تفسير سورة الفرقان

الدر المصون
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب الدر المصون في علوم الكتاب المكنون المعروف بـالدر المصون .
لمؤلفه السمين الحلبي . المتوفي سنة 756 هـ

قوله: ﴿لِيَكُونَ﴾ : اللامُ متعلقةٌ ب «نَزَّل». وفي اسم «يكون» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه ضميرٌ يعودُ على الذي نزَّل. أي: ليكونَ الذي نَزَّل الفرقانَ نذيراً. الثاني: أنه يعودُ على الفرقانِ وهو القرآنُ. أي: ليكون الفرقانُ نذيراً. الثالث: أنه يعودُ على «عبدِه» أي: ليكونَ عبدُه محمد صلَّى الله عليه وسلَّم نذيراً. وهذا أحسنُ الوجوهِ معنىً وصناعةً لقُرْبِه ممَّا يعودُ عليه، والضميرُ يعودُ على أقربِ مذكورٍ. و «للعالمين» متعلقٌ ب «نذيراً» وإنما قُدِّم لأجلِ الفواصلِ. ودعوى إفادةِ الاختصاصِ بِعيدةٌ لعدمِ تأتِّيها هنا. ورَجَّح الشيخ عَوْدَه على «الذي» قال: «لأنه العُمْدةُ المسندُ إليه الفعلُ، وهو مِنْ وصفِه تعالى كقوله: ﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ [الدخان: ٣]. و» نذيراً «الظاهرُ فيه أنه بمعنى مُنْذِر. وجَوَّزوا أَنْ يكونَ مصدراً بمعنى الإِنذار كالنكير مبعنى الإنكار ومنه ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾ [القمر: ١٦].
قوله: ﴿الذي لَهُ مُلْكُ﴾ : يجوز في «الذي» الرفعُ نعتاً للذي الأولِ، أو بياناً، أو بدلاً، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أو النصبُ على
453
المدحِ. وما بعد «نَزَّل» من تمام الصلة فليس أجنبياً، فلا يضُرُّ الفصلُ به بين الموصولِ الأولِ والثاني إذا جَعَلْنا الثاني تابعاً له.
قوله: ﴿وَخَلَقَ﴾ الخَلْقُ هنا عبارةٌ عن الإِحداثِ والتهيئةِ لِما يَصْلُح له حتى يجيءَ قولُه: ﴿فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً﴾ مفيداً؛ إذ لو حَمْلَنا ﴿خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ على معناه الأصلي من التقدير لصار الكلام: وقَدَّر كلَّ شيءٍ فقدَّره.
454
قوله: ﴿واتخذوا﴾ : يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على الكفارِ الذينُ يَضُمُّهم لَفْظُ «العالمين»، وأن يعودَ على مَنْ ادَّعَى للهِ شريكاً وَولداً لدلالةِ قولِه: ﴿وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ﴾، وأنْ يعودَ على المُنْذَرين لدلالة «نذيراً» عليهم.
قوله: ﴿لاَّ يَخْلُقُونَ﴾ صفةٌ ل «آلهةً»، وغَلَّبَ العقلاءَ على غيرَهم؛ لأنَّ الكفارَ/ كانوا يَعْبُدون العقلاءَ كعُزَيْرٍِ والمسيح والملائكةِ وغيرِهم كالكواكبِ والأصنامِ. ومعنى «لا يَخْلُقُون» لا يَقْدِرُوْن على التقدير، والخَلْقُ يُوْصَفُ به العبادُ. قال زهير:
٣٤٧١ - وَلأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وبَعْ ضُ القوم يَخْلُقُ ثم لا يَفْري
ويقال: خَلَقْتُ الأَديمَ أي: قدَّرْتُه. هذا إذا أُريد بالخَلْقِ التقديرُ. فإنْ أُريد به الإِيجادُ فلا يُوْصَفُ به غير الباري تعالى وقد تقدَّم. وقيل: بمعنى يَخْتَلِقون، كقوله: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً﴾ [العنكبوت: ١٧].
قوله: ﴿افتراه﴾ : الهاءُ تعودُ على إفك. وقال أبو البقاء: «الهاء تعود على» عَبْدِه «في أول السورة» ولا أظنَّه إلاَّ غَلَطاً، وكأنه أراد أَنْ يقولَ: الضمير المرفوع في افتراه فَغَلِط.
قوله: ﴿ظُلْماً﴾ فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه مفعولٌ به؛ لأنَّ «جاء» يتعدى بنفسِه وكذلك «أتى». والثاني: أنه على إسقاطِ الخافضِ أي: جاؤوا بظلمٍ. الثالث: أنه في موضعِ الحال، فيجيءُ فيه ما في قولك «جاء زيدٌ عَدْلاً» من الأوجه.
قوله: ﴿اكتتبها﴾ : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحُدها: أَنْ يكونَ حالاً من أساطيرُ، والعاملُ فيها معنى التنبيه، أو الإِشارةِ المقدرةِ؛ فإنَّ «أساطيرُ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ، تقديرُه: هذه أساطيرُ الأَوَّلِين مُكْتَتَبَةً. والثاني: أن يكونَ في موضع خبرٍ ثانٍ ل «هذه». والثالث: أَنْ يكونَ «أساطيرُ» مبتدأً و «اكْتَتَبها» خبرُه، واكْتَتَبها: الافتعالُ هنا يجوز أَنْ يكونَ بمعنى أَمَر بكتابتها كاقتصد واحتَجم، إذا أَمَر بذلك، ويجوز أَنْ يكونَ بمعنى كَتَبَها، وهو مِنْ جملةِ افترائِهم عليه لأنه [عليه السلام] كان أمِّيَّاً لا يَقْرأ ولا يَكْتب، ويكون كقولهم: اسْتَكَبَّه واصْطَبَّه أي: سكبه وصبَّه. والافتعالُ مُشْعِرٌ بالتكلُّفِ. ويجوز أَنْ يكونَ مِنْ كَتَبَ بمعنى جَمَعَ، من الكَتْبِ وهو الجَمْعُ، لا من الكتابة بالقلَم.
وقرأ طلحةُ «اكْتُتِبَها» مبنياً للمفعولِ. قال الزمخشري: «والمعنى اكتتبها له كاتِبٌ لأنه كان أمِّيَّاً لا يكتُب بيدِه، ثم حُذِفَتِ اللامُ فأفضى الفعلُ إلى الضمير فصار: اكتتبها إياه كاتبٌ. كقولِه: ﴿واختار موسى قَوْمَهُ﴾ [الأعراف: ١٥٥] ثم بُني
455
الفعلُ للضمير الذي هو» إياه «فانقلب مرفوعاً مستتراً بعد أن كان منصوباً بارزاً، وبقي ضمير الأساطير على حالِه فصارَ» اكْتُتِبَها «كما ترى».
قال الشيخ: «ولا يَصِحُّ ذلك على مذهبِ جمهورِ البصريين؛ لأنَّ» اكتتبها له كاتب «وَصَل الفعلُ فيه لمفعولين أحدُهما مُسَرَّح، وهو ضميرُ الأساطير، والآخرُ مقيدٌ، وهو ضميرُه عليه السلام، ثم اتُّسِع في الفعلِ فحُذِفَ حرفُ الجر، فصار: اكتتبها إياه كاتبٌ. فإذا بُني هذا للمفعولِ: إنما ينوبُ عن الفاعلِ المفعولُ المُسَرَّحُ لفظاً وتقديراً لا المسرَّحُ لفظاً، المقيَّدُ تقديراً. فعلى هذا يكون التركيب اكْتُتِبَه لا اكتتبها، وعلى هذا الذي قُلْناه جاء السماعُ. قال: الفرزدق:
٣٤٧٢ - ومِنَّا الذي اختير الرجالَ سماحةً وجوداً إذا هَبَّ الرياحُ الزَّعازِعُ
ولو جاء على ما قَرَّره الزمخشريُّ لجاء التركيبُ:»
ومنا الذي اختيره الرجالُ «لأنَّ» اخْتير «تَعدَّى إلى الرجال بإسقاطِ حرفِ الجرِّ؛ إذ تقديرُه: اختير من الرِّجال». قلت: وهو اعتراضٌ حَسَنٌ بالنسبة إلى مذهبِ الجمهورِ، ولكن الزمخشريَّ قد لا يلْتزمه، ويوافق الأخفشَ والكوفيين، وإذا كان الأخفشُ وهم، يتركون المَسرَّحَ لفظاً وتقديراً، ويُقيمون المجرورَ بالحرفِ مع وجودِه فهذا أَوْلَى وأحرى.
والظاهر أنَّ الجملةَ مِنْ قوله: ﴿اكتتبها فَهِيَ تملى﴾ مِنْ تَتِمَّةِ قولِ الكفارِ. وعن الحسن أنَّها من كلامِ الباري تعالى، وكان حَقُّ الكلام على هذا أَنْ يَقْرَأَ «
456
أَكْتَتَبها» بهمزةٍ مقطوعةٍ مفتوحةٍ للاستفهام كقولِه: ﴿أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ﴾ [سبأ: ٨]. ويمكنُ أن يُعْتَذَرَ عنه: أنه حَذَفَ الهمزةَ للعلمِ بها كقولِه تعالى: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ﴾ [الشعراء: ٢٢]. وقول الآخر:
٣٤٧٣ - أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصا نَبْلا
يريدُ: أو تلك، وأَأَفْرَحُ، فُحُذِفَ لدلالةِ الحالِ، وحَقُّه أَنْ يقفَ على «الأوَّلين». قال الزمخشري: «كيف قيل: اكْتَتَبها فهي تُمْلَى عليه، وإنما يُقال: أَمْلَيْتُ عليه فهو يكتتبها؟ قلت: فيه وجهان، أحدُهما: أراد اكتتابَها وطَلَبه فهي تُمْلَى عليه أو كُتِبَتْ له وهو أُمِّيٌّ فهي تُمْلَى عليه أي: تُلْقَى عليه مِنْ كتابٍ يَتَحفَّظُها؛ لأنَّ صورةَ الإِلقاءِ على الحافظِ كصورة الإِلقاءِ على الكاتبِ».
وقرأ عيسى وطلحة «تُتْلَى» بتاءَيْن مِنْ فوقُ، من التلاوة. و ﴿بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ ظرفا زمان للإِملاء. والياءُ في «تملَى» بدلٌ من اللامِ كقولِه: ﴿فَلْيُمْلِلْ﴾ [البقرة: ٢٨٢] وقد تقدَّمَ.
457
قوله: ﴿مَالِ هذا﴾ :«ما» استفهاميةٌ مبتدأةٌ. والجارُّ بعدَها خبرٌ. «ويَأْكل» جملةٌ حاليةٌ، وبها تَتِمُّ فائدةُ الإِخبار كقوله: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾. وقدت تقدم في النساء أنَّ الجرِّ كُتِبَتْ مفصولةً من مجرورِها وهو خارجٌ عن قياسِ الخطِّ.
والعاملُ في الحالِ الاستقرارُ العاملُ في الجارِّ، أو نفسُ الجارِّ، ذكرَه أبو البقاء.
قوله: ﴿فَيَكُونَ﴾ العامَّةُ على نصبِه. وفيه وجهان، أحدُهما: نصبٌ على جوابِ التحضيضِ. والثاني قال أبو البقاء: فيكونَ منصوبٌ على جوابِ الاستفهام «وفيه نظرٌ؛ لأنَّ ما بعدَ الفاءِ لا يَتَرَتَّبُ على هذا الاستفهامِ. وشرطُ النصبِ: أن ينعقدَ منها شرطٌ وجزاءٌ. وقُرِىء» فيكونُ «بالرفعِ، وهو معطوفٌ على» أُنْزِل «. وجاز عطفُه على الماضي؛ لأنَّ المرادَ بالماضي المستقبلُ، إذ التقدير: لولا نُنَزِّلُ.
قوله: ﴿أَوْ يلقى﴾ :«أو تكونُ» معطوفان على «أُنْزِلَ» لِما تقدَّم مِنْ كونِه بمعنى نُنَزِّل. ولا يجوزُ أَنْ يُعْطفا على «فيكونَ» المنصوبِ في الجواب، لأنهما مُنْدَرجان في التحضيض في حكم الواقعِ بعد «لولا». وليس المعنى على أنهما جوابٌ للتحضيضِ فيعطفا على جوابِه. وقرأ الأعمش وقتادةُ «أو يكونُ له» بالياء من تحتُ؛ لأن تأنيثَ الجنةِ مجازيٌّ.
458
قوله: ﴿يَأْكُلُ مِنْهَا﴾ الجملةُ في موضعِ الرفعِ صفةً ل «جنةٌ». وقرأ الأخَوان «نَأْكُلُ» بنون الجمعِ. والباقون بالياء من تحتُ أي: الرسول.
قوله: ﴿وَقَالَ الظالمون﴾ وَضَعَ الظاهرَ موضعَ المضمرِ، إذ الأصل: وقالوا. قال الزمخشري: «وأرادَ بالظالمين إياهم بأعيانهم». قال الشيخ: «وقوله ليس تركيباً سائغاً، بل التركيبُ العربيُّ أَنْ يقولَ: أرادَهم بأعيانِهم».
459
قوله: ﴿جَنَّاتٍ﴾ : يجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ «خيراً»، وأَنْ يكونَ عطفَ بيانٍ عند مَنْ يُجَوِّزه في النكراتِ، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمارِ أعني. و ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ صفةٌ.
قوله: ﴿وَيَجْعَل لَّكَ﴾ قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع «ويجعَلُ» والباقون بإدغامِ لامِ «يَجْعَلْ» في لام «لك». وأمَّا الرفعُ ففيه وجهان، أحدُهما: أنَّه مستأنفٌ. والثاني: أنه معطوفٌ على جوابِ الشرط. قال الزمخشري: «لأنَّ الشرطَ إذا وقع ماضياً جاز في جوابِه الجزمُ، والرفعُ كقولِه:
459
قال الشيخ:» وليس هذا مذهبَ سيبويه، بل مذهبُه: أنَّ الجوابَ محذوفٌ، وأنَّ هذا المضارعَ مَنْوِيُّ به التقديمُ، ومذهبُ المبرد والكوفيين أنه جوابٌ على حَذْفِ الفاءِ. ومذهبُ آخرين: أنه جوابٌ لا على حَذْفِها، بل لمَّا كان الشرطُ ماضياً ضَعُفَ تأثيرُ «إنْ» فارتفع «. قلت: فالزمخشريُّ بنى قولَه على هذين المذهبين. ثم قال الشيخ:» وهذا التركيبُ جائزٌ فصيحٌ. وزعم بعضُ أصحابِنا أنه لا يجيءُ إلاَّ في ضرورة «.
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فتحتمل وجهين، أحدُهما: أنَّ سكونَ اللامِ للجزمِ عطفاً على مَحَلِّ»
جَعَل «؛ لأنَّه جوابُ الشرط. والثاني: أنه مرفوعٌ، وإنما سُكِّن لأجلِ الإِدغام. قال الزمخشري وغيرُه وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ مِنْ جملةِ مَنْ قرأ بذلك وهو نافعٌ والأخَوان وحفصٌ ليس مِنْ أصولِهم الإِدغامُ، حتى يدعى لهم في هذا المكانِ. نعم أبو عمرو أصلُه الإِدغامُ وهو يقرأ هنا بسكونِ اللامِ، فيُحتمل ذلك على قراءته، وهذا من محاسِنِ علمِ النحوِ والقراءاتِ معاً.
وقرأ طلحةُ بن سليمان»
ويَجْعَلَ «بالنصبِ؛ وذلك بإضمارِ» أنْ «على
460
جوابِ الشرطِ، واستضعفها ابنُ جني. ومثلُ هذه القراءة:
٣٤٧٤ - وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مَسْألةٍ يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
٣٤٧٥ - فإنْ يَهْلَكْ أبو قابوسَ يَهْلَكْ رَبيعُ الناسِ والبَلدُ الحرامُ
ونَأْخُذْ بعدَه بذِنابِ عيشٍ أَجبَّ الظهرِ ليسَ له سَنامُ
بالتثليث في» نَأْخذ «.
461
قوله: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ﴾ : هذه الجملةُ الشرطيةُ في موضعِ نصبٍ صفةً ل «سَعيراً» لأنَّه مؤنَّثٌ.
قوله: ﴿سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً﴾ إنْ قيل: التغيُّظُ لا يُسْمع. فالجوابُ من ثلاثةِ أوجه، أحدُها: أنه على حَذْفِ مضافٍ أي: صوتَ تغيُّظِها. والثاني: أنه على حَذْفٍ تقديرُه: سَمِعوا وَرَأَوْا تغيُّظاً وزفيراً، فيرتفع كلُّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به أي: رَأَوْا تغيُّظاً وسَمِعوا زَفيراً. والثالث: أَنْ يُضَمَّن «سمعوا» معنىً يَشْمَلُ الشيئين أي: أَدْرَكوا لها تغَيُّظاً وزفيراً. وهذان الوجهان الأخيران منقولان من قولِه:
٣٤٧٦ - يا ليتَ زوجَك قد غَدا متقلِّداً سيفاً ورُمْحاً
ومن قوله:
461
أي: ومُعْتَقِلاً رمحاً، وسَقَيْتُها ماءً، أو تضمِّنُ «مُتَقَلِّداً» معنى مُتَسَلِّحاً، و «عَلَفْتُها» معنى: أَطْعَمْتُها تِبْناً وماءً بارداً.
462
قوله: ﴿مَكَاناً﴾ : منصوب على الظرف و «منها» في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ «مكان» لأنه في الأصل صفةٌ له. و «مُقَرَّنين» حال مِنْ مفعول «أُلْقُوا». و «ثُبوراً» مفعول به. فيقولون: يا ثُبوراه. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً من معنى «دُعُوا» وقيل: منصوبٌ بفعلٍ من لفظِه مقدرٍ تقديرُه: ثَبَرْنا ثُبوراً. وقرأ/ معاذ بن جبل «مُقَرَّنُوْنَ» بالواو. ووجهُها أَنْ تكونَ بدلاً من مفعول «أُلْقُوا».
وقرأ عمر بن محمد «ثَبورا» بفتح الثاء. والمصادرُ التي على فَعُوْل بالفتح قليلةٌ جداً. ينبغي أن يُضَمَّ هذا إليها، وقد ذكرْتُها في البقرةِ عند قولِه ﴿وَقُودُهَا الناس﴾ [البقرة: ٢٤].
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:قوله :﴿ مَكَاناً ﴾ : منصوب على الظرف و " منها " في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ " مكان " لأنه في الأصل صفةٌ له. و " مُقَرَّنين " حال مِنْ مفعول " أُلْقُوا ". و " ثُبوراً " مفعول به. فيقولون : يا ثُبوراه. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً من معنى " دُعُوا " وقيل : منصوبٌ بفعلٍ من لفظِه مقدرٍ تقديرُه : ثَبَرْنا ثُبوراً. وقرأ/ معاذ بن جبل " مُقَرَّنُوْنَ " بالواو. ووجهُها أَنْ تكونَ بدلاً من مفعول " أُلْقُوا ".
وقرأ عمر بن محمد " ثَبورا " بفتح الثاء. والمصادرُ التي على فَعُوْل بالفتح قليلةٌ جداً. ينبغي أن يُضَمَّ هذا إليها، وقد ذكرْتُها في البقرةِ عند قولِه
﴿ وَقُودُهَا النَّاسُ ﴾ [ البقرة : ٢٤ ].

قوله: ﴿خَالِدِينَ﴾ : منصوبٌ على الحالِ: إمَّا مِنْ فاعل «يَشاؤون» وإمَّا مِنْ فاعل «لهم» لوقوعِه خبراً. والعائدُ على «ما» محذوفٌ أي: لهم فيها الذي يَشاؤُونه حالَ كونِهم خالدين.
قوله: ﴿كَانَ على رَبِّكَ﴾ في اسمِ كان وجهان، أحدهما: أنه ضميرُ «
462
ما يَشاؤون»، ذكره أبو البقاء. والثاني: أَنْ يعودَ على الوَعْدَ المفهومِ مِنْ قولِه ﴿وُعِدَ المتقون﴾. و ﴿مَّسْئُولاً﴾ على المجازِ أي: يُسْأَلُ: هل وُفِّي بك أم لا؟ أو يَسْأله مَنْ وُعِدَ به؟.
463
قوله: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ : قرأ ابنُ عامر «نَحْشُرهم» ِ «فنقول» بالنون فيهما. وابنُ كثير وحفصٌ بالياء مِنْ تحت فيهما. والباقون بالنونِ في الأولِ، وبالياءِ في الثاني. وهنَّ واضحاتٌ. وقرأ الأعرج «نَحْشِرُهم» بكسر الشين في جميع القرآن. قال ابن عطية: «هي قليلةٌ في الاستعمالِ قويةٌ في القياس؛ لأنَّ يَفْعِلِ بكسرِ العين في المتعدِّي أَقْيَسُ مِنْ يَفْعُل بضمِّ العين». وقال أبو الفضل الرازي: «وهو القياس في الأفعالِ الثلاثيةِ المتعديةِ؛ لأنَّ يَفْعُل بضهم العين قد يكونُ من اللازمِ الذي هو فَعُل بضمِّها في الماضي». قال الشيخ: «وليس كما ذكرا، بل فِعْلُ المتعدِّي الصحيحُ جميعُ حروفِه، إذا لم يكن للمغالبةِ ولا حلقيَّ عينٍ ولا لامٍ فإنه جاء على يَفْعِل ويَفْعُل
463
كثيراً. فإنْ شُهرِ أحدُ الاستعمالين اتُّبعَ، وإلاَّ فالخيارُ. حتى إنَّ بعضَ أصحابِنا خَيَّر فيهما: سُمِعا للكلمة أو لم يُسْمَعا». قلت: الذي خَيَّرَ في ذلك هو ابنُ عصفور فيُجيزُ أَنْ تقولَ: «زيد يَفْعِل» بكسرِ العينِ، و «يَضْرُب» [بضمِّ] الراءِ مع سماعِ الضمِّ في الأول والكسرِ في الثاني. وسبَقَه إلى ذلك ابنُ درستويهِ، إلاَّ أنَّ النحاةَ على خلافِه.
قوله: ﴿وَمَا يَعْبُدُونَ﴾ عطفٌ على مَفْعولِ «نَحْشُرهم» ويَضْعُفُ نصبُه على المعيَّة. وغَلَّب غيرَ العاقلِ فأتى ب «ما» دونَ «مَنْ».
قوله: ﴿هَؤُلاَءِ﴾ يجوزُ أن يكونَ نعتاً لعِبادي، أو بدلاً، أو بياناً.
قوله: ﴿ضَلُّوا السبيل﴾ على حَذْفِ الجرِّ وهو «عن»، كما صَرَّح به في قوله ﴿يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١١٧] ثم اتُّسِع فيه فَحُذِف نحو: «هَدَى»، فإنه يتعدَّى ب «إلى»، وقد يُحْذَفُ اتِّساعاً. و «ظَلَّ» مطاوعُ أَضَلَّ.
464
قوله: ﴿يَنبَغِي﴾ : العامَّةُ على بنائِه للفاعل. وأبو عيسى الأسودُ القارىء «ينبغى» مبنياً للمفعولِ. قال ابنُ خالويه: «
464
زعم سيبويه أن ينبغى لغة».
قوله: ﴿أَن نَّتَّخِذَ﴾ فاعلُ «ينبغي» أو مفعولٌ قائمٌ مقامَ الفاعلِ في قراءةِ الأسود. وقرأ العامَّةُ «نَتَّخِذَ» مبنياً للفاعل. و «من أولياء» مفعولُه، وزِيْدَتْ فيه «مِنْ». ويجوز أن يكونَ مفعولاً أولَ على أنَّ «اتَّخَذَ» متعديةٌ لاثنين، ويجوز أَنْ لا تكون المتعديةَ لاثنين بل لواحدٍ، فعلى هذا «مِنْ دونِك» متعلِّقٌ بالاتِّخاذ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ «أولياء».
وقرأ أبو الدَّرْداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء والحسن وأبو جعفر في آخرين «نُتَّخَذَ» مبنيَّاً للمفعول. وفيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّها المتعديةُ لاثنينِ، والأولُ همز ضمير المتكلمين. والثاني: قولُه: «مِنْ أولياء» و «مِنْ» للتبعيضِ أي: ما كان ينبغي أَنْ نَتَّخِذَ بعضَ أولياء، قاله الزمخشري. الثاني: أنَّ «مِنْ أولياء» هو المفعولُ الثاني ايضاً، إلاَّ أنَّ «مِنْ» مزيدةٌ في المفعولِ الثاني. وهذا مردودٌ: بأنَّ «مِنْ» لا تُزاد في المفعول الثاني، إنما تُزاد في الأولِ. قال ابن عطية: «ويُضْعِفُ هذه القراءةَ دخولُ» مِنْ «في قوله:» مِنْ أولياء «. اعتَرَض بذلك سعيدُ بن جبير وغيرُه». الثالث: أَنْ يكونَ «مِنْ أولياء» في موضعِ الحالِ. قاله ابن جني إلاَّ أنه قال: «ودَخَلَتْ» مِنْ «زيادةً لمكانِ النفيِ المتقدم، كقولك: ما اتَّخذت زيداً مِنْ وكيل». قلت: فظاهرُ هذا أنه جَعَلَ
465
الجارَّ والمجرورَ في موضعِ الحالِ، وحينئذٍ يَسْتحيلُ أَنْ تكونَ «مِنْ» مزيدةً، ولكنه يريدُ أنَّ هذا المجرورَ هو الحالُ نفسُه و «مِنْ» مزيدةٌ فيه، إلاَّ أنه لا تُحفظ زيادةُ «مِنْ» في الحالِ وإنْ كانَتْ منفيةً، وإنما حُفِظ زيادةُ الباءِ فيها على خلافٍ في ذلك.
وقوله: ﴿أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ﴾ ﴿أَمْ هُمْ ضَلُّوا﴾ إنما قَدَّم الاسمَ على الفعل لمعنىً ذكرْتُه في قولِه تعالى: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: ١١٦].
وقرأ الحَجَّاج «نتخذ مِنْ دونِك [أولياءَ] » فبلغ عاصماً فقال: «مُقِتَ المُخْدِجُ. أَوَ عَلِم أنَّ فيها» مِنْ «؟
قوله: ﴿ولكن مَّتَّعْتَهُمْ﴾ لَمَّا تََضَمَّن كلامُهم أنَّا لم نُضِلَّهم، ولم نَحْمِلْهم على الضلالِ، حَسُن هذا الاستدراكُ وهو أَنْ ذَكَرُوا سبَبَه أي: أَنْعَمْتَ عليهم وتَفَضَّلْتَ فَجَعَلوا ذلك ذَرِيْعةً إلى ضلالهم عكسَ القضية.
قوله: ﴿بُوراً﴾ يجوز فيه وجهان أحدُهما: أنه جمعُ بائرِ كعائذِ وعُوذ. والثاني: أنه مصدرٌ في الأصلِ، فَيَسْتوي فيه المفردُ والمثنى والمجموعُ والمذكرُ والمؤنثُ. وهو مِنْ البَوارِ وهو الهَلاكُ. وقيل: من الفسادِ. وهي لغةٌ للأزد يقولون: / بارَتْ بضاعتُه أي: فَسَدَتْ. وأمرٌ بائِرٌ أي: فاسدٌ. وهذا
466
معنى قولِهم:» كَسَدَتِ البضاعةُ «. وقال الحسن:» وهو مِنْ قولِهم: أرضُ بُوْرٌ أي: لا نباتَ بها. وهذا يَرْجعُ إلى معنى الهلاكِ والفساد «.
467
قوله: ﴿بِمَا تَقُولُونَ﴾ : هذه الجملةُ من كلامِ اللهِ تعالى اتفاقاً، فهي على إضمارِ القولِ والالتفاتِ. قال الزمخشري: «هذه المفاجأةُ بالاحتجاجِ والإِلزامِ حسنةٌ رائعةٌ، وخاصةً إذا انضمَّ إليها الالتفاتُ وحَذْفُ القولِ. ونحُوها قولُه عَزَّ وجَلَّ ﴿يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ [المائدة: ١٩] وقولُ القائل:
٣٤٧٧ - فَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً .......................
٣٤٧٨ - قالوا خُراسانُ أَقْصى ما يُرادُ بنا ثم القُفُوْلُ فقد جِئْنا خُرسانا
انتهى. يريد: أن الأصلَ في الآيةِ الكريمة: فقُلْنا: قد كَذَّبوكم، وفي البيت فقلنا: قد جِئْنا. والخطابُ في» كَذَّبوكم «للكفارِ، فالمعنى: فقد كَذَّبكم المعبودون بما تقولون مِنْ أنَّهم أَضَلُّوكم. وقيل: المعنى: فقد كَذَّبوكم فيما تقولون من الافتراءِ عليهم أنَّهم أَضَلُّوكم وقيل: هو خطابٌ للمؤمنين في الدنيا أي: فقد كَذَّبكم أيَّها المؤمنون الكفارَ بما تقولون من التوحيدِ في الدنيا.
وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت عنه بالياءِ مِنْ تحتُ
467
أي: فقد كَذَّبكم الآلهةُ بما يقولون ﴿سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ﴾ إلى آخِرِه. وقيل: المعنى: فقد كَذَّبكم أيها المؤمنونَ الكفَّارُ بما يقولون من الافتراءِ عليكم.
قوله: ﴿فَمَا تَسْتَطِيعُونَ﴾ قرأ حفص بتاءِ الخطاب والمرادُ عبادُها. والباقون بياءِ الغَيْبة. والمرادُ الآلهةُ التي كانوا يعبُدونها مِنْ عاقلٍ وغيرِه؛ ولذلك غَلَّب العاقَل فجيْءَ بواوِ الضميرِ.
قوله: ﴿نُذِقْهُ﴾ العامَّةُ بنونِ العظمةِ، وقرىء بالياءِ وفي الفاعلِ وجهان، أظهرهُما: أنَّه اللهُ تعالى لدلالةِ قراءةِ العامَّةِ على ذلك. والثاني: أنه ضميرُ الظلمِ المفهومِ من الفعل. وفيه تَجَوُّزُ بإسناد إذاقةِ العذابِ إلى سببِها وهو الظلمُ.
468
قوله: ﴿إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ﴾ : في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ، فقدِّره الزمخشريُّ تابعاً للزجَّاج: «وما أَرْسَلْنا قبلَك أحداً من المرسلين إلاَّ آكلين وماشِين» وإنما حُذِف لمكانِ الجارِّ بعدَه. وقَدَّره ابنُ عطية: «رجالاً أو رُسُلاً». والضميرُ في «إنهم» وما بعدَه عائدٌ على هذا الموصوفِ المحذوفِ. والثاني: أنه لا محلَّ لها من الإِعرابِ، وإنما هي صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ هو المفعولُ لأَرْسَلْنا، تقديرُه: إلاَّ مَنْ إنهم، فالضميرُ في «إنهم» وما بعدَه عائدٌ
468
على معنى «مَنْ» المقدرةِ، وإليه ذهب الفراء. وهو مردودٌ: بأنَّ حَذْفَ الموصولِ لا يجوزُ إلاَّ في مواضعَ تَقَدَّم التنبيهُ عليها في البقرةِ. الثالث: أنَّ الجملةَ محلُّها النصبُ على الحالِ. وإليه ذهب أبو بكر بن الأنباري. قال: التقديرُ: إلاَّ وإنهم، يعني أنَّها حاليةٌ، فقدَّر معها الواوَ بياناً للحالية. ورُدَّ: بكونِ ما بعدَ «إلاَّ» صفةً لِما قبلَها. وقدَّره أبو البقاء أيضاً.
والعامَّةُ على كسرِ «إنَّ» لوجودِ اللامِ في خبرِها، ولكونِ الجملةِ حالاً على الراجحِ. قال أبو البقاء: «وقيل: لو لم تكنِ اللامُ لكُسِرَتْ أيضاً؛ لأنَّ الجملةَ حاليةٌ، إذ المعنى: إلاَّ وهم [يأْكلون» ]. وقُرِىء «أنهم» بالفتح على زيادةِ اللامِ، و «أَنْ» مصدريةٌ. التقدير: إلاَّ لأنَّهم. أي: ما جَعَلْناهم رسلاً إلى الناسِ إلاَّ لكونِهم مِثْلَهم.
وقرأ العامَّةُ «يَمْشُوْن» خفيفةً. وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعبد الله «يُمَشَّوْن» مشدَّداً مبنياً للمفعولِ. أي: تُمَشِّيهم حوائجُهم أو الناسُ. وقرأ [أبو] عبد الرحمن «يُمَشُّون» بالتشديدِ مبنياً للفاعل، وهي بمعنى «يَمْشُون». قال الشاعر:
469
قال الزمخشري: «ولو قُرِىء» يُمَشُّون «لكان أوجهَ، لولا الروايةُ» يعني بالتشديد. قلت: قد قرأ بها السُّلَمِيُّ ولله الحمد.
قوله: ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ المعادِلُ محذوفٌ أي: أم لا تصبرون. وهذه الجملةُ الاستفهاميةُ قال الزمخشري: «موقعُها بعد الفتنةِ موقع» أيُّكم «بعد الابتلاءِ في قولهِ ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ﴾ [الملك: ٢] يعني أنها معلَّقةٌ لِما فيها مِنْ معنى فِعْلِ القلبِ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ على إسقاطِ الخافضِ.
470
قوله: ﴿عُتُوّاً﴾ : مصدرٌ. وقد صَحَّ هنا، وهو الأكثرُ، وأُعِلَّ في سورة مريم في ﴿عِتِيّاً﴾ [الآية: ٨] لمناسبةٍ ذُكِرَتْ هناك وهي تواخي رؤوسِ الفواصلِ.
قوله: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ﴾ : فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ يَدُلُّ عليه قوله: «لا بشرى» أي: يُمْنعون البشرى يومَ يَرَوْن. الثاني: أنه منصوبٌ باذْكُرْ، فيكونُ مفعولاً به. الثالث: أنه منصوبٌ ب «يُعَذَّبون» مقدَّراً. ولا يجوز أَنْ يعملَ فيه نفسُ البشرى/ لوجهين، أحدهما: أنها مصدرٌ، والمصدرُ لا يعملُ فيما قبله. والثاني: أنها منفيةٌ ب «لا»، وما بعدَها لا يَعْمل فيما قبلَها.
قوله: ﴿لاَ بشرى﴾ هذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ أي: يَرَوْنَ الملائكةَ يقولون: لا بشرى، فالقولُ حالٌ من الملائكة. وهو نظيرُ التقديرِ في قولِه
470
تعالى: ﴿وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم﴾ [الرعد: ٢٣]. قال الشيخ: «واحْتَمَلَ» بُشْرَى «أَنْ يكونَ مبنياً مع» لا «، واحْتَمَل أن يكونَ في نيةِ التنوينِ منصوبَ اللفظِ، ومُنِع من الصرفِ للتأنيثِ اللازمِ. فإنْ كان مبنياً مع» لا «احْتَمَلَ أَنْ يكونَ» يومئذٍ «خبراً، و» للمجرمين «خبرٌ بعد خبرٍ، أو نعتاً ل» بشرى «، أو متعلقاً بما تَعَلَّق به الخبرُ، وأَنْ يكونَ» يومئذٍ «صفةً ل» بُشْرَى «، والخبرُ» للمجرمين «ويجيءُ خلافُ سيبويهِ والأخفشِ: هل الخبرُ لنفسِ لا، أو الخبرُ للمبتدأ الذي هو مجموعُ» لا «وما بُني معها؟ وإن كان في نيةِ التنوينِ وهو معربٌ جاز أن يكونَ» يومئذٍ «و» للمجرمين «. خبرين، وجاز أَنْ يكونَ» يومئذٍ «خبراً و» للمجرمين «صفةً. والخبرُ إذا كان الاسمُ ليس مبنيَّاً لنفسِ» لا «بإجماع».
قلت: قوله: «واحْتَمَلَ أَنْ يكونَ في نيةِ التنوينِ» إلى آخره لا يتأتى إلاَّ على قولِ أبي إسحاقَ. وهو أنَّه يرى أنَّ اسمَ «لا» النافيةِ للجنسِ معربٌ، ويَعْتَذِرُ عن حذفِ التنوينِ بكثرةِ الاستعمالِ، ويَسْتَدِلُّ عليه بالرجوعِ إليه في الضرورةِ. ويُنشِد:
٣٤٧٩ - ومشى بأعطانِ المَبَأءَةِ وابتغى قلائِصَ مِنْها صَعْبَةٌ ورَكُوْبُ
471
ويتأَوَّلُه البصريون على إضمار: ألا تَرَوْنَني رجلاً. وكان يمكنُ الشيخُ أنْ يجعلَه معرباً كما ادَّعى بطريق أخرى: وهي أن يَجْعَلَ «بشرَى» عاملةً في «يومَئذٍ» أو في «للمجرمين» فيصيرُ من قبيلِ المُطَوَّل، والمُطوَّلُ معربٌ، لكنه لم يُلِمَّ بذلك. وسيأتي شيءٌ من هذا في كلام أبي البقاء رحمه الله. ويجوز أَن يكونَ «بُشرى» معرباً منصوباً بطريقٍ أخرى. وهي أن تكونَ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ أي: لا يُبَشَّرون بشرى كقولِه تعالى: ﴿لاَ مَرْحَباً بِهِمْ﴾ [ص: ٥٩]، «لا أهلا ولا سهلاً». إلاَّ أنَّ كلامَ الشيخِ لا يمكنُ تنزيلهُ على هذا لقولهِ: «جاز أَنْ يكونَ» يومَئذٍ «و» للمجرمين «خبرين» فقد حكمَ أنَّ لها خبراً.
وإذا جُعِلَتْ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ لا يكون ل «لا» حينئذٍ خبرٌ، لأنها داخلةٌ على ذلك الفعلِ المقدرِ. وهذا موضعٌ حَسَنٌ فتأمَّلْه.
قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ قد تقدَّم من «يومئذٍ» أوجهٌ. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ منصوباً ب «بشرى» قال: «إذا قَدَّرْتَ أنها منونةٌ غيرُ مبنيةٍ مع» لا «ويكونُ الخبرُ» للمجرمين «.
وجَوَّز أيضاً هو والزمخشريُّ أَنْ يكونَ»
يومئذٍ «تكريراً ل» يومَ يَرَوْن «. ورَدَّه الشيخ سواءً أُريد بالتكريرِ التوكيدُ اللفظيُّ أم أريد به البدلُ قال:» لأنَّ
472
يومَ منصوبٌ بما تقدَّم ذِكْرُه مِنْ «اذْكُر»، أو مِنْ يَعْدِمون البشرى. وما بعد «لا» العاملةِ في الاسمِ لا يَعْمَل فيه ما قبلَها. وعلى تقدير ما ذكراه يكون العاملُ فيه ما قبل لا «. قلت: وما رُدَّ به ليس بظاهرٍ؛ وذلك لأنَّ الجملةَ المنفيَّةَ معمولةٌ للقولِ المضمرِ الواقعِ حالاً مِنَ» الملائكة «، والملائكةُ معمولةٌ ل» يَرَوْن «، ويَرَوْن معمولٌ ل» يوم «خفضاً بالإِضافة، ف» لا «وما في حَيِّزها مِنْ تتمةِ الظرفِ الأولِ من حيث إنَّها معمولةٌ لبعضِ ما في حَيِّزِه فليسَتْ بأجنبيةٍ ولا مانعةٍ مِنْ أَنْ يعملَ ما قبلَها فيما بعدَها. والعجبُ له كيف تَخَيَّلَ هذا، وغَفَلَ عَمَّا قُلْتُه فإنه واضحٌ مع التأمُّل؟
و»
للمُجْرمين «مِنْ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضِعَ المضمرِ شهادةً عليهم بذلك. والضميرُ في» يقولون «يجوزُ عَوْدُه للكفارِ و» للملائكة «.
و»
حِجْراً «من المصادرِ المُلْتَزَمِ إضمارُ ناصبها، ولا يُتَصَرَّف فيه. قال سيبويه:» ويقولُ الرجلُ للرجل: أَتفعل كذا؟ فيقول: حِجراً «. وهي مِنْ حَجَره إذا مَنَعَه؛ لأن المستعيذَ طالبٌ من اللهِ أن يمنعَ المكروهَ لا يَلْحَقُه. وكأن المعنى: أسأل اللهَ أَنْ يمنعَه مَنْعاً ويَحْجُرَه حَجْراً.
والعامَّةُ على كسرِ الحاء. والضحاك والحسن وأبو رجاء على ضَمِّها وهو لغةٌ فيه. قال الزمخشري:»
ومجيئُه على فِعْل أو فُعْل في قراءةِ الحسنِ تَصَرُّفٌ فيه لاختصاصِه بموضعٍ واحد، كما كان قَعْدَك وعَمْرك كذلك.
473
وأنشدتُ لبعض الرُجاز:
٣٤٨٠ - أَلا رجلاً جزاهُ اللهُ خيراً ......................
٣٤٨١ - قالَتْ وفيها حَيْدَةٌ وذُعْرُ عَوْذٌ بربِّي منكُمُ وحُجْرُ
وهذا الذي أنشده الزمخشريُّ يقتضي تَصَرُّفَ «حجراً» وقد تقدَّم نصُّ سيبويهِ على أنَّه يلزمُ النصبَ. وحكى أبو البقاءِ فيه لغةً ثالثةً وهي الفتحُ. قال: «وقد قُرِىء بها». فَعَلى هذا كَمَلَ فيه ثلاثُ لغاتٍ مقروءٌ بهنَّ.
ومَحْجُوْراً صفةٌ مؤكَّدةٌ للمعنى كقولهم: ذَيْل ذائِل، ومَوْت مائتِ. والحِجْر: العقلُ لأنه يمنعُ صاحبَه.
474
قوله: ﴿هَبَآءً﴾ : الهَباءُ والهَبْوَة: الترابُ الدقيق قاله ابن عرفة. قال الجوهري: «يُقال منه: هبا يَهْبو إذا ارتفع وَأَهْبَيْتُه أنا إهْباءً». وقال الخليل والزجَّاج: «هو مثلُ الغبارِ الداخلِ في الكُوَّة يتراءَى مع ضوءِ الشمس». وقيل: الهَباء ما تطايَرَ مِنْ شَرَرِ النارِ إذا أُضْرِمَتْ. والواحدةُ هَباءة على حَدّ تَمْر وتمرة. ومَنْثوراً أي مُفَرَّقاً، نَثَرْتُ الشيء: فَرَّقْتُه. والنَّثْرَة:
474
لنجومٍ متفرقة. والنَّثْرُ: الكلامُ غيرُ المنظوم على المقابلةِ بالشعرِ. وفائدةُ الوصفِ به أنَّ الهباءَ تراه منتظماً مع الضوء/ فإذا حَرَّكْتُه تَفَرَّقَ فجِيِْءَ بهذه الصفةِ لتفيدَ ذلك. وقال الزمخشري: «أو مفعولٌ ثالثٌ لجَعَلْناه أي: فَجَعَلْناه جامِعاً لحقارةِ الهَباء والتناثُرِ كقوله تعالى: ﴿كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥] أي: جامعين للمَسْخِ والخَسْءِ». قال الشيخ: «وخالَفَ ابنُ درستويه، فخالف النحويين في مَنْعِه أن يكونَ لكان خبران وأزيدُ، وقياسُ قولِه في» جَعَلَ «أَنْ يمنعَ أن يكونَ لها خبرٌ ثالث». قلت: مقصودُه أنَّ كلامَ الزمخشريِّ مردودٌ قياساً على ما مَنَعَه ابنُ درستويه مِنْ تعديدِ خبر «كان».
475
قوله: ﴿خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ﴾ : في أفْعَل هنا قولان، أحدُهما: أنها على بابِها من التفضيل. والمعنى: أنَّ المؤمنين خيرٌ في الآخرة مستقراً مِنْ مستقرِّ الكفارِ، وأحسنُ مقيلاً مِنْ مَقِيلهم، لو فُرِض أَنْ يكونَ لهم ذلك، أو على أنهم خيرٌ في الآخرةِ منهم في الدنيا. والثاني: أَنْ تكونَ لمجردِ الوصفِ مِنْ غيرِ مفاضلةٍ.
قوله: ﴿وَيَوْمَ تَشَقَّقُ﴾ : العاملُ في «يومَ» : إمَّا اذْكُرْ، وإمَّا: ينفردُ اللهُ بالمُلْك يومَ تَشَقَّقُ، لدلالة قوله: ﴿الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن﴾ [الفرقان: ٢٦] عليه.
وقرأ الكوفيون وأبو عمرو هنا وفي ق «تَشَقَّق» بالتخفيف. والباقون
475
بالتشديدِ. وهما واضحتان. حَذَفَ الأَوَّلون تاءَ المضارعةِ، أو تاءَ التَّفَعُّلِ، على خلافٍ في ذلك. والباقون أَدْغموا تاء التَفَعُّل في الشين لِما بينهما من المقاربَةِ، وهما «كَتَظَاهَرون وتَظَّاهرون» حَذْفاً وإدغاماً. وقد مضى في البقرة.
قوله: ﴿بالغمام﴾ في هذه الباء ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: على السببيَّة أي: بسببِ الغَمام، يعني بسببِ طُلوعِه منها. ونحو ﴿السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ﴾ [المزمل: ١٨] كأنَّه الذي تَنْشَقُّ به السماءُ. الثاني: أنها للحالِ أي: ملتبسَةً بالغَمام. الثالث: أنها بمعنى عَنْ أي: عن الغمامِ كقوله: ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ﴾ [ق: ٤٤].
قوله: ﴿وَنُزِّلَ الملائكة﴾ فيها اثنتا عشرة قراءة: ثِنْتان في المتواتِر، وعشرٌ في الشاذ. فقرأ ابن كثير من السبعة «ونُنْزِلُ» بنونِ مضمومةٍ ثم أُخْرى ساكنةٍ وزايٍ خفيفةٍ مكسورةٍ مضارعَ «أَنْزَلَ»، و «الملائكةَ بالنصبِ مفعولٌ به. وكان من حَقِّ المصدرِ أَنْ يجيءَ بعد هذه القراءةِ على إنْزال. قال أبو علي:» لَمَّا كان أَنْزَل ونَزَّل يَجْريان مَجْرىً واحِداً، أجرى مصدرَ أحدِهما على مصدرِ الآخر: وأنشدَ:
٣٤٨٢ - وقد تَطَوَّيْتُ انْطِواءَ الحِضْبِ...
476
لأنَّ تَطَوَّيْتُ وانْطَوَيْتُ بمعنىً «. قلت: ومثلُه ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ [المزمل: ٨] أي: تَبَتُّلاً. وقرأ الباقون من السبعةِ» ونُزِّل «بضمِّ النون وكسرِ الزاي المشدَّدةِ وفتحِ اللامِ، ماضياً مبنياً للمفعول.» الملائكةُ «بالرفعِ لقيامةِ مقامَ الفاعلِ. وهي موافقةٌ لمصدرِها.
وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء»
ونَزَّلَ «بالتشديد ماضياً مبنياً للفاعلِ، وهو الله تعالى،» الملائكةَ «مفعولٌ به. وعنه أيضاً» وأَنْزَل «مبنياً للفاعلِ عَدَّاه بالتضعيفِ مرةً، وبالهمزة أخرى. والاعتذارُ عن مجيء مصدرِه على التفعيلِ كالاعتذارِ عن ابنِ كثير. وعنه أيضاً» وأُنْزِل «مبنياً للمفعولِ.
وقرأ هارون عن أبي عمرٍو»
وتُنَزِّل الملائكةُ «بالتاء من فوق وتشديدِ الزايِ ورفعِ اللام مضارعاً مبنياً للفاعل،» الملائكةُ «بالرفعِ، مضارعَ نَزَّل بالتشديد، وعلى هذه القراءةِ فالمفعولُ محذوفٌ أي: وتُنَزِّل الملائكةُ ما أُمِرَتْ أَنْ تُنَزِّلَه.
وقرأ الخَفَّاف عنه، وجناح بن حبيش»
ونَزَل «مخففاً مبنياً للفاعلِ» الملائكةُ «بالرفع. وخارجة عن أبي عمرٍو أيضاً وأبو معاذ» ونُزِّلُ «بضم النون وتشديدِ الزاي ونصب» الملائكةَ «. والأصل: ونُنَزِّلُ بنونين حُذِفَتْ إحداهما.
وقرأ أبو عمرٍو وابنُ كثير في روايةٍ عنهما بهذا الأصلِ»
ونُنَزِّل «بنونين وتشديدِ الزايِ. وقرأ أُبَيُّ و» نُزِّلَتْ «بالتشديدِ مبنياً للمفعولِ. و» تَنَزَّلَتْ «بزيادةِ تاءٍ في أولهِ، وتاءِ التأنيث فيهما.
477
وقرأ أبو عمرٍو في طريقةِ الخَفَّاف عنه «ونُزِلَ» بضمِّ النون وكسرِ الزايِ خفيفةَ مبنياً للمفعول، قال صاحب اللوامح: «فإنْ صَحَّتِ القراءةُ فإنَّه حُذِفَ منها المضافُ وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه، تقديره: ونُزِل نزولُ الملائكةِ، فحُذِفَ النزولُ، ونُقِل إعرابُه إلى الملائكة. بمعنى: نُزِل نازلُ الملائكةِ؛ لأنَّ المصدرَ يجيءُ بمعنى الاسمِ. وهذا ممَّا يجيءُّ على مذهب سيبويهِ/ في ترتيب بناءِ اللازمِ للمفعولِ به؛ لأنَّ الفعلَ يَدُلُّ على مصدره»، قلت: وهذا تَمَحُّلٌ كثيرٌ دَعَتْ إليه ضرورةُ الصناعةِ، وقال ابن جني: «وهذا غيرُ معروفٍ؛ لأنَّ نَزَلَ لا يتعدى إلى مفعولٍ فيبنى هنا للملائكة. ووجهُه: أَْنْ يكونَ مثل: زُكِم الرجلُ وجُنَّ، فإنه لا يُقال: إلاَّ: أَزْكمه وأَجَنَّه الله، وهذا بابُ سماعٍ لا قياسٍ». قلت: ونظيرُ هذه القراءة ما تقدَّم في سورة الكهفِ في قراءةِ مَنْ قرأ ﴿فَلاَ يقوم له يَوْمَ القيامة وَزْناً﴾ [الآية: ١٠٥] بنصب «وَزْناً» من حيث تَعْدِيَةُ القاصرِ وتَقَدَّم ما فيها.
478
قوله: ﴿الملك يَوْمَئِذٍ﴾ : فيه ِأوجهٌ، أحدها: أن يكونَ «المُلْكُ» مبتدأً، والخبر: «الحق»، و «يومئذٍ» متعلِّقٌ بالمُلْك. و «للرحمن» متعلقٌ بالحق، أو بمحذوفٍ على التبيين، أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ للحق. الثاني: أنَّ الخبرَ «يومئذٍ»، و «الحقُّ» نعتٌ للمُلْك. و «للرحمن» على ما تقدَّم. الثالث: أنَّ الخبرَ «للرحمن» و «يومئذٍ» متعلقٌ بالمُلْك، و «الحقُّ» نعتٌ للمُلك.
قوله: ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ﴾ : معمولٌ لمحذوفٍ، أو معطوفٌ على «يومَ تَشَقَّقُ». و «يَعَضُّ» مضارعُ عَضَّ، ووزنُه فَعِل بكسرِ العينِ، بدليلِ
478
قولِهم: عَضِضْتُ أَعَضُّ، وحكى الكسائيُّ فتحَها في الماضي، فعلى هذا يُقال: أَعِضُّ بالكسر في المضارع. والعَضُّ هنا كنايةٌ عن شدَّةِ اللزومِ. ومثله: حَرَقَ نابَه، قال:
٣٤٨٣ - أبى الضَّيْمَ والنُّعمانُ يَحْرِقُ نابَه عليه فأفضى والسيوفُ مَعاقِلُهْ
وهذه الكنايةُ أبلغُ من تصريحِ المكنى عنه. وأَلْ في «الظالم» تحتملُ العهدَ، والجنسَ، على حَسَبِ الخلافِ في ذلك.
قوله: ﴿يَقُولُ﴾ هذه الجملةُ حال مِنْ فاعل «يَعَضُّ». وجملةُ التمنِّي بعد القولِ مَحْكيَّةٌ به. وتقدَّم الكلامُ في مباشرة «يا» ل «ليت» في النساء.
وفلانٌ كنايةٌ عن عَلَمِ مَنْ يَعْقِل وهو منصرفٌ، وفُلُ كنايةٌ عن نكرةِ مَنْ يَعْقِل من الذكور، وفُلَةُ عَمَّن يَعْقِلُ من الإِناثِ، والفلانُ والفلانةُ بالألف واللام عن غير العاقلِ. ويختصُّ فُلُ وفُلَةُ بالنداءِ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله:
479
ابنَ عصفورِ وابنَ مالك وابن العلج وَهِمُوا في جَعْلهم «فُلُ» كنايةً عن عَلَم مَنْ يَعْقِلُ كفُلان. ولامُ فُل وفلان فيها وجهان، أحدهما: أنها واوٌ. والثاني: أنها ياءٌ، وقرأ الحسن «يا ويلتي» بكسرِ التاء وياءٍ صريحةٍ بعدها، وهي الأصلُ، وقرأ الدُّوريُّ بالإِمالة، قال أبو عليّ: «وتَرْكُ الإِمالةِ أحسنُ؛ لأنَّ أصلَ هذه اللفظةِ الياءُ، فبُدِّلت الكسرةُ فتحةً، والياءُ ألفاً؛ فِراراً من الياءِ. فَمَنْ أمال رَجَعَ إلى الذي منه فَرَّ أولاً» قلت: وهذا منقوضٌ بنحو «باع» فإنَّ أصلَه الياءُ ومع ذلك أمالوا، وقد أمالُوا ﴿يا حسرتى عَلَى مَا فَرَّطَتُ﴾ [الزمر: ٥٦] و ﴿يَا أَسَفَى﴾ [يوسف: ٨٤] وهما ك «يا ويلتى» في كونِ ألفِهما عن ياءِ المتكلم.
480
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧:قوله :﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ ﴾ : معمولٌ لمحذوفٍ، أو معطوفٌ على " يومَ تَشَقَّقُ ". و " يَعَضُّ " مضارعُ عَضَّ، ووزنُه فَعِل بكسرِ العينِ، بدليلِ قولِهم : عَضِضْتُ أَعَضُّ، وحكى الكسائيُّ فتحَها في الماضي، فعلى هذا يُقال : أَعِضُّ بالكسر في المضارع. والعَضُّ هنا كنايةٌ عن شدَّةِ اللزومِ. ومثله : حَرَقَ نابَه، قال :
٣٤٨٤ - في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاناً عن فُلِ وليس «فُلُ» مُرَخَّماً من فلان خلافاً للفراء، وزعم الشيخ أنَّ
أبى الضَّيْمَ والنُّعمانُ يَحْرِقُ نابَه عليه فأَفْضَى والسيوفُ مَعاقِلُهْ
وهذه الكنايةُ أبلغُ من تصريحِ المُكْنَى عنه. وأَلْ في " الظالم " تحتملُ العهدَ، والجنسَ، على حَسَبِ الخلافِ في ذلك.
قوله :﴿ يَقُولُ ﴾ هذه الجملةُ حال مِنْ فاعل " يَعَضُّ ". وجملةُ التمنِّي بعد القولِ مَحْكيَّةٌ به. وتقدَّم الكلامُ في مباشرة " يا " ل " ليت " في النساء.
وفلانٌ كنايةٌ عن عَلَمِ مَنْ يَعْقِل وهو منصرفٌ، وفُلُ كنايةٌ عن نكرةِ مَنْ يَعْقِل من الذكور، وفُلَةُ عَمَّن يَعْقِلُ من الإِناثِ، والفلانُ والفلانةُ بالألف واللام عن غير العاقلِ. ويختصُّ فُلُ وفُلَةُ بالنداءِ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله :
في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلاناً عن فُلِ ***
وليس " فُلُ " مُرَخَّماً من فلان خلافاً للفراء، وزعم الشيخ أنَّ ابنَ عصفورِ وابنَ مالك وابن العلج وَهِمُوا في جَعْلهم " فُلُ " كنايةً عن عَلَم مَنْ يَعْقِلُ كفُلان. ولامُ فُل وفلان فيها وجهان، أحدهما : أنها واوٌ. والثاني : أنها ياءٌ، وقرأ الحسن " يا ويلتي " بكسرِ التاء وياءٍ صريحةٍ بعدها، وهي الأصلُ، وقرأ الدُّوريُّ بالإِمالة، قال أبو عليّ :" وتَرْكُ الإِمالةِ أحسنُ ؛ لأنَّ أصلَ هذه اللفظةِ الياءُ، فبُدِّلت الكسرةُ فتحةً، والياءُ ألفاً ؛ فِراراً من الياءِ. فَمَنْ أمال رَجَعَ إلى الذي منه فَرَّ أولاً " قلت : وهذا منقوضٌ بنحو " باع " فإنَّ أصلَه الياءُ ومع ذلك أمالوا، وقد أمالُوا ﴿ يا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطَتُ ﴾ [ الزمر : ٥٦ ] و ﴿ يَا أَسَفَى ﴾ [ يوسف : ٨٤ ] وهما ك " يا ويلَتى " في كونِ ألفِهما عن ياءِ المتكلم.
قوله: ﴿وَكَانَ الشيطان﴾ : يُحتمل أَنْ تكونَ هذه الجملةُ من مقولِ الظالمِ، فتكونُ منصوبةَ المحلِّ بالقولِ، وأَنْ تكونَ من مقولِ الباري تعالى: فلا مَحَلَّ لها لاستئنافِها.
قوله: ﴿مَهْجُوراً﴾ : مفعولٌ ثانٍ ل «اتَّخَذُوا» أو حال. وهو مفعولٌ مِنْ الهَجْرِ بفتحِ الهاءِ وهو التَّرْكُ والبُعْدُ. أي: جعلوه متروكاً بعيداً.
480
وقيل: هو من الهُجْر بالضم أي: مهجوراً فيه، حيث يقولون فيه: إنه شِعْرٌ وأساطيرُ، وجَعَل الزمخشري مفعولاً هنا مصدراً بمعنى الهَجْر قال: «كالمَجْلود والمَعْقُول». قلت: وهو غيرُ مَقيسٍ، ضَبَطَه أهلُ اللغةِ في أًُلَيْفاظٍ فلا تتعدى إلاَّ بنَقْلٍ.
481
قوله: ﴿هَادِياً﴾ : حالٌ أو تمييزٌ. وقد تقدَّم إعرابُ مثلِ هذه الجملةِ.
قوله: ﴿جُمْلَةً﴾ : حالٌ من القرآن، إذ هي في معنى مُجْتمعاً.
قوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ إمَّا مرفوعةٌ المَحَلِّ أي: الأمرُ كذلك. و «لِنُثَبِّتَ» علةٌ لمحذوفٍ أي: لِنُثَبِّتَ فَعَلْنا ذلك. وإمَّا منصوبتُه على الحالِ أي: أنزل مثلَ ذلك، أو على النعت لمصدر محذوفٍ، و «لِنُثَبِّتَ» متعلقٌ بذلك الفعلِ المحذوفِ. وقال أبو حاتمٍ: «هي جوابُ قسمٍ» وهذا قولٌ مرجُوْحٌ نحا إليه الأخفش وجَعَلَ منه «ولتصغى»، وقد تقدَّم في الأنعام.
وقرأ عبد الله «لِيُثَبِّتَ» بالياءِ أي: اللهُ تعالى.
والتَّرْتيل: التفريقُ. ومجيءُ الكلمةِ بعد الأخرى بسكونٍ يسيرٍ دونَ قَطْع النَّفَسِ. ومنه ثَغْرٌ رَتْلٌ ومُرَتَّل أي: مُفَلَّجُ الأسنان، بين أسنانِه فُرَجٌ يسيرةٌ.
481
قال الزمخشري: «ونُزِّل هنا بمعنى: أَنْزَل لا غير ك خَبَّر بمعنى أَخْبر، وإلاَّ تدافَعا» يعني أنَّ «نَزَّلَ» بالتشديدِ يقتضي بالأصالةِ التنجيمَ والتفريق، فلو لم يُجْعَلْ بمعنى أنزل الذي لا يقتضي ذلك لتدافعَ مع قولِه «جُمْلَةً» لأنَّ الجملةَ تُنَافي التفريقَ، وهذا بناءً منه على معتقدِه وهو أنَّ التضعيفَ يَدُلُّ على التفريقِ. وقد نَصَّ على ذلك في مواضعَ من كتابة «الكشاف». وتقدَّم ذلك في البقرةِ وأولِ آل عمران وآخرِ الإِسراء، وحكى هناك عن ابنِ عباس ما يُقَوِّي ظاهرُه صحتَه.
482
قوله: ﴿إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق﴾ هذا الاستثناءُ مفرَّغٌ. والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: لا يَأْتُونك بمَثَلٍ إلاَّ في حالِ إتيانِنا إياك كذا. والمعنى: ولا يَأْتُونك بسؤالٍ عجيبٍ إلاَّ جِئْناك بالأمرِ الحقِّ. و «تَفْسيراً» تمييزٌ، والمفضلُ عليه محذوفٌ أي: تفسيراً مِنْ مِثْلِهم.
قوله: ﴿الذين يُحْشَرُونَ﴾ : يجوز رفعُه خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هم الذين. ويجوزُ نصبُه على الذمِّ، ويجوز أن يرتفعَ بالابتداءِ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه ﴿أولئك شَرٌّ مَّكَاناً﴾. ويجوز أَنْ يكونَ «أولئك» بدلاً من أو بياناً للموصول، و «شَرٌّ مكاناً» خبر الموصول.
قوله: ﴿هَارُونَ﴾ : بدلٌ أو بيانٌ، أو منصوبٌ على القطع. و «وزيراً» مفعولٌ ثانٍ، وقيل: حالٌ، والمفعولُ الثاني قوله: «معه».
قوله: ﴿فَدَمَّرْنَاهُمْ﴾ : العامَّةُ على «فَدَمَّرْنا» فعلاً ماضياً معطوفاً على محذوفٍ أي: فَذَهبا فكذَّبُوهما فدَمَّرْناهم. وقرأ عليٌّ كرَّم اللهُ
482
وجهَه «فَدَمِّراهم» أمراً لموسى وهارون. وعنه أيضاً «فَدَمِّرانِّهم» كذلك أيضاً، ولكنه مؤكَّدٌ بالنونِ الشديدةِ. وعنه أيضاً: «فدَمِّرا بهم» بزيادةِ باءِ الجر بعد فعلِ الأمرِ، وهي تُشْبِهُ القراءةَ قبلَها في الخَط. ونَقَلَ عنه الزمخشري «فَدَمَّرْتُهم» بتاءٍ المتكلِّمِ.
483
قوله: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ﴾ : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً، عطفاً على مَفْعول «دَمَّرْناهم». ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره قولُه «أغْرَقْناهم». ويُرَجَّح هذا بتقدُّم جملةٍ فعليةٍ قبلَه. هذا إذا قُلنا: إنَّ «لَمَّا» ظرفُ زمانٍ، وأمَّا إذا قُلْنا إنَّها حرفُ وجوبٍ لوجوبٍ فلا يتأتى ذلك؛ لأنَّ «أَغْرقناهم» حينئذٍ جوابٌ «لَمَّا»، وجوابُها لا يُفَسِّر، ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ لا على سبيلِ الاشتغالِ، أي: اذكرْ قومَ نوحٍ.
قوله: ﴿وَعَاداً﴾ : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أَنْ يكونَ معطوفاً على قومِ نوح، وأنْ يكونَ معطوفاً على مفعولِ «جَعَلْناهم»، وأَنْ يكونَ معطوفاً على محلِّ «للظالمين» لأنَّه في قوةِ: وَعَدْنا الظالمين بعذابٍ.
قوله: ﴿وَأَصْحَابَ الرس﴾ فيه وجهان، أحدهما: من عَطْفِ المغايِرِ. وهو الظاهرُ. والثاني: أنَّه من عطفِ بعضِ الصفاتِ على بعضٍ. والمرادُ بأصحابِ الرِّسِّ ثمودُ؛ لأنَّ الرَّسَّ البِئْرُ التي لم تُطْوَ، عن أبي عبيد، وثمودُ أصحابُ آبار. وقيل: الرَّسُ نهرٌ بالمشرق، ويقال: إنهم أناسٌ عبدةُ أصنامٍ قَتَلوا نبيَّهم، ورسَوْه في بئرٍ أي: دَسُّوه فيها.
483
قوله: ﴿بَيْنَ ذَلِكَ﴾ «ذلك» إشارةٌ إلى مَنْ تقدَّم ذكرُه، وهم جماعاتٌ، فلذلك حَسُنَ «بين» عليه.
484
قوله: ﴿وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال﴾ : يجوزُ نصبُه بفعلٍ يفسِّره ما بعده أي: وحَذَّرْنا أو ذكَّرْنا، لأنهما في معنى: ضَرَبْنا له الأمثالَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على ما تقدَّم، و «ضَرَبْنا» بيانٌ لسببِ إهْلاكهم. وأمَّا «كلاً» الثانيةُ فمفعولٌ مقدمٌ.
قوله: ﴿مَطَرَ السوء﴾ : فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنه مصدرٌ على حَذْفِ الزوائدِ أي: إمْطار السَّوْء. الثاني: أنه مفعولٌ ثانٍ؛ إذ المعنى: أعطيتُها وأَوْلَيْتُها مطرَ السَّوْء. الثالث: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: إمطاراً مثلَ مطرِ السَّوْء.
وقرأ: زيد بن علي «مُطِرَت» ثلاثياً مبنياً للمفعولِ و «مَطَرَ» متعدٍ قال:
٣٤٨٥ -....................... كَمَنْ بِوادِيْه بعد المَحْلِ مَمْطورِ
وقرأ أبو السَّمَّال «مَطَرَ السُّوء». بضم السين. وقد تقدَّم الكلامُ على السُّوء والسَّوْء في براءة.
484
وقوله: ﴿أَتَوْا عَلَى القرية﴾ إنما عدى «أتى» ب «على» لأنه ضُمِّنَ معنى «مَرَّ».
485
قوله: ﴿إِن يَتَّخِذُونَكَ﴾ :«إنْ» نافيةٌ و «هُزُواً» مفعولٌ ثانٍ، ويحتمل أَنْ يكونَ التقديرُ: موضعَ هُزْء، وأَنْ يكونَ مَهْزُوَّاً بك. وهذه الجملةُ المنفيةُ تحتمل وجهين، أحدهما: أنها جوابُ الشرطية. واختصَّت «إذا» بأنَّ جوابها متى كان منفياً ب «ما» أو «إنْ» أو «لا»، لا يَحْتاج إلى الفاءِ، بخلافِ غيرِها مِنْ ِأدواتِ الشرط. فعلى هذا يكون قولُه: «أهذا الذي» في محلِّ نصبٍ بالقولِ المضمرِ. وذلك القولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: إنْ يَتَّخذونك قائلين ذلك. والثاني: أنَّها جملةٌ معترضةً بين «إذا» وجوابِها، وجوابُها: هو ذلك القولُ المضمرُ المَحْكيُّ به «أهذا الذي» والتقديرُ: وإذا رَأَوْك قالوا: أهذا الذي بعثَ، فاعترض بجملة النفي. ومفعولُ «بَعَثَ» محذوفٌ هو عائدٌ الموصولِ أي: بَعَثَه. و «رسولاً» على بابِه من كونِه صفةً فينتصبُ على الحالِ. وقيل هو مصدرٌ/ بمعنى رِسالة فيكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا رسولٍ، بمعنى: ذا رسالة، أو يُجْعَلُ نفسَ المصدرِ مبالغةً، أو بمعنى مُرْسَل. وهو تكلُّف.
قوله: ﴿إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا﴾ : قد تقدَّم نظيرُه في «سبحان».
قوله: ﴿لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا﴾ جوابُها محذوفٌ أي: لضَلَلْنا عن آلهتِنا، قال الزمخشري: «ولولا في مثلِ هذا الكلامِ جارٍ من حيث المعنى لا من حيث الصنعةُ مَجْرى التقييدِ للحكمِ المطلقِ».
485
قوله: ﴿مَنْ أَضَلُّ﴾ جملةُ الاستفهامِ معلِّقةٌ ل «يَعْلمون»، فهي سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْها إنْ كانَتْ على بابِها، ومَسَدَّ واحدٍ إنْ كانَتْ بمعنى عَرَفَ. ويجوزُ في «مَنْ» أَنْ تكنَ موصولةً. و «أَضَلُّ» خبرُ مبتدأ مضمرٍ، هو العائدُ على «مَنْ» تقديرُه: مَنْ هو أضلُّ. وإنما حُذِفَ للاستطالةِ بالتمييزِ كقولِهم: «ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً»، وهذا ظاهرٌ إن كانَتْ متعديةً لواحد، وإنْ كانَتْ متعديةً لاثنين فتحتاجُ إلى تقديرٍ ثانٍ ولا حاجةَ إليه.
486
قوله: ﴿مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ﴾ مفعولا الاتِّخاذِ مِنْ غيرِ تقديمٍ ولا تأخيرٍ لاستوائِهما في التعريفِ، وقال الزمخشري: «فإن قلتَ: لِمَ أَخَّر» هواه «والأصلُ قولُك: اتَّخذ الهوى إلَهاً» ؟ قلت: ما هو إلاَّ تقديمُ المفعولِ الثاني على الأولِ للعنايةِ به، كما تقولُ «عَلِمْتُ منطلقاً زيداً» لفضلِ عنايتِك بالمنطَلقِ «. قال الشيخ:» وادِّعاءُ القلبِ يعني التقديمَ ليس بجيدٍ لأنَّه من ضرائرِ الأشعارِ «. قلت: قد تقدَّم فيه ثلاثةُ مذاهبَ. على أنَّ هذا ليس من القلبِ المذكورِ في شيء، إنما هو تقديمٌ وتأخيرٌ فقط.
وقرأ ابن هرمز»
إلاهَةً هواه «على وزن فِعالة. والإَهة بمعنى: المألوه، والهاءُ للمبالغةِ كعلاَّمَة ونسَّابة. وإلاهَةً مفعولٌ ثانٍ قُدِّم لكونِه نكرةً، ولذلك صُرِفَ. وقيل: الإَهَةً هي الشمسُ. ورُدَّ هذا: بأنَّه كان ينبغي أن يمتنعَ من الصرفِ للعلميةِ والتأنيث. وأُجيب بأنها تدخُل عليها أل كثيراً فلمَّا نُزِعَتْ منها صارَتْ نكرةً جاريةً مجرى الأوصافِ. ويُقال: أُلاهَة بضمِّ الهمزةِ أيضاً اسماً للشمس.
486
وقرأ بعضُ المدنيين» آلهةً هواه «جمع إلَه، وهو أيضاً مفعولٌ مقدَّمٌ، وجمُِع باعتبارِ الأنواعِ، فقد كان الرجلُ يعبُدُ آلهةً شَتى. ومفعولُ» أرأيتَ «الأولِ» مَنْ «، والثاني: الجملةُ الاستفهاميةُ.
487
قوله: ﴿كَيْفَ﴾ : منصوبةٌ ب «مَدَّ» وهي مُعَلِّقَةٌ ل «تَر» فهي في موضعِ نصبٍ وقد تقدَّم القولُ في «ألم تَرَ».
قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا﴾ قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ:» ثم «في هذين الموضعين كيف موقعُها؟ قلت: موقعُها لبيانِ تَفاضُلِ الأمورِ الثلاثةِ، كأنَّ الثاني أعظمُ من الأولِ، والثالثَ أعظمُ منهما تشبيهاً؛ لتباعُدِ ما بينها في الفَضْلِ بتباعُدِ ما بينها في الوقتِ».
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٥:قوله :﴿ كَيْفَ ﴾ : منصوبةٌ ب " مَدَّ " وهي مُعَلِّقَةٌ ل " تَر " فهي في موضعِ نصبٍ وقد تقدَّم القولُ في " ألم تَرَ ".
قوله :﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا ﴾ قال الزمخشري :" فإنْ قلتَ :" ثم " في هذين الموضعين كيف موقعُها ؟ قلت : موقعُها لبيانِ تَفاضُلِ الأمورِ الثلاثةِ، كأنَّ الثاني أعظمُ من الأولِ، والثالثَ أعظمُ منهما تشبيهاً ؛ لتباعُدِ ما بينها في الفَضْلِ بتباعُدِ ما بينها في الوقتِ ".

قوله: ﴿لِّنُحْيِيَ بِهِ﴾ : فيه وجهان أظهرُهما: أنَّه متعلقٌ بالإِنزالَ. والثاني: وهو ضعيفٌ أنَّه متعلقٌ ب «طَهورٍ». وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: إنزالُ الماءِ موصوفاً بالطهارة، وتعليلُه بالإِحياءِ والسَّقْيِ يُؤْذِنُ بأنَّ الطهارةَ شرطٌ في صحةِ ذلك كما تقول:» حَمَلني الأميرُ على فَرَس جوادٍ لأَصِيْدَ عليه الوحشَ «، قلت: لَمَّا كان سَقْيُ الأناسيِّ مِنْ جملة ما أُنْزِل له الماءُ وُصِفَ بالطهارة إكراماً لهم وتَتْميماً للمِنَّةِ عليهم».
و «طَهُور» يجوز أَنْ يكونَ صفةَ مبالغةٍ منقولاً من طاهر كقوله تعالى: ﴿شَرَاباً طَهُوراً﴾ [الإنسان: ٢١]، وقال:
487
٣٤٨٦ - إلى رُجَّح الأَكْفالِ غِيْدٍ من الصِّبا عِذابِ الثَّنايا رِيْقُهُنَّ طَهُوْرُ
وأَنْ يكونَ اسمَ ما يُتَطَهَّرُ به كالسَّحُور، وأَنْ يكونَ مصدراً كالقَبول والوَلُوع. ووصفُ «بَلْدةً» ب «مَيْت» وهي صفةٌ للمذكورِ لأنها بمعنى البلد.
قوله: ﴿وَنُسْقِيَهِ﴾ العامَّةُ على ضمِّ النونِ. وقرأ أبو عمرو وعاصم في روايةٍ عنهما وأبو حيوة وابنُ أبي عبلة بفتحها. وقد تقدم أنه قُرىء بذلك في النحل والمؤمنين. وتقدم كلامُ الناسِ عليهما.
قوله: ﴿مِمَّا خَلَقْنَآ﴾ يجوز أن تَتَعلَّقَ ب «نُسْقيه»، وهي لابتداء الغاية. ويجوزُ أن تَتَعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ مِنْ «أنعاماً». ونُكِّرَتِ الأنعام والأناسيّ: قال الزمخشري: «لأنَّ عليَّةَ الناسِ وجُلَّهم مُنيخون بالأودية والأنهارِ، فبهم غُنْيَةٌ عن سقْي الماء، وأعقابُهم وهم كثيرٌ منهم لا يُعَيِّشهم إلاَّ ما يُنْزِلُ اللهُ مِنْ رحمتِه وسُقْيا سمائِه».
قوله: ﴿وَأَنَاسِيَّ﴾ فيه وجهان، أحدهما: وهو مذهبُ سيبويه أنَّه جمعُ
488
إنسان. والأصلُ: إنسان وأنَاسين، فَأُبْدِلَتِ النونُ ياءً وأُدْغم فيها الياءُ قبلَها، ونحوَ ظِرْبانِ وظَرابِيّ. والثاني: وهو قولُ الفراء والمبرد والزجَّاج أنه جمع إنْسِيّ. وفيه نظرٌ لأنَّ فَعالِيّ إنما يكونُ جمعاً لِما فيه ياءٌ مشددةٌ لا تدلُّ على نَسَبٍ نحو: كُرْسِيّ وكَرَاسيّ. / فلو أُريد ب كرسيّ النسبُ لم يَجُزْ جمعُه على كراسيّ. ويَبْعُدُ أَنْ يُقالَ: إن الياءَ في إِنْسِي ليست للنسبِ وكان حقُّه أَنْ يُجْمَعَ على أَناسِية نحو: مَهالبة في المُهَلَّبي وأَزارِقة في الأَزْرقي.
وقرأ يحيى بن الحارث الذِّماري والكسائي في رواية «وأناسِيَ» بتخفيف الياء. قال الزمخشري: «بحذفِ ياءِ أفاعيل كقولك: أناعِم في أناعِيم». وقال: «فإنْ قلت لِمَ قَدَّمَ إحياءَ الأرضِ وسَقْيَ الأنعامِ على سَقْي الأناسي. قلت: لأن حياةَ الأناسيِّ بحياةِ أرضِهم وحياةِ أنعامهم، فقدَّم ما هو سببُ حياتِهم، ولأنَّهم إذا ظَفِروا بسُقيْا أرضِهم وسَقْيِ أنعامِهم لم يَعْدِموا سُقْياهم».
489
قوله: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ﴾ : يجوزُ أَنْ تعودَ الهاءُ على القرآن، وأن تعودَ على الماءِ أي: صَرَّفنا نُزولَه مِنْ وابِل وَطلّ وجَوْد ورَذاذ وغيرِ ذلك. وقرأ عكرمة «صَرَفْناه» بتخفيف الراء.
قوله: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ﴾ : أي بالقرآن، أو بتركِ الطاعةِ المدلولِ عليها بقولهِ ﴿فَلاَ تُطِعِ﴾، أو بما دَلَّ عليه ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً﴾ مِنْ كونِه نذيرَ كافةِ القُرى أو بالسيف.
قوله: ﴿مَرَجَ البحرين﴾ : في مَرَجَ قولان، أحدهما: بمعنى: خَلَطَ ومَرَجَ، ومنه مَرَجَ الأمرُ أي: اختلط قاله ابن عرفة. وقيل: مَرَجَ: أجرى. وأَمْرَجَ لغةٌ فيه. قيل: مَرَجَ لغةُ الحجاز، وأَمْرَجَ لغةُ نجدٍ. وفي كلامِ بعضِ الفصحاء: «بَحْران أحدُهما بالآخرِ ممروجٌ، وماءُ العذب منهما بالأُجاج ممروج».
قوله: ﴿هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ هذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها مستأنفةٌ، جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ. كأنَّ قائلاً قال: كيف مرْجُهما؟ فقيل: هذا عَذْبٌ وهذا مِلْحٌ. ويجوز على ضَعْفٍ أن تكونَ حاليةً. والفُراتُ المبالِغُ في الحلاوةِ. والتاءُ فيه أصليةٌ لامُ الكلمةُ. ووزنُه فُعال، وبعضُ العربِ يقفُ عليها هاءً. وهذا كما تقدَّم لنا في التابوت. ويُقال: سُمِّي الماءُ الحُلْوُ فُراتاً؛ لأنه يَفْرُتُ العطشَ أي: يَشُقُّه ويَقْطَعُه. والأُجاج: المبالِغُ في الملُوحة. وقيل: في الحرارةِ. وقيل: في المَرارة، وهذا من أحسنِ المقابلةِ، وحيث قال تعالى عَذْبٌ فُراتٌ ومِلْحٌ أُجاجٌ. وأنشدْتُ لبعضهم:
490
ما أحسنَ ما كنى عن دَمْعِه بالأجاج، وعن المبكيِّ عليه بالعذب الفُراتِ، وكان سببَ إنشادِي هذين البيتين أنَّ بعضَهم لحَّن قائلَهما في قولِه «عُراتا» : كيف يَقِفُ على تاءِ التأنيث المنونة بالألفِ؟ فقلت: إنها لغةٌ مستفيضةٌ يَجْعلون التاءَ كغيرِها فيُبْدلون تنوينَها بعد الفتحِ ألفاً. حَكَوْا عنهم. أكلْتُ تَمْرَتا، نحو: أكلْتُ زَيْتا.
وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي «مَلِحٌ» بفتح الميم وكسرِ اللام، وكذا في سورة فاطر، وهو مقصورٌ مِنْ مالح، كقولهم: بَرِد في بارد قال:
٣٤٨٨ - وصِلِّيانا بَرِدا... وماء مالح لغةٌ شاذةٌ. وقال أبو حاتم: «وهذه قراءةٌ مُنْكَرَةٌ».
قوله: ﴿وَحِجْراً مَّحْجُوراً﴾ : الظاهرُ عطفُه على «بَرْزَخاً». وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: حِجراً مَحْجُوراً ما معناه؟ قلت: هي الكلمةُ التي يَقُولُها المتعوِّذُ، وقد فَسَّرناها، وهي هنا واقعةٌ على سبيلِ المجازِ. كأنَّ كلَّ واحدٍ من البحرَيْن يقول لصاحبِه: حِجْراً مَحْجُوراً، وهي من أحسنِ الاستعاراتِ»، فعلى ما قالَه يكونُ منصوباً بقولٍ مضمرٍ.
قوله: ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً﴾ يجوزُ أَنْ يكونَ الظرفُ متعلِّقاً بالجَعْل، وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ «بَرْزَخاً»، والأولُ أظهرُ.
491
قوله: ﴿مِنَ المآء﴾ : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بخَلَقَ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ حالاً مِنْ «ماء» و «مِنْ» للابتداء أو للتبعيض. والصِّهْرُ: قال الخليل: «لا يُقال لأهلِ بيتِ المرأةِ إلاَّ» أَصْهار «، ولا لأهلِ بيتِ الرَّجل إلاَّ» أَخْتان «. قال:» ومن العربِ مَنْ يُطلق الأصهارَ على الجميع «. وهذا هو الغالب.
قوله: ﴿على رَبِّهِ﴾ : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «ظَهيراً» وهو الظاهر، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه خبرُ «كان» و «ظهيراً» حالٌ. والظَّهير: المُعاوِن.
قوله: ﴿إِلاَّ مَن شَآءَ﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: هو منقطعٌ أي: لكنْ مَنْ شاءَ أَنْ يتَّخِذَ إلى ربه سبيلاً فَلْيَفْعَلْ. والثاني: أنه متصلٌ على حَذْفِ مضافٍ يعني: إلاَّ أجرَ مَنْ، أي: الأجر الحاصل على دعائِه إلى الإِيمانِ وقَبولِه؛ لأنَّه تعالى يَأْجُرُني على ذلك. كذا حكاه الشيخ. وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لم يُسْنِدِ السؤالَ المنفيَّ في الظاهر إلى اللهِ تعالى، إنما أسندَه إلى المخاطبين. فكيف يَصِحُّ هذا التقديرُ؟
قوله: ﴿الذي خَلَقَ السماوات﴾ : يجوزُ فيه على قراءةِ العامَّةِ في «الرحمنُ» بالرفع أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ مبتدأ و «الرحمنُ» خبره، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مقدرٍ أي: هو الذي خَلَقَ، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ، وأَنْ يكونَ صفةً للحيِّ الذي لا يموت أو بدلاً/ أو بياناً. وأمَّا على قراءةِ زيدِ بن علي «الرحمنِ» بالجرِّ فيتعيَّن أَنْ يكونَ «الذي خلق» صفةً للحيِّ فقط؛ لئلا يُفْصَلَ بين النعتِ ومنعوتِه بأجنبيّ.
492
قوله: ﴿الرحمن﴾ مَنْ قرأ بالرفعِ ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنه خبرُ «الذي خَلَق» وقد تقدَّم. أو يكونُ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو الرحمنُ، أو يكونُ بدلاً من الضمير في «استوى» أو يكونُ مبتدأ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه ﴿فَسْئَلْ بِهِ﴾ على رأيِ الأخفش. كقوله:
٣٤٨٧ - فلا واللهِ لا أَنْفَكُّ أَبْكي إلى أَنْ نَلْتَقِي شُعْثاً عُراتا
أألحى إنْ نَزَحْتُ أُجاجَ عَيْني على جَدَثٍ حوى العَذْبَ الفُراتَا
٣٤٨٩ - وقائلةٍ خَوْلانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ ........................
أو يكونُ صفةً للذي خلق، إذا قلنا: إنه مرفوعٌ. وأمَّا على قراءةِ زيدٍ فيتعيَّن أَْن يكونَ نعتاً.
قوله: «به» في الباء قولان: أحدهما: هي على بابِها، وهي متعلقةٌ بالسؤالِ. والمرادُ بالخبير اللهُ تعالى، ويكونُ مِنَ التجريدِ، كقولك: لقيت به أَسَداً. والمعنى: فاسألِ اللهَ الخبيرَ بالأشياء. قال الزمخشري: «أو فاسْأَلْ بسؤالِه خبيراً، كقولك: رأيتُ به أسداً أي: برؤيتِه» انتهى. ويجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ صلةً «خبيراً» و «خبيراً» مفعول «اسْأَلْ» على هذا، أو منصوبٌ على الحالِ المؤكِّدة. واستضعفه أبو البقاء. قال «ويَضْعُفُ أَنْ يكونَ خبيراً حالاً مِنْ فاعل» اسألْ «لأنَّ الخبيرَ لا يُسْأل إلاَّ على جهةِ التوكيد كقوله: ﴿وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً﴾ [البقرة: ٩١] ثم قال:» ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من «الرحمن» إذا رَفَعْتَه ب استوى.
493
والثاني: أن تكونَ الباءُ بمعنى «عن» : إمَّا مطلقاً، وإمَّا مع السؤالِ خاصةً كهذه الآيةِ الكريمةِ وكقولِ الشاعر:
٣٤٩٠ - فإنْ تَسْأَلُوني بالنِّساءِ............. .........................
البيت. والضميرُ في «عنه» للهِ تعالى و «خبيراً» من صفاتِ المَلَكِ وهو جبريلُ عليه السلام. ويجوز على هذا أعني كونَ «خبيراً» من صفاتِ جبريل أَنْ تكونَ الباءُ على بابِها، وهي متعلقةٌ ب «خبيراً» كما تقدَّم أي: فاسْأَلِ الخُبَراء به.
494
قوله: ﴿لِمَا تَأْمُرُنَا﴾ : قرأ الأخَوان «يأْمُرُنا» بياءِ الغَيْبة يعني محمد صلَّى الله عليه وسلَّم. والباقون بالخطاب يعني: لِما تأمرنا أنت يا محمد. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي. والعائدُ محذوفٌ؛ لأنه متصلٌ؛ لأنَّ «أَمَرَ» يَتَعَدَّى إلى الثاني بإسقاطِ الحرفِ. ولا حاجةَ إلى التدريجِ الذي ذكره أبو البقاء: وهو أنَّ الأصلَ: لِما تَأْمُرنا بالسُّجودِ له، ثم بسجودِه، ثم تَأْمُرُناه، ثم تأْمُرُنا. كذا قَدَّره، ثم قال: هذا على مذهبِ أبي الحسن، وأَمَّا على مذهبِ سيبويهِ فَحَذْفُ ذلك مِنْ غيرِ تَدْريج «. قلت: وهذا ليس مذهبَ سيبويه. ويجوزُ أَنْ تكونَ موصوفةً، والكلامُ في عائِدها موصوفةً كهي موصولةً. ويجوز أَنْ تكونَ مصدريةً، وتكونَ اللامُ للعلةِ أي: أَنَسجُدُ مِنْ أجلِ أَمْرِكَ، وعلى هذا يكونُ المسجودُ له محذوفاً. أي: أَنَسْجُدُ للرحمن لِما تَأْمُرُنا. وعلى
494
هذا لا تكونُ» ما «واقعةً على العالِم. وفي الوجهين الأوَّلَيْن يُحْتمل ذلك، وهو المتبادَرُ للفَهْمِ.
495
قوله: ﴿سِرَاجاً﴾ : قرأ الجمهورُ بالإِفراد، والمرادُ به الشمسُ، ويؤيِّده ذِكْرُ القمرِ بعدَه. والأخَوان «سُرُجاً» بضمتين جمعاً، نحو حُمُر في حِمار. وجُمِعَ باعتبارِ الكواكبِ النيِّرات. وإنما ذُكِرَ القمرُ تَشْريفاً له كقولِه: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨] بعد انتظامِهما في الملائكةِ. وقرأ الأعمش والنخعي وابن وثاب كذلك، إلاَّ أنه بسكونِ الراءِ تخفيفاً. والحسن والأعمش والنخعي وعاصم في روايةِ عصمة و «قُمْراً» بضمةٍ وسكونٍ، وهو جمع قَمْراء كحُمْر في حَمْراء. والمعنى: وذا ليالٍ قُمْرٍ منيرا، فحذف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه، ثم التفتَ إلى المضاف بعد حَذْفِه فوصفَه ب «منيرا». ولو لم يَعْتَبِرْه لقال: منيرةً، ونظيرُ مراعاتِه بعد حذفِه قولُ حسان:
495
الأصل: ماء بَرَدَى، فحَذَفَه ثمَّ راعاه في قولهِ: «يُصَفِّقُ» بالياءِ مِنْ تحتُ، ولو لم يكنْ ذلك لقالَ «تُصَفِّقُ» بالتاء مِنْ فوقُ. على أنَّ بيتَ حَسَّان يَحْتمل أن يكون كقولِه:
٣٤٩١ - يَسْقُون مَنْ وَرَدَ البَريْصَ عليهمِ بردى يُصَفَّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ
٣٤٩٢ -...................... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالها
مع أنَّ ابنَ كيسان يُجيزه سَعَةً.
496
قوله: ﴿خِلْفَةً﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ ثانٍ. والثاني: أنه حالٌ بحَسَبِ القَوْلَيْن في «جَعَل». وخِلْفَة يجوزُ أن يكونَ مصدراً مِنْ خَلَفَه يَخْلُفه، إذا جاء مكانَه، وأَنْ يكونَ اسمَ هيئةٍ كالرِّكْبَةِ، وأَنْ يكونَ من الاختلافِ كقولِه:
٣٤٩٣ - ولها بالماطِرُوْنَ إذا أكلِ النملُ الذي جَمَعا
خِلْفةً حتى إذا ارتَبَعَتْ سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيعاً
في بيوتٍ وَسْطَ دَسْكَرةٍ حَوْلَها الزيتونُ قد يَنَعا
ومثلُه قول زهير:
496
٣٤٩٤ - بها العِيْنُ والآرام يَمْشِيْنَ خِلْفَةً ........................
وأَفْرَدَ «خِلْفَةً» قال أبو البقاء: «لأنَّ المعنى: يَخْلُفُ/ أحدُهما الآخرَ، فلا يتحقَّق هذا إلاَّ منهما» انتهى.
والشُّكور: بالضم مصدرٌ بمعنى الشُكر، وبالفتحِ صفةُ مبالغةٍ.
497
قوله: ﴿وَعِبَادُ الرحمن﴾ : رفعٌ بالابتداءِ. وفي خبره وجهان، أحدهما: الجملةُ الأخيرةُ في آخرِ السورة: ﴿أولئك يُجْزَوْنَ﴾ [الآية: ٧٥] وبه بَدَأ الزمخشريُّ. «والذين يَمْشُون» وما بعده صفاتٌ للمبتدأ. والثاني: أنَّ الخبرَ «يَمْشُوْن». العامَّةُ على «عباد». واليماني «عُبَّاد» بضمِّ العين، وشدِّ الباءِ جمع عابد. والحسن «عُبُد» بضمتين.
والعامَّةُ «يَمْشُوْن» بالتخفيفِ مبنياً للفاعل. واليماني والسُلميُّ بالتشديد مبنياً للمفعول.
قوله: ﴿هَوْناً﴾ : إمَّا نعتُ مصدرٍ أي: مَشْياً هَوْناً، وإمَّا حالٌ أي: هَيِّنِيْن. والهَوْن: اللِّيْنُ والرِّفْقُ.
قوله: ﴿سَلاَماً﴾ : يجوز أن ينتصبَ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي: نُسَلِّم سَلاماً، أو نُسَلِّمُ تَسْليماً منكم لا نُجاهِلكم، فأُقيم السِّلام مُقامَ التسليمِ.
497
ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على المفعول به أي: قالُوا هذا اللفظَ. قال الزمخشري: أي قالوا سَداداً مِنَ القولِ يَسْلَمُوْن فيه من الأذى. والمرادُ سَلامُهم من السَّفَهِ كقوله:
٣٤٩٥ - ألا لا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا فنجهلَ فوقَ جَهْلِ الجاهِلينا
ورَجَّح سيبويه أنَّ المرادَ بالسَّلام السَّلامةُ لا التسليمُ؛ لأنَّ المؤمنين لم يُؤْمَروا قَطُّ بالتسليم على الكفرة، وإنما أُمِروا بالمُسالَمَةِ، ثم نُسِخَ ذلك، ولم يَذْكُرْ سيبويهِ في كتابِه نَسْخاً إلاَّ في هذه الآيةِ.
498
قوله: ﴿سُجَّداً﴾ : خبرُ «يَبِيْتُون» ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ تامةَ. أي: دَخَلوا في البَيات. و «سُجَّداً» حال. و «لربِّهم» متعلقٌ بسُجَّداً وقَدَّمَ السجودَ على القيام، وإن كان بعدَه في الفعلِ لاتفاق الفواصل. وسُجَّداً جمعُ ساجِد كضُرِّب في ضارِب. وقرأ أبو البرهسم «سُجوداً» بزنة قُعُود. و «يَبِيْتُ» هي اللغةُ الفاشيةُ، وأَزْدُ السَّراة وبُجَيْلَة يقولون: يَباتُ وهي لغةُ العوامِّ اليوم.
قوله: ﴿غَرَاماً﴾ : أي: لازمِاً دائماً. وعن الحسن: كلُّ غَريمٍ يفارِقُ غَريمه إلاَّ غريمَ جهنَّمَ. وأنشدُوا قولَ بشر بن أبي خازم:
٣٤٩٦ - ويومُ النِّسَارِ ويومُ الجِفا رِ كانا عَذاباً وكانا غَراما
وقال الأعشى:
٣٤٩٧ - إن يُعاقِبْ يكُنْ غَراماً وإنْ يُع طِ جَزِيلاً فإنَّه لا يُبالي
ف «غراماً» بمعنى لازم.
قوله: ﴿سَآءَتْ﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى أَخْزَنَتْ فتكونَ متصرفةً، ناصبةً المفعولَ به، وهو هنا محذوفٌ أي: إنها أي: جهنَم أَحْزَنَتْ أصحابَها وداخليها. ومُسْتقراً: يجوزُ أن يكونَ تمييزاً، وأَنْ يكونَ حالاً. ويجوز أَنْ تكونَ «ساءَتْ» بمعنى بِئْسَتْ فتعطى حكمَها. ويكونُ المخصوصُ محذوفاً. وفي ساءَتْ ضميرٌ مبهمٌ. و «مُسْتَقَراً» يتعيَّنُ أنْ يكونَ تمييزاً أي: ساءَتْ هي. ف «هي» مخصوصٌ. وهو الرابطُ بين هذه الجملةِ وبين ما وَقَعَتْ خبراً عنه، وهو «إنَّها»، وكذا قَدَّره الشيخ. وقال أبو البقاء: «ومُسْتَقَرَّاً تمييزٌ. وساءَتْ بمعنى بِئْسَ». فإن قيلَ: يَلْزَمُ من هذا إشكالٌ، وذلك أنه يَلْزَمُ تأنيثُ فعلِ الفاعلِ المذكَّرِ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ لذلك، فإنَّ الفاعلَ في «ساءَتْ»
499
على هذا يكون ضميراً عائداً على ما بعدَه، وهو «مُسْتقراً ومُقاماً»، وهما مذكَّران فمِنْ أين جاء التأنيثُ؟ والجوابُ: أن المستقرَّ عبارةٌ عن جهنَّمَ فلِذلك جاز تأنيثُ فِعْلِه. ومثلُه قولُه:
٣٤٩٨ - أَوْ حُرَّةٌ عَيْطَلٌ ثَبْجاءُ مُجْفَرَةٌ دعائمُ الزَّوْرِ نعْمَتْ زَوْرَقُ البلدِ
ومُسْتقراً ومُقاماً: قيل: مُترادفان، وعُطِفَ أحدُهما على الآخر لاختلافِ لَفْظَيْهما. وقيل: بل هما مختلفا المعنى، فالمستقرُّ: للعُصاةِ فإنهم يَخْرُجون. والمُقام: للكفَّارِ فإنَّهم يَخْلُدون.
وقرأت فرقةُ «مَقاماً» بفتح الميم أي: مكانَ قيامِ. وقراءةُ العامَّةِ هي المطابِقَةُ للمعنى أي: مكانَ إقامةٍ وثُوِيّ وقوله: ﴿إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً﴾ يُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ كلامِهم، فتكونَ منصوبةً المحلِّ بالقول، وأَنْ تكونَ مِنْ كلامِ اللهَ تعالى.
500
قوله: ﴿وَلَمْ يَقْتُرُواْ﴾ : قرأ الكوفيون بفتح الياء وضم التاء وابن كثير وأبو عمرٍو بالفتحِ والكسرِ. ونافع وابن عامر بالضم والكسر مِنْ
500
أَقْتَرَ. وعليه ﴿وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ﴾ [البقرة: ٢٣٦]. وأنكر أبو حاتم/ «أقتر» وقال: «لا يُناسِب هنا فإنَّ أَقْتَرَ بمعنى افتقر، ومنه ﴿وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ﴾. ورُدَّ عليه: بأن الأصمعيَّ وغيرَه حَكَوْا أَقْتَرَ بمعنى ضَيَّق.
وقرأ العلاء بن سيابة واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسرِ التاء المشددةِ في قَتَّر بمعنى ضَيَّق.
قوله: ﴿وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً﴾ في اسم كان وجهان، أشهرهما: أنه ضميرٌ يعودُ على الإِنفاقِ المفهومِ مِنْ قوله:»
أَنْفَقُوا «أي: وكان إنفاقُهم مُسْتوياً قَصْداً لا إسرافاً ولا تَقْتيراً. وفي خبرِها وجهان. أحدُهما: هو قَواماً و» بينَ ذلك «: إمَّا معمولٌ له، وإمَّا ل» كان «عند مَنْ يرى إعمالَها في الظرف، وإمَّا لمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ» قَواما «. ويجوزُ أَنْ يكونَ» بين ذلك قواماً «خبرَيْن ل» كان «عند مَنْ يرى ذلك، وهم الجمهور خلافاً لابن دُرُسْتَوَيْه. الثاني: أن الخبرَ» بين ذلك «و» قَواماً «حالٌ مؤكدةٌ.
والثاني: من الوجهين الأَوَّلين: أَنْ يكونَ اسمُها»
بين ذلك «وبُني لإضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ، و» قواماً «خبرُها. قاله الفراء. قال الزمخشري:» وهو من جهةِ الإِعرابِ لا بأسَ به، ولكنه من جهةِ المعنى ليس بقويٍ، لأنَّ ما بينَ الإِسْرافِ والتَّقْتيرِ قَوامٌ لا مَحالةَ، فليس في الخبر الذي هو معتمدُ الفائدةِ فائدةٌ «. قلت: هو يُشْبِهُ قولَك» كان سيدُ الجارية مالكَها «.
وقرأ حسان بن عبد الرحمن»
قِواما «بالكسرِ فقيل: هما بمعنىً. وقيل:
501
بالكسرِ اسمُ ما يُقام به الشيءُ. وقيل: بمعنى سَداداً ومِلاكاً.
502
قوله: ﴿إِلاَّ بالحق﴾ : يَجُوزُ أَنْ تتعلَّقَ الباءُ بنفسِ «يَقْتُلون» أي: لا يَقْتُلونها بسببٍ من الأسبابِ إلاَّ بسببِ الحق، وأَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها صفةٌ للمصدرِ أي: قَتْلاً ملتبساً بالحقِّ، أو على أنها حالٌ أي: إلاَّ مُلْتَبِسين بالحقِّ.
قوله: «ذلك» إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم لأنه بمعنى: ما ذُكِر، فلذلك وُحِّدَ. والعامَّةُ على «يَلْقَ» مجزوماً على جزاءِ الشرط بحذفِ الألِف. وعبد الله وأبو رجاء «يلقى» بإثباتها كقوله: ﴿فَلاَ تنسى﴾ [الأعلى: ٦] على أحدِ القولين، وكقراءةِ: ﴿لاَّ تَخَفْ دَرَكاً وَلاَ تخشى﴾ [طه: ٧٧] في أحدِ القولين أيضاً، وذلك بأَنْ نُقَدِّرَ علامةَ الجزمِ حَذْفَ الضمة المقدِرة.
وقرأ بعضُهم «يُلَقَّ» بضمِّ الياءِ وفتحِ اللامِ وتشديدِ القاف مِنْ لَقَّاه كذا. والأَثام مفعولٌ على قراءةِ الجمهورِ، ومفعولٌ ثانٍ على قراءةِ هؤلاء. والأَثام: العقوبةُ. قال الشاعر:
٣٤٩٩ - جزى اللهُ ابنَ عُرْوَةَ حيث أمسى عَقوقاً والعُقوقُ له أَثامُ
أي: عقوبةٌ. وقيل: هو الإِثمُ نفسُه. والمعنى: يَلْقَ جزاءَ إثمِ، فأطلقَ
502
اسمَ الشيءِ على جزائِه. وقال الحسن: «الأَثامُ اسمٌ مِنْ أسماءِ جهنَّم. وقيل: بئرٌ فيها. وقيل: وادٍ. وعبد الله» أيَّاماً «جمعُ» يوم «يعنى شدائدَ، والعرب تُعَبِّر عن ذلك بالأيام.
503
قوله: ﴿يُضَاعَفْ﴾ : قرأ ابن عامر وأبو بكر برفع «يُضاعَفُ» و «يَخْلُدُ» على أحدِ وجهين: إمَّا الحالِ، وإمَّا على الاستئنافِ. والباقون بالجزمِ فيها، بدلاً من الجزاء بدلَ اشتمال. ومثلُه قولُه:
٣٥٠٠ - متى تأتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأَجَّجا
فأبدلَ من الشرطِ كما أبدل هنا مِنَ الجزاءِ. وابنُ كثير وابنُ عامرٍ على ما تقدَّم لهما في البقرةِ من القَصْر والتضعيفِ في العين، ولم يذكرِ الشيخُ ابنَ عامرٍ مع ابنِ كثير، وذكرَه مع الجماعة في قراءتهم.
وقرأ أبو جعفر وشيبة «نُضَعِّفْ» بالنون مضمومة وتشديدِ العين، «العذابَ» نصباً على المفعول به. وطلحة «يُضاعِف» مبنياً للفاعل أي اللَّهُ، «العذابَ» نصباً. وطلحة بن سليمان و «تَخْلُدْ» بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ. وأبو حيوةَ «وُيخَلِّد» مشدداً مبنياً للمفعولِ. ورُوِي عن أبي عمروٍ كذلك، إلاَّ أنه بالتخفيف.
503
قوله: ﴿مُهَاناً﴾ حالٌ. وهو اسمُ مفعولٍ. مِنْ أَهانه يُهِيْنُه أي: أذلَّه وأَذاقه الهوان.
504
قوله: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ﴾ : فيه وجهان، أحدُهما: وهو الذي لم يَعْرف الناسُ غيرَه أنَّه استثناءٌ متصلٌ لأنَّه من الجنسِ. الثاني: أنه منقطع. قال الشيخ: «ولا يَظْهَرْ يعني الاتصال لأنَّ المستثنى منه مَحْكومٌ عليه بأنَّه يُضاعَفُ له العذابُ، فيصيرُ التقديرُ: إلاَّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالحاً فلا يُضاعَفُ له. ولا يَلزَمُ من انتفاءِ التضعيفِ انتفاءُ العذابِ غيرِ المضعَّفِ، فالأولى عندي أَنْ يكونَ استثناءً منقطعاً أي: لكن مَنْ/ تابَ وآمنَ وعَمِل عملاً صالحاً فأولئك يُبَدِّل اللهُ سيئاتِهم حسناتٍ. وإذا كان كذلك فلا يَلْقَى عذاباً البتةَ». قلت: والظاهرُ قولُ الجمهورِ. وأمَّا ما قاله فلا يَلْزَمُ؛ إذ المقصودُ الإِخبارُ بأنَّ مَنْ فعل كذا فإنه يَحُلُّ به ما ذَكَرَ، إلاَّ أَنْ يتوبَ. وأمَّا إصابةُ أصلِ العذابِ وعدمُها فلا تَعرُّضَ في الآية له.
قوله: ﴿سَيِّئَاتِهِمْ﴾ هو المفعولُ الثاني للتبديلِ، وهو المقيَّدُ بحرفِ الجر، وإنما حُذِفَ لفهم المعنى وحَسَنات هو الأولُ المُسَرَّح وهو المأخوذُ، والمجرورُ بالباءِ هو المتروكُ. وقد صَرَّح بهذا في قولِه تعالى: ﴿بَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ [سبأ: ١٦]. وقال الراجز:
504
سوادَ وجهٍ وبياضَ عَيْنَيْنُ... وقد تقدم تحقيقُ هذا في البقرةِ عند قولِه: ﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله﴾ [البقرة: ٢١١].
505
قوله: ﴿الزُّورَ﴾ : فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ به أي: لا يَحْضُرون الزُّوْرَ. وفُسِّر بالصنمِ واللهوِ. الثاني: أنه مصدرٌ، والمرادُ شهادةُ الزُّوْرِ.
قوله: ﴿بِاللَّغْوِ﴾ أي بأهِله.
قوله: ﴿لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً﴾ : النفيُ مُتَسَلِّطٌ على القيدِ، وهو الصَّمَمُ والعمى أي: إنهم يَخِرُّون عليها، لكنْ لا على هاتين الصفتين. وفيه تعريضٌ بالمنافقين.
قوله: ﴿مِنْ أَزْوَاجِنَا﴾ : يجوزُ أَنْ تكونَ «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، وأنْ تكونَ للبيانِ. قاله الزمخشري، وجعله من التجريدِ، أي: هَبْ لنا قُرّةَ أَعْيُنٍ من أزواجِنا كقولِك: «رأيت منك أسداً» وقرأ أبو عمرٍو والأخَوان وأبو بكر «ذُرِّيَّتِنا» بالتوحيدِ، والباقون بالجمعِ سلامةً. وقرأ أبو هريرة وأبو الدرداء وابن مسعود «قُرَّاتِ» بالجمعِ. وقال الزمخشري: «أتى هنا ب» أَعْيُن «صيغةِ القلةِ، دون» عيون «صيغةٍ الكثرة، إيذاناً بأنَّ عيونَ المتقين
505
قليلةٌ بالنسبةِ إلى عُيون غيرهم». ورَدَّه الشيخُ بأنَّ أَعْيُناً يُطْلَقُ على العشرة فما دونَها، وعيونَ المتقين كثيرةٌ فوق العَشرة «، وهذا تَحَمُّل عليه؛ لأنه إنما أراد القلةَ بالنسبة إلى كثرةِ غيرِهم، ولم يُرِدْ قَدْراً مخصوصاً.
قوله: ﴿إِمَاماً﴾ فيه وجهان، أَحدُهما: أنَّه مفردٌ، وجاء به مفرداً إرادةً للجنس، وحَسَّنَه كونُه رأسَ فاصلةٍ. أو المراد: اجعَلْ كلَّ واحدٍ منا إماماً، وإمَّا لاتِّحادِهم واتفاقِ كلمتِهم، وإمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ كصِيام وقِيام. والثاني: أنه جمعُ آمّ كحالٍّ وحِلال، أو جمعُ إِمامة كقِلادة وقِلاد.
506
قوله: ﴿الغرفة﴾ : مفعولٌ ثانٍ ل «يُجْزَوْن». والغُرْفَةُ ما ارتفعَ من البناءِ، والجمعُ غُرَفٌ.
قوله: ﴿بِمَا صَبَرُواْ﴾ أي: «بصَبْرِهم» أي: بسببِه أو بسببِ الذي صبروه. والأصلُ: صبروا عليه، ثم حُذِفَ بالتدريج. والباءُ للسببية كما تقدَّم. وقيل: للبدلِ كقوله:
٣٥٠١ - تَضْحَكُ منِّي أختُ ذاتِ النِّحْيَيْنْ أَبْدلكِ اللهُ بلونٍ لَوْنَيْنْ
٣٥٠٢ - فليت لي بهُم قَوْماً......... ......................
البيت. ولا حاجةَ إلى ذلك.
قوله: ﴿وَيُلَقَّوْنَ﴾ قرأ الأَخَوان وأبو بكر بفتح الياء، وسكونِ اللام، مِنْ لَقِيَ يلقى. الباقون بضمِّها وفتحِها وتشديدِ القافِ على بنائِه للمفعول.
قوله: ﴿لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ﴾ : جوابُها محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم. أي: لولا دعاؤُكم ما عَنَى بكم ولا اكترَثَ. و «ما» يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً. وهو الظاهرُ. وقيل: استفهاميةٌ بمعنى النفي، ولا حاجةَ إلى التجوُّزِ في شيءٍ يَصِحُّ أَنْ يكونَ حقيقةً بنفسه. و «دعاؤُكم» : يجوز أن يكونَ مضافَاً للفاعلِ أي: لولا تَضَرُّعُكم إليه. ويجوزُ أَنْ يكونَ مضافاً للمفعول أي: لولا دعاؤُه إيَّاكم إلى الهدى. ويقال: ما عَبَأْتُ بك أي: ما اهتَمَمْتُ ولا اكتَرَثْتُ. ويقال: عَبَأْتُ الجيشَ وعَبَّأته أي: هَيَّأْتُه وأَعْدَدْتُه، والعِبْء: الثِّقَلُ.
قوله: ﴿لِزَاماً﴾ خبرُ «يكون» واسمُها مضمرٌ أي: يكون العذابُ ذا لِزام. واللِّزام: بالكسرِ مصدرٌ كقوله:
٣٥٠٣ - فإمَّا يَنْجُوَا مِنْ حَتْفِ أرضٍ فقد لَقِيا حُتوفَهما لِزاما
وقرأ المنهال وأبان بن تغلب وأبو السمَّال «لَزاماً» بفتح اللامِ. وهو مصدرٌ أيضاً نحو: البَيات. وقرأ أبو السمَّالَ أيضاً «لَزامِ» بكسر الميم كأنه جَعَله مصدراً معدولاً نحو: «بَدادِ» فبَناه على لغةِ الحجاز فهو معدولٌ عن اللزَمةِ كفَجارِ عن الفَجْرة قال:
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
٣٥٠٤ - إنَّا اقْتَسَمْنا خُطَّتَيْنا بينَنا فَحَمَلْتُ بَرَّةَ واحْتَمَلْتَ فَجارِ