تفسير سورة يوسف

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
مكية وهي مائة وإحدى عشرة آية.
مكية إلا الآيات ١ و ٢ و ٣ و ٧ فمدنية وآياتها ١١١

﴿الر﴾ الكلامُ فيه وفي محله وفيما أريد بالإشارة والآياتِ والكتابِ في قوله
﴿تلك آيات الكتاب﴾ عيْنُ ما سلف في مطلعِ سُورة يونسَ
﴿المُبينَ﴾ مِن أبانَ بمعنى بان أي الظاهرِ أمرُه في كونه من عند الله تعالى وفي إعجازه بنوعيه لا سيما الإخبارُ عن الغيب أو الوضاح معانيه للعرب بحيث لا يشتبه عليهم حقائقُه ولا يلتبس لديهم دقائقُه لنزوله على لغتهم أو بمعنى بيّن أي المبين لِما فيه من الأحكام والشرائعِ وخفايا المُلكِ والملكوتِ وأسرارِ النشأتين في الدارين وغيرِ ذلك من الحِكَم والمعارف والقصص وعلى تقدير كونِ الكتاب عبارةً عن السورة فإبانتُه إنباؤُه عن قصة يوسفَ عليه السلام فإنه قد رُوي أن أحبارَ اليهودِ قالوا لرؤساء المشركين سلوا محمدا ﷺ لماذا انتقل آلُ يعقوبَ من الشام إلى مصر وعن قصة يوسفَ عليه السلام ففعلوا ذلك فيكون وصفُ الكتابِ بالإبانة من قبيل براعةِ الاستهلالِ لما سيأتي ولمّا وُصف الكتابُ بما يدل على الشرف الذاتي عُقِّب ذلك بما يدل على الشرف الإضافي فقيل
﴿إِنَّا أنزلناه﴾ أي الكتابَ المنعوتُ بما ذُكِرَ من النعوتِ الجليلةِ فإن كان عبارةً عن الكل وهو الأظهرُ الأنسبُ بقوله تعالى
﴿قرآنا عَرَبِيّاً﴾ إذ هو المشهورُ بهذا الاسم المعروفِ بهذا النعت المتسارعِ إلى الفهم عند إطلاقِهما فالأمرُ ظاهرٌ وإنْ جُعل عبارةً عن السورة فتسميتُها قرآناً لما عَرفته فيما سلف والسرُّ في ذلك أنه اسمَ جنسٍ في الأصل يقع على الكل والبعضِ كالكتاب أو لأنه مصدرٌ بمعنى المفعول أي أنزلناه حالَ كونِه مقروءاً بلغتكم
﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي لكي تفهموا معانيَه طراً وتحيطُوا بما فيهِ من البدائع خُبْراً وتطّلعوا على أنه خارجٌ عن طوْق البشر منزَّلٌ من عند خلاّق القُوى والقدر
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ أي نخبرك ونحدّثك واشتقاقُه من قصَّ أثرَه إذا اتّبعه لأن مَنْ يقُصّ الحديثَ يتْبع ما حفِظ منه شيئاً فشيئاً كما يقال تلا القرآن لأنه يتْبع ما حفِظ منه آيةً بعد آية
﴿أَحْسَنَ القصص﴾ أي أحسن الاقتصاص فنصبُه على
250
يوسف الآية (٤) المصدريه وفيه مع بيان الواقعِ إيهامٌ لما في اقتصاص أهلِ الكتاب من القُبح والخلل وتركُ المفعولِ إما للاعتماد على انفهامه من قولهِ عزَّ وجلَّ
﴿بِمَا أَوْحَيْنَا﴾ أي بإيحائنا
﴿إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ أي هذه السورةَ فإن كونَها مُوحاةً منبىءٌ عن كون ما في ضمنها مقصوصاً والتعرضُ لعنوان قرآنيتِها لتحقيق أن الاقتصاصَ ليس بطريق الإلهامِ أو الوحي غيرَ المتلوِّ وإما لظهوره من سؤال المشركين بتلقين علماءِ اليهودِ وأحسنيّتُه لأنه قد اقتُصّ على أبدع الطرائق الرائعةِ الرائقةِ وأعجبِ الأساليب الفائقةِ اللائقةِ كما لا يكاد يخفى على من طالع القصةَ من كتب الأولين والآخرين وإن كان لا يميز الغثّ من السمين ولا يفرّق بين الشمال واليمين وفي كلمة هذا إيماءٌ إلى مغايرة هذا القرآنِ لما في قوله تعالى قرآنا عَرَبِيّاً بأن يكون المرادُ بذلك المجموعَ فتأمل أو نقص عليك أحسنَ ما نقص من الأنباء وهو قصةُ آلِ يعقوبُ عليه السلام على أن القَصصَ فَعَلٌ بمعنى المفعول كالنبأ والخبر أو مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ كالخلْق والصيد ونصبُ أحسنَ على المفعولية وأحسنيتُها لتضمنها من الحِكم والعِبر ما لا يخفى كمالُ حسنه
﴿وَإِن كُنتُ﴾ أن مخففةٌ من الثقيلة وضميرُ الشأنِ الواقعُ اسماً لها محذوفٌ واللامُ فارقةٌ والجملةُ خبرٌ والمعنى وإنّ الشان كنت
﴿مِن قَبْلِهِ﴾ من قبلِ إيحائِنا إليك هذه السورةَ
﴿لَمِنَ الغافلين﴾ عن هذه القصة لم تخطُر ببالك ولم تقرَعْ سمعَك قطُّ وهو تعليلٌ لكونه مُوحى والتعبيرُ عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وإن غفَل عنه بعضُ الغافلين
251
﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ﴾ نُصب بإضمار اذكرْ وشروعٌ في القصة إنجازاً للوعد بأحسنِ الاقتصاصِ أو بدلٌ من أحسنَ القصصِ على تقدير كونِه مفعولاً بدلَ اشتمالٍ فإن اقتصاصَ الوقتِ المشتملِ على المقصوص من حيث اشتمالُه عليه اقتصاصٌ للمقصوص ويوسُفُ اسمٌ عبريٌّ لا عربيٌّ لخلوّه عن سبب آخرَ غيرِ التعريف وفتح السين وكسرها على بعض القراءات بناءً على التلعّب به لا على أنه مضارعٌ بُني للمفعول أو الفاعلِ من آسَف لشهادة المشهورة بعجمته
﴿لأَبِيهِ﴾ يعقوبَ بن إسحق بن إبراهيمَ عليهمْ الصلاةُ والسلامُ وَقَدْ روي عنه ﷺ إن الكريمَ بنَ الكريمِ بن الكريم بن الكريم يوسفُ بنُ يعقوبَ بنِ إسحق بنِ إبراهيمَ
﴿يا أبت﴾ أصله يا أبي فعوِّض عن الياء تاءُ التأنيثِ لتناسُبهما في الزيادة فلذلك قُلبت هاءً في الوقف على قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوبَ وكسرتُها لأنها عوضٌ عن حرف يناسبها وفتحها ابنُ عامر في كل القرآن لأنها حركةُ أصلها أو لأن الأصلَ يا أبتا فحُذف الألف وبقي الفتحة وإنما لم يُجز يا أبتي لأنه جمعٌ بين العِوض والمعوَّض وقرىء بالضم إجراءً لها مُجرى الألفاظِ المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويضِ وعدم تسكينها كأصلها لأنها حرفٌ صحيحٌ منزلٌ منزلةَ الاسمِ فيجب تحريكها ككاف الخطاب
﴿إِنّى رَأَيْتُ﴾ من الرؤيا لا من الرؤية لقوله لا تقصص رؤياك هذا تَأْوِيلُ رؤياى ولأن الظاهرَ أن وقوعَ مثلِ هذه الأمور البديعةِ في عالم الشهادةِ لا يختصُّ برؤيةِ راءٍ دون راءٍ فيكون طامّةً كبرى لا يخفى على أحد من الناس
﴿أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا والشمس والقمر﴾
251
رُويَ عنْ جابرٌ رضيَ الله عْنهُ أن يهودياً جاء إلى رسول الله ﷺ فقال أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسُف عليه السلام فسكت النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فنزلَ جبريلُ عليه السَّلامُ فأخبره بذلك فقال ﷺ إذا أخبرتك بذلك هل تسلم فقال نعم قال ﷺ جريان والطراق والذيال وقابسُ وعمودان والفليقُ والمصبحُ والضّروحُ والفرعُ ووثّابُ وذو الكتفين رآها يوسف عليه السلام والشمس والقمر نزلن من السماء وسجَدْن له فقال اليهوديُّ إي والله إنها لأسماؤها وقيل الشمس والقمر أبواه وقيل أبوه وخالتُه والكواكبُ إخوتُه وإنما أُخِّر الشمسُ والقمر عن الكواكب لإظهار مزيتِهما وشرفِهما على سائر الطوالع بعطفهما عليها كما في عطف جبريلَ وميكائيلَ على الملائكة عليهم السلام وقد جُوِّز أن تكون الواو بمعنى مع أي رأيت الكواكبَ مع الشمس والقمر ولا يبعُد أن يكون ذلك إشارةً إلى تأخر ملاقاتِه عليه السلام لهما عن ملاقاته لإخوته وعن وهب أن يوسفَ عليه السلام رأى وهو ابنُ سبعِ سنين أن إحدى عشرةَ عصاً طِوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة وإذا عصاً صغيرةٌ تثب عليها حتى اقتلعتْها وغلبتْها فوصف ذلك لأبيه فقال إياك أن تذكرَ هذا لإخوتك ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرةَ سنةً الشمسَ والقمرَ والكواكبَ تسجُد له فقصّها على أبيه فقال لا تقصَّها عليهم فيبغوا لك الغوائل وقيل كان بين رؤيا يوسفَ ومصير إخوتِه إليه أربعون سنةً وقيل ثمانون
﴿رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ﴾ استئنافٌ ببيان حالِهم التي رآهم عليها كأن سائلاً سأل فقال كيف رأيتهم فأجاب بذلك وإنما أُجريت مُجرى العقلاءِ في الضمير لوصفها بوصف العقلاء أعني السجود وتقديمُ الجار والمجرور لإظهار العنايةِ والاهتمام بما هو الأهمُّ مع ما في ضمنه من رعاية الفاصلة
252
﴿قال يا بني﴾ صغّره للشفقه أو لها ولصِغَر السن وهو أيضاً استئناف مبني على سؤال من قال فماذا قال يعقوبُ بعد سماعِ هذه الرؤيا العجيبةِ ولمّا عرَف يعقوب عليه السلام من هذه الرؤيا أن يوسفَ يبلّغه الله تعالى مبلغاً جليلاً من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه الكرامِ خاف عليه حسَدَ الإخوة وبغيَهم فقال صيانةً لهم من ذلك وله من معاناة المشاقِّ ومقاساةِ الأحزان وإن كان واثقاً بأن الله تعالى سيحقق ذلك لا محالة وطمعاً في حصوله بلا مشقة
﴿لا تقصص رؤياك﴾ هي ما في المنام كما أن الرؤيةَ ما في اليقظة فُرّق بينهما بحر في التأنيث كما في القربى والقربة وحقيقتُها ارتسامُ الصورةِ المنحدرة من أفق المُتخيّلة إلى الحس المشترك والصادقةُ منها إنما تكون باتصال النفسِ بالملكوت لِما بينهما من التناسُب عند فراغِها من تدبير البدنِ أدنى فراغٍ فتتصور بما فيها مما يليق من المعاني الحاصلةِ هناك ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشتركِ فتصير مشاهِدةً ثم إذا كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوتُ إلا بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجبت إليه
﴿على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ﴾ نصب بإضمار أن أي فيفعلوا
252
يوسف الآية (٦)
﴿لَكَ﴾ أي لأجلك ولإهلاكك
﴿كَيْداً﴾ متيناً راسخاً لا تقدر على التفصّي عنه أو خفياً عن فهمك لا تتصدى لمدافعته وهذا أوفقُ بمقام التحذير وإن كان يعقوبُ عليه السلام يعلم أنهم ليسوا بقادرين على تحويل ما دلت الرؤيا على وقوعه وهذا الأسلوبُ آكدُ من أن يقال فيكيدوك كيداً إذ ليس فيه دِلالةٌ على كون نفس الفعلِ مقصودَ الإيقاع وقد قيل إنما جيء باللام لتضمينه معنى الاحتيالِ المتعدِّي باللام ليفيد معنى المضمَّنِ والمضمّن فيه للتأكيد أي فيحتالوا لك ولإهلاكك حيلةً وكيداً والمرادُ بإخوته ههنا الذين يَخشى غوائلَهم ومكايدَهم بنو عَلاّته الأحدَ عشرَ وهم يهوذا وروبيلُ وشمعونُ ولاوي وربالون ويشجُرُ ودينة بنو يعقوب من ليا بنت خالته ودان ونفتالي وجاد وآشر بنوه من سريّتين زلفة وبلهة وهؤلاء هم المشارُ إليهم بالكواكب الأحدَ عشر وأما بنيامين الذي هو شقيقُ يوسفَ عليه السلام وأمُّهما راحيل التي تزوجها يعقوبُ عليه السلام بعد وفاة أختها ليّا أو في حياتها إذ لم يكن جمعُ الأختين إذ ذاك محرماً فليس بداخل تحت هذا النهي إذ لا يتوهم مضرّتُه ولا يُخشى معرّتُه ولم يكن معدوداً معهم في الرؤيا إذ لم يكن معهم في السجود ليوسف والمرادُ نهيُه عن اقتصاص الرؤيا عليهم كلاًّ أو بعضاً
﴿إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ ظاهرُ العداوة فلا يألو جهداً في إغواء إخوتِك وإضلالِهم وحملهم على ما لا خيرَ فيه وهو استئنافٌ كأن يوسف عليه السلام قال كيف يصدر ذلك عن إخوتي الناشئين في بيت النبوة فقيل إن الشيطان يحمِلهم على ذلك ولما نبهه عليهما السَّلامُ على أنَّ لرؤياه شأناً عظيماً يستتبع منافعَ وحذّره إشاعتَها المؤديةَ إلى أن يحول إخوتُه بينها وبين ظهورِ آثارِها وحصولِها أو يُوعروا سبيلَ وصولِها شرع في تعبيرها وتأويلها على وجه إجمالي فقال
253
﴿وكذلك﴾ أيْ ومثلَ ذلكَ الاجتباءِ البديعِ الذي شاهدتَ آثارَه في عالم المثالِ من سجود تلك الأجرامِ العلوية النيِّرةِ لك وبحسَبه وعلى وَفْقه
﴿يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ﴾ يختارك لجناب كبريائه ويستنبؤك افتعال من جباه إذا جمعه ويصطفيك على أشراف الخلائقِ وسَراةِ الناس قاطبةً ويُبرز مصداق تلك الرؤيا في عالم الشهادة حسب ما عاينته من غير قصور والمرادُ بالتشبيه بيانُ المضاهاةِ المتحققةِ بين الصور المرئيةِ في عالم المثالِ وبين ما وقعت هي صوراً وأشباحاً له من الكائنات الظاهرةِ بحسبها في عالم الشهادة أي كما سُخّرت لك تلك الأجرامُ العظامُ يسخِّرْ لك وجوهَ الناس ونواصيَهم مذعنين لطاعتك خاضعين لك على وجه الاستكانة ومرادُه بيانُ إطاعةِ أبويه وإخوتِه له لكنه إنما لم يصرّح به حذراً من إذاعته
﴿وَيُعَلّمُكَ﴾ كلامٌ مبتدأٌ غيرُ داخلٍ تحت التشبيه أراد به عليه السلام تأكيدَ مقالته وتحقيقَها وتوطينَ نفسِ يوسفَ عليه السلام بما أخبر به على طريقة التعبيرِ والتأويل كأنه قال وهو يعلمك
﴿مِن تَأْوِيلِ الاحاديث﴾ أي ذلك الجنسِ من العلوم أو طرفاً صالحاً منه فتطلّع على حقيّة ما أقول ولا يَخْفى ما فيهِ من تأكيد ما سبق والبعثِ على تلقي ما سيأتي بالقبول والمرادُ بتأويل الأحاديث تعبيرُ الرؤيا إذ هي أحاديثُ الملَكِ إن كانت صادقةً أو أحاديثُ
253
النفس أو الشيطان أن لم تكنْ كذلك والأحاديثُ اسم جمعٍ للحديث كالأباطيل اسمجمع للباطل لا جمع أُحدوثة وقيل كأنهم جمعوا حديثاً على أحْدِثة ثم جمعوا الجمعَ على أحاديث كقطيع وأقطِعة وأقاطيع وقيل هو تأويلُ غوامضِ كتب الله تعالى وسنن الأنبياء عليهم السلام والأولُ هو الأظهرُ وتسميةُ التعبير تأويلاً لأنه جُعل المرئيُّ آيلاً إلى ما يذكره المعبِّرُ بصدد التعبير ورجْعِه إليه فكأنه عليه الصلاة والسلام أشار بذلك إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام من تعبيره لرؤيا صاحبَيْ السجنِ ورؤيا الملِك وكون ذلك ذريعةً إلى ما يبلّغه الله تعالى إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة وإنما عرَف يعقوبُ عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي أو أراد كونَ هذه الخَصلةِ سبباً لظهور أمرِه عليه السلام على الإطلاق فيجوز حينئذ أن تكون معرفتُه عليه السلام لذلك بطريق الفِراسةِ والاستدلال من الشواهد والدلائل والأَمارات والمخايل بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا لا بد من توفيقه لتعبيرها وتأويل أمثالِها وتمييز ما هو آفاقيٌّ منها مما هو أنفُسيٌّ كيف لا وهي تدل على كمال تمكّن نفسِه عليه السلام في عالم المثال وقوةِ تصرفاتِها فيه فيكون أقبلَ لفيضان المعارفِ المتعلّقة بذلك العالم وبما يحاكيه من الأمور الواقعةِ بحسبها في عالم الشهادةِ وأقوى وقوفاً على النسب الوقاعة بين الصور المعاينةِ في أحد ذينك العالمين وبين الكائنات الظاهرةِ على وفقها في العالم الآخر وأن هذا الشأن البديع لا بد أن يكون أنموذجاً لظهور أمرِ من اتصف به ومداراً لجريان أحكامِه فإن لكلِّ نبيَ من الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام معجزةً بها تظهر آثارُه وتجري أحكامُه
﴿وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بأن يضم إلى النبوة المستفادةِ من الاجتباء المُلكَ ويجعله تتمة لها وتوسيطُ ذكر التعليم المذكور بينهما لكونه من لوازم النبوةِ والاجتباءِ ولرعاية ترتيبِ الوجود الخارجي ولِما أشرنا إليه من كون أثرِه وسيلةً إلى تمام النعمة ويجوز أن يعد نفس الرؤيا من نعمِ الله تعالَى عليه فيكون جميع النعم الواصلة إليه بحسبها مصداقاً لها تماماً لتلك النعمة
﴿وعلى آل يَعْقُوب﴾ وهم أهلُه من بنيه وغيرهم فإن رؤيةَ يوسفَ عليه السلام إخوتَه كواكبَ يهتدى بأنوارها من نعمِ الله تعالَى عليهم لدِلالتها على مصير أمرِهم إلى النبوة فيقع كلُّ ما يخرج من القوةِ إلى الفعلِ من كمالاتهم بحسب ذلك تماماً لتلك النعمةِ لا محالة وأما إذا أريد بتمام تلك النعمةِ المُلكُ فكونُه كذلك بالنسبة إليهم باعتبار أنهم يغتنمون آثارَه من العزِ والجاهِ والمال
﴿كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ﴾ نصبٌ على المصدرية أي ويتم نعمتَه عليك إتماماً كائناً كإتمام نعمتِه على أبويك وهي نعمةُ الرسالةِ والنبوةِ وإتمامُها على إبراهيمَ عليه السلام باتخاذه خليلاً وإنجائه من النار ومن ذبح الولدِ وعلى إسحق بإنجائه من الذبح وفدائِه بذِبْحٍ عظيم وبإخراج يعقوبَ والأسباطِ من صُلبه وكلُّ ذلك نعمٌ جليلة وقعت تتمةً لنعمة النبوة ولا يجب في تحقيق التشبيهِ كونُ ذلك في جانب المشبَّه به مثلَ ما وقع في جانب المشبه من كل وجه
﴿مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل هذا الوقت أو من قبلك
﴿إِبْرَاهِيمَ وإسحاق﴾ عطفُ بيانٍ لأبويك والتعبيرُ عنهما بالأب مع كونهما أبا جدِّه وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطِه بالأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وتذكيرِ معنى الولدُ سرُّ أبيه ليطمئن قلبُه بما أخبر به في ضمن التعبيرِ الإجمالي لرؤياه والاقتصارُ في المشبه به على ذكر إتمام النعمةِ من غير تعرض للاجتباء من باب الاكتفاء فإن إتمام النعمة
254
يوسف الآية (٧ ٨) يقتضي سابقةَ النعمة المستدعيةِ للاجتباء لا محالة
﴿إِنَّ رَبَّكَ﴾ استئنافٌ لتحقيق مضمونِ الجُمل المذكورةِ أي يفعل ما ذكر لأنه
﴿عَلِيمٌ﴾ بكل شيءٍ فيعلم من يستحق الاجتباءَ وما يتفرَّع عليه من التعليم المذكورِ وإتمامِ النعمةِ العامة على الوجه المذكور
﴿حَكِيمٌ﴾ فاعلٌ لكل شيءٍ حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحة فيفعل ما يفعل كما يفعل جرياً على سنن علمِه وحكمتِه والتَّعرضُ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ في الموضعين لتربية تحققِ وقوعِ ما ذُكر من الأفاعيلِ هذا وقد قيل في تفسير الآية الكريمةِ أي وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالةِ على شرف وعزَ وكمالِ نفس يجتبيك ربُّك للنبوة والمُلك أو لأمور عِظامٍ ويُتمُّ نعمتَه عليك بالنبوة أو بأن يصل نعمة الدينا بنعمة الآخرة حيث جعلهم في الدنيا أنبياءَ وملوكاً ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا في الجنة كما أتمها على أبويك بالرسالة فتأمل والله الهادي
255
﴿لَّقَدْ كَانَ فِى يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ﴾ أي في قصتهم والمراد بهم ههنا إما جميعُهم فإن لبنيامينَ أيضاً حصةً من القصة أو بنو عَلاّته المعدودون فيما سلف إذ عليهم يدور رحاها
﴿آيات﴾ علاماتٌ عظيمةُ الشأنِ دالةٌ على قدرة الله تعالى القاهرة وحكمته الباهرة
﴿للسائلين﴾ لكل من يسأل عن قصتهم وعرفها أو الطالبين للآيات المعتبرين بها فإنهم الواقفون عليها والمنتفعون بها دون مَنْ عداهم ممَّن اندرج تحت قوله تعالى وكأين من آية فِى السموات والارض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ فالمرادُ بالقصة نفسُ المقصوص أو على نبوتِه عليه السلام لمن سأله من المشركين أو اليهود عن قصتهم فأخبرهم بذلك على ما هي عليه من غير سماعٍ من أحد ولا ممارسةِ شيء من الكتب فالمرادُ بها اقتصاصُها وجمعُ الآيات حينئذ للإشعار بأن اقتصاصَ كلِّ طائفةٍ من القصة آيةٌ بينةٌ كافيةٌ في الدلالة على نبوته عليه السلام على نحو ما ذُكر في قوله تعالى مَّقَامِ إبراهيم على تقدير كونِه عطفَ بيان لقوله تعالى آيَات بَيّنَات لا لما قيلَ من أنه لتعدد جهةِ الإعجاز لفظاً ومعنى وقرأ ابن كثير آيةٌ وفي بعض المصاحف عبرةٌ وقيل إنما قصَّ الله تعالى على النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم خبرَ يوسفَ وبغْيَ إخوتِه عليه لِما رأى من بغي قومه عليه ليأتسي به
﴿إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ﴾ أي شقيقُه بنيامينُ وإنما لم يذكَرْ باسمه تلويحاً بأن مدار المحبةِ أُخوّتُه ليوسف من الطرفين ألا يُرى إلى أنهم كيف اكتفَوا بإخراج يوسفَ من البين من غير تعرُّضٍ له حيث قالوا اقتلوا يوسف
﴿أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾ وحّد الخبر مع تعدد المبتدأ لأن أفعل من كذا لا يفرّق فيه بين الواحدِ وما فوقه ولا بين المذكر والمؤنث نعم إذا عُرّف وجب الفرقُ وإذا أضيف جاز الأمران وفائدةُ لام الابتداءِ في يوسف تحقيقُ مضمونِ الجملة وتأكيدُه
﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ أي والحالُ أنا جماعةٌ قادرون على الحل والعقد أحقاءُ بالمحبة والعُصبة والعِصابة العشَرةُ من الرجال فصاعداً سُمّوا بذلك لأن الأمورَ تُعصَب بهم
﴿إِنَّ أَبَانَا﴾ في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما وكونهما بمعزل من كفاية الأمورِ بالصِّغر والقلة
﴿لفي ضلال﴾ أي ذهاب عن طريق التعديلِ اللائقِ وتنزيلِ كلَ منا منزلتَه
﴿مُّبِينٍ﴾
255
يوسف الآية (١٠) ظاهرِ الحال روي أنه كان أحبَّ إليه لما يرى فيه من مخايل الخير وكانت إخوتُه يحسُدونه فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة بحيث لم يصبِر عنه فتضاعف حسدُهم حتى حملهم على مباشرة ما قُص عنهم
256
﴿اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضًا﴾ من جملة ما حُكي بعد قوله إذا قالوا وقد قاله بعضٌ منهم مخاطباً للباقين بقضية الصيغة فكأنهم رضُوا بذلك كما يروى أن القائلَ شمعونُ أو دان والباقون كانوا راضين إلا من قال لا تقتلوا الخ فجعلوا كأنهم القائلون وأُدرجوا تحت القولِ المسندِ إلى الجميع أو قاله كلُّ واحدٍ منهم مخاطباً للبقية وهو أدلُّ على مسارعتهم إلى ذلك القولِ وتنكيرُ أرضاً وإخلاؤها من الوصف للإبهام أي أرضاً منكورةً مجهولة بعيدةً من العُمران ولذلك نصبت نصبَ الظروفِ المُبهمة
﴿يَخْلُ﴾ بالجزم جوابٌ للأمر أي يخلُصْ
﴿لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ فيُقبل عليكم بكلّيته ولا يلتفتْ عنكم إلى غيركم ولا يساهمكم في محبته أحدٌ فذكرُ الوجه لتصوير معنى إقبالِه عليهم
﴿وَتَكُونُواْ﴾ بالجزم عطفاً على يخْلُ أو بالنصب على إضمار أنْ أو الواو بمعنى مع مثل قوله وَتَكْتُمُواْ الحق وإيثارُ الخطابِ في لكم وما بعده للمبالغة في حملهم على القبول فإن اعتناءَ المرءِ بشأن نفسِه واهتمامَه بتحصيل منافعِه أتمُّ وأكمل
﴿مِن بَعْدِهِ﴾ من بعد يوسفَ أي من بعد الفراغِ من أمره أو قتله أو طرحه
﴿قَوْمًا صالحين﴾ تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم أو صالحين مع أبيكم بإصلاح ما بينكم وبينه بعذر تمهّدونه أو صالحين في أمور دنياكم بانتظامها بعده بخلُوّ وجه أبيكم
﴿قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ﴾ هو يهوذا وكان أحسنَهم فيه رأياً وهو الذي قال فَلَنْ أَبْرَحَ الارض الخ وقيل روبيل وهو استئنافٌ مبني على سؤال من سأل وقال اتفقوا على ما عُرض عليهم من خصلتي الضّيْع أم خالفهم في ذلك أحدٌ فقيل قال قائل منهم
﴿لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ﴾ أظهره في مقام الإضار استجلاباً لشفقتهم عليه أو استعظاماً لقتله وهو هو فإنه يروى أنه قال لهم القتلُ عظيمٌ ولم يصرّح بنهيهم عن الخَصلة الأخرى وأحاله على أولوية ما عرضه عليهم بقوله
﴿وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب﴾ أي في قعره وغوره سُمِّي بها لغَيبته عن عين الناظرِ والجبّ البئرُ التي لم تُطْوَ بعدُ لأنها أرضٌ جُبّت جباً من غير أن يُزاد على ذلك شيءٌ وقرأ نافعٌ في غيابات الجب في الموضعين كأن لتلك الجبّ غياباتٍ أو أراد بالجب الجنسَ أي في بعض غيابات الجبِّ وقرىء غيابات وغيبة
﴿يَلْتَقِطْهُ﴾ يأخذْه على وجه الصيانة عن الضياع والتلف فإن الالتقاطَ أخذُ شيءٍ مشرف على الضياع
﴿بَعْضُ السيارة﴾ أي بعض طائفةٍ تسير في الأرض واللام في السيارة كما في الجب وما فيهما وفي بعض من الإبهام لتحقيق ما يتوخاه من ترويج كلامِه بموافقته لغرضهم الذي هو تنائي يوسفَ عنهم بحيث لا يدرى أثرُه ولا يروى خبرُه وقرىء تلتقطْه على التأنيث لأن بعضَ السيارة سيارةٌ كقوله... كَما شرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ...
ومنه قُطعت بعضُ أصابعه
﴿إِن كُنتُمْ فاعلين﴾ بمشورتي لم يبُتَّ القول عليهم بل إنما عرض
256
يوسف الآية (١١ ١٢ ١٣) عليهم ذلك تأليفا لقلبهم وتوجيهاً لهم إلى رأيه وحذراً من نسبتهم له إلى التحكم والافتيات أو إن كنتم فاعلين ما أزمعتم عليه من إزالته من عند أبيه لا محالة ولما كان هذا مظنةً لسؤال سائل يقول فما فعلوا بعد ذلك هل قبِلوا ذلك منه أو لا أجيب بطريق الاستئناف على وجه أُدرج في تضاعيفه قبولهم لله بما سيجيء من قوله وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب فقيل
257
﴿قَالُواْ يا أَبَانَا﴾ خاطبوه بذلك تحريكاً لسلسلة النسبِ بينه وبينهم وتذكيراً لرابطة الأخوّة بينهم وبين يوسفَ عليه الصلاة والسلام ليتسببوا بذلك إلى استنزاله عليه السلام عن رأية في حفظه منهم لمّا أحس منهم بأمارات الحسد والبغي فكأنهم قالوا
﴿مالك﴾ أي أيُّ شيء لك
﴿لاَ تَأْمَنَّا﴾ أي لا تجعلنا أمناءَ
﴿على يُوسُفَ﴾ مع أنك أبونا ونحن بنوك وهو أخونا
﴿وَإِنَّا لَهُ لناصحون﴾ مريدون له الخيرَ ومشفقون عليه ليس فينا ما يُخلُّ بالنصيحة والمِقَة قطُّ والقراءة المشهورةُ بالإدغام والإشمام وعن نافع رضي الله عنه تركُ الإشمام ومن الشواذ ترك الإدغام
﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً﴾ إلى الصحراء
﴿يَرْتَعْ﴾ أي يتسعْ في أكل الفواكه ونحوهما فإن الرتع هو الاتساعُ في الملاذ
﴿وَيَلْعَبْ﴾ بالاستباق والتناضل ونظائرِهما مما يُعد من باب التأهّب للغزو وإنما عبروا عن ذلك باللعب لكونه على هيئته تحقيقاً لما راموه من استصحاب يوسفَ عليه السلام بتصويرهم له بصورة ما يلائم حاله عليه السلام وقرىء نرتعْ ونلعبْ بالنون وقرأ ابن كثير نرتِع من ارتعى ونافع بالكسر والياء فيه وفي يلعب وقرىء يُرتِعْ من أرتع ماشيتَه ويرتعِ بكسر العين ويلعبُ بالرفع على الابتداء
﴿وَإِنَّا لَهُ لحافظون﴾ من أن يناله مكروهٌ أكدوا مقالتَهم بأصناف التأكيدِ من إيراد الجملة اسميةً وتحليتها بإنّ واللام وإسنادُ الحفظ إلى كلهم وتقديمُ له على الخبر احتيالاً في تحصيل مقصدهم
﴿قال﴾ استئناف مبني على سؤال من يقول فماذا قال يعقوبُ عليه السَّلامُ فقيل قال
﴿إِنّى لَيَحْزُنُنِى﴾ اللامُ للابتداء كما في قوله عز وجل إن رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ
﴿أَن تَذْهَبُواْ بِهِ﴾ لشدة مفارقتِه عليّ وقلة صبري عنه
﴿و﴾ مع ذلك
﴿أَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذئب﴾ لأن الأرض كانت مَذأبة والحزنُ ألمُ القلب بفوت المحبوبِ والخوفُ انزعاجُ النفسِ لنزول المكروهِ ولذلك أُسند الأولُ إلى الذهاب به المفوِّتِ لاستمرار مصاحبتِه ومواصلتِه ليوسف والثاني إلى ما يُتوقع نزولُه من أكل الذئبِ وقيل رأى في المنام أنه قد شد عليه عليه السلام ذئبٌ وكان يحذَره فقال ذلك وقد لقنهم العلة... إن البلاء موكل بالمنطق...
وقرأ ابن كثير ونافع في رواية البزي بالهمزة على الأصل وأبو عمرو به وقفاً وعاصم وابنُ عامر وحمزةُ درجاً وقيل اشتقاقه من تذاءبت الريحُ إذا هاجت من كل جانب وقال الأصمعي الأمرُ بالعكس وهو أظهر لفظاً ومعنى
﴿وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافلون﴾ لاشتغالكم بالرتع واللِّعْب أو لقلة اهتمامكم بحفظه
257
يوسف الآية (١٤ ١٥)
258
﴿قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ أي والحالُ أنا جماعةٌ كثيرةٌ جديرةٌ بأن يعصب بنا الأمورُ العظام وتُكفى الخطوبُ بآرائنا وتدبيراتِنا واللام الداخلةُ على الشرط موطئةٌ للقسم وقوله
﴿إِنَّا إِذَا لخاسرون﴾ جوابٌ مُجزىءٌ عن الجزاء أي لهالكون ضعفاً وخوَراً وعجزاً أو مستحقون للهلاك إذ لا غَناء عندنا ولا جدوى في حياتنا أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخَسار والدمار ويقال خسّرهم الله تعالى ودمّرهم حيث أكل الذئبُ بعضهم وهم حضور وقيل إن لم نقدِر على حفظه وهو أعزُّ شيء عندنا فقد هلكت مواشينا إذن وخسِرناها وإنما اقتصروا على جواب خوف يعقوب عليه السلام من أكل الذئب لأنه السببُ القوي في المنع دون الحزن لِقصر مدّته بناء على أنهم يأتون به عن قريب
﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ﴾ أي أزمعوا
﴿أَن يَجْعَلُوهُ﴾ مفعولٌ لأجمعوا يقال أجمع الأمرَ ومنه فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ ولا يستعمل ذلك إلا في الأفعال التي قوِيت الدواعي إلى فعلها
﴿فِى غَيَابَةِ الجب﴾ قيل هي بئرٌ بأرض الأردنّ وقيل بين مصرَ ومدينَ وقيل على ثلاثة فراسخَ من منزل يعقوبَ عليه السلام بكنعانَ التي هي من نواحي الأردنّ كما أن مدين كذلك وأما يقال من أنها بئرُ بيتِ المقدس فيردّه التعليلُ بالتقاط السيارةِ ومجيئهم أباهم عشاءَ ذلك اليومِ فإن بين منزل يعقوبَ عليه السلام وبين بيت المقدس مراحل وجوابُ لمَّا محذوفٌ إيذاناً بظهوره وإشعاراً بأن تفصيلَه مما لا يحويه فلكُ العبارة ومجملُه فعلوا به من الأذية ما فعلوا يروى أنهم لما برزوا إلى الصحراء أخذوا يُؤْذونه ويضرِبونه حتى كادوا يقتلونه فجلع يصيح ويستغيث فقال يهوذا أما عاهدتموني أن لا تقتلوه فأتَوا به إلى البئر فتعلق بثيابهم فنزعوها من يديه فدلّوه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصَه لِما عزموا عليه من تلطيخه بالدم احتيالاً لأبيه فقال يا إخوتاه ردوا عليّ قميصي أتوارى به فقالوا ادعُ الشمسَ والقمرَ والأحدَ عشر كوكباً تؤنسك فدلوه فيها فلما بلغ نصفها ألقَوْه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي فنادوه ظن أنها رحمةٌ أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه فمنعهم يهوذا وكان يأتيه بالطعام كلَّ يوم ويروى أن إبراهيمَ عليه السلام حين ألقي في النار وجُرِّد عن ثيابه أتاهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحق وإسحق إلى يعقوبَ فجعله يعقوبُ في تميمة وعلقها في عنق يوسفَ فجاءه جبريل عليه السلام فأخرجه من التميمة فألبسه إياه
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾ عند ذلك تبشيراً له بما يئول إليه أمره وإزالةً لوحشته وإيناساً له قيل كان ذلك قبل إدراكِه كما أوحي إلى يحيى وعيسى وقيل كان إذ ذاك مدركا قال الحسن رضي الله عنه كان له سبعَ عشرةَ سنة
﴿لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا﴾ أي لتَتخَلّصن مما أنت فيه من سوءِ الحالِ وضيقِ المجال ولتُحدِّثن إخوتَك بما فعلوا بك
﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ بأنك يوسفُ لتبايُن حاليك
258
يوسف الآية (١٦ ١٧) حالِك هذا وحالِك يومئذ لعلو شأنِك وكبرياءِ سلطانِك وبُعد حالِك عن أوهامهم وقيل لبعد العهد المبدِّلِ للهيئات المغيِّرِ للأشكال والأولُ أدخلُ في التسلية روي أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصُّواع فوضعه على يده ثم نقره فطنّ فقال إنه ليُخبرني هذا الجامُ أنه كان لكم أخٌ من أبيكم يقال له يوسفُ وكان يُدْنيه دونكم وأنكم انطلقتم به وألقَيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم أكله الذئبُ وبعتموه بثمن بخس ويجوز أن يتعلق وهم لا يشعرون بالإيحاء على معنى أنا آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوشحة التي أورثوه وهم لا يشعرون بذلك ويحسبون أنه مرهق ومستوحش لا أنيس له وقرىء لننبئنّهم بالنون على أنه وعيدٌ لهم فقوله تعالى وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ متعلق بأوحينا لا غير
259
﴿وجاؤوا أَبَاهُمْ عِشَاءً﴾ آخر النهار وقرىء عُشِيّا وهو تصغير عشى وعُشىً بالضم والقصر جمع أعشى أي عَشْواً من البكاء
﴿يَبْكُونَ﴾ متباكين روي أنه لما سمع يعقوبُ عليه السلام بكاءهم فزع وقال ما لكم يا بَنيّ وأين يوسف
﴿قالوا يا أبانا إنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ﴾ أي متسابقين في العدْو والرمي وقد يشترك الافتعال والتفاعل كالإنتضال والتنضال ونظائرهما
﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا﴾ أي ما نتمتع به من الثياب والأزواد وغيرِهما
﴿فَأَكَلَهُ الذئب﴾ عَقيبَ ذلكَ من غير مُضيِّ زمانٍ يعتاد فيه التفقدُ والتعهدُ وحيث لا يكاد يُطرح المتاعُ عادة إلا في مقام يُؤْمن فيه الغوائل لم يعهد تركُه عليه السلام عنده من باب الغفلة وتركِ الحفظ الملتزَم لا سيما إذا لم يبرحوه ولم يغيبوا عنه فكأنهم قالوا إنا لم نقصِّر في محافظته ولم نغفُلْ عن مراقبته بل تركناه في مأمننا ومجمعنا بمرأىً منا لأن ميدانَ السباق لا يكون عادة إلا بحيث يتراءى غايتاه وما فارقناه إلا ساعةً يسيرةً بيننا وبينه مسافةٌ قصيرة فكان ما كان
﴿وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾ بمصدّق لنا في هذه المقالة الدالةِ على عدم تقصيرِنا في أمره
﴿وَلَوْ كُنَّا﴾ عندك وفي اعتقادك
﴿صادقين﴾ موصوفين بالصدق والثقةِ لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سيّءُ الظن بنا غيرُ واثقٍ بقولنا وكلمة لو في أمثالِ هذهِ المواقعِ لبيان تحققِ ما يفيده الكلامُ السَّابقُ من الحكم الموجَبِ أو المنفي على كل حالٍ مفروض من الأحوالِ المقارنةِ له على الإجمال بإدخالِها على أبعدِها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوته أو انتفائِه معه ثبوتُه أو انتفاؤُه مع غيره من الأحوال بطريق الأولوية لِما أن الشيءَ متى تحقَّقَ مع المنافي القويِّ فلأنْ يتحقَّقَ مع غيره أولى ولذلك لا يُذكر معه شيءٌ من سائرِ الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواوِ العاطفةِ للجُملة على نظيرتها المقابلةِ لها الشاملةِ لجميع الأحوالِ المغايرةِ لها عند تعدّدِها وقد مرَّ تفصيله في سُورةِ البقرةِ عند قولِه تعالى أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شيئا ولا يهتدون وفي سورةِ الأعرافِ عند قوله تعالى أَوَلَوْ كُنَّا كارهين
259
يوسف الآية (١٨ ١٩)
260
﴿وجاؤوا على قَمِيصِهِ﴾ محلُّه النصبُ على الظرفية من قوله
﴿بِدَمٍ﴾ أي جاءوا فوق قميصِه بدم كما تقول جاء على جِماله بأحمال أو على الحالية منه والخلاف في تقدم الحال على المجرور فيما إذا لم يكن الحالُ ظرفاً
﴿كَذِبٍ﴾ مصدرٌ وصف به الدمُ مبالغةً أو مصدرٌ بمعنى المفعول أي مكذوبٍ فيه أو بمعنى ذي كذب أي ملابِسٍ لكذب وقرىء كذباً على أنه حالٌ من الضمير أي جاءوا كاذبين أو مفعولٌ له وقرأت عائشةَ رضيَ الله تعالى عنها بغير المعجمة أي كدر وقيل طريّ قال ابن جني أصله من الكذب وهو الفوف البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث كأنه دم قد أثر في قميصه روي أنهم ذبحوا سَخْلةً ولطّخوه بدمها وزلّ عنهم أن يمزقوه فلما سمع يعقوبُ بخبر يوسف عليهما السلام صاح بأعلى صوته وقال أين القميصُ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضَب وجهَه بدم القميص وقال تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلمَ من هذا أكل ولم يمزِّقْ عليه قميصه وقيل كان في قميص يوسف عليه السلام ثلاثُ آياتٍ كان دليلاً ليعقوب على كذبهم وألقاه على وجهه فارتد بصيراً ودليلاً على براءة يوسف عليه السلام حين قدمن دُبر
﴿قَالَ﴾ استئنافٌ مبني على سؤال فكأنه قيل ما قال يعقوبُ هل صدقهم فيما قالوا أم لا فقيل قال لم يكن ذلك
﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ﴾ أي زينت وسهّلت قاله ابن عباس رضي الله عنهما والتسويلُ تقديرُ شيءٍ في النفس مع الطمع في إتمامه قال الأزهري كأنّ الستويل تفعيل من سؤال الإنسان وهو أميته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطلَ وغيرَه وأصله مهموز وقيل من السَّوَل وهو الاسترخاءِ
﴿أمْراً﴾ من الأمور منْكراً لا يوصف ولا يعرف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجملُ أو أمثلُ وفي الحديث الصبرُ الجميلُ الذي لا شكوى فيه أي إلى الخلق وإلا فقد قال يعقوبُ عليه السلام إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وقيل سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فقيل ما هذا قال طولُ الزمان وكثرةُ الأحزان فأوحى الله عز وجل إليه يا يعقوبُ أتشكوني قال يا رب خطيئةٌ فاغفِرها لي وقرأ أُبيّ فصبراً جميلاً
﴿والله المستعان﴾ أي المطلوبُ منه العونُ وهو إنشاءٌ منه عليه السلام للاستعانة المستمرة
﴿على مَا تَصِفُونَ﴾ على إظهار حال ما تصفون وبيانِ كونِه كذباً وإظهارِ سلامتِه فإنه عَلَم في الكذب قال سبحانه سبحان رَبّكَ رَبّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ وهو الأليقُ بما سيجيء من قوله تعالى فَصَبْرٌ جميل عسى الله أني يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا وتفسيرُ المستعانِ عليه باحتمال ما يصفون من هلاك يوسفَ والصبرِ على الرزء فيه يأباه تكذيبُه عليه السلام لهم في ذلك ولا تساعدُه الصيغةُ فإنها قد غلَبت في وصف الشيء بما ليس فيه كما أشير إليه
﴿وَجَاءتْ﴾ شروعٌ في بيان
260
يوسف الآية (٢٠) ما جرى على يوسف في الجب بعد الفراغِ من ذكر ما وقع بين إخوتِه وبين أبيه والتعبيرُ بالمجيء ليس بالنسبة إلى مكانهم فإن كنعانَ ليس بالجانب المصريِّ من مدينَ بل إلى مكان يوسف وفي إيثاره على المرور أو الإتيانِ أو نحوهما إيماءٌ إلى كونه عليه السلام في الكرامة والزلفى عند مليكٍ مقتدرٍ والظاهر أن الجب كان في الأمم المئتاء فإن المتبادر من إسناد المجيء إلى السيارة مطلقاً في قولِه عزَّ وجلَّ وجاءت
﴿سَيَّارَةٌ﴾ أي رفقةٌ تسير من جهة مدينَ إلى مصرَ وقوعُه باعتبار سيرِهم المعتادِ وهو الذي يقتضيه قوله تعالى فيما سلف يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة وقد قيل إنه كان في قفرة بعيدةٍ من العُمران لم تكن إلا للرعاة فأخطئوا الطريقَ فنزلوا قريباً منه وقيل كان ماؤه مِلْحاً فعذُبَ حين ألقي فيه عليه السلام
﴿فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ﴾ الذي يرد الماءَ ويستقي لهم وكان ذلك مالك بنُ ذعر الخزاعيّ وإنما لم يُذكر منتهى الإرسالِ كما لم يذكر منتهى المجيءِ أعني الجب للإيذان بأن ذلك معهودٌ لا يُضرب عنه الذكرُ صفحاً
﴿فأدلى دَلْوَهُ﴾ أي أرسلها إلى الجب والحذفُ لما عرفتَه فتدلى بها يوسف فخرج
﴿قَالَ﴾ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال يقتضيه الحال
﴿يا بشرى هذا غُلاَمٌ﴾ كأنه نادى البُشرى وقال تعالَيْ فهذا أوانُك حيث فاز بنعمة باردةٍ وأيِّ نعمةٍ مكانَ ما يوجد مباحاً من الماء وقيل هو اسمُ صاحبٍ له ناداه ليُعينَه على إخراجه وقرأ غيرُ الكوفيين يا بشرايَ وأمال فتحةَ الراءِ حمزةُ والكِسائيُّ وقرأ ورشٌ بين اللفظين وقرىء يا بُشْرَيَّ بالإدغام وهي لغة وبشرايْ على قصد الوقف
﴿وَأَسَرُّوهُ﴾ أي أخفاه الواردُ وأصحابُه عن بقية الرفقة وقيل أخفَوا أمرَه ووجدانَهم له في الجب وقالوا لهم دفعَه إلينا أهلُ الماء لنبيعه لهم بمصرَ وقيل الضميرُ لإخوة يوسفَ وذلك أن يهوذا كان يأتيه كلَّ يوم بطعام فأتاه يومئذ فلم يجدْه فيها فأخبر إخوتَه فأتَوا الرفقةَ وقالوا هذا غلامنا أبق فاشترَوه منهم وسكت يوسفُ مخافةَ أن يقتُلوه ولا يخفلا ما فيهِ من البُعدِ
﴿بضاعة﴾ نُصب على الحالية أي أخفَوه حالَ كونِه بضاعةً أي متاعاً للتجارة فإنها قطعةٌ من المال بُضعت عنه أي قطعت للتجارة
﴿والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ وعيدٌ لهم على ما صنعوا من جعلهم مثلَ يوسفَ وهو هو عرضةً للابتذال بالبيع والشراءِ وما دبروا في ذلك من الحيل
261
﴿وَشَرَوْهُ﴾ أي باعوه والضمير للوارد وأصحابه
﴿بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ زيْفٍ ناقصِ العيار
﴿دراهم﴾ بدل من ثمن أي لا دنانير
﴿مَّعْدُودَةٍ﴾ أي غيرِ موزونة فهو بيانٌ لقلته ونقصانه مقدارا بعد بيان نقصانِه في نفسه إذ المعتادُ فيما لا يبلغ أربعين العدُّ دون الوزن فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت عشرين درهماً وعن السدي رضي الله عنه أنها كانت اثنين وعشرين درهماً
﴿وَكَانُواْ﴾ أي البائعون
﴿فِيهِ﴾ في يوسف
﴿مِنَ الزاهدين﴾ من الذين لا يرغبون فيما بأيديهم فلذلك باعوه بما ذكر من الثمن البخْسِ وسببُ ذلك أنهم التقطوه والملتقطُ للشيء متهاونٌ به أو غيرُ واثق بأمره يخاف أن يظهر له مستحِقٌّ فينتزعه منه فيبيعه من أول مُساومٍ بأوكسِ ثمن ويجوز أن يكون معنى شرَوه اشتروه من إخوته على ما حُكي وهم غير راغبين في شِراه خشية ذهابِ ما لهم لما طن في آذانهم من الإباق والعدول عن صيغة الافتعال المنبئةِ عن الاتخاذ لما مرَّ منْ أنَّ أخذَهم إنما كان بطريق البضاعة دوت الاجتباء والاقتناءِ وفيه متعلِّق بالزاهدين إن جُعل اللامُ للتعريف
261
يوسف الآية (٢١) وبيانٌ لما زهدوا فيه إن جُعلتْ موصولة كأنه قيل في أي شيء زهِدوا فقيل زهدوا فيه لأن ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول
262
﴿وَقَالَ الذى اشتراه مِن مّصْرَ﴾ وهو العزيز الذي كان على خزائنه وسمه قطفيرُ أو إطفير وبيانُ كونِه من مصرَ لتربية ما يتفرّع عليه من الأمور مع الإشعار بكونه غيرَ من اشتراه من الملتقطين بما ذكر من الثمن البخس وكان الملكَ يومئذ الريانُ بنُ الوليد العمليقي ومات في حياة يوسفَ عليه السلام بعد أن آمن به فملَك بعده قابوسُ بنُ مصعب فدعاه إلى الإسلام فأبى وقيل كان الملكُ في أيامه فرعونُ موسى عليه السلام عاش أربعَمائة سنةٍ لقوله عز وجل وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات وقيل فرعونُ موسى من أولاد فرعونِ يوسف والآية من قبيل خطاب الأولادِ بأحوال الآباء واختلف في مقدار ما اشتراه به العزيز فقيل بعشرين ديناراً وزوجَيْ نعل وثوبين أبيضين وقيل أدخلوه في السوق يعرِضونه فترافعوا في ثمن حتى بلغ ثمنُه وزنَه مسكا ووزنه ورقا ووزنَه حريراً فاشتراه قطفيرُ بذلك المبلغ وكان سنه إذ ذاك سبعَ عشرةَ سنة وأقام في منزله مع ما مر عليه من مدة لبثه في السجن ثلاثَ عشرةَ سنةً واستوزره الريانُ وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سنة وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة
﴿لاِمْرَأَتِهِ﴾ راعيل أو زليخا وقيل اسمُها هو الأول والثاني لقبُها واللامُ متعلقةٌ بقال لا باشتراه
﴿أَكْرِمِى مَثْوَاهُ﴾ اجعلي محلَّ إقامتِه كريماً مرضياً والمعنى أحسني تعهّده
﴿عسى أَن يَنفَعَنَا﴾ في ضِياعنا وأموالِنا ونستظهر به في مصالحنا
﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ أي نتبنّاه وكان ذلك لِما تفرّس فيه من مخايل الرشد والنجابة ولذلك قيل أفرسُ الناسِ ثلاثةٌ عزيزُ مصرَ وابنةُ شعيبِ التي قالت يا أبت استأجره وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما
﴿وكذلك﴾ نُصب على المصدرية وَذَلِكَ إشارةٌ إلى ما يفهم من كلام العزيزِ وما فيه من معنى البُعد لتفخيمه أي مثلَ ذلك التمكينِ البديع
﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارض﴾ أي جعلنا له فيها مكاناً يقال مكّنه فيه أي أثبته فيه ومكّن له فيه أي جعل له فيه مكاناً ولتقاربهما وتلازُمهما يُستعمل كلٌّ منهما في محل الآخر قال عز وجل وكم أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ أي ما لم نمكنْكم فيها أو مكنّا لهم في الأرض الخ والمعنى كما جعلنا له مثوى كريماً في منزل العزيزِ أو مكاناً علياً في قلبه حتى أمرَ امرأتَه دون سائر حواشيه بإكرام مثواه جعلنا له مكانةً رفيعة في أرض مصر ولعله عبارةٌ عن جعله وجيهاً بين أهلها ومحبباً في قلوبهم كافة كما في قلب العزيزِ لأنه الذي يؤدّي إلى الغاية المذكورةُ في قولِه تعالى
﴿وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث﴾ أي نوفقه لتعبير بعضِ المنامات التي عُمدتُها رؤيا الملِك وصاحبَي السجنِ لقوله تعالى ذلكما مما علمنى ربى سواءٌ جعلناه معطوفاً على غاية مقدرةٍ ينساقُ إليها الكلامُ ويستدعيها النظامُ كأنه قيل ومثلَ ذلك التمكينِ مكنا ليوسف فى الارض وجعلنا قلوب
262
يوسف الآية (٢٢) أهلها كافة محال محبتِه ليترتب عليه ما ترتب مما جرى بينه وبين امرأةِ العزيز ولنعلمه تأويل الأحاديثِ وهو تأويلُ الرؤيا المذكورة فيؤدّي ذلك إلى الرياسة العُظمى ولعل ترك المعطوفِ عليه للإشعار بعدم كونه مراداً بالذات أو جعلناه علةً لمعلل محذوف كأنه قيل ولهذا الحكمةِ البالغةِ فعلنا ذلك التمكينَ دون غيرها مما ليس له عاقبةٌ حميدة هذا ولا يخفى عليك أن الذي عليه تدور هذه الأمورُ إنما هو التمكينُ في جانب العزيز وأما التمكينُ في جانب الناسِ كافةً فتأديتُه إلى ذلك إنما هي باعتبار اشتمالِه على ذلك التمكينِ فإذن الحق أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر قوله تعالى مَكَّنَّا لِيُوسُفَ على أن يكون هو عبارةً عن التمكين في قلب العزيزِ أو في منزله وكونُ ذلك تمكيناً في الإرض بملابسة أنه عزيزٌ فيها لا عن تمكين آخرَ يُشبه به كما مرَّ في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا من إِنَّ ذلك إشارةٌ إلى مصدر الفعلِ المذكورِ بعده لا إلى جعل آخرَ يُقصد تشبيهُ هذا الجعْل به فالكاف مقحم للدلالة على فخامة شأن المشار إليه إقحاماً لا يكاد يترك في لغة العرب ولا في غيرها ومن ذلك قولهم مثلُك لا يبخل وهكذا ينبغي أن يُحقق المقامُ وأما التمكينُ بمعنى جعلِه ملكا يتصرف في أرض مصرَ بالأمر والنهي فهو من آثار ذلك التعليم ونتائجِه المتفرعة عليه كما عرفته لا من مباديه المؤديةِ إليه فلا سبيل إلى جعله غايةً له ولم يُعهد منه عليه السلام في تضاعيف قضاياه العملُ بموجب المناماتِ المنبّهة على الحوادث قبل وقوعِها عهداً مصححاً لجعله غايةً لولايته وما وقع من التدارك في أمر السنين فإنما هو عملٌ بموجب الرؤيا السابقةِ المعهودة اللهم إلا أن يراد بتعليم تأويلِ الأحاديث ما سبق من تفهيم غوامضِ أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء عليهم السلام فيكون المعنى حينئذ مكنا له في أرضَ مصر ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه معانيَ كتب الله تعالى وأحكامَها ودقائقَ سنن الأنبياء عليهم السلام فيقضي بها فيما بين أهلها والتعليمُ الإجماليُّ لتلك المعاني والأحكام وإن كان غير متأخر عن تمكينه بذلك المعنى ألا أن تعليمَ كلِّ معنى شخصيَ يتفق في ضمن الحوادثِ والإرشادِ إلى الحق في كل نازلةٍ من النوازل متأخرٍ عن ذلك صالحٍ لأن يكون غاية له
﴿والله غالبٌ على أَمْرِهِ﴾ لا يستعصى عليه أمرٌ ولا يمانعه شيءٌ بل إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فيكونُ فيدخل في ذلك شئونه المتعلقةُ بيوسف دخولاً أولياً أو متولَ على أمر يوسفَ لا يكِله إلى غيره وقد أريد به من الفتنة ما أريد مرة غِبَّ مرة فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أنَّ الأمرَ كذلكَ فيأتون ويذرون زعماً منهم أن لهم من الأمر شيئاً وأنى لهم ذلك وإن الأمرَ كلَّه لله عز وجل أو لا يعلمون لطائفَ صنعِه وخفايا فضله
263
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ أي منتهى اشتدادِ جسمه وقوتِه وهو سنُّ الوقوف ما بين الثلاثين إلى الأربعين وقيل سنُّ الشباب ومبدأ بلوغِ الحُلُم والأولُ هو الأظهرُ لقوله تعالى
﴿اتَيْنَاهُ حُكْمًا﴾ حِكمةً وهو العلم المؤيَّدُ بالعمل أو حكماً بين الناس وفقهاً أو نبوة
﴿وَعِلْماً﴾ أي تفقهاً في الدين وتنكيرُهما للتفخيم أي حكماً وعلماً لا يُكتنه كُنهُهما ولا يقادَرُ قدرُهما فهما ما آتاه الله تعالى عند تكاملِ قُواه سواءٌ كانا عبارةً عن النبوة والحُكم بين الناس أو غيرِهما كيف لا وقد جُعل إيتاؤهما
263
يوسف الآية (٢٣) جزاءً لعمله عليه السَّلامُ حيث قال
﴿وكذلك﴾ أي مثلَ ذلك الجزاءِ العجيب
﴿نَجْزِى المحسنين﴾ أي كلَّ من يُحسِن في عمله فيجب أن يكون ذلك بعد انقضاءِ أعمالِه الحسنةِ التي من جُملتها معاناةُ الأحزان والشدائدِ وقد فُسّر العلمُ بعلم تأويلِ الأحاديث ولا صحةَ له إلا أن يُخَصَّ بعلم تأويلِ رؤيا الملِك فإن ذلك حيث كان عند تناهي أيامِ البلاءِ صحّ أن يُعدَّ إيتاؤُه من جملة الجزاء وأما رؤيا صاحبَي السجن فقد لبث عليه السلام بعد تعبيرِها في السجن بضعَ سنين وفي تعليق الجزاءِ المذكورِ بالمحسنين إشعارٌ بعلّية الإحسان له وتنبيهٌ على أنه سبحانه إنما آتاه ما آتاه لكونه محسناً من أعماله متّقياً في عنفوان أمرِه هَلْ جَزَاء الإحسان إِلاَّ الإحسان
264
﴿وَرَاوَدَتْهُ التى هُوَ فِى بَيْتِهَا﴾ رجوعٌ إلى شرح ما جرى عليه في منزل العزيز بعدما أمر امرأتَه بإكرام مثواه وقوله تعالى وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ إلى هنا اعتراضٌ جيء به أُنموذجاً للقصة ليعلم السامعُ من أول الأمر أن ما لقِيه عليه السلام من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غايةٌ جميلةٌ وعاقبةٌ حميدةٌ وأنه عليه السلام مُحسنٌ في جميع أعمالِه لم يصدُر عنه في حالتي السراءِ والضراءِ ما يُخِلُّ بنزاهته ولا يخفى أن مدار حسن التخليص إلى هذا الاعتراضِ قبل تمام الآيةِ الكريمةِ إنما هو التمكينُ البالغُ المفهومُ من كلام العزيز فإدراجُ الإنجاءِ السابق تحت الإشارةِ بذلك في قوله تعالى وكذلك مَكَّنَّا كما فعله الجمهورُ ناءٍ من التقريب فتأملْ والمراودةُ المطالبةً من راد يرود إذا جاء وذهب لطلب شيءٍ ومنه الرائد لطلب الماءِ والكلأ وهي مفاعلةٌ من واحد نحوُ مطالبةِ الدائنِ ومماطلةِ المديونِ ومداواةِ الطبيب ونظائِرها مما يكون من أحد الجانبين الفعلُ ومن الآخر سببُه فإن هذه الأفعالَ وإن كانت صادرةً عن أحد الجانبين لكن لما كانت أسبابُها صادرةً عن الجانب الآخر جُعلت كأنها صادرةٌ عنهما وهذا بابٌ لطيفُ المسلك مبنيٌّ على اعتبار دقيقٍ تحقيقُه أن سببَ الشيء يقام مُقامَه ويطلق عليه اسمُه كما في قولهم كما تدين تدان أي كما تجزي تجزى فإن فعل البادي وإن لم يكن جزاءً لكنه لكونه سبباً للجزاء أُطلق عليه اسمُه وكذلك إرادةُ القيامِ إلى الصلاة وإرادةُ قراءةِ القرآنِ حيث كانتا سبباً للقيام والقراءة عُبّر عنهما بهما فقيل إِذَا قُمتُم إِلَى الصلاة فإذا قرأت القرآن وهذه قاعدةٌ مطردةٌ مستمرة ولمّا كانت أسبابُ الأفعالِ المذكورة فيما نحن فيه صادرةً عن الجانب المقابلِ لجانب فاعلِها فإن مطالبةَ الدائنِ للمماطلة التي هي من جانب الغريم وهي منه للمطالبة التي هي من جانب الدائنِ وكذا مداواةُ الطبيب للمرض الذي هو من جانب المريض وكذلك مراودتُها فيما نحن فيه لجمال يوسفَ عليه السلام نُزّل صدورُها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتهما التي هي تلك الأفعالُ فبُني الصيغةُ على ذلك وروعيَ جانبُ الحقيقةِ بأن أُسند الفعلُ إلى الفاعل وأُوقع على صاحب السبب فتأملِ ويجوز أن يراد بصيغة المغالبةِ مجردُ المبالغة وقيل الصيغةُ على بابها بمعنى أنها طَلبت منه الفعلَ وهو منها التركَ ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ الرُوَيد وهو الرفقُ والتحمّلُ وتعديتُها بعن لتضمينها معنى المخادعة فالمعنى خادعته
﴿عَن نفسه﴾ أي فعلت
264
يوسف الآية (٢٤) ما يفعل المخادِع لصاحبه عن شيء لا يريد إخراجَه من يده وهو يحتال أن يأخذه منه وهي عبارةٌ عن التمحّل في مواقعته إياها والعدولُ عن التصريح باسمها للمحافظة على السر أو للاستهجان بذكره وإيرادُ الموصول لتقرير المراودةِ فإن كونَه في بيتها مما يدعو إلى ذلك قيل لواحدةٍ ما حملك على ما أنت عليه مما لا خيرَ فيه قالت قربُ الوساد وطولُ السواد ولإظهار كمالُ نزاهتِه عليه السلام فإن عدمَ ميلِه إليها مع دوام مشاهدتِه لمحاسنها واستعصاءه عليها مع كونه تحت ملَكتِها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة والنزاهة
﴿وَغَلَّقَتِ الابواب﴾ قيل كانت سبعةً ولذلك جاء الفعل بصيغة التفعيل دون الإفعال وقيل للمبالغة في الإيثاق والإحكام
﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ قرىء بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وبناؤه كبناء أينَ وعيط وهيتِ كجَيرِ وهَيتُ كحيث اسم فعل معناه أَقبلْ وبادر واللام للبيان أي لك أقول هذا كما في هلم لك وقرىء هِئتُ لك على صيغة الفعل بمعنى تهيأتُ يقال هاء يهييءُ كجاء يجيء إذا تهيأ وهُيِّئْتُ لك واللام صلة للفعل
﴿قَالَ مَعَاذَ الله﴾ أي أعوذ بالله مَعاذاً مما تدعينني إليه وهذا اجتنابٌ منه على أتم الوجوه وإشارةٌ إلى التعليل بأنه منكَرٌ هائلٌ يجب أن يُعاذ بالله تعالى للخلاص منه وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النيّر على ما هو عليه في حد ذاتِه من غاية القُبح ونهايةِ السوء وقولُه عز وجل
﴿إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ﴾ تعليلا للامتناع ببعض الأسباب الخارجيةِ مما عسى يكون مؤثراً عندها وداعياً لها إلى اعتباره بعد التنبيهِ على سببه الذاتي الذي لا تكاد تقبله لما سوّلتْه لها نفسُها والضميرُ للشأن ومدارُ وضعه موضعَه ادِّعاءُ شهرتِه المُغْنية عن ذكره وفائدةُ تصديرِ الجملة به الإيدان بفَخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريرِه في الذهن فإنَّ الضميرَ لا يُفهمُ منه من أولِ الأمرِ إلا شأنٌ مبهمٌ لهُ خطرٌ فيبقى الذهنُ مترقِّباً لما يعقُبه فيتمكنُ عندَ ورودِه لَهُ فضلُ تمكُّنٍ فكأنه قيل إن الشأنَ الخطيرَ هذا وهو ربي أي سيدي العزيزُ أحسنَ مثواي أي أحسن تعهّدي حيث أمرك بإكرامي فكيف يمكن أن أُسيء إليه بالخيانة في حَرَمه وفيه إرشادٌ لها إلى رعاية حقِّ العزيزِ بألطف وجهٍ وقيل الضميرُ لله عزَّ وجلَّ وربي خبرُ إن وأحسن مثواي خبر ثنان أو هو الخبرُ والأولُ بدلٌ من الضمير والمعنى أن الحالَ هكذا فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشةِ الكبيرةِ وفيه تحذيرٌ لها من عقاب الله عز وجل وعلى التقديرين ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالةِ من غير تعرّضٍ لاقتضائها الامتناعَ عما دعته إليه إيذانٌ بأن هذه المرتبةَ من البيان كافيةٌ في الدلالة على استحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلاً وقوله تعالى
﴿إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون﴾ تعليلٌ للامتناع المذكورِ غِبَّ تعليل والفلاحُ الظفرُ وقيل البقاءُ في الخير ومعنى أفلح دخل فيه كأصبح وأخواته والمراد بالظالمين كلُّ من ظلم كائناً من كان فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصاةُ لأمر الله تعالى دخولاً أولياً وقيل الزناةُ لأنهم ظالمون لأنفسهم وللمَزْنيِّ بأهله
265
﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ بمخالطته إذِ الهمُّ لا يتعلق
265
بالأعيان أي قصدتْها وعزمت عليها عزماً جازماً لا يلوبها عنه صارفٌ بعد ما باشرت مباديها وفعلت ما فعلت من المراودة وتغليقِ الأبواب ودعوتِه عليه السلام إلى نفسها بقولها هيتَ لك ولعلها قصدت هنالك لأفعال أُخَرَ من بسط يدِها إليه وقصدِ المعانقة وغير ذلك مما يَضْطره عليه السلام إلى الهرب نحوَ الباب والتأكيدُ لدفع ما عسى يُتوهَّم من احتمال إقلاعِها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر
﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ بمخالطتها أي مال إليها بمقتضى الطبيعةِ البشرية وشهوةِ الشباب وقرمه ميلاً جبلياً لا يكادُ يدخُل تحتَ التكليفِ لا أنه قصدها قصداً اختيارياً ألا يُرى إلى ما سبق من استعصامه المُنْبىءِ عن كمال كراهيتِه له ونفرتِه عنه وحُكمه بعدم إفلاح الظالمين وهل هو إلا تسجيلٌ باستحالة صدور الهمِّ منه عليه السلام تسجيلا محكما وإنما عبر عنه بالهمّ لمجرد وقوعِه في صحبة همِّها في الذكرِ بطريق المشاكلة لا لشَبَهه به كما قيل ولقد أشير إلى تباينهما حيث لم يُلَزّا في قَرن واحد من التعبير بأن قيل ولقد همّا بالمخالطة أو همّ كلٌّ منهما بالآخر وصُدّر الأولُ بما يقرر وجودَه من التوكيد القسمي وعُقّب الثاني بما يعفو أثرَه من قولهِ عزَّ وجلَّ
﴿لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ﴾ أي حجتَه الباهرةَ الدالة على كمال قبحِ الزنى وسوءِ سبيله والمرادُ برؤيته لها كمالُ إيقانِه بها ومشاهدتِه لها مشاهدةً واصلة إلى مرتبة عينِ اليقين الذي تنجلي هناك حقائقُ الأشياء بصورها الحقيقة وتنخلع عن صورها المستعارة التي بها تظهر في هذه النشأة على ما نطقَ به قولُه ﷺ حُفّتِ الجنَّةُ بالمكاره وحُفّتِ النار بالشهوات وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهانِ النيّر على ما هو عليه في حد ذاتِه أقبحَ ما يكون وأوجبَ ما يجب أن يُحذر منه ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام والحُكمِ بعدم إفلاحِ من يرتكبه وجوابُ لولا محذوفٌ يدل عليه الكلامُ أي لولا مشاهدتُه برهانَ ربه في شأن الزنى لجَرى على موجب ميلِه الجِبليِّ ولكنه حيث كان مشاهداً له من قبلُ استمر على ما هو عليه من قضية البرهان وفائدةُ هذه الشرطيةِ بيانُ أن امتناعَه عليهِ السلامُ لم يكُنْ لعدم مساعدةٍ من جهة الطبيعة بل لمحض العفةِ والنزاهة مع وفور الدواعي الداخلية وترتبِ المقدّمات الخارجيةِ الموجبةِ لظهور الأحكام الطبيعية هذا وقد نص أئمةُ الصناعة على أن لولا في أمثالِ هذهِ المواقعِ جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصيغةُ مَجرى التقييدِ للحُكم المطلقِ كما في مثلِ قولِه تعالى إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلهتنا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا فلا يتحقق هناك همٌّ أصلاً وقد جوز أن يكون وهم بها جوابَ لولا جرياً على قاعدة الكوفيين في جواز التقديم فالهمُّ حينئذ على معناه الحقيقي فالمعنى لولا أنه قد شاهد براهان ربه لهمَّ بها كما همت به ولكن حيث انتفى عدم المشاهدة بدليل استعصامِه وما يتفرع عليه انتفى الهمُّ رأساً هذا وقد فُسّر همُّه عليه السلام بأنه عليه السلام حل الهيمان وجلس مجلسَ الخِتان وبأنه حل تِكّة سراويلِه وقعد بين شُعَبها ورؤيتُه للبرهان بأنه سمع صوتاً إياك وإياها فلم يكتري ثم وثم إلى أن تمثّل له يعقوبُ عليه السلام عاضًّا على أنملته وقيل ضرب على صدره فخرجت شهوتُه من أنامله وقيل بدت كفٌّ فيما بينهما ليس فيها عضُدٌ ولا مِعصمٌ مكتوبٌ فيها وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين كِرَاماً كاتبين فلم ينصرف ثم رأى فيها وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً فلم ينتهِ ثم رأى فيها واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله فلم يَنْجَع فقال الله عز وجل لجبريل أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فانحط جبريل عليه السلام وهو يقول يا يوسفُ أتعملُ عمل
266
يوسف الآية (٢٥) السفهاء وأنت مكتوبٌ في ديوان الأنبياء وقيل رأى تمثال العزيز وقيل وقيل إنْ كلَّ ذلك إلا خرافاتٌ وأباطيلُ تمجُّها الآذانُ وتردُّها العقول والأذهانُ ويلٌ لمن لاكها ولفّقها أو سمعها وصدّقها
﴿كذلك﴾ الكافُ منصوبُ المحلِّ وذلك إشارةٌ إلى الإراءة المدلولِ عليها بقولِه تعالَى لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ أي مثلَ ذلك التبصيرِ والتعريفِ عرفناه برهاننا فيما قبل أو إلى التثبيت اللازمِ له أي مثلَ ذلك التثبيتِ ثبتناه
﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء﴾ على الإطلاق فيدخل فيه خيانةُ السيِّد دخولاً أولياً
﴿والفحشاء﴾ والزنى لأنه مفْرِطٌ في القبح وفيه آيةٌ بينةٌ وحجةٌ قاطعةٌ على أنه عليه السلام لم يقع منه همٌّ بالمعصية ولا توجَّه إليها قط وإلا لقيل لنصرِفَه عن السوء والفحشاء وإنما توجه إليه ذلك من خارجٍ فصرَفه الله تعالى عنه بما فيه من موجبات العفةِ والعصمةِ فتأمل وقرىء ليَصرِف على إسناد الصرْف إلى ضمير الرب
﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين﴾ تعليلٌ لما سبق من مضمون الجملةِ بطريق التحقيقِ والمخلصون هم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته بأن عصمهم عما هو قادحٌ فيها وقرىء على صيغة الفاعل وهم الذين أخلصُوا دينَهم لله سبحانه وعلى كلا المعنيين فهو منتظَمٌ في سلكهم داخلٌ في زمرتهم من أول أمره بقضية الجملةِ الاسميةِ لا أن ذلك حدث له بعد أن لم يكن كذلك فانحسم مادةُ احتمالِ صدورِ الهمِّ بالسوء منه عليه السلام بالكلية
267
﴿واستبقا الباب﴾ متصلٌ بقوله وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ وقولُه كذلك إلى آخره اعتراضٌ جيء به بين المعطوفَيْن تقريراً لنزاهته عليه السلام كقوله تعالى وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والارض والمعنى لقد همت به وأبى هو واستبقا الباب أي تسابقا إلى الباب البراني الذي هو المخلص ولذلك وُحّد بعد الجمعِ فيما سلف وحُذف حرفُ الجر وأوصل الفعلُ إلى المجرور نحو وإذا كالوهم أو ضمن الإستباق معنى الإبتدا وإسناد السبق في ضمن الاستباق إليها مع أن مرادَها مجردُ منعِ يوسف وذا لا يوجب الانتهاء إلى الباب لأنها لما رأته يسرع إلى الباب ليتخلص منها أسرعت هي أيضاً لتسبِقَه إليه وتمنعه عن الفتح والخروج أو عبر عن إسراعها إثْرَه بذلك مبالغة
﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ﴾ اجتذبتْه من ورائه فانشق طولاً وهو القَدُّ كما أن الشقّ عرضاً هو القَطُّ وقد قيل في وصف علي رضي الله عنه أنه كان إذا اعتلى قدّ وإذا اعترض قطّ وإسنادُ القدِّ إليها خاصة مع أن لقوة يوسفَ أيضاً دخلاً فيه إما لأنها الجزءُ الأخيرُ للعلة التامةِ وإما للإيذان بمبالغتها في منعه عن الخروج وبذلِ مجهودِها في ذلك لفَوْت المحبوب أو لخوف الافتضاح
﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا﴾ أي صادفا زوجَها وإذْ لم يكن مُلكُه ليوسف عليه السلام صحيحاً لم يقل سيدهما قيل ألفياه مقبلاً وقيل كان جالساً مع ابن عمَ للمرأة
﴿لدى الباب﴾ أي البراني كما مر روى كعب رضيَ الله عنه أنَّه لما هرب يوسفُ عليه السلام جعل فَراشُ القُفلِ يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب
﴿قَالَتْ﴾ استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال سائل يقول فماذا كان حين ألفَيا العزيزَ عند الباب فقيل قالت
﴿مَا جَزَاء من أراد بأهلك سوءا﴾ من الزنى ونحوه
267
يوسف الآية (٢٦)
﴿إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ما نافية أي ليس جزاؤُه إلا السجنُ أو العذابُ الأليم قيل المرادُ به الضربُ بالسياط أو استفهاميةٌ أي أيُّ شيءٍ جزاؤُه غيرُ ذاك أو ذلك ولقد أتت في تلك الحالةِ التي تُدهش فيها الفَطِنَ حيث شاهدها العزيزُ على تلك الهيئة المُريبة بحيلة جمعت فيها غرضيها وهما تبرئةُ ساحتِها مما يلوح من ظاهر الحالِ واستنزالُ يوسف عن رأيه في استعصائه عليها وعدمِ مواتاتِه على مرادها بإلقاء الرعبِ في قلبه من مكرها طمعاً في مواقعته لها كرهاً عند يأسِها عن ذلك اختياراً كما قالت وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ثم إنها جعلت صدورَ الإرادة المذكورةِ عن يوسف عليه السلام أمراً محققاً مفروغاً عنه غنياً عن الإخبار بوقوعه وأن ما هيَ عليهِ من الأفاعيل لأجل تحقيق جزائِها فهي تريد إيقاعَه حسبما يقتضيه قانونُ الإيالة وفي إبهام المُريد تهويلٌ لشأن الجزاء المذكورِ بكونه قانوناً مطرداً في حق كل أحدٍ كائناً مَنْ كان وفي ذكر نفسها بعنوان أهلية العزيزِ إعظامٌ للخطب وإغراءٌ له على تحقيق ما تتوخاه بحكم الغضب والحمية
268
﴿قَالَ﴾ استئنافٌ وجوابٌ عما يقال فماذا قال يوسفُ حينئذ فقيل قال
﴿هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى﴾ أي طالبتني للمواتاة لا أني أردتُ بها سوءاً كما قالت وإنما قاله عليه السلام لتنزيه نفسِه عما أُسند إليه من الخيانة وعدم معرفة حقِّ السيد ودفعِ ما عرضَتْه له من الأمرين الأمرين وفي التعبير عنها بضمير الغَيبة دون الخطاب أو اسم الإشارةِ مراعاةٌ لحسن الأدبِ مع الإيماء إلى الإعراض عنها
﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا﴾ قيل هو ابنُ عمها وقيل هو الذي كان جالساً مع زوجها لدى الباب وقيل كان حكيماً يرجِعُ إليه الملكُ ويستشيره وقد جُوّز أن يكون بعضُ أهلها قد بصُر بها من حيث لا تشعُر فأغضبه الله تعالى ليوسف عليه السلام بالشهادة له والقيامِ بالحق وإنما ألقى الله سبحانه الشهادةَ إلى من هو من أهلها ليكون أدلَّ على نزاهته عليه السلام وأنفى للتُّهمة وقيل كان الشاهدُ ابنَ خالٍ لها صبياً في المهد أنطقه الله تعالى ببراءته وهو الأظهر فإنه رُوي أن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قال تكلم أربعةٌ وهم صغار ابنُ ماشطةَ بنتِ فرعون وشاهدُ يوسف وصاحبُ جريج وعيسى عليه السلام رواه الحاكم عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه وقال صحيح على شرط الشيخين وذكر كونَه من أهلها لبيان الواقع إذ لا يختلف الحالُ في هذه الصورة بين كون الشاهدِ من أهلها أو من غيرِهم
﴿إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ﴾ أي إن عُلم أنه قد مِن قَبْلُ من قبلِ ونظيره إن أحسنتَ إلى فقد أحسنتُ إليك فيما قبلُ فإن معناه إن تعتدَّ بإحسانك إلي فأعتدُّ بإحساني السابقِ إليك
﴿فَصَدَقَتْ﴾ بتقدير قد لأنها تقرب الماضي إلى الحال أي فقد صدقت وكذا الحالُ في قولِه فَكَذَّبْتَ وهي وإن لم تصرِّح بأنه عليه السلام أراد بها سوءاً إلا أن كلامَها حيث كان واضحَ الدِلالة عليه أُسند إليها الصدقُ والكذب بذلك الإعتبار فإنهم كما يعرضان للكلام باعتبار منطوقِه يعرضان له باعتبار ما يستلزمه وبذلك الإعتبار يعترضان للإنشاءات
﴿وَهُوَ مِنَ الكاذبين﴾ وهذه الشرطية حيث لا ملازمة
268
يوسف الآية (٢٧ ٢٨) عقليةً ولا عاديةً بين مقدِّمها وتاليها ليست من الشهادة في شيء وإنما ذُكرت توسيعاً للدائرة وإرخاءً للعِنان إلى جانب المرأة بإجراء ما عسى يحتمله الحالُ في الجملة بأن يقع القدُّ من قُبُل بمدافعتها له عليه السَّلامُ عن نفسها عند إرادتِه المخالطةَ والتكشفَ مُجرى الظاهرِ الغالبِ الوقوعِ تقريباً لما هو المقصود بإقامة للشهادة أعني مضمونَ الشرطية الثانية التي هي قولُه عزَّ وجلَّ
269
﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصادقين﴾ إلى التسليم والقَبول عند السامع لكونه أقربَ إلى الوقوع وأدلَّ على المطلوب وإن لم يكن بين طرفيها أيضاً ملازمةٌ وحكايةُ الشرطيةِ بعد فعل الشهادةِ لكونها من قبيل الأقوال أو بتقدير القول أي شهد قائلاً الخ وتسميتُها شهادةً مع أنه لا حكمَ فيها بالفعل بالصدق والكذب لتأديتها مؤداها بل لأنها شهادةٌ على الحقيقة وحُكمٌ بصدقه وكذبها أما على تقدير كونِ الشاهدِ هو الصبيُّ فظاهرٌ إذ هو إخبارٌ بهما من قِبَل علامِ الغيوب والتصويرُ بصورة الشرطية للإيذان بأن ذلك ظاهرٌ من العلائم أيضاً وأما على تقدير كونِه غيرَه فلأن الظاهرَ أن صورةَ الحالِ معلومةٌ له على ما هي عليه إما مشاهدةً أو إخباراً فهو متيقّنٌ بعدم مقدَّم الشرطيةِ الأولى وبوجود مقدمِ الشرطيةِ الثانية ومن ضرورته الجزمُ بانتفاء تالي الأولى وبوقوع تالي الثانية فإذن هو إخبارٌ بكذبها وصدقِه عليه السلام لكنه ساق شهادتَه مساقاً مأموناً من الجَرْح والطعن حيث صورها بصورة الشرطية المترددةِ ظاهراً بين نفعها ونفعِه وأما حقيقةً فلا تردد فيها قطعاً لأن الشرطية الأولى تعليقٌ لصدقها بما يستحيل وجودُه من قدّ القميص من قُبُل فيكون مُحالاً لا محالة ومن ضرورته تقررُ كذبها والثانية تعليقٌ لصدقه عليه السلام بأمر محقق الوجود وهوالقد من دبر فيكون محقق البتةَ وهذا كما قيل فيمن قال لامرأة زوجيني نفسك فقالت لي زوجٌ فكذبها في ذلك فقالت إن لم يكن لي زوجٌ فقد زوجتُك نفسي فقبل الرجلُ فإذا لا زوج لها فهو نكاحٌ إذ تعليقُ الشيء بأمر مقرر تنجير له وقُرىء منْ قُبلُ ومن دُبرُ بالضم لأنهما قطعا عن الإضافة كقبلُ وبعدُ وبالفتح كأنهما جعلا علمين للجهتين فمنعا الصرفَ للتأنيث والعلمية وقرىء بسكون العين
﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ﴾ كأنه لم يكن رأى ذلك بعدُ أو لم يتدبَّرْه فلما تنبه له وعلم حقيقةَ الحال
﴿قَالَ إِنَّهُ﴾ أي الأمرَ الذي وقع فيه التشاجرُ وهو عبارةٌ عن إرادة السوءِ التي أُسندت إلى يوسف وتدبيرِ عقوبته بقولها ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءاً إلى آخره لكن لا من حيث صدورُ تلك الإرادةِ والإسنادُ عنها بل مع قطع النظرِ عن ذلك لئلا يخلُوَ قوله تعالى
﴿مِن كَيْدِكُنَّ﴾ أي من جنس حيلتِكن ومكرِكن أيتها النساءُ لا من غيركن عن الإفادة وتدبيرِ العقوبة وإن لم يمكن تجريدُه عن الإضافة إليها إلا أنها لما صوّرته بصورة الحق أفاد الحكمَ بكونه من كيدهن إفادةً ظاهرةً فتأمل وتعميمُ الخطاب للتنبيه على أن ذلك خُلُق لهن عريق... ولا تحسَبا هنداً لها الغدرُ وحدها... سجيةُ نفسٍ كلُّ غانيةٍ هندُ...
ورجْعُ الضميرِ إلى قولها ما جزاءُ من أراد بأهلك سوءاً فقط عدولٌ عن البحث عن أصل ما وقع فيه النزاع من أن
269
يوسف الآية (٢٩ ٣٠) إرادةَ السوءِ ممن هي إلى البحث عن شُعبة من شعبه وجعل للسوء أو للأمر المعبّر به عن طمعها في يوسف عليه السلام يأباه الخبرُ فإن الكيدَ يستدعي أن يعتبر مع ذلك هَناتٌ أُخرُ من قِبلها كما أشرنا إليه
﴿إِنَّ كيدكن عظيم﴾ فإنه أطلف وأعلقُ بالقلب وأشدُّ تأثيراً في النفس وعن بعض العلماء إني أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً وقال للنساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ولأن الشيطان يوسوس مُسارقةً وهن يواجِهْن به الرجال
270
﴿يُوسُفَ﴾ حُذف منه حرفُ النداء لقربه وكمالِ تفطُّنه للحديث وفيه تقريبٌ له وتلطيفٌ لمحله
﴿أَعْرِضْ عَنْ هذا﴾ أي عن هذا الأمر وعن التحدث به واكتُمْه فقد ظهر صدقُك ونزاهتُك
﴿واستغفرى﴾ أنت يا هذه
﴿لِذَنبِكِ﴾ الذي صدر عنك وثبَتَ عليك
﴿إِنَّكَ كُنتَ﴾ بسبب ذلك
﴿مِنَ الخاطئين﴾ من جملة القوم المعتمدين للذنب أو من جنسهم يقال خطِىء إذا أذنب عمداً وهو تعليلٌ للأمر بالاستغفار والتذكيرُ لتغليب الذكورِ على الإناث وكان العزيزُ رجلاً حليماً فاكتفى بهذا القدرِ من مؤاخذتها وقيل كان قليلَ الغَيرة
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ﴾ أي جماعةٌ من النساء وكنّ خمساً امرأةُ الساقي وامرأةُ الخبّاز وامرأةُ صاحب الدوابِّ وامرأةُ صاحبِ السجنِ وامرأةُ الحاجب والنسوةُ اسمٌ مفردٌ لجمع المرأةِ وتأنيثُه غير حقيقي كتأنيث اللُّمَة وهي اسمٌ لجماعة النساء والثُبَة وهي اسم لجماعة الرجال ولذلك لم يلحَق فعلَه تاءُ التأنيث
﴿فِى المدينة﴾ ظرفٌ لقال أي أشعْن الأمرَ في مصر أو صفةٌ النسوة
﴿امْرَأَةُ الْعَزِيزِ﴾ أي الملك يُرِدْن قطفير وإضافتُهن لها إليه بذلك العنوانِ دون أن يصرِّحن باسمها أو اسمِه ليست لقصد المبالغةِ في إشاعة الخبر بحكم أن النفوسَ إلى سماع أخبارِ ذوي الأخطارِ أميلُ كما قيل إذ ليس مرادُهن تفضيحَ العزيز بل هي لقصد الإشباعِ في لومها بقولهن
﴿تُرَاوِدُ فتاها﴾ أي تطالبه بمواقعته لها وتتمحل في ذلك وتخادعه
﴿عَن نَّفْسِهِ﴾ وقيل تطلب منه الفاحشة وإيثارُهن لصيغة المضارع للدلالة على دوام المراودةِ والفتى من الناس الشابُّ وأصله فتيٌ لقولهم فتيان والفتوة شاذة وجمعه فتية وفتيان ويستعار للمملوك وهوالمراد ههنا وفي الحديث لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي وتعبيرُهن عن يوسف عليه السلام بذلك مضافاً إليها لا إلى العزيز الذي لا تستلزم الإضافةُ إليه الهوان بل ربما يشعر بنوع عزةٍ لإبانةِ ما بينهما من التبايُن البيِّن الناشىءِ عن المالكية والمملوكية وكلُّ ذلك لتربية ما مر من المبالغة والإشباعِ في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوجٌ دنيءٌ قد تُعذر في مراودة الأخدان لا سيما إذا كان فيهم علوُّ الجناب وأما التي لها زوجٌ وأيُّ زوج عزيزُ مصرَ فمراودتُها لغيره لا سيما لعبدها الذي لا كفاءةَ بينها وبينه أصلاً وتماديها في ذلك غايةُ الغي ونهايةُ الضلال
﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبّا﴾ أي شق حبُّه شَغافَ قلبها وهو حجابُه أو جلدةٌ رقيقةٌ يقال لها لسانُ القلبِ حتى وصل إلى فؤادها وقرىء شعَفها بالعين من
270
يوسف الآية (٣١) شعف البعيرَ إذا هنَأَه فأحرقه بالقطِران وعن الضحَّاكُ عنِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما الشغَفُ الحبُّ القاتل والشعف حبٌّ دون ذلك وكان الشعبي يقول الشغفُ حبٌّ والشعفُ جنون والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حالٌ من فاعل تُراود أو من مفعوله وأيا ما كان فهو تكريرٌ لِلّوم وتأكيدٌ للعذْل ببيان اختلالِ أحوالِها القلبية كأحوالها القالَبية وجعلُها تعليلاً لدوام المراودةِ من حيث الإنية مصيرٌ إلى الاستدلال على الأجلي بالأخفى ومن حيث اللُمية ميلٌ إلى تمهيد العذر من قِبلها ولسْن بذلك المقام وانتصابُ حباً على التمييز لنقله عن الفاعلية إذ الأصل قد شغفها حبُّه كما أشير إليه
﴿إِنَّا لَنَرَاهَا﴾ أي نعلمها علماً متاخماً للمشاهدة والعِيان فيما صنعت من المراودة والمحبة المفْرِطة مستقرةً
﴿فِى ضلال﴾ عن طريق الرشد والصوابِ أو عن سنن العقل
﴿مُّبِينٌ﴾ واضح لا يخفى كونُه ضلالاً على أحد أو مُظهرٍ لأمرها بين الناس فالجملةُ مقرِّرةٌ لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع وتسجيلٌ عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم وإنما لم يقُلن إنها لفي ضلال مبين إشعاراً بأن ذلك الحكمَ غيرُ صادر عنهن مجازفةً بل عن علم ورأي مع التلويح بأنهن متنزّهاتٌ عن أمثال ما هي عليه
271
﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ﴾ باغتيابهن وسوء قالهن وقولِهن امرأةُ العزيز عشِقت عبدَها الكنعاني وهو مَقَتها وتسميتُه مكراً لكونه خفيةً منها كمكر الماكر وإن كان ظاهراً لغيرها وقيل استكْتَمَتْهن سِرَّها فأفشَيْنه عليها وقيل إنما قلن ذلك لتُرِيَهُنّ يوسف عليه السلام
﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ﴾ تدعوهن قيل دعت أربعين امرأةً منهن الخمسُ المذكورات
﴿وَأَعْتَدَت﴾ أي أحضرت وهيأت
﴿لهن متكأ﴾ أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد أو رتبت لهن مجلس طعام وشراب لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشارب والحديث كعادة المترَفين ولذلك نُهي الرجلُ أن يأكل متّكِئاً وقيل متّكأ طعاماً من قولهم اتكأنا عند فلان أي طعِمنا قال جميل... فظلِلْنا بنعمةٍ واتكأنا... وشرِبْنا الحلالَ من قُلَلِهْ...
وعن مجاهد متّكأً طعاماً يُحَزّ حزاً كأن المعنى يُعتمد بالسكين عند القطع لأن القاطعَ يتكىء على المقطوع بالسكين وقرىء بغير همز وقرىء بالمد بإشباع حركة الكاف كمُنتَزاح في مُنتزَح ويَنْباع في ينبع وقرأ مُتُكاً وهو الأُترُجّ وأنشدوا... وأهدت مُتْكةً لبني أبيها... تخُب بها العَثَمْثمَةُ الوَقاحُ...
أو ما يقطع من متَك الشيءَ إذا بتكه ومتكأ من تكى إذا اتكى
﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً﴾ لتستعمله في قطع ما يُعهد قطعُه مما قدّم بين أيديهن وقرِّب إليهن من اللحوم والفواكه ونحوها وهن متّكئات وغرضُها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن
﴿وَقَالَتِ﴾ ليوسف وهن مشغولاتٌ بمعالجة السكاكين وإعمالِها فيما بأيديهن من الفواكه وأضرابها والعطفُ بالواو ربما يشير إلى أن قولها
﴿اخرج عَلَيْهِنَّ﴾ أي ابرُزْ لهن لم يكن عَقيب ترتيب أمورِهن ليتم غرضُها من استغفالهن
﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ﴾ عطفٌ على مقدر يستدعيه الأمرُ بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه
271
يوسف الآية (٣٢) وإنما حذف تحقيقاً لمفاجأة رؤيتِهن كأنها تفوت عند ذكرِ خروجِه عليهن كما حُذف لتحقيق السُّرعةِ في قولِه عزَّ وجلَّ فَلَمَّا رَآهُ مُستقرّاً عِندَه بعد قوله أنا آتيك بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إليك طرفك وفيه إيذانٌ بسرعة امتثالِه عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرَّتَه من الأفاعيل
﴿أَكْبَرْنَهُ﴾ عظّمنه وهِبْن حسنَه الفائقَ وجماله الرائعَ الرائقَ فإن فضلَ جمالِه على جمال كلِّ جميلٍ كان كفضل القمرِ ليلة البدرِ على سائر الكواكب عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم أنه قال رأيتُ يوسفَ ليلةَ المعراج كالقمر ليلةَ البدر وقيل كان يُرى تلألؤُ وجهِه على الجُدران كما يُرى نورُ الشمس على الماء وقيل معنى أكبرْنَ حِضْن والهاء للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف عليه السلام على حذف اللام أي حضْن له من شدة الشبَق كما قال المتنبىء... خفِ الله واستُر ذا الجمال برقع... فإن لُحْتَ حاضتْ في الخدور العوانق...
﴿وقطعن أيديهن﴾ أي جرحتها بما في أيديهن من السكاكين لفرْط دهشتِهن وخروجِ حركات جوارحهن عن منهاج الإختيار والإعتياد حتى لم يعلمن ما فعلن وفي التعبير عن الجرح بالقطع ما لا يَخفْى من الدلالة على كثرة جرحهن ومع ذلك لم يبالين بذلك ولم يشعُرْن به
﴿وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ﴾ تنزيهاً له سبحانَه عنْ صفات النقصِ والعجزِ وتعجباً من قدرته على مثل ذلك الصنعِ البديعِ وأصلُه حاشا كما قرأه أبو عمرو في الدرج فحُذفت ألفُه الأخيرةُ تخفيفاً وهو حرفُ جر يفيد معنى التنزيهِ في باب الاستثناء فلا يُستثنى به إلا ما يكون موجباً للتنزيه فوضع موضعَه فمعنى حاشا الله تنزيهُ الله وبراءةُ الله وهي قراءةُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه واللام لبيان المنزَّه والمبرَّأ كما في سُقياً لك والدليلُ على وضعه موضعَ المصدر قراءةُ أبي السمال حاشاً بالتنوين وقراءةُ أبي عمرو بحذف الألف الأخيرة وقراءة الأعمش بحذف الأولى فإن التصرّفَ من خصائص الاسمِ فيدل على تنزيله منزلتَه وعدمُ التنوين لمراعاة أصلِه كما في قولك جلست مِنْ عن يمينه وقولُه غدت مِنْ عليه منقلبُ الألف إلى الياء مع الضمير وقرىء حاش لله بسكون الشين إتباعاً للفتحة الألفَ في الإسقاط وحاش الإله وقيل حاشا فاعلٌ من الحشا الذي هو الناحية وفاعلُه ضميرُ يوسف أي صار في ناحية من أن يقارف ما رمتْه به لله أي لطاعته أو لمكانه أو جانبَ المعصية لأجل الله
﴿مَا هذا بَشَرًا﴾ على إعمال ما بمعنى ليس وهي لغةُ أهلِ الحجازِ لمشاركتهما في نفي الحالِ وقرىء بشرٌ على لغة تميم وبِشِرًى أي بعبد مشترى لئيم نفَين عنه البَشَرية لما شاهدْن فيه من الجمال العبقري الذي لم يُعهدْ مثالُه في البشر وقصَرْنه على الملَكية بقولهن
﴿إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ بناءً على ما ركَز في العقول من أن لا حيَّ أحسنُ من الملك كما ركب فيها أن لا أقبحُ من الشيطان ولذلك لا يزال يُشبَّه بهما كلُّ متناهٍ في الحسن والقبح وغرضُهن وصفُه بأقصى مراتبِ الحسن والجمال
272
﴿قَالَتْ فذلكن﴾ الفاء فصيحةٌ والخطابُ للنسوة والإشارةُ إلى يوسف بالعنوان الذي وصفْنه به الآن من الخروج في الحسن والجمالِ عن المراتب البشرية والإقتصار على الملَكية فاسمُ الإشارة مبتدأ والموصول
272
يوسف الآية (٣٣) خبرُه والمعنى إنْ كانَ الأمرُ كَما قلتنّ فذلكنّ الملكُ الكريمُ النائي من المراتب البشريةِ هو
﴿الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ﴾ أي عيَّرْتُنّني في الافتتان به حيث رَبَأْتُن بمحلِّي بنسبتي إلى العزيز ووضعتُنَّ قدرَه بكونه من المماليك أو بالعنوان الذي وصفْنه به فيما سبق بقولهن امرأةُ العزيز عشِقت عبدَها الكَنعاني فهو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي فهو ذلك العبدُ الكنعانيُّ الذي صورتُنّ في أنفسكن وقلتنّ فيه وفيَّ ما قلتن فالآن قد علمتُنّ من هو وما قولُكن فينا وأما ما يقال تعني أنكن لم تصوِّرْنه بحقِّ صورتِه ولو صوّرتُنّه بما عاينتُنّ لعذرتُنّني في الافتتان به فلا يلائمُ المقام فإن مرادَها بدعوتهن وتمهيدِ ما مهَّدَتْه لهن تبكيتُهن وتنديمُهن على ما صدر عنهن من اللوم وقد فعلت ذلكَ بما لا مزيدَ عليه وما ذكر من المقال فحقُّ المعتذر قبل ظهور معذرتِه وقد قيل في تعليل الملَكية أن الجمعَ بين الجمال الرائقِ والكمال الفائق والعصمةِ البالغةِ من الخواصِّ الملكية وهو أيضاً لا يلائم قولها فذلكن الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ فإن عنوانَ العصمةِ مما ينافي تمشيةَ مرامها ثم بعد ما أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرَها وقد أصابهن من قبله عليه السلام ما أصابها باحت لهن ببقية سرِّها فقالت
﴿وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ﴾ حسبما قلتنّ وسمعتن
﴿فاستعصم﴾ امتنع طالباً للعصمة وهو بناءُ مبالغةٍ يدل على الامتناع البليغِ والتحفّظ الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها كما في استمسك واستجمع الرأيَ وفيه برهانٌ نيِّر على أنه لم يصدر عنه عليه السلام شيء مُخِلٌّ باستعصامه بقوله معاذ الله من الهمّ وغيرِه اعترفت لهن أولاً بما كن يسمعنْه من مراودتها له وأكدتْه إظهاراً لابتهاجها بذلك ثم زادت على ذلك أنه أعرض عنها على أبلغ ما يكون ولم يَمِلْ إليها قط ثم زادت عليه أيضاً أنها مستمرةٌ على ما كانت عليه غير مرعوية عنه لا بلوم العواذل ولا بإعراض الحبيب فقالت
﴿وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمره﴾ أي آمرُ به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى فحُذف الجارُّ وأوصل الفعلُ إلى الضمير كما في أمرتك الخيرَ الضمير للموصول أو أمري إياه أي موجبَ أمري ومقتضاه فما مصدرية فالضمير ليوسف وعبّرت عن مراودتها بالأمر إظهاراً لجريان حكومتِها عليه واقتضاءً للامتثال بأمرها
﴿لَيُسْجَنَنَّ﴾ بالنون المثقلة آثرت بناءَ الفعل للمفعول جرياً على رسم الملوكِ أو إيهاماً لسرعة ترتبِ ذلك على عدم امتثالِه لأمرها كأنه لا يدخُل بينهما فعل فاعل
﴿وليكونن﴾ بالمخففة
﴿مِنَ الصاغرين﴾ أي الأذلاء في السجن وقد قرىء الفعلان بالتثقيل ولكن المشهورةَ أولى لأن النونَ كُتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف واللامُ الداخلة على حرف الشرطِ موطئة للقسم وجوابه ساد مسدَّ الجوابين ولقد أتتْ بهذا الوعيدِ المنطوي على فنون التأكيدِ بمحضر منهن ليعلم يوسفُ عليه السلام أنها ليست في أمرها على خفية ولا خيفة من أحد فتضيقَ عليه الحيلُ وتعيا به العللُ وينصحن له ويُرشِدْنه إلى موافقتها ولما كان هذا الإبراقُ والإرعادُ منها مظِنةً لسؤال سائل يقول فما صنع يوسفُ حينئذ قيل
273
﴿قَالَ﴾ مناجياً لربه عزَّ سلطانُه
﴿رَبّ السجن﴾ الذي أوعَدَتْني بالإلقاء فيه وقرأ يعقوبُ بالفتح على المصدر
﴿أحب إلى﴾
273
يوسف الآية (٣٤ ٣٥) أي آثَرُ عندي لأنه مشقةٌ قليلةٌ نافذةٌ إثرَها راحاتٌ جليلةٌ أبديةٌ
﴿مِمَّا يدعونني إليه﴾ من مؤاتانها التي تؤدي إلى الشقاء والعذابِ الأليم وهذا الكلامُ منه عليه السلام مبنيٌّ على ما مر من انكشاف الحقائقِ لديه وبروزِ كلَ منها بصورتها اللائقةِ بها فصيغةُ التفضيلِ ليست على بابها إذ ليس له شائبةُ محبةٍ لما دعتْه إليه وإنما هو والسجنُ شران أهونُهما وأقربُهما إلى الإيثار السجنُ والتعبيرُ علن الإيثار بالمحبة لحسم مادةِ طمعِها عن المساعدة خوفاً من الحبس والاقتصار على ذكر السجنِ من حيث إن الصَّغارَ من فروعه ومستتبعاتِه وإسنادُ الدعوةِ إليهن جميعا لأن النسوة رغبته في مطاوعتها وخوفته من مخالفتها وقيل دعَوْنه إلى أنفسهن وقيل إنما ابتُلي عليه السلام بالسجن لقوله هذا وكان الأولى به أن يسألَ الله تعالى العافية ولذلك ردّ رسول الله ﷺ على من كان يسأل الصبرَ
﴿وَإِلاَّ تَصْرِفْ﴾ أي إن لم تصرف
﴿عَنّى كَيْدَهُنَّ﴾ في تحبيب ذلك إليّ وتحسينه لديّ بأن تُثبِّتَني على ما أنا عليهِ من العِصمة والعِفة
﴿أَصْبُ إِلَيْهِنَّ﴾ أي أمِلْ إلى إجابتهن أو إلى أنفسهن على قضية الطبيعةِ وحكم القوةِ الشهوية وهذا فزعٌ منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جرياً على سُنن الأنبياءِ والصالحين في قصر نيلِ الخيراتِ والنجاة عن الشرور على جناب الله عز وجل وسلبِ القوى والقدر عن أنفسهم ومبالغةٌ في استدعاء لطفِه في صرف كيدِهن بإظهار أن لا طاقةَ له بالمدافعة كقول المستغيثِ أدركْنى وإلا هلكتُ لا أنه يطلب الإجبارَ والإلجاءَ إلى العصمة والعفةِ وفي نفسه داعيةٌ تدعوه إلى هواهن والصبْوةُ الميلُ إلى الهوى ومنه الصَّبا لأن النفوسَ تصبو إليها لطيب نسيمِها ورَوْحِها وقرىء أصبّ إليهن من الصبابة وهي رقةُ الشوق
﴿وَأَكُن مّنَ الجاهلين﴾ الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو والجاهل سواءٌ أو من السفهاء بارتكابِ ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيمَ لا يفعل القبيح
274
﴿فاستجاب لَهُ رَبُّهُ﴾ دعاءَه الذي تضمنه قولُه وإلا تصرف عني كيدهن الخ فإن فيه استدعاءً لصرف كيدِهن على أبلغ وجهٍ وألطفِه كما مر وفي إسناد الاستجابة إلى الرب مضافاً إليه عليه السلام ما لا يَخفْى من إظهار اللطف
﴿فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ﴾ حسب دعائِه وثبّته على العصمة والعفة
﴿إِنَّهُ هُوَ السميع﴾ لدعاء المتضرعين إليه
﴿العليم﴾ بأحوالهم وما يصلحهم
﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ﴾ أي ظهر للعزيز وأصحابه المتصدّين للحل والعقد ريثما اكتفَوا بأمر يوسف بالكتمان والإعراض عن ذلك
﴿مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات﴾ الصارفةَ لهم عن ذلك البداءِ وهي الشواهدُ الدالة على براءته عليه السلام وفاعل بدا إما مصدرُه أو الرأي المفهوم من السياق أو المصدر المدلولِ عليه بقوله
﴿ليسجننه﴾ والمعنى بذا لهم بداءٌ أو رأيٌ أو سَجنُه المحتومُ قائلين والله ليسجُنُنّه فالقسم المحذوف وجوابه معمول للقول المقدر حالاً من ضميرهم وما كان ذلك البداءُ إلا باستنزال المرأة لزوجها ومثلها منه في الذِّروة والغاربِ وكان مطواعةً لها تقوده حيث شاءت قال السدي إنها قالت للعزيز إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يخبرهم بأني راودتُه عن نفسه فإما أن تأذن لي
274
يوسف الآية (٣٦) فأخرجَ فأعتذرَ إلى الناس وإما أن تحبِسه فحبسه ولقد أرادت بذلك تحقيقَ وعيدِها لتُلين به عريكتَه وتنقادَ لها قرونته لمّا انصرمت حبالُ رجائها عن استتباعه بعرض الجمالِ والترغيبِ بنفسها وبأعوانها وقرىء لتسجُنُنه على صيغة الخطاب بأن خاطب بعضُهم العزيزَ ومن يليه أو العزيزَ وحده على وجه التعظيم أو خاطب به العزيزَ ومَن عنده مِن أصحاب الرأي المباشرين للسجن والحبس
﴿حتى حِينٍ﴾ إلى حين انقطاعِ قالةِ الناسِ وهذا بادي الرأي عند العزيز وذويه وأما عندها فحتى يذلِّلَه السجنُ ويسخره لها ويحسبَ الناسُ أنه المجرمُ وقرىء عتى حين بلغة هذيل
275
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ﴾ أى فى صحبته
﴿السجن فَتَيَانَ﴾ من فتيان الملك وممالكيه أحدهما شرابيه والآخر خبازه رُوي أنَّ جماعةً من أهل مصر ضمنوا لهما مالا ليسما الملك فى طعامه وشرابه فأجاباهم إلى ذلك ثم إن الساقى نكل عن ذلك ومضى عليه الخباز فسم الخبز فلما حضر الطعام قال الساقى لا تأكل أيها الملك فإن الخبز مسموم وقال الخباز لا تشرب أيها الملك فإن الشراب مسموم فقال الملك للساقى اشربه فشربه فلم يضره وقال للخباز كله فأبى فجرب بدابة فهلكت فأمر بحبسهما فاتفق أن أدخلاه معه وتأخير الفاعل عن المفعول لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن عند النفس حين ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ ونظيره تقديم الظرفِ على المفعول الصريحِ في قوله تعالى فأوجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفة وتأخير السجن عن الظرف لإيهام العكس أن يكون الظرفُ خبراً مقدما على المبتدأ وتكون الجملة حالا من فاعل دخل فتأمل
﴿قَالَ أَحَدُهُمَآ﴾ استئناف مبني على سؤال من يقول ما صنعا بعد ما دخلا معه السجن فأجيب بأنه قال أحدهما وهو الشرابى
﴿إني أراني﴾ أى رأيتنى والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة الماضية
﴿أَعْصِرُ خَمْراً﴾ أى عنباً سماه بما يؤول إليه لكونه المقصود من العصر وقيل الخمر بلغة عمان اسم للعنب وفي قراءةُ ابن مسعودٍ رضي الله عنه أعصر عنباً
﴿وَقَالَ الآخر﴾ وهو الخباز
﴿إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً﴾ تأخير المفعول عن الظرفِ لما مرَّ آنفاً وقوله
﴿تَأْكُلُ الطير مِنْهُ﴾ أى تنهس منه صفة للخبز أو استئنافٌ مبنيُّ على السؤال
﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ بتأويل ما ذكر من الرؤيين أو ما رئى بإجراء الضمير مجرى ذلك بطريق الاستعارة فإن اسم الإشارة يشار به إلى متعدد كما فى قوله... فيها خطوطٌ من سوادٍ وبَلَق... كأَنَّهُ فِي الجلدِ تَوْليعُ البهقْ...
أي كأن ذلك والسر فى المصير إلى إجراء الضَّميرِ مجرى اسمِ الإشارةِ مع أنه لا حاجة إليه بعد تأويل المرجع بما ذكر أو بما رئى أن الضمير إنما يتعرض لنفس المرجع من حيثُ هو من غير تعرض لحال من أحواله فلا يتسنى تأويله بأحد الاعتبارين إلا بإجرائه مجرى اسم الإشارة الذى يدل على المشار إليه بالاعتبار الذى جرى عليه فى الكلام فتأمل هذا إذا قالاه معاً أو قاله أحدهما من جهتهما معا وأما ما إذا قاله كل منهما إثر ما قص ما رآه فالخطاب المذكور ليس عبارتهما ولا عبارة أحدهما من جهتهما ليتعدد المرجع بل عبارة كل منهما نبئنى بتأويله مستفسراً لما رآه وصيغة المتكلم مع الغير واقعة فى الحكاية دون المحكى على طريقة قوله عز وجل يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات فإنهم
275
يوسف ٣٧ لم يخاطبوا بذلك دفعة بل خوطب كل منهم فى زمانه بصيغة مفردة خاصة به
﴿إِنَّا نَرَاكَ﴾ تعليل لعرض رؤياهما عليه واستفسارها منه عليه السَّلام
﴿مِنَ المحسنين﴾ من الذين يجيدون عبارة الرؤيا لما أياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤولها له تأويلا حسناً أو من العلماء لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله أو من المحسنين إلى أهل السجن أى فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادراً على ذلك روي أنه عليه السلام كان إذا مرض منهم رجل قام عليه وإذا ضاق مكانه أوسع له وإذا احتاج جمع له وعن قتادة رضى الله عنه كان فى السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول أبشروا واصبروا تؤجروا فقالوا بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك لقد بورك لنا فى جوارك فمن أنت يا فتى فقال أنا يوسف بن صفى الله يعقوب بن ذبيح الله إسحق بن خليل الله إبراهيم فقال له عامل السجن لو استطعت خليت سبيلك ولكنى أحسن جوارك فكن فى أى بيوت السجن شئت وعن الشعبى أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابى أرانى فى بستان فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتهما وعصرتهما فى كأس الملك وسقيته وقال الخباز إنى أرانى وفوق رأسى ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة إذا سباع الطير تنهس منها
276
﴿قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾ في مقامكما هذا حسب عادتِكما المطردةِ
﴿إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ استثناءٌ مفرَّغٌ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعامٌ في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ ما نبأتكما به بأن بينت لكما ما هيته وكيفيته وسائرَ أحواله
﴿قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا﴾ وإطلاقُ التأويل عليه إما بطريق الاستعارةِ فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعامِ المُبهمِ بمنزلة التأويلِ بالنظر إلى ما رُئيَ في المنام وشبيهٌ له وإما بطريق المشاكلة حسبما وقع في عبارتهما من قولهما نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ولا يبعُد أن يراد بالتأويل الشيءُ الآئلُ لا المآلُ فإنه في الأصل جعلُ شيءٍ آئلاً إلى شيء آخرَ فكما يجوزُ أنْ يرادَ به الثاني يجوزُ أنْ يرادَ به الأولُ فالمعنى إلا نبأتُكما بما يؤول إليه من الكلام والخبرِ المطابق للواقع وكان عليه السلام يقول لهما اليوم يأتيكما طعامٌ من صفته كيتَ وكيتَ فيجدنه كذلك ومرادُه عليه السلام بذلك بيانُ كلِّ ما يُهمّهما من الأمور المترقَّبة قبل وقوعِها وإنما تخصيصُ الطعام بالذكر لكونه عريقاً في ذلك بحسب الحال مع ما فيه من مراعاة حسنِ التخلص إليه مما استعبراه من الرؤيَيَيْن المتعلقتين بالشراب والطعام وقد جُعل الضميرُ لما قصا من الرؤييين على معنى لا يأتيكما طعام ترزقانه حسب عادتِكما إلا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما عليَّ قبل أن يأتيكما ذلك الطعامُ الموقت مراداً به الإخبارُ بالاستعجال في التنبئة وأنت خبير بأن النظم الكريمَ ظاهرٌ في تعدد إتيانِ الطعام والإخبار بالتأويل وتجدُّدِهما وأن المقام مقامُ إظهارِ فضلِه في فنون العلومِ بحيث يدخل في ذلك تأويلُ رؤياهما دخولاً أولياً وإنما لم يكتفِ عليه السلام بمجرد تأويلِ رؤياهما مع أن فيه دِلالةً على فضلة لأنهما لما نعتاه عليه السلام بالانتظام في سِمْط المحسنين وأنهما قد علما ذلك حيث قالا إنا نراك
276
يوسف ٣٨ من المحسنين توسّم عليه السلام فيهما خيراً وتوجّهاً إلى قبول الحق فأراد أن يخرُجَ آثرَ ذي أثيرٍ عما في عُهدته من دعوة الخلقِ إلى الحق فمهّد قبل الخوضِ في ذلك مقدمةً تزيدهما علماً بعظم شأنِه وثقةً بأمره ووقوفا على علو طبقته في بدائع العلومِ توسلاً بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه وقد تخلّص إليها من كلامهما فكأنه قال تأويلُ ما قصصتماه عليّ في طرف التمام حيث رأيتما مثاله في المنام وإني أبيّن لكما كلَّ جليل ودقيق من الأمور المستقبلة وإن لم يكن هناك مقدمة المنام حتى إن الطعام الموظفَ الذي يأتيكما كلَّ يوم أبينه لكما قبل إتيانه ثم أخبرهما بأن علمه ذلك ليس من قبيل علوم الكهنةِ والعرّافين بل هو أفضل إلهيٌّ يؤتيه من يشاء ممن يصطفيه للنبوة فقال
﴿ذلكما﴾ أي ذلك التأويلُ والإخبارُ بالمغيّبات ومعنى البُعد في ذلك للإشارة إلى علو درجتِه وبُعد منزلتِه
﴿مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى﴾ بالوحي والإلهامِ أي بعضٌ منه أو من ذلك الجنسِ الذي لا يحوم حولَ إدراكِه العقولُ ولقد دلهما بذلك على أن له علوماً جمةً ما سمعاه قطعةٌ من جملتها وشُعبةٌ من دوحتها ثم بين أن نيل تلك الكرامةِ بسبب اتباعِه ملةَ آبائِه الأنبياءِ العظامِ وامتناعِه عن الشرك فقال
﴿إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله﴾ وهو استئنافٌ وقع جوابا عن سؤال نشأ من قوله ذلكما مما علمني ربي وتعليلاً له لا للتعليم الواقع صلةً للموصول لتأديته إلى معنى أنه مما علمني ربي لهذا السبب دون غيرِه ولا لمضمون الجملةِ الخبرية لأن ما ذُكر بصدد التعليلِ ليس بعلةٍ لكون التأويلِ المذكورِ بعضاً مما علمه ربُّه أو لكونه من جنسه بل لنفس تعليمِ ما علمه فكأنه قيل لماذا علمك ربُّك تلك العلومَ البديعة فقيل لأني تركت ملة الكفرةِ أي دينَهم الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادةِ الأوثان والمراد بتركها الامتناعُ عنها رأساً كما يفصحُ عنه قولُه مَا كَانَ لنا أن نشرك بالله مِن شَىْء لا تركُها بعد ملابستها وإنما عبّر عنه بذلك لكونه أدخلَ بحسب الظاهرِ في اقتدائهما به عليه السلام والتعبيرُ عن كفرهم بالله تعالى بسلب الإيمان به للتنصيص على أن عبادتَهم له تعالى مع عبادة الأوثانِ ليست بإيمان به تعالى كما هو زعمُهم الباطلُ على ما مرَّ في قوله تعالى إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح
﴿وَهُم بالآخرة﴾ وما فيها من الجزاء
﴿هُمْ كافرون﴾ على الخصوص دون غيرِهم لإفراطهم في الكفر
277
﴿واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق وَيَعْقُوبَ﴾ يعني أنه إنما حاز هذه الكمالاتِ وفاز بتلك الكراماتِ بسبب أنه اتبع ملةَ آبائِه الكرامِ ولم يتبع ملةَ قومٍ كفروا بالمبدأ والمعاد وإنما قاله عليه السلام ترغيباً لصاحبيه في الإيمان والتوحيدِ وتنفيراً لهما عما كانا عليه من الشرك والضلالِ وقُدّم ذكرُ تركِه لملّتهم على ذكر اتباعِه لملة آبائِه لأن التخلية متقدمة على التحلية
﴿مَا كَانَ﴾ أي ما صح وما استقام فضلاً عن الوقوع
﴿لَنَا﴾ معاشرَ الأنبياء لقوة نفوسنا ووفور علومِنا
﴿أَن نُّشْرِكَ بالله من شىء﴾ أي شيء كان من ملك أو جنّي أو إنسي فضلاً عن الجماد البحث
﴿ذلك﴾ أي التوحيدُ المدلولُ عليه بقوله ما كان لنا أن نشرك بالله من شىء
﴿مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا﴾ أي ناشىءٌ من تأييده لنا بالنبوة وترشيحِه إيانا لقيادة الأمةِ
277
يوسف ٣٩ ٤٠ وهدايتِهم إلى الحق وذلك مع كونه من مواجبات التوحيد ودواعيه نعمةٌ جليلةٌ وفضلٌ عظيم علينا بالذات
﴿وَعَلَى الناس﴾ كافةً بواسطتنا وحيث عبّر عن ذلك بذلك العنوان عبّر عن التوحيد الذي يوجبه بالشكر فقيل
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يشكرون﴾ أي لا يوحّدون فإن التوحيدَ مع كونه من آثار ما ذُكر من التَّأييدِ شكرٌ لله عز وجل على النعمةِ وإنما وضْعِ الظاهِرِ موضعَ الضَّميرِ الراجعِ إلى الناس لزيادة توضيحٍ وبيانٍ ولقطع توهمِ رجوعِه إلى المجموع المُوهمِ لعدم اختصاصِ غير الشاكرِ بالناس وقيل ذلك التوحيدُ من فضل الله علينا حيث نصَب لنا أدلةً ننظر فيها ونستدلّ بها على الحق وقد نصَب مثلَ تلك الأدلةِ لسائر الناس أيضاً ولكن أكثرَهم لا ينظرون ولا سيتدلون بها اتّباعاً لأهوائهم فيبقَوْن كافرين غيرَ شاكرين ولك أن تقول ذلك التوحيدُ من فضل الله علينا حيث أعطانا عقولاً ومشاعرَ نستعملها في دلائلِ التوحيد التي مهدها في الأنفسِ والآفاقِ وقَد أعطى سائرَ الناس أيضاً مثلها ولكن أكثرَهم لاَ يَشْكُرُونَ أي لا يصرِفون تلك القُوى والمشاعرَ إلى ما خُلِقت هي له ولا يستعملونها فيما ذكر من أدلة التوحيدِ الآفاقيةِ والأنفُسية والعقليةِ والنقلية
278
﴿يا صاحبي السجن﴾ أي يا صاحبيَّ في السجن كما تقول يا سارق الليلةِ ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجانِ ودارِ الأحزان التي تصفو فيها المودةُ وتخلُص النصيحةُ ليُقبِلا عليه ويَقبَلا مقالتَه وقد ضرب لهما مثلاً يتضح به الحقُّ عندهما حقَّ اتضاحٍ فقال
﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ﴾ لا ارتباطَ بينهم ولا اتفاقَ يستعبدُ كما كلٌّ منهم حسبما أراد غيرَ مراقب للآخَرين مع عدم استقلاله
﴿خَيْرٌ﴾ لكما
﴿أَمِ الله﴾ المعبودُ بالحق
﴿الواحد﴾ المتفرد بالألوهية
﴿القهار﴾ الغالبُ الذي لا يغالبه أحدٌ وبعد ما نبه ما على فساد تعددِ الأرباب بين لهما سقوطَ ألهتِهما عن درجة الاعتبار رأساً فضلاً عن الألوهية فقال معمّماً للخطاب لهما ولمن على دينهما
﴿مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ﴾ أي من دون الله شيئاً
﴿إِلاَّ أَسْمَاءً﴾ فارغةً لا مطابقَ لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداقُ إطلاقِ الاسم عليه لا وجودَ له أصلاً فكانت عبادتُهم لتلك الأسماء فقط
﴿سَمَّيْتُمُوهَا﴾ جعلتموها أسماءً وإنما لم يَذكُر المسمَّياتِ تربيةً لما يقتضيه المقامُ من إسقاطها عن مرتبة الوجودِ وإيذاناً بأن تسميتهم في البطلان حيث كانت بلا مسمّى كعبادتهم حيث كان بلا معبود
﴿أنتم وآباؤكم﴾ بمحض جهلِكم وضلالتِكم
﴿مَّا أَنزَلَ الله بِهَا﴾ أي بتلك التسميةِ المستتبِعة للعبادة
﴿مّن سلطان﴾ من حجة تدل على صحتها
﴿إِنِ الحكم﴾ في أمر العبادة المتفرعةِ على تلك التسمية
﴿إلا الله﴾ عز سلطانُه لأنه المستحقُّ لها بالذات إذ هوالواجب بالذات الموجدُ للكل والمالكُ لأمره
﴿أمر﴾ استنئاف مبني على سؤال ناشىءٍ من قوله إن الحكم إلا لله فكأنه قيل فماذا حكم الله في هذا الشأن فقيل أمر على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام
﴿أَلاَّ تَعْبُدُواْ﴾ أي بأنْ لاَّ تَعْبُدُواْ
﴿إِلاَّ إياه﴾ حسبما
278
يوسف ٤١ ٤٢ تقضي به قضيةُ العقل أيضاً
﴿ذلك﴾ أي تخصيصُه تعالى بالعبادة
﴿الدين القيم﴾ الثابتُ المستقيم الذي تعاضدت عليه البراهينُ عقلاً ونقلاً
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يعلمون﴾ أن ذلك هوالدين القيم لجهلهم بتلك البراهينِ أو لا يعلمونَ شيئاً أصلا فيبعدون أسماءً سمَّوها من تلقاء أنفسِهم معْرِضين عن البرهان العقلى والسلطان العقلي وبعد تحقيقِ الحقِّ ودعوتِهما إليه وبيانِه لهما مقدارَه الرفيعَ ومرتبةَ علمِه الواسِع شرع في تفسير ما استفسراه ولكونه بحثاً مغايِراً لما سبق فصلُه عنه بتكرير الخطاب فقال
279
﴿يا صاحبي السجن أَمَّا أَحَدُكُمَا﴾ وهو الشرابيُّ وإنما لم يعيّنه ثقةً بدلالة التعبير وتوسلاً بذلك إلى إبهام أمرِ صاحبِه حِذارَ مشافهتِه بما يسوءه
﴿فَيَسْقِى رَبَّهُ﴾ أي سيدَه
﴿خَمْرًا﴾ روي أنه عليه السلام قال له ما رأيت من الكرمة وحسنها الملك وحسنُ حالك عنده وأما القضبان الثلاثة فثلاثةُ أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه وقرأ عكرمة فيسقى ربُّه على البناء للمفعول أي يُسقى ما يروى به
﴿وَأَمَّا الاخر﴾ وهو الخباز
﴿فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ﴾ روي أنه عليه السلام قال له ما رأيت من السلال الثلاث ثلاثةُ أيام تمرّ ثم تخرج فتقتل
﴿قُضِىَ﴾ أي أتم وأحكم
﴿الامر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ وهو ما رأياه من الرؤييين قطعاً لا مآلُه الذي هو عبارة عن نجاة أحدِهما وهلاكِ الآخر كما يوهمه إسنادُ القضاء إليه إذ الاستفتاءُ إنما يكون في الحادثة لا في حكمِها يقال استفتى الفقيهَ في الحادثة أي طلب منه بيانَ حكمِها ولا يقال استفتاه في حكمها وكذا الإفتاءُ فإنه يقال أفتى فلانٌ في الواقعة الفلانية بكذا ولا يقال أفتى في حكمها أو جوابها بكذا ومما هو علَمٌ في ذلك قولُه تعالى ﴿يا أيها الملأ أَفْتُونِى فِى رؤياى﴾ ومعنى استفتائهما فيه طلبُهما لتأويله بقولهما نبئنا بتأويله وإنما عبر عن ذلك بالأمر وعن طلب تأويلِه بالاستفتاء تهويلاً لأمره وتفخيماً لشأنه إذ الاستفتاءُ إنما يكون في النوازل المشكِلة الحكم المبهمة الجواب وإيثاره صيغة الاستقبالِ مع سبق استفتائِهما في ذلك لما أنهما بصدده إلى أن يقضيَ عليه السلام من الجواب وطرَه وإسنادُ القضاءِ إليه مع أنه من أحوال مآلِه لأنه في الحقيقة عينُ ذلك المآلِ وقد ظهر في عالم المثالِ بتلك الصورةِ وأما توحيدُه مع تعدد رؤياهما فواردٌ على حسب ما وحده في قولهما نبئنا بتأويله لا لأن الأمرَ ما اتُّهما به وسُجنا لأجله من سَمِّ الملكِ فإنهما لم يستفيا فيه ولا فيما هو صورتُه بل فيما هو صورةٌ لمآله وعاقبتِه فتأمل وإنما أخبرهما عليه السلام بذلك تحقيقاً لتعبيره وتأكيداً له وقيل لما عبّر رؤياهما جحَدا وقالا ما رأينا شيئاً فأخبرهما إن ذلك كائن صدقتما أو كذبتما ولعل الجحودَ من الخبّاز إذ لا داعيَ إلى جحود الشرابيِّ إلا أن يكون ذلك لمراعاة جانبه
﴿وقال﴾
279
يوسف ٤٣ أي يوسف عليه السلام
﴿لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ﴾ أُوثر على صيغة المضارعِ مبالغةٌ في الدلالة على تحقق النجاةِ حسبما يفيده قوله تعالى ﴿قُضِىَ الامر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ وهو السرُّ في إيثارَ مَا عليهِ النظمُ الكريمُ على أن يقال للذي ظنه ناجياً
﴿مِنْهُمَا﴾ من صاحبيه وإنما ذكر بوصف النجاةِ تمهيداً لمناط التوصيةِ بالذكر عند الملكِ وعنوانِ التقربِ المفهوم من التعبير المذكورِ وإن كان أدخلَ في ذلك وأدعى إلى تحقيق ما وصّاه به لكنه ليس بوصف فارقٍ يدور عليه الامتيازُ بينه وبين صاحبه المذكورِ بوصف الهلاكِ والظانُّ هو يوسفُ عليه السلام لا صاحبُه لأن التوصيةَ المذكورة لا تدور على ظن الناجي بل على ظن يوسفَ وهو بمعنى اليقينِ كما في قوله تعالى ﴿ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ﴾ فالتعبيرُ بالوحي كما ينبىء عنه قوله تعالى ﴿قُضِىَ الامر﴾ الخ وقيل هو بمعناه والتعبيرُ بالاجتهاد والحكمُ بقضاء الأمر أيضاً اجتهاديٌّ
﴿اذكرنى﴾ بما أنا عليه من الحال والصفة
﴿عِندَ رَبّكَ﴾ سيّدِك وصِفْني له بصفتي التي شاهدتَها
﴿فَأَنْسَاهُ الشيطان﴾ أي أنسى الشرابيَّ بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالاً تعوقه عن الذكر وإلا فالإنساءُ في الحقيقة لله عز وجل والفاءُ للسببية فإن توصيتَه عليه السلام المتضمنةَ للاستعانة بغيره سبحانه كانت باعثةً لما ذكر عن الإنساء
﴿ذِكْرَ رَبّهِ﴾ أي ذكرَ الشرابيِّ له عليه السلام عند الملِك والإضافة لأدنى ملابسةٍ أو ذكرَ إخبارِ ربِّه
﴿فَلَبِثَ﴾ أي يوسف عليه السلام بسبب ذلك الإنساءِ أو القول
﴿في السجن بضع سنين﴾ البِضْعُ ما بين الثَّلاثِ إلى التسع من البَضْع وهو القطعُ وأكثرُ الأقاويل أنه لبث فيه سبعَ سنين وروي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم رحم الله أخي يوسفَ لو لم يقُل اذكُرْني عند ربِّك لما لبث في السجن سبعاً بعد الخمس والاستعانةُ بالعباد وإن كانت مرخصةً لكن اللائقَ بمناصب الأنبياءِ عليهم السلام الأخذُ بالعزائم
280
﴿وَقَالَ الملك﴾ أي الريّانُ
﴿إِنّى أرى﴾ أي رأيت وإيثارُ صيغة المضارعِ لحكايةِ الحالِ الماضيةِ
﴿سَبْعَ بقرات سِمَانٍ﴾ جمعُ سمينٍ وسمينة ككرام في جمع كريم وكريمة يقال رجالٌ كرام ونسوةٌ كِرامٌ
﴿يَأْكُلُهُنَّ﴾ أي أكلهن والعدولُ إلى المضارع لاستحضار الصورةِ تعجيباً والجملةُ حالٌ من البقرات أو صفةٌ لها
﴿سَبْعٌ عِجَافٌ﴾ أي سبعُ بقراتٍ عجافٍ وهي جمعُ عجفاءَ والقياس عُجْفٌ لأن فعلاء وأفعل لا يجمع على فِعال ولكن عُدل به عن القياس حملاً لأحد النقيضين على الآخر وإنما لم يقل سبعُ عجافٍ بالإضافة لأن التمييزَ موضوعٌ لبيان الجنس والصفةُ ليست بصالحة لذلك فلا يقال ثلاثةُ ضخامٍ وأربعةُ غلاظٍ وأما قولُك ثلاثةُ فرسانٍ وخمسةُ ركبانٍ فلجرَيان الفارسِ والراكب مَجرى الأسماءِ روي أنه رأى سبعَ بقراتٍ سمان خرجن من نهر يابسٍ وخرج عَقيبَهن سبعُ بقراتٍ عجافٍ في غاية الهُزال فابتلعت العجافُ السمانَ
﴿وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ﴾ قد انعقد حبُّها
﴿وَأُخَرَ يابسات﴾ أي وسبعاً أخَرَ يابساتٍ قد أدركت والْتَوَتْ على الخضر حتى غليتها على ما روي ولعل عدمَ التعرضِ لذكره للاكتفاء بما ذُكر من حال البقرات
﴿يا أيها الملأ﴾ خطابٌ للأشراف من العلماء والحكماء
﴿أَفْتُونِى فِى رؤياى﴾ هذه أي عبِّروها وبيِّنوا حكمَها وما تؤول إليه من العاقبة والتعبير عن التعبير بالإفتاء
280
يوسف الآية (٤٤ ٤٥) لتشريفهم وتفخيمِ أمر رؤياه
﴿إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ أي تعلمون عبارةَ جنسِ الرؤيا علماً مستمراً وهي الانتقالُ من الصور الخيالية المشاهدةِ في المنام إلى ما هي صورٌ وأمثلةٌ لها من الأمور الآفاقيةِ أو الأنفسيةِ الواقعةِ في الخارج من العبور وهو المجاوزةُ تقول عبَرْتُ النهرَ إذا قطعتُه وجاوزتُه ونحوه أوّلتها أي ذكرتُ مآلَها وعَبْرتُ الرؤيا عبارةً أثبتُ من عبّرتها تعبيراً والجمعُ بين الماضِي والمستقبلِ للدِّلالةِ على الاستمرار كما أشير إليه واللامُ للبيان أو لتقوية العاملِ المؤخَّرِ لرعاية الفواصِلِ أو لتضمين تعبُرون معنى فعلٍ متعدَ باللام كأنه قيل إن كنتم تنتدِبون لعبارتها ويجوز أن يكون للرؤيا خبر كان كما يقال فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلاً به متمكناً منه وتعبرون خبرٌ آخر
281
﴿قالوا﴾ استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الملأُ للملك فقيل قالوا هي
﴿أضغاث أَحْلاَمٍ﴾ أي تخاليطُها جمع ضِغْث وهو في الأصلِ ما جمع من أخلاط النبات وحُزِم ثم استعير لما تجمعه القوةُ المتخيِّلة من أحاديث النفس ووساوسِ الشيطان وتريها في المنام والأحلامُ جمع حلُم وهي الرؤيا الكاذبةُ التي لا حقيقةَ لها والإضافةُ بمعنى مِنْ أي هي أضغاثٌ من أحلام أخرَجوها من جنس الرؤيا التي لها عاقبةٌ تؤول إليها ويعتنى بأمرها وجمعوها وهي رؤيا واحدةٌ مبالغةً في وصفها بالبطلان كما في قولهم فلانٌ يركبُ الخيلَ ويلبَس العمائم لمن لا يملِك إلا فرساً واحداً وعمامة فردةً أو لتضمّنها أشياءَ مختلفةً من البقرات السبع السمان والسبع العجاف والسنابل السبعِ الخُضر والأُخَرِ اليابسات فتأمل حسنَ موضع الأضغاثِ مع السنابل فللَّه درُّ شأنِ التَّنزيلِ
﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاحلام﴾ أي المنامات الباطلةِ التي لا أصلَ لها
﴿بعالمين﴾ لا لأن لها تأويلاً ولكن لا نعلمه بل لأنه لا تأويلَ لها وإنما التأويلُ للمنامات الصادقةِ يجوز أن يكون ذلك اعترافاً منهم بقصور علمِهم وأنهم ليسوا بنحاريرَ في تأويل الأحلامِ مع أن لها تأويلاً كما يُشعر به عدو لهم عما وقع في كلام الملك من العبارة المُعْربة عن مجرد الانتقالِ من الدالّ إلى المدلول حيث لم يقولوا بتعبير الأحلام أو عبارتها إلى التأويل المنبىءِ عن التصرُّف والتكلّف في ذلك لما بين الآثل والمآلِ من البُعد ويؤيده قوله عز وجل أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِه
﴿وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا﴾ أي من صاحبَيْ يوسف وهو الشرابيّ
﴿وادكر﴾ بغير المعجمة وهو الفصيحُ وعن الحسن بالمعجمة أي تذكر يوسف عليه السلام وشئونه التي شاهدها ووصيته بتقريب رؤيا الملك وإشكال تأويلِها على الملأ
﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ أي مدة طويلةٍ وقُرِىءَ إمةٍ بالكسرِ وهي النعمةُ أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة وأمة أي نسيان والجملةُ حالٌ منَ الموصولِ أو من ضميره في الصلة وقيل معطوفةٌ على نجا وليس بذاك لأن حق كلَ من الصفة والصلةِ أن تكون معلومةَ الانتسابِ إلى الموصوف والموصولِ عند المخاطبِ كما عند المتكلم ولذلك قيل إن الصفاتِ قبلَ العلمِ بها أخبارٌ والأخبارُ بعدَ العلم بها صفاتٌ وأنت تدري أن تذكّره بعد أمةٍ إنما عُلم بهذه الجملة فلا مجال لنظمه مع نجاته المعلومةِ قبلُ في سلك الصلة
﴿أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ﴾ أي أخبركم
281
يوسف الآية (٤٦ ٤٧) بالتلقي عمن عنده علمُه لا من تلقاء نفسي ولذلك لم يقل أنا أفتيكم فيها وعقبّه بقوله
﴿فَأَرْسِلُونِ﴾ أي إلى يوسفَ وإنما لم يذكُرْه ثقةً بما سبق من التذكر وما لَحِقَ من قوله
282
﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق﴾ أي أُرسل إليه فأتاه فقال يا يوسف ووصفَه بالمبالغة في الصدق حسبما شاهده وذاق أحوالَه وجرّبها لكونه بصدد اغتنامِ آثارِه واقتباس أنوارِه فهو من باب براعة الاستهلال
﴿أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات﴾ أي في رؤيا ذلك وإنما لم يصرح به لوضوح مرامِه بقرينة ما سبق من معاملتهما ولدَلالة مضمونِ الحادثة عليه حيث لا إمكان لوقوعه في عالم الشهادةِ أي بيِّنْ لنا مآلَها وحكمَها وحيث عاين علوَّ رتبتِه عليه السلام في الفضل عبّر عن ذلك بالإفتاء ولم يقل كما قال هو وصاحبُه أولاً نبّئنا بتأويله وفي قوله أفتنا مع أنه المستفتي وحده إشعار بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسةٌ بأمور العامة وأنه في ذلك مَعْبرٌ وسفيرٌ كما آذن بذلك حيث قال
﴿لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس﴾ أي إلى الملك ومن عنده أو إلى أهل البلد إن كان السجنُ في الخارج كما قيل فأُنبّئهم بذلك
﴿لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ ذلك ويعملون بمقتضاه أو يعلمون فضلَك ومكانك مع ما أنت فيه من الحال فتتخلّصَ منه وإنما لم يبُتَّ القولَ في ذلك مجاراةً معه على نهج الأدب واحترازاً عن المجازفة إذ لم يعلموه على يقين من الرجوع فربما اخترم دونه لعل المنايا دون ما تعدّاني ولا مِنْ علمهم بذلك فربما لم يعلموه
﴿قال﴾ استئناف مبني على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قال يوسفُ عليه السلام في التأويل فقيل قال
﴿تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا﴾ قرىء بفتح الهمزة وسكونِها وكلاهما مصدرُ دأَبَ في العمل إذا جدّ فيه وتعِب وانتصابُه عَلى الحاليةِ من فاعل تزرعون أي دائبين أو تدأبون دأباً على أنَّه مصدرٌ مؤكدٌ لفعل هو الحال أوّلَ عليه السلام البقراتِ السمانَ والسنبلاتِ الخضْرَ بسنين مخاصيب والعجاف واليابسان بسنين مجدبة فأخذهم بأنهم يواظبون سبعَ سنين على الزراع ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخِصْبُ الذي هو مصداقُ البقراتِ السمان وتأويلُها ودلهم في تضاعيف ذلك على أمر نافعٍ لهم فقال
﴿فَمَا حَصَدتُّمْ﴾ أي في كل سنة
﴿فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ﴾ ولا تَذْروه كيلا يأكلَه السوسُ كما هو شأنُ غلالِ مصرَ ونواحيها ولعله عليه السلام استدل على ذلك بالسنبلات الخُضرِ وإنما أمرهم بذلك إذ لم يكن معتاداً فيما بينهم وحيث كانوا معتادين للزراعة لم يأمرهم بها وجعلَها أمراً محققَ الوقوع وتأويلاً للرؤيا مصداقاً لما فيها من البقرات السمان
﴿إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تأكلون﴾ في تلك السنين وفيه إرشادٌ منه عليه السلام لهم إلى التقليل في الأكل والاقتصارِ على استثناء المأكولِ دون البَذْر لكون ذلك معلوماً من قوله تزرعون سبعَ سنين وبعد إتمام ما أمرهم به شَرَع في بيان بقيةِ التأويلِ التي يظهر منها حكمةُ الأمر المذكور فقال
282
يوسف الآية (٤٨ ٤٩)
283
﴿ثُمَّ يَأْتِى﴾ وهو عطفٌ على تزرعون فلا وجه لجعله بمعنى الأمر حثاً لهم على الجد والمبالغة في الزراعة على أنه يحصل بالإخبار بذلك أيضاً
﴿مِن بَعْدِ ذلك﴾ أي من بعد السنين السبعِ المذكوراتِ وإنما لم يقُلْ من بعدهن قصداً إلى الإشارة إلى وصفهن فإن الضمير ساكتٌ عن أوصاف المرجعِ بالكلية
﴿سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ أي سبعُ سنينَ صعابٌ على الناس
﴿يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ﴾ من الحبوب المتروكةِ في سنابلها وفيه تنبيهٌ على أن أمرَه عليه السلام بذلك كان لوقت الضرورة وإسنادُ الأكل إليهن مع أنه حالُ الناس فيهن مجازيٌّ كما في نهارُه صائمٌ وفيه تلويحٌ بأنه تأويلٌ لأكل العجافِ السمانَ واللام في لهن ترشيحٌ لذلك فكأن ما ادُّخر في السنابل من الحبوب شيءٌ قد هُيِّيء وقُدِّم لهن كالذي يقدَّم للنازل وإلا فهو في الحقيقة مقدَّمٌ للناس فيهن
﴿إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تحصنون﴾ تحرزون مبذور الزراعة
﴿ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك﴾ أي من بعد السنين الموصوفةِ بما ذكرَ من الشدة وأكلِ الغلال المدخر
﴿عَامٌ﴾ لم يعبّر عنه بالسنة تحاشياً عن المدلول الأصليِّ لها من عام القحط وتنبيهاً منْ أولِ الأمرِ عَلى اختلاف الحالِ بينه وبين السوابق
﴿فِيهِ يُغَاثُ الناس﴾ من الغيث أي يُمطَرون يقال غِيثت البلادُ إذا مُطرت في وقت الحاجة أو من الغوث يقال أغاثنا الله تعالى أي أمدنا برفع المكاره حين أظلّتنا
﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ أي ما مِنْ شأنِه أن يُعصر من العنب والقصَب والزيتون والسمسم ونحوِها من الفواكة لكثرتها والتعرضُ لذكر العصر مع جواز الاكتفاءِ عنه بذكر الغيث المستلزمِ له عادة كما اكتُفي به عن ذكر تصرِفهم في الحبوب إما لأن استلزامَ الغيثِ له ليس كاستلزامه للحبوب إذ المذكرات يتوقف صلاحُها على مبادٍ أخرى غيرِ المطر وإما لمراعاة جانبِ المستفتي باعتبار حالتِه الخاصة به بشارةً له وهي التي يدور عليها حسنُ موقع تغليبِه على الناس في القراءة بالفوقانية وقيل معنى يعصرون يحلبون الضروعَ وتكريرُ فيه إما للإشعار باختلاف أوقاتِ ما يقع فيه من الغيث والعصر زماناً وهو ظاهرٌ وعنواناً فإن الغيثَ والغوثَ من فضل الله تعالى والعصرُ من فعل الناس وإما لأن المقام مقامُ تعداد منافعِ ذلك العام ولأجله قُدّم في الموضعين على الفعلين فإن المقصودَ الأصليَّ بيان أنه يقع في ذلك العام هذا النفعُ وذاك النفعُ لا بيانُ أنهما يقعان في ذلك العام كما يفيده التأخير ويجوز أن يكون التقديمُ للقصر على معنى أن غيثهم وعصرَهم في سائر السنين بمنزلة العدمِ بالنسبة إلى عامهم ذلك وأن يكون ذلك في الأخير لمراعات الفواصلِ وفي الأول لرعاية حالِه وقرىء يُعصَرون على البناءِ للمفعولِ من عصره إذا أنجاه وهو المناسبُ للإغاثة ويجوز أن يكون المبنيُّ للفاعل أيضاً منه كأنه قيل فيه يغاث الناسُ وفيه يُغيثون أي يغيثهم الله ويغيثُ بعضُهم بعضاً وقيل معنى يُعصَرون يمطَرون من أعصرت السحابةُ إما بتضمين أعصرت معنى مطرَت وتعديتِه وإما بحذفِ الجارِّ وإيصالِ الفعلِ على أن الأصلَ أعصرت عليهم وأحكامُ هذا العام المبارك ليست مستنبَطةً من رؤيا الملكِ وإنما تلقاها عليه السلام من جهة الوحي فبشَّرهم بها بعد ما أول
283
يوسف الآية (٥٠ ٥١) الرؤيا بما أول وأمرَهم بالتدبير اللائقِ في شأنه إبانةً لعلو كعبِه ورسوخِ قدمِه في الفضل وأنه محيطٌ بما لَمْ يخطُر ببالِ أحدٍ فضلاً عما يُرى صورتُه في المنام على نحو قوله لصاحبيه عند استفتائهما في نامهما لا يأتيكما طعام ترزقانه إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ وإتماماً للنعمة عليهم حيث لم يشاركه عليه السلام في العلم بوقوعها أحدٌ ولو برؤية ما يدل عليها في المنام
284
﴿وقال الملك﴾ بعدما جاءه السفيرُ بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقِطمير
﴿ائتونى بِهِ﴾ لِما علم من علمه وفضله
﴿فَلَمَّا جَاءهُ﴾ أي يوسفَ
﴿الرسول﴾ واستدعاه إلى الملك
﴿قَالَ ارجع إلى رَبّكَ﴾ أي سيدك
﴿فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ أي ففتشه عن شأنهم وإنما لم يقل فاسأله أن يفتش عن ذلك حثاً للملك على الجد في التفتيش ليتبين برءاته ويتضح نزاهتُه إذ السؤالُ مما يهيج الإنسانَ على الاهتمام في البحث للتفصّي عما توجه إليه وأما الطلب فمما قد يتسامح ويُتساهل فيه ولا يبالى به وإنما لم يتعرض لامرأة العزيزِ مع ما لقي منها ما لقِيَ من مقاساة الأحزان ومعاناة الأشجان والأحزان محافظةً على مواجب الحقوق واحترازاً عن مكرها حيث اعتقدها مقيمةً في عُدوة العداوة وأما النسوةُ فقد كان يطمع في صَدْعهن بالحق وشهادتِهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرّح بمراودتهن له وقولِهن أطع مولاتك واكتفي بالإيماء إلى ذلك بقوله
﴿إِنَّ رَبّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ مجاملةً معهن واحترازاً عن سوء قالتِهن عند الملكِ وانتصابِهن للخصومة مدافعةً عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد
﴿قال﴾ استئناف مبني على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا كان بعد ذلك فقيل قال الملكُ إثَر ما بلّغه الرسولُ الخبر وأحضرهن
﴿مَا خَطْبُكُنَّ﴾ أي شأنكن وهو الأمرُ الذي يحِق لعُظْمه أن يخاطِبَ المرءُ فيه صاحبه
﴿إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ﴾ وخادعتُنّه
﴿عَن نَّفْسِهِ﴾ ورغبتُنّه في إطاعة مولاته هل وجدتُن فيه شيئاً من سوء وريبة
﴿قُلْنَ حَاشَ للَّهِ﴾ تنزيهاً له وتعجباً من نزاهته وعفته
﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء﴾ بالغْن في نفي جنس السوءِ عنه بالتنكير وزيادة من
﴿قالت امرأة العزيز﴾ وكانت حاضرةً في المجلس وقيل أقبلت النسوةُ عليها يقرِّرنها وقيل خافت أن يشهَدْن عليها بما قالت لهن وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم وَلَئِن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين فأقرت قائلة
﴿الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ﴾ أي ثبت واستقرَّ أو تبيّن وظهر بعد خفاء قاله الخليل وقيل هو مأخوذ من الحِصة وهي القطعة من الجملة أي تبين حصةُ الحقِّ من حصة الباطل كما تتبين حِصصُ الأراضي وغيرها وقيل بان وظهر من حصّ شعرَه إذا استأصله بحيث ظهرت بشرةُ رأسه وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ من حَصحَص البعيرُ مباركَه أي ألقاها في
284
يوسف الآية (٥٢ ٥٣) الأرض للإناخة قال... فحصحَص في صُمّ الصفا ثفَناتِه... وناء بسلمى نوأةً ثم صمّما...
والمعنى أُقرَّ الحقُّ في مقرّه ووُضع في موضعه ولم ترِدْ بذلك مجردَ ظهور ما ظهر بشهادتهن من مطلق نزاهتِه عليه السلام فيما أحاط به علمُهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطنِ خصوصاً فيما وقع فيه التشاجرُ بمحضر العزيز ولا بحثٍ عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهورَ ما هو متحققٌ في نفس الأمر وثبوتِه من نزاهته عليه السلام في محل النزاعِ وخيانتِها فقالت
﴿أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ﴾ لا أنه راودني عن نفسي
﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين﴾ أي في قوله حين افتريت عليه هي راودتني عن نفسي وأرادت بالآن زمانَ تكلّمها بهذا الكلام لا زمانَ شهادتِهن فتأمل أيها المنصفُ هل ترى فوق هذه المرتبةِ نزاهةً حيث لم تتمالك الخُصماء من الشهادة بها والفضلُ ما شهدت بهِ الخصماءُ وإنما تصدى عليه السلام لتمهيد هذه المقدمة قبل الخروج ليُظهر براءةَ ساحتِه مما قُذف به لا سيما عند العزيزِ قبل أن يحُلّ ما عقَده كما يعرب عنه قوله عليه السلام لما رجع إليه الرسولُ وأخبره بكلامهن
285
﴿ذلك﴾ أي ذلك التثبيتُ المؤدي إلى ظهور حقيقة الحال
﴿لِيَعْلَمَ﴾ أي العزيز
﴿أَنّى لَمْ أَخُنْهُ﴾ في حرمته كما زعمه لا علماً مطلقاً فإن ذلك لا يستدعي تقديمَ التفتيشِ على الخروج من السجن بل قبلَ ما ذُكر من نقض ما أبرمه ولعله لمراعاة حقوقِ السيادةِ لأن المباشرَة للخروج من حبسه قبل ظهورِ بُطلانِ ما جعله سبباً له وإن كان ذلك بأمر الملك مما يوهم الافتياتَ على رأيه وأما أن يكون ذلك لئلا يُتمكن من تقبيح أمره عند الملك تمحلاً لإمضاء ما قضاه فلا يليقُ بشأنه عليه السَّلامُ في الوثوق بأمره والتوكل على ربه جل جلاله
﴿بالغيب﴾ أي بظهر الغيبِ وهو حالٌ من الفاعلِ أو المفعول أي لم أخُنه وأنا غائبٌ عنه أو وهو غائبٌ عنْهُ أو وهو غائبٌ عني أو ظرف أي بمكان الغيب وراء الأستاء والأبوابِ المغلقة وأيَاً ما كانَ فالمقصودُ بيانُ كمالِ نزاهتِه عن الخيانة وغايةِ اجتنابه عنها عند تعاضد أسبابِها
﴿وَأَنَّ الله﴾ أي وليعلم أنه تعالى
﴿لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين﴾ أي لا يُنفِذه ولا يسدّده بل يُبطله ويُزهِقه أو لا يهديهم في كيدهم إيقاعاً للفعل على الكيد مبالغة كما في قوله تعالى يضاهئون قَوْلَ الذين كَفَرُواْ أي يضاهئونهم في قولهم وفيه تعريضٌ بامرأته في خيانتها أمانتَه وبه في خيانته أمانةَ الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعد ما رأوا آياتِ نزاهتِه عليهِ السَّلامُ ويجوزُ أنْ يكون ذلك لتأكيد أمانته وأنه لو كان خائناً لما هدى الله عز وجل أمره وأحسن عاقبتَه
﴿وما أبرئ نَفْسِى﴾ أي لا أنزّهها عن السوء قاله عليه السلام هضماً لنفسه الكريمة البريئةِ عن كل سوء وربأً بمكانها عن التزكية والإعجاب بحالها عند ظهورِ كمالِ نزاهتِها على أسلوب قوله عليه السلام أنَا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر أو تحديثاً بنعمة الله عز وجل عليه وإبرازاً لسره المكنونِ في شأن أفعال العبادِ أي لا أنزهها عن السوء من حيث هي هي ولا أُسند هذه الفضيلةَ إليها بمقتضى طبعِها من غير توفيقٍ من الله عز وعلا
﴿أَنَّ النفس﴾ البشريةَ التي من جملتها نفسي في حد ذاتِها
﴿لامَّارَةٌ بالسوء﴾ مائلةٌ إلى الشهوات
285
مستعمِلةٌ للقوى والآلاتِ في تحصيلها بل إنما ذلك بتوفيق الله تعالَى وعصمته ورحمتِه كما يفيده قوله
﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى﴾ من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المهالك ومن جملتها نفسي أو هي أمارةٌ بالسوء في كل وقت إلا وقتَ رحمةِ ربي وعصمتِه لها وقيل الاستثناءُ منقطعٌ أي لكن رحمة ربي هي التي تصرِف عنها السوء كما في قوله تعالى وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً
﴿إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ عظيمُ المغفرة لما يعتري النفوسَ بموجب طباعِها ومبالِغٌ في الرحمة لها بعصمتها من الجريان بمقتضى ذلك وإيثارُ الإظهار في مقام الإضمارِ مع التعرض لعنوان الربوبيةِ لتربية مبادى المغفرةِ والرحمة وقيل إلى هنا من كلام امرأةِ العزيز والمعنى ذلك الذي قلتُ ليعلم يوسفُ عليه السلام أني لم أخُنه ولم أكذِب عليه في حال الغَيبة وجئت بما هو الحقُّ الواقعُ وما أبرىء نفسي مع ذلك من الخيانة حيث قلت في حقه ما قلت وفعلتُ به ما فعلت إن كل نفس لأمارةٌ بالسوء إلا من رحم ربي أي إلا نفساً رحِمها الله بالعصمة كنفس يوسفَ إن ربي غفورٌ لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيمٌ له فعلى هذا يكون تأنّيه عليه السلام في الخروج من السجن لعدم رضاه عليه السلام بملاقاة الملكِ وأمرُه بَيْنَ بينَ ففعل ما فعل حتى يتبين نزاهتُه وأنه إنما سجن بظلم عظيم مع ما له من الفضل ونباهةِ الشأن ليتلقاه الملك بما يليقُ بهِ من الإعظام والإجلال وقد وقع
286
﴿وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ﴾ أجعله خالصاً
﴿لِنَفْسِى﴾ وخاصاً بي
﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ﴾ أي فأتَوا به فحُذف للإيذان بسرعة الإتيانِ به فكأنه لم يكن بين الأمرِ بإحضاره والخطابِ معه زمانٌ أصلاً والضميرُ المستكنُّ في كلّمه ليوسف والبارزُ للملك أي فلما كلّمه يوسفُ إثرَ ما أتاه فاستنطقه وشاهد منه ما شاهد
﴿قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ﴾ ذو مكانةٍ ومنزلةٍ رفيعة
﴿أَمِينٌ﴾ مؤتمنٌ على كل شيء واليومَ ليس بمعيار لمدة المكانةِ والأمانةِ بل هو آنُ التكلم والمرادُ تحديد مبدئهما احترازاً عن احتمال كونِهما بعد حين روي أنه عليه السلام لما جاءه الرسولُ خرج من السجن ودعا لأهله واغتسل ولبِس ثياباً جُدُداً فلما دخل على الملك قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتِك من شرّه وشرِّ غيره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال ما هذا اللسانُ قال لسانُ آبائي وكان الملك يعرف سبعين لساناً فكلّمه بها فأجابه بجميعها فتعجّب منه فقال أحب أن أسمعَ منك رؤياي فحكاها ونعت له البقراتِ والسنابلَ وأماكنَها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوّض إليه أمرَه وقيل توفي قطفيرُ في تلك الليالي فنصّبه منصِبه وزوجه راعيل فوجدها عذراءَ وولدت له إفراييم وميشا ولعل ذلك إنما كان بعد تعيينِه عليه السلام لِما عُيّن له من أمر الخزائين كما يعرب عنه قوله عز وجل
﴿قَالَ اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض﴾ أي أرضِ مصرَ أي ولِّني أمرَها من الإيراد والصرف
﴿إِنّى حَفِيظٌ﴾ لها ممن لا يستحقها
﴿عَلِيمٌ﴾ بوجوه التصرّفِ فيها وفيه دليلٌ على جواز طلبِ الولايةِ إذا كان الطالبُ ممن يقدر على إقامة العدلِ وإجراءِ أحكامِ الشريعة وإن كان من يد الجائرِ أو الكافر وعن مجاهد أنه أسلم الملك على يده
286
يوسف الآية (٥٦ ٥٧ ٥٨) عليه السلام ولعل إيثارَه عليه السلام لتلك الولايةِ خاصة إنما كان للقيام بما هو أهمُّ أمورِ السلطنة إذ ذاك من تدبير أمرِ السنين حسبما فُصل في التأويل لكونه من فروع تلك الولاية لمجرد عموم الفائدة وجموم العائدة كما قيل وإنما لم يُذكر إجابةُ الملكِ إلى ما سأله عليه السلام من جعله على خزائن الأرضِ إيذاناً بأن ذلك أمرٌ لا مردَّ له غنيٌّ عن التصريح به لا سيما بعد تقديمِ ما يندرج تحته من أحكام السلطنةِ بحذافيرها من قوله إنك اليوم لدينا مكين أمين وللتنبيه على أن كلَّ ذلك من الله عز ووجل وإنما الملكُ آلة في ذلك قيل
287
﴿وكذلك﴾ أي مثلَ ذلك التمكينِ البليغ
﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ﴾ أي جعلنا له مكاناً
﴿فِى الأرض﴾ أي أرضِ مصرَ روي أنها كانت أربعين فرسخاً في أربعين وفي التعبير عن الجعل المذكورِ بالتمكين في الأرض مسنداً إلى ضميره عزّ سلطانُه من تشريفه عليه السَّلامُ والمبالغةِ في كمال ولايتِه والإشارةِ إلى حصول ذلك من أوَّلِ الأمرِ لا أنه حصل بعد السؤال ما لا يخفى
﴿يَتَبَوَّأُ مِنْهَا﴾ ينزل من بلادها
﴿حَيْثُ يَشَاء﴾ ويتخذه مباءةً وهو عبارةٌ عن كمال قدرته على التصرف فيها ودخولها تحت ملكتِه وسلطانه فكأنها منزلُه يتصرف فيها كما يتصرف الرجل في منزله وقرأ ابن كثير بالنون روي أن الملك توّجهُ وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريراً من ذهب مكللاً بالدر والياقوت فقالَ عليهِ السلامُ أمَّا السريرُ فأشدُّ به مُلكك وأما الخاتمُ فأدبّر به أمرك وأما التاجُ فليس من لباسي ولا لباس آبائي فقال قد وضعتُه إجلالاً لك وإقراراً بفضلك فجلس على السرير ودانت له الملوكُ وفوّض إليه الملكُ أمرَه وأقام العدلَ بمصر وأحبتْه الرجالُ والنساء وباع من أهل مصر في سِني القحطِ الطعامَ في السنة الأولى بالدنانير والدراهم وفي الثانية بالحِليِّ والجواهر وفي الثالثة بالدوابّ ثم بالضِّياع والعَقار ثم برقابهم حتى استرقّهم جميعاً فقالوا ما رأينا كاليوم ملكاً أجلَّ وأعظمَ منه ثم أعتقهم وردّ إليهم أموالَهم وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثرَ من حمل بعير تقسيطاً بين الناس
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا﴾ بعطائنا في الدنيا من المُلك والغِنى وغيرهما من النعم
﴿مَّن نَّشَاء﴾ بمقتضى الحكمةِ الداعية إلى المشيئة
﴿وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ بل نوفّيه بكماله وفيه إشعارٌ بأن مدارَ المشيئةِ المذكورةِ إحسانُ مَنْ تصيبه الرحمة المرقومة وأنها أجرٌ له ولدفع توهم انحصارِ ثمرات الإحسانِ فيما ذكر من الأجر العاجل قيل على سبيل التوكيد
﴿وَلأَجْرُ الاخرة﴾ أي أجرهم في الآخرة فالإضافة للملابسة وهو النعيمُ المقيم الذي لا نفاد له
﴿خَيْرٌ﴾ لهم أي للمحسنين المذكورين وإنما وضع موضعَه الموصولُ فقيل
﴿للذين آمنوا وَكَانُواْ يَتَّقُونَ﴾ تنبيهاً على أن المراد بالإحسان إنما هو الإيمانُ والثباتُ على التقوى المستفادُ من جمع صيغتي الماضي والمستقبل
﴿وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ﴾
287
ممتارين لما أصاب أرضَ كنعانَ وبلادَ الشام ما أصاب أرضَ مصر وقد كان أرسلهم يعقوبُ عليه السلام جميعاً غيرَ بنيامين
﴿فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ﴾ أي على يوسف وهو في مجلس ولايته
﴿فَعَرَفَهُمْ﴾ لقوة فهمِه وعدم مباينةِ أحوالِهم السابقة لحالهم يومئذ لمفارقته إياهم وهم رجال وتشابه هيآتهم وزِيِّهم في الحالين ولكون هِمَّته معقودةً بهم وبمعرفة أحوالهم لا سيما في زمن القحط وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرّفوا له
﴿وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ أي والحالُ أنهم منكرون له لطول العهدِ وتبايُنِ ما بين حاليه عليه السلام في نفسه ومنزلته وزِيِّه ولاعتقادهم أنه هلك وحيث كان إنكارُهم له أمراً مستمراً في حالتي المحضَر والمَغيب أُخبر عنه بالجملة الاسميةِ بخلاف عرفانِه عليه السلام إياهم
288
﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ﴾ أي أصلحهم بعدّتهم من الزاد وما يحتاج إليه المسافر وأوْقَر ركائبَهم بما جاءوا له من المِيرة وقرىء بكسر الجيم
﴿قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ﴾ لم يقل بأخيكم مبالغةً في إظهار عدم معرفتِه لهم ولعلَّه عليه السَّلام إنَّما قاله لِما قيلَ من أنَّهم سألوه عليه السلام حملا زائداً على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرطهم أن يأتوا به لا لما قيلَ من أنه لما رأَوْه وكلموه بالعبرية قال لهم من أنتم فإني أنكركم فقالوا له نحن قومٌ من أهل الشام رعاةٌ أصابنا الجَهدُ فجئنا نمتار فقال لهم لعلكم جئتم عُيوناً فقالوا معاذ الله نحن أخوة من أبي واحد وهو شيخٌ كبيرٌ صدّيق نبيٌّ من الأنبياء اسمُه يعقوبُ قال كم أنتم قالوا كنا اثني عشر فهلك منا واحدٌ فقال كم أنتم قالوا عشرة قال فأين الحادي عشر قالوا هو عند أبيه يتسلّى به عن الهالك قال فمن يشهدُ لكم أنكم لستم عيوناً وأن ما تقولون حقٌ قالوا نحن ببلاد لا يعرِفنا فيها أحد فيشهدَ لنا قال فدعُوا بعضَكم عندي رهينةً وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالةً من أبيكم حتى أصدِّقَكم فاقترعوا فأصاب القرعةُ شمعونَ فخلّفوه عنده إذ لا يساعده ورودُ الأمر بالإتيان به عند التجهيزِ ولا الحثُّ عليه بإيفاء الكيل ولا الإحسانُ في الإنزال ولا الاقتصارُ على منع الكيل على تقدير عمد الإتيان به ولا جعلُ بضاعتهم في رحالهم لأجل رجوعِهم ولا عِدَتُهم بالإتيان به بطريق المراودة ولا تعليلُهم عند أبيهم إرسالَ أخيهم بمنع الكيل من غير ذكر الرسالةِ على أن استبقاء شمعونَ لو وقع لكان ذلك طامةً ينسى عندها كل قيل وقال
﴿أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل﴾ أُتمُّه لكم وإيثارُ صيغة الاستقبالِ مع كون هذا الكلامِ بعد التجهيز للدِلالة عَلى أنَّ ذلكَ عادةٌ له مستمرَّة
﴿وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين﴾ جملة حالية أي ألا ترون أني أوفي الكيلَ لكم إيفاءً مستمراً والحالُ أني في غاية الإحسانِ في إنزالكم وضيافتِكم وقد كان الأمرَ كذلك وتخصيصُ الرؤية بالإيفاء لوقوع الخطابِ في أثنائه وأما الإحسانُ في الإنزال فقد كان مستمراً فيما سبق ولحِق ولذلك أُخبر عنه بالجملة الاسميةِ ولم يقله عليه السلام بطريق الامتنانِ بل لحثّهم على تحقيق ما أمرهم به والاقتصارُ في الكيل على ذكر الإيفاءِ لأن معاملته عليه السلام معهم في ذلك كمعاملته مع غيرهم في مراعات مواجبِ العدل وأما الضيافةُ فليس للناس فيها حقٌّ فخصهم في ذلك بما شاء
288
يوسف الآية (٦٠ ٦١ ٦٢ ٦٣)
289
﴿فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى﴾ من بعدُ فضلاً عن إيفائه
﴿وَلاَ تَقْرَبُونِ﴾ بدخول بلادي فضلاً عن الإحسان في الإنزال والضيافةِ وهو إما نهيٌ أو نفيٌ معطوفٌ على محل الجزاءِ وفيه دليلٌ على أنهم كانوا على نية الإمتيار مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلوماً له عليه السلام
﴿قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ﴾ أي سنخادعه عنه ونحتال في انتزاعه من يده ونجتهد في ذلك وفيه تنبيهٌ على عزة المطلبِ وصعوبةِ مناله
﴿وَإِنَّا لفاعلون﴾ ذلك غيرَ مفرِّطين فيه ولا متوانين أو لقادرون عليه لا نتعانى به
﴿وَقَالَ﴾ يوسف
﴿لِفِتْيَانِهِ﴾ غلمانه الكيالين جمع فتى وقرىء لفِتيته وهي جمعُ قلةٍ له
﴿اجعلوا بضاعتهم فِى رِحَالِهِمْ﴾ فإنه وكّل بكل رحل رجلا يعبى فيه بضاعتَهم التي شرَوا بها الطعامَ وكانت نعالاً وأدَماً وإنما فعله عليه السلام تفضّلاً عليهم وخوفاً من أن لا يكون عند أبيه ما يرجِعون به مرة أخرى وكل ذلك لتحقيق ما يتوخاه من رجوعهم بأخيه كما يُؤذن به قوله
﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا﴾ أي يعرِفون حقَّ ردِّها والتكرم في ذلك أو لكي يعرِفوها وهو ظاهرُ التعلق بقوله
﴿إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ﴾ فإن معرفتَهم لها مقيّدةٌ بالرجوع وتفريغِ الأوعية قطعاً وأما معرفةُ حقِّ التكرم في ردها فهي وإن كانت في ذاتها غيرَ مقيدةٍ بذلك لكن لما كان ابتداؤها حينئذ قُيّدت به
﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ حسبما أمرتهم به فإن التفضلَ عليهم بإعطاء البدلين ولا سيما عند إعوازِ البِضاعةِ من أَقْوى الدَّواعي إلى الرجوع وما قيل إنما فعله عليه السلام لما لم يرَ من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً فكلامٌ حقٌّ في نفسه ولكن يأباه التعليلُ المذكور وأما أن عِلّية الجعل المذكورِ للرجوع من حيث أن ديانتَهم تحمِلُهم على رد البضاعةِ لأنهم لا يستحلون إمساكهم فمدارُه حُسبانُهم أنها بقِيت في رحالهم نسياناً وظاهرٌ أن ذلك مما لا يخطُر ببال أحد أصلاً فإن هيئة التعبيةِ تنادي بأن ذلك بطريق التفضّل ألا يرى أنهم كيف جزموا بذلك حين رأوها وجعلوا ذلك دليلاً على التفضلات السابقة كما ستيحط به خبراً
﴿فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ﴾ قبل أن يشتغلوا بفتح المتاع
﴿يا أبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل﴾ أي فيما بعد وفيه ما لا يَخفْى من الدِّلالةِ على أنَّ كون الامتيار مرةً بعد مرة معهوداً فيما بينهم وبينه عليه السلام
﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا﴾ بنيامين إلى مصر وفيه إيذانٌ بأن مدارَ المنع عدمُ كونِه معهم
﴿نَكْتَلْ﴾ بسببه من الطعام ما نشاء وقرأ حمزة
289
يوسف الآية (٦٤ ٦٥) والكسائي بالياءِ على إسناده إلى الأخ لكونه سبباً للاكتيال أو يكتلْ لنفسه مع اكتيالنا
﴿وَإِنَّا لَهُ لحافظون﴾ من أن يصيبَه مكروهٌ
290
﴿قَالَ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ﴾ يوسف
﴿مِن قَبْلُ﴾ وقد قلتم في حقه أيضاً ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوّض الأمر إلى الله
﴿فالله خَيْرٌ حافظا﴾ وقرىء حِفظاً وانتصابُهما على التمييز والحالية على القراءة الأولى توهم تقيّد الخيريةِ بتلك الحالة
﴿وَهُوَ أرحم الراحمين﴾ فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمعَ عليّ مصيبتين وهذا كما ترى ميلٌ منه عليه السلام إلى الإيذان والإرسالِ لما رأى فيه من المصلحة
﴿وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ﴾ أي تفضّلاً وقد علموا ذلك بما مر من دَلالة الحال وقرىء بنقل حركةِ الدالِ المدغمة إلى الراء كما قيل في قيل وكيل
﴿وقالوا﴾ استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنه قيل ماذا قالوا حينئذ فقيل قالوا لأبيهم ولعله كان حاضراً عند الفتح
﴿يا أبانا مَا نَبْغِى﴾ إذا فُسّر البغيُ بالطلب فما إما استفهاميةٌ منصوبةٌ به فالمعنى ماذا نبتغي وراء ما وصفنا لك من إحسان الملِك إلينا وكرمِه الداعي إلى امتثال أمرِه والمراجعةِ إليه في الحوايج وقد كانوا أخبروه بذلك وقالوا له إنا قدِمنا على خير رجلٍ أنزلنا وأكرَمنا كرامةً لو كان رجلاً من آل يعقوبَ ما أكرمْنا كرامتَه وقوله تعالى
﴿هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا﴾ جملةٌ مستأنفةٌ موضِّحةٌ لما دل عليه الإنكارُ من بلوغ اللطفِ غايتَه كأنهم قالوا كيف لا وهذه بضاعتُنا ردّها إلينا تفضلاً من حيث لا ندري بعدما من علينا من المنن العظامِ هل من مزيد على هذا فنطلبَه ولم يريدوا به الاكتفاءَ بذلك مطلقاً أو التقاعد عن طل بنظائره بل أرادوا الاكتفاءَ به في استيجاب الامتثالِ لأمره والالتجاءِ إليه في استجلاب المزيدِ كما أشرنا إليه وقوله تعالى رُدَّتْ إِلَيْنَا حالٌ من بضاعتُنا والعامل معنى الإشارةِ وإيثارُ صيغةِ البناءِ للمفعول للإيذان بكمال الإحسانِ الناشىءِ عن كمال الإخفاءِ المفهومِ من كمال غفلتهم عنه بحيث لم يشعُروا به ولا بفاعله وقوله عز وجل
﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾ أي نجلُب إليهم الطعامَ من عند الملكِ معطوفٍ على مقدَّر ينسحِبُ عليه ردُّ البضاعة أي فنستظهر بها ونمير أهلنا
﴿وَنَحْفَظُ أَخَانَا﴾ من المكاره حسبما وعدْنا فما يصيبه من مكروه
﴿وَنَزْدَادُ﴾ أي بواسطته ولذلك وُسّط الإخبارُ بحفظه بين الأصلِ والمزيد
﴿كَيْلَ بَعِيرٍ﴾ أي وُسْقَ بعيرٍ زائداً على أوساق أباعِرِنا على قضية التقسيط
﴿ذلك﴾ أي ما يحمِله أباعرُنا
﴿كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ أي مكيلٌ قليلٌ لا يقوم بأَوْدنا فهو استئنافٌ وقع تعليلاً لما سبق كأنه قيل أيُّ حاجة إلى الازدياد فقيل ما قيل أو ذلك الكيلُ الزائد شيءٌ قليلٌ لا يضايقنا فيه الملِكُ أو سهلٌ عليه لا يتعاظمه أو أيُّ مطلب نطلُب من مهماتنا والجملةُ الواقعة بعده توضيح
290
يوسف آية (٦٦) وبيانٌ لما يُشعِرُ به الإنكارُ من كونهم فائزين ببعض المطالبِ أو متمكنين من تحصيله فكأنهم قالوا بضاعتُنا حاضرةٌ فنستظهر بها ونمير أهلنا ونحفظ أخانا فما يصيبه شيءٌ من المكاره ونزداد بسببه غيرَ ما نكتاله لأنفسنا كيلَ بعير فأيَّ شيء نبتغي وراءَ هذه المباغي وقرىء ما تبغي على خطاب يعقوبَ عليه السلام أي أيَّ شيء تبغي وراء هذه المباغي المشتملةِ على سلامة أخينا وسَعة ذاتِ أيدينا أو وراءَ ما فعل بنا الملكُ من الإحسان داعياً إلى التوجّه إليه والجملةُ الاستئنافيةُ موضحةٌ لذلك أو أيَّ شيء تبغي شاهداً على صدقنا فيما وصفنا لك من إحسانه والجملةُ المذكورةُ عبارةٌ عن الشاهد المدلولِ عليه بفحوى الإنكارِ وإما نافية فالمعنى ما نبغي شيئاً غيرَ ما رأينا من إحسان الملِك في وجوب المراجعةِ إليه أو ما نبغي غيرَ هذه المباغي وقيل ما نطلب منك بضاعةً أخرى والجملة المستأنفةُ تعليلٌ له وأما إذا فُسِّر البغيُ بمجاوزة الحدِّ فما نافيةٌ فقط والمعنى ما نبغي في القول وما نتزيّد فيما وصفْنا لك من إحسان الملِك إلينا وكرمِه الموجبِ لما ذكر والجملةُ المستأنفةُ لبيان ما ادّعَوْا من عدم البغي وقوله ونمير أهلَنا عطفٌ على ما نبغي أي ما نبغي فيما ذكرنا من إحسانه وتحصيلِ أمثالِه من مَيْر أهلِنا وحفظِ أخينا فإن ذلك أهونُ شيء بواسطة إحسانِه وقد جوز أن يكون كلاماً مبتدأً أي جملةً اعتراضيةً تذييليةً على معنى وينبغي أن نميرَ أهلَنا وشبّه ذلك بقولك سعَيْتُ في حاجة فلان ويجب أن أسعى وأنت خبيرٌ بأن شأن الجملِ التذييلية أن تكون مؤكّدةً لمضمون الصدر ومقرِّرةً له كما في المثال المذكورِ وقولِك فلانٌ ينطِق بالحق فالحقُّ أبلجُ وأن قوله ونمير الخ وإن ساعدَنا في حمله على معنى ينبغي أن نمير أهلَنا بمعزلٍ من ذلك أو ما نبغي في الرأي وما نعدل عن الصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا والجملُ إلى آخرها تفصيلٌ وبيانٌ لعدم بغيهم وإصابةِ رأيهم أي بضاعتُنا حاضرةٌ نستظهر بها ونمير أهلها ونصنع كيت وذيت فتأمل
291
﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ﴾ بعدما عاينْتُ منكم ما عاينت
﴿حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله﴾ أي ما أتوثق به من جهةِ الله عزَّ وجل وإنما جعله مَوثِقاً منه تعالى لأن تأكيدَ العهود به مأذونٌ فيه من جهته تعالى فهو إذن منه عز وجل
﴿لَتَأْتُنَّنِى بِهِ﴾ جوابُ القسم إذ المعنى حتى تحلِفوا بالله لتأتنني به
﴿إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ﴾ أي إلا أن تُغلبوا فلا تطيقوا به أو إلا أن تهلِكوا وأصلُه من إحاطة العدوِّ فإن مَنْ أحاط به العدوُّ فقد هلك غالبا وهو استثناءٌ من أعمِّ الأحوالِ أو أعمِّ العلل على تأويل الكلامِ بالنفي الذي ينساق إليه أي لتأتُنني به ولا تمتنِعُنَّ منه في حالٍ من الأحوالِ أو لعلة من العِللِ إلا حالَ الإحاطة بكم أو لعلة الإحاطة بكم ونظيرُه قولُهم أقسمت عليك لَما فعلْتَ وإلا فعلتَ أي ما أريد منك إلا فعلَك وقد جُوز الأولُ بلا تأويل أيضاً أي لتأتُنني به على كل حالٍ إلا حال الإحاطة بكم وأنت تدري أنه حيث لم يكن الإتيانُ به من الأفعال الممتدة الشاملةِ للأحوال على سبيل المعيةِ كما في قولك لألزَمنّك إلا أن تُعطِيني حقي ولم يكن مراده عليه السلام مقارنته على سبيل البدلِ لما عدا الحالِ المستثناة كما إذا قلت صَلِّ إلا أن تكون
291
يوسف آية (٦٧) محدِثاً بل مجرد تحققِه ووقوعِه من غير إخلال به كما في قولك لأحُجنَّ العامَ إلا أن أُحصر فإن مرادَك إنما هو الإخبار بعدم منعِ ما سوى حالِ الإحصار عن الحج إلا الإخبارُ بمقارنته لتلك الأحوالِ على سبيل البدلِ كما هو مرادُك في مثال الصلاة كأن اعتبارَ الأحوالِ معه من حيث عدمُ منعها منه فآل المعنى إلى التأويل المذكور
﴿فَلَمَّا آتوه مَوْثِقَهُمْ﴾ عهدهم من الله حسبما أراد يعقوبُ عليه السلام
﴿قَالَ الله على مَا نَقُولُ﴾ أي على ما قلنا في أثناء طلب الموْثِق وإيتائه من الجانبين وإيثارُ صيغةِ الاستقبالِ لاستحضار صورته المؤدي إلى تثبتهم ومحافظتِهم على تذكّره ومراقبتِه
﴿وَكِيلٌ﴾ مطلعٌ رقيبٌ يريد به عرضَ ثقتِه بالله تعالى وحثَّهم على مراعاة ميثاقهم
292
﴿وَقَالَ﴾ ناصحاً لهم لمّا أزمع على إرسالهم جميعاً
﴿يا بني لاَ تَدْخُلُواْ﴾ مصر
﴿مِن بَابٍ وَاحِدٍ﴾ نهاهم عن ذلك حِذاراً من إصابة العين فإنهم كانوا ذوي جمالٍ وشارةٍ حسنة وقد كانوا تجمّلوا في هذه الكرّة أكثرَ مما في المرة الأولى وقد اشتهروا في مصر بالكرامة والزلفى لدى الملِك بخلاف النَّوْبة الأولى فكانوا مَئِنّةً لدنوّ كل ناظر وطُموح كل طامح وإصابة العين بتقدير العزيز الحكيم ليست مما يُنكر وقد ورد عنه ﷺ إن العينَ حق وعنه ﷺ إنَّ العينَ لتُدخِلُ الرجلَ القبرَ والجملَ القِدْرَ وقد كان ﷺ يعوذ الحسنين رضي الله عنهما بقوله أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطانٍ وهامّة ومن كل عين لامّة وكان ﷺ يقول كان أبوكما يعوّذ بها إسماعيلَ وإسحاقَ عليهم السلام رواه البخاري في صحيحه وقد شهدت بذلك التجارِبُ ولمّا لم يكن عدمُ الدخول من باب واحد مستلزماً للدخول من أبواب متفرّقة وكان في دخولهم من بابين أو ثلاثةٍ بعضُ ما في الدخول من باب واحد من نوع اجتماعٍ مصحِّحٍ لوقوع المحذورِ قال
﴿وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ﴾ بياناً لما هو المرادُ بالنهي وإنما لم يكتف بهذا الأمر مع كونه مستلزما له إظهار لكمال العنايةِ وإيذاناً بأنه المرادُ بالأمر المذكور لا تحقيق لشيء آخر
﴿وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ﴾ أي لا أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري
﴿مّنَ الله مِن شَىْء﴾ أي شيئاً مما قضى عليكم فإن الحذرَ لا يمنع القدَر ولم يرد به عليه السلام إلغاءَ الحذر بالمرة كيفَ لا وقَدْ قالَ عز قائلاً وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة وقال خُذُواْ حِذْرَكُمْ بل أراد بيانَ أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المرادَ لا محالة بل هو تدبير في الجملة وإنما التأثيرُ وترتُّبُ المنفعةِ عليه من العزيز القدير وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانةٌ بالله تعالى وهربٌ منه إليه
﴿إِنِ الحكم﴾ مطلقاً
﴿أَلاَ لِلَّهِ﴾ لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء
﴿عَلَيْهِ﴾ لا على أحد سواه
﴿تَوَكَّلْتُ﴾ في كل ما آتي وأذر وفيه دَلالةٌ على أن ترتيبَ الأسباب غيرُ مُخلَ بالتوكل
﴿وَعَلَيْهِ﴾ دون غيره
﴿فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون﴾ جُمع بين الحرْفين في عطف الجملةِ على الجملة مع تقديم الصلة للاختصاص مقيَّداً بالواو وعطف فعلٍ غيرِه من تخصيص التوكل بالله عز وجل على فعل نفسه وبإلقاء سببية فعلِه لكونه نبياً لفعل غيره من المقتدين به فيدخل فيهم بنوه دخولاً أولياً وفيه ما لا يَخفْى من حسن هدايتِهم وإرشادِهم إلى التوكل فيما هم بصدده على الله عزَّ وجلَّ غير مغترين
292
يوسف آية (٦٨) بما وصاهم به من التدبير
293
﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم﴾ من الأبواب المتفرقة من البلد قيل كانت له أربعةُ أبوابٍ فدخلوا منها وإنما اكتُفى بذكره لاستلزامه الانتهاءَ عمَّا نُهوا عنْهُ
﴿مَا كَانَ﴾ ذلك الدخولُ
﴿يُغْنِى﴾ فيما سيأتي عند وقوعِ ما وقع
﴿عَنْهُمْ﴾ عن الداخلين لأن المقصودَ به استدفاعُ الضرر عنهم والجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل لتحقيق المقارنةِ الواجبةِ بين جوابِ لمّا ومدخولِه فإن عدمَ الإغناءِ بالفعل إنما يتحقق عند نزولِ المحذورِ لا وقت الدخول وإنما المتحققُ حينئذ ما أفاده الجمعُ المذكور من عدم كونِ الدخولِ المذكورِ مغْنياً فيما سيأتي فتأمل
﴿مِنَ الله﴾ من جهته
﴿مِن شَىْءٍ﴾ أي شيئاً مما قضاه عليهم مع كونه مَظِنةً لذلك في بادي الرأي حيث وصّاهم به يعقوبُ عليه السلام وعمِلوا بموجبه واثقين بجدواه من فضل الله تعالى فليس المرادُ بيانَ سببية الدخولِ المذكور لعدم الإغناءِ كما في قوله تعالى فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً فإن مجيءَ النذير هناك سببٌ لزيادة نفورِهم بل بيانُ عدم سببيته للإغناء مع كونها متوقعةً في بادي الرأي كما في قولك حلف أن يُعطيَني حقي عند حلولِ الأجلِ فلما حل لم يُعطني شيئاً فإن المرادَ بيانُ عدمِ سببية حلولِ الأجلِ للإعطاء مع كونها مرجُوّةً بموجب الحلِف لا بيانُ سببيته لعدم الإعطاءِ فالمآلُ بيانُ عدمِ ترتبِ الغرضِ المقصود على التدبير المعهودِ مع كونه مرجوَّ الوجود لا بيانُ ترتبِ عدمِه عليه ويجوز أن يراد ذلك أيضاً بناءً على ما ذكره عليه السلام في تضاعيف وصيّتِه من أنه لا يُغني عنهم من الله شيئاً فكأنه قيل ولمّا فعلوا ما وصاهم به لم يُفِدْ ذلك شيئاً ووقع الأمر حسبما قال عليه السلام فلقُوا ما لقُوا فيكون من باب وقوعِ المتوقع فتأمل
﴿إِلاَّ حَاجَةً﴾ استثناءٌ منقطعٌ أي ولكنْ حاجةً وحرازةً كائنة
﴿فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا﴾ أي أظهرها ووصّاهم بها دفعاً للخاطرة غيرَ معتقدٍ أن للتدبير تأثيراً في تغيير التقديرِ وقد جعل ضميرُ الفاعل في قضاها للدخول على معنى أن ذلك الدخولَ قضى حاجةً في نفس يعقوبَ وهي إرادتُه أن يكون دخولُهم من أبواب متفرقةٍ فالمعنى ما كان ذلك الدخولُ يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئاً ولكن قضى حاجةً حاصلةً في نفس يعقوبَ بوقوعه حسب إرادتِه فالاستثناءُ منقطعٌ أيضاً وعلى التقديرين لم يكن للتدبير فائدةٌ سوى دفعِ الخاطرة وأما إصابةُ العين فإنما لم تقع لكونها غيرَ مقدّرةٍ عليهم لا لأنها اندفعت بذلك مع كونها مقتضية عليهم
﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ﴾ جليلٍ
﴿لّمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ لتعليمنا إياه بالوحي ونصْبِ الأدلةِ حيث لم يعتقِدْ أن الحذرَ يدفع القدر وأن التدبير له حظٌ من التأثير حتى يتبينَ الخللُ في رأيه عند تخلفِ الأثر أو حيث بتّ القولَ بأنه لا يغني عنهم من الله شيئاً فكان الحالُ كما قال وفي تأكيد الجملةِ بإن واللامِ وتنكيرِ العلْم وتعليلِه بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه من الدِّلالةِ على جلالة شأنِ يعقوبَ عليه السلام وعلوِّ مرتبة علمِه وفخامته ما لا يخفى
﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أسرارَ القدر ويزعمُون أنه يغني عنه الحذرُ وأما ما يقال مِنْ أنَّ المعنى لا يعلمون إيجابَ الحذر مع أنه لا يغني شيئاً من القدر فيأباه مقام بيان تخلّفِ المطلوب عن المبادي
293
يوسف آية (٦٩ ٧١)
294
﴿وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ اوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ بنيامينَ أي ضمه إليه في الطعام أو في المنزل أو فيهما رُويَ أنَّهم لَمَّا دخلُوا عليه قالوا له هذا أخونا قد جئناك به فقال لهم أحسنتم وستجدون ذلك عندي فأكرمهم ثم أضافهم وأجلسهم مثنى مثنى فبقي بنيامين وحيداً فبكى وقال لو كان أخي يوسفُ حياً لأجلسني معه فقال يوسف بقيَ أخوكم فريداً وأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله ثم أنزل كلَّ اثنين منهم بيتاً فقال هذا لا ثانيَ معه فيكون معي فبات يوسف يضمه إليه ويَشمُّ رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده فقال لي عشرةُ بنينَ اشتققْتُ أسماءهم من اسم أخٍ لي هلك فقال له أتُحِب أن أكون أخاك بدلَ أخيك الهالِك قال من يجدُ أخاً مثلك ولكن لم يلدْك يعقوبُ ولا راحيل فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وتعرف إليه وعند ذلك
﴿قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ﴾ يوسف
﴿فَلاَ تَبْتَئِسْ﴾ أي فلا تحزن
﴿بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ بنا فيما مضى فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا بخير ولا تُعلِمْهم بما أعلمتك قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن وهْبٍ أنه لم يتعرّف إليه بل قال له أنا أخوك بدل أخيك المفقودِ ومعنى فلا تبتئس لا تحزنْ بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمِنْتَهم وروي أنه قال له فأنا لا أفارقك قال قد علمتُ باغتمام والدي بي فإذا حبستك يزداد غمُّه ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسُبَك إلى ما لا يجمُل قال لا أبالي فافعل ما بدا لك قال أدُسّ صاعي في رَحْلك ثم أنادي عليك بأنك سرقتَه ليتهيّأ لي ردُّك بعد تسريحِك معهم قال افعلْ
﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية﴾ أي المشرَبةَ قيل كانت مشربة جعلت صاعاً يكال به وقيل كانت تسقى بها الدوابُّ ويكال بها الحبوب وكانت من فضة وقيل من ذهب وقيل من فضة مموّهة بالذهب وقيل كانت إناءً مستطيلة تشبه المكّوك الفارسيَّ الذي يلتقي طرفاه يستعمله الأعاجم وقيل كانت مرصّعة بالجواهر
﴿فِى رَحْلِ أَخِيهِ﴾ بنيامين وقرىء وجعل على حذف جواب لما تقديره أمهلهم حتى انطلقوا ﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ﴾ نادى منادٍ
﴿أَيَّتُهَا العير﴾ وهي الإبلُ التي عليها الأحمالُ لأنها تعير أي تذهب وتجيءُ وقيل هي قافلة الحمير ثم كثُر حتى قيل لكل قافلة عِيرٌ كأنها جمع عَيْر وأصلها فعل مثل سَقْف وسُقُف ففعل به ما فُعل ببِيض وغِيد والمراد أصحابُها كما في قولِه عليه السلام يا خيلَ الله اركبي روي أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسفُ حتى انطلقوا منزلاً وقيل خرجوا من العمارة ثم أمر بهم فأُدرِكوا ونودوا
﴿إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ هذا الخطابُ إن كان يأمر يوسف فلعله أريد بالسرقة أخذُهم له من أبيه ودخول بنيامين فيه بطريق التغليب وإلا فهو من قبل المؤذّن بناء على زعمه والأولُ هو الأظهرُ الأوفق للسياق وقرأ اليماني سارقون بلالام
﴿قَالُواْ﴾ أي الإخوة
﴿وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ﴾
294
جملةٌ حالية من ضمير قالوا جيء بها للدِّلالةِ على انزعاجهم مما سمعوه لمباينته لحالهم
﴿مَّاذَا تَفْقِدُونَ﴾ أي تعدَمون تقول فقَدت الشيء إذا عدِمته بأن ضل عنك لا بفعلك والمآل ماذا أضاع عنكم وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة وقرىء تُفقِدون من أفقدته إذا وجدته فقيداً وعلى التقديرين فالعدولُ عما يقتضيه الظاهرُ من قولهم ماذا سُرق منكم لبيان كمال نزاهتِهم بإظهار أنه لم يُسْرق منهم شيء فضلاً أن يكونوا هم السارقين له وإنما الممكنُ أن يضيع منهم شيء فيسألونهم أنه ماذا وفيه إرشادٌ لهم إلى مراعاة حسنِ الأدب والاحتراز عن المجازفة ونسبة البُرَآء إلى ما لا خيرَ فيه لا سيما بطريق التوكيد فلذلك غيروا كلامهم حيث
295
﴿قَالُواْ﴾ فى جوابهم
﴿نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك﴾ ولم يقولوا سرقتموه أو سرق وقريء صاع وصوع وصوع بفتح الصاد وضمها وبإهمال العين وإعجامها من الصياغة ثم قالوا تربية لما تلقوه من قبلهم وإراءة لاعتقاد أنه إنما بقى فى رحلهم اتفاقا
﴿وَلِمَن جَآءَ بِهِ﴾ من عند نفسه مظهراً له قبل التفتيش
﴿حِمْلُ بَعِيرٍ﴾ من الطعام جعلا له لا على نية تحقيق الوعد لجزمهم بامتناع وجود الشرط وعزمهم على ما لا يَخفْى من أخذ من وجد فى رحله
﴿وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾ كفيل أؤديه إليه وهو قول المؤذن
﴿قَالُواْ تالله﴾ الجمهور على أن التاء بدل من الواو ولذلك لاَ تدخلُ إلاَّ على الجلالة المعظمة أو الرب المضاف إلى الكعبة أو الرحمن فى قول ضعيف ولو قلت تالرحيم لم يجز وقيل من الباء وقيل أصل بنفسها وأيا ما كان ففيه تعجب
﴿لَقَدْ عَلِمْتُمْ﴾ علماً جازماً مطابقاً للواقع
﴿مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض﴾ أى لنسرق فإنه من أعظم أنواع الإفساد أو لنفسد فيها أى إفساد كان مما عز أو هان فضلا عما نسبتمونا إليه من السرقة ونفي المجيء للإفساد وإن لم يكن مستلزماً لما هو مقتضى المقام من نفى الإفساد مطلقا لكنهم جعلوا المجيء الذى يترتب عليه ذلك ولو بطريق الاتفاق مجيئاً لغرض الإفساد مفعولا لأجله ادعاء إظهار لكمال قبحه عندهم وتربية لاستحالة صدوره عنهم كما قيل في قوله تعالى ما يبدل القول لدى وَمَا أَنَاْ بظلاَّمٍ لّلْعَبِيدِ الدال بظاهره على نفي المبالغةِ في الظلم دون نفى الظلم فى الجملة الذى هو مقتضى المقام من أن المعنى إذا عذبت من لا يستحق التعذيب كنت ظلاماً مفرطاً فى الظلم فكأنهم قالوا إن صدر عنا إفساد كان مجيئنا لذلك مريدين به تقبيح حاله وإظهار كمال نزاهتهم عنه يعنون أنه قد شاع بينكم فى كرتى مجيئنا ما نحن عليه وقد كانوا على غايةِ ما يكونُ من الديانة والصيانة فيما يأتون ويذرون حتى روى أنهم دخلوا مصر وأفواه رواحلهم مكمومة لئلا تتناول زرعا أو طعاماً لأحد وكانوا مثابرين على فنون الطاعات وعلمتم بذلك أنه لا يصدر عنا إفساد
﴿وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾ أى ما كنا نوصف بالسرقة قط وإنما حكموا بعلمهم ذلك لأن العلم بأحوالهم الشاهدة يستلزم العلم بأحوالهم الغائبة وإنما لم يكتفوا بنفى الأمرين المذكورين بل استشهدوا بعلمهم بذلك إلزاماً للحجة عليهم وتحقيقاً للتعجب المفهوم من تاء القسم
295
يوسف الآية (٧٤ ٧٦)
296
﴿قَالُواْ﴾ أي أصحاب يوسف عليه السلام
﴿فَمَا جَزَاؤُهُ﴾ الضمير للصُّواع على حذفِ المضافِ أي فما جزاء سرقتِه عندكم وفي شريعتكم
﴿إِن كُنتُمْ كاذبين﴾ لا في دعوى البراءةِ عن السرقة فإنهم صادقون فيها بل فيما يستلزمه ذلك من نفي كون الصواعِ فيهم كما يؤذِن به قوله عز وجل
﴿قالوا جزاؤه مَن وُجِدَ﴾ أي أخْذُ مَنْ وُجد الصواع
﴿فِى رَحْلِهِ﴾ حيث ذكر بعنوان الوُجدان في الرحل دون عنوان السرقةِ وإن كان ذلك مستلزِماً لها في اعتقادهم المبنيِّ على قواعد العادة ولذلك أجابوا بما أجابوا فإن الأخذَ والاسترقاقَ سنةً إنما هو جزاءُ السارقِ دون من وُجد في يده مالُ غيره كيفما كان فتأمل واحمِلْ كلام كل فريقٍ على ما لا يزاحِم رأيَه فإنه أقربُ إلى معنى الكيد وأبعدُ من الافتراء وقوله تعالى
﴿فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ تقريرٌ لذلك الحكمِ أي فأخذُه جزاؤه كقولك حقُّ الضيف أن يكرم فهو حقه ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأً والجملة الشرطية كما هي خبرُه على إقامة الظاهر مُقامَ المضمر والأصل جزاؤُه من وجد في رحله فهو هو على أن الأول لمن والثاني للظاهر الذي وضع موضعه
﴿كذلك﴾ أي مثلَ ذلك الجزاءِ الأوفى
﴿نَجْزِى الظالمين﴾ بالسرقة تأكيدٌ للحكم المذكور غِبَّ تأكيدٍ وبيانٌ لقبح السرقة ولقد فعلوا ذلك ثقةً بكمال براءتِهم عنها وهم عما فُعل بهم غافلون
﴿فَبَدَأَ﴾ يوسف بعد ما راجعوا إليه للتفتيش ﴿بِأَوْعِيَتِهِمْ﴾ بأوعية الإخوةِ العشرةِ أي بتفتيشها قَبْلَ تفتيش
﴿وِعَاء أَخِيهِ﴾ بنيامين لنفي التهمة روي أنه لما بلغت النوبةُ إلى وعائه قال ما أظن هذا أخذ شيئاً فقالوا والله لا نترُكه حتى تنظرَ في رحله فإنه أطيبُ لنفسك وأنفسنا
﴿ثُمَّ استخرجها﴾ أي السقاية أو الصُّواعَ فإنه يذكر ويؤنث
﴿مِن وِعَاء أَخِيهِ﴾ لم يقل منه على رجع الضميرِ إلى الوعاء أو من وعائه على رجعه إلى أخيه قصداً إلى زيادة كشفٍ وبيان وقرىء بضم الواو وبقلبها همزة كما في أشاح في وشاح
﴿كذلك﴾ نُصب على المصدرية والكافُ مقحمةٌ الدلالة على فخامة المشارِ إليه وكذا ما في ذلك من معنى البُعد أي مثلَ ذلك الكيدِ العجيبِ وهو عبارةٌ عن إرشاد الإخوةِ إلى الإفتاء المذكورِ بإجرائه على ألسنتهم وبحملهم عليه بواسطة المستفتين مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ فمعنى قوله عز وجل
﴿كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾ صنعنا له ودبّرنا لأجل تحصيل غرضِه من المقدمات التي رتبها من دس الصُواعِ وما يتلوه فاللام ليست كما في قوله فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا فإنها داخلة على المتضرِّر على ما هو الاستعمالُ الشائع وقولُه تعالى
﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك﴾ استئنافٌ وتعليلٌ لذلك الكيدِ وصُنعه لا تفسيرٌ وبيانٌ له كما قيل كأنَّه قيل لماذا فعل ذلك فقيل لأنه لم يكن ليأخذ أخاه بما فعله في دين الملِكِ في أمر السارق أي في سلطانه قاله ابن عباس
296
أو في حكمه وقضائِه قاله قتادة إلا به لأن جزاءَ السارقِ في دينه إنما كان ضربَه وتغريمَه ضعفَ ما أخذ دون الاسترقاق والاستعباد كما هو شريعةُ يعقوبَ عليه السلام فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بالسرقة التي نسبها إليه في حالٍ من الأحوالِ
﴿إلا أن يشاء الله﴾ أي إلا حالَ مشيئتِه التي هي عبارةٌ عن إرادته لذلك الكيدِ أو إلا حالَ مشيئتِه للأخذ بذلك الوجهِ ويجوز أن يكون الكيدُ عبارةً عنه وعن مباديه المؤدِّية إليه جميعاً من إرشاد يوسفَ وقومِه إلى ما صدرَ عنهُم من الأفعال والأقوالِ حسبما شرح مرتباً لكن لا على أن يكون القصرُ المستفادُ من تقديمِ المجرورِ مأخوذاً بالنسبة إلى غيره مطلقاً على معنى مثلَ ذلك الكيدِ كدنا لا كيداً آخرَ إذ لا معنى لتعليله بعجز يوسفَ عن أخذ أخيه في دين الملك في شأن السارق قطعا إذا لا علاقة بين مطلقِ الكيد ودينِ الملك في أمر السارق أصلا بل بالنسبة إلى بعضه على معنى مثلَ ذلك الكيدِ البالغ إلى هذا الحد كدنا له ولم نكتف ببعض من ذلك لأنه لم يكن يأخذ أخاه في دين الملك به إلا حالَ مشيئتِنا له بإيجاد ما يجري مجرى الجزاء الصّوري من العلة التامة وهو إرشادُ إخوتِه إلى الإفتاء المذكور وعلى هذا ينبغي أن يحمل القصرُ في تفسير من فسر قوله تعالى كِدْنَا لِيُوسُفَ بقوله علّمناه إياه وأوحينا به إليه أي مثلَ ذلك التعليم المستتبعِ لما شرح مرتباً علّمناه دون بعض من ذلك فقط الخ وعلى كل حال فالإستثناء من أعم الأحوال كما أشير إليه ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ أعم العلل والأسبابِ أي لم يكن يأخذ أخاه لعلة من العلل أو بسببٍ من الأسبابِ إلا لعلة مشيئتِه تعالى أو إلا بسبب مشيئتِه تعالى وأيا ما كان فهو متصلٌ لأن أخذَ السارق إذا كان ممن يرى ذلك ويعتقده ديناً لا سيما عند رضاه وإفتائِه به ليس مخالفاً لدين الملِك وقد قيل معنى الإستثناء إلا أن يشاء الله أن يجعل ذلك الحكمَ حكمَ الملكِ وأنت تدري أن المرادَ بدينه ما عليه حينئذ فتغييرُه مُخِلٌّ بالاتصال وإرادةُ مطلقِ ما يتدين به أعمّ منه ومما يحدث تفضي إلى كون الاستثناءِ من قبيل التطبيقِ بالمحال إذ المقصودُ بيانُ عجزِ يوسفَ عليه السلام عن أخذ أخيه حينئذ ولم تتعلق المشيئةُ بالجعل المذكور إذا ذاك وإرادةُ عجزِه مطلقاً تؤدي إلى خلاف المراد فإن استثناءَ حال المشيئةِ المذكورة من أحوال عجزه عليه السلام مما يُشعر بعدم الحاجةِ إلى الكيد المذكور فتدبر وقد جُوّز الانقطَاعُ أي لكنْ أخذُه بمشيئة الله تعالى وإذنِه في دين غيرِ دينِ الملك
﴿نَرْفَعُ درجات﴾ أي رتباً كثيرةً عاليةً من العلم وانتصابُها على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات والمفعول قوله تعالى
﴿مَّن نَّشَاء﴾ أي نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحةُ كما رفعنا يوسف وإيثارُ صيغةَ الاستقبالِ للإشعارِ بأن ذلك سنةٌ مستمرةٌ غيرُ مختصةٍ بهذه المادة والجملةُ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب
﴿وفوقَ كلَّ ذي علمٍ﴾ من أولئك المرفوعين
﴿عليم﴾ لا ينالون شأوه واعمل أنه إن جعل الكيدُ عبارةً عن المعنيَيْن الأولين فالمرادُ برفع يوسفَ عليه السلام ما اعتُبر فيه بالشرطية أو الشطرية من إرشاده عليه السلام إلى دس الصّواع في رحل أخيه وما يتفرَّع عليه من المقدمات المرتبة لاستبقاء أخيه مما يتم من قِبَله والمعنى أرشدنا إخوته إلى الإفتاء المذكور لأنه لم يكن متمكناً من أخذ أخيه بدونه أو أرشدنا كلاًّ منهم ومِنْ يوسف وأصحابه إلى ما صدر عنهم ولم نكتف بما تم من قِبل يوسف فقط لأنه لم يكن متمكناً من أخذ أخيه بذلك فقوله تعالى نرفع درجات إلى
297
يوسف الآية (٧٧) قوله تعالى عَلِيمٌ توضيحٌ لذلك على معنى أن الرفع المذكورَ لا يوجب تمامَ مرامِه إذ ليس ذلك بحيث لاَ يعزُب عنْ علمِه شيءٌ بل إنما نرفع كلَّ من نرفع حسب استعدادِه وفوق كلِّ واحدٍ منهم عليمٌ لا يقادر قدر علمُه ولا يكتنه كنهُه يرفع كلا منهم إلى ما يليقُ به من معارج العلمِ ومدارجِه وقد رَفع يوسفَ إلى ما يليقُ به من الدرجات العاليةِ وعلم أن ما حواه دائرةُ علمِه لا يفي بمرامه فأرشد إخوتَه إلى الإفتاء المذكورِ فكان ما كان وكأنه عليهِ السلامُ لم يكُنْ على يقين من صدور الإفتاء المذكورِ عن إخوته وإن كان على طمع منه فإن ذلك إلى الله عزَّ وجلَّ وجوداً وعلماً والتعرضُ لوصف العلم لتعيين جهةِ الفوقية وفي صيغة المبالغةِ مع التنكير والالتفاتِ إلى الغَيبة من الدلالة على فخامة شأنِه عز وعلا وجلالةِ مقدارِ علمِه المحيطِ ما لا يخفى وإما إن جُعل عبارةً عن التعليم المستتبعِ للإفتاء المذكور فالرفعُ عبارةٌ عن ذلك التعليم والإفتاءِ وإن لم يكن داخلاً تحت قدرتِه عليه السلام لكنه كان داخلاً تحت عمله بواسطة الوحي والتعليم والمعنى مثلَ ذلك التعليم البالغِ إلى هذا الحد علّمناه ولم نقتصر على تعليمِ ما عدا الإفتاءَ الذي سيصدر عن إخوته إذ لم يكن متمكناً من أخذ أخيه إلا بذلك فقوله نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء توضيحٌ لقوله كدنا وبيانٌ لأن ذلك من باب الرفعِ إلى الدرجات العاليةِ من العلم ومدحٌ ليوسف برفعه إليها وقوله وفوقَ كلَّ ذي علمٍ عليمٌ تذييلٌ له أي نرفع درجاتٍ عاليةً من العلم من نشاء رفعَه وفوق كلَ منهم عليمٌ هو أعلى درجةً قال ابن عباس رضي الله عنهما فوق كلِّ عالمٍ عالمٌ إلى أن ينتهيَ العلمِ إلى الله تعالى والمعنى إن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماءَ إلا أن يوسفَ عليه السلام أفضلُ منهم وقرىء درجاتِ مَنْ نشاء بالإضافة والأولُ أنسبُ بالتذييل حيث نُسب فيه الرفعُ إلى من نسب إليه الفوقية لا إلى درجتِه ويجوز أن يكون العليمُ في هذا التفسير أيضاً عبارةً عن الله عزَّ وجلَّ أي وفوق كلَ من أولئك المرفوعين عليمٌ يرفع كلاًّ منهم إلى درجته اللائقةِ به والله تعالى أعلم
298
﴿قَالُواْ إِن يَسْرِقْ﴾ يعنون بنيامين
﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبْلُ﴾ يريدون به يوسفَ عليه السلام وما جرى عليه من جهة عمّتِه على ما قيلَ من أنها كانت تحضِنه فلما شب أراد يعقوبُ عليه السلام انتزاعَه منها وكانت لا تصبِر عنه ساعةً وكانت لها منطقةٌ ورثتها من أبيها إسحق عليه السلام فاحتالت لاستبقاء يوسفَ عليه السلام فعمَدت إلى المنطة فحزمَتْها عليه من تحت ثيابه ثم قالت فقدتُ منطة إسحاقَ عليه السلام فانظروا مَنْ أخذها فوجدوها محزومةً على يوسف فقالت إنه لي سَلَم أفعل به ما أشاء فخلاّه يعقوبُ عليه السلام عندها حتى ماتت وقيل كان أخذ في صِباه صنماً لأبي أمِّه فكسره وألقاه في الجيف وقيل دخل كنيسة فأخذ تمثالاً صغيراً من ذهب كانوا يعبُدونه فدفنه
﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ﴾ أي أكنّ الحزازةَ الحاصلة مما قالوا
﴿فِى نَفْسِهِ﴾ لا أنه أسرّها لبعض أصحابه كما في قوله تعالى وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً
﴿وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾ لا قولاً ولا فعلاً صفحاً عنهم وحِلماً وهو تأكيد لما سبق
﴿قَالَ﴾ أي في نفسه وهو استئناف
298
يوسف الآية (٧٨ ٧٩ ٨٠) مبني على سؤال نشأ من الإخبار بالإسرار المذكور كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ في نفسه في تضاعيف ذلك الإسرارِ فقيل قال
﴿أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً﴾ أي منزلةً حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفِقتم تفترون على البريء وقيل بدل من أسرها والضمير للمقالة المفسرة بقوله أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً
﴿والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ﴾ أي عالمٌ علماً بالغاً إلى أقصى المراتب بأن الأمرَ ليس كما تصفون من صدور السرقةِ منا بل إنما هو افتراءٌ علينا فالصيغةُ لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه عز وجل على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم
299
﴿قَالُواْ﴾ عندما شاهدوا مخايلَ أخذ بنيامين مستطفين
﴿يا أيها العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا﴾ لم يريدوا بذلك الإخبارَ بأن له أبا فإن ذلك معلومٌ مما سبق وإنما أرادوا الإخبار بأن له أباً
﴿شَيْخًا كَبِيرًا﴾ في السن لا يكاد يستطيع فراقَه وهو عَلالةٌ به يتعلل عن شقيقه الهالك
﴿فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ﴾ فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة
﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين﴾ إلينا فأتمم إحسانَك بهذه التتمة أو المتعوّدين بالإحسان فلا تغيّر عادتك
﴿قَالَ مَعَاذَ الله﴾ أي نعوذ بالله معاذاً من
﴿أَن نَّأْخُذَ﴾ فحُذف الفعلُ وأُقيم مُقامَه المصدرُ مضافاً إلى المفعول به بعد حذفِ الجارِّ
﴿إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ﴾ لأن أخْذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الإخلالُ بموجبها وإيثارُ صيغة التكلم مع الغير مع كون الخطابِ من جانب إخوتِه على التوحيد من باب السلوكِ إلى سنن الملوك أو للإشعار بأن الأخذَ والإعطاءَ ليس مما يُستبدّ به بل هو منوطٌ بآراء أولي الحلِّ والعقد وإيثارُ مَنْ وجدنا متاعنا عنده دون سرق متاعنا لتحقيق الحقِّ والاحتراز عن الكذب في الكلام مع تمام المرام فإنهم لا يحمِلون وُجدان الصُّواعِ في الرحل على محمل غيرِ السرقة
﴿إِنَّا إِذَاً﴾ أي إذا أخذنا غيرَ من وجدنا متاعنا عنده ولو برضاه
﴿لظالمون﴾ في مذهبكم وما لنا ذلك وهذا المعنى هو الذي أريد بالكلام في أثناء الحوارِ وله معنى باطنٌ هو أن الله عز وجل إنما أمرني بالوحي أن آخذَ بنيامينَ لمصالحَ علمها الله في ذلك فلو أخذتُ غيرَه كنت ظالماً وعاملاً بخلاف الوحي
﴿فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ﴾ أي يئسوا من يوسف وإجباته لهم أشدَّ يأس بدِلالة صيغة الاستفعال وإنما حصَلت لهم هذه المرتبةُ من اليأس لِما شاهدوه من عَوْذه بالله مما طلبوه الدالِّ على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهةِ وأنه مما يجب أن يُحترز عنه ويُعاذَ منه بالله عز وجل ومن تسميته ظلماً بقوله إِنَّا إِذًا لظالمون
﴿خَلَصُواْ﴾ اعتزلوا وانفردوا عن الناس
﴿نَجِيّاً﴾ أي ذوي نجوى على أن يكون بمعنى النجوى والتناجي أو فوجاً نجياً على أن يكون بمعنى المناجي كالشعير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر
299
يوسف الآية (٨١) ومنه قوله تعالى وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ويجوز أن يقال هم نَجيٌّ كما يقال هم صديق لأنه بزنة المصادر من الزفير والزئير
﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ﴾ في السن وهو روبيلُ أو في العقل وهو يهوذا أو رئيسهم شمعون
﴿أَلَمْ تَعْلَمُواْ﴾ كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملةً ولم يرضَ به فقال منكِراً عليهم ألم تعلموا
﴿أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله﴾ عهداً يوثق به وهو حِلفُهم بالله تعالى وكونُه من الله لإذنه فيه وكونِ الحلف باسمه الكريم
﴿وَمِن قَبْلُ﴾ أي ومن قبل هذا
﴿مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ﴾ قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهدَ أبيكم وقد قلتم وإنا له لناصحون وإنا له لحافظون وما مزيدةٌ أو مصدرية ومحلُّ المصدر النصبُ عطفاً على مفعول تعلموا أي ألم تعلموا أخذَ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطَكم السابقَ في شأن يوسف عليه السلام ولا ضير في الفصل بين العاطفِ والمعطوفِ بالظرف وقد جوّز النصبُ عطفاً على اسمِ إنَّ والخبر في يوسف أو من قبل على معنى ألم تعلموا أن تفريطَكم السابق وقع في شأن يوسفَ عليه السلام أو أن تفريطَكم الكائنَ أو كائناً في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل وفيه أن مقتضى المقام إنما هو الإخبارُ بوقوع ذلك التفريطِ لا بكون تفريطِهم السابقِ واقعاً في شأن يوسف كما هو مفادُ الأول ولا بكون تفريطِهم الكائنِ في شأنه واقعاً من قبل كما هو مفادُ الثاني على أن الظرفَ المقطوعَ عن الإضافة لا يقع خبراً ولا صفة ولا صلة ولا حالاً عند البعض كما تقرر في موضعه وقيل محلُّه الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ من قبلُ وفيه ما فيه وقيل ما موصولةٌ أو موصوفة ومحلها النصبُ عطفاً على مفعول تعلموا أي ما فرطتموه بمعنى قدمتموه في حقه من الخيانة وأما النصبُ عطفاً على اسمِ إنَّ والرفع على الابتداء فقد عرفتَ حاله
﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الارض﴾ متفرِّعٌ على ما ذكَره وذكره إياهم من ميثاق أبيه وقوله لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ أي فلن أفارق أرضَ مصرَ جارياً على قضية الميثاق
﴿حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى﴾ في البَراح بالانصراف إليه وكأن أيمانَهم كانت معقودةً على عدم الرجوعِ بغير إذن يعقوبَ عليه السلام
﴿أَوْ يَحْكُمَ الله لِى﴾ بالخروج منها على وجه لا يؤدّي إلى نقض الميثاقِ أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب روي أنهم كلموا العزيز في إطلاقه فقال روبيلُ أيها الملك لترُدَّن إلينا أخانا أو لأصِيحن صَيْحةً لا تبقى بمصرَ حاملٌ إلا ألقت ولدها ووقفت كل شعرة في جسده فخرجت من ثيابه وكان بنو يعقوب إذا غضِبوا لا يطاقون خلا أنه إذا مس مَنْ غضب واحدٌ منهم سكن غضبُه فقال يوسف لابنه قم إلى جنبه فَمُسّه فَمَسَّه فقال روبيل مَنْ هذا إن في هذا البلد بَذْراً من بَذر يعقوب
﴿وهو خير الحاكمين﴾ إذا لاَ يحكُم إلا بالحقِّ والعدل
300
﴿ارجعوا﴾ أنتم
﴿إلى أَبِيكُمْ فقولوا يا أبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ﴾ على ظاهر الحالِ وقرىء سُرق أي نسب إلى السرقة
﴿وَمَا شَهِدْنَا﴾ عليه
﴿إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا﴾ وشاهدنا أن الصُواعَ استُخرجت من وعائه
﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ﴾ أي باطن الحال
﴿حافظين﴾ فما ندري أن حقيقةَ الأمرِ كما شاهدنا أم بخلافه أو وما كنا عالمين حين أعطيناك المَوْثِقَ أنه سيسرق أو أنا
300
يوسف الآية (٨٢ ٨٤) نلاقيَ هذا الأمر أو أنك تصاب به كما أصبت بيوسف
301
﴿واسأل القرية التى كُنَّا فِيهَا﴾ أي مصرَ أو قريةً بقربها لحِقهم المنادي عندها أي أرسلْ إلى أهلها واسألهم عن القصة
﴿والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾ أي أصحابَها فإن القصة معروفةٌ فيما بينهم وكانوا قوماً من كنعان من جيران يعقوبَ عليه السلام وقيل من صنعاء
﴿وِإِنَّا لصادقون﴾ تأكيدٌ في محل القسم
﴿قَالَ﴾ أي يعقوبُ عليه السلام وهو استئنافٌ مبني على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل فماذا كان عند قولِ المتوقّف لإخوته ما قال فقيل قال يعقوبُ عندما رجَعوا إليه فقالوا له ما قالوا وإنما حُذف للإيذان بأن مسارعتَهم إلى قبوله ورجوعَهم به إلى أبيهم أمرٌ مسلَّم غنيٌّ عن البيان وإنما المحتاجُ إليه جوابُ أبيهم
﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ أي زيّنت وسهّلت وهو إضرابٌ لا عن صريح كلامهم فإنهم صادقون في ذلك بل عما يقتضيه من ادعاء البراءة عن التسبب فيما نزل به وأنه لم يصدرُ عنهم ما يؤدي إلى ذلك من قولٍ أو فعلٍ كأنه قيل لم يكُنِ الأمرُ كذلكَ بل زينت
﴿لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ من الأمور فأتيتموه يريد بذلك فُتياهم بأخذ السارق بسرقته
﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجملُ
﴿عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا﴾ بيوسف وأخيه والمتوقِّف بمصر
﴿إِنَّهُ هُوَ العليم﴾ بحالي وحالهم
﴿الحكيم﴾ الذي لم يبتلِني إلا لحكمة بالغة
﴿وتولى﴾ أي أعرض
﴿عَنْهُمْ﴾ كراهةً لما سمع منهم
﴿وقال يا أسفى على يُوسُفَ﴾ الأسفُ أشدُّ الحزن والحسرةُ أضافه إلى نفسه والألفُ بدلٌ من الياء فناداه أي يا أسفي تعالى فهذا أوانك وإنما أسف على يوسف مع أن الحادثَ مصيبةٌ أخويه لأن رُزْأَه كان قاعدةَ الأرزاءِ غضاً عنده وإن تقادم عهده آخذاً بمجامع قلبه لا ينساه ولأنه كان واثقاً بحياتهما عالماً بمكانهما طامعاً في إيابهما وأما يوسفُ فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلةَ رجائِه سوى رحمةِ الله تعالى وفضلِه وفي الخبر لم تُعطَ أمةٌ من الأمم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون إلا أمةُ محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم ألا يُرى إلى يعقوبَ حين أصابه ما أصابه لم يسترجِعْ بل قال ما قال والتجانسُ بين لفظي الأسَف ويوسف مما يزيد النظمَ الكريم بهجةً كما في قوله عز وجل وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وقوله اثاقلتم إِلَى الارض أَرَضِيتُم وقوله ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ ونظائرها
﴿وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن﴾ الموجبِ للبكاء فإن العَبْرة إذا كثُرت محقَت سوادَ العين وقلبتْه إلى بياض كدِر قيل قد عميَ بصرُه وقيل كان يدرك إدراكاً ضعيفاً روي أنه ما جفّت عينا يعقوبَ من يوم فراقِ يوسفَ إلى حين لقائه ثمانين عاماً وما على وجه الأرض أكرمُ على الله عزَّ وجلَّ من يعقوبَ عليه السلام وعن رسول الله ﷺ أنه سأل جبريلَ عليه السلام ما بلغ من وجد يعقوبَ عليه السلام
301
يوسف الآية (٨٥ ٨٧) على يوسف قال وجْدَ سبعين ثكلى قال فَمَا كَانَ لَهُ مِن الأجر قال أجرُ مائةِ شهيد وما ساء ظنُّه بالله ساعةً قط وفيه دليلٌ على جواز التأسف والبكاءِ عند النوائبِ فإن الكفَّ عن ذلك مما لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد ولقد بكى رسول الله ﷺ على ولده آبراهيمَ وقال القلبُ يحزن والعين تدمَع ولا نقول ما يُسخِط الربَّ وإنا عليك يا إبراهيمُ لمحزونون وإنما الذي لا يجوز ما يفعله الجهلةُ من الصياح والنياحة ولطْمِ الخدودِ والصدور وشقِّ الجيوبِ وتمزيقِ الثياب وعن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم أنه بكى على ولد بعضِ بناتِه وهو يجود بنفسه فقيل يا رسول الله تبكي وقد نَهَيتنا عن البكاء فقال ما نهيتهم عن البكاء وإنما نهيتُكم عن صورتين أحمقين صوتٍ عند الفرَح وصوت عند الترَح
﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ مملوءٌ من الغيظ على أولاده مُمسِكٌ له في قلبه لا يُظهره فعيل بمعنى مفعول بدليل قوله تعالى وَهُوَ مَكْظُومٌ من كظمَ السِّقاءَ إذا شده على ملئه أو بمعنى فاعل كقوله والكاظمين الغيظ من كظم الغيظَ إذا اجترعه وأصله كظم البعيرُ جِرَّتَه إذا ردها في جوفه
302
﴿قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ﴾ أي لا تفتأ ولا تزال
﴿تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ تفجّعاً عليه فحذف حرف النفي كما في قوله... فَقُلْتُ يَمينُ الله أَبْرَحُ قَاعِداً...
لعدم الالتباس بالإثبات فإن القسمَ إذا لم يكن معه علامةُ الإثبات يكون على النفي البتةَ
﴿حتى تَكُونَ حَرَضاً﴾ مريضاً مُشْفياً على الهلاك وقيل الحَرضُ مَنْ أذابه هم أو مرض وهو في الأصل مصدرٌ ولذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع والنعت منه بالكسر كدنِف وقد قرىء به وبضمتين كجُنُب وغَرِب
﴿أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين﴾ أي الميتين
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى﴾ البثّ أصعبُ الهم الذي لا يصبر عليه صاحبُه فيبثّه إلى الناس أي ينشره فكأنهم قالوا له ما قالوا بطريق التسلية والإشكاءِ فقال لهم إني لا أشكو ما بي إليكم أو إلى غيركم حتى تتصدّوا لتسليتي وإنما أشكو همي
﴿وَحُزْنِى إِلَى الله﴾ تعالى ملتجئاً إلى جنابه متضرِّعاً لدى بابه في دفعه وقري بفتحتين وضمتين
﴿وَأَعْلَمُ مِنَ الله ما لا تعلمون﴾ من لطفه ورحمته فأرجو أن يرحمني ويلطُفَ بي ولا يُخيِّب رجائي أو أعلمَ وحياً أو إلهاماً من جهته ما لا تعلمون من حياة يوسف قيل رأى ملكَ الموتِ في المنام فسأله عنه فقال هو حي وقيل علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنه سيخرّ له أبواه وإخوتُه سجّداً
﴿يا بني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ﴾ أي تعرّفوا وهو تفعُّلٌ من الحَسّ وقرىء بالجيم من الجسّ وهو الطلب أي تطلبوا
﴿مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ أي من خبرهما ولم يذكر الثالثِ لأن غَيبته اختياريةٌ لا يعسُر إزالتها
﴿وَلاَ تيأسوا من رَوْح الله﴾ لا تقنَطوا من فرجه وتنفيسه وقرىء بضم الراء أي من رحمته التي يُحيي بها العبادَ وهذا إرشادٌ لهم إلى بعض ما أُبهم في قولِه وأعلم من الله ما لا
302
يوسف آية (٨٨ ٨٩) تَعْلَمُونَ ثم حذرهم عن ترك العمل بموجب نهيه بقوله
﴿إنه لا ييأس مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون﴾ لعدم علمِهم بالله تعالى وصفاتِه فإن العارفَ لا يقنط في حالٍ من الأحوالِ
303
﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ﴾ أي على يوسف بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمرِ أبيهم وإنما لم يُذكر ذلك إيذاناً بمسارعتهم ألى مَا أُمروا بهِ وإشعاراً بأن ذلك أمرٌ محققٌ لا يفتقر إلى الذكر والبيان
﴿قالوا يا أيها العزيز﴾ أي الملكُ القادرُ المتمنع
﴿مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر﴾ الهُزالُ من شدة الجوع
﴿وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ﴾ مدفوعةٍ يدفعها كلُّ تاجر رغبةً عنها واحتقاراً لها من أزجَيتُه إذا دفعتُه وطردتُه والريحُ تزجي السحابَ قيل كانت بضاعتُهم من متاع الأعراب صوفاً وسمناً وقيل الصنوبرَ وحبةَ الخضراء وقيل سُويقُ المُقْل والأقِطُ وقيل دراهمَ زيوفاً لا تؤخذ إلا بوضيعة وإنما قدّموا ذلك ليكون ذريعةً إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقةِ وهز العطفُ والرأفة وتحريكُ سلسلة المرحمة ثم قالوا ﴿فَأَوْفِ لَنَا الكيل﴾ أي أتممْه لنا ﴿وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا﴾ بردّ أخينا إلينا قاله الضحاك وابن جريج وهو الأنسبُ بحالهم نظراً إلى أمر أبيهم أو بالإيفاء أو بالمسامحة وقَبول المُزجاة أو بالزيادة على ما يساويها تفضلاً وإنما سمَّوه تصدقاً تواضعاً أو أرادوا التصدقَ فوق ما يعطيهم بالثمن بناء على اختصاص حُرمة الصدقة بنبينا ﷺ وإنما لم يبدءوا بما أُمروا به استجلاباً للرأفة والشفقة ليبعثوا بما قدّموا من رقة الحالِ رقةَ القلب والحنُوَّ على أن ما ساقوه كلامٌ ذو وجهين فإن قولهم وتصدّق علينا
﴿إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين﴾ يحتمل الحملَ على المحملين فلعله عليه السلام حمله على المحمل الأول ولذلك
﴿قَالَ﴾ مجيباً عما عرّضوا به وضمّنوه كلامَهم من طلب ردِّ أخيهم
﴿هَلْ علمتم ما فعلتم بيوسف وَأَخِيهِ﴾ وكان الظاهرُ أن يتعرضَ لما فعلوا بأخيه فقط وإنما تعرض لما فعلوا بيوسف لاشتراكهما في قوع الفعلِ عليهما فإن المراد بذلك إفرادُهم له عن يوسف وإذلالُه بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذِلةٍ أي هل تُبتم عن ذلك بعد علمِكم بقبحه فهو سؤالٌ عن الملزوم والمرادُ لازمُه
﴿إِذْ أَنتُمْ جاهلون﴾ بقبحه فلذلك أقدمتم على ذلك أو جاهلون عاقبتَه وإنما قاله نصحاً لهم وتحريضاً على التوبة وشفقةً عليهم لمّا رأى عجزَهم وتمسكنَهم لا معاتبةً وتثريباً ويجوز أن يكون هذا الكلام منه عليه السلام منقطعاً عن كلامهم وتنبيهاً لهم على ما هو حقُّهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحضِ في طلب بنيامين بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبيه وإرسالِه إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال وقيل أعطَوه كتابَ يعقوبَ عليه السلام وقد كتب فيه كتابٌ من يعقوبَ إسرائيلَ اللَّهِ ابنِ إسحق ذبيحِ الله بن إبراهيمَ خليل الله إلى عزيز مصرَ أما بعد فإنا أهلُ بيتٍ موكلٍ بنا البلاءُ أما جدّي فشُدت يده ورجلاه فرُمي به في النار فنجّاه الله تعالى وجعلت له برداً وسلاماً وأما أبي فوضع السكين
303
يوسف آية (٩٠ ٩١ ٩٢) على قفاه ليُقتل ففداه الله تعالى وأما أنا فكان لي ابنٌ وكان أحبَّ أولادي إلىّ فذهب به إخوتُه إلى البرية ثم أتَوْني بقميصه ملطخاً بالدم فقالوا قد أكله الذئبُ فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابنٌ وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا إنه سرَق وأنك حبستَه وإنا أهلُ بيت لا نسرِق ولا نلد سارقاً فإن رددتَه عليَّ وإلا دعوتُ عليك دعوةً تُدرك السابعَ من ولدَك والسلام فلما قرأه لم يتمالكْ وعيل صبرُه فقال لهم ما قال وقيل لما قرأه بكى وكتب الجواب اصبِر كما صبروا تظفرْ كما ظفِروا
304
﴿قالوا أئنك لأَنتَ يُوسُفُ﴾ استفهامُ تقريرٍ ولذلك أكدوه بأن واللام قالوه استغراباً وتعجباً وقرىء إنك بالإيجاب قيل عرفوه بروائه وشمائله حين كلمهم به وقيل تبسم فعرفوه بثناياه وقيل رفع التاجَ عن رأسه فرأوا علامةً بقَرنه تشبه الشامة البيضاء وكان لسارةَ ويعقوبَ مثلُها وقرىء أئنك أو أنت يوسف على معنى أئنك يوسف أو أنت يوسف فحُذف الأولُ لدِلالة الثاني عليه وفيه زيادةُ استغراب
﴿قَالَ أَنَاْ يوسف﴾ جوابا عن مسئلتهم وقد زاد عليه قوله
﴿وهذا أَخِى﴾ أي من أبويّ مبالغةً في تعريف نفسه وتفخيماً لشأن أخيه وتكملةً لما أفاده قوله هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه حسبما يفيده قولُه
﴿قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا﴾ فكأنه قال هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلالِ فأنا يوسفُ وهذا أخي قد منّ الله علينا بالخلاص عما ابتُلينا به والاجتماعِ بعد الفُرقةِ والعزة بعد الذِلة والأُنس بعد الوحشة ولا يبعُد أنْ يكونَ فيه إشارةٌ إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجهَ لطلبكم ثم علل ذلك بطريق الاستئناف التعليلي بقوله
﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ﴾ أي يفعل التقوى في جميع أحوالِه أو يقِ نفسه عما يوجب سخطَ الله تعالى وعذابه
﴿وَيِصْبِرْ﴾ على المحن أو على مشقة الطاعاتِ أو عن المعاصي التي تستلذها النفس
﴿فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾ أي أجرهم وإنما وُضع المظهرُ موضعَ المضمرِ تنبيهاً على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالإحسان
﴿قَالُواْ تالله لَقَدْ اثَرَكَ الله عَلَيْنَا﴾ اختارك وفضلك علينا بما ذكرت من النعوت الجليلة
﴿وَإِن كُنَّا﴾ وإن الشأن كنا
﴿لخاطئين﴾ لمتعمِّدين للذنب إذ فعلنا بك ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا وفيه إشعارٌ بالتوبة والاستغفار ولذلك
﴿قَالَ لاَ تَثْرَيبَ﴾ أي لا عتْبَ ولا تأنيب
﴿عَلَيْكُمْ﴾ وهو تفعيل من الثرب وهو الشحمُ الغاشي للكرِش ومعناه إزالته كما أن التجليد إزالةُ الجلد والتقريعُ إزالة القرع لأنه إذا ذهب كان ذلك غايةَ الهُزال فضرب مثلاً للتقريع الذي يذهب بماء الوجوه وقوله عز وعلا
﴿اليوم﴾ منصوب بالتثريب أو بالمقدر خبرا للاأى لا أثر بكم أو لا تثريبَ مستقرٌ عليكم اليوم الذي هو مظنةٌ له فما ظنُّكم بسائر الأيام
304
يوسف الآية (٩٣ ٩٤ ٩٥ ٩٦) أو بقوله
﴿يَغْفِرَ الله لَكُمْ﴾ لأنه حينئذ صفح عن جريمتهم وعفا عن جريرتهم بما فعلوا من التوبة
﴿وهو أرحم الراحمين﴾ يغفر الصغائرَ والكبائرَ ويتفضل على التائب بالقَبول ومن كرمه عليه الصلاة والسلام إن إخوتَه أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشيا ونحن نستحي منك بما فرَط منا فيك فقال عليه الصلاة والسلام إن أهلَ مصرَ وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إليّ بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلّغ عبداً بيع بعشرين درهماً ما بلّغ ولقد شرُفت بكم الآن وعظُمتُ في العيون حيث علم الناسُ أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ
305
﴿اذهبوا بِقَمِيصِى هذا﴾ قيل هو الذي كان عليه حينئذ وقيل هو القميصُ المتوارَث الذي كان في التعويذ أمره جبريلُ بإرساله إليه وأوحى إليه أن فيحَ ريحِ الجنةِ لا يقع على مبتلىً إلا عُوفي
﴿فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا﴾ يكن بصيراً أو يأت إليَّ بصيراً وينصره قوله
﴿وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ أي بأبي وغيره ممن ينتظمه لفظُ الأهل جميعاً من النساء والذراري قيل إنما حمل القميصَ يهوذا وقال أنا أحزنتُه بحمل القميصِ ملطخاً بالدم إليه فأُفرِحه كما أحزنته وقيل حمله وهو حافٍ حاسرٌ من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرةُ ثمانين فرسخاً
﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ العير﴾ خرجت من عريش مصر يقال فصَل من البلدِ فُصُولاً إذا انفصل منه وجاوز حيطانَه وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما انفصل العير
﴿قَالَ أَبُوهُمْ﴾ يعقوب عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمن عنده
﴿إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ أوجده الله سبحانه ما عبق بالقميص من ريح يوسف من ثمانين فرسخاً حين أقبل به يهوذا
﴿لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ﴾ أي تنسُبوني إلى الفند وهو الخرفُ وإنكارُ العقل وفسادُ الرأي مِنُ هرمٍ يقال شيخٌ مفنّد ولا يقال عجوزٌ مفنّدة إذ لم تكن في شبيبتها ذاتَ رأي فتُفَنّد في كِبَرها وجواب لولا محذوف أي لصدقتموني
﴿قَالُواْ﴾ أي الحاضرون عنده
﴿تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم﴾ لفي ذهابك عن الصواب قدُماً في إفراط محبتِك ليوسف ولَهجِك بذكره ورجائِك للقائه وكان عندهم أنه قد مات
﴿فَلَمَّا أَن جَاء البشير﴾ وهو يهوذا
﴿أَلْقَاهُ﴾ أي ألقى البشيرُ القميصَ
﴿على وجهه﴾ أي وجهه يعقوب أو ألقاه يعقوبُ على وجه نفسه
﴿فارتد﴾ عاد
﴿بَصِيراً﴾ لما انتعش فيه من القوة
﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ﴾ يعني قولَه إني لأجد ريحَ يوسف فالخطابُ لمن كان عنده بكنعان أو قولَه ولا تيأسوا من رَوْح الله فالخطابُ لبنيه وهو الأنسب بقوله
﴿إِنّى أَعْلَمُ من الله ما لا تعلمون﴾
305
يوسف الآية (٩٧ ٩٨ ٩٩) فإن مدارَ النهي المذكورِ إنما هو العلمُ الذي أوتي يعقوبُ من جهة الله سبحانه وعلى هَذا يجوزُ أنْ يكون هذا مقولَ القولِ أي ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصرَ وأمرتُكم بالتحسس ونهيتُكم عن اليأس من رَوْح الله تعالى وأعلم من الله ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه الصلاة والسلام روي أنه سأل البشيرَ كيف يوسف فقال هو ملِكُ مصرَ قال ما أصنع بالمُلك على أي دينٍ تركتَه قال على دين الإسلام قال الآن تمت النِّعمة
306
﴿قَالُواْ يَا أَبَانَا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطئين﴾ ومن حق من اعترف بذنبه أن يُصفح عنه ويُستغفرَ له فكأنهم كانوا على ثقة من عفوه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ولذلكَ اقتصروا على استدعاء الاستغفار وأدرجوا ذلك في الاستغفار
﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾ وهذا مُشعرٌ بعفوه قيل أخّر الاستغفارَ إلى وقت السحر وقيل إلى ليلة الجمعة ليتحرّى به وقت الإجابة وقيل أخّره إلى أن يستحِلَّ لهم من يوسف عليه الصلاة والسلام أو يعلم أنه قد عفا عنهم فإن عفوَ المظلوم شرطُ المغفرة ويعضُده أنه روي عنه أنه استقبل القِبلة قائماً يدعو وقام يوسفُ خلفه يؤمّن وقاموا خلفَهما أذلةً خاشعين عشرين سنة حتى بلغ جهدَهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال إن الله قد أجاب دعوتَك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة فإن صح ثبتت نبوتُهم وإن ما صدر عنهم إنما صدر قبل الاستنباء وقيل المرادُ الاستمرارُ على الدعاء فقد روي أنه كان يستغفر كلَّ ليلةِ جمعةٍ في نيّف وعشرين سنة وقيل قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرَغ رفع يديه فقال اللهم اغفِرْ لي جزَعي على يوسف وقلةَ صبري عنه واغفِر لولدي ما أتوا إلى أخيهم فأوحى الله إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين
﴿فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ﴾ روي أنه وجّه يوسفُ إلى أبيه جَهازاً ومائتي راحلةٍ ليتجهز إليه بمن معه فاستقبله يوسفُ والملكُ في أربعة آلاف من الجند والعُظماء وأهلِ مصرَ بأجمعهم فتلقوا يعقوب عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو يمشي متوكئاً على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهوذا أهذا فرعونُ مصرَ قال لا بل ولدُك فلما لقيه قال عليه الصلاة والسلام السلامُ عليك يا مذهبَ الأحزان وقيل قال له يوسف يا أبت بكَيتَ عليّ حتى ذهب بصرُك ألم تعلم أن القيامةَ تجمعنا فقال بلى ولكني خشِيتُ أن يسلَبَ دينُك فيُحالَ بيني وبينك وقيل إن يعقوبَ وولدَه دخلوا مصرَ وهم اثنان وسبعون ما بين رجلٍ وامرأةٍ وكانوا حين خرجوا مع موسى ستَّمائةِ ألفٍ وخمسَمائةٍ وبضعةً وسبعين رجلاً سوى الذرية والهرمى وكانت الذريةُ ألفَ ألفٍ ومائتي ألف
﴿آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾ أي أباه وخالتَه وتنزيلُها منزلةَ الأمِّ كتنزيل العمِّ منزلةَ الأب في قولِه عزَّ وجلَّ وإله آبائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق أو لأن يعقوب عليه الصلاة والسلام تزوّجها بعد أمّه وقال
306
يوسف الآية (١٠٠) الحسن وابن إسحق كانت أمُّه في الحياة فلا حاجة إلى التأويل ومعنى آوى إليه ضمّهما إليه واعتناقهما وكأنه عليه الصلاة والسلام ضَرب في الملتقى مضرباً فنزل فيه فدخلوا عليه فآواهما إليه
﴿وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ إِن شَاء الله آمنين﴾ من الشدائد والمكاره قاطبةً والمشيئةُ متعلقةٌ بالدخول على الأمن
307
﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ﴾ عند نزولِهم بمصر
﴿عَلَى العرش﴾ على السرير تكرِمةً لهما فوق ما فعله لإخوته
﴿وَخَرُّواْ لَهُ﴾ أي أبواه وإخوتُه
﴿سُجَّدًا﴾ تحية له فإنه كان السجودُ عندهم جارياً مجرى التحية والتكرمة كالقيامة والمصافحةِ وتقبيلِ اليد ونحوِها من عادات الناس الفاشية في التعظيم والتوقير وقيل ما كان ذلك إلا انحناءً دون تعفيرِ الجباه ويأباه الخرُورُ وقيل خروا لأجله سجداً لله شكراً ويرده قوله تعالى
﴿وَقَالَ يا أبت هذا تَأْوِيلُ رؤياى﴾ التي رأيتها وقصصتها عليك
﴿مِن قَبْلُ﴾ في زمن الصِّبا
﴿قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا﴾ صدقاً واقعاً بعينه والاعتذارُ بجعل يوسف لمنزلة القِبلة وجعلِ اللامُ كما في قولِه... أَلَيْسَ أولَ من صلَّى لقبلتكم...
يخفى وتأخيرُه عن الرفع على العرش ليس بنص في ذلك لأن الترتيبَ الذكريَّ لا يجب كونُه على وفق الترتيب الوقوعي فلعل تأخيرَه عنه ليصل به ذكرُ كونِه تعبيراً لرؤياه وما يتصل به من قوله
﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بَى﴾ المشهورُ استعمالُ الإحسان بإلى وقد يستعمل بالباء أيضاً كَما في قولِه عز اسمُه وبالوالدين إحسانا وقيل هذا بتضمين لَطَف وهو الإحسانُ الخفيُّ كما يُؤذِن به قولُه تعالى إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء وفيه فائدة لا تخفى أي لطَف بي محسناً إليَّ غيرَ هذا الإحسان
﴿إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السجن﴾ بعدما ابتُليت به ولم يصرِّح بقصة الجُبّ حِذاراً من تثريب إخوتِه لأن الظاهرَ حضورُهم لوقوع الكلام عَقيب خرورهم سجّداً واكتفاءً بما يتضمنه قوله تعالى
﴿وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو﴾ أي البادية
﴿مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى﴾ أي أفسد بيننا بالإغواء وأصلُه من نخْس الرائضِ الدابةَ وحملِها على الجري يقال نزَغه ونسَغه إذا نخسَه ولقد بالغ عليه الصلاة والسلام في الإحسان حيث أسند ذلك إلى الشيطان
﴿إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء﴾ أي لطيفُ التدبير لأجله رفيقٌ حتى يجيء على وجه الحِكمة والصواب ما من صعبٍ إلا وهو بالنسبة إلى تدبيره سهلٌ
﴿إنه هو العليم﴾ بوجوه المصالح
﴿الحكيم﴾ الذي يفعلُ كلَّ شيء على قضية الحكمة روي أن يوسف أخذ بيد يعقوبَ عليهما الصلاة والسلام فطاف به في خزائنه فأدخله في خزائن الورِقِ والذهب وخزائن الحِليّ وخزائن الثياب وخزائنِ السلاح وغيرِ ذلك فلما أدخله خزائنَ القراطيس قال يا بني ما أعقّك عندك هذه القراطيسُ وما كتبت إلي على ثماني مراحلَ قال أمرني جبريلُ قال أو ما تسأله قال أنت أبسطُ إليه مني فسأله قال جبريلُ الله تعالى أمرني بذلك لقولك أخاف أن يأكلَه الذئب قال فهلا خِفْتني ورُوي أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام معه أربعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفِنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثمةَ ثم عاد إلى مصرَ وعاش بعد
307
يوسف الآية (١٠١ ١٠٢) أبيه ثلاثاً وعشرين سنة فلما تم أمرُه وعلِم أنه لا يدوم له تاقت نفسُه إلى المُلك الدائم الخالد فتمنى الموت فقال
308
﴿رَبّ قَدْ اتَيْتَنِى مِنَ الملك﴾ أي بعضاً منه عظيماً وهو ملكُ مصرَ
﴿وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاحاديث﴾ أي بعضاً من ذلك كذلك إن أريد بتعليم تأويلِ الأحاديث تفهيمُ غوامضِ أسرار الكتب الإلهية ودقائق سَننِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسلام فالترتيبُ ظاهرٌ وأما إن أريد به تعليمُ تعبيرِ الرؤيا كما هو الظاهرُ فلعل تقديمَ إيتاءِ الملك عليه في الذكر لأنه بمقام تعدادِ النعم الفائضةِ عليه من الله سبحانه والمُلك أعرقُ في كونه نعمةً من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضاً نعمةً جليلةً في نفسه ولا يمكن تمشيةُ هذا الاعتذارِ فيما سبق لأن التعليمَ هناك واردٌ على نهج العلة الغائيةِ للتمكين فإن حُمل على معنى التمليك لزم تأخرُه عنه وأما الواقع ههنا فمجردُ التأخيرِ في الذكر والعطف بحرف الواو لا يستدعي ذلك الترتيبَ في الوجود
﴿فاطر السماوات وَالأَرْضِ﴾ مُبدعَهما وخالقَهما نُصب على أنه صفةٌ للمنادى أو منادى آخرُ وصفه تعالى به بعد وصفِه بالربوبية مبالغةً في ترتيب مبادى ما يعقبُه من قوله
﴿أَنْتَ وَلِيِّي﴾ مالكُ أموري
﴿فِى الدنيا والاخرة﴾ أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما وإذ قد أتممتَ عليّ نعمة الدنيا
﴿تَوَفَّنِى﴾ اقبِضْني
﴿مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين﴾ من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامةِ فإنما تتم النعمةُ بذلك قيل لما دعا توفاه الله عز وجل طيباً طاهراً فتخاصم أهلُ مصرَ في دفنه وتشاحّوا في ذلك حتى همّوا بالقتال فرأوا أن يصنعوا له تابوتاً من مَرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل ليمُرَّ عليه ثم يصلَ إلى مصر ليكونوا شرعاً واحداً في التبرك به ووُلد له أفراييم وميشا ولأفراييم نونٌ ولنونٍ يوشع فتى موسى عليه الصلاة والسلام ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيلَ تحت أيديهم على بقايا دين يوسفَ وآبائِه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام
﴿ذلك﴾ إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسفَ وما فيه من معنى البُعد لما مر مرارا من الدِلالة على بُعد منزلتِه أو كونه بالانقضاء في حكم البعيدِ والخطابُ للرسول ﷺ وهو مبتدأ خبره
﴿من أَنبَاء الغيب﴾ الذي لا يحومُ حولَهُ أحدٌ وقوله
﴿نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ خبرٌ بعد خبر أو حال من الضمير في الخبرِ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ اسماً موصولا ومن أنباء الغيب صلتَه ويكون الخبرُ نوحيه إليك
﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ﴾ يريد إخوةَ يوسف عليه الصلاة والسلام
﴿إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ﴾ وهو جعلهم إياه في غيابة الجب
﴿وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ به ويبغون له الغوائلَ حتى تقف على ظواهر أسرارِهم وبواطنها وتطّلع على سرائرهم طُراً وتحيط بما لديهم خُبراً وليس المرادُ مجردَ نفيَ حضورُه عليه الصَّلاة والسلام في مشهد إجماعِهم ومكرِهم فقط بل في سائر المشاهدِ أيضاً وإنما تخصيصُه بالذكر لكونه مطْلعَ القصة وأخفى أحوالِها كما ينبىء عنه قوله وهم يمكرون والخطابُ وإن كان لرسول الله ﷺ لكن
308
يوسف الآية (١٠٣ ١٠٤ ١٠٥ ١٠٦ ١٠٧) المرادُ إلزامُ المكذبين والمعنى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك إذ لا سبيلَ إلى معرفتك إياه سوى ذلك إذ عدمُ سماعِك ذلك من الغير وعدمُ مطالعتِك للكتب أمرٌ لا يشك فيه المكذِّبون أيضاً ولم تكن بين ظَهرانِيهم عند وقوعِ الأمر حتى تعرِفه كما هو فتبلّغَه إليهم وفيه تهكم بالكفار فكأنهم يشكون في ذلك فيدفع شكهم وفيه أيضاً إيذانٌ بأنَّ ما ذُكر من النبأ هو الحقُّ المطابق للواقع وما ينقُله أهلُ الكتاب ليس على ما هو عليه يعني أن مثلَ هذا التحقيقِ بلا وحي لا يُتصوّر إلا بالحضور والمشاهدة وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحي ومثلُه قوله تعالى وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وقولُه وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربى إِذْ قَضَيْنَا إلى مُوسَى الامر
309
﴿وَمَا أَكْثَرُ الناس﴾ يريد به العمومَ أو أهلَ مكة
﴿وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ أي على إيمانهم وبالغت في إظهار الآياتِ القاطعةِ الدالةِ على صدقك
﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾ لتصميمهم على الكفر وإصرارِهم على العناد روي أن اليهود وقريشاً لما سألوا عن قصة يوسفَ وعدوا أن يُسْلموا فلما أخبرهم بها على موافقة التوراةِ فلم يسلموا حزن النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم فقيل له ذلك
﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ﴾ أي على الأنباء أو القرآن
﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ من جُعْل كما يفعله حَمَلةُ الأخبار
﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ﴾ عظةٌ من الله تعالى
﴿للعالمين﴾ كافة لا أن ذلك مختصٌّ بهم
﴿وكأين من آية﴾ أي كأي عددٍ شئت من الآيات والعلاماتِ الدالةِ على وجود الصانع ووحدته وكمال علمِه وقدرتِه وحكمته غيرِ هذه الآيةِ التي جئت بها
﴿في السماوات والارض﴾ أي كائنةٍ فيهما من الأجارم الفلكية وما فيها من النجوم وتغيّر أحوالها ومن الجبال والبحار وسائرِ ما فى الأرض من العجائب الفائتةِ للحصر
﴿يَمُرُّونَ عَلَيْهَا﴾ أي يشاهدونها ولا يعبئون بها وقرىء برفع الأرضِ على الابتداء ويمرّون خبره وقرىء بنصبها على معنى ويطئون الأرضَ يمرون عليها وفي مصحف عبد اللَّه والارض يَمْشُونَ عَلَيْهَا والمراد ما يرَون فيها من آثار الأمم الهالكةِ وغيرُ ذلك من الآيات والعبر
﴿وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ غيرُ ناظرين إليها ولا متفكّرين فيها
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله﴾ في إقرارهم بوجوده وخالقيته
﴿إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ﴾ بعبادتهم لغيره أو باتخاذهم الأحبارَ والرهبان أرباب أو بقولهم باتخاذه تعالى ولداً سبحانه وتعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً أو بالنور والظلمة وهي جلمة حالية أي لا يؤمن أكثرُهم إلا في حال شركِهم قيلَ نزلتِ الآيةُ في أهل مكة وقيل في المنافقين وقيل في أهل الكتاب
﴿أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ الله﴾ أي عقوبة
309
يوسف الآية (١٠٨ ١٠٩ ١١٠) تغشاهم وتشمَلُهم
﴿أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً﴾ فجأةً من غير سابقةِ علامة
﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ بإتيانها غير مستعدّين لها
310
﴿قُلْ هذه سَبِيلِى﴾ وهي الدعوةُ إلى التوحيد والإيمان والإخلاص وفسّرها بقوله
﴿أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ﴾ بيانٍ وحجةٍ واضحةٍ غيرِ عمياءَ أو حال من الضمير في سبيلي والعاملُ فيها معنى الإشارةِ
﴿أَنَاْ﴾ تأكيدٌ للمستكن في أدعو أو على بصيرة لأنه حال منه أو مبتدأ خبرُه على بصيرة
﴿وَمَنِ اتبعنى﴾ عطف عليه
﴿وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين﴾ مؤكد لما سبق من الدعوة إلى الله
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً﴾ رد لقولِهم لَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة
﴿نُّوحِى إِلَيْهِمْ﴾ كما أوحينا إليك وقرىء بالياء
﴿مّنْ أَهْلِ القرى﴾ لأنهم أعلمُ وأحلم وأهلُ البوادي فيهم الجهلُ والجفاءُ والقسوة
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِم﴾ من المكذبين بالرسل والآياتِ فيحذَروا تكذيبك
﴿وَلَدَارُ الاخرة﴾ أي الساعةُ أو الحياة الآخرة
﴿خَيْرٌ لّلَّذِينَ اتقوا﴾ الشركَ والمعاصيَ
﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ فتستعملوا عقولَكم لتعرِفوا خيريةَ دارِ الآخرة وقرىء بالياء على أنه غيرُ داخل تحت قل
﴿حتى إذا استيأس الرسل﴾ غايةٌ لمحذوف دل عليه السياقُ أي لا يغُرّنهم تماديهم فيمَا هُم فيهِ من الدعة والرخاء فإن مَنْ قبلهم قد أُمهلوا حتى أيِسَ الرسل عن النصر عليهم في الدنيا أو عن إيمانهم لانهماكهم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع
﴿وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ﴾ كذَّبتْهم أنفسُهم حين حدثتْهم بأنهم ينصرون عليه أو كذّبهم رجاؤهم فإنه يوصف بالصدق والكذب والمعنى أن مدة التكذيبِ والعداوة من الكفار وانتظارَ النصر من الله تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القُنوطَ وتوهّموا أن لا نصر لهم في الدنيا
﴿جَاءهُمْ نَصْرُنَا﴾ فجأة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وظنوا أنهم قد أُخلِفوا ما وعدهم الله من النصر فإن صح ذلك عنه فلعله أراد بالظن ما يخطُر بالبال من شبه الوسوسة وحديثِ النفس وإنما عبر عنه بالظن تهويلاً للخطب وأما الظنُّ الذي هو ترجّحُ أحدِ الجانبين على الآخر فلا يُتصوّر ذلك من آحاد الأمة فما ظنُّك بالأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وهم هم ومنزلتُهم في معرفة شئون الله سبحانه منزلتُهم وقيل الضميران للمُرسل إليهم وقيل الأول لهم والثاني للرسل وقرىء بالتشديد أي ظن الرسلُ أن القوم كذّبوهم فيما أوعدوهم وقرىء بالتخفيف على بناء الفاعل على أن الضمير للرسل أي ظنوا أنهم كذَبوا عند قومهم فيما حدّثوا به لِما تراخى عنهم ولم يرَوا له أثراً
310
يوسف الآية (١١١) أو على أن الأول لقومهم
﴿فَنُجّىَ مَن نَّشَاء﴾ هم الرسلُ والمؤمنون بهم وقرىء فننجّي على لفظ المستقبل بالتخفيف والتشديد وقرىء فنجا
﴿وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين﴾ إذا نزل بهم وفيه بيانٌ لمن تعلق بهم المشيئة
311
﴿لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ﴾ أي قَصص الأنبياء وأممِهم وينصره قراءةُ من قرأ بكسر القاف أو قصص يوسفَ وإخوتِه
﴿عِبْرَةٌ لاّوْلِى الألباب﴾ لذوِي العقولِ المبرّأةِ عن شوائب أحكام الحِس
﴿مَا كَانَ﴾ أي القرآنُ المدلولُ عليه بما سبق دَلالة واضحةً
﴿حَدِيثًا يفترى ولكن﴾ كان
﴿تَصْدِيقَ الذى بين يديهِ﴾ من الكتبِ السماوية وقرىء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ولكن هو تصديقُ الذي بين يديه ﴿وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء﴾ مما يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر دينيّ إلا وهو يستند إلى القرآن بالذات أو بوسط
﴿وهدى﴾ من الضلالة
﴿وَرَحْمَةً﴾ ينال بها خيرُ الدارين
﴿لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أي يصدّقونه لأنهم المنتفعون به وأما مَنْ عداهم فلا يهتدون بهداه ولا ينتفعون بجدواه عن رسول الله ﷺ علّموا أرقاءَكم سورةَ يوسف فإنه أيُّما مسلمٍ تلاها وعلَّمها أهلَه وما ملكتْ يمينَه هوّن الله عليه سكراتِ الموتِ وأعطاه القوة أن لا يحسُد مسلماً تم الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس وأوله سورة الرعد
311
الرعد ١ ٢
سورة الرعد مدنية وقيل مكية إلا قوله ويقول الذين كفروا الآية وآيها ثلاث وأربعون ﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
2
Icon