هذه السورة مكية كلها. وقيل : إلا أربع آيات. والسورة عظيمة في دلالاتها ومقاصدها وما حوته من دروس وأخبار وعبر. وهي قصص من قصص الله ؛ بل هي أحسن القصص الذي قصه الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليوقفه على أخبار السابقين من النبيين والأمم. وفي طليعة هذه الأخبار جميعا تأتي قصة نبي الله يوسف عليه السلام مع إخوته الذين كادوا له أشد الكيد وحسدوه بالغ الحسد لما وجدوه من فيض التحنان يتقاطر على قلب أبيهم يعقوب عليه السلام نحو ولده هذا الصغير الصبيح المبارك يوسف عليه السلام ؛ فقد رأى هذه الكريم المبارك –على براءته المطلقة في سن الطفولة- رؤيا أثارت قلب أبيه الفطن يعقوب فأوجس من إخوته خفية أن يأكل قلوبهم الحسد الأسود فيؤذوه أيما إيذاء. وكل الذي خشيه يعقوب وتوجس منه الخفية قد كان ! فلقد ائتمر الإخوة بأخيهم الطيب الصبيح المبارك ليلقوه في إحدى المهالك، حتى استقر قراراهم اللئيم المنكر، بإلقائه في الجب ليتخلصوا منه تمام فتهدأ نفوسهم الماكرة الشريرة التي استحوذت عليها لطخة الحسد البغيض، واستشرت في أعماقها براثن الحقد الظلوم، لا الشيء، إلا لقرط البراءة التي تتجلى في طليعة هذا الصبي المشرق المبارك. ولما أحسوه من الحدب الحاني يتندى من قلب أبيهم يعقوب شغفا بأخيهم هذا الطفل المبرأ المعصوم. لا جرم أن قصة يوسف مع إخوته الحاسدين تظل على مر الزمن درسا مكتملا يتفهم منه الإنسان فيظل على يقين أن خصبة الحسد واحدة من خصال أساسية شتى قد جبل عليها ابن آدم، فما يكاد ينجو منها بشر على وجه الأرض إلا أن يكون معصوما بوحي، أو صديقا رفاقا من الصديقين الأبرار وقيل ما هم ! لكن جل البشرية لا ينجو من الحسد بدءا بابن آدم ؛ إذ طوعت له نفسه قتل أخيه حسدا من نفسه، ومرورا بإخوة يوسف الذين تمالؤا على إلقاء أخيهم في مهاوي الموت. وما فتئت المجتمعات والأفراد والأجيال تتوالى وتمضي وهي يأخذ منها الحسد كل مأخذ. فما يكاد ينجو منها ذكر أو أنثى، عالم أو جاهل، عظيم أو حقير، مؤمن أو فاسق إلا أن يتغمده الله بفيض من الهداية والخشوع والتقوى.
ومن هنا نجزم في يقين أن الإنسان لا ينجو من لوثة الحسد ؛ بل إن هذا الداء الوبيل المستحكم يتدسس في أغوار النفس من الإنسان ليسومه خسيسة الغيرة والأثرة والإفراط في حب الذات والامتعاض من الآخرين أن يصبيهم من الله خير أو فضل ! ومع ذلك كله فإن السعيد من اتعظ واتقى وخشي الرحمن في نفسه فصانها بعقيدة التوحيد وحسن الصلة بالله من لوثة الحسد البغيض.
وفي سبب نزول السورة أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحدثهم بأمر يعقوب وولده وشأن يوسف وما انتهى إليه فنزلت.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس أن حبرا من اليهود دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف فقال : يا محمد، من علمكها ؟ قال :( الله علمنيها )، فعجب الحبر لما سمع منه، فرجع إلى اليهود فقال لهم : والله إن محمدا ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة، فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة، ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه ؛ فجعلوا يستمعون إلى قراءة سورة يوسف فتعجبوا وأسلموا عند ذلك.
ﰡ
قوله تعالى :﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ١ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ ﴿ الر ﴾، قد تقدم الكلام في مثل هذه الحروف من أوائل السور. والإشارة ﴿ تلك ﴾ إلى قوله :﴿ الر ﴾ وغيرها من حروف العربية التي تركبت منها آيات القرآن فكان الكتاب الفذ المميز الذي لا يضاهيه في البيان أيما بيان. فهو بذلك معجز يسمو على طاقة البشر. ومما يعزز هذا التأويل قوله بعد الإشارة :﴿ آيات الكتاب المبين ﴾ والمراد به القرآن ؛ فهو مستبين في نفسه، ظاهر إعجازه للعرب فلم يقدروا أن يعارضوه. أو هو ظاهر في معانيه ومقاصده وأحكامه وأخباره.
قوله :﴿ لعلكم تعقلون ﴾ لعل بمعنى التعليل ؛ أي لكي تفهموا ما تضمنه هذا القرآن من المعاني والبلاغة والإعجاز، ولكي تحيطوا بما حواه من علوم وحقائق وبدائع فتوقنوا بعد ذلك أن هذا الكلام ليس في مقدور احد بل هو مما لا يطيقه بشر٢.
٢ روح المعاني جـ ١٢ ص ٧٥ والحبر المحيط حـ ٥ ص ٢٧٨، ٢٧٩..
وهذا البيان جاء به الوحي من عند الله لهو أحسن القصص ؛ لأنه من نظم الإله الخالق البديع ؛ فهو متقن على أتم ما يكون عليه الإتقان، وأحسن ما يكون عليه الأسلوب، وأكمل ما تكون عليه المعاني والعلوم والأخبار، وأروع ما تأتي عليه الصورة والعبارة والكلمات، وهي تحمل للبشرية أجزل المعاني وأنفعها. وذلك في مختلف المواقف والمشاهد والأحوال والملابسات، وفي سائر الأخبار والأحكام والمواعظ. وذلك كله في غاية مثلى من رصانة التعبير، وجرس الحروف، وكمال النظم الباهر المميز.
قوله :﴿ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ﴾ الباء سببية وما مصدرية ؛ أي بسبب إيحائنا٣. والمنى : أن الله يقص على عباده تحسن القصص بسبب إيحائه هذا القرآن. وهو الكتاب الحكيم الموحي به من عند الله ؛ فهو بذلك خير كلام، وأحسنه وأكمل ما عرفت الدنيا من نظم وبيان.
قوله :﴿ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ أن، المخففة. والمضير في ﴿ قبله ﴾ يعود على الإيحاء ؛ أي لم يكن لك علم بهذه القصة ولا طرق سمعك شيء منها.
٢ الدر المصون جـ ٦ ص ٤٣٠..
٣ الدر المصون جـ ٦ ص ٤٣٠..
قوله :﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ هذه الجملة ﴿ رأيتهم ﴾ مكررة لتأكيد وذلك لما طال الفصل بالمفاعيل ؛ فهي تأكيد لما تقدم من تحقيق المنام. و ﴿ ساجدين ﴾ حال منصوب. وقيل : مفعول ثان للفعل ﴿ رأيتهم ﴾ ١ والمراد بالسجود هنا : ما كان للكرامة، كما سجدت الملائكة لآدم. وقيل : كان السجود في ذلك الوقت سجود تحية بعضهم لبعض.
وأما الكيد، فمعناه المكر والخبث والحيلة٢ ؛ فقد خشي يعقوب أن يحدث يوسف برؤياه أحدا من إخوته مما يثير في نفوسهم الحسد والكراهية فيسول لهم الشيطان أن يزلقوه في غائلة من الغوائل أو الشرور. من اجل ذلك نهاه يعقوب عليه السلام أن يقص رؤيا على إخوته كيلا يحتالوا له حيلة أو مكيدة أو خديعة تمسه فتؤذيه. وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها ؛ فإن كل ذي نعمة محسود ).
قوله :﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ الشيطان خبيث وماكر ومخادع، وهو أشد ما يكون كراهية للإنسان ؛ إذ يكيد له أبلغ الكيد في كل آن، ويتحيل له طيلة الزمان أعتى الحيل والمكائد ليهوي بسببها في الهلكة والخسران سواء في الدنيا أو الآخرة ؛ فهو بذلك ظاهر العداوة لان آدم، وهو من اجل ذلك لا يألو جهدا في إثارة الحسد لدى إخوة يوسف مما يسول لهم إيقاعه في النوائب أو في مهلكة من المهالك. مع أنهم من سلالة رسل عظام، وقد نشأوا في بيت النبوة الطاهر. ولكنهم مع ذلك كان يمكن للشيطان أن يتدسس إلى نفوسهم الضعيفة فيسول لها ذميمة الحسد ويغويها بفعل المعاصي. وذلك يدل بما لا ريب فيه على أن إخوة يوسف ليسوا بأنبياء كما يزعم بعض القائلين بذلك. وذهب إلى عدم كونهم من النبيين أكثر العلماء من السلف والخلف ؛ فإنه لم ينقل عن الصحابة أو التابعين أنهم أنبياء. قال شيخ الإسلام بن تميمة في هذه المسألة : الذي يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار أن إخوة يوسف عليه السلام ليسوا بأنبياء، وليس في القرآن ولا عن النبي صلى الله عليه وسلم بل ولا عن أحد من الصحابة ( رضي الله عنهم ) خبر بأن الله تعالى نبأهم. وغنما احتج من قال بأنهم نبئوا بقوله تعالى في آيتي البقة والنساء :﴿ والأسباط ﴾ وفسر ذلك بأولاد يعقوب. والصواب أنه ليس المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته، كما يقال لهم : نبو إسرائيل. وكما يقال لسائر الناس : بنو آدم٣.
ولو كان إخوة يوسف أنبياء كأخيهم لذكرهم لله بالثناء كما ذكر أخاهم. وكذلك فإن النبيين لهم من المكاره والمحامد ما يناسب منزلة النبوة. وقد أثنى رسولنا صلى الله عليه وسلم على نبي الله يوسف فقال :( أكرم الناس يوسف بن يعقوب بم إسحق بن إبراهيم نبي ابن نبي ) فلو كان إخوته أنبياء لشاركوه في هذا الثناء والكرم.
على أن النبوة لا يليق بها البتة كبريات المعاصي والآثام وكالذب، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، وقتل النفس المؤمنة ظلما وعدوانا، وإرقاق المسلم وبيعه إلى الكافرين في دار الكفر ! فأنى لنبيين يجيئهم الوحي من السماء أن يقترفوا هذه الفظائع من المنكرات ؟ ! لا جرم أن ذلك يدل أيما دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء. فالنبيون معصومون عن صدور مثل هذه القبائح والمنكرات قبل النبوة وبعدها٤.
٢ القاموس المحيط ص ٤٠٣..
٣ روح المعاني جـ ١٢ ص ١٨٤..
٤ روح المعاني جـ ١٢ ص ١٨٣، ١٨٤ والبحر المحيط جـ ٥ ص ٢٨١..
قوله :﴿ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ﴾ وتأويل الأحاديث يعني التعبير عن الرؤيا أو غرائب الرؤيا. وقيل : عواقب الأمور. وقيل : عموم ذلك وغيره من المغيبات. وقال الزمخشري : الأحاديث بمعنى الرؤى. وتأويلها يعني تفسيرها أو عبارتها. فكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا وأصلحهم عبارة. وقيل : المراد بتأويل الأحاديث معناي كتب الله وسير الأنبياء وما غمض أو اشتبه على الناس من المقاصد ووجوه الحكمة.
قوله :﴿ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ ﴾ إتمامه النعمة عليك يعني بالإيحاء إليك وبعثك نبيا. وقيل : بإيجائك من كل مكروه. أو بإعلاء شأنك وتحقيق رؤياك. وآل يعقوب، يعني أولاده وذريتهم. والمراد : أن الله قد أتم نعمته عليك بالنبوة والنجاة من الشدائد والمكاره كما أتم نعمته على آل يعقوب وهم نسله، بالخلاص من المكروه. ولا يقتضي ذلك أن يكون الإنعام على يوسف وإخوته من نوع واحد ؛ فقد أنعم الله على يوسف بنعمة النوبة وغيرها من النعم مما بيناه آنفا. وكذلك أنعم على أخوته بوجوه أخرى من النعم كالخلاص من المكاره وغيرها.
قوله :﴿ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ ﴾ أتم الله نعمته على أبيه إبراهيم بالنبوة والخلة ؛ إذ اتخذه خليلا، ثم تنجيته من النار. وكذلك قد أتم نعمته على أبيه إسحق بالنبوة.
قوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ ﴿ عليم ﴾ بمن يستحق الاجتباء والنعمة، ﴿ حكيم ﴾ في تدبير خلقه وفي جعل الأشياء في مواضعها٣.
٢ القاموس المحيط ص ١٦٣٨..
٣ تفسير الطبري ١٢ ص ٩٠- ٩٢ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢١٢..
وقد أنزل الله هذه السورة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم يعلمه فيها ما لقي يوسف من إخوته ؛ إذ آذوه بالحسد والكيد والقطيعة على قتله مع تكريم الله له بالتنحية والتشريف وعلو المنزلة، فضلا عما كتب الله له من عظيم الأجر على اصطباره على مكرهم وحسدهم وأذاهم، ويراد من ذلك أيضا التخفيف مما يجده نبينا صلى الله عليه وسلم من موجدة وأسى لما يلقاه من أذى قريش وصدهم.
قوله :﴿ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي لفي خطأ، أو غلط ؛ إذ أثر هذين الأخوين علينا ونحن كثيرون مع استوائنا جميعا في الانتساب إليه.
قوله :﴿ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ أي تكونوا من بعد مغيب يوسف عنكم بالقتال أو الإلقاء بعيدا ﴿ قوما صالحين ﴾ أي تائبين إلى الله من جنابة القتل. وقيل : يصلح حالكم عند أبيكم فلا يؤثر عليكم أحدا غيركم.
قوله :﴿ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَة ﴾ السيارة تعني القافلة٢. والمراد : أن يأخذه بعض مارة الطريق من المسافرين ﴿ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ أي إن كنتم جادين فتفعلون ما أقول لكم. وقد ذكر أنه أخذه ناس من الأعراب المسافرين.
وذلك كله يدل على أن إخوة يوسف ليسوا أنبياء وهذه حقيقة ما ينبغي لأحد من الناس أن يماري فيها. وما المرء فيها إلا الإسراف في الثرثرة أو التقول الفارغ الممجوج غير القائم على شيء من الحجة أو المعقول. ذلك أن الأنبياء يستحيل في حقهم أن يدبروا لقتل مسلم. وهم فوق ذلك معصومون عن ارتكاب الكبيرة، فكيف إذا كان ذلك جملة كبائر من بينها عقوق الوالد النبي، وقتل الأخ المؤمن المعصوم ظلما وعدوانا. لا جرم أن هذه فاقرة من الفوقر التي تزلزل الفرائص وتضطرب لهولها الأرض، والتي لا يقع فيها المؤمنون من سواء الناس وعامتهم، فيكيف إن كانوا النبيين ؟ !
إن أصدق ما ينبغي أن يقال في هذا الصدد أن إخوة يوسف كانوا مسلمين فارتكبوا معصية ثم تابوا٣.
٢ مختار الصحاح ص ٣٢٥..
٣ تفسير القرطبي جـ ٩ ص ١٣٣ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢١٣ وتفسير الطبري جـ ١٢ ص ٩٣ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٧٠..
وكذلك خشي يعقوب عليه السلام على والده يوسف أن ينشغلوا عنه فيغفلوا عنه ثم يأكله الذئب وهم لا يشعرون.
ولعل إخوة يوسف قد استمسكوا بكلمة الذئب أسوأ استمساك ليتخذوا من مسألة الذئب ذريعة يبررون بها كيدهم وما فعلوه بأخيهم يوسف من سوء الفعال.
قوله :﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ وهذا يدل على نبوته في ذلك الوقت. وبذلك أعطى الله يوسف النورة وهو في الجب على حجر مرتفع عن الماء وكان ابن اثنتي عشرة سنة، وقيل : تسع سنين. وقيل غير ذلك ؛ فقد أوحي الله إلى يوسف وهو في تلك الحال من الضيق والخوف والوحشة تطيبا لقلبه وتثبيتا كيلا يحزن ولا يبتئس مما أصابه ومما هو فيه من كيد إخوته الظالمين الآثمين الذين تفجر الحسد في قلوبهم فاستحوذ عليها أيما استحواذ ففعلوا ما فعلوا. فهان عليهم إيمانهم وغاضت في نفوسهم علائم الرحمة والإشفاق.
لقد أوحي الله إليه وهو في حاله هذه أنه جاعل له فرجا ومخرجا، وأنه كاشف عنه السوء والبأساء، وسيكتب الله له النصر والعزة وعلو الشأن، ولسوف يحدث إخوته بكل ما فعلوه به من وجوه المكر والإيذاء، ﴿ وهم لا يشعرون ﴾ أيلا يشعرون بما يخبرك به الوحي، أو لا يشعرون بأنك يوسف وذلك لدى دخلوهم عليه وهو في مصر ؛ إذ يعرفهم وهم له منكرون. لقد أوحي الله إلى جبريل عليه السلام أن أدرك عبدي، فأسرع غليه جبريل حتى أقعده على الصخرة سالما. وكان ذلك الجب مأوى الهوام من الحشرات السامة والحيات. وفي هذا الموقف الكئيب الموحش يلجأ يوسف إلى ربه يسأله الخلاص والفرج ويشكو إليه ما فعله به المعتسفون الحاسدون، ويدعوه بهذا الدعاء الذي علمه إياه جبريل : الله يا مؤنس كل غريب، ويا صاحب كل وحيد، ويا ملجأ كل خائف، ويا كشاف كل كربة، وعالم كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، ويا حاضر كل ملأ، يا حي يا قيوم، أسألك أن تقذف رجاءك في قلبي، حتى لا يكون لي هم ولا شغل غيرك، وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا. إنك على كل شيء قدير. فقالت الملائكة. إلهنا، نسمع صوتا ودعاء، الصوت صوت صبي، والدعاء دعاء نبي ! ١.
بعد أن فعل إخوة يوسف فعلتهم المنكرة بأخيهم يوسف رجعوا إلى أبيهم ليلا يبكون. فلما سمع أبوهم بكاءهم فزع وقال : ما بكم يا بني، هل أصلبكم في غنمكم شيء ؟ قالوا : لا. قال : فما فعل يوسف ؟
قالوا :﴿ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ﴾ فبكي الشيخ وصاح بأعلى صوته وقال : أين القميص ؟ فجاءوا بالقميص عليه دم كاذب ؛ أي مكذوب أو مفترى، فأخذ القميص فطرحه على وجهه ثم بكي حتى تخضب وجهه من دم القميص. وقيل : لما قالوا أكله الذئب خر مغشيا عليه، فأفضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب، فقال لهم يهوذا –وكان أرفقهم- : ويل لنا من ديان يوم الدين ! ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا ! فلم يفق يعقوب إلا ببرد السحر.
والمسابقة تكون بالنصل والحافر والخف وغير ذلك من أنواع الحافلات كالسفن ونحوها. والمراد بالنصل هنا السهم ذو النصل، وبالحافر الفرس، وبالخف البعير.
والمسابقة على ضربين : مسابقة بغير عوض، وأخرى بعوض. أما التي بغير عوض : فهي جائزة مطلقا من غير تقييد بشيء معين كالمسابقة على الأقدام والخيل والسفن وغير ذلك من الحافلات النارية الحديثة على اختلاف أنواعها ؛ فقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم عائشة فسبقته ثم سبقها في الثانية.
أما المسابقة بعوض في هذه الأنصاف الثلاثة فلت تجوز ؛ وهو قول المالكية وأحدا القولين للشافعية. أما الحنفية : فتجوز عندهم المسابقة بعوض إن كانت على الأقدام أو مصارعة ؛ لورود الأثر بهما ؛ فقد سابق النبي عائشة وصارع ركانة.
وهو القول الثاني للشافعية، وجملته : جواز المسابقة بعوض بكل ما له نصل، وفي السيف والرمح والدواب وجهان.
وإذا كانت المسابقة بين اثنين أو فريقين، فإن كان العوض من غيرهما ؛ جاز سواء كان ذلك من الحاكم يؤديه من بيت المال، أو كان من غير الإمام ؛ وهو قول الحنفية والشافعية والحنبلية. وقالت المالكية : لا يجوز بذل العوض من غير الإمام.
على أن السبق بالفتح معناه في اللغة : الخطر الذي يوضع بين أهل السباق١. وهو في الشرع : الجعل الذي يسابق عليه. ويسمى الخطر والندب والقرع والرهن. وجمعه أسباق. وهي ثلاثة أضرب :
أولها : سبق يعطيه الوالي أو الرجل غير الوالي من ماله متطوعا فيجعله لمن سابق. فمن سبق أخذه، فهو جائز.
والثاني : سبق يخرجه أحد المتسابقين دون صاحبه فغن سبقه صاحبه أخذه، وإن سبق هو صاحبه أخذه ؛ فهو كذلك جائز.
والثالث : أن يخرج كل منهما شيئا مثل ما يخرجه صاحبه، فأيما سبق أخذ سبقه وسبق صاحبه ؛ فإنه لا يجوز وكان قمارا٢. وتفصيل هذه المسألة في مظانها من كتب الفقه.
قوله :﴿ وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ﴾ أي تركناه يحرس ثيابنا وأمتعتنا فأكله الذئب. وهذا الذي كان يتوجس منه يعقوب خفية والذي جزع منه وحذرهم منه عندما أرادوا أن يأخذوه.
قوله :﴿ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ يعني أنك لا تصدقنا فيما نقول وإن كنا صادقين وغير مهتمين، وذلك لسوء ظنك بنا واتهامك إيانا.
٢ المغني جـ ٨ ص ٦٥٨، ٦٥٩ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ١٤٦، ١٤٧..
قال :﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ﴾ ﴿ بل ﴾، حرف إضراب. ﴿ سولت ﴾ أي زينت١، فقد قال لهم يعقوب مكذبا زعمهم وافتراءهم : ليس الأمر كما تقولون بل زينت لكم أنفسكم أمرا في يوسف وحسنته لكم تحسينا مريبا ففعلتموه ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ صبر، مرفوع على انه مبتدأ، وخبره محذوف وتقديره : فصبر جميل خبر من غيره. وغنما جاز الابتداء بالمنكر لكونه موصوفا. وقيل : مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وتقديره : فصبري صبر جميل٢.
والمعنى : أنني سأصبر صبرا جميلا على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه بتمالؤكم على يوسف حتى يكشف الله عني هذا البلاء بلطفه وفضله ورحمته ﴿ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ أي أستعين بالله على ما اتفقتم عليه من الشر والمكر، أو ما جئتموني به من كذب٣.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٣٦..
٣ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٧١ وتفسير الطبري جـ ١٢ ص ٩٨ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢١٤..
قوله :﴿ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ﴾ المراد بواو الجماعة، الوارد وأصحابه. وقيل : إخوة يوسف. وقيل : التجار الذين اشتروه. و ﴿ بضاعة ﴾، منصوب على الحال من يوسف، ومعناه مبضوعا١. والمعنى : أن الواردين من بقية السيارة قد أروه ليخفوه عنهم وقالوا : اشتريناه وتبضعنا به من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه إذا عملوا خبره. ﴿ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ الله عليم بما يعلمه إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنع. وذلك وعيد من الله لمن تسبب فيما وقع فيه يوسف من وجوه البلاء والمحنة، وما صار إليه من قسوة الاسترقاق ليكون بذلك موضع مساومة للبيع والشراء.
من اجل ذلك باعوه بثمن بخس ؛ أي ناقص قليل١.
قوله :﴿ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ﴾ أي يكفينا بعض ما نحتاج إليه أو نستظهر به على ما نواجهه من مشكلات وأمور. أو أن نتبناه فنجعله لنا ولدا وكان التبني في ذلك الزمان مشروعا.
قوله :﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ ﴾ الكاف في اسمن الإشارة في محل نصب على أنه مصدر محذوف ؛ أي مثل ذلك التمكن وهو إنقاذه من الجب ومن كيد إخوته ؛ مكنا له في أرض مصر حتى تمكن فيها من الأمر والنهي.
والإشارة عائدة إلى ما تقدم من إنجائه من إخوته وإخراجه من الجب. قال الطبري في جملة ذلك : وكما أنقذنا يوسف من أيدي إخوته وقد هموا بقتله، وأخرجناه من الجب بعد أن ألقي فيه فصيرناه إلى الكرامة والمنزلة الرفيعة عند عزيز مصر، كذلك مكنا له في الأرض فجعلناه على خزائنها.
قوله :﴿ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ﴾ التأويل، هو تفسير ما يئول إليه الشيء. وقد أول الكلام تأويلا وتأويله، أي دبره وقدره وفسره. والتأويل أيضا عبارة الرؤيا١.
والمعنى : نجينا يوسف من الجب ومن كيد إخوته، وكتبنا له هذا التمكين في مصر من أجل أن نوحي إليه بكلام منا فنعلمه تأويله وتفسيره، وكذلك نعلمه تأويل الرؤيا.
قوله :﴿ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ الله فعال لما يشاء فلا يغلب غالب ؛ بل هو الغالب القاهر الذي لا يرد قضاءه أو كيده أو تدبيره شيء. وهو سبحانه قد نجى يوسف من براثن٢ الموت بعد أن كاد له حاسدوه ابلغ كيد ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ لا يعلمون أن الأمر مله بيد الله. فما يند عن إحاطته وتقديره خبر ولا شأن، وما يقع في الخلق من حدث صغيرا أو عظيما إلا كان الله به عليما. وهذه حقيقة لا يعيها إلا النابهون المتفكرون من المؤمنين. لكن جل البشرية السادرة في الضلال والتي لا تروم غير الاستمتاع بالشهوات لا تتصور مثل هذه الحقيقة ولا تعبأ بها.
٢ براثن: البراثن من السباع والطير كالأصابع من الإنسان. والمخلب ظفر البرثن. انظر مختار الصحاح ص ٤٥..
قوله :﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ أي كما جزينا يوسف فآتيناه الحكم والعلم ومكناه في الأرض، ونجيناه من كيد إخوته الذين راموا قتله، كذلك نجزي من اهتدى وأحسن فأطاع الله واتقاه والتزم دينه ومنهجه١.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٣٧٨ وتفسير الرازي جـ ١٨ ص ١١٥..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٣٨..
وعلى هذا خلاف في أن الهم من امرأة العزيز كان فعل المعصية. أما الهم من يوسف فهو موضع خلاف بين العلماء. والظاهر أنه هم بها لكنه لما رأى البرهان من الله لم يهم ؛ وذلك لوجوب العصمة في حق الأنبياء. وبذلك يكون في الكلام تقديم وتأخير. والتقدير : لولا أن رأى يوسف برهان ربه لكان قد هم بها. فهمت هي بالمعصية أما هو فقد هم ولم يواقع ما هم به بسبب البرهان الذي رآه.
قوله :﴿ كذالك لنصرف عنه السوء والفحشاء ﴾ الكاف في اسم الإشارة في موضع نصب صفة لمصدر محذوف، والتقدير : أريناه البرهان رؤية مثل ذلك. وقيل : في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. والتقدير : الأمر مثل ذلك. والمراد بالسوء : خيانة زوجها العزيز، وهو الذي أكرمه وأحسن إليه ﴿ والفحشاء ﴾ معناه الزنا. والمعنى : كما رأيناه البرهان الذي صرفه عما هم به من الفاحشة، كذلك نقيه السوء والفحشاء. أو نقيض له ما يزجره عن إتيان المعاصي ﴿ غنه من عبادنا المخلصين ﴾ بفتح اللام ؛ أي من الذين استخلصهم الله لدينه وتبليغ رسالته٣.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٣٨..
٣ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ١١٣ وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ١٧٠ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢١٧ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٧٥..
﴿ اسُتَبَقَا ﴾ من الاستباق، وهو طلب السبق ومنه السباق. واستبقا الباب ؛ أي تسابقا كلاهما نحو الباب ؛ وذلك أن يوسف لما رأى برهان ربه هرب منها فحلقت به لترده إلى نفسها فأدركته عند باب البيت، فأمسكت بقميصه لتمنعه من الخروج فقدته من دبر ؛ أي شقته من وراء وليس من قدام ؛ لأن يوسف كان الهارب، وكانت هي الطالبة ﴿ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ﴾ أي وجدا زوجها وهو العزيز عند الباب. فلما رأته عمدت إلى إلصاق التهمة بيوسف دفعا لها عن نفسها فرمته بما هو منه برئ، وبادرت القول في ظلم وكذب وتحيل ﴿ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي ما جزاء من يبتغي من زوجتك الفاحشة إلا أن يكون عقابه الحبس أو يضرب الضرب الوجيع بالسياط.
قوله :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ اختلفوا في هذا الشاهد إن كان صغيرا أو كبيرا أو كان في المهد، لكن الظاهر أنه كان ذا قرابة من امرأة العزيز لتكون شهادته أوجب للحجة وأوثق لبراءة يوسف، فحكم قريبها على أن قميص يوسف إن كان مشقوقا أو متخرقا من قدام فذلك يدل على صدق قولها ؛ لأنه إذا كان مقبلا عليها وهي تدفعه عن نفسها فتخرق قميصه من قدام، أما إن كان قميصه مشقوقا من خلف ؛ فهو يعني انه هارب منها وهي لاحقة به وممسكة بقميصه من وراء فتخرق، مما يدل على صدقه وهو أنها هي كاذبة. وهذا قوله ﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ﴾.
قوله :﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴾ اختلفوا في هذا الشاهد إن كان صغيرا أو كبيرا أو كان في المهد، لكن الظاهر أنه كان ذا قرابة من امرأة العزيز لتكون شهادته أوجب للحجة وأوثق لبراءة يوسف، فحكم قريبها على أن قميص يوسف إن كان مشقوقا أو متخرقا من قدام فذلك يدل على صدق قولها ؛ لأنه إذا كان مقبلا عليها وهي تدفعه عن نفسها فتخرق قميصه من قدام، أما إن كان قميصه مشقوقا من خلف ؛ فهو يعني انه هارب منها وهي لاحقة به وممسكة بقميصه من وراء فتخرق، مما يدل على صدقه وهو أنها هي كاذبة. وهذا قوله ﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ﴾.
أي أن دلك من صنيعكن وتحليكم مما حاق بكن من مظنة الفاحشة ولو كان في ذلك معرة تلحق بالأبرياء الأطهار كيوسف عليه السلام. وأنتن في التحيل وإثارة الفتنة أولات براعة عظيمة واقتدار غلاب يستحوذ على همم الرجال وعزائمهم.
قوله :﴿ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ أي إنا لترى امرأة العزيز في صنيعها المستقبح هذا من حبها لفتاها وهو مملوكها وخادمها، ومراودتها إياه عن نفسه كيما يفعل بها الفاحشة ﴿ ضلال مبين ﴾ أي في خطأ ظاهر كبير، وجور مجانب للصواب.
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ١١٥..
٣ مختار الصحاح ص ٣٤١..
قوله :﴿ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ ﴿ حاش ﴾، أصلها حاشا، حذفت الألف للتخفيف ؛ أي معاذ الله ؛ فهي كلمة تفيد التنزيه في باب الاستثناء، نقول : أساء القوم حاشا زيد. وهي حرف من حروف الجر وضعت موضع التنزيه والبراءة١ ؛ أي تنزيها لله من صفات العجز، وتعجبا من قدرته على خلق مثله ﴿ ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم ﴾ نفت النسوة عن يوسف –لما رأينه- كونه بشرا من البشر لغرابة جماله وعظيم حسنه وبهائه، وقلن : ما هكذا يكون البشر، وما هو إلا ملك من الملائكة الأطهار الكرام. وذلك إقرار كامل منهن أن يوسف مبرأ من مظنة الاتهام بالفاحشة فمثله في البراءة والتنزه وجمال الخلق والخلق مثل الملائكة الأبرار الأطهار الذين لا يقربون الفحش أو الدنس.
قوله :﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ ذلك وعيد فاضح من امرأة العزيز بعد أن خلعت عن نفسها شيمة الحياء والاحتشام وهاجت في قلبها ووجدانها سورة الحب المتأجج الأعمى فراحت تهدد يوسف قائلة : لئن لم يفعل ما آمره به من الفاحشة ؛ فلسوف يكون جزاؤه السجن حيث الصغار والمذلة ؛ فيكون فيه مع الأذلة من السارقين والآبقين٢.
٢ تفسير البيضاوي ص ٣١٣ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٢٠..
لما تبين ليوسف أن امرأة العزيز ما فتئت تراوده عن نفسه، وتتوعده الحبس في السجن إذا لم يطعها، لجأ إلى الله ؛ فهو خير مستعان وعليه الاعتماد والتكلان. لقد راح يستعين بالله على ما نزل به من بلاء وفتنة لا يقوى على احتمالها إلا المعصومون والصديقون والأبرار وقليل ما هم. لقد جأر يوسف إلى ربه بالدعاء في خشوع وتذلل، رب السجن أهون عل من إتيان الفاحشة وفعل ما تكره، وإن لم تدفع عني يا رب هذه الفتنة النازلة بي وهذه المراودة التي تحيط بنفسي وأعصابي ﴿ أصب إليهن ﴾ صبا يصبو صبوة ؛ أي مال إلى الجهل والفتوة١. والمعنى : إنني أصبو إلى النساء فيما يردنه مني من سوء ومعصية، وبذلك أكون من السفهاء الذين يعملون عمل الجاهلين.
والسعيد من عصمة الله ونجاه من الموبقات ودفع عنه المفاسد والفتن على اختلافها وتعدد صورها ؛ فغن الفتن إذا طوقت قلب الإنسان كادت تودي به في الغالب إلى الخسران والمهالك سواء في ذلك فتنة المال، أو فتنة النساء، أو فتنة المناصب. لا جرم أن هذه فتن شديدة وعاصفة وغلابة. وهي بذلك تعصف بإرادة الإنسان لتذره أسير الشهوات والملذات والأهواء فلا يملك أمامها إلا الخنوع والاستسلام ما لم يتداركه الله بلطفه ورحمته فينجو من السقوط في الخسران.
قوله :﴿ إنه هو السميع العليم ﴾ الله سميع لدعاء من يلتجيء إليه من عبادة المؤمنين الذين تنزل بهم البلايا أو تصبيهم المحن فيجأرون إله بالدعاء والتضرع وهو سبحانه عليم بمقاصد الناس ومطالبهم وحاجاتهم وما يصلح لهم١.
٢ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ١٢٨ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٢١..
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ أكثر الناس يجحدون نعمة الله عليهم فلا يشكونه، ولا يذكرون أن ما بهم من خير ونعمة فمن الله، وذلك كتمام الصحة والعافية وانسجام الخلق وحسن الصورة، وما سخر لهم من متاع الدنيا ونعيمها مما يحقق لهم الراحة والاستمتاع والتلذذ، فضلا عن هدايتهم إلى الحق وإلى ملة التوحيد التي حملها غليهم المرسلون. كل أولئك من فضل الله على الناس، ولكن أكثرهم مع ذلك كله لا يشكون ولا يذكرون بل يكفرون ويتكبرون ويتجبرون ويلجون في الأرض بغاة مفسدين، يشيعون الأذى واشر والمنكر بن العباد.
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٧٨ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٢٢ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٥ وتفسير البيضاوي ص ٣١٤..
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ أكثر الناس يجحدون نعمة الله عليهم فلا يشكونه، ولا يذكرون أن ما بهم من خير ونعمة فمن الله، وذلك كتمام الصحة والعافية وانسجام الخلق وحسن الصورة، وما سخر لهم من متاع الدنيا ونعيمها مما يحقق لهم الراحة والاستمتاع والتلذذ، فضلا عن هدايتهم إلى الحق وإلى ملة التوحيد التي حملها غليهم المرسلون. كل أولئك من فضل الله على الناس، ولكن أكثرهم مع ذلك كله لا يشكون ولا يذكرون بل يكفرون ويتكبرون ويتجبرون ويلجون في الأرض بغاة مفسدين، يشيعون الأذى واشر والمنكر بن العباد.
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٧٨ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٢٢ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٥ وتفسير البيضاوي ص ٣١٤..
نادى يوسف الفتيين بصاحبي السجن، يعني يا من تسكنان السجن، ثم دعاهما إلى عقيدة التوحيد ومجانبة الإشراك بالله قبل أن بين لهما تأويل ما رأياه في منامهما. ويوسف عليه السلام نبي كريم ومرسل من عند الله يدعو من يجده من الناس إلى التوحيد وعبادة الواحد الديان دون غيره من الكائنات. ويستفاد من دعوته لهما : أنهما كانا من المشركين الذين يعبدون الأصنام فخاطبهم في استفهام تعجيبي لكي ينتهوا للحقيقة ويفيئوا إلى الصواب مجانبين الشرك ؛ فغنه بطل وضلال ﴿ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾ أعبادة أرباب متفرقين شتى وآلهة كثيرة مصطنعة لا تضر ولا تنفع، خير أن عبادة إله قادر قاهر واحد لا شريك له ؟ ! ونظير ذلك قوله سبحانه :﴿ ءالله خير أم يشركون ﴾.
والمشركون السفهاء يعبدون آلهة مختلفة شتى. آلهة متفاوتة الأحجام والأشكال والمسميات مما يدل على أنها جميعها مفتراة ومصطنعة، وأنها من مبتدعات العقول الضالة والأهواء السقيمة. فما ينبغي بعد هذا لذي بصيرة أو مسكة من عقل أن يدين لمثل هذه الآلهة المكذوبة المختلقة بل الله الواحد القاهر لكل شيء لهو حقيق أن يعبده الناس فيدينوا له بكامل لطاعة وتمام الإحساس بالعبودية.
قوله :﴿ مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ﴾ أي سميتم هذه الأصنام آلهة، زورا وكذبا وذلك من عند أنفسكم. وهي أسماء ليس لكم فيها من الله برهان أو حجة ؛ يل هي افتراء منكم واختلاق ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ أي ما حكم في أمر العبادة والدين إلا الله سبحانه ؛ فهو وحده القادر الديان المشرع الذي يبين لعباده حقيقة ما ينبغي أن تكون عليه عبادتهم وسلوكهم. وبيان ذلك : أن الله أمركم أن لا تعبدوا أحدا سواه ؛ فهو له الألوهية، لتتوجه إليه القلوب والمشاعر والنواصي بالإخبات والاستسلام. وهو كذلك له الحاكمية ؛ إذ شرع للناس منهج الحق ليستضيئوا بنوره في حياتهم الدنيا فلا يزيغوا عنه إلى ما سواه من شرائع ونظم.
قوله :﴿ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ ما دعوتكما إليه لهو الدين الحق ؛ فهو الدين القويم الذي بني على التوحيد الخالص، والمجانب لكل أشكال الشرك والوثنية التي تلبس بها الضالون التائهون طيلة الدهر. إن دين الله لهو الحق الذي لا شك فيه ولا زيغ ولا عوج ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أكثر الناس سادرون في الغي والباطل ؛ لأنهم معرضون عن منهج الله، متبعون أهواءهم الضالة الفاسدة ؛ فهم بذلك تائهون عن الحقيقة، زائغون عن الصواب٢.
٢ تفسير الطبري جـ ١٢ ص ١٣٠ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٢٢..
٢ تعبر: تفسر. ناظر المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٥٨٠..
٣ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٧٩ وتفسير الطبري جـ ١٢ ص ١٣١..
والراجح القول الأول، وهو عود الضمير على الناجي ؛ فهو الذي نسي أن يذكر للملك قصة يوسف. ويدل على صوب هذا القول : أن يوسف لا يستحق العقاب باللبث في السجن من أجل النسيان، فغن الناسي غير مؤاخذ. ويستدل أيضا بقوله تعالى :﴿ وقال الذي نج منهما وادكر بعد أمة ﴾ وهذا يدل على أن الناسي هو الساقي وليس يوسف. والله تعالى أعلم.
قوله :﴿ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ﴾ ﴿ بضع ﴾، في العدد، بكسر الباء، هو ما بين الثلاث إلى التسع. تقول : بضع سنين، وبعضة عشر رجلا، وبعض عشرة امرأة، فإذا جاوزت لفظ العشر ذهب البعض، فلا تقول : بضع وعشرون١.
هذه الرؤيا أريها ملك مصر فكانت سببا قدره الله لخروج يوسف من السجن مكللا بالتعزيز والإكرام، فقد رأى الملك رؤيا هالته وذهل منها، فجمع من حوله كبار الدولة من الأمراء وأشرف القوم والعرافين والسحرة وغيرهم من أهل النظر. فذكر لهما ما رآه في منامه ليجدوا لذلك تأويلا.
ورؤياه أن ﴿ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ ﴾ ﴿ عجاف ﴾ جمع ومفرده عجفاء، ومذكره أعجف. وهو من العجف بالفتح يعني الهزال١ ؛ فقد رأى الملك ان سبع بقرات مهازيل يأكلن بقرات سمانا سبعا. وكذلك رأى ﴿ سَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ﴾ وقد قص الملك على ما حوله هذه الرؤيا وقال لهم :﴿ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴾ عبر الرؤيا عبرا وعبارة، وعبرها ؛ أي فسرها وأخبر بآخر ما يؤول إليه أمرها.
واستعبره إياها ؛ أي أرسله عبرها٢. فالمقصود من قوله :﴿ تعبرون ﴾ : إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا ؛ أي تفسيرها. واللام في ﴿ للرؤيا ﴾ زائدة.
٢ القاموس المحيط جـ ٢ ص ٨٥..
٢ تفسير الرازي جـ ١٨ ص ١٥١ والبيضاوي ص ٣١٦. وتفسير القرطبي جـ ٩ ص ٢٠٠..
وينبغي التذكير هنا بأهمية الأحلام ؛ فإن شطرا منها قابل للتأويل أو الإخبار عن أنباء المستقبل مما هو طي الغيب المستور. وما جاء في هذه السورة وغيرها لهو قاطع على أن كثيرا من الأحلام يفضي إلى حقائق واقعة مفسرة يجدها الناس ف سلوكهم وواقعهم الواعي، فما تلبث الأحلام التي تراود الذهن والخيال النائمين أن تنبئ بغيب خفي ربما حصل، أو تحقيق، أو هو في طريقه إلى الظهور والتحقق بعد أمد قريب أو بعيد.
وهذه الحقيقة مشهودة ومحسوسة قد تفجرت من خلال أحلام كثيرة راودت أذهان كثير من النائمين وخيالاتهم. ومن جملة ذلك هذا النبي الكريم ابن الكريم ابن الكريم يعقوب عليه السلام. ومن قبله جده، جد النبيين خليل الرحمن الذي رأى في منامه أنه يذبح ولد إسماعيل. ومن بعد ذلك نبينا العظيم الخاتم صلى الله عليه وسلم ؛ فلقد رأى كثيرا من الرؤى التي كانت ما تلبث أن تتحقق وتظهر مثل فلق الصبح لشدة وضوحها وبلوغ تبيانها الكاشف. وغيرهم كثير من الناس يرون في مناماتهم الأحداث والأخبار التي تنبئ وتنذر بالوقوع حتى ما تلبث أن تقع فعلا. وهذه حقيقة لا يملك حد أن يجحدها أو يستخف بها. وما يجترئ على الاستخفاف بتفسير الأحلام على هذا الأساس إلا متحذلق جهول قد ركب متن الشطط والإيغال في المادية الجاحدة العمياء كأمثال فريق من أدعياء المعرفة في علم النفس. أولئك الذين يزعمون أن الأحلام ضرب من التنفيس عن رغبات مضغوطة مكبوتة لم تجد متنفسها في عالم الواقع ( الشعور ) فراحت تتنفس الصعداء في عالم الأحلام ( اللاشعوري ). ولئن كان هذا التعليل يصيب كثيرا من الحالمين، إلا أنه لا يصدق على عامة الأحلام. وما ينبغي أن نتصور أن سائر الأحلام ضرب من التنفيس عن النفس المكبوتة ؛ فإن شطرا عظيما من الأحلام يجد تأويله في الواقع ؛ إذ يتكشف ويستبين. أما الزعم بأن الأحلام كلها مجرد كبت وتنفيس عن طريق اللاشعوري من جهاز النفس ؛ فذلك افتراء وباطل ولغط وركون إلى المادية الثقيلة بعيدا عن إشراقات الروح الساطعة السامية التي تعلو على المادة وظلها المتبلد المركوم ؛ فنجرم بعد هذا أن الأحلام أصناف، فمنها الأضغاث المختلطة التي يجدعا النائم في رؤياه نتيجة لما يواجهه في الواقع من مشكلات عسيرة ومضنية تضطرب لها نفسه وأعصابه. ومنها الصادق في الإنباء عما جرى أو يجري فيما بعد. وذلك من جملة المبشرات التي تخبر عما يستكن في بطون الغيب مما هو حاصل في الواقع.
قال يوسف للذي سأله وهو ساقي الملك : يأتيكم المطر والغيث والخصب ﴿ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا ﴾ أي متوالية متتابعة. و ﴿ دأبا ﴾، منصوب على المصدر. يقال : دأب يدأب دأبا ودأبا١.
قوله :﴿ فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ﴾ أي ماحصدتموه من الغلة في هذه السنن السبع المخصبة ادخروه في سنبلة كيلا يأكله السوس ؛ وليكون أدوم له وأحفظ، باستثناء القليل وهو ما تحتاجون إليه للغذاء.
قوله :﴿ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ أي ما شأن النساء اللاتي قطعن أيديهم بالسكاكين، والمرأة التي سجنت أنا من أجلها ﴿ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيم ﴾ إن الله عليم بمكرهن وما فعلنه ب من تمحل ومكايدة.
قوله :﴿ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ ﴿ حصحص ﴾ أي بان وظهر١. فبعد اعتراف النسوة ببراءة يوسف وطهره بادرت امرأة العزيز لتقر مثلهن فقالت : الآن ظهر الحق وانكشف ﴿ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ ﴾ وإنه لصادق فما قاله.
وقال أكثر المفسرون : إن هذا قول يوسف عليه السلام. وهو أن ما فعلته من رد الرسول الذي أرسله الملك إلي وعدم إجابته أو الخروج معه إلا أن يسأل الملك النسوة عن تقطيع أيديهم –إنما كان ذلك كله ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته حال غيابه، فإن الله لا يسدد عمل الخائنين الذين يخونون الأمانات.
أما إن كان القائل هو يوسف، فمعناه : أنني لا أبرئ نفسي من الخطأ والزلل فأزكيها ؛ فإن النفس الإنسانية تأمر صاحبها بما تشتهيه أو تهواه وإن كان ذلك في غير ما رضي الله ﴿ إلا ما رحم ربي ﴾ إلا من يرحمه الله فينجيه من براثن الهوى والشهوات المستنفرة التي تؤز صاحبها فعل المحظورات ﴿ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ الله جل وعلا يستر الذنوب والمعاصي، ويصفح عن الزلات وما يقترفه العبد من الخطايا في حالات ضعفه وجنوحه، إذا تاب وأناب١.
قوله :﴿ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ أي أحفظ ما وليت حفظه، أو ما تستحفظني إياه. و ﴿ عليم ﴾ بوجود التصرف السديد النافع.
وثمة مسألة ينبغي توضيحها وهي : هل يجوز للمسلم أن يطلب تقليده ولاية أو عملا من أعمال الدولة وسياسة الرعية إن كان السلطان الأعظم غير مسلم أو كان يحكم بغير شريعة الإسلام ؟ ثمة قولان في هذه المسألة :
القول الأول : إن كان الذي يطلب تقليده ولاية أو عملا من أعمال الدولة يعلم من نفسه أنه أهل لتقليده، جاز له ذلك إن كان يعلم أنه ليس في البلاد من يقدر على الاضطلاع بمثل هذا العمل أو هذه الوجيبة. وهو ما يستدل من هذه الآية ؛ فقد طلب يوسف الولاية ؛ لأنه يعلم أنه ليس من أحد يقوم مقامه في العدل والاستقامة والإصلاح وإيصال الحقوق إلى أهلها من الفقراء والمحتاجين ؛ من أجل ذلك رأى يوسف أن توليه الولاية في مثل هذا الظرف متعين في حقه ؛ إذ لم يكن حينئذ غيره من هو أهل لذلك. فامتدح يوسف نفسه بما هو أهله ﴿ إني حفيظ عليم ﴾ ومثل هذا الحكم –لا جرم- ينسحب على المسلمين في أي زمان إذا علم المتولي أنه ليس من أحد سواه من يضطلع بأمانة التولي على الوجه الأتم والصحيح. حتى إذا امتنع هو، تولى مكانه غير الصالحين من الناس وذلك يفضي في الغالب إلى الإفساد في المجتمع والإضرار بالمسلمين.
وعلى هذا لو علم المرء من نفسه القدرة والصلاح باحتماله وجيبة القضاء أو الولاية أو نحو ذلك من ضروب السلطة في البلاد، وهو يعلم أنه ليس من أحد في الناس مكافئا له في حمل هذه الوجيبة بات احتمالها في حقه لازما كيلا يتضرر المسلمون أو يصيبهم الفساد بتولية الجاهلين أو المفسدين أو المسرفين من الناس.
أما إن كان يعلم أن في المسلمين خيارا صالحين سواه يقتدرون أن يتولوا بعض المناحي من أمر الرعية ؛ فلا يجوز لأحد إذ ذاك أن يتقدم في اجتراء مريب ليطلب تقليده مركزا من المراكز، أو شيئا من إمارة المسلمين.
القول الثاني : عدم جواز تولي المناصب العليا في الدولة التي لا تحكم بشريعة الله، واحتجوا لذلك بما رواه مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي :( يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة ؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها. وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها ) وكذلك ما رواه مسلم عن أبي موسى قال : أقبلت على النبي صلى الله عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين : أحدهما عن يميني والآخر عن يساري فكلاهما سأل العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يستاك. فقال :( ما تقول يا أبا موسى ) قلت : والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما. وما شعرت أنهما يطلبان العمل. فقال :( لن –أو لا- نستعمل على عملنا من أراده ).
وتأويل النهي عن سؤال العمل أو المركز ما بيناه في الفقرة السابقة أنه فيمن يطلب الإمارة وفي الناس من هو خير منه أو مثله في الصلوح لهذا العمل. لكنه إذا لم يكن في المسلمين أكفاء لتولي مثل هذه الولاية أو هذا العمل بات التولي في حق المسلم الكفء لازما ومتعينا.
على أنه يشترط لجواز هذا التولي فوق ما بيناه من شرط، أن يكون المتولي مفوضا في عمله دون معارضة من الحاكم أو مخالفة. وذلك ليستطيع المتولي المسلم الأمين من إصلاح ما أمكن إصلاحه في واقع المسلمين. أما إن كان المتولي لا يعمل برأيه ولا بما ينفع المسلمين بل هوة مقيد تماما بما يفرضه عليه الحاكم من أوامر جائرة مخالفة لشرع الله وتفضي إلى الإضرار بالمسلمين ؛ فلا يجوز لمسلم –والحالة هذه- أن يرضى لنفسه مثل هذا العمل في ظل هذا النظام الجائر المفسد١.
قوله :﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء ﴾ كما أصبنا يوسف ؛ إذ وطأنا له في الأرض فصار قويا مكينا، وذلك بعد هوان الجب، والصبر على الظلم والكيد، وبعد إسار العبودية والسجن –بعد ذلك كله أعقبناه الفرج والنصر والإعزاز والتمكين ﴿ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ لا يبطل الله جزاء من عمل صالحا فأطاع ربه وصبر على بلائه واتقاه.
ومن جملة قصة يوسف بدءا بإلقائه في الجب حتى صار في قمة العلياء والكرامة والإعزاز وما تخلل ذلك من كيد وأحزان ودموع وبلاء، كل ذلك بتقدير الله وحكمته ومشيئته.
أخذ إخوة يوسف معهم بضاعة ليعتاضوا بها طعاما وكانوا عشرة نفر. واستبقى أبوهم يعقوب أخاهم الصغير عنده، وهو بنيامين شقيق يوسف، وكان أحبهم إلى أبيه بعد يوسف ﴿ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴾ أي عرفهم يوسف بنباهته وعظيم فطانته من حيث لا يعرفونه هم. ولا عجب في ذلك فقد فارقهم يوسف وهو طفل في الثانية عشرة على الراجح، واستمر غيابه عنهم أربعين سنة. وعقب هذه المدة الطويلة تتغير في الشخص ملامحه الظاهرة. فبعد أن يكون أمرد الوجه يصير ذا شعر ولحية، وبعد سواد الشعر في رأسه ووجهه يصبح بعد هذه السنين ذا كبر وشيبة. لا جرم أن ينكره من غاب عنه مثل هذه المدة الطويلة.
وقد ذكر عن ابن عباس قوله : إن يوسف قال لترجمان : قل لهم : لغتكم مخالفة للغتنا وزيكم مخالف لزينا فلعلكم جواسيس. فقالوا : والله ما نحن بجواسيس بل نحن بنو أب واحد فهو شيخ صديق. قال : فكم عدتكم ؟ قالوا : كنا اثني عشر فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك فيها. قال : فأين الآخر ؟ قالوا : عند أبينا. قال : فمن يعلم صدقكم ؟ قالوا : لا يعرفنا هاهنا أحد، وقد عرفناك أنسابنا فبأي شيء تسكن نفسك إلينا ؟ فقال يوسف :﴿ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ ﴾ إن كنتم تصدقون فيما تقولون.
قوله :﴿ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ﴾ أي أتمم الكيل ولا أبخس الناس منه شيئا. وأنا أنزلكم خير منزل وأستضيفكم خير ضيافة. وهو بذلك يرغبهم في الرجوع إليه
٢ تفسير الطبري جـ ١٣ ص ٦، ٧ وفتح القدير جـ ٣ ص ٣٨..
﴿ هل آمنكم ﴾ على أخيكم هذا فأعطوه إياه ﴿ إلا كما أمنتكم على أخيه ﴾ يوسف من قبله ففرطتم فيه ؟ أو هل أنتم صانعون هذا إلا كما صنعتم بأخيه من قبله فخنتموني وضيعتموني وحلتم بيني وبينه
﴿ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ ﴿ حفظا ﴾، منصوب على التمييز. والمعنى : أن حفظ الله له خير من حفظكم أنتم له. أو هو سبحانه خيركم حفظا. وهو أحرم راحم بخلقه ؛ فهو يرحمني ويرحم ضعفي ووجدي بولدي فيحفظه ولا يضيعه١.
لما أراد بنو يعقوب الخروج إلى مصر ليتماروا الطعام قال لهم أبوهم يعقوب : لا تدخلوا مصر من طريق واحد بل ادخلوا من طرق مختلفة، ذلك أنهم كانوا أحد عشر رجلا لرجل واحد. وكانوا أولي جمال وهيبة وبسطة ؛ فخشي يعقوب عليهم العين إذا دخلوا جميعا من طريق واحد.
ويستدل من ذلك أن يتحرر المسلم على نفسه وولده وماله من العين، فإنها حق. وفي الخبر :( إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر )، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من العين :( أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة ) إلى غير ذلك من الأدلة على أن العين حق، هو قول علماء الأمة ومذهب أهل السنة. يضاف إلى ذلك الاستشهاد على حقيقة العين بما يقع من ذلك وما نشاهده في الوجود ؛ فكم من رجل ذي هيبة وهيئة وبهاء، أو ذي مال وفضل ونعمة، أزلقته العين إزلاقا، فهلك في نفسه أو ولده، أو أحيط بماله وما يملك. وكم من امرأة ذات حسن وجمال وكمال نشبت فيها عيون الحاسدين التي تنظر وترمق في حسد لئيم قاتل، فأودت بها إلى الموت أو دونه من العلل والأسقام ؛ إنه حقيق بكل مسلم يتقي الله ويخشاه أن يحب إخوته المسلمين جميعا ؛ فيجب لهم الخير والهناء والسعادة، ويكره لهم الشر والضرر والمكاره، وأن يدعو لهم دائما بالخير والبركة إذا رأى فيهم وجها من وجوه النعمة من مال أو جمال أو هيبة أو مكانة أو عافية أو غير ذلك من وجوه النعمة ؛ فلا يرى المسلم شيئا من ذلك حتى يبادر دون وناء أو إبطاء بالدعاء :( ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه ).
قوله :﴿ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ ﴾ أي لا أستطيع دفع شيء عنكم من قضاء الله المكتوب ؛ فقضاء الله نافذ في خلقه، ولا ترده قوى الكون مجتمعة. ومما هو معلوم في هذا الصدد أنه لا يغني حذر من قدر.
قوله :﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ أي ليس الأمر والقضاء إلا بيد الله دون أحد سواه ؛ فقد توكلت عليه، وفوضت أمري كله إليه، ووثقت به في حفظكم ورعايتكم وردكم سالمين معافين ﴿ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ فليتوكل المؤمنون على ربهم وليفوضوا أمرهم كله إليه، وليثقوا بتوفيقه وحفظه ؛ فغنه يكتب السلامة والنجاة لبعاده المؤمنين المخلصين المتوكلين.
قوله :﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ﴾ إن يعقوب لذو علم مما علمناه ﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي لا يعلمون ما يعلمه يعقوب.
﴿ جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ ﴾، أي هيأ لهم أهبة السفر وما يحتاجون إليه في قطع المسافة ؛ إذ وفاهم الكيل وأوقر عيرهم بالطعام. بعد ذلك ﴿ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيه ﴾ و ﴿ السقاية ﴾ هي الصواع، والمراد بذلك : الإناء الذي كان يشرب فيه الملك ويكيل به الطعام وهو من فضة أو من ذهب ؛ فقد جعله يوسف في متاع شقيقه بنيامين من حيث لا يشعر بذلك أحد ؛ ليكون له بذلك ذريعة لاستبقائه عنده.
قوله :﴿ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ أي نادى مناد : أيتها القافلة التي فيها الأحمال ﴿ إنكما لسارقون ﴾ وربما قيل : كيف ينسب يوسف السرقة إلى إخوته وهم برءاء من ذلك ؟ ويجاب عن ذلك أن إخوته كانوا قد سرقوه من أبيهم فألقوه في الجب ظلما وحسدا، فصدق بذلك إطلاق السرقة عليهم.
قوله :﴿ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ﴾ أي لمن جاء بالصواع وقر بعير من الطعام. وهذا يدل على جواز أخذ الجعل. فلو قال رجل : من فعل كذا فله كذا وكذا جاز ﴿ وأنا به زعيم ﴾ أي أنا كفيل بذلك والزعيم في كلام العرب : هو القائم بأمر القوم. ولذلك قيل : رئيس القوم زعيمهم ومدبرهم. وكذلك زعيم القوم سيدهم١.
بعد اتهام إخوة يوسف بالسرقة عجبوا من رميهم بهذا الأمر الذي لم يكن من سجاياهم ولا من عادتهم ؛ فهم أولو نعمة وفضل وسيرة حسنة. من اجل ذلك قالوا لفتيان يوسف الذين نادوهم واتهموهم بالسرقة ﴿ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴾ التاء حرف قسم. وقيل : بدل من واو القسم ؛ فهي لا تدخل إلا على لفظ الجلالة أو الرب مضافا للكعبة، أو الرحمن في قول ضعيف١ وبذلك أقسم إخوة يوسف للفتيان متعجبين على أنكم قد علمتم أننا لسنا مفسدين في الأرض ولا من شأننا أو أخلاقنا أن نتلبس بسرقة ؛ فقد شاهدتم منا حسن السيرة والخلق.
قوله :﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ الكاف في اسم الإشارة في محل نصب صفة لمصدر محذوف. و ﴿ كدنا ﴾ من الكيد وهو المكر والحيلة١ ؛ أي مثل ذلك الكيد ﴿ كِدْنَا لِيُوسُفَ ﴾ يعني علمناه إياه ( الكيد ) وأوحينا به إليه ليكون له سبيلا لأخذ أخيه منهم.
قوله :﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ ﴾ ﴿ دين الملك ﴾ أي حكمه وقضاؤه. والمعنى : أن يوسف ما كان ليستطيع أن يأخذ أخاه بنيامين في شريعة ملك مصر، إذ كان في شريعته أن السارق يغرم ضعفي ما سرق ﴿ إلا أن يشاء الله ﴾ استثناء منقطع. يعني : لكن أخذه بمشيئة الله في دين غير الملك وهو دين آل يعقوب، أن السارق جزاؤه الاسترقاق٢.
﴿ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء ﴾ أي يرفع الله درجات من يشاء رفع درجاته ﴿ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴾ ﴿ ذي علم ﴾، أل عالم. والمعنى : أن كل عالم فوقه من هو أرفع منه درجة في العلم. قال الحسن البصري : ليس من عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عز وجل. وعن ابن عباس قال في ذلك : يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا، والله فوق كل عالم. وقال قتادة :﴿ وفوق كل ذي علم عليم ﴾، حتى ينتهي العلم إلى الله، منه بدئ وتعلمت العلماء وإليه يعود٣.
٢ الدر الموصون جـ ٦ ص ٥٣٣..
٣ البحر المحيط جـ ٥ ص ٣٢٧، ٣٢٨ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٨٥..
قوله :﴿ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ﴾ الضمير في ﴿ فأسرها ﴾ مفسر بسياق الكلام١ ؛ أي أسر في نفسه الحزازة والتألم والمضاضة من سوء ما سمعه من إخوته الذين كادوا له من قبل، وما فتئوا حتى الساعة يفترون عليه الباطل ؛ فقد أخفى يوسف ذلك كله في نفسه ولم يظهره لهم ثم قال لهم :﴿ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ﴾ ذلك قول يوسف موبخا إياهم بعد أن كره مقالتهم التي حزت في نفسه ؛ لأنها مقالة ظلم واتهام بالباطل. و ﴿ مكانا ﴾، تمييز منصوب ؛ أي أنتم شر منزلة من غيركم ؛ فقد سرقتم أخاكم من أبيكم وألقيتموه في المهلكة ورحتم تفترون الكذب والباطل على أبيكم ﴿ والله أعلم بما تصفون ﴾ أي أعلم بما تذكرون وتتقولون٢.
٢ البحر المحيط جـ ٥ ص ٣٣٠..
لما تحقق أخذ بنيامين، فتقرر استبقاؤه عند يوسف شرع إخوته يترفقون له ويستعطفونه استعطافا ويذكرونه بأيهم الشيخ الكبير عسى أن يرفق بهم فيسرح أخاهم إذ قالوا :﴿ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا ﴾ في السن والقدر وكانوا قد أعلموا يوسف أن أباهم كان له ابن من قبل وقد هلك –يعنون بذلك يوسف- وهذا شقيقه يستأنس به أبوه. وخاطبوه بالعزيز ؛ لأن العزيز قد مات فعينه الملك مكانه فقالوا ليسوف مستعطفين مسترفقين ﴿ فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ﴾ ﴿ مكانة ﴾ منصوب ؛ لأنه ظرف مكان. وقيل : مفعول ثان١ ؛ أي خذ أحدنا بدلا عنه، ولك على جهة الاسترهان أو الاسترقاق. ويحتمل أن يكون قولهم على سبيل المجاز ؛ فهم يعلمون أنه لا يصح أن يؤخذ حر بسارق لما في ذلك من مخالفة لشريعتهم. وإنما قالوا له ذلك مبالغة في الاستعطاف ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ أي من أهل الإحسان الذين أحسنوا إلينا وأسدوا إلينا الخير والمعروف.
قوله :﴿ قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقًا مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ ﴾ كبيرهم في السن أو العقل أو التدبير، وما، زائدة فيكون المعنى : أن أخاهم قال لهم : ألم تقطعوا على أنفسكم العهد واليمين من قبل هذا لتردن على أبيكم أخاكم بنيامين ومن قبل هذا فرطتم في يوسف أي قصرتم في حقه وشأنه١.
قوله :﴿ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي ﴾ ﴿ أبرح ﴾ هنا تامة بمعنى أفارق، و ﴿ الأرض ﴾ مفعول به٢ ؛ يعني : لن أفارق مصر بل إني ماكث فيها حتى يأذن لي أبي بالرجوع أو يمكنني من أخذ أخي ﴿ وهو خير الحاكمين ﴾ الله خير من يحكم. وذلك لكمال علمه وعدله، وعظيم رحمته وفضله.
٢ الدر المصون جـ ٦ ص ٥٣٩..
قوله :﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ﴾ التزم يعقوب الصبر في هذه المرة كما اصطبر على حبيبه وقرة عينه يوسف في المرة الأولى. وهو مع بالغ أساه وعميق حزنه يساوره الرجاء العظيم في الله أن يرد إليه أبناءه الثلاثة وهم يوسف، وأخوه الذي وجدوا في رحله الصواع. ثم أخوهم الكبير الذي ذكرهم بموثقهم الذي قطعوه لأبيهم، والذي أبى إلا المكث في مصر حتى يأذن له أبوه أو يحكم الله بشيء آخر.
هكذا كان جواب يعقوب لأبنائه مع ما يساوره من بالغ الرجاء من الله بإرجاع بنيه الثلاثة إليه. وهو في ذلك كله تشده الثقة الكاملة بحقيقة رؤياه وحقيقة ما تصير إليه من ظهور يوسف وسجود إخوته له تعظيما.
قوله :﴿ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ قال يعقوب وهو يبث حزنه إلى ربه : إن الله عليم بحالي وهمي وحزني، حكيم في تدبيره وأفعاله.
والمعنى : أن يعقوب أعرض عنهم كارها ما جاءوه به من خبر أخيهم حتى ساء ظنه بهم أكثر ولم يصدقهم ؛ بل إنه أخذ قي التفجع والأسى والاستزادة من ذكرى حبيبه يوسف فعادوه الحزن البالغ والبكاء الحرور حتى ابيضاض العينين وهو العمى ﴿ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ فقد ابيضت عيناه من فرط الحزن والبكاء ﴿ فهو كظيم ﴾ أي شديد الكظم. والكظيم، الذي يكتم حزنه في نفسه ويمسك همه في صدره فلا يرسله بالشكوى والغضب والضجر. وقيل : كظيم بمعنى مكروب ومكمود وهو الذي تغير لونه٢.
٢ القاموس المحيط ص ١٤٩٠..
والمعنى : أنك لا تزال تذكر يوسف ﴿ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا ﴾ أي إلى حال القرب من الهلاك. والحرض هو الإشفاء على الموت، أو الفساد في البدن وفي العقل. أو هو الرجل الفاسد المريض. يقال : حرض الرجل يحرض حرضا بفتح الراء. ويستوي فيه المفرد والمثنى والمذكر والمؤنث٢.
٢ الدر المصون جـ ٦ ص ٥٤٧ والقاموس المحيط ص ٨٢٤..
تحسسوا، أي استقصوا الخبر ؛ فقد استنهض يعقوب بنيه أن يضربوا في الأرض ساعين ميممين شطر مصر ليعرفوا خبر أخويهم يوسف وبنيامين. وأمرهم أيضا ألا تيأسوا من فرج الله وهو قوله :﴿ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ ﴾ و ﴿ روح الله ﴾ بفتح الراء : يعني رحمته وفرجه١ ؛ فقد أمرهم ألا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يبتغونه ويسعون لتحصيله ﴿ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ أي لا يقطع الرجاء من الله أو يقنط من رحمته وفضله إلا الكافرون ؛ فهم يجحدون رحمة الله وينكرون نعمته وفضله على العباد. وذلك من دأب الجاحدين الكافرين الذين لا يركنون إلا إلى الدنيا وما هي عليه من أوضاع وقوانين ونظم وتصورات وحطام.
٢ البحر المحيط جـ ٥ ص ٣٣٦ وتفسير الجلالين ص ٣١٦..
بعد ما أفاض إخوة يوسف في بيان سوء حالهم مما أصابهم في بلادهم من الجدب والقحط والجهد، وما اعترى أباهم الشيخ الكبير من شدة الحزن وبالغ الكظم والمرارة لفراق ولديه يوسف وبنيامين وصيرورته من أجل ذلك ضريرا –بعد هذا الإخبار المثير من إخوة يوسف ليوسف تذكر الأخير عليه السلام أباه وما ألم به من عظيم الحزن فأخذته رقة ورحمة، وغمره الإشفاق والحزن على أبيه. وذكر أنه ابتدره البكاء حتى صارحهم ﴿ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ﴾ والاستفهام للتقريع١ ويراد به تعظيم الحدث ؛ أي ما أعظم ما اقترفتم في حق يوسف وأبيه منن افترائكم على أبيكم باختلاق الأقاويل كاصطناع الدم الكذب، ثم تملؤكم على أخيكم ؛ إذ ألقيتموه في المهلكة واتهمتموه بالسرقة، كل ذلك وأنتم ﴿ جاهلون ﴾ أي حملكم على فعل ما فعلتموه كونكم جاهلين أي أولي جهالة. وهي جهالة الصبا والغرور والطيش. وقيل : كل من عصا الله فهو جاهل.
قوله :﴿ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا ﴾ كشف يوسف لإخوته عن أمره مبينا أنه هو يوسف، وأن هذا –مشيرا إلى أخيه بنيامين- أخوه ﴿ قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا ﴾ تفضل الله علينا بان جمعنا بعد فراق وآنستا بعد وحشة فأعقبنا الله فضلا وبركة وخيرا ؛ فإن الله يمن بالخير والفضل والنعمة على عباده المتقين الصابرين، وهو قوله سبحانه :﴿ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ يتق، بحذف الياء ؛ لأنه فعل شرط مجزوم. ﴿ ويصبر ﴾ معطوف عليه. والمعنى : أن من يتق الله فيخشاه باجتناب نواهيه، وبطاعته فيما أمر ﴿ ويصبر ﴾ عن فعل المعاصي وعلى أداء الطاعات ﴿ فإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ يندرج في المحسنين من وصف بالتقوى والصبر، فأولئك يجدون أجرهم عند ربهم غير مضيع ولا مبخوس.
لا جرم أن يوسف يأتي في الأوج من الدرجات العلى، درجات الأبرار والأطهار من المتقين ؛ فهو رسول كريم قد أوتي النبوة وجاءه الوحي من السماء، ولقد نجا من براثن الكيد العظيم الذي تتداعى تحت إغوائه همم الصناديد من الرجال. لكن يوسف عليه الصلاة والسلام لم تتزعزع إرادته، وما اضطربت أعصابه، ولا لانت همته أمام الفتنة الطاغية المغوية من امرأة العزيز ذات المنصب الرفيع وجمال الفاتن.
قوله :﴿ وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾ ﴿ إن ﴾، مخففة١ يعني : إنا كنا لخاطئين ؛ أي آثمين. وهو من الخطيئة، وهي الذنب. أو ما تعمده الإنسان قاصدا الإثم. وهو غير الخطأ. فهو ( الخطأ ) ما لم يتعمد. وفاعل الخطأ الذي يقصد الصواب ولم يوفق له٢. أما إخوة يوسف فقد أقروا بذنبهم وأنهم كانوا خاطئين ؛ أي مذنبين آثمين فيما فعلوه. لكن يوسف كان في غاية الرأفة واللين والشفقة.
٢ القاموس المحيط ص ٤٨..
٢ البحر المحيط جـ ٥ ص ٣٣٧- ٣٣٩ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٨٩..
قوله :﴿ يَأْتِ بَصِيرًا ﴾ سيصير بإلقاء القميص على وجهه بصيرا بعد ما عمي. ﴿ بصيرا ﴾، منصوب على الحال٢ ؛ فقد صار يعقوب بصيرا بتقدير الله وإرادته. لا جرم أن هذه واحدة من جملة معجزات حسية يؤتاها نبي عظيم كيعقوب عليه السلام. وما يعز على الله أن يفعل ذلك أو أعظم منه ؛ فهو سبحانه بيده مقاليد الكون كله وما فيه من قوانين ونواميس وأشياء ومقادير.
قوله :﴿ وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ ﴿ أجمعين ﴾، تأكيد. ويجوز أن تكون حالا٣ ؛ فقد أمرهم يوسف أن يبرحوا موطنهم في بلاد الشام ليأتوا غليه في مصر. والمراد بأهلهم هنا : بنو يعقوب جميعا وذريتهم. وقيل : كانوا سبعين وقيل : كانوا ثمانين، وقيل غير ذلك ؛ فقد حلوا بمصر في كنف النبي الكريم ابن الكريم ابن الكريم فنموا وتناسلوا حتى خرج من ذريتهم من موسى عليه السلام ستمائة ألف. أولئك الذين أنجاهم الله من ظلم فرعون، وفلق لهم البحر فمضوا فيه طريقا يبسا سالمين آمنين.
٢ الدر المصون جـ ٦ ص ٥٥٦..
٣ الدر المصون جـ ٦ ص ٥٥٦..
قوله :﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ قال يعقوب لمن كان بحضرته من بنيه : ألم أخبركم عن عملي بأن الله سيرد علي يوسف تأويلا لرؤياه الصادقة، وأنني موقن بقضاء الله وكنا من قضائه أن نخر جميعا له ساجدين. وكنتم أنتم لا تعلمون ما أعلمه.
لما دخل يعقوب وولده وأهلوهم على يوسف ﴿ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ﴾ يعني ضمهما إليه واعتنقهما وقال لهم يوسف :﴿ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ ﴾ أي آمنين من ظلم ملوكهم، أو آمنين من الجدب والقحط. وروي أنه لما لقيه قال يعقوب : السلام عليك يا مذهب الأحزان. وقال له يوسف : يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك ؟ ألم تعلم أن القيامة تجمعنا ؟ فقال : بلى ولكن خشيت أن يسلب دينك فيحال بيني وبينك. وقيل : إن يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجا ونساء، وخرجوا منها مع موسى ومقاتلهم ستمائة ألف ونيف.
وكل هذه الضروب في التحية منسوخ في شريعة الإسلام. وإنما المشروع وحده للتحية ما كان بالكلام بدلا عن السجود أو الانحناء أو الإيماء أو التكفؤ ؛ فليس لمسلم بعد ذلك أن يحيي أخاه بشيء من ذلك ؛ فإنه كله صور من صور الشرك الذي ينافي عقيدة التوحيد في دين الإسلام.
قوله :﴿ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ﴾ قال يوسف لأبيه : هذا السجود الذي سجدتموه لي أنت وأمي وإخوتي لهو مآل رؤياي التي كنت رأيتها من قبل ما فعل بي إخوتي ما فعلوه، وقد جعل ربي هذه الرؤيا ﴿ حقا ﴾ أي صادقة محققة. واختلفوا في قدر المدة التي كانت بين رؤيا يوسف وتأويلها. فقد قيل : كانت أربعين سنة، وهو قول أكثر العلماء والمفسرين.
قوله :﴿ وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ ﴾ أحسن الله إلي بإخراجي من السجن حيث كنت محبوسا، وفي مجيئكم من البدو إلى هنا ؛ فقد ذكر أن مسكن يعقوب وولده كان ببادية فلسطين. وقيل : في عربة من أرض فلسطين بغور الشام ؛ فقد كان آل يعقوب أهل بآدية وشاء وإبل ينتقلون في المياه والمناجع. و ﴿ البدو ﴾ مصدر. بدا فلان يبدو بدوا ؛ إذا صار بالبادية. والبدوة تعني الإقامة في البادية وهي ضد الحضارة٢ ؛ أي ما حصل بني وبين إخوتي سببه نزغ الشيطان ؛ فقد نزع بني وبينهم ؛ أي أفسد بيني وبينهم. وقد أسند خطيئة إخوته إلى الشيطان تلطفا منه وتواضعا. وقيل : أوقع الشيطان بيني وبينهم بإثارة الحسد في قلوبهم. ﴿ إن ربي لطيف لما شاء إنه هو العليم الحكيم ﴾ الله رفقي بعباده ؛ فهو يرحمهم برحمته ويكف عنهم البأساء واللأواء، ويكون لهم خير حافظ ومعين إذا أحدقت بهم الشدائد والكروب ؛ فقد رحم عبده الصابر الطهور يوسف فاذهب عنه البلاء والشدة وكرمه خير تكريم ﴿ إنه هو العليم الحكيم ﴾ الله العليم بمصالح العباد. فليس من عليم بما ينفعهم أو يضرهم على الحقيقة سوى الله. وهو سبحانه الحكيم في تصرفه وتدبيره٣.
٢ مختار الصحاح ص ٦٥٤..
٣ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٤٩١ وفتح القدير جـ ٣ ص ٥٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٢٣٨..
على أنه ما ينبغي لأحد في شريعة أن يتمنى الموت وإن اشتدت به الخطوب وتكاثرت من حوله النوائب والمحن. فما ينبغي لمسلم في مثل هذه الأحوال من الشدة والكرب إلا أن يلجأ إلى الله بالدعاء ؛ لكي يفيض على قلبه بالرحمة والسكينة، وأن ييسر له الطاقة على الاحتمال والصبر ؛ فيكتب عند الله في عداد الصابرين العابدين المخبتين.
وفي هذا الصدد روي الإمام أحمد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ؛ فإن كان ولابد متمنيا الموت فليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي ) ١.
هذه الأخبار العجيبة المثيرة ما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم –وهو العربي الأمي الذي لم يعفر القراءة ولا الكتابة ولا التاريخ من أنباء الغابرين- يعلم منها شيئا لكن الله أطلعه عليها بوحي من عنده. لا جرم أن ذلك يزجي بقاطع الدلالة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم.
أما السبب الذي يكمن خلف هذه الحقيقة أن الإنسان مشحون بفيض من الشهوات والاستعدادات والغرائز التي تتزاحم فيها الرغبات والأهواء المتعارضة ما بين مستنفر صوب النور وفعل الخيرات والصالحات، أو مضطرب لجوج تستخفه وتستهويه اللذائذ المرغوبة المشتهاة. وليت شعري لو أن التزاحم بين الشقين يجري في معزل عن عوامل أسباب أخرى مريبة ومصطنعة تميل إلى جانب الشهوات والغرائز فتؤزها أزا.
إن الشهوات والغرائز في الإنسان تذكيها أفاعيل الشياطين من الجن والناس ؛ فتزيد من تأججها واستعارها على حساب الظواهر والاستعدادات الراقية الأخرى في الإنسان، وذلك هو التأثير الخطير البالغ الذي تفضي إليه الثقافات الضالة المريبة في إضعاف الإنسان وتدميره من الداخل بإفساد فطرته السليمة وما يتجلى فيها من خصائص ومعان ومركبات، حتى يتبدل الإنسان بذلك غير الإنسان السوي، أو تتبدل البشرية غير البشرية الكريمة العظيمة فتنقلب إلى أناسي ضالين غير أسوياء وقد دنست فيهم الفطرة أيما تدنيس.
من أجل ذلك كله سيكون الإقبال من الناس على منهج الله ضئيلا، ويكون أكثر الناس- ولو حرص الدعاة والمجاهدون- غير مصدقين ولا مهتدين ولا راشدين. كل ذلك بفعل المفسدين والمضلين والمغوين من الشياطين، وفي طليعتهم شياطين البشر الذين اجتالوا الناس عن سوء الفطرة، وعن منهج الله، بما برعوا فيه من فنون التدمير والغواية والتخريب.
وبالرغم من ذلك كله يدأب الداعون إلى الله على تبليغ رسالة الإسلام للناس بكل ما أوتوه من طاقة واقتدار دون تفريط أو تقصير. وليس عليهم بعد ذلك من بأس إذا لم يستجب من الناس إلا القليل ؛ فما ينبغي لهم أن يبتئسوا إذا ما كان إقبال الناس على دين الله أقل مما تأملوا أو حسبوا ؛ فتلك هي رسالة المسلمين الداعين إلى منهج الله.
وهي أن يمضوا في اهتمام ودراية وعزم لدعوة البشرية إلى دين الإسلام غير مترددين ولا متخاذلين ولا متثاقلين. والله جل وعلا يجزيهم أجورهم ويكتب لهم التوفيق والهداية والرضوان في الدنيا والآخرة.
ذلك إخبار من الله تفريط الناس وأن أكثرهم غافلون عن التفكير في آيات الله وفي ملكوته مما حوته السموات والأرض من دلائل ظاهرات سواطع تكشف عن قدرة الله ذي الجلال. فلا يمر أكثرهم بما في الكون من علامات وظواهر مثيرة عجاب إلا مرور اللاهين الغافلين، أو المعرضين السادرين في غياهب الحطام واللهو. وهو قوله سبحانه :﴿ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ﴾ أي وكم من علامة أو برهان أو دليل ظاهر في خلائق الله من السموات والأرض بدءا بالخلية البسيطة ذات المركبات المتكاملة المنسجمة، وانتهاء بما حواه الكون الهائل من أجرام ضخام، نواميس عظام، وخلائق وعجائب تشده القلب والبال ( كل أولئك تمر به البشرية معاينين أو شاهدين أو دارسين، لكنهم مع ذلك كله ليسوا إلا غافلين معرضين.
ذلك أن الإيمان الصحيح لا يحتمل أيما صورة من صور الإشراك أو الازدواجية في الخضوع أو الخشوع أو الامتثال الذليل. فما من صورة من صور التوجه أو الاستسلام لغير الله مع الله إلا كان ذلك ضربا من ضروب الإشراك الذي لا يقام معه للإيمان وزن أو قيمة.
ويأتي في جملة الذين يؤمنون وهم مشركون، أهل الكتاب الذين يجحدون رساله الإسلام أشد جحود ويكذبون محمدا صلى الله عليه وسلم أيما تكذيب، فضلا عن إشراكهم مع الله آلهة أخرى كعزيز والمسيح.
وكذلك المشركون الوثنيون الذين لا يجحدون الإيمان بالله البتة، إلا أنهم مع إيمانهم هذا يعبدون مع الله آلهة أخرى كالذين يعبدون الصنم أو النار أو البقر أو غير ذلك من الطواغيت والجبابرة من الملوك، أولئك جميعا مشركون لا يقيم الله لإيمانهم وزنا.
وكذلك المنافقون الذين يراءون الناس ؛ فإنهم يندرجون في الذين يؤمنون بالله وهم مشركون ؛ فليس لإيمانهم أو أعمالهم أيما اعتبار. روي الإمام أحمد عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ) قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال :( الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة- إذ جازى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا عل تجدون عندهم جزاء ؟ ).
وعن أبي موسى الأشعري قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال :( يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك ؛ فإنه أخفى من دبيب النمل ) فقال له من شاء الله : فكيف نتقه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله ؟ قال :( قولوا : اللهم إنا نعوذ بك من أن تشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه ).
وذلك كله :﴿ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾ ﴿ بصيرة ﴾ بمعنى حق ويقين واستبصار. يعني : أدعو إلى دين الله على يقين وبرهان واستبصار أنا والمؤمنون معي، الذين أمنوا برسالتي واتبعوا ديانتي وما جئتهم به من عند الله ﴿ وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ أي وفي ذلك كله فإني أنزه الله وأقدسه عن الشريك أو النظير أو النديد. وإني على منهج الحق والتوحيد الكامل بعيدا عن ضلال المشركين الذين يتخذون مع الله آلهة أندادا١.
ذلك إخبار من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللناس أنه سبحانه لم يرسل أحدا من قبلك من غير الرجال. فإنما أرسل رسله من جنس الرجال ليكونوا مبشرين ومنذرين وليكونوا مبلغين دعوة الله للبعاد. وعلى هذا لم يرسل الله نبيا من النساء بل اختص الله الرجال لهذه الوجيبة الكبرى. الوجيبة التي تنوء بحملها الراسيات الشوامخ. لا جرم أن الرجل لهو أعظم اقتدارا على حمل هذه الأمانة الكؤود، فضلا عن مزايا الأنوثة التي تتجلى فيها الرقة والاستحياء واللين والخور والوجل مما يثني المرأة عن احتمال مثل هذه الوجيبة التي يخور لحملها الصناديد من الناس.
وثمة قول إن الله أوحى إلى أم موسى وكذا مريم أم المسيح، فكلتاهما بذلك نبية، وهو قول ضعيف. والصحيح : أنه ليس في النساء نبيات بل فيهن صديقات. وهو قول أكثر أهل العلم وعليه أهل السنة والجماعة. وفي هذا يقول عز من قائل :﴿ ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام ﴾.
قوله :﴿ نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ فقد أوحي الله إلى النبين من أهل القرى وهي المدائن والأمصار ؛ فهم أرق طباعا، وأعظم أحلاما، وأسلس عريكة١. ولم يبعث الله أنبيائه من أهل البوادي وهم الأعراب وذلك لشدة جفائهم وقسوة طباعهم وقلة عملهم.
قوله :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ الاستفهام للإنكاري. والمراد هؤلاء الجاحدون المكذبون. أفلم يسيروا في البلاد وهم يضربون في الأرض مسافرين فينظروا مصارع الهالكين الغابرين المكذبين، الذين دمر الله عليهم ؟ أفر يعتبرون مما حاق بالأمم الخالية فينزعوا عن كفرهم وجحدوهم ؟
قوله :﴿ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ ﴾ هذا إضافة إلى الصفة بعد حذف الموصوف وتقديره : ولدار الساعة الآخرة٢، وقيل : الجنة ؛ فإنها خير للذين يتقون ربهم بطاعته ومجانبة نواهيه. قوله :﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ أفلا تتدبرون أو تستعملون عقولكم فتعرفوا أن الدار الآخرة خير وأبقى.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٤٥..
وفي تعزيز هذا التأويل روي البخاري عن عروة عن عائشة قالت له وهو يسألها عن قول الله عز وجل :﴿ حتى إذا استيأس الرسل ﴾ قال : قلت : أكذبوا أم كذبوا ؟ قالت عائشة : كذبوا –بالتشديد- قلت : فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن. قالت : أجل ! لعمري ! لقد استيقنوا بذلك. فقلت لها :﴿ وظنوا أنهم قد كذبوا ﴾ قالت : معاذ الله. لم تكن الرسل تظن ذلك بربها. قلت فما هذه الآية ؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء واستأجر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصرنا عند ذلك.
قوله :﴿ جَاءهُمْ نَصْرُنَا ﴾ إذا يئس الرسل من إيمان قومهم بهم وظن وقومهم المشركون أن الرسل قد كذبوهم –بالتخفيف- في أنهم ينصرون عليهم ؛ حينئذ يجيء الرسل والمؤمنين نصر الله.
قوله :﴿ فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء ﴾ ﴿ فنجي ﴾، بنون واحدة وتشديد الجيم وفتح الياء وهو فعل ماض مبين للمفعول. ﴿ من ﴾، في محل رفع نائب فاعل ؛ أي نجي الله رسله والذين آمنوا معهم وأهلك بعذابه المكذبين المستنكفين. قوله :﴿ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ إذا وقع من الله فإنه لا راد لهذا العذاب عنهم١.
وذلك كله في إحكام مترابط منسجم موصول يضم خلاله أكرم المعاني والعبر. وذلك في آية واحدة قصيرة لا يتلوها قارئ متدبر حتى تبادره حلاوة الألفاظ والمعاني، ويسري في شغافه وخياله جمال الأسلوب المحبوب، وسحر الإيقاع النافذ إلى عميق النفس. وهذه الخصيصة في روعة الختام والتعقيب إنما تتجلى في القرآن الكريم وحده من بين سائر الكلم ! أما تأويل الآية فهو أنه كان في أخبار النبيين والمرسلين وأممهم، وكذلك ما حوته قصة يوسف من حقائق وأنباء تذهل –في ذلك كله ﴿ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ أي ذكرى وموعظة لأولى النهي والأفهام من الناس.
إن ما حواه القرآن من أخبار الأولين وقصصهم وما لقيه النبيون والمرسلون من صنوف البلاء والتعذيب من أممهم الفاسق أكثرها لهم خير تذكير وعظة للمتدبرين أولي الأبصار.
وفي جملة ذلك كله قصة يوسف وما حوته من وقائع وأحداث تثير الحيرة والدهش وتستنفر الألم والأسى وتعتصر القلوب لتفيض مضاضة وحزنا ! ويأتي في مقدمة هذه الوقائع المذهلة مثلبة الحسد البغيض الذي يستولي على المرء شر استيلاء ليسول له قتل أخيه، لا في الدين فحسب بل في الذين والنسب. لا جرم أن الحسد يسري في دم ابن آدم سريان الماء في عروق الأرض، وأنه يطغى على القلب والأعصاب والجهاز النفسي كله في الغالب فينجح بصاحبه لفعل الفظائع من المنكرات إلا أن يتذكر المرء مخافة الله في قلبه فيرعوى ليفيء إلى الصواب كلما ذكر الله في نفسه فاتقاه وازدجر.
قوله :﴿ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى ﴾ ما كان هذا القرآن حديثا مختلقا اختلاقا كما زعم الجاهدون السفهاء ﴿ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ ﴿ تصديق ﴾، منصوب ؛ لأنه خبر كان. وتقديره : ولكن كان ذلك تصديق الذي بين يديه١ ؛ أي كان هذا القرآن تصديقا لما قبله من التوراة والإنجيل وسائر كتب الله. فالقرآن مصدق لما في الكتب المنزلة من السماء ؛ فهو يصدق الصحيح منها، وينفي ما وقع فيها من تغيير وتبديل ﴿ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ آيات القرآن جاءت لتفصل ما يحتاج إليه الناس من أحكام الحلال والحرام بما في ذلك من بيان للواجبات والمستحبات والمحرمات والمكروهات. وكذلك الإخبار عن أسماء الله وصفاته وما يليق بجنابه وما لا يليق مما هو عنه منزه. وكذلك أنباء الأولين من الغابرين والدارسين مما فيه موعظة وذكرى للمتدبرين المتقين ﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ ﴿ وَهُدًى وَرَحْمَةً ﴾، منصوبان على العطف على قوله :﴿ تصديق ﴾ ؛ أي إن القرآن نور تستضيء به البشرية لتهتدي في طريقها وحياتها فلا تضل أو تتعثر، وهو كذلك بما تضمنه من أحكام وشرائع ومبادئ وقيم ؛ رحمة مهداة من الله للناس كيما يسعدوا بع في حياتهم هذه، ويوم القيامة يكونون من الآمنين الناجين في مقعد صدق وعليين. جعلنا الله في زمرة السعداء الآمنين الناجين في الدنيا والآخرة.