فلا يجوز أن تقول: بئس الرجل هذا ونعم الرجل هذا إذا أردت رجلاً بعينه.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: " صبح رسول الله ﷺ خيبر وقد خرجوا بالمساحي فلما نظروا إليه قالوا: محمد والخميس، فقال: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " الحديث.
436
ثم كرر سبحانه ما سبق تأكيداً للوعد بالعذاب وتسلية على تسلية: فقال:
(وتول عنهم حتى حين وأبصر فسوف يبصرون) حذف مفعول أبصر هنا وذكره أولاً إما لدلالة الأول عليه. فتركه هنا اختصاراً أو قصداً إلى التعميم للإيذان بأن ما يبصره من أنواع عذابهم لا يحيط به الوصف، وقيل: هذه الجملة المراد بها أحوال القيامة والجملة الأولى: المراد بها عذابهم في الدنيا وعلى هذا فلا يكون من باب التأكيد، بل من باب التأسيس، ثم نزه سبحانه نفسه عن قبيح ما يصدر منهم فقال:
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧٨:ثم كرر سبحانه ما سبق تأكيدا للوعد بالعذاب وتسلية على تسلية : فقال :﴿ وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ﴾ حذف مفعول أبصر هنا وذكره أولا إما لدلالة الأول عليه. فتركه هنا اختصارا أو قصدا إلى التعميم للإيذان بأن ما يبصره من أنواع عذابهم لا يحيط به الوصف، وقيل : هذه الجملة المراد بها أحوال القيامة والجملة الأولى : المراد بها عذابهم في الدنيا وعلى هذا فلا يكون من باب التأكيد، بل من باب التأسيس،
(سبحان ربك رب العزة عما يصفون) العزة الغلبة والقوة والمراد تنزيهه عن كل ما يصفونه، مما لا يليق بجنابه الشريف ورب العزة بدل من
436
ربك، وأضيف الرب إلى العزة لاختصاصه بها كأنه قيل: ذي العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه به، وقيل: المراد العزة المخلوقة الكائنة بين خلقه ويترتب على القولين مسألة اليمين، فعلى الأول ينعقد بها اليمين لأنها صفة من صفاته بخلاف الثاني، فإنه لا ينعقد بها اليمين قاله السمين، ثم ذكر ما يدل على تشريف رسله وتكريمهم فقال:
437
(وسلام على المرسلين) أي الذين أرسلهم إلى عباده، وبلغوا رسالاته وهو من السلام الذي هو التحية، وقيل معناه: أمن لهم وسلامة من المكاره.
أخرج ابن سعد وابن مردويه عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: " إذا سلمتم على المرسلين فسلموا عليّ فإنما أنا بشر من المرسلين ".
وعن أنس مرفوعاً نحوه بأطول منه عند ابن مردويه وعمم الرسل بالسلام بعد ما خص البعض في السورة لأن في تخصيص كل بالذكر تطويلاً.
(والحمد لله رب العالمين) إرشاد لعباده إلى حمده على إرسال رسله إليهم مبشرين ومنذرين، وتعليم لهم. كيف يصنعون عند إنعامه عليهم وما يثنون به عليه، وقيل: إنه الحمد على هلاك المشركين، ونصر الرسل عليهم، والأولى: أنه حمد لله سبحانه على كل ما أنعم به على خلقه أجمعين، كما يفيده حذف المحمود عليه، فإن حذفه مشعر بالتعميم كما تقرر في علم المعاني، والحمد هو الثناء الجميل لقصد التعظيم.
عن أبي سعيد عن رسول الله ﷺ أنه كان إذا أراد أن يسلم من صلاته قال: " سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين " أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن مردويه.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: كنا نعرف انصراف رسول الله ﷺ من الصلاة بقوله: سبحان ربك إلى آخرها.
437
وأخرج الخطيب نحوه من حديث أبي سعيد، وأخرج الطبراني عن زيد ابن أرقم عن رسول الله ﷺ قال: " من قال: " دبر كل صلاة سبحان ربك الآيات ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر "، وأخرج حميد بن زنجويه في ترغيبه عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه نحوه.
وعن علي رضي الله تعالى عنه: " من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه سبحان ربك إلى آخرها " ذكره النسفي والخازن، قال النسفي اشتملت السورة على ذكر ما قاله المشركون في الله ونسبوه إليه مما هو منزه عنه وما عاناه المرسلون من جهتهم وما خولوه في العاقبة من النصرة عليهم، فختمها بجوامع ذلك من تنزيه ذاته عما وصفه به المشركون والتسليم على المرسلين والحمد لله رب العالمين على ما قيض لهم من حسن العواقب.
438
خاتمة الجزء الحادي عشر
تم بعون الله الجزء الحادي عشر من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن ويليه الجزء الثاني عشر وأوله تفسير سورة ص.
439
فتحُ البيان في مقاصد القرآن
تفسِير سَلفي أثري خالٍ منَ الإِسرَائيليّاتِ والجَدليَّاتِ المذهبية والكلامية يغني عَن جميع التفاسِير وَلا تغني جميعُهَا عَنه
تأليف: السيد الإمام العلامة الملك المؤيد من الله الباري آبي الطيب صديق بن حسن بن علي الحسين القنوجي النجاري ١٢٤٨ - ١٣٠٧ هـ
عني بطبعهِ وقدّم له وراجعه: خادم العلم عَبد الله بن إبراهيم الأنصَاري
الجزء الثاني عشر
المَكتبة العصريَّة
صَيدَا - بَيروت
1
جَمِيع الحُقُوق محفُوظَة
١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م
شركة أبناء شريف الأنصاري للطباعة والنشر والتوزيع
المَكتبة العصريَّة للطبَاعة والنّشْر
الدار النموذجية ــ المكتبة العصرية
بَيروت - صَ. ب ٨٣٥٥ - تلكس LE ٢٠٤٣٧ SCS
صَيدَا - صَ. ب ٢٢١ - تلكس LE ٢٩١٩٨
2
فتح البيان في مقاصد القرآن
3
الجزء الثاني عشر

بسم الله الرحمن الرحيم

ويشتمل على:
- سورة ص
- سورة الزمر
- سورة غافر
- سورة فصلت
- سورة الشورى
- سورة الزخرف
- سورة الدخان
- سورة الجاثية
5

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة ص
وهي مكيّة، قال القرطبي: في قول الجميع، قال ابن عباس: نزلت بمكة وعنه قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقال: " إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول: فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه، فجاء النبي - ﷺ - فدخل البيت، وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل أن يجلس إلى أبي طالب ويكون أرقى عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس. فلم يجد رسول الله - ﷺ - مجلساً قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب: " أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول " قال: وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله - ﷺ - فقال: " يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية "، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: " كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً " قالوا " فما هي؟ قال: " لا إله إلا الله " فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهو يقولون " (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (١) فنزل فيهم (ص * والقرآن ذي الذكر) إلى قوله (بل لما يذوقوا عذاب) " أخرجه الترمذي وصححه والنسائي وأحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن جرير وابن المنذر.
_________
(١) رواه أحمد والترمذي ٢/ ١٥٥ عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورواه الحاكم ٢/ ٤٣٢. الطبري ٢٣/ ١٢٥ والواحدي ٢٠٩ والسيوطي ٥/ ٢٩٥.
7

بسم الله الرحمن الرحيم

ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥)
9
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
فما بقيت من اللذات إلا أحاديث الكرام على المدام