تفسير سورة نوح

فتح البيان
تفسير سورة سورة نوح من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة نوح
هي تسع أو ثمان وعشرون آية وهي مكية عن الزبير قال نزلت بمكة

(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) وكانوا جميع أهل الأرض من الآدميين أهل عصره، ولذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعاً، وقد تقدم أن نوحاً أول رسول أرسله الله بالنهي عن عبادة غير الله، لأن عبادة غيره إنما حدثث في زمن نوح، وإلا فمن المعلوم إن قبله رسلاً آدم وشيث وإدريس.
وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن اخنوخ بن قينان بن شيث بن آدم، وكان أطول الأنبياء عمراً بل أطول الناس وهو أول من شرعت له الشرائع، وأول رسول أنذر من الشرك وقد تقدم مدة لبثة في قومه وبيان جميع عمره وبيان السن التي أرسل هو فيها في سورة العنكبوت، قيل النوح معناه بالسريانية الساكن.
(أن أنذر قومك) أي بأن أنذر على أنها مصدرية أو هي المفسرة لأن في الإرسال معنى القول، وقرأ ابن مسعود أنذر بدون أن أي فقلنا له أنذر (من قبل أن يأتيهم عذاب أليم) أي شديد الألم وهو عذاب النار على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة، وقال الكلبي هو ما نزل بهم من الطوفان.
(قال يا قوم) أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً على تقدير سؤال (إني لكم نذير) من عقاب الله ومخوف لكم
329
(مبين) أي بين الإنذار، أو مبين لما فيه نجاتكم بلغة تعرفونها أو أمري بين في نفسه بحيث صار في شدة وضوحه كأنه مظهر لما يتضمنه مناد بذلك للقريب والبعيد والفطن والغبي.
330
(أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) " أن " هي التفسيرية لنذير أو هي المصدرية كأختها السابقة أي بأن اعبدوا الله ولا تشركوا به غيره، واجتنبوا ما يوقعكم في عذابه، وأطيعوني فيما آمركم به فإني رسول إليكم من عند الله، وإنما أضاف الإِطاعة إلى نفسه لأن الطاعة قد تكون لغير الله بخلاف العبادة.
(يغفر لكم من ذنوبكم) هذا جواب الأوامر الثلاثة، " ومن " للتبعيض أي بعض ذنوبكم وهو ما سلف منها قبل طاعة الرسول وإجابة دعوته، وقيل المراد بالبعض ما لا يتعلق بحقوق العباد، فإنها لا تغفر بالإسلام، وهذا كلام ظاهري إذ الحق أنها تغفر من حيث المؤاخذة الأخروية بمعنى أنهم لا يعاقبون عليها في الآخرة، وإن كانت من حيث المؤاخذة عليها في الدنيا لا تغفر، فيطالب الكافر إذا أسلم بالحدود كحد القذف وبالمال الذي ظلم به في الكفر تأمل.
وقيل هي لبيان الجنس، وقيل زائدة قاله السدي فإن الإسلام يغفر ما قبله، وهذا على رأي الأخفش الذي لا يشترط في زيادتها تقدم نفي ولا تنكير المجرور بها، والأولى هو الوجه الأول وقيل يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها.
(ويؤخركم إلى أجل مسمى) أي يؤخر موتكم إلى الأمد الأقصى المعلوم المعين الذي قدره الله لكم لا يزيد ولا ينقص بشرط الإيمان والطاعة فوق ما قدره لكم على تقدير بقائكم على الكفر والعصيان، وقيل التأخير بمعنى البركة في أعمارهم إن آمنوا، وعدم البركة فيها إن لم يؤمنوا، قال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى آجالكم، وقال الزجاج: أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير ميتة المستأصلين بالعذاب، فالمؤخر إنما هو العذاب فلا يخالف
330
هذا قوله (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) لأن المنفي تأخيره فيه هو الأجل نفسه، فلا تخالف بين هذين المحلين، وقال الفراء: المعنى لا يميتكم غرقاً ولا حرقاً ولا قتلاً.
(إن أجل الله) أي ما قدره لكم على تقدير بقائكم على الكفر من العذاب (إذا جاء) وأنتم باقون على الكفر (لا يؤخر) بل يقع لا محالة فبادروا إلى الإيمان والطاعة، وقيل المعنى إن أجل الله وهو الموت إذا جاء لا يمكنكم الإيمان.
وقيل المعنى إذا جاء الموت لا يؤخر سواء كان بعذاب أو بغير عذاب، وإضافة الأجل إليه سبحانه لأنه هو الذي أثبته، وقد يضاف إلى القوم كقوله (إذا جاء أجلهم) لأنه مضروب لهم (لو كنتم تعلمون) شيئاًً من العلم لسارعتم إلى ما أمرتكم به ولعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.
هذا: وقد سئل الشوكاني رحمه الله تعالى عما ورد في الآيات الكريمات الدالة على أن العمر لا يزيد ولا ينقص، والأحاديث الدالة على أن صلة الرحم تزيد في العمر، فأجاب بما لفظه:
قد طال الكلام في هذا البحث، وقد وقفت قبل الآن بنحو ثمان سنين على مؤلف بسيط لبعض الحنابلة في خصوص هذه المسألة، وقد غاب عني اسم الكتاب واسم صاحبه، والأحاديث القاضية بأن صلة الرحم تزيد في العمر أحاديث صحيحة كثيرة منها ما أخرجه البخاري والترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ " من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه " (١).
وعند الترمذي " تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر "، والأثر الأجل وإنساؤه تأخيره.
_________
(١) الحاكم/٤/ ١٦٠.
331
وأخرج أحمد في مسنده والبيهقي في شعب الإيمان ورمز السيوطي في الجامع لصحته من حديث عائشة مرفوعاً [صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمرن الديار ويزدن في الأعمار] (١).
وأخرج القضاعي من حديث ابن مسعود مرفوعاً " صلة الرحم تزيد في العمر وصدقة السر تطفىء غضب الرب " (٢).
وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث عمرو بن سهيل مرفوعاً " صلة الرحم مثراة في المال محبة في الأهل منسأة في الأجل " (٣).
إذا تقرر هذا فالعمر محدود ومعلوم لا يتقدم ولا يتأخر إلا إذا وصل الرجل رحمه مد الله في عمره وزاده، وهكذا حكم سائر الأمور التي وردت الأدلة بأنها تزيد في العمر أو تنقص منه لأنها خاصة، والخاص مقدم على العام، والمقام يحتمل البسط، وفي هذا كفاية والله أعلم.
_________
(١) صحيح الجامع/٣٦٦١.
(٢) صحيح الجامع/٣٦٦٠.
(٣) صحيح الجامع/٣٦٦٢.
332
(قال رب) أي قال نوح مناجياً لربه وحاكياً له ما جرى بينه وبين قومه وهو أعلم به منه (إني دعوت قومي) إلى ما أمرتني بأن أدعوهم إليه من الإيمان (ليلاً ونهاراً) أي دعاء دائماً دائباً بلا فتور في الليل والنهار من غير تقصير.
(فلم يزدهم دعائي) شيئاًً من أحوالهم التي كانوا عليها (إلا فراراً) إعراضاً عما دعوتهم إليه، وبعداً عنه، قال مقاتل يعني تباعداً من الإيمان (كأنهم حمر مستنفرة) وإسناد الزيادة إلى الدعاء لكونه سببها كما في قوله (زادتهم إيماناً) قرأ الجمهور دعائي بفتح الياء، وقرىء بإسكانها والاستثناء مفرغ.
332
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (١٢) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤)
333
(وإني كلما) دعوتهم إلى سبب المغفرة وهو الإيمان بك والطاعة لك (لتغفر لهم) أي لأجل مغفرتك لهم، أو اللام للتعدية ويكون قد عبر عن السبب بالمسبب، والأصل دعوتهم للتوبة التي هي سبب في الغفران، فأطلق الغفران وأريد به التوبة (جعلوا أصابعهم في آذانهم) لئلا يسمعوا صوتي، وقال ابن عباس لئلا يسمعوا ما يقول.
(واستغشوا ثيابهم) أي غطوا بها وجوههم لئلا يروني، وقيل جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي، فيكون استغشاء الثياب على هذا زيادة في سد الأذان، وقيل هو كناية عن العدواة، يقال لبس فلان ثياب العدواة، وقيل استغشوا ثيابهم لئلا يعرفهم فيدعوهم، وقال ابن عباس: ليتنكروا فلا يعرفهم، وعنه قال: غطوا وجوههم لئلا يروا نوحاً ولا يسمعوا كلامه، وقد أفادت هذه الآية بالتصريح أنهم عصوا نوحاً وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهراً بتعطيل الأسماع والأبصار، وباطناً بالإصرار والاستكبار كما قال تعالى (وأصروا) أي استمروا على الكفر ولم يقلعوا عنه ولا تابوا عنه (واستكبروا) عن قبول الحق وعن امتثال ما أمرهم به (استكباراً) شديداً وذكر المصدر دليل على فرط استكبارهم قال ابن عباس: تركوا التوبة.
(ثم إني دعوتهم جهاراً) أي مظهراً لهم الدعوة مجاهراً لهم بها، وانتصاب (جهاراً) على المصدرية لأن الدعاء يكون جهاراً ويكون غير جهار،
333
فالجهار نوع من الدعاء كقولهم قعد القرفصاء، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف أي دعاء جهاراً، وأن يكون مصدراً في موضع الحال أي مجاهراً أو ذا جهار، أو جعل نفس المصدر مبالغة، ومعنى " ثم " الدلالة على تباعد الأحوال لأن الجهار أغلظ من السر، والجمع بين الأمرين أغلظ من أحدهما، قرأ الجمهور (إني) بسكون الياء وقرىء بفتحها.
334
(ثم إني أعلنت لهم) أي دعوتهم معلناً لهم بالدعاء (وأسررت لهم) الدعوة (إسراراً) كثيراً قيل المعنى أنه يدعو الرجل بعد الرجل يكلمه سراً فيما بينه وبينه، والمقصود أنه دعاهم على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة، فلم ينجح ذلك فيهم، وهكذا يفعل الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يبتدىء بالأهون ثم بالأشد فالأشد، قال مجاهد معنى أعلنت صحت، وقيل معنى أسررت أتيتهم في منازلهم فدعوتهم فيها.
(فقلت استغفروا ربكم)، أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة أعيانها وآثارها بإخلاص النية (إنه كان غفاراً) أي كثير المغفرة للمذنبين، وقيل لمعنى توبوا عن الكفر إنه كان غفاراً للتائبين.
(يرسل السماء عليكم مدراراً) أي يرسل ماء السماء عليكم، ففيه إضمار وقيل المراد بالسماء المطر، والمدرار الدرور، وهو التحلب بالمطر، وانتصابه إما على الحال من السماء ولم يؤنث لأن مفعالا لا يؤنث بل يستوي فيه المذكر والمؤنث، تقول امرأة مئناث ومذكار أو على أنه نعت لمصدر محذوف أي إرسالاً مدراراً، وقد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام، وجزم يرسل لكونه جواب الأمر، وفي هذه الآية دليل " على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر، وحصول أنواع الأرزاق ومن لازم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً " (١).
_________
(١) قال ابن كثير: أي: إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدرّ لكم الضرع، وأمدّكم
-[٣٣٥]-
بأموال وبنين، أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار، وخلّلها بالأنهار الجارية بينها. ثم قال: هذا مقام الدعوة بالترغيب، ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب فقال: (ما لكم لا ترجون لله وقاراً)؟.
334
ولهذا قال:
335
(ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات) أي بساتين الدنيا ليكون مما وعدوا به عاجلاً (ويجعل لكم أنهاراً) جارية، قال عطاء المعنى يكثر أموالكم وأولادكم وكانوا يحبونهما فحركوا بهذا على الإيمان وأعلمهم نوح عليه السلام أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا، وأعاد فعل الجعل ولم يقل وأنهاراً لتغايرهما فإن الأول مما لفعلهم فيه مدخل بخلاف الثاني.
وعن الحسن: أن رجلاً شكا إليه الجدب فقال استغفر الله وشكا إليه آخر الفقر وآخر قلة النسل وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له الربيع ابن صبيح: أتاك رجال يشكون أبواباً ويسألونك أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا هذه الآية ولله دره ما أفقهه، قال القشيري من وقعت له حاجة إلى الله لم يصل إلى مراده إلا بتقديم الاستغفار، وقال الشهاب وليس المراد بالاستغفار مجرد قول استغفر الله بل الرجوع عن الذنوب وتطهير الألسنة والقلوب.
(ما لكم لا ترجون لله وقاراً) أي أيّ عذر لكم في ترك الرجاء، والرجاء هنا الخوف أي ما لكم لا تخافون الله والوقار العظمة من التوقير، وهو التعظيم، والمعنى لا تخافون حق عظمته فتوحدونه وتطيعونه، وقيل المعنى ما لكم لا تؤملون من الله توقيراً لكم بأن تؤمنوا به فتصيروا موقرين عنده، وهذا المعنى هو ما سلكه البيضاوي أولاً، وقال أبو السعود: إنكار لأن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهم لله تعالى وقاراً على أن الرجاء بمعنى الاعتقاد انتهى.
وهذا حث على رجاء الوقار لله، والمراد الحث على الإيمان والطاعة
335
الموجبين لرجاء ثواب الله، فهو من الكناية التلويحية لأن من أراد رجاء تعظيم الله، وتوقيره إياه آمن به وعبده وعمل صالحاً ومن عمل الصالحات رجا ثواب الله وتعظيمه إياه في دار الثواب، فإن الحث على تحصيل الرجاء مسبوق بالحث على تحصيل الإيمان. فهو من باب مقدمة الواجب.
قال الكرخي: أي أنكم إذا وقرتم نوحاً وتركتم استخفافه كان ذلك لأجل الله، فما لكم لا ترجون لله وقاراً، وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح: ما لكم لا ترجون لله ثواباً ولا تخافون منه عقاباً، وقال مجاهد والضحاك: ما لكم لا تبالون لله عظمة، قال قطرب: هذه لغة حجازية وهذيل وخزاعة ومضر يقولون لم أرج لم أبل، وقال قتادة ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان، وقال ابن كيسان ما لكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيراً، وقال ابن زيد: ما لكم لا تؤدون لله طاعة، وقال الحسن: ما لكم لا تعرفون لله حقاً ولا تشكرون له نعمة، وقال ابن عباس: لا تعلمون لله عظمة، وعنه قال: لا تخافون لله عظمة ولا تخشون له عقاباً، ولا ترجون له ثواباً، وعن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم: " رأى ناساً يغتسلون عراة ليس عليهم أزر فوقف فنادى بأعلى صوته ما لكم لا ترجون لله وقاراً " أخرجه عبد الرزاق في المصنف.
336
(وقد خلقكم أطواراً) أي والحال أنه سبحانه قد خلقكم على أطوار مختلفة وأحوال منافية لما أنتم عليه بالكلية، فخلقكم تارة عناصر ثم أغذية ثم اخلاطاً ثم نطفاً ثم مضغاً ثم علقاً ثم عظاماً ولحوماً ثم أنشأكم خلقاً آخر، والطور في اللغة المرة، وقال ابن الأنباري: الطور الحال والهيئة وجمعه أطوار، وقيل أطواراً صبياناً ثم شباناً ثم شيوخاً، وقيل الأطوار اختلافهم في الأفعال والأقوال والأخلاق، والمعنى كيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة تارات وكرات، فهذا مما لا يكاد يصدر عن العاقل.
336
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (٢٠) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (٢١)
ثم لما نبههم سبحانه وتعالى أولاً على النظر في أنفسهم لأنها أقرب، نبههم ثانياً على النظر في العالم وما سوى فيه من العجائب الدالة على الصانع الحكيم فقال
337
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا) الخطاب لمن يصلح له، والمراد الاستدلال بخلق السموات على كمال قدرته وبديع صنعه، وأنه الحقيق بالعبادة، والطباق المتطابقة بعضها فوق بعض كل سماء طبقة على الأخرى كالقباب من غير مماسة، قال الحسن خلق الله سبع سموات على سبع أرضين بين كل سماء وسماء وأرض وأرض خلق وأمر.
وقد تقدم تحقيق هذا في قوله (ومن الأرض مثلهن) وانتصاب طباقاً على المصدرية تقول طابقه طباقاً ومطابقة أو حال بمعنى ذات طباق فحذف ذات وأقام طباقاً مقامه، وأجاز الفراء في غير القرآن جر طباق على النعت.
(وجعل القمر فيهن نوراً) أي منوراً لوجه الأرض وجعل القمر في السموات مع كونه في سماء الدنيا لأنه إذا كان في إحداهن فهو فيهن كذا قال ابن كيسان وأبو السعود، قال الأخفش: كما تقول أتاني بنو تميم والمراد بعضهم أو لأن كل واحدة منها شفافة لا تحجب ما وراءها فيرى الكل كأنه سماء واحدة، ومن ضرورة ذلك أن يكون ما في كل واحدة منها كأنه في الكل، وقال قطرب " فيهن " بمعنى معهن أي خلق الشمس والقمر مع خلق السموات والأرض، قال ابن عباس: وجهه في السماء إلى العرش وقفاه إلى
337
الأرض وعنه قال خلق فيهن حين خلقهن ضياء لأهل الأرض وليس من ضوئه في السماء شيء.
(وجعل الشمس) فيهن (سراجاً) أي كالمصباح لأهل الأرض ليتوصلوا بذلك إلى التصرف فيما يحتاجون إليه من المعاش، عن ابن عمرو: قال الشمس والقمر وجوههما قبل السماء وأقفيتهما قبل الأرض، وأنا أقرأ بذلك عليكم آية من كتاب الله يعني هذه الآية، وعن ابن عمر قال في الآية تضيء لأهل السموات كما تضيء لأهل الأرض، وعن شهر بن حوشب قال: اجتمع عبد الله بن العاص وكعب الأحبار، وكان بينهما بعض العتب فتعاتبا فذهب ذلك فقال ابن عمرو لكعب سلني عما شئت فلا تسألني عن شيء إلا أخبرتك بتصديق قولي من القرآن، فقال له أرأيت ضوء الشمس والقمر أهو في السموات السبع كما هو في الأرض؟ قال نعم ألم تر إلى قول الله، يعني هذه الآية، قال النسفي: وأجمعوا على أن الشمس في السماء الرابعة وضوءها أقوى من نور القمر، وقيل في الخامسة وقيل في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة (١).
_________
(١) قال ابن جرير الطبري: وقوله: (وجعل القمر فيهن نوراً) يقول: وجعل القمر في السموات السبع نوراً، وجعل الشمس فيهن سراجاً، وقال ابن كثير: المقصود أن الله سبحانه وتعالى: خلق سبع سموات طباقاً، وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً، أي: فاوت بينهما في الاستنارة، فجعل كلاً منهما أنموذجاً على حدة ليعرف الليل والنهار بمطلع الشصر ومغيبها، وقدَّر للقمر منازل وبروجاً، وفاوت نوره، فتارة يزداد حتى يتناهى، ثم يشرع في النقص حتى يستسر ليدل على مضي الشهور والأعوام، كما قال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). وقال الآلوسي: (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) منوِّراً لوجه الأرض في ظلمة الليل، وجعله فيهن مع أنه في إحداهن وهي السماء الدنيا، كما يقال: زيد في بغداد وهو في بقعة منها، والمرجح له الإيجاز والملابسة بالكلية والجزئية وكونها طباقاً شفافة.
338
(والله أنبتكم من الأرض نباتاً) يعني آدم خلقه الله من أديم الأرض،
338
والمعنى أنشأكم منها إنشاء، فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكوين من الأرض، ونباتاً إما مصدر لأنبت على حذف الزوائد ويسمى اسم مصدر، ويجوز أن يكون مصدراً لنبتم مقدراً أي أنبتكم فنبتم نباتاً فيكون منصوباً بالمطاوع المقدر. وقال الخليل والزجاج: هو مصدر محمول على المعنى لأن معنى أنبتكم جعلكم تنبتون نباتاً، وقيل المعنى والله أنبت لكم من الأرض النبات، فنباتاً على هذا مفعول به، قال ابن بحر: أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر وبالطول بعد القصر.
339
(ثم يعيدكم) في الأرض بعد الموت مقبورين (فيها ويخرجكم) منها بالبعث يوم القيامة (إخراجاً) حقاً لا محالة.
(والله جعل لكم الأرض بساطاً) أي فرشها وبسطها لكم تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم، ولم يجعلها مسنمة
(لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً) أي طرقاً واسعة، وقال ابن عباس طرقاً مختلفة، والفجاج جمع فج وهو الطريق الواسع، كذا قال الفراء وغيره، وقيل هو المسلك بين الجبلين، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الأنبياء وفي سورة الحج مستوفى، وفي الأنبياء تقديم الفجاج فقال فجاجاً سبلاً لتناسب الفواصل هنا.
(قال نوح) بعد يأسه من إيمانهم (رب إنهم عصوني) أي كلهم استمروا على عصياني ولم يجيبوا دعوتي، شكاهم إلى الله عز وجل وأخبره بأنهم عصوه ولم يتبعوه وهو أعلم بذلك (واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً) أي أتبع الأصاغر رؤساءهم وأهل الثروة منهم الذين لم تزدهم كثرة المال والولد إلا ضلالاً وطغياناً وكفراً في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، واستمروا على اتباعهم لا أنهم أحدثوا الاتباع، قرىء ولده بفتح الواو واللام، وبضم الواو وسكون اللام، هما سبعيتان وبفتح الأول وسكون الثاني، وهي لغة في الولد، ويجوز أن يكون جمعاً وقد تقدم تحقيقه.
339
وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (٢٤) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (٢٥) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (٢٨)
340
(ومكروا) أي الرؤساء (مكراً كباراً) قرأ الجمهور بالتشديد أي كبيراً عظيماً جداً، يقال كبير وكبار وكبار مثل عجيب وعجاب وعجاب، وحميل وحمال وحمال، قال المبرد: كباراً بالتشديد للمبالغة ومثل كبار قراء لكثير القراءة، وقرىء بالضم والتخفيف وهو بناء مبالغة أيضاًً دون الأول، وقرىء بكسر الكاف وتخفيف الباء، قال أبو بكر: هو جمع كبير كأنه جعل مكراً مكان ذنوب أو أفاعيل فلذلك وصفه بالجمع، وقال عيسى بن عمر هي لغة يمانية، قيل جمع الضمير حملاً على معنى من بعد حمله على لفظها في قوله (من لم يزده ماله وولده) قاله السمين.
واختلف في مكرهم هذا ما هو فقيل هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح وأذاه وصد الناس عن الإيمان به والميل إليه، والاستماع منه، وقيل هو تغريرهم على الناس بما أوتوا من المال والولد حتى قلل الضعفة لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم، وقال الكلبي: هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد، وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم (لا تذرن آلهتكم) وقيل مكرهم كفرهم وقيل: افتروا على الله الكذب وكذبوا رسله.
(وقالوا لا تذرن آلهتكم) أي لا تتركوا عبادة آلهتكم وهي الأصنام
340
والصور التي كانت لهم ثم عبدتها العرب من بعدهم، وبهذا قال الجمهور (ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) أي لا تتركوا عبادة هذه الأوثان.
قال محمد بن كعب: هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح، فنشأ بعدهم قوم يقتدون بهم في العبادة. فقال لهم إبليس لو صورتم صورهم كان أنشط لكم وأشوق إلى العبادة ففعلوا، ثم نشأ قوم من بعدهم فقال لهم إبليس إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فاعبدوهم، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت، وسميت هذه الصور بهذه الأسماء لأنهم صوروها على صور أولئك القوم.
وقال عروة بن الزبير وغيره إن هذه كانت أسماء أولاد آدم وكان ود أكبرهم، وكانوا عباداً فمات رجل منهم فحزنوا عليه، فقال الشيطان أنا أصور لكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا افعل فصوره في المسجد من صفر ورصاص، ثم مات آخر فصوره حتى ماتوا كلهم وصورهم، فلما تقدم الزمان تركت الناس عبادة الله فقال لهم الشيطان ما لكم لا تعبدون شيئاًً قالوا وما نعبد، قال آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترون أنها في مصلاكم فعبدوها من دون الله حتى بعث الله نوحاً عليه السلام فقالوا (لا تذرن آلهتكم) الآية.
قال الماوردي: فأما ود فهو أول صنم معبود سمي وداً لودهم له وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل، في قول ابن عباس وعطاء ومقاتل، وفيه يقول شاعرهم:
حياك ود فإنا لا يحل لنا لهو النساء وإن الدين قد غربا
وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر، وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجرف من سبأ في قول قتادة، وقال المهدوي: لمراد ثم لغطفان، وأما يعوق فكان لهمدان في قول قتادة وعكرمة وعطاء، وقال الثعلبي: كان لكهلان بن سبأ ثم توارثوه حتى صار في همدان وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني.
341
يريش الله في الدنيا ويبري ولا يبري يعوق ولا يريش
وأما نسر فكان بذي الكلاع من حمير في قول قتادة ومقاتل، قال ابن عباس هذه الأصنام كانت تعبد في زمن نوح، قال الواقدي كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة النسر الطائر.
قال البقاعي: ولا يعارض هذا أنهم صور لناس صالحين لأن تصويرهم لهم يمكن أن يكون منتزعاً من معانيهم، فكان ود كاملاً في الرجولية، وكان سواع امرأة كاملة في العبادة، وكان يغوث شجاعاً وكان يعوق سابقاً قوياً وكان نسر عظيماً طويل العمر، ومثله في القرطبي.
وأخرج البخاري وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس قال: " صارت الأوثان التي كانت تعبد في قوم نوح في العرب. أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن أنصبوا إلى مجلسهم الذي كانوا يجلسون فيه أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى هلك أولئك ونسخ العلم فعبدت ".
وفي الصحيحين من حديث عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة " ذكرتا لرسول الله ﷺ كنيسة رأيتاها بأرض الحبشة تسمى مارية فيها تصاوير فقال رسول الله ﷺ " إن أولئك كان إذا مات الرجل الصالح منهم بنوا على قبره مسجداً ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شر الخلق عند الله يوم القيامة " قرأ الجمهور وداً بفتح الواو، وقرىء بضمها، قال الليث: ود بضم الواو صنم لقريش، وبفتحها صنم كان لقوم نوح وبه سمي عمرو بن ود قال في الصحاح: والود بالفتح الوتد في لغة أهل نجد كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال، وقرأ الجمهور يغوث ويعوق بغير تنوين، فإن كانا عربيين فالمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل، وإن كانا أعجميين
342
فللعجمة والعلمية، وقرىء يغوثاً ويعوقاً بالنصب مصروفين لأمرين (أحدهما) أنه صرفهما للتناسب إذ قبلهما اسمان منصرفان وبعدهما اسم منصرف كما صرف سلاسل (والثاني) أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقاً، وهي لغة حكاها الكسائي ذكره السمين. وقال ابن عطية وذلك وهم، ووجه تخصيص هذه الأصنام بالذكر مع دخولها تحت الآلهة أنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها، ولم يذكر النفي مع يعوق ونسرا لكثرة التكرار وعدم اللبس.
343
(وقد أضلوا كثيراً) أي وقال نوح قد أضل كبراؤهم ورؤساؤهم كثيراً من الناس، وقيل الضمير راجع إلى الأصنام أي ضل بسببها كثير من الناس كقول إبراهيم (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس) وأجرى عليهم صيغة من يعقل لاعتقاد الكفار الذين يعبدونها أنها تعقل.
(ولا تزد الظالمين إلا ضلالاً) معطوف على (رب إنهم عصوني) ووضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم، وقال أبو حيان: إنه معطوف على قد أضلوا ومعنى (إلا ضلالاً) إلا عذاباً كذا قال ابن بحر واستدل على ذلك بقوله (إن المجرمين في ضلال وسعر) وقيل إلا خسراناً، وقيل إلا فتنة بالمال والولد، وقيل الضياع وقيل ضلالاً في مكرهم، وهذا دعاء عليهم من نوح بعد أن أعلمه الله أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن.
(مما) ما مزيدة للتأكيد والمعنى من (خطيئاتهم) قرأ الجمهور على جمع السلامة وهي سبعية وقرىء خطاياهم على جمع التكسير وخطيئتهم على الإفراد والمعنى من أجلها وبسببها (أغرقوا) بالطوفان قرأ الجمهور من أغرق وقرىء غرقوا بالتشديد.
(فأدخلوا) عقب الإغراق (ناراً) وهي نار الآخرة، وهذا من التعبير عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه نحو (أتى أمر الله) وقيل عذاب القبر، وعلى هذا هو على بابه كقوله في آل فرعون (النار يعرضون عليها غدواً وعشياً) (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً) أي لم يجدوا أحداً يمنعهم من عذاب الله ويدفعه عنهم.
(وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) يعني لما أيس نوح عليه السلام من إيمانهم وإقلاعهم عن الكفر، دعا عليهم بالهلاك، قال قتادة دعا عليهم بعد أن أوحى إليه أنه (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) فأجاب الله دعوته وأغرقهم، وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع بن أنس وابن زيد وعطيه: إنما قال هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم، وأعقم أرحام النساء وأصلاب الآباء قبل العذاب بسبعين سنة، وقيل بأربعين، قال قتادة: لم يكن فيهم صبي وقت العذاب وقال الحسن وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذاباً من الله وعدلاً فيهم، ولكن أهلك ذريتهم وأطفالهم بغير عذاب ثم أهلكهم بالعذاب.
ومعنى (ديّاراً) من يسكن الديار ويدور في الأرض وأصله ديوار على فيعال من دار يدور فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى مثل القيام أصله قيوام، وقال القتيبي أصله من الدار أي نازل بالدار يقال ما بالدار ديار وديور أي أحد كقيام وقيوم، وهو من الأسماء المستعملة في النفي العام، وقيل الديار صاحب الديار، والمعنى لا تدع أحداً منهم إلا أهلكته، وقيل هو مأخوذ من الدوران وهو التحرك.
قال سليمان الجمل: انظر ما الحكمة في تأخيره عن قوله (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا) مع أن مقتضى الظاهر تقديمه عليه لكونه سبباً لإغراقهم، تأمل، ثم رأيت، أبا السعود: قال هذا عطف على نظيره السابق وقوله (مما خطيئاتهم) اعتراض وسط بين دعائه عليه السلام للإيذان من أول الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم يصبهم إلا لأجل خطاياهم التي عددها نوح، وإشارة إلا أن استحقاقهم للإهلاك لأجلها أهـ كلام الجمل.
(إنك إن تذرهم) أي إن تركتهم على الأرض (يضلوا عبادك) عن طريق الحق (ولا يلدوا إلا فاجراً) بترك طاعتك (كفّاراً) لنعمتك أي كثير الكفران لها، والمعنى إلا من سيفجر ويكفر، ففي الكلام مجاز الأول لأنهم لم يفجروا وقت الولاده بل بعدها بزمان طويل، وقال عليه السلام هذا القول
344
لعلمه بالتجربة من أحوالهم أن أولادهم يكونون مثلهم.
ثم لما دعا على الكافرين أتبعه بالدعاء لنفسه ووالديه وللمؤمنين فقال
345
(رب اغفر لي ولوالدي) قرأ العامة بكسر اللام وفتح الدال على أنه تثنية والد، يريد أبويه وكانا مؤمنين وأبوه لامك أو لمك بفتحتين أو بفتح فسكون ابن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس (١)، وأمه شمخابوزن سكرى بنت أنوش.
وقيل أراد آدم وحواء والأول أولى، وقال سعيد بن جبير أراد بوالديه أباه وجده وقرىء ولولدي بكسر الدال على الإفراد وعلى التثنية يعني ابنيه ساماً وحاماً، وقرىء ولوالدي بكسر الدال يعني أباه فيجوز أن يكون أراد أباه الأقرب الذي ولده، وخصه بالذكر لأنه أشرف من الأم، وأن يريد جميع من ولده من لدن آدم إلى من ولده ".
(ولمن دخل بيتي) قال الضحاك والكلبي يعني مسجده وقيل منزله الذي هو ساكن فيه وقيل سفينته وقيل لمن دخل في دينه، وانتصاب (مؤمناً) على الحال أي لمن دخل بيتي متصفاً بصفة الإيمان فيخرج من دخله غير متصف بهذه الصفة كامرأته وولده الذي قال (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ثم عمم الدعوة فقال:
(وللمؤمنين والمؤمنات) أي واغفر لكل متصف بالإيمان من الذكور والإناث، ثم عاد إلى الدعاء على الكافرين فقال: (ولا تزد الظالمين إلا تباراً) مفعول ثان والاستثناء مفرغ أي لا تزد المتصفين بالظلم إلا هلاكاً وخسراناً ودماراً فأهلكوا وغرق معهم صبيانهم أيضاًً لكن لا على وجه العقاب لهم بل لتشديد عذاب آبائهم وأمهاتهم بإراءة هلاك أطفالهم الذين كانوا أعز عليهم من أنفسهم.
وفي الحديث " يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى " وعن الحسن أنه سئل عن ذلك فقال علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب، وقد يشمل دعاؤه هذا كل ظالم إلى يوم القيامة كما شمل دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة.
_________
(١) نرى اختلافاً في اسم نوح عليه السلام انظر ما ذكره المؤلف في أول تفسيره للسورة ولا أرى لهذا سبباً.
345
سورة الجن
ثمان وعشرون آية وهي مكية قال القرطبي في قول الجميع، عن ابن عباس قال نزلت بمكة وعن عائشة وابن الزبير مثله وتسمى سورة قل أوحي.
347

بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (٢)
349
Icon