تفسير سورة فاطر

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة فاطر من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين
سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
( ٣٥ ) سورة فاطر مكية
وآياتها خمس وأربعون
هذه السورة مكية١

بسم الله الرحمن الرحيم

١ أخرج البخاري، وابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أنزلت سورة فاطر بمكة، قال القرطبي: في قول الجميع. وهي خمس وأربعون آية..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة فاطر
هذه السورة مكية.
قوله عز وجل:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥)
الألف واللام في الْحَمْدُ لاستغراق الجنس على أتم عموم، لأن الْحَمْدُ بالإطلاق على الأفعال الشريفة والكمال هو لله تعالى والشكر مستغرق فيه لأنه فصل من فصوله، وفاطِرِ معناه خالق لكن يزيد في المعنى الانفراد بالابتداء لخلقها، ومنه قول الأعرابي المتخاصم في البئر عند ابن عباس: أنا فطرتها، أراد بدأت حفرها. قال ابن عباس ما كنت أفهم معنى فاطِرِ حتى سمعت قول الأعرابي، وقرأ الجمهور «الحمد لله فطر»، وقرأ جمهور الناس «جاعل» بالخفض، وقرأت فرقة «جاعل» بالرفع على قطع الصفة، وقرأ خليد بن نشيط «جعل» على صيغة الماضي «الملائكة» نصبا، فأما على هذه القراءة الأخيرة فنصب قوله رُسُلًا على المفعول الثاني، وأما على القراءتين المتقدمتين فقيل أراد ب «جاعل» الاستقبال لأن القضاء في الأزل وحذف التنوين تخفيفا وعمل عمل المستقبل في رُسُلًا، وقالت فرقة جاعِلِ بمعنى المضي ورُسُلًا نصب بإضمار فعل، ورُسُلًا معناه بالوحي وغير ذلك من أوامره، فجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل رسل، والملائكة المتعاقبون رسل، والمسددون لحكام العدل رسل وغير ذلك، وقرأ الحسن «رسلا» بسكون السين، وأُولِي جمع واحده ذو، تقول ذو نهية والقوم أولو نهي، وروي عن الحسن أنه قال في تفسير قول مريم إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
[مريم: ١٨] قال علمت مريم أن التقي ذو نهية، وقوله مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ألفاظ معدولة من اثنين وثلاثة وأربعة عدلت في حال التنكير فتعرفت بالعدل، فهي لا تنصرف للعدل والتعريف، وقيل للعدل والصفة، وفائدة العدل الدلالة على التكرار
428
لأن مَثْنى بمنزلة قولك اثنين اثنين، وقال قتادة: إن أنواع الملائكة هي هكذا منها ما له جناحان، ومنها ما له ثلاثة، ومنها ما له أربعة، ويشذ منها ما له أكثر من ذلك، وروي أن لجبريل ستمائة جناح منها اثنان تبلغ من المشرق إلى المغرب، وقالت فرقة المعنى أن في كل جانب من الملك جناحين، ولبعضهم ثلاثة في كل جانب، ولبعضهم أربعة، وإلا فلو كانت ثلاثة لكل واحد لما اعتدلت في معتاد ما رأيناه نحن من الأجنحة، وقيل بل هي ثلاثة لكل واحد كالحوت والله أعلم بذلك، وقوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب عند الخبر بالملائكة أولي الأجنحة، أي ليس هذا يبدع في قدرة الله تعالى فإنه يزيد في خلقه ما يشاء، وروي عن الحسن وابن شهاب أنهما قالا المزيد هو حسن الصوت قال الهيثم الفارسي: رأيت النبي ﷺ في النوم فقال لي: أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيرا، وقيل الزيادة الخط الحسن، وقال النبي عليه السلام: «الخط الحسن يزيد الحق وضوحا»، وقال قتادة الزيادة ملاحة العينين.
قال القاضي أبو محمد: وقيل غير هذا وهذه الإشارة إنما ذكرها من ذكرها على جهة المثال لا أن المقصود هي فقط، وإنما مثل بأشياء هي زيادات خارجة عن الغالب الموجود كثيرا وباقي الآية بين، وقوله ما يَفْتَحِ اللَّهُ ما شرط، ويَفْتَحِ جزم بالشرط، وقوله مِنْ رَحْمَةٍ عام في كل خير يعطيه الله تعالى للعباد جماعتهم وأفذاذهم، وقوله مِنْ بَعْدِهِ فيه حذف مضاف أي من بعد إمساكه، ومن هذه الآية سمت الصوفية ما تعطاه من الأموال والمطاعم وغير ذلك الفتوحات، ومنها كان أبو هريرة يقول مطرنا بنوء الفتح، وقرأ الآية، وقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لقريش وهو متجه لكل كافر، ولا سيما لعباد غير الله، وذكرهم تعالى بنعمة الله عليهم في خلقهم وإيجادهم، ثم استفهمهم على جهة التقرير والتوقيف بقوله هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ أي فليس إله إلا الخالق لا ما تعبدون أنتم من الأصنام، وقرأ حمزة والكسائي «غير» بالخفض نعتا على اللفظ وخبر الابتداء يَرْزُقُكُمْ وهي قراءة أبي جعفر وشقيق وابن وثاب، وقرأ الباقون غير نافع بالرفع، وهي قراءة شيبة بن نصاح وعيسى والحسن بن أبي الحسن، وذلك يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها النعت على الموضع والخبر مضمر تقديره في الوجود أو في العالم وأن يكون «غير» خبر الابتداء الذي هو في المجرور والرفع على الاستثناء، كأنه قال هل خالق إلا الله، فجرت «غير» مجرى الفاعل بعد إِلَّا، وقوله مِنَ السَّماءِ يريد بالمطر ومن الْأَرْضِ يريد بالنبات، وقوله فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ معناه فلأي وجه تصرفون عن الحق، ثم سلى نبيه ﷺ بما سلف من حال الرسل مع الأمم، والْأُمُورُ تعم جميع الموجودات المخلوقات إلى الله مصير جميع ذلك على اختلاف أحوالها، وفي هذا وعيد للكفار ووعد للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم وعظ عز وجل جميع العالم وحذرهم غرور الدنيا بنعيمها وزخرفها الشاغلة عن المعاد الذي له يقول الإنسان: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الفجر: ٢٤] ولا ينفعه ليت يومئذ، وحذر غرور الشيطان، وقوله إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ عبارة عن جميع خبره عز وجل في خير وتنعم أو عذاب أو عقاب، وقرأ جمهور الناس «الغرور» بفتح الغين وهو الشيطان قاله ابن عباس، وقرأ سماك العبدي وأبو حيوة «الغرور» بضم الغين وذلك يحتمل أن يكون جمع غار كجالس وجلوس، ويحتمل أن يكون جمع غر وهو مصدر غره يغره غرا، ويحتمل أن يكون مصدرا وإن كان شاذا
429
في الأفعال المتعدية أن يجيء مصدرها على فعول لكنه قد جاء لزمه لزوما ونهكه المرض نهوكا فهذا مثله وكذلك هو مصدر في قوله فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الأعراف: ٢٢].
قوله عز وجل:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٦ الى ٨]
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨)
قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ الآية، يقوي قراءة من قرأ «الغرور» بفتح الغين، وقوله فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أي بالمباينة والمقاطعة والمخالفة له باتباع الشرع، و «الحزب» الحاشية والصاغية، واللام في قوله لِيَكُونُوا لام الصيرورة لأنه لم يدعهم إلى السعير إنما اتفق أن صار أمرهم عن دعائه إلى ذلك، والسَّعِيرِ طبقة من طبقات جهنم وهي سبع طبقات، وقوله الَّذِينَ كَفَرُوا في موضع رفع بالابتداء وهذا هو الحسن لعطف الَّذِينَ آمَنُوا عليه بعد ذلك فهي جملتان تعادلتا، وجوز بعض الناس في الَّذِينَ أن يكون بدلا من الضمير في «يكونوا» وجوز غيره أن يكون الَّذِينَ في موضع نصب بدلا من حِزْبَهُ وجوز بعضهم أن يكون في موضع خفض بدلا من أَصْحابِ وهذا كله محتمل، غير أن الابتداء أرجح. وقوله تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً توقيف وجوابه محذوف تقديره عند الكسائي تذهب نفسك حسرات عليهم، ويمكن أن يتقدر كمن اهتدى ونحو هذا من التقدير، وأحسنها ما دل اللفظ بعد عليه، وقرأ طلحة «أمن زين» بغير فاء، وهذه الآية تسلية للنبي ﷺ عن كفر قومه، ووجب التسليم لله تعالى في إضلال من شاء وهداية من شاء، وأمر نبيه ﷺ بالإعراض عن أمرهم وأن لا يبخع نفسه أسفا عليهم، وقرأ جمهور الناس «فلا تذهب» بفتح التاء والهاء «نفسك» بالرفع، وقرأ أبو جعفر وقتادة وعيسى والأشهب «تذهب» بضم التاء وكسر الهاء نفسك بالنصب، ورويت عن نافع، و «الحسرة» هم النفس على فوات أمر، واستشهد ابن زيد لذلك بقوله تعالى: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: ٥٦] ثم توعد تعالى الكفرة بقوله إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ.
قوله عز وجل:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠)
هذه آية احتجاج على الكفرة في إنكار البعث من القبور، فدلهم تعالى على المثال الذي يعاينونه وهو
430
سواء مع إحياء الموتى، و «البلد الميت» هو الذي لا نبت فيه قد اغبر من القحط فإذا أصابه الماء من السحاب اخضر وأنبت فتلك حياته، والنُّشُورُ مصدر نشر الميت إذا حيي، ومنه قول الأعشى:
يا عجبا للميت الناشر وقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ يحتمل ثلاثة معان: أحدها أن يريد مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ بمغالبة فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ أي ليست لغيره ولا تتم إلا له وهذا المغالب مغلوب ونحا إليه مجاهد، وقال مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ بعبادة الأوثان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تمسك بقوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مريم: ٨١] والمعنى الثاني مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ وطريقها القويم ويحب نيلها على وجهها فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ أي به وعن أوامره لا تنال عزته إلا بطاعته، ونحا إليه قتادة. والمعنى الثالث وقاله الفراء مَنْ كانَ يُرِيدُ علم الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ أي هو المتصف بها، وجَمِيعاً حال، وقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ أي التوحيد والتمجيد وذكر الله ونحوه، وقرأ الضحاك «إليه يصعد» بضم الياء، وقرأ جمهور الناس «الكلم» وهو جمع كلمة، وقرأ أبو عبد الرحمن «الكلام»، والطَّيِّبُ الذي يستحسن سماعه الاستحسان الشرعي، وقال كعب الأحبار: إن لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لدويا حول العرش كدوي النحل تذكر بصاحبها، وقوله تعالى: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ اختلف الناس في الضمير في يَرْفَعُهُ على من يعود، فقالت فرقة يعود على الْعَمَلُ، واختلفت هذه الفرقة فقال قوم الفاعل ب «يرفع» هو الْكَلِمُ أي والعمل يرفعه الكلم وهو قول لا إله إلا الله لأنه لا يرتفع عمل إلا بتوحيد، وقال بعضهم الفعل مسند إلى الله تعالى أي «والعمل الصالح يرفعه هو».
قال القاضي أبو محمد: وهذا أرجح الأقوال، وقال ابن عباس وشهر بن حوشب ومجاهد وقتادة الضمير في يَرْفَعُهُ عائد على الْكَلِمُ أي أن العمل الصالح هو يرفع الكلم.
قال القاضي أبو محمد: واختلفت عبارات أهل هذه المقالة فقال بعضها وروي عن ابن عباس أن العبد إذا ذكر الله وقال كلاما طيبا وأدى فرائضه ارتفع قوله مع عمله، وإذا قال ولم يؤد فرائضه رد قوله على عمله، وقيل عمله أولى به.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يرده معتقد أهل الحق والسنة ولا يصح عن ابن عباس، والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله تعالى وقال كلاما طيبا فإنه مكتوب له متقبل منه وله حسناته وعليه سيئاته، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك، وأيضا فإن الْكَلِمُ الطَّيِّبُ عمل صالح وإنما يستقيم قول من يقول إن العمل هو الرافع ل الْكَلِمُ بأن يتأول أنه يزيد في رفعه وحسن موقعه إذا تعاضد معه، كما أن صاحب الأعمال من صلاة وصيام وغير ذلك إذا تخلل أعماله كلم طيب وذكر لله كانت الأعمال، أشرف.
قال القاضي أبو محمد: فيكون قوله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ موعظة وتذكرة وحضا على الأعمال، وذكر الثعلبي أن النبي ﷺ قال: «لا يقبل الله قولا إلا بعمل ولا عمل إلا بنية»، ومعناه قولا
431
يتضمن أن قائله عمل عملا أو يعمله في الأنف، وأما الأقوال التي هي أعمال في نفوسها كالتوحيد والتسبيح فمقبولة على ما قدمناه، وقرأت فرقة «والعمل» بالنصب «الصالح» على النعت وعلى هذه القراءة ف يَرْفَعُهُ مستند إما إلى الله تعالى وإما إلى الْكَلِمُ، والضمير في يَرْفَعُهُ عائد على الْعَمَلُ لا غير، وقوله يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ إما أنه عدى يَمْكُرُونَ لما أحله محل يكسبون، وإما أنه حذف المفعول وأقام صفته مقامه تقديره يمكرون المكرات السيئات، ويَمْكُرُونَ معناه يتخابثون ويخدعون وهم يظهرون أنهم لا يفعلون، ويَبُورُ معناه يفسد ويبقى لا نفع فيه، وقال بعض المفسرين يدخل في الآية أهل الربا.
قال القاضي أبو محمد: ونزول الآية أولا في المشركين.
قوله عز وجل:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١١]
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١)
هذه آية تذكير بصفات الله تعالى على نحو ما تقدم، وهذه المحاورة إنما هي في أمر الأصنام وفي بعث الأجساد من القبور، وقال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ من حيث خلق آدم أبانا منه، وقوله ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي بالتناسل من مني الرجال، وأَزْواجاً قيل معناه أنواعا، وقيل أراد تزويج الرجال النساء، وقوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ اختلف الناس في عود الضمير في قوله مِنْ عُمُرِهِ، فقال ابن عباس وغيره ما مقتضاه أنه عائد على مُعَمَّرٍ الذي هو اسم جنس والمراد غير الذي يعمر، أي أن القول يتضمن شخصين يعمر أحدهما مائة سنة أو نحوها وينقص من عمر الآخر بأن يكون عاما واحدا أو نحوه، وهذا قول الضحاك وابن زيد لكنه أعاد ضميرا إيجازا واختصارا، والبيان التام أن تقول ولا ينقص من عمر معمر لأن لفظة مُعَمَّرٍ هي بمنزلة ذي عمر.
قال القاضي أبو محمد: كأنه قال «ولا يعمر من ذي عمر ولا ينقص من عمر ذي عمر»، وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وابن جبير المراد شخص واحد وعليه يعود الضمير أي ما يعمر إنسان ولا ينقص من عمره بأن يحصي ما مضى منه إذا مر حول كتب ذلك، ثم حول، ثم حول، فهذا هو النقص، قال ابن جبير ما مضى من عمره فهو النقص وما يستقبل فهو الذي يعمر، وروي عن كعب الأحبار أنه قال المعنى وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ أي لا يخرم بسبب قدرة الله، ولو شاء لأخر ذلك السبب.
قال القاضي أبو محمد: وروي أنه قال: حين طعن عمر لو دعا الله تعالى لزاد في أجله، فأنكر عليه المسلمون ذلك وقالوا: إن الله تعالى يقول فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً [الأعراف: ٣٤، النحل: ٦١] فاحتج بهذه الآية وهو قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين، وبنحوه تمسكت المعتزلة، وقرأ الحسن والأعرج وابن سيرين «ينقض» على بناء الفعل للفاعل أي ينقص الله، وقرأ «من عمره» بسكون الميم الحسن وداود، و «الكتاب» المذكور في الآية اللوح المحفوظ، وقوله إِنَّ ذلِكَ إشارة إلى تحصيل هذه الأعمال وإحصاء دقائقها وساعاتها.
قوله عز وجل:
[سورة فاطر (٣٥) : آية ١٢]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)
هذه آية أخرى يستدل بها كل عاقل ويقطع أنها مما لا مدخل لصنم فيه، والْبَحْرانِ يريد بهما جميع الماء الملح وجميع الماء العذب حيث كان، فهو يعني به جملة هذا وجملة هذا، و «الفرات» الشديد العذوبة، و «الأجاج» الشديد الملوحة الذي يميل إلى المرارة من ملوحته، قال الرماني هو من أججت النار كأنه يحرق من حرارته، وقرأ عيسى الثقفي «سيّغ شرابه» بغير ألف وبشد الياء، وقرأ طلحة «ملح» بفتح الميم وكسر اللام، و «اللحم الطري» الحوت وهو موجود في البحرين، وكذلك الْفُلْكَ تجري في البحرين، وبقيت «الحلية» وهي اللؤلؤ والمرجان، فقال الزجاج وغيره هذه عبارة تقتضي أن الحلية تخرج منهما، وهي إنما تخرج من الملح وذلك تجوز كما قال في آية أخرى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: ٢٢]، وكما قال امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
[الأنعام: ١٢٨]، والرسل إنما هي من الإنس، وقال بعض الناس بل الحلية تخرج من البحرين، وذلك أن صدف اللؤلؤ إنما يلحقه فيما يزعمون ماء النيسان، فمنه ما يخرج ويوجد الجوهر فيه، ومنه ما ينشق في البحر عند موته وتقطعه، فيخرج جوهره بالعطش وغير ذلك من الحيل، فهذا هو من الماء الفرات، فنسب إليه الإخراج لما كان من الحلية بسبب، وأيضا فإن المرجان يزعم طلابه في البحر أنه إنما يوجد وينبت في موضع بإزائها انصباب ماء أنهار في البحر وأيضا فإن البحر الفرات كله ينصب في البحر الأجاج فيجيء الإخراج منهما جميعا.
قال القاضي أبو محمد: وقد خطىء أبو ذؤيب في قوله في صفة الجوهر: [الطويل]
فجاء بها ما شئت من لطمية وجهها ماء الفرات يموج
وليس ذلك بخطإ على ما ذكرنا من تأويل هذه الفرقة، والْفُلْكَ في هذا الموضع جمع بدليل صفته بجمع، ومَواخِرَ جمع ماخرة وهي التي تمخر الماء أي تشقه، وقيل الماخرة التي تشق الريح، وحينئذ يحدث الصوت، والمخر الصوت الذي يحدث من جري السفينة بالريح، وعبر المفسرون عن هذا بعبارات لا تختص باللفظة، فقال بعضهم «المواخر» التي تجيء وتذهب بريح واحدة، وقال مجاهد الريح تمخر السفن ولا تمخر الريح من السفن إلا الفلك العظام.
قال القاضي أبو محمد: هكذا وقع لفظه في البخاري، والصواب أن تكون الْفُلْكَ هي الماخرة لا الممخورة وقوله تعالى: لِتَبْتَغُوا يريد بالتجارات والحج والغزو وكل سفر له وجه شرعي.
قوله عز وجل:

[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٣ الى ١٤]

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)
يُولِجُ معناه يدخل، وهذه عبارة عن أن ما نقص من اللَّيْلَ زاد فِي النَّهارِ، فكأنه دخل فيه، وكذلك ما نقص من النَّهارِ يدخل فِي اللَّيْلِ والألف واللام في الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ هي للعهد، وقيل هي زائدة لا معنى لها ولا تعريف وهذا أصوب، و «الأجل المسمى» هو قيام الساعة، وقيل آماد الليل وآماد النهار، ف «أجل» على هذا اسم جنس، وقرأ جمهور الناس «تدعون» بالتاء، وقرأ الحسن ويعقوب «يدعون» بالياء من تحت، و «القطمير» القشرة الرقيقة التي على نوى التمرة هذا قول الناس الحجة، وقال جوبير عن رجاله «القطمير» القمع الذي في رأس التمرة، وقاله الضحاك والأول أشهر وأصوب، ثم بين تعالى أمر الأصنام بثلاثة أشياء كلها تعطي بطلانها: أولها أنها لا تسمع إن دعيت، والثاني أنها لا تجيب أن لو سمعت وإنما جاء بهذه لأن لقائل متعسف أن يقول عساها تسمع، والثالث أنها تتبرأ يوم القيامة من الكفار، ويكفرون بشركهم أي بأن جعلوهم شركاء لله فأضاف الشرك إليهم من حيث هم قرروه، فهو مصدر مضاف إلى الفاعل، وقوله يَكْفُرُونَ يحتمل أن يكون بكلام، وعبارة يقدر الله الأصنام عليها ويخلق لها إدراكا يقتضيها، ويحتمل أن يكون بما يظهر هناك من جمودها وبطولها عند حركة كل ناطق ومدافعة كل محتج فيجيء هذا على طريق التجوز كما قال ذو الرمة: [الطويل]
وقفت على ربع لمية ناطق يخاطبني آثاره وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه
وهذا كثير، وقوله وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ قال المفسرون قتادة وغيره «الخبير» هنا أراد به تعالى نفسه فهو الخبير الصادق الخبر نبأ بهذا فلا شك في وقوعه، ويحتمل أن يكون قوله وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ من تمام ذكر الأصنام، كأنه قال: ولا يخبرك مثل من يخبر عن نفسه أي لا أصدق في تبريها من شرككم منها فيريد بالخبير على هذا المثل له، كأنه قال وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ عن نفسه وهي قد أخبرت عن نفسها بالكفر بهؤلاء.
قوله عز وجل:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٥ الى ١٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (١٨)
هذه آية موعظة وتذكير، والإنسان فقير إلى الله تعالى في دقائق الأمور وجلائلها لا يستغني عنه طرفة
عين، وهو به مستغن عن كل واحد، والله تعالى غني عن الناس وعن كل شيء من مخلوقاته غني على الإطلاق، والْحَمِيدُ المحمود بالإطلاق، وقوله تعالى بِعَزِيزٍ أي بممتنع، وتَزِرُ معناه تحمل، والوزر الثقل، وهذه الآية في الذنوب والآثام والجرائم، قاله قتادة وابن عباس ومجاهد، وسببها أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد وعلي وزركم، فحكم الله تعالى بأنه لا يحملها أحد عن أحد، ومن تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة كفعل زيادة ونحوه فإنما ذلك لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة ومواصلة أو اطلاع على حاله وتقرير لها، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب، وهذا هو المعنى في قوله تعالى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: ١٣] لأنهم أغووهم، وهو معنى قوله ﷺ «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة بعده، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده»، وأنثت وازِرَةٌ لأنه ذهب بها مذهب النفس وعلى ذلك أجريت مُثْقَلَةٌ، و «الحمل» ما كان على الظهر في الأجرام، ويستعار للمعاني كالذنوب ونحوها، فيجعل كل محمول متصلا بالظهر، كما يجعل كل اكتساب منسوبا إلى اليد، واسم كانَ مضمر تقديره ولو كان الداعي، ثم أخبر تعالى نبيه ﷺ أنه إنما ينذر أهل الخشية وهم الذين يمنحون العلم، أي إنما ينتفع بالإنذار هم وإلا فلنذارة جميع العالم بعثه، وقوله بِالْغَيْبِ أي وهو بحال غيبة عنهم إنما هي رسالة، ثم خصص من الأعمال إقامة الصلاة تنبيها عليها وتشريفا لها، ثم حض على التزكي بأن رجى عليه غاية الترجية، وقرأ طلحة «ومن أزكى فإنما يزكي»، ثم توعد بعد ذلك بقوله وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ.
قال القاضي أبو محمد: وكل عبارة مقصرة عن تبيين فصاحة هذه الآية، وكذلك كتاب الله كله، ولكن يظهر الأمر لنا نحن في مواضع أكثر منه في مواضع بحسب تقصيرنا.
قوله عز وجل:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ١٩ الى ٢٦]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦)
مضمن هذه الآية طعن على الكفرة وتمثيل لهم بالعمى والظلمات وتمثيل المؤمنين بآرائهم بالبصراء والأنوار، وقوله وَلَا النُّورُ ودخول لَا فيها وفيما بعدها إنما هو على نية التكرار كأنه قال وَلَا الظُّلُماتُ والنور، وَلَا النُّورُ ولا الظلمات، فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودل مذكور الآية على متروكه، والْحَرُورُ شدة حر الشمس، وقال رؤبة بن العجاج الْحَرُورُ بالليل والسموم بالنهار، وليس
كما قال وإنما الأمر كما حكى الفراء وغيره أن السموم يختص بالنهار والْحَرُورُ يقال في حر الليل وفي حر النهار، وتأول قوم الظِّلُّ في هذه الآية الجنة، والْحَرُورُ جهنم، وشبه المؤمنين ب الْأَحْياءُ والكفرة ب الْأَمْواتُ من حيث لا يفهمون الذكر ولا يقبلون عليه، ثم رد الأمر إلى مشيئة الله تعالى بقوله إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، وقوله وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ تمثيل بما يحسه البشر ويعهده جميعنا من أن الميت الذي في القبر لا يسمع، وأما الأرواح فلا نقول إنها في القبر بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش وفي قناديل وغير ذلك، وأن أرواح الكفرة في سجين ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور فربما سمعت وكذلك أهل قليب بدر إنما سمعت أرواحهم، وكذلك سماع الميت خفق النعال إنما هو برد روحه عليه عند لقاء الملكين.
قال القاضي أبو محمد: فهذه الآية لا تعارض حديث القليب لأن الله تعالى رد على أولئك أرواحهم في القليب ليوبخهم، وهذا على قول عمر وابنه عبد الله وهو الصحيح إن رسول الله ﷺ قال «ما أنتم بأسمع منهم»، وأما عائشة فمذهبها أن رسول الله ﷺ لم يسمعهم وأنه إنما قصد توبيخ الأحياء من الكفرة، وجعلت هذه الآية أصلا واحتجت بها، فمثل الله تعالى في هذه الآية الكفرة بالأشخاص التي في القبور، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «بمسمع من» على الإضافة، ثم سلاه بقوله إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ليس عليك غير ذلك، والهداية والإضلال إلى الله تعالى، وبَشِيراً معناه بالنعيم الدائم لمن آمن، وَنَذِيراً معناه بالعذاب الأليم لمن كفر، وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ معناه أن دعوة الله تعالى قد عمت جميع الخلق، وإن كان فيهم من لم تباشره النذارة فهو ممن بلغته لأن آدم بعث إلى بنيه ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم، والآيات التي تتضمن أن قريشا لم يأتهم نذير، معناه نذير مباشر، وما ذكره المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم فإنما ذلك بالفرض لا أنه توجد أمة لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله، ثم سلى نبيه بما سلف من الأمم لأنبيائهم، و «البينات والزبر والكتاب المنير» شيء واحد، لكنه أكد أوصافه بعضها ببعض وذكره بجهاته و «الزبر» من زبرت الكتاب إذا كتبته، ثم توعد قريشا بذكره أخذ الأمم الكافرة.
قوله عز وجل:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨)
الرؤية في قوله أَلَمْ تَرَ رؤية القلب، وكل توقيف في القرآن على رؤية فهي رؤية القلب، لأن الحجة بها تقوم، لكن رؤية القلب لا تتركب البتة إلا على حاسة، فأحيانا تكون الحاسة البصر وقد تكون غيره، وهذا يعرف بحسب الشيء المتكلم فيه، وأَنَّ سادت مسد المفعولين الذين للرؤية، هذا مذهب سيبويه لأن أَنَّ جملة مع ما دخلت عليه، ولا يلزم ذلك في قولك رأيت وظننت ذلك، لأن قولك ذلك
436
ليس بجملة كما هي أَنَّ ومذهب الزجاج أن المفعول الثاني محذوف تقديره أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً حقا، ورجع من خطاب بذكر الغائب إلى المتكلم بنون العظمة لأنها أهيب في العبارة، وقوله أَلْوانُها يحتمل أن يريد الحمرة والصفرة والبياض والسواد وغير ذلك، ويؤيد هذا اطراد ذكر هذه الألوان فيما بعد، ويحتمل أن يريد بالألوان الأنواع، والمعتبر فيه على هذا التأويل أكثر عددا، وجُدَدٌ جمع جدة، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل كالقطعة العظيمة المتصلة طولا، ومنه قول امرئ القيس:
[الطويل]
كأنّ سراته وحدّة متنه كنائن يحوي فوقهن دليص
وحكى أبو عبيدة في بعض كتبه أنه يقال جُدَدٌ في جمع جديد، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية، وقرأ الزهري «جدد» بفتح الجيم، وقوله وَغَرابِيبُ سُودٌ لفظان لمعنى واحد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبغض الشيخ الغربيب»، يعني الذي يخضب بالسواد، وقدم الوصف الأبلغ، وكان حقه أن يتأخر وكذلك هو في المعنى، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيرا على هذا النحو، وقوله مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ قبله محذوف إليه يعود الضمير تقديره وَالْأَنْعامِ خلق مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، وَالدَّوَابِّ يعم الناس والأنعام لكن ذكرا تنبيها منهما، وقوله كَذلِكَ يحتمل أن يكون من الكلام الأول فيجيء الوقف عليه حسنا، وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين، ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب كأنه قال كما جاءت القدرة في هذا كله، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ أي المحصلون لهذه العبرة الناظرون فيها.
قال القاضي أبو محمد: وقال بعض المفسرين الخشية رأس العلم، وهذه عبارة وعظية لا تثبت عند النقد، بل الصحيح المطرد أن يقال العلم رأس الخشية، وسببها والذي ورد عن النبي ﷺ أنه قال «خشية الله رأس كل حكمة»، وقال صلى الله عليه وسلم: «رأس الحكمة مخافة الله»، فهذا هو الكلام المنير، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية كفى بالزهد علما، وقال مسروق وكفى بالمرء علما أن يخشى الله، وقال تعالى: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى [الأعلى: ١] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعلمكم بالله أشدكم له خشية»، وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم، ويقال إن فاتحة الزبور رأس الحكمة خشية الله. وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله علما وبالاغترار، به جهلا، وقال مجاهد والشعبي:
إنما العالم من يخشى الله، وإنما في هذه الآية تخصيص الْعُلَماءُ لا للحصر، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضا دونه، وإنما يعلم ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه، فإذا قلت إنما الشجاع عنترة، وإذا قلت إنما الله إله واحد، بان لك الفرق فتأمله، وهذه الآية بجملتها دليل على الوحدانية والقدرة والقصد بها إقامة الحجة على كفار قريش.
قوله عز وجل:
437

[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٢٩ الى ٣١]

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١)
قال مطرف بن عبد الله بن الشخير هذه آية القراء وهذا على أن يَتْلُونَ بمعنى يقرؤون وإن جعلناها بمعنى يتبعون صح معنى الآية، وكانت في القراء وغيرهم ممن اتصف بأوصاف الآية، وكِتابَ اللَّهِ هو القرآن، وإقامة الصلاة إقامتها بجميع شروطها، والنفقة هي في الصدقات ووجوه البر، فالسر من ذلك هو التطوع والعلانية هو المفروض، ويَرْجُونَ جملة في موضع خبر إِنَّ، وتَبُورَ معناه تكسد ويتعذر ربحها، ويقال تعوذوا بالله من بوار الأيم، واللام في قوله لِيُوَفِّيَهُمْ متعلقة بفعل مضمر يقتضيه لفظ الآية تقديره وعدهم بأن لا تبور، أو فعلوا ذلك كله، أو أطاعوه ونحو هذا من التقديرات، وقوله وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قالت فرقة: هو تضعيف الحسنات من العشر إلى السبعمائة، وتوفية الأجور على هذا هي المجازاة مقابلة، وقالت فرقة: إن التضعيف داخل في توفية الأجور، وأما الزيادة من فضله إما النظر إلى وجهه تعالى، وإما أن يجعلهم شافعين في غيرهم، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: ٢٦] وغَفُورٌ معناه متجاوز عن الذنوب ساتر لها، وشَكُورٌ معناه مجاز عن اليسير من الطاعات مقرب لعبده، ثم ثبت تعالى أمر نبيه ﷺ بقوله: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ الآية، ومُصَدِّقاً حال مؤكدة، والذي بين يدي القرآن هو التوراة والإنجيل، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ، وعيد.
قوله عز وجل:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤)
أَوْرَثْنَا معناه أعطيناه فرقة بعد موت فرق، والميراث حقيقة أو مجازا إنما يقال فيما صار لإنسان بعد موت آخر، والْكِتابَ هنا يريد به معاني الكتاب وعلمه وأحكامه وعقائده، فكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد ﷺ القرآن وهو قد تضمن لمعاني الكتب المنزلة، قبله، فكأنه ورث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها، والَّذِينَ اصْطَفَيْنا يريد بهم أمة محمد ﷺ قاله ابن عباس وغيره، وكأن اللفظ يحتمل أن يريد به جميع المؤمنين من كل أمة إلا أن عبارة توريث الكتاب لم تكن إلا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والأول لم يورثوه، واصْطَفَيْنا معناه اخترنا وفضلنا، و «العباد» عام في جميع العالم، مؤمنهم وكافرهم، واختلف الناس في عود الضمير من قوله فَمِنْهُمْ فقال
438
ابن عباس وابن مسعود ما مقتضاه إن الضمير عائد على الَّذِينَ والأصناف الثلاثة هي كلها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ف «الظالم لنفسه» العاصي المسرف، و «المقتصد» متقي الكبائر والجمهور من الأمة، و «السابق» المتقي على الإطلاق، وقالت هذه الفرقة والأصناف الثلاثة في الجنة وقاله أبو سعيد الخدري، والضمير في يَدْخُلُونَها عائد على الأصناف الثلاثة، قالت عائشة: دخلوا الجنة كلهم، وقال كعب الأحبار: استوت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم، وفي رواية تحاكت مناكبهم، وقال أبو إسحاق السبيعي: أما الذي سمعت مذ ستين سنة فكلهم ناج، وقال عبد الله بن مسعود: هذه الأمة يوم القيامة أثلاث، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا، ثم يدخلون الجنة، وثلث يجيئون بذنوب عظام فيقول الله ما هؤلاء وهو أعلم بهم فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا فيقول الله عز وجل: أدخلوهم في سعة رحمتي، وقالت عائشة في كتاب الثعلبي: «السابق» من أسلم قبل الهجرة، و «المقتصد» من أسلم بعدها، و «الظالم» نحن، وقال الحسن: «السابق» من رجحت حسناته، و «المقتصد» من استوت سيئاته، و «الظالم» من خفت موازينه، وقال سهل بن عبد الله: «السابق» العالم، و «المقتصد»، المتعلم، و «الظالم» الجاهل، وقال ذو النون المصري: «الظالم» الذاكر لله بلسانه فقط و «المقتصد» الذاكر بقلبه و «السابق» الذي لا ينساه، وقال الأنطاكي: «الظالم» صاحب الأقوال، و «المقتصد» صاحب الأفعال، و «السابق» صاحب الأحوال، وروى أسامة بن زيد أن النبي ﷺ قرأ هذه الآية وقال: كلهم في الجنة، وقرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له»، وقال صلى الله عليه وسلم: أنا سابق العرب وسلمان سابق فارس وصهيب سابق الروم وبلال سابق الحبشة».
قال القاضي أبو محمد: أراد ﷺ أن هؤلاء رؤوس السابقين، وقال عثمان بن عفان:
سابقنا أهل جهادنا ومقتصدنا أهل حضرنا وظالمنا أهل بدونا، لا يشهدون جماعة ولا جمعة، وقال عكرمة والحسن وقتادة ما مقتضاه أن الضمير في مِنْهُمْ عائد على العباد و «الظالم لنفسه» الكافر والمنافق و «المقتصد» المؤمن العاصي و «السابق» التقي على الإطلاق، وقالوا وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة الواقعة وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة: ١٢] والضمير في قوله يَدْخُلُونَها على هذا القول خاص على الفريقين المقتصد والسابق والفرقة الظالمة في النار قالوا وبعيد أن يكون ممن يصطفى ظالم كما يقتضي التأويل الأول، وروي هذا القول عن ابن عباس، وقال بعض العلماء قدم الظالم لأنه لا يتكل إلا على رحمة الله والمقتصد هو المعتدل في أموره لا يسرف في جهة من الجهات بل يلزم الوسط، وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الأمور أوساطها»، وقالت فرقة لا معنى لقولها إن قوله تعالى:
الَّذِينَ اصْطَفَيْنا هم الأنبياء والظالم منهم لنفسه من وقع في صغيرة.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول مردود من غير ما وجه، وقرأ جمهور الناس «سابق بالخيرات»، وقرأ أبو عمرو الجوني «سباق بالخيرات»، وبِإِذْنِ اللَّهِ معناه بأمره ومشيئته فيمن أحب من عباده، وقوله تعالى: ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ إشارة إلى الاصطفاء وما يكون عنه من الرحمة، وقال الطبري:
439
السبق بالخيرات هو الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، قال في كتاب الثعلبي جمعهم في دخول الجنة لأنه ميراث، والبار والعاق سواء في الميراث مع صحة النسب، فكذلك هؤلاء مع صحة الإيمان، وقرأ جمهور الناس «جنات» بالرفع على البدل من الْفَضْلُ وقرأ الجحدري «جنات» بالنصب بفعل مضمر يفسره يَدْخُلُونَها وقرأ زر بن حبيش «جنة عدن» على الإفراد، وقرأ أبو عمرو وحده «يدخلونها» بضم الياء وفتح الخاء، ورويت عن ابن كثير، وقرأ الباقون «يدخلونها» بفتح الياء وضم الخاء، وأَساوِرَ جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، ويقال سوار بضم السين، وفي حرف أبي أساوير، وهو جمع أسوار وقد يقال ذلك في الحلي، ومشهور أسوار أنه الجيد الرمي من جند الفرس، ويحلون معناه رجالا ونساء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ونافع «ولؤلؤا» بالنصب عطفا على أَساوِرَ، وكان عاصم في رواية أبي بكر يقرأ و «لولؤا» بسكون الواو الأولى دون همز، وبهمز الثانية، وروي عنه ضد هذا همز الأولى، ولا يهمز الثانية، وقرأ الباقون «لؤلؤ» بالهمز وبالخفض عطفا على أَساوِرَ، والْحَزَنَ في هذه الآية عام في جميع أنواع الأحزان، وخصص المفسرون في هذا الموضع فقال أبو الدرداء: حزن أهوال القيامة وما يصيب هناك من ظلم نفسه من الغم والحزن، وقال ابن عباس: حزن جهنم، وقال عطية: حزن الموت، وقال شهر: حزن معيشة الدنيا الخبز ونحوه، وقال قتادة: حزن الدنيا في الخوف أن تتقبل أعمالهم، وقيل غير هذا مما هو جزء من الحزن.
قال القاضي أبو محمد: ولا معنى لتخصيص شيء من هذه الأحزان، لأن الحزن أجمع قد ذهب عنهم، وقولهم لَغَفُورٌ شَكُورٌ وصفوه تعالى بأنه يغفر الذنوب ويجازي على القليل من الأعمال الصالحة بالكثير من الثواب، وهذا هو شكره لا رب سواه.
قوله عز وجل:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)
الْمُقامَةِ الإقامة، وهو من أقام، و «المقامة» بفتح الميم القيام وهو من قام، ودارَ الْمُقامَةِ الجنة، و «النصب» تعب البدن، و «اللغوب» تعب النفس اللازم عن تعب البدن، وقال قتادة «اللغوب» الوجع، وقرأ الجمهور «لغوب» بضم اللام، وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي «لغوب» بفتح اللام أي شيء يعيينا، ويحتمل أن يكون مصدرا كالولوع والوضوء، ثم أخبر عن حال الَّذِينَ كَفَرُوا معادلا بذلك الإخبار قبل عن الذين اصطفى، وهذا يؤيد تأويل من قال إن الأصناف الثلاثة هي كلها في الجنة لأن ذكر الكافرين إنما جاء هاهنا، وقوله لا يُقْضى معناه لا يجهز لأنهم لو ماتوا لبطلت حواسهم فاستراحوا، وقرأ الحسن البصري والثقفي «فيموتون» ووجهها العطف على يُقْضى وهي قراءة ضعيفة، وقوله لا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها
لا يعارضه قوله كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء: ٩٧] لأن المعنى لا يخفف عنهم نوع عذابهم والنوع في نفسه يدخله أن يخبو أو يسعر ونحو ذلك، وقرأ جمهور القراء، «نجزي» بنصب «كلّ» وبالنون في «نجزي»، وقرأ أبو عمرو ونافع «يجزى» بضم الياء على بناء الفعل للمفعول «كلّ كفور» برفع «كلّ»، ويَصْطَرِخُونَ يفتعلون من الصراخ أصله يصترخون فأبدلت التاء طاء لقرب مخرج الطاء من الصاد، وفي الكلام محذوف تقديره يقولون رَبَّنا وطلبوا الرجوع إلى الدنيا في مقالتهم هذه فالتقدير فيقال لهم أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ على جهة التوقيف والتوبيخ، وما في قوله ما يَتَذَكَّرُ ظرفية، واختلف الناس في المدة التي هي حد للتذكير، فقال الحسن بن أبي الحسن: البلوغ، يريد أنه أول حال التذكر، وقال قتادة: ثمان عشرة سنة، وقالت فرقة: عشرون سنة، وحكى الزجاج: سبع عشرة سنة، وقال ابن عباس: أربعون سنة، وهذا قول حسن، ورويت فيه آثار، وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب مسح الشيطان على وجهه وقال بابي وجه لا يفلح، وقال مسروق بن الأجدع: من بلغ أربعين سنة فليأخذ حذره من الله ومنه قول الشاعر: [الطويل]
إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكن له دون ما يأتي حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى وإن جر أسباب الحياة له العمر
وقد قال قوم: الحد خمسون سنة وقد قال الشاعر: [الوافر]
أخو الخمسين مجتمع أشدي ونجدني مداومة الشؤون
وقال الآخر: [الطويل]
وإن أمرأ قد سار خمسين حجة إلى منهل من ورده لقريب
وقال ابن عباس أيضا وغيره: الحد في ذلك ستون وهي من الأعذار، وهذا أيضا قول حسن متجه، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين» وهو العمر الذي قال الله فيه ما يتذكر فيه من تذكر، وقال صلى الله عليه وسلم: «عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر»، وقرأ جمهور الناس «ما يتذكر فيه من تذكر»، وقرأ الأعمش «ما يذكر فيه من أذكر»، والنَّذِيرُ في قول الجمهور الأنبياء وكل نبي نذير أمته ومعاصره، ومحمد ﷺ نذير العالم في غابر الزمان، وقال الطبري وقيل النَّذِيرُ الشيب وهذا قول حسن، إلا أن الحجة إنما تقوم بالنذارة الشرعية وباقي الآية بين.
قوله عز وجل:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١)
441
هذا ابتداء تذكير بالله تعالى ودلالة على وحدانيته وصفاته التي لا تنبغي الألوهية إلا معها، و «الغيب»، ما غاب عن البشر و «ذات الصدور» ما فيها من المعتقدات والمعاني ومنه قول أبي بكر: ذو بطن بنت خارجة، ومنه قول العرب: الذيب مغبوط بذي بطنه، أي بالنفخ الذي فيه فمن يراه يظنه شابعا قريب عهد بأكل، وخَلائِفَ جمع خليفة كسفينة وسفائن ومدينة ومدائن، وقوله فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ فيه حذف مضاف تقديره «فعليه وبال كفره وضرر كفره»، و «المقت» احتقارك الإنسان من أجل معصيته أو ذنبه الذي يأتيه فإذا احتقرت تعسفا منك فلا يسمى ذلك مقتا، و «الخسار» مصدر من خسر يخسر أي خسروا آخرتهم ومعادهم بأن صاروا إلى النار والعذاب، وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الآية احتجاج على الكفار في بطلان أمر أصنامهم، وقفهم النبي ﷺ بأمر ربه على أصنامهم وطلب منهم أن يعرضوا عليه الشيء الذي خلقته آلهتهم لتقوم حجتهم التي يزعمونها، ثم وقفهم مع اتضاح عجزهم عن خلق شيء على السماوات هل لهم فيها شرك وظاهر أيضا، بعد هذا ثم وقفهم هل عندهم كتاب من الله تعالى ليبين لهم فيه ما قالوه، أي ليس ذلك كله عندهم، ثم أضرب بعد هذا الجحد المقدر فقال: بل إنما يعدون أنفسهم غرورا، وأَ رَأَيْتُمْ يتنزل عند سيبويه منزلة أخبروني، ولذلك لا تحتاج إلى مفعولين، وأضاف الشركاء إليهم من حيث جعلوهم شركاء الله، أي ليس للأصنام شركة بوجه إلا بقولكم فالواجب إضافتها إليكم، وتَدْعُونَ معناه تعبدون، والرؤية في قوله أَرُونِي رؤية بصر، و «الشرك» الشركة مصدر أيضا، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم «بينات» بالجمع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والأعمش وابن وثاب ونافع بخلاف عنه «بينة» بالإفراد والمراد به الجمع، ويحتمل أن يراد به الإفراد كما تقول: أنا من هذا الأمر على واضحة أو على جلية، و «الغرور» الذي كانوا يتعاطونه قولهم إن الأصنام تقرب من الله زلفى ونحوه مما يغبطهم، ولما ذكر تعالى ما يبين فساد أمر الأصنام وقف على الحجة على بطلانها عقب ذلك بذكر عظمته وقدرته ليبين الشيء بضده، وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله تعالى، فأخبر عن إمساكه السماوات والأرض بالقدرة، وقوله أَنْ تَزُولا معناه كراهة أَنْ تَزُولا، ومعنى الزوال هنا التنقل من مكانها والسقوط من علوها، وقال بعض المفسرين معناه أَنْ تَزُولا عن الدوران، ويظهر من قول عبد الله بن مسعود أن السماء لا تدور وإنما تجري فيها الكواكب وذلك أن الطبري أسند أن جندبا الجبلي رحل إلى كعب الأحباري ثم رجع فقال له عبد الله بن مسعود: حدثنا ما حدثك، فقال: حدثني أن السماء في قطب كقطب الرحا، والقطب عمود على منكب ملك، فقال له عبد الله بن مسعود: لوددت أنك افتديت رحلته بمثل راحلتك ورحلك، ثم قال: ما تمكنت اليهودية في قلب عبد فكادت أن تفارقه، ثم قال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وكفى بها زوالا أن تدور، ولو دارت لكانت قد زالت، وقوله
442
وَلَئِنْ زالَتا قيل أراد يوم القيامة عند طي السماء ونسف الجبال، فكأنه قال ولئن جاء وقت زوالهما، وقيل بل ذلك على جهة التوهم والفرض، ولئن فرضنا زوالهما فكأنه قال ولو زالتا، وقال بعضهم لَئِنْ في هذا الموضع بمعنى لو.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قريب من الذي قبله، وقرأ ابن أبي عبلة «ولو زالتا» وقوله مِنْ بَعْدِهِ فيه حذف مضاف تقديره من بعد تركه الإمساك، وقالت فرقة: اتصافه بالحلم والغفران في هذه الآية إنما هو إشارة إلى أن السماء كادت تزول والأرض كذلك لإشراك الكفرة فيمسكهما الله حلما منه عن المشركين وتربصا ليغفر لمن آمن منهم، كما قال في آية أخرى تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ [مريم: ٩٠] [الشورى: ٥].
قوله عز وجل:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (٤٣)
الضمير في قوله أَقْسَمُوا لكفار قريش، وذلك أنه روي أن كفار قريش كانت قبل الإسلام تأخذ على اليهود والنصارى في تكذيب بعضهم بعضا وتقول لو جاءنا نحن رسول لكنا أهدى من هؤلاء وهؤلاء، وجَهْدَ أَيْمانِهِمْ منصوب على المصدر، أي بغاية اجتهادهم، وإِحْدَى الْأُمَمِ يريد اليهود والنصارى، و «النفور» البعد عن الشيء والفزع منه والاستبشاع له، واسْتِكْباراً قيل فيه بدل من النفور، وقيل مفعول من أجله، أي نفروا من أجل الاستكبار، وأضاف «المكر» إلى السَّيِّئِ وهو صفة كما قيل دار الآخرة، ومسجد الجامع، وجانب الغربي، وقرأ الجمهور بكسر الهمزة من «السّيّئ» وقرأ حمزة وحده «السّيّئ» بسكون الهمزة وهو في الثانية برفع الهمزة كالجماعة، ولحن هذه القراءة الزجاج ووجهها أبو علي الفارسي بوجوه منها أن يكون أسكن لتوالي الحركات كما قال: «قلت صاحب قوم» على أن المبرد روى هذا قلت صاح، وكما امرؤ القيس: [السريع]
اليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
على أن المبرد قد رواه فاشرب وكما قال جرير: [البسيط]
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ونهر تيرى ولن تعرفكم العرب
وقرأ ابن مسعود «ومكرا سيئا»، قال أبو الفتح: يعضده تنكير ما قبله من قوله اسْتِكْباراً، ويَحِيقُ معناه يحيط ويحل وينزل ولا يستعمل إلا في المكروه، وقوله إِلَّا بِأَهْلِهِ، أي أنه لا بد أن يحيق بهم إما في الدنيا وإلا ففي الآخرة فعاقبته الفاسدة لهم، وإن حاق في الدنيا بغيرهم أحيانا فعاقبة ذلك على أهله، وقال كعب لابن عباس: إن في التوراة «من حفر حفرة لأخيه وقع فيها»، فقال ابن عباس: أنا أوجدك هذا في
كتاب الله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ، ويَنْظُرُونَ معناه ينتظرون، و «السنة» الطريقة والعادة، وقوله فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي لتعذيبه الكفرة المكذبين، وفي هذا توعد بين.
قوله عز وجل:
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (٤٥)
لما توعدهم تعالى في الآية قبلها بسنة الأولين وأن الله تعالى لا يبدلها في الكفرة، وقفهم في هذه الآية على رؤيتهم لما رأوا من ذلك في طريق الشام وغيره كديار ثمود ونحوها، و «يعجزه» معناه يفوته ويفلته، ومِنْ في قوله تعالى: مِنْ شَيْءٍ زائدة مؤكدة، و «عليم قدير» صفتان لائقتان بهذا الموضع، لأن مع العلم والقدرة لا يتعذر شيء، ثم بين تعالى الوجه في إمهاله من أمهل من عباده أن ذلك إنما هو لأن الآخرة من وراء الجميع وفيها يستوفى جزاء كل أحد، ولو جازى عز وجل في الدنيا على الذنوب لأهلك الجميع، وقوله تعالى: مِنْ دَابَّةٍ مبالغة، والمراد بنو آدم لأنهم المجازون، وقيل المراد الجن والإنس، وقيل كل ما دب على الأرض من الحيوان وأكثره إنما هو لمنفعة ابن آدم وبسببه، والضمير في ظَهْرِها عائد على الْأَرْضِ المتقدم ذكرها، ولو لم يتقدم لها ذكر لأمكن في هذا الموضع لبيان الأمر ولكانت ك تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢] ونحوها، و «الأجل المسمى» القيامة، وقوله فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً توعد وفيه للمتقين وعد.
Icon