تمهيد عام :
هذا هو الجزء الأخير من القرآن الكريم، ويتميز بقصر الآيات، وقصر السور، وروعة الأسلوب، وجمال القافية، ليستلفت الأنظار إلى قدرة الخالق، وآثار الله في الآفاق.
وكأن هذا الجزء دعوة متكررة لقوم نيام، أو صيحة عارمة لسكارى غارقين في اللهو، يفيقون حينا ثم يهيمون في ضلالهم حينا آخر، والسور توالى تنبيههم، وتناديهم : أن أفيقوا وتنبهوا قبل فوات الأوان.
" وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان، والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان، وعلى مشاهد هذا الكون، وآيات الله في كتابه المفتوح، وعلى مشاهد القيامة العنيفة، الطامة الصاخة القارعة الغاشية، ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب، في صور تقرع وتذهل وتزلزل، كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها، واتخاذها جميعا دلائل على الخلق والتدبير، والنشأة الآخرى وموازينها الحاسمة، مع التقريع بها والتخويف والتحذير، وأحيانا تصاحبها صور من مصارع الغابرين " i.
والأمثلة على هذا هي الجزء كله، ومنه هذه السورة ( سورة النبأ )، وهي نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد، ومثلها سورة النازعات، وسورة الانشقاق التي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني، ومشاهد النعيم والعذاب، وسورة الطارق، وسورة الغاشية.
***
تفسير سورة النبأ
أهداف سورة النبأ
( سورة النبأ مكية، وآياتها ٤٠ آية، نزلت بعد سورة المعارج ).
سورة النبأ نموذج لاتجاه هذا الجزء، بموضوعاته وحقائقه، وصوره ومشاهده.
وهي تبدأ بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام، وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه ولا شبهة، ويعقب على ذلك بتهديدهم بيوم يعلمون حقيقته. ( الآيات ١-٥ ).
ثم يلفت السياق الأنظار إلى عدد من المشاهد والحقائق، تتمثل في خلق الأرض، وإرساء الجبال، وخلق الذكر والأنثى للتناسل والتكاثر وإشباع الرغبة والحاجة في كل طرف إلى الآخر، وخلق الليل سكنا، والنوم راحة وأمنا، والنهار سعيا ومعاشا، وخلق السماء والشمس، وإنزال المطر، وإنبات النبات والبساتين. ( الآيات ٦-١٦ ).
ثم يعود إلى مشهد القيامة والبعث ( الآيات ١٧ -٢٠ ) ويصف جهنم وأهوالها وعذابها، وجحود أهلها وتكذيبهم بآيات الله. ( الآيات ٢١ -٣٠ ).
ثم يصف نعيم المتقين في الجنة وصنوف التكريم الحسي والمعنوي. ( الآيات ٣١-٣٢ ).
وتختم السورة بمشهد جليل في يوم القيامة، يوم تصفّ الملائكة صفّا، ويشتد الهول، ويلقى كل إنسان جزاء عمله. ( الآيات ٣٧-٤٠ ).
مع آيات السورة
كان المشركون كما اجتمعوا في ناد من أنديتهم أخذوا يتحدثون ويسأل بعضهم بعضا، ويسألون غيرهم فيقولون : أساحر هو أم شاعر، أم كاهن أم اعتراه بعض آلهتنا بسوء ؟ ويتحدثون في شأن القرآن أهو سحر أم شعر أم كهانة ؟ ويقول كل واحد ما شاء له هواه، والرسول سائر قدما في تبليغ رسالته، وأمامه مصباحه المنير الذي يضيء للناس سبيل الرشاد وهو الكتاب الكريم، كما كانوا يتحدثون في شأن البعث، ويأخذ الجدل بينهم كل مأخذ، فمنهم من ينكره البتة ويزعم أنه إذا مات انتهى أمره، وما هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع : وما يهلكنا إلا الدهر... ( الجاثية : ٢٤ ).
ومنهم من كان يزعم أن البعث للأرواح دون الأجساد، لأن الأجساد تأكلها الأرض وتعبث بها يد البلى، وربما لقي أحدهم بعض من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فيسائله عن ذلك استهزاء وسخرية.
وفي هؤلاء وأشباههم نزلت هذه السورة، ردّا عليهم، وإقامة للحجة على أن الله قادر على أن يبعثهم بعد موتهم، وإن صاروا ترابا أو أكلتهم السباع أو أحرقتهم النيران، لأن الله أحصى كل شيء عددا وأحاط بكل شيء علما.
معنى الآيات
١-٣- عن أي شيء يتساءل مشركو مكة ؟ يتساءلون عن الخبر العظيم الشأن، وهو البعث أو نزول الوحي على النبي صلى الأمين صلى الله عليه وسلم، الخبر الذي اختلفوا فيه، فمن قائل إنه مستحيل، ومن شاك فيه متردد يقول : ما ندري ما الساعة إن نظنّ إلا ظنّا وما نحن بمستيقنين. ( الجاثية : ٣٢ ).
٤، ٥- ترد الآيتان على تساؤلهم وشكهم بالتهديد الملفوف، وهو أوقع من الجواب المباشر وأعمق في التأثير، وتقول : فليزدجروا عما هم فيه، فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال، إذا حل بهم العذاب والنكال، وأن ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا شك فيه، ولا ريب في وقوعه.
٦-١٦- تنتقل الآيات من موضوع النبأ العظيم، لتعرض أمام الأبصار والبصائر مظاهر القدرة الإلهية في خلق هذا الكون، فتذكر تسعة مشاهد، يشاهدونها بأعينهم، ولا يخفى عليهم شيء منها :
١- انبساط الأرض وتمهيدها لتحصيل المعاش، وإثراء الحياة.
٢- سمو الجبال لتثبيت الأرض وحفظ التوازن.
٣- خلق الناس ذكورا وإناثا، ليتم الائتناس والتعاون ويعم النفع.
٤- جعل النوم راحة للأجسام، وسكنا للأرواح، وانقطاعا عن الإدراك والنشاط.
٥- جعل الليل لباسا وساترا، يتم فيه السبات والانزواء.
٦- جعل النهار معاشا، تتم فيه الحركة والنشاط.
٧- ارتفاع السماوات فوقنا، مع إحكام الوضع ودقة الصنع، وقوة البناء وشدته وتماسكه.
٨- وجود الشمس المنيرة المتوهجة، تسكب الأشعة والضوء والحرارة.
٩- نزول المطر وما ينشأ عنه من الحبّ والنبات، والجنات الألفاف، الكثيفة، الكثيرة الأشجار الملتفة الإغصان.
وتوالى هذه الحقائق والمشاهد على هذا النظام البديع، والتقدير المحكم، يوحي بأن وراء هذا الكون قوة تدبره، وحكمة تنظمه، وتشعر بالخالق الحكيم القدير، الذي أبدع كل شيء خلقه، فتبارك الله أحسن الخالقين.
١٧-٢٠- إن الناس لم يخلقوا عبثا، ولن يتركوا سدى، والذي قدّر حياتهم ذلك التقدير المحكم، الذي يشي به المقطع الماضي في السياق قد جعل لهم يوما مؤقتا للفصل والقضاء بينهم، في ذلك اليوم ينفخ إسرافيل في البوق، فيأتي الناس جميعا مسرعين، جماعات جماعات، والسماء المبنية المتينة فتحت، وانشقت وتصدعت على هيئة لا عهد لنا بها، فكانت طرقا وأبوابا، والجبال الراسية الثابتة تصبح هباء مثارا في الهواء، ومن ثم فلا وجود لها، كالسراب الذي ليس له حقيقة.
٢١- ٣٠- تمضي الآيات خطوة وراء النفخ والحشر، فتصور مصير الطغاة وتذكر ما يأتي :
إن جهنم خلقت ووجدت مكانا مترصدا للطاغين، ينتظر حضورهم، ويترقب وصولهم، إن جهنم مرجع الطغاة ومكان إيابهم وعودتهم.
روى ابن جرير، عن الحسن أنه قال : لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز النار، فإن كان معه جواز نجا، وإلا احتبس.
وسيمكث الطغاة في النار دهورا متلاحقة، يتبع بعضها بعضا، فكلما انقضى زمن تجدد لهم زمن آخر، إنهم لن يذوقوا في جهنم إلا الحميم وهو الماء المغلي، والغشاق وهو الصديد الذي يسيل من جراح أهل النار، جزاء وفاقا. ( النبأ : ٢٦ ).
قال مقاتل : وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار.
إنهم كانوا لا يتوقعون الحساب، وكذّبوا بجميع البراهين الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد، وبجميع ما جاء في القرآن، بينما كان الله يحصى عليهم كل شيء، إحصاء دقيقا لا يفلت منه شيء، وسجلّ أعمالهم في اللوح المحفوظ، أو كتبها في صحف أعمالهم : أحصاه الله ونسوه... ( المجادلة : ٦ ). ويقال لهم على ألسنة خزنة جهنم من باب التأنيب الميئس من كل رجاء : ذوقوا أشد العذاب بما كسبت أيديهم، ولن نزيدكم إلا عذابا من جنسه.
٣١-٣٦- تعرض الآيات المشهد المقابل، مشهد الأتقياء في النعيم، بعد مشهد الطغاة في الجحيم، إن الأتقياء يفوزون بالنعيم، والثواب، ومن مظاهره تلك الحدائق الكثيرة والبساتين والأعناب وكواعب. وهن الفتيات الناهدات اللواتي استدارت أثدائهن، أترابا. متوافقات السن والجمال، وكأسا دهاقا. مترعة بالشراب، ولا يجري بينهم حين يشربون لغو الكلام، ولا يكذب بعضهم بعضا، وهذه النعم جزاء من الله على أعمالهم، وهي عطاء وتفضل من الله على حسب أعمالهم، وفي الحديث الشريف :( إنكم تدخلون الجنة بفضل الله، وتقتسمونها بحسب أعمالكم ).
٣٧-٤٠- هذا الجزاء السابق للطغاة وللتقاة، من مالك السماوات والأرض، والمدبّر لشئونهما، والمالك لما بينهما من عوالم، وهو الرحمان، ومن رحمته يكون الجزاء العادل المناسب للأشرار وللأخيار، ومع الرحمة الجلال، فلا يملك أحد مخاطبته في ذلك اليوم المهيب.
يوم يقف جبريل والملائكة جميعا مصطفين لا يتكلمون، إجلالا لربهم، ووقوفا عند أقدارهم، إلا إذا أذن لهم ربهم وقالوا صدقا وصوابا.
ذلك اليوم هو الحق الموعود به، فلا مجال للتساؤل والاختلاف في شأنه، والفرصة لا تزال سانحة، فمن شاء عمل صالحا يقربه من ربه، ويدنيه من ثوابه، إنا نحذركم عذاب يوم القيامة، وهو قريب ليس بالبعيد، فجهنم تنتظركم، وتترصد لكم على النحو الذي سمعتم، والدنيا كلها رحلة قصيرة، وكل آت قريب.
وفي ذلك اليوم يجد الإنسان جزاء عمله، ولقاء ما صنعه في الدنيا من الأعمال، فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره* ومن يعمل مثقال ذرّة شرا يره. ( الزلزلة : ٧، ٨ ). في ذلك اليوم يشعر الكافر بالندم والحسرة، فيقول : يا ليتني كنت ترابا أو حجرا لا يجري عليه تكليف حتى لا يعاقب هذا العقاب.
موضوعات السورة
اشتملت سورة النبأ على الموضوعات الآتية :
١- سؤال المشركين عن البعث، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
٢- تهديد المشركين على إنكارهم إياه.
٣- إقامة الأدلة على إمكان حصوله.
٤- أحداث يوم القيامة.
٥- ما يلاقيه المكذبون من العذاب.
٦- فوز المتقين بجنات النعيم.
٧- إن هذا اليوم حق لا ريب فيه.
٨- ندم الكافر بعد فوات الأوان.
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ عمّ يتساءلون ١ عن النّبأ العظيم ٢ الذي هم فيه مختلفون ٣ كلاّ سيعلمون ٤ ثم كلاّ سيعلمون ٥ ألم نجعل الأرض مهادا ٦ والجبال أوتادا ٧ وخلقناكم أزواجا ٨ وجعلنا نومكم سباتا ٩ وجعلنا الليل لباسا ١٠ وجعلنا النهار معاشا ١١ وبنينا فوقكم سبعا شدادا ١٢ وجعلنا سراجا وهّاجا ١٣ وأنزلنا من المعصرات ماء ثجّاجا ١٤ لنخرج به حبّا ونباتا ١٥ وجنّات ألفافا ١٦ ﴾
المفردات :
عمّ : عن أي شيء عظيم الشأن.
عن النبأ العظيم : عن القرآن أو البعث.
سبب النزول :
أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السحن البصري قال : لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا يتساءلون بينهم، فنزلت : عمّ يتساءلون* عن النّبأ العظيم.
التفسير :
١، ٢، ٣- عمّ يتساءلون* عن النّبأ العظيم* الذي هم فيه مختلفون.
عن أيّ شيء يتساءل هؤلاء الناس ؟ إنهم يتساءلون عن الأمر العظيم الذي جاءهم، وهو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فمنهم من يصدّقه، ومنهم من يقول : هو شاعر، ومنهم من يقول : هو كاهن، ومنهم من يقول : هو مفتر متقوّل على الله وليس برسول، أو هم يتساءلون عن القرآن سؤال متعجب من سمو لفظه، وبراعة تعبيره، وقوة معانيه، منهم من يصفه بالسّحر أو الشعر أو الكهانة، أو هم يتساءلون عن البعث والحشر والحساب والجزاء والقيامة وما يتصل بها، فمنهم من يظن ظنّا، ومنهم من ينكر، ومنهم من يستبعد وقوع البعث، ومنهم من يقول : البعث للأرواح فقد أمّا الأجساد فتبلى وتصير رمادا، ومن العسير بعث الحياة في الأجساد بعد تفتتها وبلاها.
وتفيد الآيات أن دويّا عظيما ونبأ جسيما وفكرا هامّا، قد شغل مكة كلّها، فهذا القرآن الكريم، أو هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الإسلام، أو أمر البعث وما بعده، إنه أمر عظيم شغل هؤلاء الناس، واختلفوا بشأنه.
ويجوز أن يكون المراد بالنبأ العظيم كل ما ذكر، أي : القرآن، والإسلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم، والبعث، فكلها مما حملته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، واختلف أهل مكة بشأن هذه الرسالة اختلافا بيّنا، فقد كان منهم من يرفض الإيمان بالبعث، ويقول : ما هي إلا أرحام تدفع، وقبور تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر.
وقد حكة القرآن قول المكذّبين برسولهم في قوله تعالى : أيعدكم أنكم إذا متّم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون* هيهات هيهات لما توعدون* إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين. ( المؤمنون : ٣٥-٣٧ ).
وكان من الكفار من يشك أو يظن صدق البعث بدون تيقن أو تأكّد.
قال تعالى : وإذا قيل إنوعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنّا وما نحن بمستيقنين. ( الجاثية : ٣٢ ).
كلا : ردع وزجر عن الاختلاف فيه.
التفسير :
٤، ٥- كلاّ سيعلمون* ثم كلاّ سيعلمون.
ليرتدع هؤلاء الكفار عما هم فيه من إنكار البعث والجزاء، أو من إنكار القرآن ورسالة الإسلام، سيعلمون صدق ذلك عند نزول الموت بساحتهم.
ثم كلاّ سيعلمون.
تأكيد لما سبق، وتهديد ووعيد، وزيادة معنى، أي : سيعلمون عند قيام القيامة، ووجود الجنة والنار أنهم كانوا مخطئين في إنكار البعث، أو في التشكك في القيامة، وفي وقوع الثواب والعقاب، ثم أخذ القرآن يقدم لهم أدلة واقعية يلمسونها بأيديهم، ويشاهدونها بأعينهم، وتؤكد أن وراء هذا الكون البديع يدا قادرة خالقة مبدعة، هي يد الله، وهو على كل شيء قدير.
الأرض مهادا : فراشا موطّأ للاستقرار عليها.
التفسير :
٦- ألم نجعل الأرض مهادا.
ألم نجعل الأرض التي تسكنونها ممهدة كالفراش، تنامون عليها، وتسيرون فوق طرقها، وتنتفعون بنباتها وخيراتها، وتتأملون البساتين والرياحين والبحار والأنهار فيها.
الجبال أوتادا : كالأوتاد للأرض لئلا تميد.
التفسير :
٧- والجبال أوتادا.
وجعلنا الجبال بمثابة الأوتاد التي تشد خيمة الشّعر فتثبتها، وكذلك الجبال تمتد في باطن الأرض لحفظ توازنها، ولئلا تميد تحت الإنسان الساكن عليها، فالأرض ملتهبة من باطنها، وتقذف بالحمم عند البراكين والزلازل. وقد جعل الله الجبال لمنافع عدّة، منها تثبيت الأرض، ومنها أنها مأوى للهائمين واللاجئين، وفوق رؤوس الجبال تتجمع الثلوج صيفا وشتاء، ثم تذوب الثلوج صيفا فتسقى المياه الوديان، ويستفيد الزرع والإنسان والحيوان، والجبال بها مغارات للعبّاد والمتأمّلين، وقد نزلت رسالات السماء على عدد من الجبال، منها جبل الطّور حيث كلّم الله موسى، ومنها غار حراء فوق جبل النور حيث كلّم الله محمدا صلى الله عليه وسلم، وتمّت الهجرة من غار ثور، وكانت الجبال ترجّع صوت داود عليه السلام.
قال تعالى : يا جبال أوّبي معه والطير وألنّا له الحديد. ( سبأ : ١٠ ).
خلقناكم أزواجا : أصنافا، ذكورا وإناثا للتّناسل.
التفسير :
٨- وخلقناكم أزواجا.
من حكمة الله القدير أنه خلق الزوجين الذكر والأنثى، ليتمّ إثراء الحياة وإخصابها، وتكامل سرورها ولذتها وسعادتها، فالنبات والحيوان والإنسان أزواج.
قال تعالى : ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذّكرون. ( الذاريات : ٤٩ ).
وقال الله تعالى لنوح عليه السلام : احمل فيها من كل زوجين اثنين... ( هود : ٤٠ ).
بل إن التزاوج يمتد إلى غير ذلك، فالسحاب لا يمطر إلا إذا تم تلقيح سحابة موجبة لسحابة سالبة.
قال تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين. ( الحجر : ٢٢ ).
وقد خلق الله حواء لتكون سكنا لآدم، وبث منهما الخلق، وامتن علينا بنعمة الأنس والمودة والرحمة بين الزوجين.
قال تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة... ( الروم : ٢١ ).
وقال عز شأنه : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة... ( النحل : ٧٢ ).
نومكم سباتا : قطعا لأعمالكم، وراحة لأبدانكم.
الليل لباسا : ساترا لكم بظلمته كاللباس.
النهار معاشا : تحصّلون فيه ما تعيشون به.
التفسير :
٩، ١٠، ١١- وجعلنا نومكم سباتا* وجعلنا الليل لباسا* وجعلنا النهار معاشا.
النوم آية من آيات الله تعالى، حيث ينقطع الإنسان عن العمل والكدح، ويستغرق في نوم هادئ، حيث تهدأ نفسه ويستريح جسمه، ويتكامل هدوءه، ويتجدد بعد النوم نشاطه، فالنوم نعمة إلهية، وهو آية، وفي غزوتي بدر غشى النوم المجاهدين فآنسهم وجدّد نشاطهم وأراح أعصابهم.
قال تعالى : إذ يغشّيكم النعاس أمنة منه... ( الأنفال : ١١ ).
وقال سبحانه وتعالى : ثم أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم... ( آل عمران : ١٥٤ ).
وأحيانا ينام الإنسان المجهد دقائق معدودة، أو يغفى إغفاءة بسيطة، ثم يستيقظ وقد استراحت أعصابه وتجدد نشاطه، ذلك أن الله العلي القدير هو الخالق للإنسان، وخالق الآلة أدرى بما تحتاج إليه، ولو استمر الإنسان مستيقظا بدون نوم لخارت قواه وضعفت.
قال تعالى : ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله... ( الروم : ٢٣ ).
وجعلنا الليل لباسا.
الليل يقطع العمل المسترسل، وفيه الظلام الممتد الذي يغمر الكون، ويغشاه ويستره كما يستر الثوب، صاحبه حين يلبسه، والليل فرصة للهارب، وفيه يختفي الكامن للوثوب على عدوّه، للتخلص منه والنجاة من شرّه، ويتّقي به كل من أراد ألا يطّلع الناس على كثير من أموره.
وجعلنا النهار معاشا.
جعلنا النهار فرصة للسعي على المعاش والكدّ والعمل، حيث جعله الله مشرقا منيرا، ليتمكن الناس من السّعي فيه، والعمل والتكسب والتجارة وغير ذلك.
سبعا شدادا : سبع سماوات قوية الخلق بديعة الصّنع.
التفسير :
١٢- وبنينا فوقكم سبعا شدادا.
خلقنا فوقكم سبع سماوات متينة للبناء، شديدة الصنع، لا يصيبها تشقّق ولا تصدّع، وقد مرّت عليها بلايين السنين، وهي سليمة قوية مبهرة : صنع الله الذي أتقن كل شيء... ( النمل : ٨٨ ).
سراجا وهّاجا : مصباحا منيرا وقّادا، والمراد به : الشمس.
التفسير :
١٣- وجعلنا سراجا وهّاجا.
جعلنا الشمس متوهّجة بالضوء، والسّراج ما كان ضوءه من ذاته كالشمس، والشمس ترسل أشعتها على المحطات فيتصاعد البخر إلى السماء، وتتكاثف السحب من هذا البخر، ثم يرسل الله الرياح فتسوق السحاب وينزل المطر.
المعصرات : السحائب قاربت أن تعصرها الرياح فتمطر.
ماء ثجاجا : منصبّا بكثرة مع التتابع.
التفسير :
١٤- وأنزلنا من المعصرات ماء ثجّاجا.
أنزلنا من السحائب التي أوشكت أن تعصرها الرياح مطرا متتابعا، تكون به حياة الزرع والضرع، مما يوحي بأن التكامل مقصود في هذا الكون، حيث أبدع الله خلق الكون، وسخّر الليل والنهار، والسماء والأرض، والشمس والقمر، وأنزل المطر وأبدع الخلق ليعيش الناس في كنف هذه القدرة العليا، وينبغي أن يشكروا ربهم شكرا عمليّا باستخدام النعمة فيما خلقت له.
حبا ونباتا : الحبّ ما يقتات به كالقمح والشعير، والنبات ما يؤكل خضرا مثل الحشيش والبرسيم.
التفسير :
١٥- لنخرج به حبا ونباتا.
لنخرج بهذا الماء أنواع الحبوب والنباتات، فالحبوب يقتات بها الناس كالقمح والشعير والذرة، والنبات تقتات من الدواب، وقدم الحبّ لأنه غذاء الإنسان، وأعقبه بذكر النبات لأنه غذاء الحيوان.
جنات ألفافا : بساتين ملتفة الأشجار.
التفسير :
١٦- وجنّات ألفافا.
ونخرج بالماء بساتين خضراء، وتقاربت أشجارها، والتفّت أغصانها وأوراقها، عن هذه النعم المتعددة في الكون والنفس، والخلق والإبداع، والنوم واليقظة، والليل والنهار، والأرض والسماء- دليل على قدرة الله الواحد، وهو سبحانه على كل شي قدير، فمن أوجد هذا قادر على البعث والحساب والجزاء.
قال تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون. ( غافر : ٥٧ ).
﴿ إنّ يوم الفصل كان ميقاتا ١٧ يوم ينفخ في الصّور فتأتون أفواجا ١٨ وفتحت السماء فكانت أبوابا ١٩ وسيّرت الجبال فكانت سرابا ٢٠ إنّ جهنم كانت مرصادا ٢١ للطّاغين مئابا ٢٢ لابثين فيها أحقابا ٢٣ لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ٢٤ إلا حميما وغسّاقا ٢٥ جزاء وفاقا ٢٦ إنهم كانوا لا يرجون حسابا ٢٧ وكذّبوا بآياتنا كذّابا ٢٨ وكل شيء أحصيناه كتابا ٢٩ فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ٣٠ ﴾
المفردات :
يوم الفصل : هو يوم القيامة، لأن الله يفصل بين خلقه.
تمهيد :
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
التفسير :
١٧- إن يوم الفصل كان ميقاتا.
في يوم الفصل، حيث يفصل الله بين الخلائق، وهو يوم يجتمع فيه الأولون والآخرون لميقات يوم معلوم، حيث ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي.
قال تعالى : وما نؤخّره إلا لأجل معدود. ( هود : ١٠٤ ).
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
المفردات :
فتأتون أفواجا : أمما أو جماعات مختلفة الأحوال.
التفسير :
١٨- يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا.
في هذا اليوم ينفخ إسرافيل في الصور نفخة أولى، فيصعق الخلائق ويموتون، ثم ينفخ النفخة الثانية، فيقوم الناس من قبورهم ويأتون إلى المحشر جماعات جماعات.
قال تعالى : يوم ندعوا كل أناس بإمامهم... ( الإسراء : ٧١ ).
والمراد بالنفخ في الصور هنا : النفخة الثانية، حيث يحشر الناس فورا بدون مهلة، حال كونهم زمرا وجماعات مختلفة الأحوال، متباينة الأوصاف، حسب اختلاف أعمالهم في الدنيا.
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
المفردات :
فكانت أبوابا : صارت ذات أبواب وطرق، ومن قبل كانت محكمة.
التفسير :
١٩- وفتحت السماء فكانت أبوابا.
تشقّقت السماء على غلظها، وتعلّقت الملائكة بأطرافها، وبعد أن كانت محكمة لا تشقّق فيها ولا اضطراب ولا خلل، تغيّر ذلك في يوم القيامة عند نهاية الكون.
قال تعالى : ويوم تشقّق السماء بالغمام ونزّل الملائكة تنزيلا. ( الفرقان : ٢٥ ).
وقال عز شأنه : إذا السماء انشقّت. ( الانشقاق : ١ ).
وقال عز شأنه : إذا السماء انفطرت. ( الانفطار : ١ ).
وكل هذا يدل على تبدّل حال الكون عند انتهاء الحياة في هذه الدنيا.
قال تعالى : يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهّار. ( إبراهيم : ٤٨ ).
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
المفردات :
فكانت سرابا : مثل سراب، وهو ما تراه نصف النهار كأنه ماء، فإذا جئته لم تجده شيئا.
التفسير :
٢٠- وسيّرت الجبال فكانت سرابا.
الجبال الراسية تندكّ دكّا، وتقلع قلعا، وتمور مورا، وتمرّ بمراحل في طريقها إلى التلاشي.
قال تعالى : وحملت الأرض والجبال فدكّتا دكّة واحدة. ( الحاقة : ١٤ ).
فتصبح الأرض مستوية، وتتحول الجبال إلى هلام كالصوف المنفوش، وهو رخو ليّن، بعكس صلابة الجبال في الدنيا.
قال تعالى : وتكون الجبال كالعهن المنفوش. ( القارعة : ٥ ).
ثم ذكر القرآن أن الجبال تصير هباء، كما قال تعالى : وبسّت الجبال بسّا* فكانت هباء منبثّا. ( الواقعة : ٥، ٦ ).
ثم ذكر هنا أن الجبال تنسف وتخلع من أماكنها، حتى يخيل للرائي أنها شيء وليست بشيء، كالسراب يظنه الرائي ماء وهو في الحقيقة هباء.
قال الطبري : صارت الجبال بعد نسفها هباء منبثا لعين الناظر، كالسراب يظنه من يراه ماء وهو في الحقيقة هباء.
قال عز شأنه : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا* فيذرها قاعا صفصفا* لا ترى فيها عوجا ولا أمتا* يومئذ يتّبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمان فلا تسمع إلا همسا. ( طه : ١٠٥-١٠٨ ).
إنه الانقلاب الكوني، ونهاية الكون، وتبدّل الأرض غير الأرض، وتسوية الجبال بالأرض، حتى تصبح أرضا مستوية مكشوفة مشاهد للجميع، هذه هي أرض المحشر، مع الخشوع التامّ، والصمت الرهيب : يوم يقوم الناس لرب العالمين. ( المطففين : ٦ ).
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
المفردات :
كانت مرصادا : موضع ترصد وترقب للكافرين.
التفسير :
٢١- إنّ جهنم كانت مرصادا.
إن جهنم تترصد الكافرين وتترقبهم، وقد وجدت لانتظارهم، كأنما كانوا في الدنيا في رحلة عابرة ثم آبوا إلى مكان مثواهم وإقامتهم، حيث يجدون زبانية جهنم في انتظارهم، ويجدون جهنم تتلمظ غيظا وغضبا على من كفر بالله، كما قال سبحانه : تكاد تميّز من الغيظ... ( الملك : ٨ ).
وقد ورد في الأثر أن جهنم يخرج منها عنق يبحث عن الكافرين الطاغين، فيلتقطهم من أرض المحشر إلى مكان إقامتهم في جهنمii.
وقريب من ذلك قوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا. ( الكهف : ٥٣ ).
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
المفردات :
للطاغين مآبا : مرجعا ومأوى لهم.
التفسير :
٢٢- للطّاغين مئابا.
للطغاة الذين طغوا وبغوا وتجاوزوا الحدّ، وكفروا بالله وكذّبوا رسله، وخالفوا أوامره، وارتكبوا ما نهى عنه، هي لهؤلاء الطغاة، مئابا. مرجعا وإقامة مستمرة دائمة.
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
المفردات :
أحقابا : دهورا متتابعة لا نهاية لها.
التفسير :
٢٣- لابثين فيها دهورا متتابعة، كلما مضى منها حقب- أي آلاف السنين- تبعه حقب آخر إلى ما لا نهاية، فلا يخرجون منها أبدا.
قال الحسن : الحقب : زمان غير محدود.
قال تعالى : والذين كفروا لهم نار جهن لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفّف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور. ( فاطر : ٣٦ ).
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
المفردات :
بردا : نوما أو روحا من حرّ النار.
حميما : ماء بالغا نهاية الحرارة.
غسّاقا : صديدا يسيل من أهل النار باردا منتنا.
التفسير :
٢٤، ٢٥- لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا* إلا حميما وغسّاقا.
لا يذوقون في جهنم بردا ينفعهم من حرّها، ولا شرابا ينفعهم من عطشها.
إلا حميما. وهو ماء حار شديد الغليان يشوي الوجوه.
وغسّاقا. والغسّاق صديد أهل النار.
إن النار تتلظى، لا يصطلى بنارها إلا الأشقى، ولا يجدون فيها ما يريحهم، أو يخفف من الآلام الحسية أو المعنوية.
وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى : لا يذوقون فيها بردا...
أي : لا يطوقون فيها نوما، باعتبار أن النوم يبرّد العطش ويهدّئه، واستشهدوا بكلام العرب الذي يفيد أن البرد يطلق على النوم.
وعند التّأمل نجد أن القرآن ينبغي أن يفهم على الشائع المطرد، المعروف من كلام العرب، لا على المعنى الغريب أو المهجور.
قال الطبري :
لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا.
لا يطعمون فيها بردا يبرّد حرّ السعير عنهم إلا الغسّاق، ولا شرابا يرويهم من شدة العطش الذي بهم إلا الحميم، وقد زعم بعض أهل العلم بكلام العرب أن البرد في هذا الموضع النوم، وأن معنى الكلام : لا يذوقون فيها نوما ولا شرابا، واستشهد لقيله ذلك بقول الكندي :
بردت مراشفها علي فصدّني | عنها وعن قبلاتها البرد |
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
المفردات :
بردا : نوما أو روحا من حرّ النار.
حميما : ماء بالغا نهاية الحرارة.
غسّاقا : صديدا يسيل من أهل النار باردا منتنا.
التفسير :
٢٤، ٢٥- لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا* إلا حميما وغسّاقا.
لا يذوقون في جهنم بردا ينفعهم من حرّها، ولا شرابا ينفعهم من عطشها.
إلا حميما. وهو ماء حار شديد الغليان يشوي الوجوه.
وغسّاقا. والغسّاق صديد أهل النار.
إن النار تتلظى، لا يصطلى بنارها إلا الأشقى، ولا يجدون فيها ما يريحهم، أو يخفف من الآلام الحسية أو المعنوية.
وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى : لا يذوقون فيها بردا...
أي : لا يطوقون فيها نوما، باعتبار أن النوم يبرّد العطش ويهدّئه، واستشهدوا بكلام العرب الذي يفيد أن البرد يطلق على النوم.
وعند التّأمل نجد أن القرآن ينبغي أن يفهم على الشائع المطرد، المعروف من كلام العرب، لا على المعنى الغريب أو المهجور.
قال الطبري :
لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا.
لا يطعمون فيها بردا يبرّد حرّ السعير عنهم إلا الغسّاق، ولا شرابا يرويهم من شدة العطش الذي بهم إلا الحميم، وقد زعم بعض أهل العلم بكلام العرب أن البرد في هذا الموضع النوم، وأن معنى الكلام : لا يذوقون فيها نوما ولا شرابا، واستشهد لقيله ذلك بقول الكندي :
بردت مراشفها علي فصدّني | عنها وعن قبلاتها البرد |
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
المفردات :
جزاء وفاقا : جزيناهم جزاء موافقا لأعمالهم.
التفسير :
٢٦- جزاء وفاقا.
جزاء موافقا لأعمالهم، لقد كان الجزاء المؤلم على قدر الكفر والشرك والطغيان، كما قال سبحانه : وجزاء سيئة سيئة مثلها... ( الشورى : ٤٠ ).
قال مقاتل : وافق العذاب الذنب، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النار.
وقال الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة فأتاهم الله ما يسوءهم، ثم فصّل القرآن أنواع الجرائم التي ارتكبوها، فقال :
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
التفسير :
٢٧- إنهم كانوا لا يرجون حسابا.
إنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث، ولا يتوقّعون القيامة والحساب والجزاء، ولذلك أهملوا العمل للآخرة.
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
المفردات :
كذابا : تكذيبا شديدا.
التفسير :
٢٨- وكذّبوا بآياتنا كذابا.
وكذّبوا برسالات السماء وبالبعث والقيامة والحساب، تكذيبا شديدا منكرا، تضمّن سلوكهم المعيب مع الرسل، وتكذيبهم بالقرآن وبالنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
المفردات :
أحصيناه كتابا : حفظناه وضبطناه مكتوبا.
التفسير :
٢٩- وكل شيء أحصيناه كتابا.
كل شيء في الكون أحصيناه وأحطنا به إحاطة دقيقة، وسجلناه وكتبناه، ومن ذلك أعمالهم وكفرهم.
قال تعالى : أحصاه الله ونسوه... ( المجادلة : ٦ ).
وقال سبحانه وتعالى : ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا. ( الكهف : ٤٩ ).
أو أثبتنا كل شيء في اللوح المحفوظ، كما قال سبحانه : وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا. ( الجن : ٢٨ ).
تتحدث الآيات عن أهوال يوم القيامة، من النفخ في الصور والحشر وانشقاق السماء، وتسيير الجبال، ثم وصف جهنم وأهوالها.
٣٠- فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا.
فذوقوا آلام العذاب وتجرّعوا غصّته، مع اليأس من الرحمة، وفقدان الأمل في تخفيف العذاب عنكم.
فلن نزيدكم إلا عذابا.
أي : لن نزيدكم على استغاثتكم من العذاب إلا عذابا جديدا، كما قال سبحانه : وآخر من شكله أزواج. ( ص : ٥٨ ).
قال المفسرون : ليس في القرآن على أهل النار آية هي أشد من هذه الآية، كلما استغاثوا من نوع من العذاب، أغيثوا بأشد منه.
قال تعالى : وإن يستغيثوا يغاثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا. ( الكهف : ٢٩ ).
وقال تعالى : ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون. ( الزخرف : ٧٧ ).
﴿ إن للمتقين مفازا ٣١ حدائق وأعنابا ٣٢ وكواعب أترابا ٣٣ وكأسا دهاقا ٣٤ لا يسمعون فيها لغوا ولا كذّابا ٣٥ جزاء من ربك عطاء حسابا ٣٦ ﴾
المفردات :
مفازا : فوزا بالنعيم والثواب.
التفسير :
٣١- إن للمتقين مفازا.
إن الله تعالى أعد للمتقين أسباب الفوز من النار والنجاة من جهنم، والفوز بالجنة والتمتع بنعيمها، ورضوان الله عليهم.
حدائق : بساتين فيها أنواع الثمر والشجر.
أعنابا : جمع عنب.
التفسير :
٣٢- حدائق وأعنابا.
من ألوان فوزهم التمتع بالبساتين الناضرة، الممتدة الظلال، المشرفة على الأنهار، والتمتع بكروم العنب، والجمع أعناب، وخصّه بالذكر لأهميته والعناية به.
كواعب : جمع كاعب، وهي التي نهد ثدياها وتكعّبا.
أترابا : متساويات في العمر.
التفسير :
٣٣- وكواعب أترابا.
فتيات قد استدارت أثداؤهن، مع ارتفاع يسير.
أترابا. متساويات في العمر، مع التماثل في صفات الجمال.
والخلاصة : أنه تمتع فائق اللذة والسعادة، على وفق ما يناسب العالم الأخروي.
حيث قال سبحانه : وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين وأنتم فيها خالدون. ( الزخرف : ٧١ ).
الكأس : إناء من بلّور للشراب.
دهاقا : ممتلئة، قال خداش بن زهير :
أتانا عامر يبغي قرانا فأترعنا له كأسا دهاقا
التفسير :
٣٤- وكأسا دهاقا.
وكأسا من الخمر مترعة ملأى، صافية متتابعة، قد عصرت وصفّيت.
اللغو : الباطل من الكلام.
الكذاب : التكذيب.
التفسير :
٣٥- لا يسمعون فيها لغوا ولا كذّابا.
لا يسمعون في الجنة ولا باطلا من الكلام، ولا فاحشا من القول.
ولا كذّابا. ولا يسمعون الكذب من القول، فقد صان الله أسماعهم عن اللغو والباطل والكذب، وصفّى أسماعهم ونقّاها لتسمع الحق والصدق، والنقي البهيّ من الكلام، وإنها لنعمة عظيمة.
عطاء : تفضلا منه وإحسانا.
حسابا : كافيا لهم.
التفسير :
٣٦- جزاء من ربك عطاء حسابا.
جزاهم الله هذا الجزاء العظيم، تفضلا منه وإحسانا كافيا على حسب أعمالهم.
﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمان لا يملكون منه خطابا ٣٧ يوم يقوم الروح والملائكة صفّا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا ٣٨ ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابا ٣٩ إنّا أنذرناكم عذابا قريبا يوم المرء ما قدّمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ٤٠ ﴾
المفردات :
الخطاب : المخاطبة والمكالمة، أي : لا يقدر أحد أن يخاطبه سبحانه في رفع بلاء أو دفع عذاب.
التفسير :
٣٧- رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمان لا يملكون منه خطابا.
هذا الجزاء صادر من الرحمان الذي وسعت رحمته كل شيء، وفي اليوم القيامة لا يستطيع أحد أن يخاطبه في رفع عذاب، أو دفع بلاء، هيبة وإجلالا له سبحانه وتعالى.
الروح : جبريل عليه السلام.
التفسير :
٣٨- يوم يقوم الروح والملائكة صفّا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا.
في ذلك يقوم الروح جبريل والملائكة مصطفين صامتين.
قال تعالى : وجاء ربك والملك صفّا صفّا. ( الفجر : ٢٢ ).
حيث تصطف ملائكة السماء الأولى حول الخلائق، وحولهم ملائكة السماء الثانية، وحول ملائكة السماء الثانية ملائكة السماء الثالثة، وهكذا إلى السماء السابعة، ولا يستطيع أحد أن يتكلم أو يتشفّع إلا من أذن له الله في الكلام، وقال قولا صوابا حقا، من الشفاعة لمن ارتضى الله سبحانه وتعالى عنه، والمراد عظمة الحق سبحانه وجلاله، وقيام جبريل والملائكة مصطفين صامتين، والكلام تكرمة لمن يتكلم، لكنه لا يتكلم إلا بالحق والعدل، ومع أن الملائكة مقربون إلى الله لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، إلا أنهم يحشرون مصطفين صامتين، قد حشرهم هول الموقف، وإذا كان هذا حال الملائكة فما هو حال بقية البشر.
اللهم نجنا من هول يوم القيامة، واحشرنا آمنين مطمئنين، واجعلنا ممن قالت فيهم : لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون. ( الأنبياء : ١٠٣ ).
مآبا : مرجعا.
التفسير :
٣٩- ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابا.
أي : ذلك اليوم الذي تقف فيه الملائكة صفّا خاشعين صامتين، هو اليوم الحق، الكائن لا محالة، الذي يحق فيه الحق، وينال فيه كل إنسان جزاءه العادل.
فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابا.
فمن أراد النجاة في ذلك اليوم فليعمل عملا صالحا في مرضاة ربه، ليجد مرجعا كريما عند الله.
الإنذار : الإخبار بالمكروه قبل وقوعه.
المرء : الإنسان، ذكرا كان أو أنثى.
ما قدمت يداه : ما صنعه في حياته الأولى.
يا ليتني كنت ترابا : أي لم أصب حظّا من الحياة.
التفسير :
٤٠- إنّا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا.
الخطاب لكفار مكة ولمنكري البعث، ولكل من يتأتى منه الخطاب، أي : خوّفناهم عذاب يوم القيامة، وهو واقع لا محالة، وكل آت قريب، وفي ذلك اليوم يجد الإنسان أعماله حاضرة أمامه، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
قال تعالى : ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا. ( الكهف : ٤٩ ).
وفي ذلك اليوم يتمنى الكافر أنه لم يخلق ولم يبعث ولم يحاسب ويتمنى أن لو كان ترابا أو حجرا، لما يرى من أهوال القيامة، وشدة عقوبة الكافرين في جهنم.
قال المفسرون : وذلك حين يحشر الله الحيوانات يوم القيامة، فيقتص للجماء من القرناء، وبعد ذلك يصيّرها ترابا، فيتمنى الكافر أن لو كان ترابا حتى لا يعذّب.
***
تم بحمد الله تعالى تفسير سورة ( النبأ )، مساء يوم السبت ٤ من صفر ١٤٢٢، الموافق ٢٨/٤/٢٠٠١.
i في ظلال القرآن، للأستاذ سيد قطب، ٣/٦.
ii يخرج عنق من النار :
روه الترمذي في صفة جهنم ( ٢٥٧٤ ) وأحمد في مسنده ( ٨٢٢٥ ) من حديث أبي هريرة بلفظ :( يخرج عنق من النار يوم اليقامة له عينان يبصر بهما ).
iii تفسير الطبري المجلد ١٢ تفسير سورة النبأ ص ٤٣٤ دار الغد العربي.