ﰡ
نزلت في أنفال أهل بدر. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأي قِلّة الناس وكراهيتهم للقتال قال : من قتل قتيلا فله كذا، ومن أسر أسيرا فله كذا. فلما فرغ من أهل بدر قام سعد بن مُعَاذ فقال : يا رسول الله إن نفَّلت هؤلاء ما سمَّيت لهم بقى كثير من المسلمين بغير شيء، فأنزل الله تبارك وتعالى :﴿ قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ : يصنع فيها ما يشاء، فسكتوا وفي أنفسهم من ذلك كراهية.
وقوله :﴿ فاتَّقُوا الله وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ أمر المسلمين أن يتآسوا في الغنائم بعد ما أمضيت لهم، أمرا ليس بواجب.
ويقرأ ( مُرْدَفين ) فأما ( مردِفين ) فمتتابعين، و( مردَفين ) فُعِل بهم.
هذه الهاء للإرداف : ما جعل الله الإرداف ﴿ إِلاَّ بُشْرَى ﴾.
بات المسلمون ليلة بدر على غير ماء، فأصبحوا مجنِبِين، فوسوس إليهم الشيطان فقال : تزعمون أنكم على دين الله وأنتم على غير الماء وعدوّكم على الماء تصلّون مجنِبِين، فأرسل الله عليهم السماء وشربوا واغتسلوا ؛ وأذهب الله عنهم رِجْز الشيطان يعنى وسوسته، وكانوا في رمل تغيب فيه الأقدام فشدّده المطر حتى اشتدّ عليه الرجال، فذلك قوله :﴿ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ﴾.
كان المَلَك يأتي الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فيقول : سمعت هؤلاء القوم - يعنى أبا سفيان وأصحابه - يقولون : والله لئن حملوا علينا لننكشِفَنَّ، فيحدّث المسلمون بعضهم بعضا بذلك فتقوى أنفسهم. فذلك وحيه إلى الملائكة.
وقوله :﴿ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْناقِ ﴾ علَّمهم مواضع الضرب فقال : اضربوا الرءوس والأيدي والأرجل.
فذلك قوله :﴿ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ ﴾.
خاطب المشركين.
ثم قال :﴿ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النارِ ﴾ فنصب ( أَنّ ) من جهتين. أما إحداهما : وذلك بأن للكافرين عذاب النار، فألقيت الباء فنصبت. والنصب الآخر أن تضمر فعلا مثل قول الشاعر :
تسمع للأحشاء منه لغطا | ولليدين جُسْأَةً وبَدَدَا |
هو استثناء والمتحيِّز غير مَن. وإن شئت جعلته مِن صفة مَن، وهو على مذهب قولك : إلا أن يوليهم ؛ يريد الكرّة، كما تقول في الكلام : عبد الله يأتيك إلاّ ماشيا، ويأتيك إلا أن تمنعه الرحلة. ولا يكون ( إلا ) ها هنا على معنى قوله ﴿ إلى طعام غيرَ ناظرين إناهُ ﴾ لأن ( غير ) في مذهب ( لا ) ليست في مذهب ( إلا ).
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بكفّ من تراب فحثاه في وجوه القوم، وقال : " شاهت الوجوه "، أي قبحت، فكان ذلك أيضا سبب هزمهم.
و( موَهِّن ). فإن شئت أضفت، وإن شئت نوّنت ونصبت، ومثله :( إنّ اللّهَ بَالِغُ أمْرِهِ، وبَالغٌ أمْرَهُ ) و ( كاشفاتُ ضُرِّه، وكاشِفَاتٌ ضُرَّه ).
قال أبو جهل يومئذ : اللهم انصر أفضل الدينين وأحقَّه بالنصر، فقال الله تبارك وتعالى ﴿ إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ ﴾ يعني النصر.
وقوله :﴿ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ قال : كسر ألفها أحب إلىّ من فتحها ؛ لأن في قراءة عبد الله :( وإن الله لمع المؤمنين ) فحسَّن هذا كسرها بالابتداء. ومن فتحها أراد ﴿ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ ﴾ يريد : لكثرتها ولأن الله مع المؤمنين، فيكون موضعها نصبا لأن الخفض يصلح فيها.
يقول : استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم إلى إحياء أمركم.
وقوله :﴿ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ﴾ يحول بين المؤمن وبين المعصية، وبين الكافر وبين الطاعة ؛ و( أنه ) مردود على ( واعلموا ) ولو استأنفت فكسرت لكان صوابا.
أمرهم ثم نهاهم، وفيه طَرََف من الجزاء وإن كان نهيا. ومثله قوله ﴿ يأيها النمل ادخلوا مساكِنكم لا يحطِمنَّكم ﴾ أمرهم ثم نهاهم، وفيه تأويل الجزاء.
نزلت في المهاجرين خاصَّة.
وقوله :﴿ فَآوَاكُمْ ﴾ يعنى إلى المدينة، ﴿ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ ﴾ أي قوَّاكم.
إن شئت جعلتها جزما على النهي، وإن شئت جعلتها صرفا ونصبتها ؛ قال :
لا تنه عن خُلُقٍ وتأتِىَ مِثلَه | عار عليك إِذا فعلت عظيم |
يقول : فتحا ونصرا. وكذلك قوله ﴿ يوم الفرقانِ يوم التقى الجمعانِ ﴾ يوم الفتح والنصر.
اجتمع نفر من قريش فقالوا : ما ترون في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ويدخل إبليس عليهم في صورة رجل من أهل نجد، فقال عمرو بن هشام : أرى أن تحبسوه في بيت وتُطَيِّنوه عليه وتفتحوا له كُوّة وتضيِّقوا عليه حتى يموت. فأبى ذلك إبليس وقال : بئس الرأي رأيك، وقال أبو البَخْتَرِىّ بن هشام : أرى أن يحمل على بعير ثم يطرد به حتى يهلك أو يكفيكموه بعض العرب، فقال إبليس : بئس الرأي ! أتخرجون عنكم رجلا قد أفسد عامّتكم فيقع إلى غيركم ! فعلّه يغزوكم بهم. قال الفاسق أبو جهل : أرى أن نمشى إليه برجل من كل فخذ من قريش فنضربه بأسيافنا، فقال إبليس : الرأي ما رأي هذا الفتى، وأتى جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر، فخرج من مكَّة هو وأبو بكر. فقوله ( ليثبتوك ) : ليحبسوك في البيت. ( أو يخرِجوك ) على البعير ( أو يقتلوك ).
في ( الحق ) النصب والرفع ؛ إن جعلت ( هو ) اسما رفعت الحق بهو. وإن جعلتها عمادا بمنزلة الصلة نصبت الحق. وكذلك فافعل في أخوات كان، وأظنّ وأخواتها ؛ كما قال الله تبارك وتعالى ﴿ ويرى الذِين أوتوا العِلم الذي أنزِل إليك مِن ربك هو الحق ﴾ تنصب الحق لأن ( رأيت ) من أخوات ظننت. وكل موضع صلحت فيه يفعل أو فعل مكان الفعل المنصوب ففيه العماد ونصب الفعل. وفيه رفعه بهو على أن تجعلها اسما، ولا بدّ من الألف واللام إذا وجدت إليهما السبيل. فإذا قلت : وجدت عبد الله هو خيرا منك وشرا منك أو أفضل منك، ففيما أشبه هذا الفعل النصب والرفع. النصب على أن ينوى الألف واللام، وإن لم يكن إدخالهما. والرفع على أن تجعل ( هو ) اسما ؛ فتقول : ظننت أخاك هو أصغُر منك وهو أصغرَ منك. وإذا جئت إلى الأسماء الموضوعة مثل عمرو، ومحمد، أو المضافة مثل أبيك، وأخيك رفعتها، فقلت : أظنّ زيدا هو أخوك، وأظنّ أخاك هو زيد، فرفعت ؛ إذا لم تأت بعلامة المردود، وأتيت بهو التي هي علامة الاسم، وعلامة المردود أن يرجع كل فعل لم تكن فيه ألف ولام بألف ولام ويرجع على الاسم فيكون ( هو ) عمادا للاسم و( الألف واللام ) عماد للفعل. فلما لم يُقدَر على الألف واللام ولم يصلح أن تُنويا في زيد لأنه فلان، ولا في الأخ لأنه مضاف، آثروا الرفع ؛ وصلح في ( أفضل منك ) لأنك تلقى ( من ) فتقول : رأيتك أنت الأفضل، ولا يصلح ذلك في ( زيد ) ولا في ( الأخ ) أن تنوى فيهما ألفا ولاما. وكان الكسائي يجيز ذلك فيقول : رأيت أخاك هو زيدا، ورأيت زيدا هو أخاك. وهو جائز كما جاز في ( أفضل ) للنية نية الألف واللام. وكذلك جاز في زيد، وأخيك. وإذا أمكنتك الألف واللام ثم لم تأت بهما فارفع ؛ فتقول : رأيت زيدا هو قائم ورأيت عمرا هو جالس. وقال الشاعر :
إجِدَّك لن تزال نجِىَّ هَمّ | تبيت الليل أنت له ضجيع |
ليت الشباب هو الرجيع على الفتى | والشيب كان هو البدئُ الأوّل |
دخلت ( أَنَّ ) في أوّله وآخره لأنه جزاء بمنزلة قوله :﴿ كُتِبَ عليه أَنه مَنْ تَولاَّهُ فأَنَّهُ يُضِلُّه ﴾ وبمنزلة قوله ﴿ أَلم يَعْلَمُوا أَنه مَنْ يحادِدِ اللَّه ورسولَه فأَنَّ له نارَ جهنَّم ﴾ ويجوز في ( أنّ ) الآخِرة أن تكسرَ ألفها لأن سقوطها يجوز ؛ ألا ترى أنك لو قلت :( اعلموا أنّ ما غنمتم من شيء فللّه خمسه ) تصلح، فإذا صلح سقوطها كسرها.
وقوله :﴿ وَلِذِي الْقُرْبَى ﴾ : قرابةِ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ﴿ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ﴾ : يتامى الناس ومساكينهِم، ليس فيها يتامى بنى هاشم ولا مساكينُهم.
والعدوة : شاطئ الوادي ( الدنيا ) مما يلي المدينة، و( القصوى ) مما يلي مكّة.
وقوله ﴿ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ يعنى أبا سفيان والعِيرَ، كانوا على شاطئ البحر. وقوله ﴿ أَسْفَلَ مِنكُمْ ﴾ نصبت ؛ يريد : مكانا أسفلَ منكم. ولو وصفهم بالتسفل وأراد : والركب أشد تسفّلا لجاز ورفع.
وقوله :﴿ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ﴾ كتابتها على الأدغام بياء واحدة، وهي أكثر قراءة القراء. وقد قرأ بعضهم ( حَيىَِ عن بيّنة ) بإظهارها. وإنما أدغموا الياء مع الياء وكان ينبغي لهم ألا يفعلوا ؛ لأن الياء الآخِرة لزمها النصب في فَعَلَ، فأدغموا لما التقى حرفان متحركان من جنس واحد. ويجوز الإدغام في الاثنين للحركة اللازمة للياء الآخرة، فتقول للرجلين : قد حَيّا، وحَيِيا. وينبغي للجمع ألا يدغم لأنّ ياءه يصيبها الرفع وما قبلها مكسور، فينبغي لها أن تسكن فتسقط بواو الجمع. وربما أظهرت العرب الإدغام في الجمع إرادة تأليف الأفعال وأنْ تكون كلها مشدّدة. فقالوا في حَيِيت حَيُّوا، وفي عيِيت عَيُّوا ؛ أنشدني بعضهم :
يَحِدن بِنا عن كلّ حَي كأننا *** أخاريس عَيُّوا بالسلام وبالنَّسْبِ
يريد النّسَبَ. وقال الآخر :
مِن الذين إذا قلنا : حَدِيثَكم *** عَيُّوا، وإن نحن حَدَّثناهُمُ شَغِبَوا
وقد اجتمعت العرب على إدغام التحيّة والتحيّات بحركة الياء الأخيرة فيها ؛ كما استحبّوا إدغام عيّ وحَىَّ بالحركة اللازمة فيها. وقد يستقيم أن تدغم الياء والياء في يَحْيا ويَعْيا ؛ وهو أقل من الإدغام في حيّ ؛ لأن يحيا يسكن ياؤها إذا كانت في موضع رفع، فالحركة فيها ليست لازمة. وجواز ذلك أنك إذا نصبتها كقول الله تبارك وتعالى ﴿ أَليس ذلِك بِقادِرٍ على أَن يُحْيِىَ المَوْتَى ﴾ استقام إدغامها ها هنا ؛ ثم تؤلِّف الكلام، فيكون في رفعه وجزمه بالإدغام ؛ فتقول ( هو يُحِيي ويُمِيت ) ؛ أنشدني بعضهم :
وكأنها بين النساء سبِيكةٌ *** تمشى بِسُدَّةِ بَيْتها فَتُعِىُّ
وكذلك يَحَيَّان ويَحَيُّون.
هذا إبليس تمثل في صورة رجل من بنى كِنانة يقال له سُرَاقة بن جُعْشُم. قال الفرّاء : وقوله ﴿ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ﴾ من قومي بنى كنانة ألاَّ يعرضوا لكم، وأن يكونوا معكم على محمد ( صلّى الله عليه وسلّم ) فلما عاين الملائكةَ عرفهم ف " نَكَصَ على عَقِبَيْه "، فقال له الحرث بن هشام : يا سراقة أفرارا من غير قتال ! فقال ( إني أَرَى ما لا تَرَوْن ).
يريد : ويقولون، مضمرة ؛ كما قال :﴿ ولَوْ تَرَى إذِ المُجْرِمُونَ ناكِسُو رُءُوسِهم عِنْدَ رَبِّهِم رَبَّنا ﴾ يريد يقولون :( رَبَّنا ). وفي قراءة عبد الله ﴿ وَإِذْ يرفع إِبراهِيمُ القواعِدَ من البيتِ وإِسماعيلُ ﴾ يقولان ﴿ رَبَّنا ﴾.
( أَنّ ) في موضع نصب إذا جعلت ( ذلك ) نصبا وأردت : فعلنا ﴿ ذلك بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ و ب ﴿ أَنَّ اللَّهَ ﴾. وإن شئت جعلت ( ذلك ) في موضع رفع، فتجعل ( أنْ ) في موضع رفع ؛ كما تقول : هذا ذاك.
يريد : كذّب هؤلاء كما كذّب آلُ فرعون، فنزل بهم كما نزل بآل فرعون.
يريد : إن أسَرتهم يا محمد فنكّل بهم مَن خلفهم ممن تخاف نقضه للعهد ﴿ فَشرِّدْ بِهِمْ ﴾. ﴿ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ فلا ينقضون العهد. وربما قرئت ( مِن خَلْفِهِم ) بكسر ( مِن )، وليس لها معنى أستحبّه مع التفسير.
يقول : نقض عهد ﴿ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ﴾ بالنقض ﴿ على سَوَاء ﴾ يقول : افعل كما يفعلون سواء. ويقال في قوله :﴿ على سَوَاء ﴾ : جهرا غير سرّ. وقوله :﴿ تَخافَنّ ﴾ في موضع جزم. ولا تكاد العرب تدخل النون الشديدة ولا الخفيفة في الجزاء حتى يَصِلوها ب ( ما )، فإذا وصلوها آثروا التنوين. وذلك أنهم وجدوا ل ( إما ) وهي جزاء شبيها ب ( إما ) من التخيير، فأحدثوا النون ليعلم بها تفرقةُ بينهما ؛ ثم جعلوا أكثر جوابها بالفاء ؛ كذلك جاء التنزيل ؛ قال :﴿ فَإما تَثْقَفَنَّهُمْ في الحربِ فشَرِّد ﴾، ﴿ فإما نُرِيَنَّك بعض الذي نَعِدهم ﴾ ثم قال :﴿ فإلينا يرجعون ﴾ فاختيرت الفاء لأنهم إذا نوَّنوا في ( إما ) جعلوها صَدْرا للكلام ولا يكادون يؤخّرونها. ليس من كلامهم : اضربه إما يقومَنَّ ؛ إنما كلامهم أن يقدّموها، فلما لزمت التقديم صارت كالخارج من الشرط، فاسحبوا الفاء فيها وآثروها، كما استحبّوها في قولهم : أما أخوكم فقاعد، حين ضارعتها.
بالتاء لا اختلاف فيها. وقد قرأها حمزة بالياء. ونُرى أنه اعتبرها بقراءة عبد الله. وهي في قراءة عبد الله ﴿ ولا يَحْسَبَنَّ الذين كفروا أنهم سبقوا إنهم لا يُعْجِزون ﴾ فإذا لم تكن فيها ( أنّهم ) لم يستقم للظنّ ألا يقع على شيء. ولو أراد : ولا يحسب الذين كفروا أنهم لا يعجزون لاستقام، ويجعل لا ( صِلة ) كقوله :﴿ وحَرامٌ على قَرْيةٍ أَهلكناها أَنّهم لا يَرْجِعون ﴾ يريد : أنهم يرجعون. ولو كان مع ( سبقوا ) ( أنْ ) استقام ذلك، فتقول ( ولا يحسب الذين كفروا أن سبقوا ).
فإن قال قائل : أليس من كلام العرب عسيت أذهب، وأريد أقوم معك، و( أنْ ) فيهما مضمرة، فكيف لا يجوز أن تقول : أظن أقوم، وأظن قمت ؟ قلت : لو فعِل ذلك في ظننت إذا كان الفعل للمذكور أجزته وإن كان اسما ؛ مثل قولهم : عسى الغُوَيْرُ أَبْؤُساً، والخلقْة لأنْ، فإذا قلت ذلك قلته في أظن فقلت : أظن أقوم، وأظن قمت ؛ لأن الفعل لك، ولا يجوز أظن يقوم زيد، ولا عسيت يقوم زيد ؛ ولا أردت يقوم زيد ؛ وجاز والفعل له لأنك إذا حوّلت يفعل إلى فاعِل اتصلت به وهي منصوبة بصاحبها، فيقول : أريد قائما ؛ والقيامَ لك. ولا تقول أريد قائما زيد، ومن قال هذا القول قال مثله في ظننت. وقد أنشدني بعضهم لذي الرُّمَّة :
أَظَنَّ ابْنُ طُرْثوثِ عُتَيْبةُ ذاهبا | بعادِيَّتِي تَكْذابُه وَجعائلُهْ |
يريد إناث الخيل. حدّثنا محمد قال حدّثنا الفرّاء قال حدّثنا ابن أبى يحيى رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القوة : الرمى ".
وقوله :﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ ﴾. ولو جعلتها نصبا من قوله : وأَعِدّوا لهم ولآخرين من دونهم كان صوابا ؛ كقوله :﴿ والظالمين أَعَدَّ لهم عذابا أليما ﴾. وقرأ أبو عبد الرحمن السُلَمِىّ :( ترهبون به عَدُوّاً لِلّهِ وعدوّكم ) ؛ كما قرأ بعضهم في الصفّ ( كونوا أَنْصاراً لِلّهِ ).
إن شئت جعلت ( لها ) كناية عن السِلم لأنها مؤنثة. وإن شئت جعلته للفَعْلة ؛ كما قال ﴿ إنّ رَبّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ ولم يذكر قبله إلا فعلا، فالهاء للفعلة.
بين قلوب الأنصار من الأوس والخزرج ؛ كانت بينهم حرب، فلما دخل المدينة رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصلح الله به وبالإسلام ذات بينهم.
جاء التفسير : يكفيك الله ويكفي من اتبعك ؛ فموضع الكاف في ( حسبك ) خفض. و( مَنْ ) في موضع نصب على التفسير ؛ كما قال الشاعر :
إذا كانت الهيجاء وانشقّتِ العصا | فحسبُك والضَّحاكَ سيفٌ مُهَنّد |
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُغْزِى أصحابه على أنّ العشرة للمائة، والواحد للعشرة، فكانوا كذلك، ثم شقّ عليهم أن يُقْرِن الواحد للعشرة فنزل :﴿ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ ﴾.
فبين الله قوَّتهم أوّلا وآخرا. وقد قال هذا القول الكسائي ورفع ( من ).
معناه : ما كان ينبغي له يوم بدر أن يقبل فداء الأسرى ﴿ حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ﴾ : حتى يغلِب على كثير مَن في الأرض. ثم نزل :﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ ﴾.
في فداء الأسرى والغنائم. وقد قرئت ( أَُسارى )، وكلٌّ صواب. وقوله :( أَن يَّكُونَ ) بالتذكير والتأنيث ؛ كقوله ( يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتهُم ) و( تَشْهَدُ ).
ثم قال :﴿ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ في المواريث، كانوا يتوارثون دون قراباتهم ممن لم يهاجر.
وذلك قوله ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهاجِرُواْ ما لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم ﴾ يريد : من مواريثهم. وكسر الواو في الولاية أعجب إلىَّ من فتحها ؛ لأنها إنما تفتح أكثر من ذلك إذا كانت في معنى النُصْرة، وكان الكسائي يفتحها ويذهب بها إلى النصرة، ولا أراه علم التفسير. ويختارون في ولِيته وِلاية الكسر، وقد سمعناهما بالفتح والكسر في معناهما جميعا، وقال الشاعر :
دعِيهمْ فَهُمْ أَلْبٌ على وِلايةٌ | وحَفْرُهُمُ أَنْ يَعْلَموا ذاكَ دائب |
إلا تتوارثوا على القرابات تكن فتنة. وذكر أنه في النصر : إلا تتناصروا تكن فتنة.
فتوارثوا، ونسخت هذه الآخِرة الآية التي قبلها. وذلك أَنَّ قوله :﴿ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾.