ﰡ
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١ الى ١٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤)عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩)
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤)
عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨)
الاعراب:
إِذا هَوى ظرف لفعل «أقسم» المقدر، والمراد ب إِذا هنا مطلق زمان.
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى جملة في جواب سؤال مقدر نشأ بعد قوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى.
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى الواو في وَهُوَ: واو الحال، والجملة بعدها من المبتدأ والخبر: في موضع نصب على الحال من ضمير فَاسْتَوى أي استوى عاليا، يعني جبريل.
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى كذب بالتخفيف، فتكون ما في موضع نصب على تقدير حذف حرف الجر، وتقديره: ما كذب الفؤاد فيما رأى. وما: إما بمعنى الذي، ورَأى الصلة، والهاء المحذوفة العائد، أي رآه، فحذف الهاء تخفيفا، وإما مصدرية. وقرئ كَذَبَ بالتشديد، فتكون ما مفعولا به، من غير تقدير حذف حرف جر، لأنه متعد بنفسه.
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى نَزْلَةً: منصوب على المصدر في موضع الحال، كأنه قال: رآه نازلا نزلة أخرى، وذهب الفرّاء إلى أنه منصوب على الظرف، إذ معناه: مرة أخرى.
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
إبهام الموحى به للتعظيم والتهويل، ومثله: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى [النجم ٥٣/ ١٦] وكذلك فَغَشَّاها ما غَشَّى [النجم ٥٣/ ٥٤].
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى.. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى بين هوى والهوى جناس، فالأول بمعنى خرّ وسقط، والثاني بمعنى هوى النفس.
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى جملة يوحى لدفع المجاز وتأكيد الإيحاء.
المفردات اللغوية:
وَالنَّجْمِ جنس النجوم، أو الثريا، فإنه غلب فيه إذا غرب أو انتثر يوم القيامة، والواو للقسم. هَوى غرب وسقط. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ ما عدل محمد ﷺ عن طريق الهداية المستقيم. وَما غَوى ما وقع في الغي: وهو الجهل مع الاعتقاد الفاسد، وهو الجهل المركب، والمراد: ما اعتقد باطلا قط، والخطاب في هذا لقريش. والمراد: نفي ما ينسبون إليه.
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ما يتكلم بالقرآن عن الهوى أي بالباطل. إِنْ هُوَ أي ما القرآن أو الذي ينطق به. إِلَّا وَحْيٌ يُوحى وحي يوحيه الله إليه.
عَلَّمَهُ إياه ملك. شَدِيدُ الْقُوى صاحب القوى الشديد، وهو جبريل عليه السلام. ذُو مِرَّةٍ ذو قوة وحصافة في عقله ورأيه. فَاسْتَوى فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها، ورآه عليها محمد ﷺ مرتين: مرة في السماء، ومرة في الأرض عند غار حراء في بدء النبوة.
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أفق السماء وهو الجهة العليا بالنسبة للناظر، والضمير لجبريل. ثُمَّ دَنا قرب من النبي صلى الله عليه وسلم. فَتَدَلَّى زاد في القرب ونزل وتعلق به، وهو تمثيل لعروجه بالرسول صلى الله عليه وسلم. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أي فكان جبريل على مقدار قوسين أو أقرب من ذلك، والمراد به هنا مقدار ما بين مقبض القوس والسّية: وهي ما عطف من طرفيها، ولكل قوس قابان: طرفان. والخلاصة: فكان مقدار مسافة قربه منه مثل مقدار مسافة قاب قوسين. والمقصود تمثيل ملكة الاتصال وتحقيق استماعه لما أوحي إليه، بنفي البعد الموقع في اللبس والغموض.
فَأَوْحى
الله تعالى. إِلى عَبْدِهِ
جبريل. ما أَوْحى
جبريل إلى النبي ﷺ ولم يذكر الموحى به تفخيما لشأنه، أو فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم. ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى أي ما أنكر فؤاد النبي ﷺ ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام.
أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أفتجادلونه وتغلبونه وتكذبونه على ما يراه معاينة، من المراء:
وَما طَغى وما تجاوز ما أمر به تلك الليلة. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي رأى في تلك الليلة- ليلة المعراج- بعض آيات ربه العظمى، وعجائب الملكوت، كرؤية جبريل حينما سدّ أفق السماء بما له من ست مائة جناح.
التفسير والبيان:
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى أي أقسم بالنجم أي بالنجوم عند ما تميل للغروب، إذ بالميل إلى الأفق تعرف الجهات، ما عدل محمد ﷺ عن طريق الهداية والحق، وما صار غاويا متكلما بالباطل، وقيل:
النجم: الثريا إذا سقطت مع الفجر. روى ابن أبي حاتم عن الشعبي وغيره قال:
الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق.
وقد عرض الرازي مقارنة في المقسم به والمقسم عليه بين هذه السورة والسور المتقدمة، فذكر أن السور التي تقدمت وهي والصافات والذاريات والطور وهذه السورة كان القسم فيها بالأسماء دون الحروف، أقسم الله في الأولى لإثبات الوحدانية: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ. وفي الثانية لإثبات الحشر والجزاء: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وفي الثالثة لإثبات دوام العذاب بعد وقوعه يوم القيامة:
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ، ما لَهُ مِنْ دافِعٍ. وفي هذه السورة لإثبات نبوة محمد ﷺ فاكتملت الأصول الثلاثة: الوحدانية، والحشر، والنبوة «١».
ويلاحظ أن القسم على الوحدانية والنبوة قليل في القرآن، والقسم على إثبات البعث كثير، كما في سورة الذاريات، والطور، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى،
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
ودلائل النبوة والرسالة أيضا كثيرة وهي المعجزات المشهورة والمتواترة، أما البعث فإمكانه يثبت بالعقل، وأما وقوعه فلا يثبت إلا بالأدلة السمعية أو النقلية وهي القرآن والحديث، لذا أكثر الله تعالى في القرآن بالقسم عليه ليؤمن به الناس.
ونظير الآية: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ، لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الواقعة ٥٦/ ٧٥- ٨٠].
والحكمة في القسم بالنجوم أنه عالم رهيب، سواء في السرعة أو في الحجم، أو في النوع، فسرعة نور الكواكب ٣٠٠ ألف كيلومتر في الثانية، أي أن النور يجري حول الأرض في سبع ثانية مرة واحدة، والشمس أكبر من الأرض بمليون وثلاث مائة ألف مرة، وهي وا؟ حد من ثلاثين ألف مليون شمس، والنظام الشمسي والكواكب السيارة الإحدى عشرة جزء من عالم المجرّة، والمجرّة ذات نجوم بنحو ٣٠ ألف مليون نجم، منها ما هو أكبر من الشمس، والمجرة عادة تشبه قرصا مفرطحا، ويبلغ قطر المجرّة التي تنتمي إليها ١٠٠ ألف سنة ضوئية «١»، وإن
وأوضح التقرير أن هاتين المجرتين تقعان على بعد ١٧ مليار سنة ضوئية عن الأرض، وأنهما تكونتا إبان الانفجار الكبير (بيج بانج) الذي يقال: إنه أسفر عن نشوء الكون، والمجرتان على حد ما جاء في التقرير هما أبعد وأقدم من إشعاعات (كازار) التي تشبه النجوم، وتبعث إشعاعا كهربائيا ومغناطيسيا قويا.
وقد أوضحت سابقا أن الشمس على مدار السنة تتنقل في اثني عشر برجا، وتوجد في كل برج لمدة شهر حيث تتم دورتها السنوية في اثني عشر شهرا (٣٦٥ يوما وست ساعات وتسع دقائق وعشر ثوان). ويطلق على هذه السنة: السنة النجمية التي تبدأ في ٢١ آذار (مارس). وللقمر بروج أيضا تسمى منازل القمر، يقيم فيها كل يوم في منزل جديد، ويستمر بالتنقل على مدار الشهر ما بين ٢٩ أو ٣٠ منزلا، يسمى المنزل الأخير محاقا، قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس ١٠/ ٥] وتدل آية لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر ٤٠/ ٥٧] على أن الإعجاز القرآني في الفلك أكبر من الإعجاز القرآني في الطب والإنسان، وقد طلب الله منا أن نمعن النظر في آياته الكونية، ونكتشف ظواهر الكون «١».
«نعم، لقد وجدت عظمة الخالق، وفي عمله الجبار بالسيطرة على قوانين الجاذبية بين الأرض والقمر والشمس».
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أي ما يقول قولا عن هوى وغرض، وما ينطق بالقرآن عن هواه الشخصي، إنما ينطق بوحي من الله أوحاه إليه، ويبلّغ ما أمر به كاملا موفورا من غير زيادة ولا نقصان.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله ﷺ ورسول الله بشر يتكلم في الغضب، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله ﷺ فقال:
«اكتب، فو الذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق».
وأخرج الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «ما أخبرتكم أنه من عند الله، فهو الذي لا شك فيه».
وأخرج أحمد عن أبي هريرة أيضا عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لا أقول إلا حقا، قال بعض أصحابه: فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال: إني لا أقول إلا حقا».
ثم أخبر الله تعالى عن معلّم رسول الله ﷺ وهو جبريل عليه السلام:
فقال:
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أي علّم القرآن النبيّ جبريل الذي هو شديد قواه العلمية والعملية، وهو ذو قوة وشدة في الخلق، وذو حصافة في العقل، ومتانة في الرأي، وقد استقام جبريل على
ونظير الآيات عن جبريل قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير ٨١/ ١٩- ٢٣].
ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى، فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى أي استوى واعتدل جبريل بالأفق الأعلى أولا، ثم قرب من الأرض، وازداد في القرب والنزول، حتى نزل على النبي ﷺ فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد ﷺ من المسافة مقدار قوسين أو أقل من قوسين، فأوحى جبريل إلى عبد الله ورسوله محمد ﷺ ما أوحاه من القرآن في تلك النزلة، من شؤون الدين. وقيل: فأوحى الله إلى محمد ﷺ عبده ما أوحى، وفيه تفخيم لشأن الوحي.
وهذا كان ورسول الله ﷺ في الأرض، لا ليلة الإسراء. ولهذا قال تعالى بعده: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى.
روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود، قال في هذه الآية: فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل له ست مائة جناح».
وقال عن رؤية جبريل حقيقة لا تخيلا:
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى، أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي ما أنكر فؤاد النبي ﷺ ما رآه من صورة جبريل، وإنما كان فؤاده صادقا، فتكون عينه أصدق، فكيف تجادلونه وتكذبونه فيما رآه بعينه رؤية مشاهدة محسوسة من صورة جبريل عليه السلام؟! والأشهر أن لام الْفُؤادُ للعهد، وهو فؤاد
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى أي لقد رأى محمد ﷺ جبريل نازلا مرة أخرى على صورته التي خلقه الله عليها، وذلك ليلة الإسراء، عند سدرة المنتهى التي هي في رأي الأكثرين وهو المشهور: شجرة في السماء السابعة، وجاء في الصحيح أنها في السماء السادسة، وإليها ينتهي علم الخلائق، ولا يعلم أحد منهم ما وراءها، وعندها الجنة التي تأوي إليها أرواح المؤمنين. والصحيح كما تقدم في سورة الإسراء: أن المعراج كان بالروح والجسد، وليس بالروح فقط كما يرى بعضهم، وإلا لما كان المعراج معجزة.
فتكون رؤية النبي ﷺ جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية مرتين:
مرة في الأرض ومرة في السماء، وأما في غير هاتين المرتين، فكان يراه في صورة إنسان، لأن عليه أيسر وأهون وأكثر أنسا.
وعلى هذا يكون ضمير رَآهُ ليس راجعا إلى الله تعالى، بل إلى جبريل عليه السلام، فالآية تنفي أن يكون ﷺ رأى ربه سبحانه مطلقا، ويؤكده قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام ٦/ ١٠٣] وقوله سبحانه: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى ٤٢/ ٥١].
وقال بعضهم: الضمائر في دَنا، وفَتَدَلَّى و (كان) و (أوحى) وكذا في رَآهُ: لله عز وجل، ويشهد لهذا ما أخرجه البخاري عن أنس:
«ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة». والراجح هو الرأي الأول بدليل
ما أخرجه مسلم عن أبي ذر أنه
وأما سدرة المنتهى فنؤمن بها كما جاء في ظاهر القرآن، دون تعيين مكانها وأوصافها إلا بما
جاء في الحديث الصحيح، روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال: «لما أسري برسول الله ﷺ انتهي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض، فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها، فيقبض منها..».
ورواية مسلم في صحيحة عن ابن مسعود: «.. وهي في السماء السادسة».
وفي رواية أخرى لمسلم عن أنس أن النبي ﷺ قال: «لما رفعت إلى سدرة المنتهى، في السماء السابعة، نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة..»
والنّبق: ثمر السّدر، الواحدة: نبقة «٢».
وروى الترمذي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول- وقد ذكر له سدرة المنتهى- قال: «يسير الراكب في ظل الغصن منها مائة سنة، أو يستظل بظلها مائة راكب «٣»، فيها فراش «٤» الذهب، كأن ثمرها القلال».
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى أي تلك السدرة التي يحيط بها من الخلائق الدالة على عظمة الله وجلاله ما يحيط، مما لا يحصره وصف ولا عدد. وهذا في رأي الأكثرين يشعر بالتعظيم والتكثير.
(٢) ويقال: نبق بفتح النون وسكون الباء، وهي لغة المصريين، وكسر الباء أفصح.
(٣) شك من الراوي.
(٤) الفراش: دويبة ذات جناحين، تتهافت في ضوء السراج، واحدتها فراشة.
لقد رأى في ليلة المعراج من آيات ربه العظام ما لا يحيط به الوصف، وهو جبرائيل على صورته، وسائر عجائب الملكوت. وهذا كقوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا [الإسراء ١٧/ ١] دون تحديد المرئي للإشارة إلى تعظيمه وتفخيمه وأهميته. روى البخاري وغيره عن ابن مسعود أنه قال في الآية: رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سدّ الأفق «١». وعن ابن زيد: أنه رأى جبريل بالصورة التي هو بها.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لله تعالى أن يقسم بما شاء، على ما شاء، في أي وقت يشاء، وقد أقسم بالنجوم (على أن اللام للجنس) أو بالثريا (على أن اللام لتعريف العهد) والعرب تسمي الثّريا نجما، وإن كانت في العدد نجوما. وأقسم به وقت هويّه وغروبه لأنه الوقت الذي يستفاد منه لمعرفة الجهات، أما إذا كان في وسط السماء، فيكون بعيدا عن الأرض، لا يهتدي به الساري، فإذا مال إلى الغروب تبين جانب المغرب من المشرق، والجنوب من الشمال.
٢- المقسم عليه الشهادة للنبي ﷺ بأنه راشد تابع للحق ليس بضال، والضال: الذي يسير على غير هدى بغير علم، والغاوي: هو العالم بالحق العادل عنه قصدا إلى غيره، والضلال في مقابلة الهدى، والغي في مقابلة الرشد. وبه نزّه
٣- القرآن الكريم ليس كلاما للرسول ﷺ وإنما هو وحي صادر من الله عز وجل.
٤- قد يحتج بقوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى من لا يجوّز لرسول الله ﷺ الاجتهاد في الحوادث، وهذا خطأ، لأن المراد بالآية إثبات كون القرآن وحيا من عند الله، والقرآن ذاته أمره بالاجتهاد، وقد اجتهد ﷺ في الحروب فيما لم يحرمه الله، وأذن لبعض المنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك، فعاتبه ربه بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة ٩/ ٤٣].
٥- كان الوحي من الله تعالى على قلب نبيه ﷺ بوساطة جبريل، لقوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى وهو جبريل في قول سائر المفسرين، سوى الحسن، فإنه قال: هو الله عز وجل.
وقد وصف الله جبريل بأنه ذو قوة فائقة علما وعملا وحصافة في العقل ومتانة في الرأي.
٦- رأى النبي ﷺ جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية مرتين: مرة بدأت في أفق السماء، حينما استوى واستقام كما خلقه الله تعالى بالأفق الشرقي العلوي، فسد المشرق لعظمته.
ثم دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى، من الأرض، فنزل بالوحي على النبي ﷺ بالوحي. وهذه هي المرة الأولى للرؤية، والنبي على الأرض. وكان جبريل قريبا من النبي ﷺ بمقدار مسافة قوسين عربيتين أو أقل من ذلك.
٧- لقد أوحى الله إلى محمد ﷺ عبده ورسوله ما أوحى، ولم يبين الموحى به تفخيما لشأن الوحي، أو أوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم،
والوحي: إلقاء الشيء بسرعة.
٨- لم يكذب قلب محمد ﷺ ليلة المعراج ما رآه من جبريل على صورته الحقيقية وآيات الله الإلهية العجيبة، وهي رؤية حقيقية بالبصر، وقيل: إنه رأى ما رآه بقلبه.
٩- أنكر الله على كفار قريش ما أخبر به النبي ﷺ ليلة المعراج، فقال:
كيف تجادلونه وتوردون شكوكم عليه، مع أنه رأى ما رأى عين اليقين؟! ١٠- لقد رأى النبي ﷺ جبريل عليه السلام مرة أخرى عند سدرة المنتهى (وهي شجرة النّبق، وهي في السماء السادسة، أو في السماء السابعة، التي لا يحيط بها وصف) عند جنة المأوى التي تأوي إليها أرواح الملائكة والشهداء والمتقين، وينتهي إليها علم الأنبياء، ويعزب علمهم عما وراءها، كما قال ابن عباس.
قال ابن مسعود فيما ذكره المهدوي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت جبريل بالأفق الأعلى، له ست مائة جناح، يتناثر من ريشه الدر والياقوت».
والذي يغشى السدرة مبهم للتفخيم والتعظيم، مثل أنوار الله تعالى، والملائكة، والخلائق الدالة على عظمة الله تعالى.
١١- لم يعدل بصر النبي ﷺ يمينا ولا شمالا عما رأى بعينه يقينا، ولا تجاوز الحد الذي رأى.
١٢- لقد رأى النبي ﷺ من آيات ربه آيات هن أكبر الآيات، قال الرازي معقبا على قول من قال: إنه رأى جبريل عليه السلام في صورته: الظاهر أن هذه الآيات غير تلك.
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ١٩ الى ٢٦]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦)
الاعراب:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى اللَّاتَ وَالْعُزَّى: المفعول الأول، والمفعول الثاني: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى.
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ضِيزى: أصلها ضوزى بوزى فعلى فقلب إلى (فعلى) وإنما كان أصلها (فعلى) لأن (فعلى) ليست من أبنية الصفات، وفعلى من أبنيتها، نحو حبلى، ونظير قِسْمَةٌ ضِيزى: «مشية حيكى» فقلبت الضمة كسرة لتصح الياء.
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ.. كَمْ: خبرية، في موضع رفع بالابتداء، ولا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ: خبره، وجمع ضمير كَمْ عملا بالمعنى، لأن المراد بها الجمع.
وقوله: لِمَنْ يَشاءُ أي يشاء شفاعته، فحذف المضاف الذي هو المصدر، فصار: لمن يشاؤه، ثم حذف الهاء العائدة إلى (من) فصار يشاء.
البلاغة:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى استفهام توبيخي مع احتقار عقولهم.
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى مراعاة الفواصل وتوافق رؤوس الآيات الذي له وقع على السمع، ويسمى بالسجع.
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى بينهما طباق.
اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ أصنام العرب التي كانوا يعبدونها، فاللات كانت لثقيف بالطائف أو لقريش بنخلة، سمي به، لأنه صورة رجل كان يلتّ السويق بالسمن ويطعم الحاج. والعزّى كانت لغطفان، وهي شجرة ببطن نخلة، بعث النبي ﷺ عام الفتح خالد بن الوليد ليقطعها، فجعل يضربها بفأسه ويقول:
يا عز، كفرانك لا سبحانك | إني رأيت الله قد أهانك |
الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان لتأكيد الذم، والأخرى: المتأخرة الوضيعة القدر، من التأخر في الرتبة، كما في قوله تعالى: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ [الأعراف ٧/ ٣٨] أي قال أدنياؤهم أو وضعاؤهم لأشرافهم.
قِسْمَةٌ ضِيزى قسمة جائرة، من ضاز يضيز ضيزا، أي جار وظلم جورا. إِنْ هِيَ الأصنام المذكورة. سَمَّيْتُمُوها سميتم بها، أي إن إطلاق اسم الآلهة عليها مجرد تسميات لا مضمون لها، فليس فيها شيء من معنى الألوهية. ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ما أنزل الله بعبادتها من حجة وبرهان. إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما يتبعون في عبادتها إلا مجرد الظن غير القائم على الدليل، وإلا توهم أن ما هم عليه حق، فالمراد بالظن هنا التوهم. وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ما تشتهيه أنفسهم مما زين لهم الشيطان أنها تشفع لهم عند الله تعالى. وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى البرهان القاطع وهو الرسول والكتاب، فتركوه.
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أَمْ منقطعة، والهمزة فيها للإنكار، والمعنى بل ألكل إنسان منهم ما تمنى من أن الأصنام تشفع لهم؟ أي ليس له كل ما يتمناه، والمراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة المزعومة. وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ أي وكثير من الملائكة. لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً لا تنفع شفاعتهم شيئا. إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم في الشفاعة. لِمَنْ يَشاءُ من عباده. وَيَرْضى عنه ويراه أهلا كذلك، لقوله تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء ٢١/ ٢٨] وقوله:
مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ؟ [البقرة ٢/ ٢٥٥].
المناسبة:
بعد أن قرر الله تعالى الرسالة وصدق النبوة، ذكر ما ينبغي أن يبتدئ به الرسول وهو التوحيد، ومنع الإشراك، وبيان عدم جدوى الأصنام في الشفاعة عند الله تعالى بأسلوب فيه إنكار وتهكم وتوبيخ وإهدار لحرمة العقل الذي يدين
التفسير والبيان:
يقرع الله تعالى المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد والأوثان، واتخاذهم لها البيوت، مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، فيقول:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أنظرتم إلى اللات: صنم ثقيف، والعزى: شجرة غطفان بين مكة والطائف، تعظمها قريش، ومناة:
صخرة لهذيل وخزاعة، وللأوس والخزرج بين مكة والمدينة، ثالثة الصنمين والمتأخرة الوضيعة القدر، قال ذلك عنها للتحقير والذم؟ إنها أحجار صماء أو أشجار تستنبت، فكيف تشركونها بالله، وهي مصنوعة لكم أو مخلوقة غير خالقة؟! والله عز وجل الذي تعرفون عظمته في الكون، أليس هو الأجدر والأحق بالعبادة؟! وهذا تقريع شديد، وذم وتوبيخ، لوضع الشيء في غير محله، فكانت ثقيف ومن تابعها يفتخرون باللات التي كانت صخرة بيضاء منقوش عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائفة، وهي في الأصل صورة رجل كان يلت السويق للحجيج في الجاهلية، فلما مات عكفوا على قبره، فعبدوه.
وكانت العزّى شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف، لغطفان، وكانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزّى ولا عزّى لكم،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم».
وكانت مناة بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها، ويهلون منها للحج إلى الكعبة، وتذبح عندها القرابين. وكانت بجزيرة العرب وغيرها طواغيت أخر، تعظمها العرب كتعظيم
وبعد بيان سخف عقولهم بعبادة الأصنام، وبخهم الله تعالى على شرك من نوع آخر وهو جعل الملائكة بنات الله، فقال:
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي أتجعلون لله ولدا، ثم تجعلون ولده أنثى، وتختارون لأنفسكم الذكور؟ فلو اقتسمتم فيما بينكم هذه القسمة، لكانت قسمة خارجة عن الصواب، جائرة عن الحق. فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها؟! ونظير الآية:
أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟ [الطور ٥٢/ ٣٩].
ثم أنكر الله تعالى عليهم ما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر بعبادة الأصنام، وتسميتها آلهة، فقال:
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي ما تسمية هذه الأصنام آلهة، مع أنها لا تبصر ولا تسمع، ولا تعقل ولا تفهم، ولا تضر ولا تنفع إلا مجرد أسماء سميتموها آلهة من تلقاء أنفسكم، وليس لها مسميات حقيقية، اتخذتم ذلك أنتم وآباؤكم، قلّد الآخر فيها الأول، وتبع في ذلك الأبناء الآباء، ولم ينزل الله بها من حجة ولا برهان تحتجون به على أنها آلهة، كما قال تعالى في آية أخرى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ [يوسف ١٢/ ٤٠].
ثم بيّن الله تعالى منشأ عبادتها، فقال:
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ، وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أي ما يتبعون في تسمية الأصنام آلهة إلا مجرد وهم أو ظن لا يغني من الحق شيئا، ولا يتبعون إلا ما تهواه نفوسهم وتميل إليه وتشتهيه، من غير التفات
ثم أوضح الله تعالى أن القضية ليست بالتمنيات والأماني، وأن هذه الأصنام لا تفيدهم في شفاعة عند الله ولا في غيرها، فقال:
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى، فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي بل أيمكن «١» أن يكون للإنسان ما يتمنى؟ ليس كل من تمنى خيرا حصل له، وليس لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم وتشفع لهم، فسلطان الدنيا والآخرة وملكهما والتصرف فيهما لله عز وجل، وليس للأصنام معه أمر في الدنيا ولا في الآخرة «٢» : لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ [النساء ٤/ ١٢٣].
وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى، فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته».
ثم بيّن الله طريق قبول الشفاعة، فقال:
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى أي وكثير من الملائكة الكرام في السموات، مع كثرة عبادتها وكرامتها على الله لا تشفع لأحد إلا لمن أذن الله أن يشفع له، فكيف بهذه الجمادات الفاقدة العقل والفهم؟! أي إن الملائكة لا تشفع إلا بعد الإذن لها بالشفاعة، وإلا لمن يشاء الله أن يشفعوا له، لكونه من أهل التوحيد، وليس للمشركين في ذلك حظ. قال
(٢) جملة فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى مسوقة لتقرير جهلهم واتباعهم الظن.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- حاجّ الله المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل، فإن تلك الأصنام التي يعبدونها كاللات والعزى ومناة لا تسمع ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، فكيف تجوز عبادتها؟ علما بأن العبادة في رأي المشركين للمنفعة، وهذه عديمة النفع، فهل رأيتم هذه الأصنام حق الرؤية، فإن رأيتموها علمتم أنها لا تصلح شركاء؟ وقد عرفتم جلال الله وعظمته، فهو الأحق بالعبادة.
٢- قرّع الله المشركين ووبخهم أيضا ورد عليهم قولهم: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله، وبين لهم أنه لا يعقل جعل البنات الإناث لله، ويختارون هم الذكور، فهذه القسمة قسمة جائرة عن العدل، خارجة عن الصواب، مائلة عن الحق.
٣- ما هذه الأوثان إلا أسماء وضعتموها ونحتموها وسميتموها آلهة، وقد قلدتم آباءكم في ذلك، وما أنزل الله بها من حجة ولا برهان، وما تتبعون في ذلك إلا الظن أو الوهم وأهواء النفس وما تميل إليه، بالرغم من أنه جاءكم البيان الشافي من جهة الرسول أنها ليست بآلهة، فهم اختاروا العمل بالظن مع قدرتهم على العمل باليقين الذي نزل به الوحي.
٥- وبّخ الله تعالى من عبد الملائكة والأصنام، وزعم أن ذلك يقرّبه إلى الله تعالى، فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له.
توبيخ المشركين لتسميتهم الملائكة بنات الله
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠)
الإعراب:
هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أَعْلَمُ: إما على أصلها في التفضيل في العلم، أي هو أعلم من كل أحد بهذين الصنفين، وإما أنها بمعنى (عالم). ومثله: وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى فيها الوجهان.
البلاغة:
بين ضَلَّ واهْتَدى طباق.
لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ يسمون كل واحد منهم. تَسْمِيَةَ الْأُنْثى حيث قالوا: هم بنات الله.
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ بهذا القول من دليل يقيني. إِنْ يَتَّبِعُونَ ما يتبعون فيه. إِلَّا الظَّنَّ مجرد التوهم. وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي إن الظن لا يفيد في مجال الحق:
الذي هو حقيقة الشيء، فإن ألحق لا يدرك إلا بالعلم، أي اليقين، والظن لا اعتبار له في المعارف الحقيقية أو اليقينيات وإنما العبرة به في العمليات والوسائل المؤدية إليها.
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا أعرض عمن تولى عن القرآن وعن تذكيرنا وانهمك في الدنيا. ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي طلب الدنيا وأمرها نهاية علمهم، فلا يتجاوزه علمهم لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة، والجملة اعتراضية مقررة لقصر همهم على الدنيا.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ.. تعليل للأمر بالإعراض، أي إنما يعلم الله من يجيب ممن لا يجيب، فلا تتعب نفسك في دعوتهم، إذ ما عليك إلا البلاغ، وقد بلغت، والله عالم بالفريقين فيجازيهما.
المناسبة:
بعد أن وبخ الحق سبحانه المشركين على عبادتهم الأصنام والأوثان، وأبان عدم جدوى تلك العبادة في مجال الشفاعة وغيرها، وبخهم مرة أخرى وقرّعهم على قولهم: الملائكة بنات الله، وأوضح أنها دعوى لا تستند إلى دليل مقبول، وأن عقولهم قاصرة، وأنهم لا يهتمون إلا بالدنيا وحطامها، وأن الله سيجازيهم على مزاعمهم ومعتقداتهم الفاسدة.
التفسير والبيان:
أنكر الله تعالى على المشركين تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى، وقولهم: إنهم بنات الله، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أي إن هؤلاء المشركين الكافرين الذين لا يصدقون بوجود الآخرة والحساب والعقاب يزعمون أن الملائكة إناث، وأنهم بنات الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
والمراد أنهم يسمون كل واحد من الملائكة أنثى، لأنهم إذا جعلوا الكل بنات، فقد
وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ أي وليس لهم بذلك علم صحيح بصدق ما قالوه، ولا معرفة ولا برهان، فإنهم لم يعرفوهم ولا شاهدوهم، ولا أخبرهم به مخبر مقبول الخبر، بل قالوا ذلك جهلا وضلالة وجرأة، وكذبا وزورا وافتراء وكفرا شنيعا.
إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي ما يتبعون في زعمهم إلا التوهم أو الظن الذي لا أساس له من الصحة، وإن مثل هذا الظن لا يجدي شيئا، ولا يقوم أبدا مقام الحق.
جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث».
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا أي فأعرض أيها الرسول عمن أعرض عن القرآن أو تذكير الله، ولم يكن همّه إلا الدنيا، وترك النظر إلى الآخرة، أي فاترك مجادلتهم والاهتمام بشأنهم، فقد بلّغت ما أمرت به، وليس عليك إلا البلاغ. وقوله تعالى: وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا يشير إلى إنكارهم الحشر، كما قالوا: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام ٦/ ٢٩] وقال تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا [التوبة ٩/ ٣٨].
ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي إن أمر الدنيا وطلبها هو منتهى ما وصلوا إليه من العلم، فلا يلتفتون إلى ما سواه من أمر الدين.
روى الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له»
وفي الدعاء المأثور: «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا».
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى أي أعرض عن هؤلاء، لأن الله هو الخالق لجميع المخلوقات، وهو عالم بمن ضل عن سبيله، سبيل الحق والهدى، وعالم بمن اهتدى إلى الدين الحق، وسيجازي كل فريق أو أحد على عمله.
وفيه تسلية للنبي ﷺ كيلا يتعب نفسه في تحصيل ما ليس يرجى حصوله، وهو إيمان أهل العناد الذين قنعوا بالظن بدل العلم، ولازموا الباطل دون الحق، إذ كان من خلقه ﷺ الحرص على إيمانهم. وفي ذلك أيضا وعيد للكفار، ووعد للمؤمنين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات ما يأتي:
١- وصف الله الكفار الذين قالوا: الملائكة بنات الله، والأصنام بنات الله بأنهم كافرون بالبعث والحشر أو بالآخرة على الوجه الحق الذي جاءت به الرسل.
٢- وبخ الله المشركين الذين يعتقدون أن الملائكة إناث وأنهم بنات الله سبحانه وتعالى.
٣- ليس لهم بما وصفوا به الملائكة هذا الوصف علم صحيح، فإنهم لم يشاهدوا خلق الله الملائكة، ولم يسمعوا ما قالوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يروه في كتاب، وإنما يتبعون التوهم في أن الملائكة إناث، وإن التوهم أو الظن الذي لا يقوم على أساس علمي صحيح لا يفيد شيئا في مجال التعرف على الحقيقة.
٤- إذا كان هذا شأن هؤلاء الكفار المعاندين الذين لا همّ لهم إلا الدنيا فاترك أيها الرسول مجادلتهم، فقد بلغت الرسالة، وأتيت بما كان عليك. قال
وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثم لما لم ينفع قال له ربه: فأعرض عنهم، ولا تقابلهم بالدليل والبرهان، فإنهم لا يتبعون إلا الظن، ولا يتبعون الحق، وقابلهم بالإعراض عن المناظرة بشرط جواز المقابلة، فكيف يكون منسوخا «١» ؟! ٥- شأن الكفار غالبا الاهتمام بالدنيا فقط، وجهل أمر الدين والآخرة، فهم قوم ماديون، كما نشاهد اليوم، لذا أخبر الله تعالى عنهم بأن طلب الدنيا هو قدر عقولهم، ونهاية علمهم، لأنهم آثروا الدنيا على الآخرة: إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الدهر ٧٦/ ٢٧].
٦- ختمت الآيات بالوعيد والتهديد، فالله تعالى أعلم بالضالين، وأعلم بالمهتدين، فلا داعي للمعاناة، وسيجازي كلّا بأعمالهم خيرها وشرها.
جزاء المسيئين والمحسنين وأوصاف المحسنين
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ.. لِيَجْزِيَ.. لام لِيَجْزِيَ إما لام (كي) والتقدير: واستقر لله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، أو تكون لام القسم.
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ الَّذِينَ: في موضع نصب على البدل من الَّذِينَ في قوله تعالى: وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى.
إِلَّا اللَّمَمَ اللَّمَمَ: استثناء منقطع: وهو صغائر الذنوب.
البلاغة:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى بينهما ما يسمى بالمقابلة، وتكرار لفظ لِيَجْزِيَ من قبيل الإطناب.
المفردات اللغوية:
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي هو الخالق والمالك والمتصرف. بِما عَمِلُوا بعقاب ما عملوا من السوء كالشرك وغيره. وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الذين أحسنوا بالتوحيد والطاعة يجزيهم بالمثوبة الحسنى وهي الجنة.
كَبائِرَ الْإِثْمِ ما يكبر عقابه من الذنوب، وهو كل ذنب توعد الله عليه صاحبه بالعذاب الشديد كالشرك وعقوق الوالدين. وَالْفَواحِشَ ما فحش من الكبائر خصوصا، وهو الذنب الذي عاقب الله عليه بالحد كالقتل العمد والزنى والقذف وشرب الخمر وسائر المسكرات. إِلَّا اللَّمَمَ استثناء منقطع، أي لكن اللمم إذا اجتنب الكبائر تغفر، مثل النظرة إلى المحرّمات والقبلة واللمسة. إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ كثير الغفران للذنوب، قابل التوبة منها، فله أن يغفر ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها، قال البيضاوي: ولعله عقب به وعيد المسيئين ووعد المحسنين، لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته، ولا يتوهم وجوب العقاب على الله تعالى. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ عالم بأحوالكم. إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ خلق أباكم آدم من التراب. وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي حينما صوّركم في الأرحام، والأجنّة: جمع جنين: وهو الولد ما دام في بطن أمه، سمي بذلك لاجتنانه أي استتاره.
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ لا تثنوا عليها بزكاء العمل وزيادة الخير، ولا تمدحوها على سبيل الإعجاب، أما على سبيل الاعتراف بالنعمة فحسن. هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أي عالم يعلم التقي وغيره قبل الخلق.
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ.. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ..:
أخرج الواحدي والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم: عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبي صغير: هو صدّيق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
«كذبت اليهود، ما من نسمة يخلقه الله في بطن أمه إلا ويعلم أنه شقي أو سعيد»، فأنزل الله عند ذلك هذه الآية: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أنه العليم بما في السموات والأرض، وأنه يجازي عباده بعدله، فيثيب المحسن بالجنة، ويعاقب المسيء بالنار، ذكر أنه قادر على ذلك، فهو مالك العالم العلوي والسفلي يتصرف فيهما بما شاء، وهو يجازي على وفق علمه المحيط بكل شيء، ثم ذكر أوصاف المحسنين، وأخبر أنه جواد كريم واسع المغفرة لمن يشاء من عباده.
التفسير والبيان:
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، لِيَجْزِيَ «١» الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى أي إن الله تعالى مالك السموات والأرض، وأنه الغني عما سواه، الحاكم في خلقه بالعدل، وقد خلق الخلق بالحق، وجعل عاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي كلّا بعمله، بحسب علمه المحيط بكل شيء، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فإن كان العمل خيرا، كان الجزاء خيرا، وإن كان شرا كان الجزاء شرا. فتكون لام لِيَجْزِيَ لام العاقبة.
ثم ذكر الله تعالى صفات المتقين المحسنين، فقال:
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ أي إن المحسنين هم الذين يبتعدون عن كبائر الذنوب كالشرك والقتل وأكل مال اليتيم، وعن الفواحش كالزنى، والكبائر: كل ذنب توعد الله عليه بالنار، والفواحش:
ما تناهي أو تزايد قبحه عقلا وشرعا من الكبائر، مما كان فيه الحد. ولكن لا يقع منهم إلا اللمم أي صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال كالنظرة الحرام والقبلة.
أخرج أحمد والشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تمنّى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه».
فإن اقترفوا اللمم تابوا ولم يعودوا إلى مثله.
ونحو الآية قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً [النساء ٤/ ٣١].
وقد ورد في الصحيحين عن علي رضي الله عنه تحديد الكبائر بسبع: «اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله تعالى، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات»
وقد أوصلها الحافظ الذهبي في كتابه (الكبائر) إلى سبعين. وروى الطبراني عن ابن عباس أن رجلا قال له: الكبائر سبع،
ثم فتح الله تعالى باب الأمل ومنع اليأس بقوله:
إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ أي إن رحمة الله وسعت كل شيء، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها، كما قال تعالى: قُلْ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر ٣٩/ ٥٣].
ثم أكد الله تعالى علمه بالأشياء كلها، فقال:
هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي إن الله بصير بكم، عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستصدر منكم، حين ابتدأ خلقكم بخلق أبيكم آدم من التراب، واستخرج ذريته من صلبه، وحين صوركم أجنة في أرحام أمهاتكم، وتعهدكم بالنمو والتكوين في أطوار مختلفة. والجنين: هو الولد ما دام في البطن، وفائدة قوله: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ التنبيه على كمال العلم والقدرة، فإن بطن الأم في غاية الظلمة، ومن علم بحال الجنين فيها لا يخفى عليه ما ظهر من حال العباد.
فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى أي لا تمدحوا أنفسكم، ولا تبرّئوها عن الآثام، ولا تثنوا عليها بإعجاب أو رياء، ولا تدّعوا الطهارة عن المعاصي، بل احمدوا الله على الطاعة، واحذروا المعصية، فالله هو العليم بمن اتقى المعاصي.
ونظير الآية قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء ٤/ ٤٩].
قال: سموها زينب».
وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، قال: مدح رجل رجلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويلك قطعت عنق صاحبك- مرارا- إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلانا، والله حسيبه، ولا أزكّي على الله أحدا، أحسبه كذا وكذا، إن كان يعلم ذلك».
وروى أحمد ومسلم وأبو داود عن همّام بن الحارث قال: جاء رجل إلى عثمان، فأثنى عليه في وجهه، فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب، ويقول: أمرنا رسول الله ﷺ إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- لله تعالى جميع ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا، وهذا دليل القدرة الإلهية، وسعة الملك الإلهي، وهذا معترض في الكلام.
٢- إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمن اهتدى، فيجازي كلّا بما يستحقه. وإذا كانت اللام للعاقبة فالمعنى: ولله ما في السموات وما في الأرض، لتكون عاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم محسن ومسيء، فللمحسن المثوبة أو العاقبة الحسنى وهي الجنة، وللمسيء السوأى وهي جهنم.
٣- إن نعت المحسنين أنهم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك، لأنه أكبر الآثام، ونحوه من الكبائر المذكورة آنفا وهي كل ما أوعد الله عليه بالنار،
لكن اللمم، وهي كما ذكر القرطبي: الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه، فإن أمرها سهل مغفور، يتوب الله فيها على من تاب وأناب. وقال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق: إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة.
وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى، أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر، وزنى اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك أو يكذّبه»
وقد أعدت الحديث بهذا اللفظ، لأنه أوضح، والمعنى: أن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحدّ في الدنيا والعقوبة في الآخرة، هو في الفرج، وغيره له حظّ من الإثم.
٤- إن الله عز وجل واسع المغفرة من الصغائر والكبائر لمن تاب من ذنبه واستغفر، أما من لم تصل إليهم المغفرة فهم الذين أصروا على الإساءة، وماتوا من غير توبة، لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨] وقوله سبحانه: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ [التوبة ٩/ ٨٤].
٥- أكد الله تعالى لعباده علمه بجميع أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم، فذكر أنه أعلم بهم من أنفسهم وقت الإفشاء حين خلق أباهم آدم من الطين، وتسلسلوا في بطون الأمهات، معتمدين في تكوين نشأتهم على الغذاء الذي يعتمد على التراب والماء، فكل أحد أصله من التراب، فإنه يصير غذاء، ثم يصير نطفة. وفي هذا تقرير لكونه عالما بمن ضل.
٦- نهى الله تعالى الإنسان عن تزكية نفسه ومدحها والثناء عليها، فإنه أبعد
توبيخ بعض كبار المشركين الأغنياء لإعراضه عن اتباع الحق وتذكيره بما في صحف إبراهيم وموسى
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٣٣ الى ٥٤]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧)
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤)
الإعراب:
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى حذف مفعولي يَرى وتقديره: فهو يراه حاضرا.
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ.. أَمْ هنا: إما منقطعة بمعنى (بل والهمزة) أو متصلة بمعنى (أي) لأنها معادلة للهمزة في قوله تعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ.
أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ.. أَلَّا تَزِرُ في موضع جر على البدل من: (ما) في قوله تعالى:
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ.. أو في موضع رفع على تقدير مبتدأ محذوف تقديره: ذلك ألا تزر، وتقديره: أنه لا تزر. وكذلك قوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ.. فتكون أَنْ مخففة من الثقيلة.
سوف يراه، فحذف الهاء، كما يقال: إن زيدا ضربت، أي ضربته.
ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى الهاء في يُجْزاهُ في موضع نصب مفعول به، والْجَزاءَ الْأَوْفى منصوب على المصدر.
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أراد: أنه إلى ربك، وهو معطوف على أَلَّا تَزِرُ وكل ما بعده من قوله: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى إلى قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [الآيات ٤٣- ٥٠] معطوف على أَلَّا تَزِرُ.
وَثَمُودَ فَما أَبْقى ثَمُودَ منصوب بفعل دال عليه. فَما أَبْقى تقديره: وأهلك ثمودا، فما أبقى. وإنما لم يجز نصبه ب أَبْقى لأن ما بعد النفي لا يعمل فيما قبله. قرأ عاصم وحمزة ثَمُودَ بلا تنوين، والوقوف بغير ألف، والباقون بالتنوين ويقفون بالألف.
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى الْمُؤْتَفِكَةَ مفعول به منصوب ل أَهْوى.
فَغَشَّاها ما غَشَّى أي ما غشاه إياها، فحذف مفعولي غَشَّى والأول ضمير ما والثاني ضمير الْمُؤْتَفِكَةَ.
البلاغة:
فَغَشَّاها ما غَشَّى الإبهام للتعظيم والتهويل.
بين أَضْحَكَ وَأَبْكى وبين أَماتَ وَأَحْيا وبين أَغْنى وَأَقْنى ما يسمى بالطباق.
بين أَغْنى وَأَقْنى جناس ناقص لتغير بعض الحروف.
المفردات اللغوية:
تَوَلَّى أعرض عن اتباع الحق والثبات عليه. وَأَعْطى قَلِيلًا من المال.
وَأَكْدى قطع العطاء ولم يتممه، يقال: حفر فأكدى، أي بلغ كدية أي أرض صلبة كالصخرة تمنع حافر البئر من مواصلة العمل وإتمامه. أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى يعلم أن غيره يتحمل عنه عذاب الآخرة، وهو الوليد بن المغيرة أو غيره كما سيأتي. وجملة أَعِنْدَهُ عِلْمُ.. المفعول الثاني لرأيت بمعنى: أخبرني.
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ أي بل لم يخبر. صُحُفِ مُوسى أسفار التوراة، وإنما قدم تعالى ذكر صحف موسى، لأنها أقرب وأشهر وأكثر. وَإِبْراهِيمَ أي وصحف إبراهيم: وهي ما نزل عليه من
يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي يجزي الإنسان سعيه بالجزاء الأكمل أو الأوفر. الْمُنْتَهى المرجع والمصير والنهاية بعد الموت يوم القيامة. أَضْحَكَ أي من شاء أفرحه. وَأَبْكى ومن شاء أحزنه. أَماتَ في الدنيا. وَأَحْيا للبعث. خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الصنفين. مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى من مني إذا تدفق وصب في الرحم، فقوله: تمنى أي تصبّ في الرحم. النَّشْأَةَ الْأُخْرى الخلقة الأخرى للبعث بعد الخلقة الأولى، بإعادة الأرواح في الأجساد حين البعث.
أَغْنى وَأَقْنى أعطى المال من شاء، وأفقر من شاء. رَبُّ الشِّعْرى الكوكب المضيء خلف الجوزاء، يسمى العبور، كانت طائفة من العرب تعبده في الجاهلية. وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى القدماء وهم قوم هود: وهم ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح، وعاد الأخرى:
من ولد عاد الأولى، وهم ثمود قوم صالح كما قال المبرد. وَثَمُودَ فَما أَبْقى ثمود: قوم صالح، فما أبقى أحدا منهم، وَثَمُودَ بلا صرف: اسم للقبيلة، وهو معطوف على عاداً وبالصرف:
اسم للأب. وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ أي قبل عاد وثمود أهلكناهم. إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى من عاد وثمود، لأنهم مع عدم إيمانهم بنوح عليه السلام على مدى ألف سنة إلا خمسين عاما كانوا يؤذونه ويضربونه. وَالْمُؤْتَفِكَةَ قرى قوم لوط، سميت بذلك، لأنها ائتفكت بأهلها، أي انقلبت بهم، ومنه الإفك، لأنه قلب الحق. أَهْوى أسقطها وقلبها في الأرض بعد أن رفعها إلى السماء، بأمر جبريل بذلك. فَغَشَّاها غطّاها بالحجارة وغيرها: ما غَشَّى ما غطّى، أبهم ذلك تهويلا وتعميما لما أصابهم.
سبب النزول:
سبب نزول الآيات (٣٣- ٤١) :
قال مجاهد وابن زيد فيما أخرجه الواحدي وابن جرير: نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله ﷺ على دينه، فعيّره بعض المشركين، وقال:
لم تركت دين الأشياخ وضللتهم، وزعمت أنهم في النار؟ قال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله، ورجع إلى شركه، أن يتحمل
وقال السدّي: نزلت في العاص بن وائل السهمي كان ربما يوافق النبي ﷺ في بعض الأمور.
وقال محمد بن كعب القرظيّ: نزلت في أبي جهل بن هشام، قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق، فذلك قوله تعالى: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة: أن النبي ﷺ خرج في غزوة، فجاء رجل يريد أن يحمل- أي يركب-، فلم يجد ما يخرج عليه، فلقي صديقا له، فقال:
أعطني شيئا، فقال: أعطيك بكري هذا على أن تتحمل ذنوبي، فقال له: نعم، فأنزل الله: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى الآيات.
سبب نزول الآية (٤٣) :
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى:
أخرج الواحدي عن عائشة قالت: مرّ رسول الله ﷺ بقوم يضحكون، فقال: لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا، فنزل عليه جبريل عليه السلام بقوله: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى فرجع إليهم فقال: ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل عليه السلام، فقال:
ائت هؤلاء، وقل لهم: إن الله عز وجل يقول: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله سبحانه سعة علمه وقدرته الفائقة على إيقاع الجزاء يوم القيامة بأهل الإساءة والإحسان، وبيّن جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر على سبيل التعجيب والتقريع نبأ واحد معين منهم بسوء فعله، أعرض عن الايمان
التفسير والبيان:
ذمّ الله تعالى ووبخ كل من تولى عن طاعة الله، فقال:
أَفَرَأَيْتَ «١» الَّذِي تَوَلَّى، وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى، أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى أي أعلمت وأخبرت شأن الذي تولى عن الخير، وأعرض عن اتباع الحق، وأعطى قليلا من المال، ثم أحجم عن العطاء في سبيل أن يتحمل عنه غيره وزره، أو كما قال ابن عباس: أطاع قليلا ثم قطعه، أفعند هذا الكافر الذي آثر الكفر على الإيمان علم ما غاب عنه من أمر العذاب، فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه أوزاره يوم القيامة؟ ليس الأمر كما يظن.
وهذا كقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة ٧٥/ ٣١- ٣٢] ثم ذكّره تعالى بما أجمعت عليه الشرائع من أن المسؤولية شخصية، فقال: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى، وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أي.
بل أنّه لم يخبر بما جاء في أسفار التوراة، وصحف إبراهيم الذي تمم وأكمل ما أمر به، وأدى الرسالة على الوجه الأكمل، كما جاء في آية أخرى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قالَ: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [البقرة ٢/ ١٢٤] فإنه قام بجميع الأوامر، وترك جميع النواهي، وبلّغ الرسالة على التمام والكمال، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يقتدى به في جميع أحواله وأقواله وأفعاله.
ثم أوضح الله تعالى ما تقرر في صحف موسى وإبراهيم، فقال:
١- أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تؤخذ نفس بذنب غيرها، فكل نفس ارتكبت جرما من كفر أو أي ذنب، فعليها وحدها وزرها، لا يحمله عنها أحد، وهذا مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية أو لا يؤاخذ امرؤ بذنب غيره، كما جاء في آيات أخرى منها: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى [فاطر ٣٥/ ١٨].
٢- وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى أي ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله، فلا يستحق أجرا عن عمل لم يعمله، وهذا المبدأ وهو ألا يثاب أو يكافأ امرؤ إلا بعمله يقابل المبدأ السابق، فكما لا يتحمل أحد مسئولية أو وزر غيره، كذلك ليس له من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه. والمراد من الآية بيان ثواب الأعمال الصالحة وكل عمل، فالخير مثاب عليه، والشر معاقب به. وعبر بصيغة الماضي في قوله: إِلَّا ما سَعى لزيادة الحث على العمل الصالح.
ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم. والمعتمد في المذاهب الأربعة أن ثواب القراءة يصل إلى الأموات، لأنه هبة ودعاء بالقرآن الذي تتنزل الرحمات عند تلاوته، وقد ثبت في السنة النبوية وصول الدعاء والصدقة للميت، وذلك مجمع عليه،
روى مسلم في صحيحة والبخاري في الأدب وأصحاب السنن إلا ابن
قال القرطبي: وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول، وأن المؤمن يصل إليه ثواب العمل الصالح من غيره «١».
٣- وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي إن عمله محفوظ يجده في ميزانه لا يضيع منه شيء، وسيعرض عليه وعلى أهل المحشر يوم القيامة إشادة به ولو ما للمقصرين، كما قال تعالى: وَقُلِ: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة ٩/ ١٠٥] أي فيخبركم به ويجزيكم عليه أتم الجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
٤- ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي يجزى الإنسان سعيه، ويجازى عليه جزاء كاملا غير منقوص، فيجازى بالسيئة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف.
٥- وَأَنَّ «٢» إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي أن المرجع والمصير يوم القيامة إلى الله سبحانه، لا إلى غيره، فيجازي الخلائق بأعمالهم على الصغير والكبير، وهذا ترهيب وتهديد للمسيء، وترغيب وحث للمحسن، يستدعي التأمل في عودة العباد إلى الله يوم المعاد، وتعرضهم للجزاء على أعمالهم، كما جاء في آيات أخرى مثل: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس ٣٦/ ٨٣].
وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود، إني رسول رسول الله ﷺ إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الله، إلى الجنة أو إلى النار.
(٢) أَنْ هذه: تحتمل الفتح والكسر.
٧- وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا أي وأنه تعالى خلق الموت والحياة، كما في قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك ٦٧/ ٢] فهو سبحانه قادر على الإماتة وعلى الإحياء والإعادة.
٨- وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثى، مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي والله هو الذي خلق الصنفين: الذكر والأنثى من كل إنسان أو حيوان، من مني أو ماء قليل يصب في الرحم، ويتدفق فيه، ثم ينفخ الله الروح في النطفة، فتصير بنية إنسانية، أو حيوانية، وهذا من جملة المتضادات التي ترد على النطفة، فبعضها يخلق ذكرا، وبعضها يخلق أنثى.
٩- وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى أي إعادة الأرواح إلى الأجساد عند البعث، فكما خلق الله الإنسان من البداءة، هو قادر على الإعادة، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة. فهذا إشارة إلى الحشر.
١٠- وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى أي وأنه وحده الذي أغنى من يشاء من عباده، وأفقر من يشاء منهم، حسبما يرى من الحكمة والمصلحة للخلائق، فالإغناء والإفقار أو الإعطاء من المال والمنع منه، كلاهما بيد الله تعالى وفي سلطانه وتصرفه.
١١- وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى أي وأنه تعالى رب هذا النجم الوقاد المضيء
هي ثمود قوم صالح.
١٣- وَثَمُودَ فَما أَبْقى أي وأهلك ثمودا كما أهلك عادا، ودمرهم وأخذهم بذنوبهم فما أبقى أحدا من الفريقين، كما قال تعالى: فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [الحاقة ٦٩/ ٨].
١٤- وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أي وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء الفريقين: عاد وثمود، إنهم كانوا أظلم من عاد وثمود، وأطغى منهم، وأشد تمردا وتجاوزا للحد من الذين أتوا من بعدهم، لأنهم بدؤوا بالظلم، والبادئ أظلم:
«ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها» «١»
وأما
١٥- وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى، فَغَشَّاها ما غَشَّى أي وأسقط وقلب مدائن قوم لوط، بجعل عاليها سافلها، أهواها جبريل بعد أن رفعها، ثم أمطر الله عليهم حجارة من سجيل منضود، فغطّاها ما غطّاها من الحجارة والعذاب على اختلاف أنواعه، كما قال تعالى: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً، فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [الشعراء ٢٦/ ١٧٣]. وسميت المؤتفكة، لأنها ائتفكت أي انقلبت بهم، وصار عاليها سافلها.
وهذا الأسلوب من الإبهام فيه تهويل وتفخيم للأمر الذي غشاها، وتعميم للذي أصابهم. قال قتادة: كان في مدائن لوط أربعة آلاف ألف إنسان (أي ١٦٠٠٠ ألفا) فانضرم عليهم الوادي شيئا من نار ونفط وقطران كفم الأتون.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- خصص الله سبحانه واحدا من المشركين عينه بسوء فعله للعبرة والعظة واستهجان ما فعل من معاوضة غيره في الدنيا بمال قليل، أعطى اليسير منه، ثم منع الباقي، على أن يتحمل عنه آثامه يوم القيامة.
٢- إن نقطة الضعف الأساسية عند هذا، عدا سذاجة عقله الجاهلي البدائي، هو جهله بالغيب، لذا أنكر الله تعالى عليه مبيّنا: أعنده علم ما غاب عنه من أمر العذاب؟!
الأول- المسؤولية الفردية أو ألا يسأل أحد عن ذنب غيره، وهو مبدأ:
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.
الثاني- كل إنسان وعمله، وكل امرئ وعطاؤه، ولا ثواب إلا بالعمل والنية الصالحة.
الثالث- العمل ذو أثر دائم، محفوظ في ميزان العامل، لا يضيع منه شيء، خيرا كان أو شرا.
الرابع- يجازى كل إنسان على عمله وسعيه جزاء أوفر، السيئة بمثلها، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف.
الخامس- إن مصير أو مردّ جميع الخلائق إلى الله عز وجل، فيعاقب المسيء، ويثيب المحسن.
السادس- خلق الله تعالى الضحك والبكاء، والسرور والحزن، وإن الله تعالى خصّ الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوان، وليس في سائر الحيوان من يضحك ويبكي غير الإنسان.
السابع- إن الله تعالى خلق الموت والحياة وأسبابهما.
الثامن- خلق الله سبحانه الصنفين المتضادين: الذكر والأنثى من شيء واحد هو النطفة: وهي الماء القليل.
التاسع: الله تعالى هو القادر على إعادة الأرواح إلى الأجساد للبعث، وهذا هو الحشر.
والمبادئ الخمسة الأخيرة دالة على قدرة الله عز وجل، وقد أكّدها تعالى بإيراد أمثلة أو نماذج خمسة أخرى دالة على القدرة وهي:
الأول- الله سبحانه هو رب الشّعرى: وهو الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر، وهما الشعريان: العبور التي في الجوزاء، والشّعرى الغميصاء التي في الذراع، وتزعم العرب أنهما أختا سهيل. وإنما ذكر أنه رب الشعرى، وإن كان ربا لغيره من سائر النجوم، لأن العرب كانت تعبده وهم حمير وخزاعة.
الثاني- أهلك الله تعالى قوم عاد العتاة الأشداء الجبارين بريح صرصر عاتية.
الثالث- أهلك الله عز وجل أيضا ثمود قوم صالح بالصيحة لتمردهم وبغيهم.
الرابع- أهلك الله سبحانه قوم نوح من قبل عاد وثمود، الذين كانوا أظلم وأطغى، لطول مدة نوح فيهم، حتى كان الرجل فيهم يأخذ بيد ابنه، فينطلق إلى نوح عليه السلام، فيقول: احذر هذا، فإنه كذّاب، وإن أبي قد مشى بي إلى هذا، وقال لي مثل ما قلت لك، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه.
الخامس- دمّر الله مدائن قوم لوط عليه السلام، ائتفكت بهم، أي انقلبت وصار عاليها سافلها، وألبسها ما ألبسها من الحجارة، قال الله تعالى: فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر ١٥/ ٧٤].
[سورة النجم (٥٣) : الآيات ٥٥ الى ٦٢]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩)
وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢)
الإعراب:
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ كاشِفَةٌ: إما أن الهاء فيه للمبالغة، كعلامة ونسّابة، أو تكون كاشفة بمعنى كشف، كخائنة بمعنى خيانة.
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ قرئ بإدغام الثاء في التاء لقربهما في المخرج، وأنهما مهموسان من حروف طرف اللسان، وأدغمت الثاء في التاء، لأنها أزيد صوتا، والأنقص صوتا يدغم فيما هو أزيد صوتا.
البلاغة:
تَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ بينهما طباق.
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ جناس الاشتقاق.
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ مراعاة الفواصل أو ما يسمى بالسجع.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا عطف العام على الخاص.
المفردات اللغوية:
آلاءِ نعم، جمع إلى (بالفتح والكسر) وإلي. تَتَمارى تتشكك وتمتري ومعنى الآية: بأي أنعم الله الدالة على وحدانيته وقدرته تتشكك أيها الإنسان؟ والخطاب للإنسان، فالخطاب عام، وهو ابتداء كلام، كأنه يقول: بأي النعم أيها السامع تشكّ أو تجادل؟
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ قربت القيامة أو دنت الساعة، كقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر ٥٤/ ١]. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي ليس لها نفس من غير الله قادرة على كشفها إذا وقعت إلا الله، أي لا يكشفها ويظهرها إلا هو، كقوله تعالى: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف ٧/ ١٨٧] إذ لا يطلع عليها سواه، فقوله: كاشِفَةٌ أي نفس تكشف وقت وقوعها وتبيّنه، لأنها من المغيبات. والتاء للتأنيث، لتأنيث الموصوف المحذوف، أي نفس قادرة على كشفها إذا وقعت، لكنه سبحانه لا يكشفها.
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ القرآن. تَعْجَبُونَ إنكارا وتكذيبا. وَتَضْحَكُونَ استهزاء.
وَلا تَبْكُونَ حزنا على ما فرطتم، وعند سماع وعد الله ووعيده. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ لاهون وغافلون ومعرضون عما يطلب منكم. فَاسْجُدُوا لِلَّهِ الذي خلقكم، أي إذا اعترفتم لله بالعبودية، فاخضعوا له. وَاعْبُدُوا اعبدوه دون الآلهة المزعومة كالأصنام، وأقيموا وظائف العبادة.
المناسبة:
لمّا عدّ الله تعالى نعمه على الإنسان من خلقه وإغنائه، ثم ذكر أمثلة على قدرته بإهلاك من كفر بتلك النعم، وأن الإحياء والإماتة بيد الله، وبّخ الإنسان على جحد شيء من نعم الله، فيصيبه مثل ما أصاب الشاكّين المتمارين المجادلين بالباطل. ثم ذكّره بإنذار القرآن والرسول. وحين فرغ من بيان التوحيد والرسالة، ختم السورة ببيان اقتراب الحشر: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ وحذّر من إنكار القرآن وتكذيبه، ومن التفريط بما جاء فيه، والغفلة والإعراض عن مواعظه وحكمه، ودعا إلى الانقياد التام لله عز وجل، وعبادته وحده لا شريك له بإتقان وإخلاص.
التفسير والبيان:
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى أي فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب
هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى أي هذا القرآن أو الرسول محمد ﷺ نذير محذوف محذّر من جملة النذر المتقدمة، فالقرآن منذر كالكتب السماوية السابقة، والنبي ﷺ رسول إليكم كالرسل المتقدمين قبله، فإنه أنذركم كما أنذروا أقوامهم، كما قال تعالى: قُلْ: ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف ٤٦/ ٩] وقال سبحانه:
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ [سبأ ٣٤/ ٤٦]
وفي الحديث الثابت: «أنا النذير العريان» «١»
أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس شيئا، وبادر إلى إنذار قومه، وجاءهم عريانا مسرعا.
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت ودنت الساعة الموصوفة بالقرب في قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر ٥٤/ ١] وقوله: وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الواقعة ٥٦/ ١] وقوله: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء ٢١/ ١] وقوله:
وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى ٤٢/ ١٧] وفيه تنبيه على أن قرب الساعة يزداد كل يوم، وأنها تكاد تقوم، فالآية إشارة إلى القيامة لإثبات الأصول الثلاثة على الترتيب: الأصل الأول وهو الله ووحدانيته بقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى، ثم الرسول والرسالة بقوله تعالى: هذا نَذِيرٌ ثم الحشر والقيامة بقوله: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ.
وجاء في الحديث الذي رواه أحمد عن سهل بن سعد: «مثلي ومثل الساعة كهاتين»
وفرّق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام.
وروى أحمد أيضا والشيخان عن سهل بن سعد قال: سمعت
وأشار بأصبعيه: السبابة والوسطى.
لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ أي ليس هناك على الإطلاق نفس قادرة على كشفها وإظهارها والاعلام بها إلا الله تعالى، لأنها من أخفى المغيبات، فاستعدوا لها قبل مجيئها بغتة وأنتم لا تشعرون، فهو كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان ٣١/ ٣٤] وقوله سبحانه: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف ٧/ ١٨٧].
أو: ليس لها نفس قادرة على كشفها إذا غشيت الخلق بشدائدها وأهوالها غير الله، والأولى أن يقال: ليس لها من دون الله من يؤخرها أو يقدّمها، كما ذكر القرطبي.
ثم أنكر الله على المشركين وأمثالهم ووبخهم لإنكار القرآن وتكذيبه، فقال:
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ، وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ، وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي كيف تعجبون من أن يكون القرآن صحيحا، تكذيبا منكم، وتضحكون منه استهزاء، وتسخرون من آياته، مع كونه غير محل لذاك، ولا تبكون كما يفعل الموقنون، وأنتم لاهون عنه، غافلون معرضون، أو مستكبرون عنه؟! فهذا استفهام توبيخ.
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا أي اسجدوا أيها المؤمنون شكرا على الهداية واخضعوا له، واشتغلوا بالعبادة، وأخلصوا ووحدوا، فإنه تعالى المستحق لذلك منكم.
وقد ورد أن النبي ﷺ سجد عند تلاوة هذه الآية، وسجد معه المسلمون والكفار، أخرج البخاري عن ابن عباس قال: سجد النبي ﷺ بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
وأخرج الإمام أحمد والنسائي عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه قال: قرأ رسول الله ﷺ بمكة سورة
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- يستنكر الحق سبحانه على الإنسان المكذّب في أي زمان كان تشككه ومماراته وجداله في آلاء الله ونعمه العديدة، بعد أن أبان القرآن الكريم بعضا منها كالخلق والرزق والإغناء والصحة وتسخير الكون كله لمصالح الإنسان، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة ٢/ ٢٩].
٢- إن القرآن العظيم نذير بما أنذرت به الكتب الأولى، وكذلك محمد ﷺ نذير بالحق الذي أنذر به الأنبياء قبله، فإن أطاعه الناس أفلحوا ونجوا. وهذا مطابق أيضا لما في صحف إبراهيم وموسى وغيرهما.
٣- لقد قربت الساعة ودنت القيامة: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ يعني القيامة، سماها آزفة لدنّوها من الناس، وقربها منهم، ليستعدوا لها، لأن كل ما هو آت قريب.
وليس للآزفة أو القيامة من دون الله من يؤخرها أو يقدّمها.
٤- وبّخ الله المشركين تعجبهم تكذيبا بالقرآن، وضحكهم استهزاء بآياته، وعدم بكائهم انزجارا وخوفا من الوعيد، ولهوهم وإعراضهم عن كتاب الله تعالى.
روي أن النبي ﷺ ما رئي بعد نزول هذه الآية ضاحكا إلا تبسّما، وقال أبو هريرة فيما ذكره القرطبي: لما نزلت: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ قال
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار من بكى من خشية الله، ولا يدخل الجنة مصرّ على معصية الله، ولو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيغفر لهم ويرحمهم، إنه هو الغفور الرحيم».
وقال أبو حازم: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وعنده رجل يبكي، فقال له: من هذا؟ قال: هذا فلان، فقال جبريل: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلا البكاء، فإن الله تعالى ليطفئ بالدمعة الواحدة بحورا من جهنم.
٥- أمر الله بالسجود له والخضوع لجلاله وعظمته شكرا على الهداية، وبالاشتغال بالعبادة. قال ابن مسعود، وبه أخذ أبو حنيفة والشافعي: المراد بقوله: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا سجود تلاوة القرآن. وقد تقدم أول السورة وفي تفسيرها من حديث ابن عباس أن النبي ﷺ سجد فيها وسجد معه المشركون. وقال ابن عمر: المراد سجود الفرض في الصلاة، أي إنه كان لا يراها من عزائم السجود، وبه قال مالك، قال القرطبي: والأول أصح.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القمرمكيّة، وهي خمس وخمسون آية.
تسميتها:
سميت سورة القمر، لافتتاحها بالخبر عن انشقاق القمر، معجزة لنبينا صلى الله عليه وسلم.
مناسبتها لما قبلها:
تتضح مناسبة هذه السورة لما قبلها من نواح ثلاث هي:
١- اتفاق خاتمة السورة السابقة وفاتحة هذه السورة حول إعلان قرب القيامة، فقال تعالى في سورة (النجم) : أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) وقال في هذه السورة: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ إلا أنه ذكر هاهنا دليلا على الاقتراب، وهو قوله: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.
جاء في الصحيحين عن أنس: «أن الكفار سألوا رسول الله ﷺ آية، فانشق القمر مرتين».
٢- تناسب التسمية وحسن التناسق، لما بين النجم والقمر من تقارب، كما في توالي سورة الشمس، والليل، والضحى، ومن قبلها سورة الفجر.
٣- فصلت هذه السورة أحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم بسبب تكذيب رسلهم في السورة المتقدمة في قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى، وَثَمُودَ فَما
(٥٠- ٥٣). وهذا يشابه الأعراف بعد الأنعام، والشعراء بعد الفرقان، والصافات بعد يس.
ما اشتملت عليه السورة:
موضوع هذه السورة كسائر السور المكية لتقرير أصول العقيدة الإسلامية، بدءا من إنزال القرآن بالوحي وتهديد المكذبين بآياته، وانتهاء بالجزاء الحتمي يوم القيامة ومشاهد عذاب الكفار، وأنواع ثواب المتقين وتكريمهم.
أخبرت السورة أولا بقرب وقت القيامة ودليل ذلك وهو انشقاق القمر الذي هو أحد المعجزات الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم، وموقف المشركين من تلك المعجزة ووصفها بأنها سحر مفترى، وغفلتهم عما في القرآن من الزواجر.
وتلا ذلك أمر الرسول ﷺ بالإعراض عنهم، وإنذارهم بحشرهم أذلة مسرعين كالجراد المنتشر، بعبارات تهز المشاعر، وتثير المخاوف، وتملأ النفس رعبا وفزعا من أهوال القيامة.
ثم أنذرت كفار مكة بعذاب مشابه لعذاب الأمم السابقة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون جزاء على تكذيبهم الرسل، وأفردت كل قصة عن الأخرى، وعقبتها بعبارة مخيفة تدعو للعجب وهي: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟! وقرنها بقوله: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ.
ثم وبخت مشركي قريش على غفلتهم عن هذه النذر، وحذرتهم مصرعا مماثلا لمصارع أولئك الأقوام، وهو القتل والهزيمة في الدنيا، وعذاب الآخرة الأدهى والأمرّ، الذي يصاحبه الذل والمهانة بالسحب على وجوههم في النار، فهم في ضلال وسعر.